تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في طريق المدينة



ابو وليد البحيرى
2024-07-08, 09:05 AM
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في طريق المدينة

الشيخ: محمد البنا


- 1-
يقترن هلال المحرم بذكرى الهجرة النبوية الشريفة فيذكر المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها ما تومئ إليه الهجرة من معنى رائع وخلق بارع وفضائل فارعة ومزايا على الزمان ساطعة ونفوس باعت مآربها في سبيل المبدأ الفاضل وآثرت نعيم المضير على الدنيا وما فيها من عرض زائل ثم يستمدون القوة في حياتهم من سيدهم وقدوتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجالدون الشدائد ويقاومون الحوادث ويصبرون على المكاره ويتحملون الخطوب والملمات وتهون عليهم المكاره فيما اعتنقوا من عقيدة وما طمحوا إليه من حرية وكرامة وكل ذلك هو خلاصة ما في الحياة من سمو وسؤدد إن المسلمين جعلوا الهجرة مبدأ تاريخهم

ويروى بعض الرواة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بذلك ولكن أكثر الرواة على أن عمر بن الخطاب هو الذي أرخ بالهجرة وجعل التاريخ من المحرم

أخرج البخاري والحاكم عن ميمون بن مهران قال رفع إلى عمر صَكّ محله شعبان، فقال أي شعبان الذي نحن فيه أو الذي مضى أو الذي هو آت ثم قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعوا للناس شيئاً يعرفونه من التاريخ فقال بعضهم اكتبوا على تاريخ الروم، فقال إن الروم يطول تاريخهم ويكتبون من ذي القرنين. فقال اكتبوا على تاريخ فارس فقال إن فارس كلما قام ملك محا من كان قبله فاجتمع رأيهم أن الهجرة كانت عشر سنين فكتبوا التاريخ من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم

وإذا صح هذا فقد كان عمر رضي الله عنه موفقاً إلى خير يوم يؤرخ به المسلمون لأن يوم الهجرة كان يوم الفوز على أولئك الطغاة الذين أرادوا أن يطفئوا نور الله ويصدوا رسوله عن الحق المبين.

لقد لاحقت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوعيد والإيذاء واستمالته بالوعد والإغراء، ولو نجحوا في تدبيرهم فنالوا من الرسول منالاً أو وصلوا إلى ما يبتغون منه لوقفت الدعوة وأفلت شمس الإسلام بعد بزوغها ولكن لله أمراً هو بالغه ودين سيحميه حتى يصل إلى مداه وإنك ستجد من الآيات في هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم ما يملأ النفس إقناعاً بأن الله كتب لدعوة الحق أن تدوي في جميع بقاع الأرض فيستجيب لها قوم طهر الله قلوبهم من الحسد والكبرياء.

ويدخل هذا الدين الجديد كل فج من فجاج الأرض ويهتف الناس إلا المكابرين باسم محمد سيد البشرية والمجاهد في إسعادها.

كان الوقت صيفاً حين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة يقصد المدينة وهم يقولون إنه وصل المدينة لاثنتي عشر خلت من ربيع الأول في ظهر يوم الاثنين لثلاث وخمسين سنة من مولده وهو يوافق كما يقولون 28 من يونيه سنة 622م. ـ بل 28 من شهر سبتمبر سنة 622م ـ طارق.

فالنبي حينئذ قد شارف شيخوخته، وحر بلاد العرب يشوي الوجوه وهو يحتمل ذلك كله ومعه أعوانه فراراً بدينهم وحرصاً على عقيدتهم ويغامرون في ذلك مغامرة لم يعرف التاريخ مثلها قوة وروعة ثم يصلون إلى أغراضهم وإن هذه الآيات وهي الدليل على أن هذه الدعوة من رب الأرض والسموات والله الذي أراد لها النصر أحاطها رجال عرفوا فضل التضحية والإيثار وفطرت قلوبهم على الهداية والرشاد فقدموا أنفسهم وأموالهم لله وافتدوا بذلك رسوله ومجتباه.

إن هذا اليوم يوم التضحية التي لم يعرف لها مثيل في تاريخ الذود عن المبادئ الطاهرة فقد عرف الناس جميعاً أن ذلك الفتى الفارس علياً كرم الله وجهه جاد بنفسه فداء للرسول صلى الله عليه وسلم، والجود بالنفس أقصى غاية الجود تقدم علي ليضطجع في فراش الرسول صلى الله عليه وسلم قرير العين مطمئن القلب ليهيء للرسول طريق خروجه على غرة من القوم إذ يأنسون بالراقد كلما طالعته عيونهم من وصاوص الباب ليظنوا أن النبي لم يفلت من أيديهم ولكن ضل سعيهم وكانوا دائماً خائبين.

