ابو وليد البحيرى
2024-08-28, 11:06 AM
الْمُصَـوِّرُ جل جلاله، وتقدست أسماؤه
الشيخ وحيد عبدالسلام بالي
عَنَاصِرُ الموْضُوعِ:
أولًا: الدِّلاَلاَتُ اللُّغَوَيَّةُ لاسْمِ (المُصَوِّرِ).
ثانيًا: وُرُودُهُ فِي القُرْآنِ الكَرِيمِ.
ثالثًا: مَعْنَى الاسْمِ فِي حَقِّ الله تَعَالَى.
رابعًا: ثَمَرَاتُ الإيِمَانِ بهذه الأسماءِ (الخالقِ - الخلاقِ - البارئِ - المصورِ).
النِّيَّاتُ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَحْضِرَهَا الُمحَاضِرُ قَبْلَ إِلْقَاءِ هَذِهِ الُمحَاضَرَةِ:
أولًا: النِّيَّاتُ العَامَّةُ:
1- يَنْوي القيامَ بتبليغِ الناسِ شَيْئًا مِنْ دِينِ الله امْتِثَالًا لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «بلِّغُوا عَني ولَوْ آيةً» رواه البخاري.
2- رَجَاءَ الحُصُولِ عَلَى ثَوَابِ مَجْلِسِ العِلْمِ[1].
3- رَجَاءَ أَنْ يَرْجِعَ مِنْ مَجْلِسِه ذلك مَغْفُورًا لَهُ[2].
4- يَنْوِي تَكْثِيرَ سَوَادِ المسْلِمِينَ والالتقاءَ بِعِبادِ الله المؤْمِنينَ.
5- يَنْوِي الاعْتِكَافَ فِي المسْجِدِ مُدةَ المحاضرة ـ عِنْدَ مَنْ يَرَى جَوَازَ ذَلِكَ مِنَ الفُقَهَاءِ ـ لَأَنَّ الاعْتِكَافَ هو الانْقِطَاعُ مُدَّةً لله في بيتِ الله.
6- رَجَاءَ الحُصُولِ عَلَى أَجْرِ الخُطُوَاتِ إلى المسْجِدِ الذي سَيُلْقِي فيه المحَاضَرَةَ[3].
7- رَجَاءَ الحُصُولِ عَلَى ثَوَابِ انْتِظَارِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، إذا كانَ سَيُلْقِي مُحَاضَرَتَه مثلًا مِنَ المغْرِبِ إلى العِشَاءِ، أَوْ مِنَ العَصْرِ إِلَى الَمغْرِبِ[4].
8- رَجَاءَ أَنْ يَهْدِي اللهُ بسببِ مُحَاضَرَتِه رَجُلًا، فَيَأْخُذَ مِثْلَ أَجْرِهِ[5].
9- يَنْوِي إرْشَادَ السَّائِليِنَ، وتَعْلِيمَ المحْتَاجِينَ، مِنْ خِلَالِ الرَّدِّ عَلَى أَسْئِلَةِ المسْتَفْتِينَ[6].
10- يَنْوِي القِيَامَ بِوَاجِبِ الأمرِ بالمعروفِ، وَالنهيِ عَنِ الُمنْكَرِ ـ بالحِكْمَةِ والموعظةِ الحسنةِ ـ إِنْ وُجِدَ مَا يَقْتَضِي ذلك(4).
11- يَنْوِي طَلَبَ النَّضْرَةِ الَمذْكُورَةِ فِي قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «نَضَّرَ اللهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا وَحَفِظَهَا، ثُمَّ أَدَّاهَا إِلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْها»، رواه أحمدُ والتِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ الألبانيُّ في صحيحِ الجامعِ (6766).
ثُمَّ قَدْ يَفْتَحِ اللهُ عَلَى الُمحَاضِرِ بِنِيَّات صَالِحَةٍ أُخْرَى فَيَتَضَاعَفُ أَجْرُه لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «إنما لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى»؛ مُتَّفَقٌ عَلَيه.
ثانيًا: النِّيَّاتُ الخَاصَّةُ:
1- تَنْوِي تَعْرِيفَ الُمسْلِمِينَ بِمَعَانِي اسْمِ الله (الُمصَوِّرِ).
2- تَنْوِي لَفْتَ أَنْظَارِ الُمسْلِمِينَ إِلَى صُوَرِ الَمخْلُوقَاتِ الُمخْتَلِفَةِ.
3- تَنْوِي تَحْذِيرَ الُمسْلِمِينَ مِنَ التَّصْوِيرِ، وَبَيَانَ حُرْمَتِهِ.
4- بَيَانُ أَطْوَارِ خَلْقِ الإِنْسَانِ، وَعَظَمَةِ الله في ذَلِكَ.
أولًا: الدِّلاَلاَتُ اللُّغَوِيَّةُ لاسْمِ (المُصَوِّرِ):
المُصَوِّرُ في اللُّغَةِ اسْمُ فَاعِلٍ للْمَوْصُوفِ بالتَّصَوِيرِ، فِعْلُهُ صَوَّرَ وأَصْلُهُ صَار يُصَوِّرُ صَوْرًا، وصَوَّرَ الشَّيءَ أَيْ جَعَلَ لَهُ شَكْلًا مَعْلُومًا، وَصَوَّرَ الشَّيْءَ قَطَعَهُ وَفَصَلَهُ وَمَيَّزَهُ عَنْ غَيْرِهِ، وَتَصْوِيرُهُ جَعْلُهُ عَلَى شَكْلٍ مُتَصَوَّرٍ وَعَلَى وَصْفٍ مُعَيَّنٍ، وَالصُّورَةُ هِيَ الشَّكْلُ والهَيْئَةُ أَوِ الذَّاتُ الُمتَمَيِّزَةُ بِالصِّفَاتِ[7]..
قَالَ الرَّاغِبُ: «الصُّورَةُ مَا يَنْتَقِشُ بِهِ الأَعْيَانُ وَيَتَمَيَّزُ بِهَا غَيْرُهَا، وَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا مَحْسُوسٌ يُدْرِكُهُ الخَاصَّةُ والعَامَّةُ بَلْ يُدْرِكْهُ الإِنْسَانُ وَكَثِيرٌ مِنَ الحَيَوَانِ بِالُمعَايَنَةِ كَصُورَةِ الإِنْسَانِ وَالفَرَسِ وَالحِمَارِ، والثَّانِي مَعْقُولٌ يُدْرِكَهُ الخَاصَّةُ دُونَ العَامَّةِ كالصُّورَةِ الَّتِي اخْتَصَّ الإِنْسَانُ بِهَا مِنَ العَقْلِ وَالرَّوِيَّةِ وَالَمعَانِي الَّتِي خُصَّ بِهَا شَيْءٌ بِشَيْءٍ»[8].
وَالمُصَوِّرُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي صَوَّرَ الَمخْلُوقَاتِ فِيهِ بِشَتَّى أَنْوَاعِ الصُّوَرِ الجَلِيَّةِ وَالخَفِيَّةِ وَالحِسِّيَّةِ وَالعَقْلِيَّةِ ، فَلَا يَتَمَاثَلُ جِنْسَانِ ولا يَتَسَاوَى نَوْعَانٍ بَلْ لَا يَتَسَاوَى فَرْدَانِ، فَلِكُلٍّ صُورَتُهُ وَسِيرَتُهُ وَمَا يَخُصُّهُ وَيُمَيِّزُهُ عَنْ غَيْرِهِ..
والصُّوَرُ مُتَمَيِّزَةٌ بِأَلْوَانٍ وأَشْكَالٍ في ذَاتِهَا وَصِفَاتِهَا، وَإِحْصَاؤُهَا في نَوْعٍ وَاحِدٍ، أَوْ حَصْرُهَا في جِنْسٍ وَاحِدٍ أَمْرٌ يُعْجِزُ العَقْلَ وَيُذْهِلُ الفِكْرَ، فَالمُصَوِّرُ في أَسْمَاءِ الله الحُسْنَى هُوَ مُبْدِعُ صُوَرِ المَخْلُوقَاتِ وَمُزَيِّنُهَا بِحِكْمَتِهِ، وَمُعْطٍ كُلَّ مَخْلُوقٍ صُورَتَهُ عَلَى مَا اقْتَضَتْ مَشِيئَتُهُ وَحِكْمَتُهُ، وَهُوَ الَّذِي صَوَّرَ النَّاسَ في الأَرْحَامِ أَطْوَارًا، وَنَوَّعَهُمْ أَشْكَالًا كَمَا قَالَ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ﴾ [الأعراف: 11]، وَاللهُ ﻷ كَمَا صَوَّرَ الأَبْدَانَ فَتَعَدَّدَتْ وَتَنَوَّعَتْ نَوَّعَ في الأَخْلَاقِ فَتَتَعَدَّدُ صُوَرُ الأَخْلَاقِ وَالطِّبَاعِ[9].
وَأَعْظَمُ تَكْرِيمِ للإِنْسَانِ مِنَ الله المُصَوِّرِ أَنَّهُ خَلَقَهُ عَلَى صُوَرتِهِ في المَعْنَى المُجَرَّدِ لِيَسْتَخْلِفَه ُ في أَرْضِهِ وَيَسْتَأْمِنَه ُ في مُلْكِهِ.
