المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الظاهر جل جلاله، وتقدست أسماؤه



ابو وليد البحيرى
2024-07-09, 10:41 AM
الظاهر جل جلاله، وتقدست أسماؤه
الشيخ وحيد عبد السلام بالي


الدَّلَالَاتُ اللُّغَوِيَّةُ لاسمِ (الظَّاهِرِ):
الظَّاهِرُ فِي اللُّغَةِ اسمُ فَاعِلٍ لمِنِ اتَّصَفَ بالظُّهُورِ.
والظَّاهِرُ خِلَافُ الْبَاطِنِ، ظَهَرَ يَظْهَرُ فهوَ ظَاهِرٌ وَظَهِيرٌ.

والظُّهُورُ يَرِدُ على عِدَّةِ مَعَانٍ؛ مِنْهَا:
العُلُوُّ والارْتِفَاعُ، يُقَالُ: ظَهَرَ على الْحَائِطِ وَعَلَى السَّطْحِ: يَعْنِي صَارَ فوْقَه، قَالَ تَعَالَى: ﴿ فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا ﴾ [الكهف: 97]، أَيْ مَا قَدَرُوا أَنْ يَعْلُوا عَليْهِ لارْتِفَاعِه.

والظُّهُورُ أَيْضًا بِمَعْنَي الغَلَبَةِ، ظَهَرَ فُلانٌ عَلَى فُلانٍ؛ أَي: قَوِيَ عَلْيهِ، ويُقَالُ: أَظهَرَ اللهُ المسْلِمِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ؛ أَي: أَعْلَاهُم عَلْيهِم، قال تَعَالَى: ﴿ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ﴾ [الصف: 14]؛ أَي: غَالِبينَ عَالِينَ.

والظَّهْرُ بمعنَى السَّنَدِ والحِمَايَةِ وما يُرْكَنُ إِلَيْهِ يُقَالُ: فُلانٌ له ظَهْرٌ: أَي مَالٌ من إِبِلٍ وغَنَمٍ، وفُلانٌ ظَهَرَ بالشَّيءِ ظَهْرًا: فَخَرَ بهِ، وعِنْدَ البُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبي هُرَيْرَةَ ت أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «خَيْرُ الصَّدَقَة مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى»[1].

ويأتي الظُّهُورُ أَيضًا بمعنى الْبَيَانِ وبُدُوِّ الشَّيءِ الْخَفِيِّ، وكَذَلِكَ الظَّهْرُ مَا غَابَ عَنْكَ، يُقَالُ: تكلَّمْتُ بِذَلِكَ عَنْ ظَهْرِ غَيْبٍ، ويُقَالُ حَمَلَ فُلَانٌ القُرْآنَ عَلَى ظَهْرِ لِسَانِه، وَعَنْ ظَهْرِ قَلْبِه، وعِنْدَ النَّسَائِيِّ وصَحَّحَهُ الألبانِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه، مَرْفُوعًا: «فَقَالَ: هَلْ تَقْرَؤُهُنَّ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ؟»[2].

والمُظَاهَرَةُ المُعَاوَنَةُ، وظَاهَرَ بَعْضُهُم بَعْضًا أَعَانَهُ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ ﴾ [الممتحنة: 9]؛ أَيْ: عاوَنُوا[3].

والظَّاهِرُ سُبْحَانَهُ هُوَ المنْفَرِدُ بِعُلُوِّ الذَّاتِ والفَوْقِيَّةِ، وعُلُوِّ الغَلَبَةِ والقَاهِرِيَّةِ ، وعُلُوِّ الشَّأْنِ، وانْتِفَاءِ الشَّبِيهِ والمِثْلِيَّةِ، فَهوَ الظَّاهِرُ فِي كلِّ مَعَانِي الْكَمَالِ، وهُوَ البَيِّنُ المبِينُ الذِي أَبْدَى فِي خَلْقِه حُجَجَهُ الْبَاهِرَةَ وَبَرَاهِينَهُ الظَّاهِرَةَ، أَحَاطَ بِكُلِ شَيءٍ عِلْمًا، وَأَحَصَى كُلَّ شيءٍ عَدَدًا، حِجَابُه النُّورُ لو كَشَفَهُ لأحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهى إِليهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ[4].

قَالَ ابنُ الأَثِيرِ: «الظَّاهِرُ هُوَ الَّذِي عُرِفَ بِطَرِيقِ الاسْتِدْلالِ الْعَقْلِيِّ بِمَا ظَهَرَ لهمْ مِنْ آثَارِ أَفْعَالِه وأَوْصَافِه»[5].

والظَّاهِرُ أَيضًا هُوَ الَّذِي بَدَا بِنُورِهِ مَعَ احْتِجَابِه بِعَالَمِ الغَيْبِ، وبَدَتْ آثَارُ ظُهُورِه لِمخْلُوقَاتِه فِي عَالَم الشَّهَادَةِ، فاللهُ عز وجل اسْتَخْلَفَ الإِنسَانَ فِي مُلْكِهِ، واسْتَأْمَنَهُ على أَرْضِهِ، فاقْتَضَى الاسْتَخْلافُ والابْتَلَاءُ أن يكونَ الإنسانُ بينَ عَالمَينِ: عَالَم الغَيْبِ وَعَالَم الشَّهَادَةِ؛ لِيتَحَقَّقَ مُقْتَضَى تَوْحِيدِ اللهِ فِي أسْمَائِه، وجَلاءُ المَعَانِي المْتَعَلِّقَةِ بأَوْصَافِهِ وأَفَعَالِهِ.

قَالَ تَعَالَى: ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ﴾ [الجن: 26].
وَقَالَ: ﴿ ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾ [السجدة: 6].