ونام البطل علي كرم الله وجهه لم يطرف له جفن بين تلك السيوف الفاتكة والقلوب القاسية والعيون الساهرة وهو لا يعلم عن مصيره شيئاً ولكنه هادئ النفس لأن صاحب الدعوة نجا في حماية الله

خرج الرسول صلى الله عليه وسلم وصديقه الوفي أبو بكر رضي الله عنه بين سيوف الباطل المصلتة وأسنته المرهفة ورجاله الآخذين بمخانق الطريق ومسالكه بل أبواب الدار وحيطانها فكانت الغشية التي يلقيها الله تعالى الباطل حين يواجه الحق فإذا هو أعمى لا يبصر وحائر لا يهتدي:[وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُ مْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ] {يس:9}.
ثم يتقدم أبو بكر رضي الله عنه فيضرب مثلاً آخر في الإيثار فقد توجه الصاحبان الطاهران إلى حيث يريدان أن يختبئا فجعل أبو بكر طوراً يمشي أما الرسول الكريم وطوراً يمشي خلفه وطوراً عن يمينه وطوراً عن شماله فسأله الرسول صلى الله عليه وسلم ما هذا يا أبا بكر؟ فقال يا رسول الله أذكر الرصد فأحب أن أكون أمامك وأتخوف الطلب فأحب أن أكون خلفك وأحفظ الطريق يميناً وشمالاً فقال: لا بأس عليك يا أبا بكر الله معنا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تعب فحمله أبو بكر رضي الله عنه على كاهله، حتى انتهى إلى الغار

ويقول أصحاب السيرة إن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يدخل الغار قال أبو بكر والذي بعثك بالحق نبياً لا تدخله حتى أدخله فأسبره قبلك ودخل أبو بكر رضي الله عنه وجعل يلتمس الغار بيده في ظلمة الليل مخافة أن يكون فيه شيء يؤذي الرسول فلما لم ير فيه شيئاً دخل صلى الله عليه وسلم الغار وجعل رأسه في حجره وشرف غار ثور بالصاحبين اللذين أويا إليه ليضعا أسس المدنية في الأرض جميعاً ولو أفشى ذلك الغار سرهما لانقلبت تلك المدنية إلى فوضى وهمجية وشقي العالم بأجمعه ولله في كل شيء آية وله جند من كل مخلوق [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ] {المدَّثر:31} .

فقد أقبل فتيان قريش ومعهم من يقص الأثر يريدون الفتك بذلك الذي سفه آلهتهم وخلع أوثانهم وانتهى القاص إلى الغار وقال هنا انتهى أثره فما أدري بعد ذلك أصعد إلى السماء أو غاص في الأرض ودهش القوم واعترتهم حيرة
وقال قائلهم: ادخلوا الغار فينبري لهم أمية بن خلف ويقول: إن عليه لعنكبوتاً قبل ميلاد محمد فيشترك ألد أعداء العقيدة في صيانة العقيدة وحمايتها ويسخره الله لحفظها ورعايتها ويبطل كيد المشركين بدعوة رسول الله: اللهم أعم أبصارهم، وفي هذه الساعة الحاسمة تظهر قوة الإيمان وتتجلى ثقة الرسول بربه وإنكار أبي بكر لنفسه في سبيل دينه إذ يقول أبو بكر للرسول صلى الله عليه وسلم إن تصب اليوم ذهب دين الله فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ما ظنك باثنين اللهم ثالثهما، وتهون نفس أبي بكر عليه ويرى أن كل شيء سوى الدين نزر يسير فيقول للرسول صلى الله عليه وسلم إن قتلتُ فإنما أنا رجل واحد وإن قتلت أنت هلكت الأمة وما هي إلا بشاشة يبعثها قلب تنزل عليه السكينة ويفيض منه النور النبوي ويثبته اليقين الإلهي إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا وكأنما غار ثور قد أدى قسطه وحمل ما ألقى عليه من العبء حتى فرغ منه فخرج المهاجر ومن معه وساروا على طريق الساحل ونزلوا بقديد على أم معبد عاتكة بنت خالد وأظهر الله على يديه آية باهرة إذ مسح ضرع شاة مجهودة وشرب من لبنها وسقى أصحابه فلما جاء زوجها أكثم بن الجون وعهده بهذه الشاة لا لبن فيها هزته هذه المفاجأة فسألها: كيف جاد ضرع هذه الشاة باللبن قالت: لا أدري إلا أني رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة متبلج الوجه حسن الخلق له رفقاء يحفون به إذا قال استمعوا لقوله، وإذا أمر يبادرون إلى أمره فقال: والله هذا صاحب قريش
ولا عجب إذا انبثقت الهداية في قلب ذلك الرجل لما رأى من آيات الله فأسلم هو وزوجه وكان أهلها يؤرخون بيوم نزول الرجل المبارك ولما مرت قريش سألوها عنه ووصفوه قالت لا علم لي بما تقولون: فقالوا ذاك الذي نريد.