رَوَى البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «خَلَقَ اللهُ آَدَمَ عَلَى صُورَتِهِ طُولُهُ ستُّونَ ذِرَاعًا، فَلَمَّا خَلَقَهُ قَالَ اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ مِنَ المَلَائِكَةِ جُلُوسٌ فَاْسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ فَإِنَّها تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ ؛ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ: فَقَالُوا: السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ الله فَزَادُوهُ وَرَحْمَةُ الله، فَكلُّ مَنْ يَدْخُلُ الجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ، فَلَمْ يَزَلِ الخَلْقُ يَنْقُصُ بَعْدُ حَتَّى الآن»[10].
وَالحَدِيثُ ظَاهِرُ المَعْنَى في أَنَّ اللهَ صَوَّرَ آدَمَ وَجَعَلَ لَهُ سَمْعًا وَبَصَرًا وَعِلْمَا وحُكْمَا وَخِلَافَةً وَمُلْكًا وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الأَوْصَافِ المُشْتَرَكَةِ عِنْدَ التَّجَرُّدِ وَالَّتِي يَصِحُّ عِنْدَ إِطْلَاقِهَا اسْتَخْدَامُهَا في حَقِّ الخَالِقِ وَالمَخْلُوقِ، فَاللهُ ﻷ لَهُ صُورَةٌ وَآَدَمُ لَهُ صُورَةٌ.
وَلَفْظُ الصُّورَةِ عِنْدَ التَّجَرُّدِ لَا يَعْنِي أَبَدًا التَّمَاثُلَ وَلَا يَكُونُ عِلَّةً لِلْتَشْبِيهِ إِلَّا عِنْدَ مَنْ فَسَدَتْ فِطْرَتُهُ مِنْ المُشَبَّهَةِ والَمعَطَّلَةِ، أَمَّا الصُّورَةُ عِنْدَ الإِضَافَةِ وَالتّقْييدِ فَصُورَةُ الحَقِّ لَا يَعْلَمُ كَيْفِيَّتَهَا إِلَّا هُوَ، لَأَنَّنَا مَا رَأَيْنَاهُ وَمَا رَأَيْنَا لَهُ مَثِيلًا، أَمَّا صُورَةُ آدَمَ فَمَعْلُومَةُ المَعْنَى وَالكَيْفيَّةِ، وَقَدْ خَلَقَ اللهُ آَدَمَ عَلَى صُورَتِهِ سُبْحَانَهُ في القَدْرِ المُشْتَرَكِ مَعَ ثُبُوتِ الفَارِقِ عِنْدَ أَهْلِ التَّوْحِيدِ..
وَقَدْ قَالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ: «مَا مِنْ شَيئينِ إِلَّا بَيْنَهُمَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ وَقَدْرٌ فَارِقٌ فَمَنْ نَفَى القَدْرَ المُشْتَرَكَ فَقَدْ عَطَّلَ، وَمَنْ نَفَى القَدْرَ الفَارِقَ فَقَدْ مَثَّلَ»[11]، وَالحَدِيثُ عَنْ ذَلِكَ لَهُ مَوْضِعُهُ.
وَالقَصْدُ أَنَّ المُصَوِّرَ سُبْحَانَهُ خَصَّ الإِنْسَانَ بِهَيْئَةٍ مُتَمَيِّزَةٍ مِنْ خِلَالِهَا يُدْرَكُ بِالبَصَرِ وَالبَصِيرَةِ، وَأَسْجَدَ لَهُ بَعْدَ تَصْوِيرِهِ المَلَائِكَةَ، وَلَيْسَ بَعْدَ ذَلِكَ شَرَفٌ أَوْ فَضِيلَةٌ[12].
ثانيًا: وُرُودُ الاسْمِ بِالكِتَابِ العَزِيزِ[13]:
وَرَدَ الاسْمُ في قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى: ﴿ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ ﴾ [الحشر: 24]، مَرَّةً وَاحِدَةً في القُرْآَنِ.
وَجَاءَ بِصِيغَةِ الفِعْلِ مَرَّاتٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ ﴾ [آل عمران: 6].
وَقَوْلِهِ عز وجل: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ﴾ [الأعراف: 11].
وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: ﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴾ [التغابن: 3].
ثالثًا: المَعْنَى في حَقِّ الله تَعَالَى:
قَالَ ابنُ جَرِيرٍ: «المُصَوِّرُ خَلَقَهُ كَيْفَ شَاءَ وَكَيْفَ يَشَاءَ».
وَقَالَ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ﴾ [الانفطار: 7، 8]؛ «أَيْ صَرَّفَكَ وَأَمَالَكَ إِلَى أَيْ صُورَةٍ شَاءَ، إِمَّا إِلَى صُورَةٍ حَسَنَةٍ وَإِمَّا إِلَى صُوَرةٍ قَبِيحَةٍ أَوْ إِلَى صُورَةِ بَعْضِ قَرَابَاتِهِ»[14].
وَقَالَ الزَّجَاجُ: «المُصَوِّرُ هُوَ مُفَعِّلٌ مِنَ الصُّورَةِ وَهُوَ تَعَالَى مُصَوِّرُ كُلِّ صُورَةٍ لَا عَلَى مِثَالٍ احْتَذَاهُ وَلَا رَسْمٍ ارْتَسَمَهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا»[15].
وَقَالَ ابنُ كَثِيرٍ رحمه الله في مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ ﴾ [الحشر: 24]؛ «أَيِ الَّذِي إِذَا أَرَادَ شَيْئًا قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي يُرِيدُ والصُّورَةِ الَّتِي يَخْتَارُ كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى: ﴿ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ﴾ [الانفطار: 8]، وَلِهَذَا قَالَ: (المُصَوِّرُ) أَيِ الَّذِي يُنَفِّذُ مَا يُرِيدُ إِيجَادَهُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي يُرِيدُهَا»[16].
وَقَالَ الخَطَّابِيُّ: «(المُصَوِّرُ) هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ خَلْقَهُ عَلَى صُوَرٍ مُخْتَلِفَةٍ ليَتَعَارَفُوا بِهَا فَقَالَ: ﴿ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ﴾ [غافر: 64].
وَقَالَ: التَّصوُّرُ التَّخْطِيطُ والتَّشْكِيلُ، ثُمَّ قَالَ: وَخَلَقَ اللهُ جَلَّ وَتَعَالَى الإِنْسَانَ في أَرْحَامِ الأُمَّهَاتِ ثَلَاثِ خِلَقٍ: جَعَلَهُ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً ثُمَّ جَعَلَهَا صُورَةً وَهُوَ التَّشْكِيلُ الَّذِي بِهِ يَكُونُ ذَا صُورَةٍ وَهَيْئَةٍ يُعْرَفُ بِهَا وَيَتَمَيَّزُ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ بِسِمَاتِهَا: ﴿ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ [المؤمنون: 14]»[17].
وَبِهَذَا يَكُونُ مَعْنَى (المُصَوِّرِ):
1- أَنَّ (الُمصَوِّرَ): هُوَ الَّذِي أَمَالَ خَلْقَهُ وَعَدَّلَهُمْ إِلَى الأَشْكَالِ وَالهَيْئَاتِ الَّتِي تُوَافِقُ تَقْدِيرَهُ وَعِلْمَهُ وَرَحْمَتَهُ وَالَّتِي تَتَنَاسَبُ مَعَ مَصَالِحِ الخَلْقِ وَمَنَافِعِهِمِ ، وَأَنَّ أَصْلَ (المُصَوِّرِ) مِنَ الصَوَرِ وَهُوَ الإِمَالَةُ.
2- أَنَّ (المُصَوِّرَ) هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ خَلْقَهُ عَلَى صِوَرٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَهَيْئَاتٍ مُتَبَايِنَةٍ، مِنَ الطُّولِ وَالِقصَرِ، والحُسْنِ والقُبْحِ، والذُّكُورَةِ وَالأُنُوثَةِ، كُلُّ وَاحِدٍ بِصُورَتِهِ الخَاصَّةِ.
رابعًا: ثَمَرَاتُ الإِيمَانِ بِهَذِهِ الأَسْمَاءِ (الخَالِقِ ـ الخَلاَّقِ ـ البَارِئِ ـ المُصَوِّرِ):
1- أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ هُوَ الخَالِقُ وَحْدَهُ وَمَا سِوَاهُ مُخْلُوقٌ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم ْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ [الرعد: 16]، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ﴾ [فاطر: 3].
فَكُلُّ مَا سِوَى الله مَخْلُوقٌ مُحْدَثٌ، كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، وَكُلُّ المَخْلُوقَاتِ سَبِقَهَا العَدَمُ كَمَا قَالَ تعالى: ﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ﴾ [الإنسان: 1].
وَهَذَا قَوْلُ الرُّسُلِ جَمِيعًا وَأَتْبَاعِهِمْ ، وَخَالَفَ في ذَلِكَ الفَلَاسِفَةُ القَائِلُونَ بِقِدَمِ العَالَمِ وَأَبَدِيَّتِهِ وَأَنْ لَمْ يَكُنْ مَعْدُومًا أَصْلًا، بَلْ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ، وَلَكِنَّ الكِتَابَ يَرُدُّ ذَلِكَ ويَرْفُضُهُ [18].
2- أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَزَلْ خَالِقًا كَيْفَ شَاءَ وَمَتَى شَاءَ وَلَا يَزَالُ، لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ﴾ [النساء: 47].
وَقَوْلِهِ: ﴿ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [القصص: 68]، وَقَوْلِهِ: سُبْحَانَهُ: ﴿ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ﴾ [البروج: 15، 16].
