ابو وليد البحيرى
2024-06-29, 08:52 PM
قراءة
في رسالة ابن رجب
"فضل علم السلف على علم الخلف"
د. فؤاد بن يحيى الهاشمي
تقوم الرسالة على تقرير معنيين اثنين أشار إليهما الحافظ في مطلع رسالته، وهما:
1- معنى العلم وانقسامه إلى علم نافع وعلم غير نافع.
2- التنبيه على فضل علم السلف على علم الخلف.
-------------------------
بين الحافظ ابن رجب أن الله تعالى ذكر في كتابه "العلمَ":
1- تارة في مقام المدح وهو العلم النافع.
2- وتارة في مقام الذم وهو العلم الذي لا ينفع.
والعلم النافع على قسمين:
1- العلم النافع الذي ينتفع به صاحبه.
2- العلم النافع في نفسه لكنه لم ينتفع به صاحبه.
فالقسم الأول: العلم النافع الذي ينتفع به صاحبه:
· فمثل قوله تعالى (قُل هَل يَستَوي الَّذينَ يَعلَمونَ وَالَّذينَ لا يَعلَمون)
· وقوله (شَهِدَ اللَهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلّا هُوَ وَالمَلائِكَة وَأُولوا العِلمَ قائِماً بِالقِسط)
· وقوله (وَقُل رَبِّ زِدني عِلماً)
· وقوله (إِنَّما يَخشى اللَهَ مِن عِبادِهِ العُلَماءُ)
· وما قص سبحانه من قصة آدم وتعليمه الأسماء وعرضهم على الملائكة وقولهم (سُبحانَكَ لا عِلمَ لَنا إِلّا ما عَلَّمتَنا إِنَّكَ أَنتَ العَليمُ الحَكيم).
· وما قصه سبحانه وتعالى من قصة موسى عليه السلام وقوله للخضر (هَل أَتَّبِعُكَ عَلى أَن تُعَلِمَني مِمّا عُلِّمتَ رُشدا)
فهذا هو العلم النافع .
القسم الثاني: العلم النافع في نفسه لكنه لم ينتفع به صاحبه:
وقد أخبر عن قوم أنهم أوتوا علماً ولم ينفعهم علمهم، فهذا علم نافع في نفسه لكن صاحبه لم ينتفع به:
· قال تعالى (مَثَلُ الَّذينَ حُمِّلوا التَوراةَ ثُمَّ لَم يَحمِلوها كَمَثَلِ الحِمارِ يَحمِلُ أَسفارا)
· وقال (وَاِتلُ عَلَيهِم نَبَأَ الَّذي آتَيناهُ آياتِنا فَاِنسَلَخَ مِنها فَأَتبَعَهُ الشَيطانُ فَكانَ مِنَ الغاوينَ وَلَو شِئنا لَرَفَعناهُ بِها وَلَكِنَّهُ أَخلَدَ إِلى الأَرضِ وَإِتَّبَعَ هَواهُ)
· وقال تعالى (فَخَلَفَ مِن بَعدَهُم خَلفَ وَرِثوا الكِتابَ يَأخُذونَ عَرَضَ هذا الأَدنى وَيَقولونَ سَيُغفَرُ لَنا وَإِن يَأتِهِم عَرَضٌ مِثلُهُ يَأخُذوهُ أَلَم يُؤخَذ عَلَيهِم ميثاقُ الكِتابِ أَلّا يَقولوا عَلى اللَهِ إِلّا الحَقَّ وَدَرَسوا ما فيهِ وَالدارُ الآخِرَةُ خَيرٌ لِلَّذينَ يَتَّقون) الآية
· وقال (وَأَضَلَّهُ اللَهُ عَلى عِلمٍ) على تأويل من تأول الآية على علم عند من أضله الله.
وأما الثاني: فهو العلم الذي ذكره الله تعالى على جهة الذم له:
· فقوله في السحر (وَيَتَعَلَّمون ما يَضُرُّهُم وَلا يَنفَعُهُم وَلَقَد عَلِموا لَمَنِ اِشتَراهُ مالَهُ في الآخِرَةِ مِن خَلاقٍ)
· وقوله (فَلَمّا جاءَتهُم رُسُلُهُم بِالبَيِّناتِ فَرِحوا بِما عِندَهُم مِنَ العِلمِ وَحاقَ بِهِم ما كانوا بِهِ يَستَهزِئون)
· وقوله تعالى (يَعلَمونَ ظاهِراً مِنَ الحَياةِ الدُنيا وَهُم عَن الآخِرَةِ هُم غافِلون).