ولما حبط مكر قريش وخرج الرسول صلى الله عليه وسلم في أمن ودعة إلى حيث يقصد وأعياهم البحث وأجهدهم التعب بعد أن أرسلت الرسل في أثر المهاجر وصاحبه وبثت العيون جعلت جائزة قدرها مائة ناقة لمن يقتل أحدهما أو يأسره ومائتان لمن يقتلهما أو يأتي بهما جميعاً فدفع الطمع سراقة بن مالك وحدثته نفسه أن يختص بهذه الجائزة دون قسيم أو شريك فاشتد في أثر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه حتى أدركهما والرسول صلى الله عليه وسلم يتلو بعض آيات الله فتنبه له أبو بكر رضي الله عنه ودخله الخوف فثبت النبي صلى الله عليه وسلم فؤاده وأخبره أن الله ناصره ومن ينصره الله فلن يخذل أبداً ثم دعا ربه:اللهم اكفنا بما شئت و كيف شئت.
وفي هذه الشدة البالغة والظلمة الحالكة يستجيب الله الدعاء ويأتيهما النصر من السماء وتقع المعجزة التي ذهبت مثلاً من الأمثال ساخت قوائم فرس سراقة في الأرض ولم تقدر على مغادرة مكانها فهاله الأمر وانخلع قلبه فزعاً وترجل خشية أن يصيبه ما أصاب فرسه ونادى: الأمان يا محمد: أنظرني أكلمك أنا لك نافع غير ضار وإني راجع وسأردهم عنك: يا محمد إن قومك جعلوا فيك الدية مائة من الأبل لمن قتلك أو أسرك فادع الله أن يطلق لي جوادي ولك عهد وميثاق أن أرجع عنك ثم يدعو النبي صلى الله عليه وسلم ربه: اللهم إن كان صادقاً فيما يقول فأطلق له جواده، وينجو الجواد ويعرض سراقة على رسول الله أن يتزود من ماله ما شاء وما أروع أن يرد عليه الرسول قائلاً: يا سراقة إذا لم ترغب في دين الإسلام فإني لا أرغب في مالك وما المال وما المتاع عند النفس العيوفة والقلب الكبير الذي لا يريد زهرة الحياة؟ إن الغرض الأوفى عند صاحب الدعوة أن تسلم دعوته وأن تعلو كلمة الله وأن تنجو من الساعين لحربها ولذلك يقول الرسول لسراقة لا تترك أحد يلحق بنا وأدرك سراقة أن هذه النفس التي يساعدها ربها ستغلب وتنتصر وتمثل له أمر محمد وهو يملك رقاب الناس وتخفق رايته على المشرقين فقال يا محمد: عاهدني إذا أتيتك يوم ملك أن تكرمني فيعاهده ويقول: متنبئاً بالغيب الذي آتاه الله علمه كيف بك يا سراقة إذا تسورت بسواري كسرى ويعجب سراقة ويسال: كسرى بن هرمز؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في ثقة وإيجاز: نعم. وينتهي أمر سراقة في قصة طريفة إلى الإسلام وينفذ له كتابه في فتح مكة ويفوز ذلك الرجل الطامع في أعراض الدنيا فوزاً عظيماً بما آتاه الله من الهداية فما هذه الأغراض في هداية الله إلا هباء وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور.

ابو وليد البحيرى
2024-07-11, 03:37 AM
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في طريق المدينة
الشيخ: محمد البنا - 2- لم تكن هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم من صنع البشر ولكنها كانت معجزة من المعجزات التي يظهرها الله على يد من اصطفى من رسله. وكان الإعجاز مظهرها من مبدئها إلى غايتها، فهي آية في تدبيرها، وآية في إمضائها، وآية في تسخير الله نفوساً قاموا بها واستسهلوا الصعاب وذللوا العقبات وتحملوا المشقات واضطلعوا بالأعباء غير مُبالين ما يصيبهم في أنفسهم وأموالهم، ولا مُكترثين بما فَاتهم من أوطانهم، وما فارقوا من إخوانهم، ولم يثنهم عن عزمهم حنين إلى مصاحبة الأتراب، ولا شوق إلى مَسَارح الشباب، وما أعز الوطن على النفوس وما أغلاه، وما أمر فراقه وما أقساه ولكن كل شيء عند النفوس المؤمنة هين يسير في سبيل الله وفي جانب العقيدة الحرة والدين المستقيم.