وَلَيْسَ بَعْدَ خَلْقِ الخَلْقِ اسْتَفَادَ اسْمَ (الخَالِقِ)، وَلَا بِإِحْدَاثِهِ البَرِيَّةَ اسْتَفَادَ اسْمَ (البَارِي)، وَذَلِكَ مِنْ كَمَالِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَاقِدًا لِهَذَا الكَمَالِ، أَوْ مُعَطَّلًا عَنْهُ في وَقْتٍ مِنَ الأَوْقَاتِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 17][19].
3- إِنَّ اللهَ تَعَالَى ذَكَرُهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ. قَالَ تَعَالَى: ﴿ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ﴾ [غافر: 62].
وَمِنْ جُمْلَةِ مَخْلُوقَاتِهِ العِبَادُ وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأَ لَمْ يَكُنْ، وَلَا يَدُلُّ هَذَا عَلَى أَنَّ العَبْدَ لَيْسَ بِفَاعِلٍ عَلَى الحَقِيقَةِ وَلَا مُرِيدًا وَلَا مُخْتَارًا، بَلْ هُوَ فَاعِلٌ لِفِعْلِهِ حَقِيقَةً، وَأَنَّ إِضَافَةَ الفَعْلِ إِلَيْهِ إِضَافَةُ حَقٍّ، وَأَنَّهُ يُسْتَوْجَبُ عَلَيْهِ المَدْحُ والذَّمُّ وَالثَّوَابُ والعِقَابُ، وَلَكِنْ لَا يَدُلُّ هَذَا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِغَيْرِ مَشِيئَةِ الله وَقُدْرَتِهِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ العِبَادِ مَخْلُوقَةٌ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الصافات: 96][20]، فَأَفْعَالُهُم لله تَعَالَى خَلْقٌ وَلَهُمْ كَسْبٌ، وَلَا يُنْسَبُ شَيءٌ مِنَ الخَلْقِ لِغَيْرِ الله تَعَالَى، فَيَكُونُ شَرِيكًا وَنِدًّا وَمُسَاوِيًا لَهُ في نِسْبَةِ الفِعْلِ إِلَيْهِ، وَقَدْ نَهَى اللهُ سُبْحَانَهُ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 22].
وَقَدْ وَقَعَ في ذَلِكَ القَدَرِيَّةُ نُفَاةُ القَدَرِ، الَّذِينَ جَعَلُوا العِبَادَ خَالِقِينَ مَعَ الله تَعَالَى، وَلِهَذَا كَانُوا (مَجُوسَ هَذِهِ الأُمَّةِ) بَلْ أَرْدَأَ مِنَ المَجُوسِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ المَجُوسَ أَثْبَتُوا خَالِقَيْنِ، خَالِقًا للخَيْرِ وَخَالِقًا للشَّرِ، وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَقَدْ أَشْرَكُوا جَمِيعَ العِبَادِ في الخَلْقِ فَقَالُوا هُمْ يَخْلُقُونَ أَفْعَالَهُمْ، وَخَالَفُوا بِذَلِكَ الكِتَابَ والسُّنَّةَ وَأَهْلَ الحَقِّ[21].
4- خَلْقُ الله عَظِيمٌ مُحْكَمٌ فَلَا يَسْتَطِيعُ مَخْلُوقٌ أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَخْلُقَ أَفْضَلَ مِنْهُ، قَالَ ـ: ﴿ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [لقمان: 11]، وَفِي الآَيَةِ تَحَدٍّ لِجَمِيعِ الخَلْقِ مِنَ الجِنِّ وَالإِنْسِ وَغَيْرِهِمْ.
وَقَدْ أَثْبَتَ اللهُ عَجْزَهُمْ عَنْ خَلْقِ خَلْقٍ ضَعِيفٍ حَقْيرٍ كَالذُّبَابِ مَثَلًا وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى ذَلِكَ وَتَعَاوَنُوا عَلَيْهِ، قَالَ تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحج: 73، 74].
5- وَلِذَلِكَ حَرَّمَ اللهُ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يُصَوِّرُوا الصُّوَرَ ذَاتَ الأَرْوَاحِ لِمَا فِيهَا مِنْ مُضَاهَاةٍ لِخَلْقِ الله، أَيْ تَشْبِيهُ مَا يَصْنَعُونَهُ وَيُصَوِّرُونَه ُ مِنَ الصُّوَرِ بِمَا يَصْنَعُهُ وَيُصَوِّرُهُ اللهُ كَمَا جَاءَ في رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: «الذين يُشبِّهون بخَلقِ الله»[22].
وَقَدْ وَرَدَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ في تَوَعُّدِ المُصَوِّرِينَ بِأَشَدِّ العَذَابِ كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا عِنْدَ الله يَوْمَ القِيَامَةِ المُصَوِّرُونَ»[23]..
وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الَّذِي يَصْنَعُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، يُقَالُ لَهُمْ أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ»[24]، وَهُوَ أَمْرُ تَعْجِيزٍ وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ صِفَةُ تَعْذِيبِ المُصَوِّرِ وَهُوَ أَنْ يُكَلَّفَ نَفْخَ الرُّوحِ في الصُّورَةِ الَّتِي صَوَّرَهَا وَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ فَيَسْتَمِرُّ تَعْذِيبُهُ، قَالَه الحَافِظُ[25].
وَجَاءَ في الحَدِيثِ القُدْسِيُّ قَوْلُهُ تَعَالَى: «وَمِنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ ـ أَيْ قَصْدَ ـ يَخْلُقُ خَلْقًا كَخَلْقِي فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً أَوْ لِيَخْلُقُوا حَبَّةً أَوْ لِيَخْلُقُوا شَعِيرَةً»[26].
فَتَحَدَّاهُمْ الخَالِقُ سُبْحَانَهُ بِأَنْ يَخْلُقُوا ذَرَّةً وَهِيَ النَّمْلَةُ الصَّغِيرَةُ، ثُمَّ زَادَ في التَّحَدِّي بِأَنْ طَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يَخْلُقُوا حَبَّةً أَوْ شَعِيرَةً وَهُوَ مِنَ الجَمَادِ الَّذِي لَا حَرَكَةَ فِيهِ نِسْبِيًّا إِذَا مَا قِيسَ بِالنِّسْبَةِ للنَّمْلِ الَّذِي يَتَحَرَّكُ.
وَقَالَ بَعْضُ المَلَاحِدَةِ يَوْمًا: أَنَا أَخْلُقُ! فَقِيلَ لَهُ: فَأَرِنَا خَلْقَكَ؟ فَأَخَذَ لَحْمًا فَشَرَّحَهُ، ثُمَّ جَعَلَ بَيْنَهُ رَوْثًا ثُمَّ جَعَلَهُ في كُوزٍ وَخَتَمَهُ وَدَفَعَهُ إِلَى مَنْ حَفِظَهُ عِنْدَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ جَاءَ بِهِ إِلَيْهِ فَكَسَرَ الخَاتَمَ وَإِذَا الكُوزُ مَلآنٌ دُودًا، فَقَالَ: هَذَا خَلْقِي!! فَقَالَ لَهُ بَعْضُ مَنْ حَضَرَ: فَكَمْ عَدَدُهُ؟ فَلَمْ يَدْرِ، فَقَالَ: كَمْ مِنْهُ ذُكُورًا؟ وَكَمْ مِنْهُ إِنَاثًا؟ وَهَلْ تَقُومُ بِرِزْقِهِ؟ فَلَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ، قَالَ لَهُ: إِنَّ الخَالِقَ الَّذِي أَحْصَى كُلَّ مَا خَلَقَ عَدَدًا، وَعَرِفَ الذَّكَرَ مِنَ الأُنْثَى، وَرَزَقَ مَا خَلَقَ، وَعَلِمَ مُدَّةَ بَقَائِهِ وَعَلِمَ نَفَادَ عُمُرِهِ؛ قَالَ اللهُ عز وجل: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [الروم: 40]، وَقَالَ: ﴿ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ﴾ [السجدة: 7][27].
وَقَدْ قَسَّمَ النَّوَوِيُّ رحمه الله الُمصَوِّرِينَ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ:
«أ- مَنْ فَعَلَ الصُّوَرَةَ لِتُعْبَدَ وَهُوَ صَانِعُ الأَصْنَامِ وَنَحْوِهَا فَهَذَا كَافِرٌ وَهُوَ أَشَدُّهُمْ عَذَابًا.
ب- مَنْ فَعَلَ الصُّورَةَ وَقَصَدَ مَضَاهَاةَ خَلْقِ الله تَعَالَى واعْتَقَدَ ذَلِكَ، فَهَذَا كَافِرٌ لَهُ مِنْ أَشَدِّ العَذَابِ مَا لِلْكُفَّارِ وَيَزِيدُ عَذَابُهُ بِزِيَادَةِ قُبْحِ كُفْرِهِ.
ج- مَنْ لَمْ يَقْصُدْ بِالصُّورَةِ العِبَادَةَ وَلَا المُضَاهَاةَ فَهُوَ فَاسِقٌ صَاحِبُ ذَنْبٍ كَبَيرٍ وَلَا يَكْفُرُ كَسَائِرِ المَعَاصِي» اهـ [28].