وهُوَ سُبْحَانَهُ أَيْضًا الظَّاهِرُ الَّذِي أَقَامَ الْخَلَائِقَ وأَعَانَهُمْ، ورَزَقَهُمْ ودَبَّرَ أَمْرَهُمْ، وهَدَاهُمْ سُبُلَهُمْ، فَهُوَ المُعِينُ عَلَى المَعْنَى الْعَامِ، وهُوَ نَصِيرُ المُوَحِّدِينَ مِنْ عِبَادِه عَلَى المَعْنَى الْخَاصِّ[6].

وُرُودُهُ فِي الْقُرآنِ الْكَرِيمِ[7]:
وَرَدَ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [الحديد: 3].

مَعْنَىِ الاسمِ فِي حَقِّ الله تَعَالَى:
قَالَ الفَرَّاءُ: «(الظَّاهِرُ) عَلَى كُلِّ شَيءٍ عِلْمًا، وكَذَلِكَ (البَاطِنُ) عَلَى كُلِّ شَيءٍ عِلْمًا»[8].

وقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: «وَقَوُلُهُ: ﴿ وَالظَّاهِرُ ﴾، يَقُولُ: وَهُوَ الظَّاهِرُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ دُونَهُ، وَهُوَ العَالِي فَوْقَ كُلِّ شَيءٍ فَلا شَيءَ أَعْلَى مِنْهُ»[9].

وَقَالَ الزَّجَاجُ: «(الظَّاهِرُ) هُوَ: الذي ظَهَر لِلْعُقُولِ بِحُجَجِهِ، وبَرَاهِينَ وُجُودِه، وأَدِلَّةِ وَحْدَانِيَّتِه ِ، هَذَا إِذَا أَخَذْتَهُ مِنَ الظُّهُورِ.

وإِنْ أَخَذْتَهُ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: ظَهَرَ فلانٌ فَوْقَ السَّطْحِ إِذَا عَلَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَتِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْكَ عَارُهَا فَهُوَ مِنَ العُلُوِّ، واللهُ تَعَالَى عَالٍ عَلَى كُلِّ شَيءٍ، وَلَيْسَ المُرَادُ بِالْعُلُوِّ ارْتِفَاعَ المَحَلِّ؛ لأنَّ اللهَ تَعَالَى يُجَلُّ عَنِ المَحَلِّ والمَكَانِ!! وإنَّما العُلُوُّ عُلُوُّ الشَّأْنِ، وارْتِفَاعُ السُّلْطَانِ»[10].

وَقَالَ الزَّجَاجِيُّ: «(البَاطِنُ) اسْمُ الفَاعِلِ مِنْ بَطَنَ، وَهُوَ بَاطِنٌ إِذا كَانَ غَيرَ ظَاهِرٍ، و (الظَّاهِرُ): خِلافُ البَاطِنِ، فاللهُ ظَاهِرٌ بَاطِنٌ، هُوَ بَاطِنٌ لأنَّه غَيْرُ مُشاهَدٍ كَمَا تُشَاهَدُ الأَشْيَاءُ المَخْلُوقَةُ، عَزَّ عَنْ ذَلِكَ وَعَلَا، وَهُوَ ظَاهِرٌ بالدَّلائِلِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ، وأَفْعَالهِ المُؤَدِّيَةِ إِلى الْعِلْمِ بِهِ وَمَعْرِفَتِهِ، فَهُوَ ظَاهِرٌ مُدْرَكٌ بالعُقُولِ والدَّلاَئِلِ، وَبَاطِنٌ غَيْرُ مُشَاهَدٍ كَسَائِرِ الأَشْيَاءِ المُشَاهَدَةِ فِي الدُّنْيَا، عز وجل عَنْ ذَلِكَ، وتَعَالَى عُلُوًّا كَبِيرًا.

ويَجُوزُ فِي اللُّغَةِ أَنْ يَكُونَ (البَاطِنُ): العَالِمُ بِمَا بَطَنَ؛ أَيْ: خَفِيَ، كَقَوِلِكَ: بَطَنَ بِفُلَانٍ: أي خُصَّ بِه فَعَرفَ بَاطِنَ أَمْرِهِ، وهَؤلاءِ بِطَانَةُ فُلَانٍ؛ أيْ: خَاصَّتُهُ.

ويَجُوزُ أَيضًا أَنْ يَكُونَ (الظَّاهِرُ): القَوِيَّ، كَقَوْلِكَ: ظَهَرَ فلانٌ بِأَمْرِهِ فَهُوَ ظَاهِرٌ عَلَيْهِ؛ أَيْ: قَوِيٌّ عَلَيْهِ، وجَمَلٌ ظَهِيرٌ؛ أَيْ: قَوِيٌّ شَدِيدٌ.

قَالَ الأصْمَعِيُّ: يُقَالَ: ظَاهَرَ فلانٌ فُلانًا على فُلانٍ، إِذا مَالَأهُ عَلَيْهِ، ويُقَالُ: اتَّخِذْ مَعَكَ بَعِيرًا أو بَعِيرَيْنِ ظِهْرِيَّيْنِ؛ أَيْ: عُدَةً، والْجَمْعُ ظَهَارِيُّ كَمَا تَرَى»[11].

وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: «هُوَ (الظَّاهِرُ) بِحُجَجِهِ الْبَاهِرَةِ، وبَرَاهِينِه النيِّرَةِ، وبِشَوَاهِدِ أَعْلَامِهِ الدَّالَّةِ على ثُبُوتِ رُبُوبِيَّتِهِ، وَصِحَّةِ وَحْدَانِيَّتِه ِ.

ويَكُونُ الظَّاهِرُ فَوْقَ كُلِّ شَيءٍ بِقُدْرَتِهِ.
وَيَكُونُ الظُّهُورُ بِمَعْنَى العُلُوِّ، وَيَكونُ بمعْنَى الغَلَبةِ»[12].