ثم صادف الرسول صلى الله عليه وسلم وصادف صحبه مخاطر لا ينجو منها إلا من وهبه الله رعايته ومنحه عصمته وعنايته، ولقد شرحنا بعض ذلك في مقال سابق، ومرَّ بك طرف من حديث سراقة وكيف ساخت قوائم فرسه ولم يسلم إلا بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عمرو بن هشام رجلاً مظلم البصيرة مغلق الفؤاد ختم الله على قلبه فلم ينفذ إليه نور النبوة، فقال: ما لسراقة قنع بعد أن طمع، ورجع بعد انبرى للجائزة وحسب أن هذا ضعف في الرأي وأن سراقة أصابه نكر وسفه وأنه ارتكب عاراً يصم به قومه فعيرهم به حين يقول:

بني مدلج إني أخال سفيهكم سراقة يستغوي بنصر محمد
عليكم به أن لا يفرق جمعكم فيصبح شتى بعد عز وسؤدد
وقد استحق ذلك المعاند الذي ارتكست فطرته أن تغير في الإسلام كنيته، فكان يكنى بعد ذلك بأبي جهل وبئس ما كافأ به نفسه وبئس المَصير مصيره في يوم بدر.
أما سراقة فلم يزهد في الجائزة إلا طَمعاً فيما هو خير وأبقى، فقد أضاء الإسلام قلبه ورأى بعينه عناية الله برسوله الكريم فلم يكابر ولم يُنكر وعاد معترفاً بالحق شاهداً بالصدق وهو يقول لأبي جهل:
أبا حكم واللات لو كنت شاهداً لأمر جوادي حين ساخت قوائمه
علمت ولم تشكك بأن محمداً نبي ببرهان فمن ذا يقاومه
وكان الناس الذين أشربت قلوبهم حب الرسول صلى الله عليه وسلم وأنعم الله عليهم بنعمة الإيمان لا يرضون بغير جوار الرسول جواراً ولا يؤثرون عليه أهلاً ولا داراً، فأخذوا يتركون مكة ويقصدون حيث قصد الرسول ويرون أن مقامهم بعده تقصير أي تقصير.
قال حيي بن ضمرة الجعدي: لا عذر لي في مقامي بمكة، وكان مريضاً فأمر أهله فخرجوا به إلى التنعيم فمات، ولم يكن المولى جل شأنه لينسى هؤلاء المخلصين فلا يخلد لهم ذكراهم فقد نزل القرآن منوهاً بشأنهم رافعاً من ذكرهم فقال تعالى: [وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ] {النساء:100}.
ولما رأى ذلك من كان بمكة ممن يطيق الخروج خرجوا فطلبهم أبو سفيان وغيره من المشركين فردوهم وسجنوهم، وافتتن منهم ناس مما نالهم من الظلم والإرهاق، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه رضي الله عنه فانطلقا يقطعان بطون تهامة في قيظ محرق تتلظى له رمال الصحراء ويجتازان أكمة بعد أكمة، ويمران بوهد يتلوه وهد ولا يجدان ما يتقيان به شواظ الهاجرة ولا عون لهما إلا صبرهما وحسن ثقتهما بالله وعظيم إيمانهما بالحق الذي تلقاه الرسول ليبلغه للخلق أجمعين ويخرج به العالم من الظلمات إلى النور.
كان من تدبير الله العليم الحكيم أن ألهم دليل النبي وصاحبه: عبد الله بن أريقط أن يسلك بهما طريقاً غير الذي ألفه الناس فأمعن إلى الجنوب بأسفل مكة ثم اتجه إلى تهامة على مقربة من شاطئ البحر الأحمر، فلما وصل إلى طريق لا تعرفه قريش سار بهما شمالاً مع الشاطئ فقد كان يساوره الخوف أن تشعر قريش بما اتخذه من سبيل فتسعى جهدها في صدِّ الرسول وصاحبه عن الغاية التي يبتغيان بلوغها في سبيل الله، والحق وقد ظلَّ الصاحبان الكريمان يَسيران في هذا الطريق أياماً متتابعة ينيخان في حَمَارّة القيظ، ويسيران الليل كله في تلك الصحراء لا يجدان في جوانبها ما يأنسان إليه إلا ما يرينا من سكينة الليل وضوء النجوم اللامعة في الظلام البهيم.
ولكن الله سخر لهما من قبيلة بني سهم شيخها فما أن بلغا مقام هذه القبيلة حتى جاء إليهما ذلك الشيخ وحياهما وأزال من مخاوفهما فاطمأنت قلوبهما وهي واثقة بنصر الله الذي لا يخذل المهتدين من عباده والذي كتب على نفسه أن يغلب هو ورسله إنه قوي عزيز.