6- وُجُودُ هَذَا الخَلْقِ العَظِيمِ المُحِيطِ بِنَا مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ دَلِيلٌ عَلَى قُدْرَةِ الخَالِقِ وَعَلَى عَظَمَتِهِ وَكَمَالِهِ، فَالإِنْسَانُ يَعْجَزُ في كَثِيرٍ مِنَ الأَحْيَانِ عَنْ مِعْرِفَةِ جَوَانِبَ كَثِيرَةٍ مِنَ الأَرْضِ الَّتِي يَعِيشُ عَلَيْهَا، مَعَ أَنَّهَا صَغِيرةٌ جِدًّا إَذَا مَا قِيسَتْ بِالنِّسْبَةِ لِبَقِيَّةِ الكَوْنِ الفَسِيحِ المَلِيءِ بِمَلايِينِ النُّجُومِ المُضِيئَةِ وَالشُّمُوسِ وَالأَقْمَارِ وَالَّتِي يَعْجَزُ عَنْ حَصْرِهَا أَوْ عَدِّهَا، وَهَذَا كُلُّهُ في السَّمَاءِ الدُّنْيَا الَّتِي فَوْقَهَا سَتُّ سَمَاوَاتٍ طَبَاقٍ، بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ وَفَوْقَهُنَّ جَمِيعًا الكُرْسِيُّ، وَمِنْ عَظَمَةِ خَلْقِ هَذَا الكُرْسِيِّ وَاتِّسَاعِهِ أَنَّهُ يَسْتَوْعِبُ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَالأَرْضَ جَمِيعًا، قَالَ تَعَالَى: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾ [البقرة: 255]، وَالعَرْشُ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَالخَالِقُ سُبْحَانَهُ فَوْقَ العَرْشِ، وَهُوَ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَأَعْظَمُ.
وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ خَلْقَ الإِنْسَانِ ضَعِيفٌ جِدًّا، إِذَا مَا قُورِنَ بِالسَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَالكُرْسِيِّ وَالعَرْشِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا ﴾ [النازعات: 27 - 29].
7- وَأَخِيرًا يَجِبُ أَنْ نَعْلَمَ أَنَّ اللهَ ـ مَا خَلَقَ هَذَا الخَلْقَ العَظِيمَ لَهْوًا وَلَعِبًا، وَلَا خَلَقَهُ عَبَثًا وَإِنَّمَا خَلَقَهُ لِغَايَةٍ عَظِيمَةٍ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ﴾ [المؤمنون: 115، 116]؛ أَيْ: أَفَظَنَنْتُم أَنَّكُمْ مَخْلُوقُونَ عَبَثًا بِلَا قَصْدٍ وَلَا حِكْمَةٍ لَنَا فِيكُم، فَتَعَالَى اللهُ أَيْ: تَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ عَنْ ذَلِكَ ثُمَّ ذَكَرَ العَرْشَ لَأَنَّهُ سَقْفُ جَمِيعِ الَمخْلُوقَاتِ[29].
وَقَالَ تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ﴾ [الأنبياء: 16 - 18].
قَالَ ابنُ كَثِيرٍ: «يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالحَقِّ ـ أَيْ بِالعَدْلِ ـ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالحُسْنَى وَأَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ ذَلِكَ عَبَثًا وَلَا لَعِبًا»[30].
وَأَبَانَ تَعَالَى عَنْ هَذِهِ الغَايَةِ العَظِيمَةِ بِقَوْلِهِ: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ﴾ [الذاريات: 56، 57].
[1] رَوَى مسلمٌ عن أبي هريرةَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: «ما اجْتَمَعَ قَوْمٌ في بيتٍ مِنْ بِيوتِ الله، يَتْلُونَ كِتابَ الله ويَتَدَارَسُونَ هُ بَيْنَهُمْ، إِلا نزلتْ عَليهم السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُم الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُم الملائكةُ، وَذَكَرَهُم اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ».
[2] َروَى الإمامُ أَحمدُ وصَحَّحَهُ الألبانيُّ في صحيحِ الجامعِ (5507) عن أنسِ بنِ مالكٍ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا اجْتَمَعَ قَومٌ عَلَى ذِكْرٍ، فَتَفَرَّقُوا عنه إلا قِيلَ لَهُمْ قُومُوا مَغْفُورًا لَكُم»، ومَجَالِسُ الذِّكْرِ هِيَ المجالسُ التي تُذَكِّرُ بِالله وبآياتهِ وأحكامِ شرعهِ ونحو ذلك.
[3] في الصحيحين عن أبي هريرة أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ غَدَا إلى المسْجِدِ أَوْ رَاحَ أَعَدَّ اللهُ له في الجنةِ نُزُلًا كُلَّمَا غَدَا أو رَاحَ».
وفي صحيح مُسْلِمٍ عَنْه أيضًا أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ تَطَهَّرَ في بيتهِ ثُمَّ مَضَى إلى بيتٍ مِنْ بيوتِ الله لِيَقْضِيَ فَرِيضَةً مِنْ فَرَائِضِ الله كانتْ خُطُواتُه: إِحدَاها تَحطُّ خَطِيئَةً، والأُخْرَى تَرْفَعُ دَرجةً».
[4] رَوَى البخاريُّ ومُسْلِمٌ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَرضي الله عنهأَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا يَزَالُ أَحَدُكُمْ في صَلَاةٍ مَا دَامَتِ الصلاةُ تَحْبِسُه، لا يَمْنَعُه أَنْ يَنْقَلِبَ إِلى أهلهِ إلا الصلاةُ».
ورَوَى البُخَاريُّ عَنه أنَّ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الملائكةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكم مَا دامَ فِي مُصَلَّاهُ الذي صَلَّى فيه، مَا لَمْ يُحْدِثْ، تَقُولُ: اللهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللهُمَّ ارْحَمْه».
[5]، (4) رَوَى البخاريُّ ومُسْلِمٌ عَنْ سَهْل بْنِ سَعْدٍ أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ لعلي بنِ أبي طالبٍ: «فوالله لأنْ يَهْدِي اللهُ بك رَجُلًا واحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النِّعَمِ».
رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ دَعَا إلى هُدَى كَانَ لَه مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَه، لا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهم شيئًا».
[6] رَوَى التِّرْمِذِيُّ وصحَّحَه الألبانيُّ عن أبي أمامةَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إنَّ اللهَ وملائكتَه، حتى النملةَ فِي جُحْرِها، وحتى الحوتَ في البحرِ لَيُصَلُّون عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الخيرَ»، وَصلاةُ الملائكةِ الاسْتِغْفَارُ.
[7] اشتقاق أسماء الله (ص: 243).
[8] مفردات ألفاظ القرآن (ص: 497).
[9] الأسماء والصفات للبيهقي (ص: 44)، والمقصد الأسنى (ص: 72)، وشرح أسماء الله الحسنى (ص: 217).
[10] رواه البخاري (5873)، ومسلم (2841).
[11] الفتاوى (3/ 69).
[12] فتح الباري (5/ 183).
[13] النهج الأسمى (1/ 167-174).
[14] الطبري (28/ 37) (30/ 55).
[15] تفسير الأسماء (ص: 37).
[16] تفسير ابن كثير (4/ 344).
[17] شأن الدعاء (ص: 51-52)، وفتح القدير (5/ 208)، والاعتقاد للبيهقي (ص: 56).
[18] قال ابن تيمية في درء تعارض العقل مع النقل (2/ 167): «وقد نقل غير واحد أن أول من قال بقدم العالم من الفلاسفة هو أرسطو».
[19] انظر الطحاوية (ص: 137)، وقد خالف في ذلك المعتزلة والجهمية ومن وافقهم من الكلَّابِية والأشاعرة فإنهم قالوا: أنه تعالى صار قادرًا على الفعل بعد أن لم يكن قادرًا عليه، لكون الفعل صار ممكنًا بعد أن كان ممتنعًا، وأنه انقلب من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي !!
وقد رد عليهم أبو جعفر الطحاوي رحمه الله بقوله: «ما زال بصفاته قديمًا قبل خلقه، لم يزدد بكونهم شيئًا لم يكن قبلهم من صفته، وكما كان بصفاته أزليًّا، كذلك لا يزال عليها أبديًّا»؛ اهـ.
راجع: الطحاوية (ص: 127) وانظر شرح ابن أبي العز الحنفي فقد أجاد وأفاد.
[20] أورد ابن كثير عند تفسير هذه الآية حديثًا رواه البخاري في خلق أفعال العباد (ص: 25): قال حدثنا على بن عبد الله حدثنا معاوية أبو مالك عن ربعي بن حراش عن حذيفة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يصنع كل صانع وصنعته» ثم قال البخاري «فأخبر أن الصناعات وأهلها مخلوقة» اهـ .
والحديث إسناده صحيح، رجاله ثقات وأبو مالك هو سعد بن طارق الأشجعي وأخرجه الحاكم (1/ 31) بالطريق السابق والبيهقي في الأسماء (ص: 4914).
[21] انظر: العقيدة الطحاوية (ص: 493-502)، والفتح (13/ 491-495).
[22] مسلم بشرح النووي (14/ 88).
وبذلك تعلم حرمة تصوير ذوات الأرواح بما يسمى بـ (الكاميرا)؛ لأن المضاهاة تكون فيها أشد من الرسم باليد، والتفريق بينهما لا يستند إلى دليل من شرع أو عقل.
[23] رواه البخاري (5950)، ومسلم (2019) من حديث عبد الله بن مسعود.
[24] رواه البخاري (5951)، ومسلم (2108) من حديث ابن عمر.
[25] الفتح (10/ 384).
[26] رواه البخاري (5953-7559)، ومسلم (2111) من حديث أبي هريرة.
[27] الحجة في المحجة (ورقة 16 ب).
[28] شرح مسلم (14/ 91)، انظر: الفتح (10/ 383-384).
[29] من تفسير ابن كثير (3/ 259) ملخصًا.