وَقَالَ الحُلَيْمِيُّ: «(الظَّاهِرُ) ومَعْنَاهُ: الْبَادِي بِأَفْعَالِه، وهُوَ جَلَّ ثناؤُهُ بِهَذِه الصِّفَةِ، فَلَا يُمْكِنُ مَعَهَا أَنْ يُجْحَدَ وُجودُه ويُنْكَرَ ثُبُوتُهُ»[13].

ثَمَرَاتُ الإِيمَانِ بَهَذَا الاسمِ:
1- أَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الظَّاهِرُ الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ شَيءٌ:
فَهُوَ العَلِيُّ الأَعَلى، وهَذَا «غَايَةُ الكَمَالِ فِي العُلُوِّ أَنْ لا يَكُونَ فَوْقَ العَالِي شَيءٌ مَوْجُودٌ، واللهُ مَوْصُوفٌ بِذَلِكَ»[14].

وَجِهَةُ العُلُوِّ هِيَ أَشْرَفُ الجِهَاتِ كَمَا هُوَ مُسْتَقِرٌّ فِي النُّفُوسِ، وَقَدْ قَرَّرَ شَيْخُ الإسْلامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رحمه الله عُلُوَّ الربِّ سُبْحَانَه بِالأدِلَّةِ العَقْلِيَّةِ؛ وَذَلِكَ مِنْ طُرُقٍ فَقَالَ:
«أَحَدُهَا: أَنْ يُقَالَ: إِذا ثَبَتَ بالعَقْلِ أَنَّهُ مُبِايِنٌ لِلْمَخْلُوقَات ِ، وثَبَتَ أَنَّ العَالَمَ كُرَيٌّ، وأَنَّ الْعُلُوَّ المُطْلَقَ فَوْقَ الكُرةِ، لَزِمَ أَنَّ يَكُونَ فِي العُلُوِّ بِالضَّرورَةِ.

وهَذِه مُقَدِّمَاتٌ عَقْلِيَّةٌ لَيْسَ فِيهَا خِطَابِيٌّ، وذَلِكَ لأنَّ الْعَالَمَ إِذَا كَانَ مُسْتَدِيرًا فَلَهُ جِهَتانِ حَقِيقِيَّتَانِ : العُلُوُّ والسُّفْلُ فَقَط، وإذَا كَانَ مُباينًا لِلْعَالَمِ امْتَنَعَ أَنَّ يَكُونَ فِي السُّفْلِ دَاخِلًا فِيهِ، فَوَجَبَ أنَّ يَكُونَ فِي العُلُوِّ مُبَاينًا لَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ النَّافِيَ قَالَ: إِنَّ الْعَالَمِ كُرَةٌ، واسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بالْكُسُوفِ الْقَمَرِيِّ إِذَا كَانَ يَتَقَدَّمُ فِي النَّاحِيَةِ الشَرْقِيَّةِ عَلَى الغَرْبِيَّةِ.

والقَوْلُ بِأَنَّ الفَلَكَ مُسْتَدِيرٌ هُوَ قَوْلُ جَمَاهِيرِ عُلَمَاءِ المُسْلِمينَ، والنَّقْلُ بِذَلِكَ ثَابِتٌ عَنِ الصَّحَابَةِ والتَّابِعِينَ، بَلْ قَدْ ذَكَرَ أَبُو الحُسَيْنِ بْنُ المُنْادِيِ، وأَبُو مُحَـمَّدٍ بْنُ حَـزْمٍ، وَابْنُ الْجَوْزِيِّ، وغَـيْرُهُـمْ: أَنَّه لَيْسَ فِي ذَلِكَ خِـلافٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ والتَّابِعِينَ وغَيْرِهِم مِنْ عُلَمَاءِ المُسْلِمِينَ، وَقَدْ نَازَعَ فِي ذَلِكَ طَوائِفٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ والرَّأْيِ مِنَ الجَهْمِيَّةِ والمُعْتَزِلَةِ وغَيْرِهِمْ.

وَقَدْ قَالَ الله تَعَالَى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾ [الأنبياء: 33].

وقَالَ: ﴿ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾ [يس: 40].

وإذا كَانَ الخَصْمُ قَدِ اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ، كَانَ ذَلِكَ حُجَّةً عَلَيْهِ، فإِذَا كَانَ العَالَمُ كُرَيًّا - وَقْدَ ثَبَتَ بالضَّرُوَرةِ أَنَّهُ: إِمَّا مُدَاخِلٌ لَهُ، وإِمَّا مُبَايِنٌ لَهُ وَلَيْسَ بِمُدَاخِلَ لَهُ - وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُبَايِنًا لَهُ، وإِذَا كَانَ مُبَايِنًا لَهْ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فَوْقَهُ؛ إذْ لَا فَوقَ إِلا المُحِيطُ وَمَا كَانَ وَرَاءَهُ.

الطَّرِيقُ الثَّانِي:أَنْ يُقَالَ: عُلُوُّ الْخَالِقِ عَلَى المَخْلُوقِ وَأَنَّهُ فَوْقَ الْعَالَمِ أَمرٌ مُسْتَقِرٌّ فِي فِطَرِ الْعِبادِ، مَعْلُومٌ لَهُمْ بالضَّرُورَةِ، كَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ جَمِيعُ الأُمَمِ، إِقْرَارًا بِذَلِكَ وتَصْدِيقًا، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَوَاطَؤُوا عَلَى ذَلِكَ وَيَتَشَاعَرُوا ، وَهُمْ يُخْبِرُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ يَجِدُونَ التَّصْدِيقَ بِذَلِكَ فِي فِطَرِهِمْ.