في هذه الآونة الحاسمة في تاريخ العالم يسهل عليك أن تعرف كيف كانت تخفق قلوب أهل المدينة فمنهم من تخفق قلوبهم شوقاً للقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم من كانت تضطرب أفئدتهم خوفاً على ما ألفوا من عقيدة وما تعودوه من صور العبادة ولكن الدين الجديد سيجرف أمامه تلك العقائد الفاسدة وسيجعلها كغثاء السيل لا يباليها الناس وسيغلب المسلمون وتطهر القلوب من آثار الشرك وأوضار الآثام.
وقد كان المسلمون جميعاً ينتظرون مقدم صاحب الرسالة بنفوس تتحرق شوقاً إلى رؤيته والاستماع له وكان كثير منهم لما يروه وإن كانوا قد سمعوا من أمره ومن سحر بيانه وقوة عزمه ما جعلهم للقياه أشد اشتياقاً وفي انتظاره أكبر تطلعاً ولكن المشركين إلى ذلك الوقت لم يكن أمرهم قد انتهى فكان منهم من يغيظه أمر المسلمين ودعوتهم الجديدة ويخشون من الإسلام على ضعفائهم كما كانوا يزعمون، وإنك لترى ذلك حين تعلم ما كان يجري بالمدينة في بعض هذه الأوقات.
جلس سعد بن زرارة ومصعب بن عمير في حائط من حوائط بني ظفر واجتمع إليهما الرجال ممن أسلموا فبلغ خبرهما سعد بن معاذ وأسيد بن حُضير وكانا يومئذ سيدي قومهما، فقال سعد لأسيد: انطلق إلى هذين الرجلين الذين أتيا دارنا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما وانههما، فإنَّ سعد بن زرارة ابن خالتي، ولا أجد عليه مقدماً، فذهب أسيد إليهما يزجرهما فقال له مصعب أو تجلس فتسمع فإن رضيت أمراً قبلته وإن كرهت كفّ عنك ما تكرهه: قال أسيد أنصفت وركز حربته، وجلس إليهما وسمع إلى مصعب فقام مأخوذاً بدعوة الإسلام وأسلم وعاد إلى أسعد بوجه آخر فغاظ ذلك سعداً وقام هو إلى الرجلين فكان أمره كأمر صاحبه، لان قلبه لدعوة الإسلام وبهره ما سمع من الرجلين وانقلب داعياً إلى الدين الجديد وذهب إلى قومه، فقال يا بني عبد الأشهل: كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا سيدنا وأوصلنا وأفضلنا رأياً وأيمننا نقيبة، قال: فإن كلام نسائكم ورجالكم عليَّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله. فأسلم بنو عبد الأشهل جميعاً رجالاً ونساء.
سبق الإسلام إذاً رسول الله إلى المدينة وخالطت بشاشته القلوب وطهرت النفوس من الإجحاف وارتفعت العقول عن الإسفاف وأخذ الناس يزدرون المشركين الذين يَعبدون من دون الله مَا لا يَدفع عن نفسه شراً ولا يملك لها نفعاً ولا ضراً، ويتهكَّمون بهم وبأصنامهم ويسخرون بخستهم وضلالهم وأراد بعض أهل المدينة أن ينكلوا بهذه الأصنام ليفهم من يعبدونها أنَّها لا تضر ولا تنفع ولا تعطي ولا تمنع فاجتمع شبان من المسلمين واعتزموا أن يُقيموا دليلاً على فساد عقيدة المشركين وامتهانهم أنفسهم بعبادة هذه الأصنام وكان لعمرو بن الجموح صنم من خشب يدعوه مَنَاة كما كان يصنع من يزعمون أنَّهم أشراف، وكان عمرو سيداً من ساداتهم وشريفاً من أشرافهم فكان هؤلاء الشبان الذين اشتد بالإسلام بأسهم يريحون بالليل على صنم عمرو فيحملونه ويكبونه على رأسه في إحدى الحفر فإذا أصبح عمرو فلم يجد الصنم التمسه حتى يعثر به ثم غسله وطهره وردَّه مكانه، وهو يبرق ويرعد ويتهدد ويتوعد..، وكرر هؤلاء الفتيان عبثهم بمناة ابن الجموح وهو كل يوم يغسله ويطهره فلما ضاق بهم ذرعاً علَّق على الصنم سيفه وقال: إن كان فيك خير فامتنع فهذا السيف معك. وأصبح فالتمسه فوجده ملقياً مهاناً وليس معه السيف، فلما رأى عمرو مصير صنمه علم أنه كان منه في غرور فأسلم وترك ضلال الشرك والوثنية الذي يهوي بصاحبه إلى درك لا يجمل أن يتردى إليه إنسان، ويسير على المرء بعد ذلك أن يدرك توفيق الله لرسوله صلى الله عليه وسلم حين رأى في أهل المدينة الخير كله وأن الإسلام سيكون فيها قوياً منيعاً له حماة وله أنصار يتقبلون دعوة الإسلام كما تتقبل الأزهار ندا الصباح وتتفتح لها قلوب فتثمر أطيب الثمرات.