[30] المصدر السابق (3/ 174-175).
الشيخ وحيد عبدالسلام بالي
عَنَاصِرُ الموْضُوعِ:
أولًا: الدِّلاَلاَتُ اللُّغَوَيَّةُ لاسْمِ (المُصَوِّرِ).
ثانيًا: وُرُودُهُ فِي القُرْآنِ الكَرِيمِ.
ثالثًا: مَعْنَى الاسْمِ فِي حَقِّ الله تَعَالَى.
رابعًا: ثَمَرَاتُ الإيِمَانِ بهذه الأسماءِ (الخالقِ - الخلاقِ - البارئِ - المصورِ).
النِّيَّاتُ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَحْضِرَهَا الُمحَاضِرُ قَبْلَ إِلْقَاءِ هَذِهِ الُمحَاضَرَةِ:
أولًا: النِّيَّاتُ العَامَّةُ:
1- يَنْوي القيامَ بتبليغِ الناسِ شَيْئًا مِنْ دِينِ الله امْتِثَالًا لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «بلِّغُوا عَني ولَوْ آيةً» رواه البخاري.
2- رَجَاءَ الحُصُولِ عَلَى ثَوَابِ مَجْلِسِ العِلْمِ[1].
3- رَجَاءَ أَنْ يَرْجِعَ مِنْ مَجْلِسِه ذلك مَغْفُورًا لَهُ[2].
4- يَنْوِي تَكْثِيرَ سَوَادِ المسْلِمِينَ والالتقاءَ بِعِبادِ الله المؤْمِنينَ.
5- يَنْوِي الاعْتِكَافَ فِي المسْجِدِ مُدةَ المحاضرة ـ عِنْدَ مَنْ يَرَى جَوَازَ ذَلِكَ مِنَ الفُقَهَاءِ ـ لَأَنَّ الاعْتِكَافَ هو الانْقِطَاعُ مُدَّةً لله في بيتِ الله.
6- رَجَاءَ الحُصُولِ عَلَى أَجْرِ الخُطُوَاتِ إلى المسْجِدِ الذي سَيُلْقِي فيه المحَاضَرَةَ[3].
7- رَجَاءَ الحُصُولِ عَلَى ثَوَابِ انْتِظَارِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، إذا كانَ سَيُلْقِي مُحَاضَرَتَه مثلًا مِنَ المغْرِبِ إلى العِشَاءِ، أَوْ مِنَ العَصْرِ إِلَى الَمغْرِبِ[4].
8- رَجَاءَ أَنْ يَهْدِي اللهُ بسببِ مُحَاضَرَتِه رَجُلًا، فَيَأْخُذَ مِثْلَ أَجْرِهِ[5].
9- يَنْوِي إرْشَادَ السَّائِليِنَ، وتَعْلِيمَ المحْتَاجِينَ، مِنْ خِلَالِ الرَّدِّ عَلَى أَسْئِلَةِ المسْتَفْتِينَ[6].
10- يَنْوِي القِيَامَ بِوَاجِبِ الأمرِ بالمعروفِ، وَالنهيِ عَنِ الُمنْكَرِ ـ بالحِكْمَةِ والموعظةِ الحسنةِ ـ إِنْ وُجِدَ مَا يَقْتَضِي ذلك(4).
11- يَنْوِي طَلَبَ النَّضْرَةِ الَمذْكُورَةِ فِي قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «نَضَّرَ اللهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا وَحَفِظَهَا، ثُمَّ أَدَّاهَا إِلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْها»، رواه أحمدُ والتِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ الألبانيُّ في صحيحِ الجامعِ (6766).
ثُمَّ قَدْ يَفْتَحِ اللهُ عَلَى الُمحَاضِرِ بِنِيَّات صَالِحَةٍ أُخْرَى فَيَتَضَاعَفُ أَجْرُه لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «إنما لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى»؛ مُتَّفَقٌ عَلَيه.
ثانيًا: النِّيَّاتُ الخَاصَّةُ:
1- تَنْوِي تَعْرِيفَ الُمسْلِمِينَ بِمَعَانِي اسْمِ الله (الُمصَوِّرِ).
2- تَنْوِي لَفْتَ أَنْظَارِ الُمسْلِمِينَ إِلَى صُوَرِ الَمخْلُوقَاتِ الُمخْتَلِفَةِ.
3- تَنْوِي تَحْذِيرَ الُمسْلِمِينَ مِنَ التَّصْوِيرِ، وَبَيَانَ حُرْمَتِهِ.
4- بَيَانُ أَطْوَارِ خَلْقِ الإِنْسَانِ، وَعَظَمَةِ الله في ذَلِكَ.
أولًا: الدِّلاَلاَتُ اللُّغَوِيَّةُ لاسْمِ (المُصَوِّرِ):
المُصَوِّرُ في اللُّغَةِ اسْمُ فَاعِلٍ للْمَوْصُوفِ بالتَّصَوِيرِ، فِعْلُهُ صَوَّرَ وأَصْلُهُ صَار يُصَوِّرُ صَوْرًا، وصَوَّرَ الشَّيءَ أَيْ جَعَلَ لَهُ شَكْلًا مَعْلُومًا، وَصَوَّرَ الشَّيْءَ قَطَعَهُ وَفَصَلَهُ وَمَيَّزَهُ عَنْ غَيْرِهِ، وَتَصْوِيرُهُ جَعْلُهُ عَلَى شَكْلٍ مُتَصَوَّرٍ وَعَلَى وَصْفٍ مُعَيَّنٍ، وَالصُّورَةُ هِيَ الشَّكْلُ والهَيْئَةُ أَوِ الذَّاتُ الُمتَمَيِّزَةُ بِالصِّفَاتِ[7]..
قَالَ الرَّاغِبُ: «الصُّورَةُ مَا يَنْتَقِشُ بِهِ الأَعْيَانُ وَيَتَمَيَّزُ بِهَا غَيْرُهَا، وَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا مَحْسُوسٌ يُدْرِكُهُ الخَاصَّةُ والعَامَّةُ بَلْ يُدْرِكْهُ الإِنْسَانُ وَكَثِيرٌ مِنَ الحَيَوَانِ بِالُمعَايَنَةِ كَصُورَةِ الإِنْسَانِ وَالفَرَسِ وَالحِمَارِ، والثَّانِي مَعْقُولٌ يُدْرِكَهُ الخَاصَّةُ دُونَ العَامَّةِ كالصُّورَةِ الَّتِي اخْتَصَّ الإِنْسَانُ بِهَا مِنَ العَقْلِ وَالرَّوِيَّةِ وَالَمعَانِي الَّتِي خُصَّ بِهَا شَيْءٌ بِشَيْءٍ»[8].
وَالمُصَوِّرُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي صَوَّرَ الَمخْلُوقَاتِ فِيهِ بِشَتَّى أَنْوَاعِ الصُّوَرِ الجَلِيَّةِ وَالخَفِيَّةِ وَالحِسِّيَّةِ وَالعَقْلِيَّةِ ، فَلَا يَتَمَاثَلُ جِنْسَانِ ولا يَتَسَاوَى نَوْعَانٍ بَلْ لَا يَتَسَاوَى فَرْدَانِ، فَلِكُلٍّ صُورَتُهُ وَسِيرَتُهُ وَمَا يَخُصُّهُ وَيُمَيِّزُهُ عَنْ غَيْرِهِ..
والصُّوَرُ مُتَمَيِّزَةٌ بِأَلْوَانٍ وأَشْكَالٍ في ذَاتِهَا وَصِفَاتِهَا، وَإِحْصَاؤُهَا في نَوْعٍ وَاحِدٍ، أَوْ حَصْرُهَا في جِنْسٍ وَاحِدٍ أَمْرٌ يُعْجِزُ العَقْلَ وَيُذْهِلُ الفِكْرَ، فَالمُصَوِّرُ في أَسْمَاءِ الله الحُسْنَى هُوَ مُبْدِعُ صُوَرِ المَخْلُوقَاتِ وَمُزَيِّنُهَا بِحِكْمَتِهِ، وَمُعْطٍ كُلَّ مَخْلُوقٍ صُورَتَهُ عَلَى مَا اقْتَضَتْ مَشِيئَتُهُ وَحِكْمَتُهُ، وَهُوَ الَّذِي صَوَّرَ النَّاسَ في الأَرْحَامِ أَطْوَارًا، وَنَوَّعَهُمْ أَشْكَالًا كَمَا قَالَ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ﴾ [الأعراف: 11]، وَاللهُ ﻷ كَمَا صَوَّرَ الأَبْدَانَ فَتَعَدَّدَتْ وَتَنَوَّعَتْ نَوَّعَ في الأَخْلَاقِ فَتَتَعَدَّدُ صُوَرُ الأَخْلَاقِ وَالطِّبَاعِ[9].
وَأَعْظَمُ تَكْرِيمِ للإِنْسَانِ مِنَ الله المُصَوِّرِ أَنَّهُ خَلَقَهُ عَلَى صُوَرتِهِ في المَعْنَى المُجَرَّدِ لِيَسْتَخْلِفَه ُ في أَرْضِهِ وَيَسْتَأْمِنَه ُ في مُلْكِهِ.