الطَّرِيقُ الثَّالِثُ:أَنْ يُقَالَ: هُمْ عَنْدَمَا يَضْطَرُّونَ إلِى قَصْدِ اللهِ وإِرَادَتِهِ - مِثْلُ قَصْدِهِ عِنْدَ الدُّعَاءِ والمَسْأَلَةِ - يَضْطَرُّونَ إلِى تَوجُّهِ قُلُوبِهِمْ إلِى العُلُوِّ، فَكَمَا أَنَّهُمْ مُضْطَرُّونَ إِلِي دُعَائِهِ وسُؤَالِهِ، هُمْ مُضْطَرُّونَ إِلَى أَنْ يُوَجِّهُوا قُلُوبَهُمْ إِلِى العُلُوِّ إِلَيهِ، لا يَجِدُونَ فِي قُلُوبِهِمْ تَوَجُّهًا إِلِى جِهَةٍ أُخْرَى، وَلَا اسْتِوَاءَ الجِهَاتِ كُلِّهَا عِنْدَهَا وَخُلُوَّ القُلُوبِ عَنْ قَصْدِ جِهَةٍ مِنَ الجَهَاتِ، بَلْ يَجِدُونَ قُلُوبَهُمْ مُضْطَرَّةً إِلِى أَنْ تَقْصُدَ جِهَةَ عُلُوِّهِمْ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الجِهَاتِ.

وهَذَا الوَجْهُ يَتَضَمَّنُ بَيَانَ اضْطِرَارِهِمْ إِلِى قَصْدِهِ فِي العُلُوِّ، وتَوَجُّهِهِمْ عِنْدَ دُعَائِهِ إِلَى العُلُوِّ، والأَوَّلُ يَتَضَمَّنُ فِطْرَتَهُمْ عَلَى الإِقْرَارِ بِأَنَّهُ فِي العُلُوِّ والتَّصْدِيقِ بِذَلِكَ، فَهَذَا فِطْرَةٌ واضطِرَارٌ إِلِى العِلْمِ والتَّصْدِيقِ والإِقْرَارِ، وذَاكَ اضْطِرَارٌ إِلِى القَصْدِ والإرَادَةِ والعَمَلِ المُتَضَمَّنِ للِعلْمِ والتَّصْدِيقِ والإقِرَارِ.

الطَّرِيقُ الرَّابِعُ: أَنْ يُقَالَ: قُولُه: «جِهَةُ فَوْقٍ أَشْرَفُ الجِهَاتِ، خِطَابِي» لَيْسَ كَذَلِكَ؛ وَذَلِكَ لأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِصَريحِ المَعْقُولِ أَنَّ الأمْرَينِ المُتَقَابِلَين ِ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا صِفَةَ كَمَالٍ والآخَرُ صِفَةَ نَقْصٍ، فإِنَّ اللهَ يُوصَفُ بالكَمَالِ مِنْهُمَا دُونَ النَّقْصِ، فَلمَّا تَقَابَلَ المَوتُ والحَيَاةُ وُصِفَ بالحَيَاةِ دُونَ المَوتِ، وَلَمَّا تَقَابَلَ العِلْمُ والجَهْلُ وُصِفَ بالعِلْمِ دُونَ الجَهْلِ، ولمَّا تَقَابَلَ القُدْرَةُ والعَجْزُ وُصِفَ بِالقُدْرَةِ دُونَ العَجْزِ، وَلمَّا تَقَابَلَ الكَلَامُ والبُكْمُ وُصِفَ بالكَلَامِ دُونَ البَكَمِ، وَلَمَّا تَقَابَلَ السَّمْعُ والبَصَرُ والصَّمَمُ والعَمَى وُصِفَ بالسَّمْعِ والبَصَرِ دُونَ الصَّمَمِ والعَمَى، ولَمَّا تَقَابَلَ الغِنَى والفَقْرُ وُصِفَ بالغِنَى دُونَ الفَقْرِ، وَلَمَّا تَقَابَلَ الوُجُودُ والعَدَمُ وُصِفَ بالوُجُودِ دُونَ العَدَمِ، وَلمَّا تَقَابَلَ المُبَايَنَةُ لِلْعَالَمِ وَالمُدَاخَلَةُ لَهُ وُصِفَ بِالمُبَايَنَةِ دُونَ المُدَاخَلَةِ، وَإِذا كَانَ مَعَ المُبَايَنَةِ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَالِيًا عَلَى العَالَمِ أَوْ مُسَامِتًا لَهُ، وَجَبَ أَنْ يُوصَفَ بِالعُلُوِّ دُونَ المُسَامَتَةِ، فَضْلًا عَنِ السُّفُولِ.

والمُنَازِعُ يُسَلِّمُ أَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِعِلُوِّ المَكَانَةِ وَعُلُوِّ القَهْرِ، وَعُلُوُّ المَكَانَةِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَكْمَلُ مِنَ العَالَمِ، وَعُلُوُّ القَهْرِ مَضْمُونُهُ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى العَالَمِ، فَإِذَا كَانَ مُبَايِنًا لِلْعَالَمِ كَانَ مِنْ تَمَامِ عُلُوِّهِ أَنْ يَكُونَ فَوْقَ العَالَمِ، لاَ مُحَاذِيًا لَهُ، ولاَ سَافِلًا عَنْه، وَلَمَّا كَانَ العُلُوُّ صِفَةَ كَمَالٍ، كَانَ ذَلِكَ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ، فَلَا يَكُونُ مَعَ وُجُودِ غَيْرِهِ إِلا عَالِيًا عَلَيْهِ، لَا يَكُونُ قَطُّ غَيْرَ عالٍ عَلَيْهِ.

كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، الَّذِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِه، عَنْ أَبِي هُرَيرةَ رضي الله عنه، عَنْ النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِه: «أَنْتَ الأوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيءٌ، وَأَنْتَ الآخِرُ فَلَيْسَ بِعْدَكَ شَيءٌ، وأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيءٌ، وَأَنْتَ البَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيءٌ».

ثُمَّ بَيَّنَ رحمه الله مَعَ ثُبُوتِ نُزُولِهِ إِلِى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كَمَا فِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ، فَهُوَ (الظَّاهِرُ)، فَلَا يَعْلُوهُ شَيءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِه أَبَدًا، فَقَالَ:
«وَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُ السَّلَفِ والأَئِمَّةِ أَنَّهُ مَعَ نُزُولِه إِلِى سَمَاءِ الدُّنْيَا لَا يَزَالُ فَوْقَ العَرْشِ، لَا يَكُونُ تَحَتَ المَخْلُوقَاتِ، وَلَا تَكُونُ المَخْلُوقَاتُ مُحِيطَةً بِه قَطُّ بَلْ هُوَ العَلِيُّ الأَعَلَى، العَلِيُّ فِي دُنُوِّهِ، القَرِيبُ فِي عُلُوِّهِ.

وَلِهَذَا ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ إِجْمَاعَ السَّلَفِ عَلَى أَنَّ اللهَ لَيْسَ فِي جَوْفِ السَّمَاوَاتِ، وَلَكِنَّ طَائِفَةً مِنَ النَّاسِ قَدْ يَقُولُونَ: إِنَّهُ فِي جَوْفِ السَّمَاءِ، وإِنَّهُ قَدْ تُحِيطُ بِهِ المَخْلُوقَاتُ وَتَكُونُ أَكْبَرَ مِنْهُ!

وهَؤُلَاءِ ضُلَّالٌ جُهَّالٌ، مُخَالِفُونَ لِصَرِيحِ المَعْقُولِ وصَحِيحِ المَنْقُولِ، كَمَا أَنَّ النُّفَاةَ الذِينَ يَقُولُونَ: لَيْسَ دَاخِلَ العَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ جُهَّالٌ ضُلَّالٌ مُخَالِفُونَ لِصَرِيحِ المَعْقُولِ وَصَحِيحِ المَنْقُولِ: فَالحُلُوِلِيَّ ةُ والمُعَطِّلَةُ مُتَقَابِلان.

الطَّرِيقُ الخَامِسُ:أَنْ يُقَالَ: إِذَا كَانَ مُبَايِنًا للْعَالَمِ: فَإِمَّا أَنْ يُقَدَّرَ مُحِيطًا بِهِ، أَوْ لَا يُقَدَّرَ مُحِيطًا بِهِ، سَواءٌ قُدِّرَ أَنَّهُ مُحِيطٌ بِهِ دَائِمًا، أَوْ مُحِيطٌ بِهِ بَعَضِ الأوْقَاتِ، كَمَا يَقْبِضُ يَوْمَ القِيَامَةِ الأَرْضَ وَيَطْوِي السَّمَاوَاتِ، فَإِنْ قُدِّرَ مُحِيطًا بِهِ كَانَ عَالِيًا عَلَيْهِ عُلُوَّ المُحِيطِ عَلَى المُحَاطِ بِهِ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُمْ: «إِنَّ الفَلَكَ كُرَيٌّ»، فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ الأَفْلَاكُ مُحِيطَةً بِالأَرْضِ، وَهِيَ فَوْقَهَا بِاتِّفَاقِ العُلَمَاءِ، فَمَا كَانَ مُحِيطًا بِالجَمِيعِ أَوْلَى بِالعُلُوِّ والارْتِفَاعِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وإِنْ لَمْ يِكُنْ مُمَاثِلًا لِشَيءٍ مِنَ المَخْلُوقَاتِ، وَلَا مُجَانِسًا للأَفْلَاكِ وَلَا غَيْرِهَا.

وإِنْ لَمْ يُقَدَّرْ مُحِيطًا بِهِ، فَإِنْ كَانَ العَالَمُ كُرَيًّا، وَلَيْسَ لِبَعْضِ جِهَاتِهِ اخْتِصَاصٌ بِالعُلُوِّ، فإِذَا كَانَ مُبَايِنًا لَهُ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ عَالِيًا، كَيْفَمَا كَانَ الأَمْرُ.

وإِنْ قُدِّرَ أَنَّ العَالَمَ لَيْسَ بكُرَيٍّ، أَوْ كُرَيٌّ وَلَكِنَّ بَعْضَ جِهَاتِهِ لَهَا اخْتِصَاصٌ بِالعُلُوِّ، مِثْلُ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ اللهَ وَضَعَ الأرْضَ وَبَسَطَهَا لِلأَنَامِ، فَالجِهَةُ التِي تَلِي رُؤُوسَ النَّاسِ هِيَ جِهَةُ العُلُوِّ مِنَ العَالَمِ دُونَ الأَخْرَى، فَحِيَنِئذٍ إِذَا كَانَ مُبَايِنًا، وَقُدِّرَ أَنَّهُ غَيْرُ مُحِيطٍ، فَلَابُدَّ مِنَ اخْتِصَاصِهِ بِجِهَةِ العُلُوِّ أَوْ غَيْرِهَا.

وَمِنَ المَعْلُومِ أَنَّ جِهَةَ العُلُوِّ أَحَقُّ بِالاخْتِصَاصِ، لأَنَّ الجِهَةَ العَالِيةَ أَشْرَفُ بِالذَّاتِ مِنَ السَّافِلَةِ، وَلِهَذَا اتَّفَقَ العُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ جِهَةَ السَّمَاوَاتِ أَشْرَفُ مِنْ جِهَةِ الأَرْضِ، وَجَهةَ الرَّأْسِ أَشْرَفُ مِنْ جِهَةِ الرِّجْلِ، فَوَجَبَ اخْتِصَاصُهُ بِخَيرِ النَّوْعَيْنِ وَأَفْضَلِهِمَا ، إِذِ اخْتِصَاصُهُ بِالنَّاقِصِ المَرْجُوحِ مُمْتَنِعٌ»[15].