كان من هدي الله لرسوله بعد أن اشتدَّ بأس الإسلام وقويت شوكته أن يرشده إلى أن يهيئ لهم السبيل لإقامة شعائر الدين وجمع شتات المسلمين فلما وصل قُباء، أقام به أربعة أيام تبتدئ من يوم الاثنين وأسَّس فيه المسجد الذي نزل فيه من القرآن الكريم قول الله تبارك وتعالى:[ لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ] {التوبة:108}.
وهو أول مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهراً وأول مسجد بني لجماعة المسلمين عامة وإن كان قد تقدم بناء غيره من المساجد لكن لخصوص الذي بناه، ثم يخرج صلى الله عليه وسلم من قباء ضحى يوم الجمعة وتدركه صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف فيصليها في مسجدهم الذي في بطن وادي نوناء وهو مسجد صغير مبني بحجارة قدر نصف القامة وكان معه في الصلاة مائة من المسلمين فيشرف ذلك المسجد بأن يصلي فيه الرسول والمسلمون أول جمعة ويبقى له أطيب الذكر ويستقر اسمه في ذاكرة كل مسلم ولا ينسى التاريخ أن في هذا المسجد ألقى الرسول أول خطبة في الإسلام وأنه أرشد المسلمين إلى معالم دينهم، ليس حوله إلا نفوس طيبة أذعنت للدعوة الطيبة فمحصتها فكتب لأصحابها الفوز والنصر المبين.

ابو وليد البحيرى
2024-07-11, 03:42 AM
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في طريق المدينة