ولذلك جاءت السنة بتقسيم العلم:
1- إلى نافع.
2- وإلى غير نافع.
وجاءت كذلك بـ :
1- الاستعاذة من العلم الذي لا ينفع.
2- وسؤال العلم النافع.
ففي صحيح مسلم عن زيد بن أرقم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول:
(اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها).
خرجه أهل السنن من وجوه متعددة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي بعضها : (ومن دعاء لا يسمع)، وفي بعضها: ( أعوذ بك من هؤلاء الأربع ).
وخرج النسائي من حديث جابر أن النبي صلي الله عليه وسلم كان يقول :
(اللهم إني أسألك علماً نافعاً وأعوذ بك من علم لا ينفع)
وخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول :
(اللهم انفعني بما علمتني وعلمني ما ينفعني وزدني علماً)
وخرج النسائي من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو :
(اللهم انفعني بما علمتني وعلمني ما ينفعني وارزقني علماً تنفعني به)
وخرج أبو نعيم من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول :
(اللهم إنّا نسألك إيماناً دائماً فرب إيمان غير دائم، وأسألك علماً نافعاً فرب علم غير نافع)
وخرج أبو داود من حديث بُريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(إنَّ منَ البيان سحراً وإن من العلم جهلاً)
1- وإن صعصعة بن صوحان فسر قوله :(إن من العلم جهلاً):
أن يتكلف العالم إلى علمه مالا يعلم فيجهله ذلك.
2- ويُفسر أيضا :
بأن العلم الذي يضر ولا ينفع جهل؛ لأن الجهل به خير من العلم به فإذا كان الجهل به خيراً منه فهو شر من الجهل وهذا كالسحر وغيره من العلوم المضرة في الدين أو في الدنيا.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم تفسير بعض العلوم التي لا تنفع:
ففي مراسيل أبي داود: عن زيد بن أسلم قال: ( قيل يا رسول الله ما أعلمَ فلانا قال: بم. قالوا: بأنساب الناس. قال: علم لا ينفع وجهالة لا تضر.)
وخرجه أبو نعيم في كتاب رياض المتعلمين من حديث بقية عن ابن جريج عن عطاء عن أبي هريرة مرفوعا وفيه أنَّهم قالوا:
(أعلم الناس بأنساب العرب وأعلم الناس بالشعر وبما اختلفت فيه العرب )
وزاد في آخره: ( العلم ثلاثة ما خلاهن فهو فضل: آية محكمة، أو سنة قائمة، أو فريضة عادلة).
وهذا الإسناد لا يصح وبقية دَلَّسهُ عن غير ثقة.
وآخر الحديث خرجه أبو داود وابن ماجه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا:
( العلم ثلاثة ما سوى ذلك فهو فضل: آية محكمة، أو سنة قائمة، أو فريضة عادلة)
وفي إسناده عبد الرحمن بن زياد الإفريقي وفيه ضعف مشهور.
وقد ورد الأمر:
بأن يُتعلم من الأنساب ما توصل به الأرحام من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم)
أخرجه الإمام احمد والترمذي.
وخرجه حميد بن زنجويه من طريق آخر عن أبي هريرة مرفوعا: (تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم ثم انتهوا وتعلموا من العربية ما تعرفون به كتاب الله ثم انتهوا وتعلموا من النجوم ما تهتدون به في ظلمات البر والبحر ثم انتهوا)
وفي إسناد روايته ابن لُهَيعة.
وخرج أيضاً من رواية نعيم بن أبي هند قال: قال عمر: (تعلموا من النجوم ما تهتدون به في بركم وبحركم ثم امسكوا وتعلموا من النسبة ما تصلون به أرحامكم وتعلموا ما يحل لكم من النساء ويحرم عليكم ثم انتهوا )
وروى مسعر عن محمد ابن عبد الله قال قال عمر بن الخطاب : (تعلموا من النجوم ما تعرفون به القبلة والطريق).
وكان النخعي لا يرى بأساً أن يتعلم الرجل من النجوم ما يهتدي به.
ورخص في تعلم منازل القمر أحمد وإسحق ويتعلم من أسماء النجوم ما يهتدي به.