2- الرَّدُّ عَلى أَهْلِ التَّعْطِيلِ:
رَدَّ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى شُبِهَةٍ تُثَارُ فِي مِثْلِ هَذَا المَوْضِعِ مِنْ أَهْلِ التَّعْطِيلِ فَقَالَ:
«وَأمَّا قَوْلُ النَّافِي: ولأَنَّ العَالَمَ كُرَةٌ، فَلَا فَوْقَ إِلاَ تَحْتَ بِالنِّسْبَةِ.

فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا خَطَأٌ، لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ المُحِيطَ بِاتِّفَاقِ العُقَلاءِ عَالٍ عَلَى المَرْكَزِ، وَأَنَّ العُقَلَاءَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الشَّمْسَ والقَمَرَ والكَوَاكِبَ إِذَا كَانَتْ فِي السَّمَاءِ فَلَا تَكُونُ إِلَّا فَوْقَ الأَرْضِ، وَكَذَلِكَ السَّحَابِ والطَّيْرِ فِي الهَوَاءِ.

وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا التَّحْتَ أَمْرٌ خَيَالِيٌّ وَهْمِيٌّ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَلَيْسَ فِيهِ نَقْصٌ، كَالمُعَلَّقِ بِرِجْلَيْهِ لَا تَكُونُ السَّمَاءُ تَحْتَهُ إِلا فِي الوَهْمِ الفَاسِدِ، والخَيَالِ البَاطِلِ، وكَذَلِكَ النَّمْلَةِ المَاشِيَةِ تَحْتَ السَّقْفِ، فَالشَّمْسُ وَالقَمَرُ وَالنُّجُومُ السَّابِحَةُ فِي أَفْلَاكِهَا لَا تَكُونُ بِاللَّيْلِ تَحْتَنَا إِلَّا فِي الوَهْمِ والخَيَالِ الفَاسِدِ»[16].

3- الظَّاهِرُ لَا يُنَافِي نُزُولَهُ:
ولزيادة البَيَانِ فِي مَسْأَلَةِ نُزُولِ الرِّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يُنَافِي اسْمُهُ (الظَّاهِرَ) لَا أَجِدُ أَحْسَنَ مِمَّا قَالَهُ شَيْخُ الإِسِلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي ذَلِكَ، إِذْ يَقُولُ:
«وَالأَحْسَنُ فِي هَذَا البَابِ – أَي: الأَسْمَاءِ والصِّفَاتِ - مُرَاعَاةُ أَلفَاظِ النُّصُوصِ فَيُثْبَتُ مَا أَثْبَتَ اللهُ وَرَسُولُهُ بِاللَّفْظِ الذِي أَثْبَتَهُ، وَيُنْفَى مَا نَفَاهُ اللهُ وَرَسُولُه كَمَا نَفَاهُ، وَهُوَ أَنْ يُثْبَتَ النُّزُولُ، والإِتْيَانُ، والمَجِيءُ، وَيُنْفَىَ المِثْلُ، والسَّمِيُّ، والكُفْؤُ، والنِّدُّ.

وَبَهَذَا يَحْتَجُّ البُخَارِيُّ وَغَيْرُه عَلَى نَفْيِ المِثْلِ، يُقَالُ: يِنْزَلُ نُزُولًا لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ، نَزَلَ نُزُولًا لَا يُمَاثِلُ نُزُولَ المَخْلُوقِينَ، نُزُولًا يَخْتَصُّ بِهِ، كَمَا أَنَّهُ فِي ذَلِكَ وَفِي سَائِرِ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ مُنَزَّهٌ أَنْ يَكُونَ نُزُولُه كَنُزُولِ المَخْلُوقِينَ وَحَرَكَتِهِمْ وانْتِقَالِهِمْ وَزَوَالِهِمْ مُطْلَقًا، لَا نُزُولَ الآدَمِيينَ وَلَا غَيْرِهُمْ.

فالمَخْلُوقُ إِذَا نَزَلَ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى سُفْلٍ زَالَ وَصْفُهُ بالعُلُوِّ، وتَبَدَّلَ إِلِى وَصْفِهِ بالسُّفُولِ، وصَارَ غَيْرُه أَعْلَى مِنْهُ.

والرَّبُّ تَعَالَى لا يَكُونُ شَيءٌ أَعْلَى مِنْهُ قَطُّ، بَلْ هُوَ العَلِيُّ الأَعْلَى، وَلَا يَزَالُ هُوَ العَلِيُّ الأَعْلَى مَعَ أَنَّهُ يَقْرُبُ إِلِى عِبَادِهِ وَيَدْنُو مِنْهُمْ، وَيَنْزِلُ إِلِى حَيْثُ شَاءَ، وَيَأَتِي كَمَا شَاءَ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ العَلِيُّ الأَعْلَى، الكَبِيرُ المُتَعَالِي، عَلِيٌّ فِي دُنُوِّهِ قَرِيبٌ فِي عُلُوِّه.

فَهَذَا وإِنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِهِ غَيْرِهُ فَلِعَجِزِ المَخْلُوقِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا، كَمَا يَعْجَزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الأَوَّلُ والآخِرُ والظَّاهِرُ والبَاطِنُ.

وَلِهَذَا قِيلَ لأَبِي سَعيدٍ الخَرَّازِ: بِمَ عَرَفْتَ اللهَ؟ قَالَ: بِالجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَأَرَادَ أَنَّهُ يَجتَمِعُ لَهُ مَا يَتَنَاقَضُ فِي حَقِّ الخَلْقِ.