الشيخ: محمد البنا
- 3 - دخل الإسلام يثرب وعزَّ جانبه فيها، وخالطت بشاشته قلوب أهلها، وعرف الناس أنَّ هذا الدين الجديد ارتفع بهم عن الوثنيَّة التي تنحدر بهم إلى الذلِّ والهوان، وطهَّر قلوبهم من الضلال والبهتان، فتحرق القوم هناك إلى مقدم هذا الرسول الذي ساقهم إلى هدايتهم وكشف عنهم غوايتهم فكانوا يخرجون كل يوم بعد صلاة الصبح إلى ظَاهر المدينة يتلمَّسونه حتى تغلبهم الشمس على الظلال في تلك الأيام الحارَّة من قلب الصيف ويتحمَّلون في سبيل ذلك هذا الحر الذي يُلهب الأجسام وإنَّ مسلمي يثرب لينتظرون يوماً كعادتهم إذ صاح بهم يهودي كان قد رأى ما يصنعن: يا بني قيلة هذا جدكم قد أقبل، فتسابق مسلمو يثرب كل واحد منهم يريد أن يراه وأن يقترب منه وأن يملأ عينيه من الرسول الذي امتلأت نفسه قبل ذلك بمحبته والإيمان به وبرسالته، والذي يذكره في صلاته كلما أدى الصلاة، وخرج بنو قيلة وهم الأنصار بسلاحهم فنقلوه وآووه، وواسوه، وآوَوا أصحابه وواسوهم، فذكرهم الله في كتابه الكريم بالثناء الحسن إذ يقول تبارك وتعالى:[وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] {الحشر:9}.
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حقِّهم: آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار.
وكان صلى الله عليه وآله وسلم كلما مرَّ على دار من دور الأنصار يدعونه إلى المقام عندهم يقولون: يا رسولَ الله هلمَّ إلينا إلى القوة والمنعة، فيقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو راكب ناقته: "خلُّوا سبيلَ الناقة فإنها مأمورة"، ومعنى ذلك أنَّ هذه الرحلة المباركة كانت مقدرة بأمر الله وكان كل ما فيها حتى الناقة مرسوماً بإذن الله ليس لمخلوق فيها إرادة ولا لامرئ خيرة، فالله مقدر كل شيء ومدبره، قد دبر له أين يقيم وأين يكون منزله ومن أجل ذلك أرخى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زمام الناقة لتسير كما أمرت، فأخذت تنظر يميناً وشمالاً حتى إذا أتت دار مالك بن النجار بركت حيث مسجده الشريف، ثم سارت وهو صلى الله عليه وآله وسلم عليها ومَشَت حتى بركت على باب أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه من بني مالك بن النجار ثم قامت ومشت والتفتت خلفها، ثم رجعت إلى منزلها أول مرة بمكان باب المسجد وبركت فيه ثم تجلجلت - تحركت وألقت عنقها بالأرض وصوتت من غير أن تفتح فاها - فنزل عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقال: هذا المنزل إن شاء الله تعالى، اللهم أنزلنا منزلاً مباركاً، وكان المسلمون من حول الناقة في حفل حافل يخلون لها طريقها وجميع أهل يثرب ينظرون إلى هذه الحياة الجديدة التي دبَّت إلى مدينتهم، وإلى هذا القادم العظيم الذي اجتمع عليه من الأوس والخزرج من كانوا من قبل أعداء متقاتلين، ولا يجول بخاطر أحدهم في هذه البرهة التي اعتدل فيها سير التاريخ إلى طريق مستقيم ما أعدَّ القدر لمدينتهم من جلال وعَظَمة يبقيان على الزمن ما بقي الزمن، ولك أن تتصوَّر فرح أهل يثرب بهذا القادم الكريم حين ترى أنَّ كتاب السير يروون أنَّ بعض جواري من بني النجار خرجن يضرب بالدفوف ويقلن:
نحن جوار من بني النجار يا حبذا محمد من جار
فيبادلهن رسول الله بما فطر عليه حباً بحب وسروراً بسرور يسألهن في لطف وإيناس: أتحببنني؟، فيقلن: نعم، فيقول: الله يعلم أن قلبي يحبكن.
ثم تقف سيدة على روبة بين صاحبات لها تسأل عن الرجل الذي يتحدث عنه المسلمون في إكبار وإعظام وتقول: أي الرجلين محمد؟ فتجيبها صاحبة من صواحبها: كيف لا تعرفينه أو تحسبينه هذا الأبيض النحيف الخفيف العارضين الناتئ الجبهة كلا. فهذا أبو بكر. فتقول السائلة في إعجاب هو الآخر إذاً ما أبهى طلعته وما أعظم وقاره.
واحتمل أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري رضي الله عنه رحله بإذنه صلى الله عليه وآله وسلم وأدخله بيته ومعه زيد بن حَارثة وكانت دار بني النجار أوسط دور الأنصار وأفضلها، وهم أخوال عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولما أراده قوم أن ينزل عليهم أجابهم ذلك الجواب العادل الفاضل: المرء مع رحله.
وأقام عندَ أبي أيوب حتى بَنَى مسجده ومساكنه وكان بناؤه من آخر ربيع الأول إلى صفر من السنة القابلة واشترك معه صحابته في بناء المسجد وكان صلى ينقل اللَّبِن معهم في ردائه وعلى صدره الشريف وهو ينشد:
هذا الحِمَالُ لا حمالَ خيبر هذا أبرُّ ربنا وأطهر
وفي الحق أنه أراد أن يوجه الأرواح إلى خالقها وأن يهون لهم ذلك المتاع الزائل الذي يحملونه من خيبر ليكون لهم غذاء يقضون به مَطَالب أجسامهم وما ذلك كله بجانب المساجد وبنائها إلا هباء؛ فإن تلك بيوت تهذب فيها النفوس وتهتدي القلوب ويذكر بين جدرانها الخالق ويتفكر الناس في آثاره حين يخلو أحدهم في مصلاه، وهو ينظر إلى خلق السموات والأرض ويقول: ربنا ما خلقت هذا باطلاً، ذلك شيء أغلى من الحياة وأغلى من كل شيء في الحياة.