رَوَى البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «خَلَقَ اللهُ آَدَمَ عَلَى صُورَتِهِ طُولُهُ ستُّونَ ذِرَاعًا، فَلَمَّا خَلَقَهُ قَالَ اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ مِنَ المَلَائِكَةِ جُلُوسٌ فَاْسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ فَإِنَّها تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ ؛ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ: فَقَالُوا: السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ الله فَزَادُوهُ وَرَحْمَةُ الله، فَكلُّ مَنْ يَدْخُلُ الجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ، فَلَمْ يَزَلِ الخَلْقُ يَنْقُصُ بَعْدُ حَتَّى الآن»[10].
وَالحَدِيثُ ظَاهِرُ المَعْنَى في أَنَّ اللهَ صَوَّرَ آدَمَ وَجَعَلَ لَهُ سَمْعًا وَبَصَرًا وَعِلْمَا وحُكْمَا وَخِلَافَةً وَمُلْكًا وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الأَوْصَافِ المُشْتَرَكَةِ عِنْدَ التَّجَرُّدِ وَالَّتِي يَصِحُّ عِنْدَ إِطْلَاقِهَا اسْتَخْدَامُهَا في حَقِّ الخَالِقِ وَالمَخْلُوقِ، فَاللهُ ﻷ لَهُ صُورَةٌ وَآَدَمُ لَهُ صُورَةٌ.
وَلَفْظُ الصُّورَةِ عِنْدَ التَّجَرُّدِ لَا يَعْنِي أَبَدًا التَّمَاثُلَ وَلَا يَكُونُ عِلَّةً لِلْتَشْبِيهِ إِلَّا عِنْدَ مَنْ فَسَدَتْ فِطْرَتُهُ مِنْ المُشَبَّهَةِ والَمعَطَّلَةِ، أَمَّا الصُّورَةُ عِنْدَ الإِضَافَةِ وَالتّقْييدِ فَصُورَةُ الحَقِّ لَا يَعْلَمُ كَيْفِيَّتَهَا إِلَّا هُوَ، لَأَنَّنَا مَا رَأَيْنَاهُ وَمَا رَأَيْنَا لَهُ مَثِيلًا، أَمَّا صُورَةُ آدَمَ فَمَعْلُومَةُ المَعْنَى وَالكَيْفيَّةِ، وَقَدْ خَلَقَ اللهُ آَدَمَ عَلَى صُورَتِهِ سُبْحَانَهُ في القَدْرِ المُشْتَرَكِ مَعَ ثُبُوتِ الفَارِقِ عِنْدَ أَهْلِ التَّوْحِيدِ..
وَقَدْ قَالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ: «مَا مِنْ شَيئينِ إِلَّا بَيْنَهُمَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ وَقَدْرٌ فَارِقٌ فَمَنْ نَفَى القَدْرَ المُشْتَرَكَ فَقَدْ عَطَّلَ، وَمَنْ نَفَى القَدْرَ الفَارِقَ فَقَدْ مَثَّلَ»[11]، وَالحَدِيثُ عَنْ ذَلِكَ لَهُ مَوْضِعُهُ.
وَالقَصْدُ أَنَّ المُصَوِّرَ سُبْحَانَهُ خَصَّ الإِنْسَانَ بِهَيْئَةٍ مُتَمَيِّزَةٍ مِنْ خِلَالِهَا يُدْرَكُ بِالبَصَرِ وَالبَصِيرَةِ، وَأَسْجَدَ لَهُ بَعْدَ تَصْوِيرِهِ المَلَائِكَةَ، وَلَيْسَ بَعْدَ ذَلِكَ شَرَفٌ أَوْ فَضِيلَةٌ[12].
ثانيًا: وُرُودُ الاسْمِ بِالكِتَابِ العَزِيزِ[13]:
وَرَدَ الاسْمُ في قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى: ﴿ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ ﴾ [الحشر: 24]، مَرَّةً وَاحِدَةً في القُرْآَنِ.
وَجَاءَ بِصِيغَةِ الفِعْلِ مَرَّاتٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ ﴾ [آل عمران: 6].
وَقَوْلِهِ عز وجل: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ﴾ [الأعراف: 11].
وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: ﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴾ [التغابن: 3].
ثالثًا: المَعْنَى في حَقِّ الله تَعَالَى:
قَالَ ابنُ جَرِيرٍ: «المُصَوِّرُ خَلَقَهُ كَيْفَ شَاءَ وَكَيْفَ يَشَاءَ».
وَقَالَ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ﴾ [الانفطار: 7، 8]؛ «أَيْ صَرَّفَكَ وَأَمَالَكَ إِلَى أَيْ صُورَةٍ شَاءَ، إِمَّا إِلَى صُورَةٍ حَسَنَةٍ وَإِمَّا إِلَى صُوَرةٍ قَبِيحَةٍ أَوْ إِلَى صُورَةِ بَعْضِ قَرَابَاتِهِ»[14].
وَقَالَ الزَّجَاجُ: «المُصَوِّرُ هُوَ مُفَعِّلٌ مِنَ الصُّورَةِ وَهُوَ تَعَالَى مُصَوِّرُ كُلِّ صُورَةٍ لَا عَلَى مِثَالٍ احْتَذَاهُ وَلَا رَسْمٍ ارْتَسَمَهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا»[15].
وَقَالَ ابنُ كَثِيرٍ رحمه الله في مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ ﴾ [الحشر: 24]؛ «أَيِ الَّذِي إِذَا أَرَادَ شَيْئًا قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي يُرِيدُ والصُّورَةِ الَّتِي يَخْتَارُ كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى: ﴿ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ﴾ [الانفطار: 8]، وَلِهَذَا قَالَ: (المُصَوِّرُ) أَيِ الَّذِي يُنَفِّذُ مَا يُرِيدُ إِيجَادَهُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي يُرِيدُهَا»[16].
وَقَالَ الخَطَّابِيُّ: «(المُصَوِّرُ) هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ خَلْقَهُ عَلَى صُوَرٍ مُخْتَلِفَةٍ ليَتَعَارَفُوا بِهَا فَقَالَ: ﴿ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ﴾ [غافر: 64].
وَقَالَ: التَّصوُّرُ التَّخْطِيطُ والتَّشْكِيلُ، ثُمَّ قَالَ: وَخَلَقَ اللهُ جَلَّ وَتَعَالَى الإِنْسَانَ في أَرْحَامِ الأُمَّهَاتِ ثَلَاثِ خِلَقٍ: جَعَلَهُ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً ثُمَّ جَعَلَهَا صُورَةً وَهُوَ التَّشْكِيلُ الَّذِي بِهِ يَكُونُ ذَا صُورَةٍ وَهَيْئَةٍ يُعْرَفُ بِهَا وَيَتَمَيَّزُ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ بِسِمَاتِهَا: ﴿ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ [المؤمنون: 14]»[17].
وَبِهَذَا يَكُونُ مَعْنَى (المُصَوِّرِ):
1- أَنَّ (الُمصَوِّرَ): هُوَ الَّذِي أَمَالَ خَلْقَهُ وَعَدَّلَهُمْ إِلَى الأَشْكَالِ وَالهَيْئَاتِ الَّتِي تُوَافِقُ تَقْدِيرَهُ وَعِلْمَهُ وَرَحْمَتَهُ وَالَّتِي تَتَنَاسَبُ مَعَ مَصَالِحِ الخَلْقِ وَمَنَافِعِهِمِ ، وَأَنَّ أَصْلَ (المُصَوِّرِ) مِنَ الصَوَرِ وَهُوَ الإِمَالَةُ.
2- أَنَّ (المُصَوِّرَ) هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ خَلْقَهُ عَلَى صِوَرٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَهَيْئَاتٍ مُتَبَايِنَةٍ، مِنَ الطُّولِ وَالِقصَرِ، والحُسْنِ والقُبْحِ، والذُّكُورَةِ وَالأُنُوثَةِ، كُلُّ وَاحِدٍ بِصُورَتِهِ الخَاصَّةِ.
رابعًا: ثَمَرَاتُ الإِيمَانِ بِهَذِهِ الأَسْمَاءِ (الخَالِقِ ـ الخَلاَّقِ ـ البَارِئِ ـ المُصَوِّرِ):
1- أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ هُوَ الخَالِقُ وَحْدَهُ وَمَا سِوَاهُ مُخْلُوقٌ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم ْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ [الرعد: 16]، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ﴾ [فاطر: 3].
فَكُلُّ مَا سِوَى الله مَخْلُوقٌ مُحْدَثٌ، كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، وَكُلُّ المَخْلُوقَاتِ سَبِقَهَا العَدَمُ كَمَا قَالَ تعالى: ﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ﴾ [الإنسان: 1].
وَهَذَا قَوْلُ الرُّسُلِ جَمِيعًا وَأَتْبَاعِهِمْ ، وَخَالَفَ في ذَلِكَ الفَلَاسِفَةُ القَائِلُونَ بِقِدَمِ العَالَمِ وَأَبَدِيَّتِهِ وَأَنْ لَمْ يَكُنْ مَعْدُومًا أَصْلًا، بَلْ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ، وَلَكِنَّ الكِتَابَ يَرُدُّ ذَلِكَ ويَرْفُضُهُ [18].
2- أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَزَلْ خَالِقًا كَيْفَ شَاءَ وَمَتَى شَاءَ وَلَا يَزَالُ، لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ﴾ [النساء: 47].
وَقَوْلِهِ: ﴿ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [القصص: 68]، وَقَوْلِهِ: سُبْحَانَهُ: ﴿ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ﴾ [البروج: 15، 16].