كَمَا اجْتَمَعَ لَهُ أَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ مِنْ أَفْعَالِ العِبَادِ وَغَيْرِهَا مِنَ الأَعْيَانِ والأَفْعَالِ، مَعَ مَا فِيهَا مِنَ الخَبَثِ، وَأَنَّهُ عَدْلٌ حَكِيمٌ رَحِيمٌ، وَأَنَّهُ يُمكِّنُ مَنْ مَكَّنَهُ مِنْ عِبَادِهِ مِنَ المَعَاصِي مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى مَنْعِهِمْ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ حَكِيمٌ عَادِلٌ، فَإِنَّهُ أَعْلَمُ الأَعْلَمِينَ، وأَحَكَمُ الحَاكِمِينَ، وَهُوَ خَيْرُ الفَاتِحِينَ، يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ.

فَأَنْ لَا يُحِيطُوا عِلْمًا بِمَا هُوَ أَعْظَمُ فِي ذَلِكَ أَوْلَى وَأحَرَى، وَقَدْ سَأَلُوا عَنِ الرُّوحِ فَقِيلَ لَهُمْ: ﴿ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 85].

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ؛ أَنَّ الخَضِرَ قَالَ لِمُوسَى لَمَا نَقَرَ عُصْفُورٌ فِي البَحْرِ: مَا نَقَصَ عَلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عَلِمِ اللهِ إِلَّا كَمَا نَقَصَ هَذَا العُصْفُورُ مِنْ هَذَا البَحْرِ.

فَالذِي يُنْفَى عَنْهُ وَيُنَزَّهُ عَنْهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُنَاقِضًا لِمَا عُلِمَ مِنْ صِفَاتِهِ الكَامِلَةِ فَهَذَا يُنْفَى عَنْهُ جِنْسُهَ، كَمَا قَالَ: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ﴾ [البقرة: 255].

وَقَالَ: ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ ﴾ [الفرقان: 58].

فَجِنْسُ السِّنَةِ وَالنَّوْمِ وَالمَوْتِ مُمْتَنِعٌ عَلَيْهِ، لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي شَيءٍ مِنْ هَذَا أنَّهُ يَجُوزُ عَلَيْهِ كَمَا يَلِيقُ بِشَأْنِهِ، لأَنَّ هَذَا الجِنْسَ يُوجِبُ نَقْصًا فِي كَمَالِهِ.

وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ يَكُونُ فِي السُّفْلِ، لَا فِي العُلُوِّ وَهُوَ سُفُولٌ يَلِيِقُ بِجَلَالِهِ!! فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ العَلِيُّ الأَعْلَى لَا يَكُونُ قَطُّ إِلا عَالِيًا، وَالسُّفُولُ نَقْصٌ هُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ.

وَقَوْلُهُ: «وَأَنْتَ البَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيءٌ» لَا يَقْتَضِي السُّفُولَ إِلا عِنْدَ جَاهِلٍ لَا يَعْلَمُ حَقِيقَةَ العُلُوِّ والسُّفُولِ، فَيَظُنُّ أَنَّ السَّمَاواتِ وَمَا فِيهَا قَدْ تَكُونُ تَحْتَ الأَرْضِ إِمَّا بِاللَّيْلِ وَإِمّا بِالنَّهَارِ، وَهَذَا غَلَطٌ، كِمَنْ يَظُنُّ أَنَّ مَا فِي السَّمَاءِ مِنَ المَشْرِقِ يَكُونُ تَحْتَ مَا فِيهَا مِمَّا فِي المَغْرِبِ، فَهَذَا أَيْضًا غَلَطٌ، بَلِ السَّمَاءُ لَا تَكُونُ قَطُّ إِلَّا عَالِيَةً عَلَى الأَرْضِ.

وإِنْ كَانَ الفَلَكُ مُسْتَدِيرًا مُحِيطًا بِالأرْضِ فَهُوَ العَالِي عَلَى الأَرْضِ عُلُوًّا حَقِيقِيًّا مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوَاضِعَ»[17].

المَعَانِي الإِيمَانِيَّةُ :
ظَاهِرِيَّتُهُ سُبْحَانَهُ: فَوْقِيَّتُهُ وَعُلُوُّهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ.
وَمَعْنَى الظُّهُورِ يَقْتَضِي العُلُوَّ، وَظَاهِرُ الشَيءِ هُوَ مَا عَلَا مِنْهُ وَأَحَاطَ بِبَاطِنِهِ.

وَبُطُونُه سُبْحَانَهُ: إِحَاطَتُهُ بِكْلِّ شَيءٍ بِحَيْثُ يَكُونُ أَقْرَبَ إِليْهِ مِنْ نَفْسِهِ، وَهَذَا قُرْبٌ غَيْرُ قُرْبِ المُحِبِّ مِنْ حَبِيبِهِ، هَذَا لَوْنٌ وَهَذَا لَوْنٌ.

فَمَدَارُ هَذِهِ الأَسْمَاءِ الأَرْبَعَةِ عَلَى الإِحَاطَةِ، وَهِيِ إِحَاطَتَانِ: زَمَانِيَّةٌ، وَمَكَانِيَّةٌ، فَإِحَاطَةُ أَوَّلِيَّتِهِ وَآخِرِيَّتِهِ بِالقَبْلِ وَالبَعْدِ، فَكُلُّ سَابِقٍ انْتَهَى إِلِى أَوَّلِيَّتِهِ، وَكُلُّ آخِرٍ انْتَهَى إِلِى آخِرِيَّتِهِ، فَأَحَاطَتْ أَوَّلِيَّتِهِ وَآخِرِيَّتِهِ بِالأَوَائِلِ وَالأَوَاخِرِ، وَأَحَاطَتْ ظَاهِرِيَّتُهُ وَبَاطِنِيَّتُه ُ بِكُلِّ ظَاهِرٍ وَبَاطِنٍ، فَمَا مِنْ ظَاهِرٍ إِلَّا وَاللهُ فَوْقَهُ، وَمَا مِنْ بَاطِنٍ إِلَّا وَاللهُ دُونَهُ.