وما أكمل المرء إذا تعهَّد نفسه فرباها وعمد إلى قلبه فصفَّاه، فهو بالنفس لا بالجسم إنسان. إنَّ لله رجالاً ذاقوا حلاوة الإيمان وتسامت أرواحهم فطرحوا وراء ظهورهم تلك المباهج الدنيويَّة وانصرفوا إلى الملأ الأعلى يتصلون به ويعلمون الناس كيف يتصلون.
روي أن عثمان بن مظعون رضي الله عنه كان رجلاً متنظفاً فكان إذا حمل اللبن للمسجد يجافي به عن ثوبه لئلا يصيبه التراب، فإن أصابه شيء نفضه فنظر إليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه، وعلم أن الإنسان يجب أن يكون أعمق من هذه المظاهر المتأخرة وأن يعلم نفسه أن يفهم الكون على غير هذا وأن الجد في العمل الصالح وأخذ يسمعه هذه الكلمات الطيبة:
لا يستوي من يعمر المساجدا يدأب فيها قائماً وقاعدا
ومن يرى عن التراب حائداً
نعم لا يستوي من يخلد إلى السكينة لا يعنيه من الدنيا إلا نفسه ومن وضع يده في أيدي إخوانه يتعاون معهم على الحسنات ويبني معهم أصول الفضائل.
وأتمَّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مَسجده وجعله مَثَابة للمسلمين وناديا يجتمعون فيه، يتعلَّمون ويتلقون أصولَ دينهم ويسمعون من هدي الوحي ما يسمعون.
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يخطب يوم الجمعة وكلما حدث أمر يريد أن يكلم الناس فيه وكان يسند ظهره إلى جذع نخلة، فقال له الناس يا رسول الله قد كثر المسلمون وإنَّهم يحبون أن يروك فلو اتخذت منبراً لقدر قيامك تقوم عليه فيراك الناس. قال: نعم. من يجعل لنا هذا المنبر. فقام إليه رجل فقال أنا. قال تجعله؟ قال: نعم، ولم يقل إن شاء الله، ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يرضى ألا يرجع إلى الله في أمره كله وأن يستعين به في عمله كله فقال للرجل: ما اسمك. قال: فلان. قال: اقعد. فقعد ثم عاد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فقال من يجعل لنا هذا المنبر فقام إليه رجل وقال أنا. قال تجعله. قال نعم ولم يقل إن شاء الله، قال: ما اسمك قال: فلان. قال: اقعد فقعد. لأن مثل هذا الرجل الذي لم يقرن عزمه بذكر الله مغرور بقوته مخدوع عن حول الله وعزَّته، ثم عاد الرسول فقال: من يجعل لنا هذا المنبر؟ فقام إليه رجل فقال: أنا، فقال: تجعله. قال: نعم إن شاء الله. فقال: ما اسمك. قال: باقوم، وكان قبطياً قال اجعله فجعله.
وفي هذا إيذان بأنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسوي بين الناس جميعاً ما دَاموا على وحدانية الله، والناس كلهم عنده كفاء؛ فإنَّهم لآدم وعسى أن يهديهم الله جميعاً إلى كَلمة الحقِّ الذي جاءَ بها الإسلام، وكم للإسلام مثل ذلك من آيات لو فطن إليها الناس وخلصوا أنفسهم من تقليد الآباء لاستوى في احترام هذا الدين والخضوع له متبعه ورافضه ومُعتنقه وجاحده.
ولما أتمَّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مَسجده ومساكنه وانتقل من بيت أبي أيوب إليها جعل يُفكِّر في هذه الحياة الجديدة التي استفتحها ونقلت دعوتها خطوة جديدة واسعة، وهنا يبدأ الطور السياسي الذي أيده فيه الإلهام الإلهي، فأبدى فيه من الحنكة والمقدرة ما يجعل الإنسان يقف حائراً مملوء النفس إجلالاً وإكباراً.
فقد جعل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أكبر همه أن يصل بيثرب موطنه الجديد إلى وحدة سياسية ونظامية لم تعهد من قبل، وانصرف همه إلى تنظيم صفوف المسلمين وتوكيد وحدتهم خشية أن تثور بينهم العداوة التي فرقتهم بدداً وأفنت منهم عدداً، فآخى بين المسلمين وعقد هذا الإخاء عقداً جعل له حكم إخاء الدم والنسب، وبهذه المؤاخاة ازدادت وحدة المسلمين توكيداً وساد المدينة هدوء لم يعرفه الناس من قبل، وأخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحب المدينة ويدعو لها، ويقول: اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك، وإنه دعا لمكة، وأنا أدعو للمدينة بمثل ما دعاك لمكة.
ثم تنبأ لها بأنها ستكون معقل الإيمان وموئله ويقول: الإيمان يأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها ـ وأي عجب في ذلك بعد أن اختارها الله للنبي سكناً ومَقَاماً وآثرها لتكون لدعوة الله مكاناً، لقد أشرقت بنوره يوم قدم إليها وأضاءت أشعة هذا النُّور قلوب المسلمين.
قال أنس بن مالك رضي الله عنه: لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة أضاءَ منها كلُّ شيء.
وصدق أنس، فإنَّ نور النبوة انتقل إلى المدينة ثم سطع على العالم أجمع وسيبقى باهراً يهدي الناس جميعاً – بإذن الله - .
وتعالى الله ما أعظم فضله على العالمين كانت أول كلماته صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن دخل المدينة: "أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام".
وفي المسجد الذي صلى فيه أول جمعة لم يذكر في خطبته شيئاً من عناد الكفار وإصرارهم على إيذائه بل قصر خطبته على حضِّ المسلمين على التقوى وتذكيرهم بالله وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ولم يعرض لأحد ممن خذلوه وجحدوه بسوء، وكان ذلك تأديب الله لرسوله فقد بعثه يبسط على الناس الرحمة وينشر في الأرض السلام، وصدق الله العظيم إذ يقول: [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] {الأنبياء:107}.