وكره قتادة تعلم منازل القمر: ولم يرخص ابن عيينه فيه ذكره حرب عنهما.
وقال طاوس: رب ناظر في النجوم ومتعلم حروف أبي جاد ليس له عند الله خلاق خرجه حرب. وخرجه حميد بن زنجويه من رواية طاوس عن ابن عباس.
وهذا محمول على علم التأثير لا علم التسيير فان علم التأثير باطل محرم وفيه ورد الحديث المرفوع : (ومن اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر). خرجه أبو داود من حديث ابن عباس مرفوعا
وخرج أيضاً من حديث قبيصة مرفوعاً: (العيافة والطِيَرة والطرق من الجبت)
والعيافة: زجر الطير.
والطرق: الخط في الأرض.
فعلم تأثير النجوم:
باطل محرم والعمل بمقتضاه كالتقرب إلى النجوم وتقريب القرابين لها كفر.
وأما علم التسيير:
فإذا تعلم منه ما يحتاج إليه للإهتداء ومعرفة القبلة والطرق كان جائزاً عند الجمهور.
وما زاد عليه فلا حاجة إليه وهو يشغل عما هو أهم منه
وربما أدى التدقيق فيه إلى إساءة الظن بمحاريب المسلمين في أمصارهم كما وقع ذلك كثيراً من أهل هذا العلم قديماً وحديثاً وذلك يفضي إلى اعتقاد خطأ الصحابة والتابعين في صلاتهم في كثير من الأمصار وهو باطل.
وقد أنكر الأمام أحمد الاستدلال بالجدي وقال: إنما ورد ما بين المشرق والمغرب قبلة: يعني لم يرد اعتبار الجدي ونحوه من النجوم.
وقد أنكر ابن مسعود على كعب قوله أن الفلك تدور
وأنكر ذلك مالك وغيره
وأنكر الإمام أحمد على المنجمين قولهم: أن الزوال يختلف في البلدان.
وقد يكون إنكارهم أو إنكار بعضهم لذلك لأن الرسل لم تتكلم في هذا وإن كان أهله يقطعون به وإن كان الاشتغال به ربما أدى إلى فساد عريض.
وقد اعترض بعض من كان يعرف هذا:
على حديث النزول ثلث الليل الآخر.
وقال:
ثلث الليل يختلف باختلاف البلدان فلا يمكن أن يكون النزول في وقت معين.
ومعلوم بالضرورة من دين الإسلام قبح هذا الاعتراض وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أو خلفاءه الراشدين لو سمعوا من يعترض به لما ناظروه بل بادروا إلى عقوبته وإلحاقه بزمرة المخالفين المنافقين المكذبين.
وكذلك التوسع في علم الأنساب هو مما لا يحتاج إليه:
وقد سبق عن عمر وغيره النهي عنه مع أن طائفة من الصحابة والتابعين كانوا يعرفونه ويعتنون به.
وكذلك التوسع في علم العربية لغة ونحواً:
هو مما يشغل عن العلم الأهم والوقوف معه يحرم علماً نافعاً.
وقد كره القاسم بن مخيمرة علم النحو وقال: أوله شغل وآخره بغي.
وأراد به: التوسع فيه.
ولذلك كره أحمد التوسع في معرفة اللغة وغريبها وأنكر على أبي عبيدة توسعه في ذلك وقال: هو يشغل عما هو أهم منه.
ولهذا يقال: إن العربية في الكلام كالملح في الطعام.
يعني: أنه يؤخذ منها ما يصلح الكلام كما يؤخذ من الملح ما يصلح الطعام وما زاد على ذلك فإنه يفسده.
وكذلك علم الحساب:
يحتاج منه إلى ما يعرف به حساب ما يقع من قسمة الفرائض والوصايا والأموال التي تقسم بين المستحقين لها.
والزائد على ذلك مما لا ينتفع به إلا في مجرد رياضة الأذهان وصقالها لا حاجة إليه ويشغل عما هو أهم منه.
وأما ما أحدث بعد الصحابة من العلوم التي توسع فيها أهلها وسموها علوما وظنوا أن من لم يكن عالماً بها فهو جاهل أو ضال:
فكلها بدعة وهي من محدثات الأمور المنهي عنها.
فمن ذلك ما أحدثته المعتزلة من الكلام في القدر وضرب الأمثال للَّه.