وَمَا مِنْ أَوَّلٍ إِلَّا اللهُ قَبْلَهُ، وَمَا مِنْ آخِرٍ إِلَّا وَاللهُ بَعْدَهُ، فَالأَوَّلُ قِدَمُهُ، والآخِرُ دَوَامُهُ وَبَقَاؤُهُ، والظَّاهِرُ عُلُوُّهُ وَعَظَمَتُهُ، والبَاطِنُ قُرْبُهُ وَدُنُوُّهُ.

فَسَبَقَ كُلَّ شَيءٍ بَأَوَّلِيَّتِه ِ، وَبَقِيَ بَعْدَ كُلِّ شَيءٍ بِآخِرِيَّتِهِ، وَعَلَا عَلَى كُلِّ شَيءٍ بِظُهُورِهِ، وَدَنَا مِنْ كُلِّ شَيءٍ بِبُطُونِهِ، فَلَا تُوارِي مِنْهُ سَمَاءٌ سَمَاءً، وَلَا أَرْضٌ أَرْضًا، وَلَا يَحْجِبُ عَنْهُ ظَاهِرٌ بَاطِنًا، بَلِ البَاطِنُ لَهُ ظَاهِرٌ، والغَيْبُ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ، والبَعِيدُ مِنْهُ قَرِيبٌ، وَالسِّرُّ عِنْدَه عَلَانِيَةٌ.

فَهَذِهِ الأَسْمَاءُ الأَرْبَعَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى أَرْكَانِ التَّوْحِيدِ، فَهُوَ الأَوَّلُ فِي آخِرِيَّتِهِ، وَالآخِرُ فِي أَوَّلِيَّتِهِ، وَالظَّاهِرُ فِي بُطُونِهِ، والبَاطِنُ فِي ظُهُورهِ، وَلَمْ يَزْلْ أَوَّلًا وآخِرًا وَظَاهِرًا وَبَاطِنًا[18].

وَالمَقْصُودُ أَنَّ التَّعَبُّدَ بِاسْمِهِ الظَّاهِرِ يَجْمَعُ القَلْبَ عَلَى المَعْبُودِ، وَيَجْعَلُ لَهُ رَبًّا يَقْصدُه، وَصَمَدًا يَصْمُدُ إِلَيْهِ فِي حَوَائِجِهِ، وَمَلْجَأً يَلْجَأُ إِلِيْهِ.

فَإِذَا اسْتَقَرَّ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ، وَعَرَفَ رَبَّهُ بِاسْمِهِ الظَّاهِرِ اسْتَقامَتْ لَهُ عُبُودِيَّتُهُ، وَصَارَ لَهُ مَعْقِلٌ وَمَوْئِلٌ يَلَجَأُ إِلَيْهِ، وَيَهْرَبُ إِلَيْهِ، وَيَفِرُّ كُلَّ وَقْتٍ إِلَيْهِ[19].
============================== ===============
[1] البخاري في الزكاة، باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى (2/ 518) (1360).

[2] النسائي في (النكاح)، باب التزويج على سوَر مِن القرآن (6/ 113) (3339).

[3] انظر في المعنى اللغوي: لسان العرب (4/ 52)، والنهاية في غريب الحديث (3/ 164)، ومفردات ألفاظ القرآن (ص: 540)، واشتقاق أسماء الله للزجاج (137).

[4] ورد ذلك في حديث أبي موسى مرفوعًا: «حِجَابُه النَّور - وفِي روَايَة أَبي بَكرٍ «النَّارُ» - لوْ كشَفهُ لأحْرَقتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهِى إِليهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ»، أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب في قوله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله لا ينام»، (1/ 161) (179).

[5] النهاية في غريب الحديث (3/ 164).

[6] الأسماء والصفات للبيهقي (ص: 24)، وتفسير أسماء الله للزجاج (ص: 60)، وشرح أسماء الله للرازي (ص: 252).

[7] النهج الأسمى (2/ 141 - 151).

[8] معاني القرآن (3/ 132).

[9] جامع البيان (27/ 124)، واختاره النحاس في كتابه إعراب القرآن (4/ 350).

[10] تفسير الأسماء (ص: 60).
وقوله: «وليس المراد بالعلوِّ ارتفاع المحلِّ... إلخ» كلامٌ مردود!! فإنَّ الله تعالى له العلوُّ المطْلَق مِن جميع الوجوه: علوُّ الذَّات، وعلوُّ القدْر والصفات، وعلوُّ القهر.

[11] اشتقاق الأسماء (ص: 137).

[12] شأن الدعاء (ص: 88)، ونقَلَه البيهقيُّ في الاعتقاد (ص: 63)، وقال (ص: 64)؛ أنه من صِفات الذَّات.

[13] المنهاج (1/ 185)، وذكره ضمْن الأسماء التي تتبع إثباتَ الباري جلَّ ثناؤه، والاعتراف بوجوده، ونقَلَه البيهقي في الأسماء (ص: 13).

[14] قاله شيخ الإسلام في درء التعارض (7/ 11).

[15] درء التعارُض (7/ 3 - 8) مختصرًا.

[16] درء التعارُض (7/ 3 - 9).

[17] مجموع الفتاوى (16/ 423 - 426).

[18] طريق الهجرتين (ص: 47).

[19] طريق الهجرتين (ص: 42).