وَلَيْسَ بَعْدَ خَلْقِ الخَلْقِ اسْتَفَادَ اسْمَ (الخَالِقِ)، وَلَا بِإِحْدَاثِهِ البَرِيَّةَ اسْتَفَادَ اسْمَ (البَارِي)، وَذَلِكَ مِنْ كَمَالِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَاقِدًا لِهَذَا الكَمَالِ، أَوْ مُعَطَّلًا عَنْهُ في وَقْتٍ مِنَ الأَوْقَاتِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 17][19].
3- إِنَّ اللهَ تَعَالَى ذَكَرُهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ. قَالَ تَعَالَى: ﴿ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ﴾ [غافر: 62].
وَمِنْ جُمْلَةِ مَخْلُوقَاتِهِ العِبَادُ وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأَ لَمْ يَكُنْ، وَلَا يَدُلُّ هَذَا عَلَى أَنَّ العَبْدَ لَيْسَ بِفَاعِلٍ عَلَى الحَقِيقَةِ وَلَا مُرِيدًا وَلَا مُخْتَارًا، بَلْ هُوَ فَاعِلٌ لِفِعْلِهِ حَقِيقَةً، وَأَنَّ إِضَافَةَ الفَعْلِ إِلَيْهِ إِضَافَةُ حَقٍّ، وَأَنَّهُ يُسْتَوْجَبُ عَلَيْهِ المَدْحُ والذَّمُّ وَالثَّوَابُ والعِقَابُ، وَلَكِنْ لَا يَدُلُّ هَذَا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِغَيْرِ مَشِيئَةِ الله وَقُدْرَتِهِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ العِبَادِ مَخْلُوقَةٌ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الصافات: 96][20]، فَأَفْعَالُهُم لله تَعَالَى خَلْقٌ وَلَهُمْ كَسْبٌ، وَلَا يُنْسَبُ شَيءٌ مِنَ الخَلْقِ لِغَيْرِ الله تَعَالَى، فَيَكُونُ شَرِيكًا وَنِدًّا وَمُسَاوِيًا لَهُ في نِسْبَةِ الفِعْلِ إِلَيْهِ، وَقَدْ نَهَى اللهُ سُبْحَانَهُ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 22].
وَقَدْ وَقَعَ في ذَلِكَ القَدَرِيَّةُ نُفَاةُ القَدَرِ، الَّذِينَ جَعَلُوا العِبَادَ خَالِقِينَ مَعَ الله تَعَالَى، وَلِهَذَا كَانُوا (مَجُوسَ هَذِهِ الأُمَّةِ) بَلْ أَرْدَأَ مِنَ المَجُوسِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ المَجُوسَ أَثْبَتُوا خَالِقَيْنِ، خَالِقًا للخَيْرِ وَخَالِقًا للشَّرِ، وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَقَدْ أَشْرَكُوا جَمِيعَ العِبَادِ في الخَلْقِ فَقَالُوا هُمْ يَخْلُقُونَ أَفْعَالَهُمْ، وَخَالَفُوا بِذَلِكَ الكِتَابَ والسُّنَّةَ وَأَهْلَ الحَقِّ[21].
4- خَلْقُ الله عَظِيمٌ مُحْكَمٌ فَلَا يَسْتَطِيعُ مَخْلُوقٌ أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَخْلُقَ أَفْضَلَ مِنْهُ، قَالَ ـ: ﴿ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [لقمان: 11]، وَفِي الآَيَةِ تَحَدٍّ لِجَمِيعِ الخَلْقِ مِنَ الجِنِّ وَالإِنْسِ وَغَيْرِهِمْ.
وَقَدْ أَثْبَتَ اللهُ عَجْزَهُمْ عَنْ خَلْقِ خَلْقٍ ضَعِيفٍ حَقْيرٍ كَالذُّبَابِ مَثَلًا وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى ذَلِكَ وَتَعَاوَنُوا عَلَيْهِ، قَالَ تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحج: 73، 74].
5- وَلِذَلِكَ حَرَّمَ اللهُ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يُصَوِّرُوا الصُّوَرَ ذَاتَ الأَرْوَاحِ لِمَا فِيهَا مِنْ مُضَاهَاةٍ لِخَلْقِ الله، أَيْ تَشْبِيهُ مَا يَصْنَعُونَهُ وَيُصَوِّرُونَه ُ مِنَ الصُّوَرِ بِمَا يَصْنَعُهُ وَيُصَوِّرُهُ اللهُ كَمَا جَاءَ في رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: «الذين يُشبِّهون بخَلقِ الله»[22].
وَقَدْ وَرَدَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ في تَوَعُّدِ المُصَوِّرِينَ بِأَشَدِّ العَذَابِ كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا عِنْدَ الله يَوْمَ القِيَامَةِ المُصَوِّرُونَ»[23]..
وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الَّذِي يَصْنَعُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، يُقَالُ لَهُمْ أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ»[24]، وَهُوَ أَمْرُ تَعْجِيزٍ وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ صِفَةُ تَعْذِيبِ المُصَوِّرِ وَهُوَ أَنْ يُكَلَّفَ نَفْخَ الرُّوحِ في الصُّورَةِ الَّتِي صَوَّرَهَا وَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ فَيَسْتَمِرُّ تَعْذِيبُهُ، قَالَه الحَافِظُ[25].
وَجَاءَ في الحَدِيثِ القُدْسِيُّ قَوْلُهُ تَعَالَى: «وَمِنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ ـ أَيْ قَصْدَ ـ يَخْلُقُ خَلْقًا كَخَلْقِي فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً أَوْ لِيَخْلُقُوا حَبَّةً أَوْ لِيَخْلُقُوا شَعِيرَةً»[26].
فَتَحَدَّاهُمْ الخَالِقُ سُبْحَانَهُ بِأَنْ يَخْلُقُوا ذَرَّةً وَهِيَ النَّمْلَةُ الصَّغِيرَةُ، ثُمَّ زَادَ في التَّحَدِّي بِأَنْ طَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يَخْلُقُوا حَبَّةً أَوْ شَعِيرَةً وَهُوَ مِنَ الجَمَادِ الَّذِي لَا حَرَكَةَ فِيهِ نِسْبِيًّا إِذَا مَا قِيسَ بِالنِّسْبَةِ للنَّمْلِ الَّذِي يَتَحَرَّكُ.
وَقَالَ بَعْضُ المَلَاحِدَةِ يَوْمًا: أَنَا أَخْلُقُ! فَقِيلَ لَهُ: فَأَرِنَا خَلْقَكَ؟ فَأَخَذَ لَحْمًا فَشَرَّحَهُ، ثُمَّ جَعَلَ بَيْنَهُ رَوْثًا ثُمَّ جَعَلَهُ في كُوزٍ وَخَتَمَهُ وَدَفَعَهُ إِلَى مَنْ حَفِظَهُ عِنْدَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ جَاءَ بِهِ إِلَيْهِ فَكَسَرَ الخَاتَمَ وَإِذَا الكُوزُ مَلآنٌ دُودًا، فَقَالَ: هَذَا خَلْقِي!! فَقَالَ لَهُ بَعْضُ مَنْ حَضَرَ: فَكَمْ عَدَدُهُ؟ فَلَمْ يَدْرِ، فَقَالَ: كَمْ مِنْهُ ذُكُورًا؟ وَكَمْ مِنْهُ إِنَاثًا؟ وَهَلْ تَقُومُ بِرِزْقِهِ؟ فَلَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ، قَالَ لَهُ: إِنَّ الخَالِقَ الَّذِي أَحْصَى كُلَّ مَا خَلَقَ عَدَدًا، وَعَرِفَ الذَّكَرَ مِنَ الأُنْثَى، وَرَزَقَ مَا خَلَقَ، وَعَلِمَ مُدَّةَ بَقَائِهِ وَعَلِمَ نَفَادَ عُمُرِهِ؛ قَالَ اللهُ عز وجل: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [الروم: 40]، وَقَالَ: ﴿ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ﴾ [السجدة: 7][27].
وَقَدْ قَسَّمَ النَّوَوِيُّ رحمه الله الُمصَوِّرِينَ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ:
«أ- مَنْ فَعَلَ الصُّوَرَةَ لِتُعْبَدَ وَهُوَ صَانِعُ الأَصْنَامِ وَنَحْوِهَا فَهَذَا كَافِرٌ وَهُوَ أَشَدُّهُمْ عَذَابًا.
ب- مَنْ فَعَلَ الصُّورَةَ وَقَصَدَ مَضَاهَاةَ خَلْقِ الله تَعَالَى واعْتَقَدَ ذَلِكَ، فَهَذَا كَافِرٌ لَهُ مِنْ أَشَدِّ العَذَابِ مَا لِلْكُفَّارِ وَيَزِيدُ عَذَابُهُ بِزِيَادَةِ قُبْحِ كُفْرِهِ.
ج- مَنْ لَمْ يَقْصُدْ بِالصُّورَةِ العِبَادَةَ وَلَا المُضَاهَاةَ فَهُوَ فَاسِقٌ صَاحِبُ ذَنْبٍ كَبَيرٍ وَلَا يَكْفُرُ كَسَائِرِ المَعَاصِي» اهـ [28].