وقد ورد النهي عن الخوض في القدر
ومنها :
الخوض في سر القدر.
وقد ورد النهي عنه عن علي وغيره من السلف فإن العباد لا يطلعون على حقيقة ذلك.
ومن ذلك أعني محدثات الأمور:
ما أحدثه المعتزلة ومن حذا حذوهم من الكلام في ذات الله تعالى وصفاته بأدلة العقول
وهو أشد خطراً من الكلام في القدر
لأن الكلام في القدر كلام في أفعاله وهذا كلام في ذاته وصفاته.
وينقسم هؤلاء إلى قسمين:
أحدهما: من نفى كثيراً مما ورد به الكتاب والسنة من ذلك لاستلزامه عنده للتشبيه بالمخلوقين
كقول المعتزلة: لو رأي لكان جسما لأنه لا يرى إلا في جهة:
وقولهم: لو كان له كلام يسمع لكان جسما.
ووافقهم:
من نفى الاستواء فنفوه لهذه الشبهة: وهذا طريق المعتزلة والجهمية.
وقد اتفق السلف على تبديعهم وتضليلهم.
وقد سلك سبيلهم في بعض الأمور كثير ممن انتسب إلى السنة والحديث من المتأخرين.
والثاني:
من رام إثبات ذلك بأدلة العقول التي لم يرد بها الأثر
ورد على أولئك مقالتهم
كما هي طريقة مقاتل بن سليمان ومن تابعه كنوح بن أبي مريم وتابعهم طائفة من المحدثين قديماً وحديثاً.
وهو أيضاً:
مسلك الكرامية:
فمنهم:
من أثبت لإثبات هذه الصفات الجسم إما لفظا وإما معنى.
ومنهم:
من أثبت للَّه صفات لم يأت بها الكتاب والسنة كالحركة وغير ذلك مما هي عنده لازم الصفات الثابتة.
وقد أنكر السلف :
على مقاتل قوله في رده على جهم بأدلة العقل وبالغوا في الطعن عليه.
ومنهم من استحل قتله، منهم مكي بن إبراهيم شيخ البخاري وغيره.
والصواب:
ما عليه السلف الصالح من إمرار آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت من غير تفسير لها ولا تكييف ولا تمثيل.
ولا يصح من أحد منهم خلاف ذلك البتة خصوصاً الإمام أحمد ولا خوض في معانيها ولا ضرب مثل من الأمثال لها.
وإن كان بعض من كان قريباً من زمن الإمام أحمد فيهم من فعل شيئاً من ذلك اتباعاً لطريقة مقاتل فلا يقتدى به في ذلك إنما الإقتداء بأئمة الإسلام كابن المبارك ومالك والثوري والأوزاعي.
والشافعي وأحمد واسحق وأبي عبيد ونحوهم.
وكل هؤلاء لا يوجد في كلامهم شيء من جنس كلام المتكلمين فضلا عن كلام الفلاسفة: ولم يدخل ذلك في كلام من سلم من قدح وجرح
وقد قال أبوزرعة الرازي: كل من كان عنده علم فلم يصن علمه واحتاج في نشره إلى شيء من الكلام فلستم منه.
ومن ذلك - أعني محدثات العلوم - :
ما أحدثه فقهاء الرأي منضوابط وقواعد عقلية وردِّ فروع الفقه إليها ؛ وسواءٌ خالفت السنن أم وافقتها ؛طرداً لتلك القواعد المقرَّرة ، وإن كان أصلها مما تأولوهعلىنصوص الكتاب والسنة ؛ لكن بتأويلات يخالفهم غيرهم فيها، وهذا هو الذي أنكروه من فقهاء أهل الرأي بالحجاز والعراق ، وبالغوا في ذمهوإنكاره.
"فأما الأئمة وفقهاء أهل الحديث:
فإنهم يتبعون الحديث الصحيح حيث كان إذا كان معمولا به عند الصحابة: ومن بعدهم: أو عند طائفة منهم فأما ما اتفق على تركه فلا يجوز العمل به لأنهم ما تركوه إلا على علم أنه لا يعمل به.
قال عمر بن عبد العزيز: خذوا من الرأي ما يوافق من كان قبلكم فإنهم كانوا أعلم منكم.
كما نقل عنه:
أن ما خالف أهل المدينة من الحديث:
فإن مالكا يرى الأخذ بعمل أهل المدينة.