6- وُجُودُ هَذَا الخَلْقِ العَظِيمِ المُحِيطِ بِنَا مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ دَلِيلٌ عَلَى قُدْرَةِ الخَالِقِ وَعَلَى عَظَمَتِهِ وَكَمَالِهِ، فَالإِنْسَانُ يَعْجَزُ في كَثِيرٍ مِنَ الأَحْيَانِ عَنْ مِعْرِفَةِ جَوَانِبَ كَثِيرَةٍ مِنَ الأَرْضِ الَّتِي يَعِيشُ عَلَيْهَا، مَعَ أَنَّهَا صَغِيرةٌ جِدًّا إَذَا مَا قِيسَتْ بِالنِّسْبَةِ لِبَقِيَّةِ الكَوْنِ الفَسِيحِ المَلِيءِ بِمَلايِينِ النُّجُومِ المُضِيئَةِ وَالشُّمُوسِ وَالأَقْمَارِ وَالَّتِي يَعْجَزُ عَنْ حَصْرِهَا أَوْ عَدِّهَا، وَهَذَا كُلُّهُ في السَّمَاءِ الدُّنْيَا الَّتِي فَوْقَهَا سَتُّ سَمَاوَاتٍ طَبَاقٍ، بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ وَفَوْقَهُنَّ جَمِيعًا الكُرْسِيُّ، وَمِنْ عَظَمَةِ خَلْقِ هَذَا الكُرْسِيِّ وَاتِّسَاعِهِ أَنَّهُ يَسْتَوْعِبُ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَالأَرْضَ جَمِيعًا، قَالَ تَعَالَى: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾ [البقرة: 255]، وَالعَرْشُ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَالخَالِقُ سُبْحَانَهُ فَوْقَ العَرْشِ، وَهُوَ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَأَعْظَمُ.
وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ خَلْقَ الإِنْسَانِ ضَعِيفٌ جِدًّا، إِذَا مَا قُورِنَ بِالسَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَالكُرْسِيِّ وَالعَرْشِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا ﴾ [النازعات: 27 - 29].
7- وَأَخِيرًا يَجِبُ أَنْ نَعْلَمَ أَنَّ اللهَ ـ مَا خَلَقَ هَذَا الخَلْقَ العَظِيمَ لَهْوًا وَلَعِبًا، وَلَا خَلَقَهُ عَبَثًا وَإِنَّمَا خَلَقَهُ لِغَايَةٍ عَظِيمَةٍ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ﴾ [المؤمنون: 115، 116]؛ أَيْ: أَفَظَنَنْتُم أَنَّكُمْ مَخْلُوقُونَ عَبَثًا بِلَا قَصْدٍ وَلَا حِكْمَةٍ لَنَا فِيكُم، فَتَعَالَى اللهُ أَيْ: تَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ عَنْ ذَلِكَ ثُمَّ ذَكَرَ العَرْشَ لَأَنَّهُ سَقْفُ جَمِيعِ الَمخْلُوقَاتِ[29].
وَقَالَ تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ﴾ [الأنبياء: 16 - 18].
قَالَ ابنُ كَثِيرٍ: «يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالحَقِّ ـ أَيْ بِالعَدْلِ ـ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالحُسْنَى وَأَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ ذَلِكَ عَبَثًا وَلَا لَعِبًا»[30].
وَأَبَانَ تَعَالَى عَنْ هَذِهِ الغَايَةِ العَظِيمَةِ بِقَوْلِهِ: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ﴾ [الذاريات: 56، 57].
[1] رَوَى مسلمٌ عن أبي هريرةَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: «ما اجْتَمَعَ قَوْمٌ في بيتٍ مِنْ بِيوتِ الله، يَتْلُونَ كِتابَ الله ويَتَدَارَسُونَ هُ بَيْنَهُمْ، إِلا نزلتْ عَليهم السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُم الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُم الملائكةُ، وَذَكَرَهُم اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ».
[2] َروَى الإمامُ أَحمدُ وصَحَّحَهُ الألبانيُّ في صحيحِ الجامعِ (5507) عن أنسِ بنِ مالكٍ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا اجْتَمَعَ قَومٌ عَلَى ذِكْرٍ، فَتَفَرَّقُوا عنه إلا قِيلَ لَهُمْ قُومُوا مَغْفُورًا لَكُم»، ومَجَالِسُ الذِّكْرِ هِيَ المجالسُ التي تُذَكِّرُ بِالله وبآياتهِ وأحكامِ شرعهِ ونحو ذلك.
[3] في الصحيحين عن أبي هريرة أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ غَدَا إلى المسْجِدِ أَوْ رَاحَ أَعَدَّ اللهُ له في الجنةِ نُزُلًا كُلَّمَا غَدَا أو رَاحَ».
وفي صحيح مُسْلِمٍ عَنْه أيضًا أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ تَطَهَّرَ في بيتهِ ثُمَّ مَضَى إلى بيتٍ مِنْ بيوتِ الله لِيَقْضِيَ فَرِيضَةً مِنْ فَرَائِضِ الله كانتْ خُطُواتُه: إِحدَاها تَحطُّ خَطِيئَةً، والأُخْرَى تَرْفَعُ دَرجةً».
[4] رَوَى البخاريُّ ومُسْلِمٌ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَرضي الله عنهأَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا يَزَالُ أَحَدُكُمْ في صَلَاةٍ مَا دَامَتِ الصلاةُ تَحْبِسُه، لا يَمْنَعُه أَنْ يَنْقَلِبَ إِلى أهلهِ إلا الصلاةُ».
ورَوَى البُخَاريُّ عَنه أنَّ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الملائكةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكم مَا دامَ فِي مُصَلَّاهُ الذي صَلَّى فيه، مَا لَمْ يُحْدِثْ، تَقُولُ: اللهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللهُمَّ ارْحَمْه».
[5]، (4) رَوَى البخاريُّ ومُسْلِمٌ عَنْ سَهْل بْنِ سَعْدٍ أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ لعلي بنِ أبي طالبٍ: «فوالله لأنْ يَهْدِي اللهُ بك رَجُلًا واحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النِّعَمِ».
رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ دَعَا إلى هُدَى كَانَ لَه مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَه، لا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهم شيئًا».
[6] رَوَى التِّرْمِذِيُّ وصحَّحَه الألبانيُّ عن أبي أمامةَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إنَّ اللهَ وملائكتَه، حتى النملةَ فِي جُحْرِها، وحتى الحوتَ في البحرِ لَيُصَلُّون عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الخيرَ»، وَصلاةُ الملائكةِ الاسْتِغْفَارُ.
[7] اشتقاق أسماء الله (ص: 243).
[8] مفردات ألفاظ القرآن (ص: 497).
[9] الأسماء والصفات للبيهقي (ص: 44)، والمقصد الأسنى (ص: 72)، وشرح أسماء الله الحسنى (ص: 217).
[10] رواه البخاري (5873)، ومسلم (2841).
[11] الفتاوى (3/ 69).
[12] فتح الباري (5/ 183).
[13] النهج الأسمى (1/ 167-174).
[14] الطبري (28/ 37) (30/ 55).
[15] تفسير الأسماء (ص: 37).
[16] تفسير ابن كثير (4/ 344).
[17] شأن الدعاء (ص: 51-52)، وفتح القدير (5/ 208)، والاعتقاد للبيهقي (ص: 56).
[18] قال ابن تيمية في درء تعارض العقل مع النقل (2/ 167): «وقد نقل غير واحد أن أول من قال بقدم العالم من الفلاسفة هو أرسطو».
[19] انظر الطحاوية (ص: 137)، وقد خالف في ذلك المعتزلة والجهمية ومن وافقهم من الكلَّابِية والأشاعرة فإنهم قالوا: أنه تعالى صار قادرًا على الفعل بعد أن لم يكن قادرًا عليه، لكون الفعل صار ممكنًا بعد أن كان ممتنعًا، وأنه انقلب من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي !!
وقد رد عليهم أبو جعفر الطحاوي رحمه الله بقوله: «ما زال بصفاته قديمًا قبل خلقه، لم يزدد بكونهم شيئًا لم يكن قبلهم من صفته، وكما كان بصفاته أزليًّا، كذلك لا يزال عليها أبديًّا»؛ اهـ.
راجع: الطحاوية (ص: 127) وانظر شرح ابن أبي العز الحنفي فقد أجاد وأفاد.
[20] أورد ابن كثير عند تفسير هذه الآية حديثًا رواه البخاري في خلق أفعال العباد (ص: 25): قال حدثنا على بن عبد الله حدثنا معاوية أبو مالك عن ربعي بن حراش عن حذيفة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يصنع كل صانع وصنعته» ثم قال البخاري «فأخبر أن الصناعات وأهلها مخلوقة» اهـ .
والحديث إسناده صحيح، رجاله ثقات وأبو مالك هو سعد بن طارق الأشجعي وأخرجه الحاكم (1/ 31) بالطريق السابق والبيهقي في الأسماء (ص: 4914).
[21] انظر: العقيدة الطحاوية (ص: 493-502)، والفتح (13/ 491-495).
[22] مسلم بشرح النووي (14/ 88).
وبذلك تعلم حرمة تصوير ذوات الأرواح بما يسمى بـ (الكاميرا)؛ لأن المضاهاة تكون فيها أشد من الرسم باليد، والتفريق بينهما لا يستند إلى دليل من شرع أو عقل.
[23] رواه البخاري (5950)، ومسلم (2019) من حديث عبد الله بن مسعود.
[24] رواه البخاري (5951)، ومسلم (2108) من حديث ابن عمر.
[25] الفتح (10/ 384).
[26] رواه البخاري (5953-7559)، ومسلم (2111) من حديث أبي هريرة.
[27] الحجة في المحجة (ورقة 16 ب).
[28] شرح مسلم (14/ 91)، انظر: الفتح (10/ 383-384).
[29] من تفسير ابن كثير (3/ 259) ملخصًا.
[30] المصدر السابق (3/ 174-175).