وأن الأكثرين أخذوا بالحديث.
ومما أنكره أئمة السلف الجدال والخصام والمراء في مسائل الحلال والحرام أيضاً:
ولم يكن ذلك طريقة أئمة الإسلام.
وإنما أحدث ذلك بعدهم كما أحدثه فقهاء العراقيين في مسائل الخلاف بين الشافعية والحنفية وصنفوا كتب الخلاف ووسعوا البحث والجدال فيها وكل ذلك محدث ل أصل له وصار ذلك علمهم حتى شغلهم ذلك عن العلم النافع، وقد أنكر ذلك السلف.
وورد في الحديث المرفوع في السنن : (ما ضل قوم بعد هدى إلا أوتوا الجدل ) ثم قرأ: (ما ضَرَبوهُ لَكَ إِلّا جَدَلاً بَل هُم قَومٌ خَصِمون).
وقال بعض السلف: إذا أراد الله بعبد شراً أغلق عنه باب العمل وفتح له باب الجدل.
وقال مالك: أدركت أهل هذه البلدة وإنهم ليكرهون هذا الإكثار الذي فيه الناس اليوم.
يريد المسائل.
وكان يعيب كثرة الكلام والفتيا ويقول: يتكلم أحدهم كأنه جمل مغتلم يقول: هو كذا هو كذا بهدر في كلامه.
وكان يكره الجواب في كثرة المسائل ويقول: قال اللَهُ عز وجل (وَيَسأَلونَكَ عَنِ الرّوحِ قُلِ الرّوحُ مِن أَمرِ رَبّي) فلم يأته في ذلك جواب.
وقيل له: الرجل يكون عالماً بالسنن يجادل عنها؟
قال: لا ولكن يخبر بالسنة فإن قبل منه وإلا سكت.
وقال: المراء والجدال في العلم يذهب بنور العلم.
وقال: المراء في العلم يُقسي القلب ويورث الضعن.
وكان يقول: في المسائل التي يسأل عنها كثيراً لا أدري.
وكان الإمام أحمد يسلك سبيله في ذلك.
وقد ورد النهي عن:
1- كثرة المسائل.
2- وعن أغلوطات المسائل.
3- وعن المسائل قبل وقوع الحوادث.
وفي ذلك ما يطول ذكره.
ومع هذا ففي كلام السلف والأئمة كمالك والشافعي وأحمد وإسحاق:
1- التنبيه على مأخذ الفقه.
2- ومدارك الأحكام.
بكلام وجيز مختصر يفهم به المقصود من غير إطالة ولا إسهاب.
وفي كلامهم من رد الأقوال المخالفة للسنة بألطف إشارة وأحسن عبارة بحيث يغني ذلك من فهمه عن إطالة المتكلمين في ذلك بعدهم
بل ربما لم يتضمن تطويل كلام من بعدهم من الصواب في ذلك ما تضمنه كلام السلف والأئمة مع اختصاره وإيجازه.
فما سكت مَنْ سكت مِنْ كثرة الخصام والجدال مِنْ سلف الأمة جهلا ولا عجزاً
ولكن سكتوا عن علم وخشية للَّه.
وما تكلم من تكلم وتوسع من توسع بعدهم لاختصاصه بعلم دونهم
ولكن حباً للكلام وقلة ورع.
كما قال الحسن وسمع قوما يتجادلون: هؤلاء قوم ملوا العبادة وخف عليهم القول وقَلّ.
وقال مهدي بن ميمون:
سمعت محمد بن سيرين وما رآه رجل، ففطن له، فقال: إني أعلم ما يريد إني لو أردت أن أماريك كنت عالماً بأبواب المراء.
وفي رواية قال:
أنا أعلم بالمراء منك ولكني لا أماريك.
وقال إبراهيم النخعي: ما خاصمت قط.
وقال عبد الكريم الحوري: ما خاصم ورع قط.
وقال جعفر بن محمد: إياكم والخصومات في الدين فإنها تشغل القلب، وتورث النفاق.
وكان عمر بن عبد العزيز يقول: إذا سمعت المراء فاقصر.
وقال: من جعل دينه عرضاً للخصومات أكثر التنقل.
وقال: إن السابقين عن علم وقفوا وببصر نافذ كفوا وكانوا هم أقوى على البحث لو بحثوا. وكلام السلف في هذا المعنى كثير جداً.
وقد فتن كثير من المتأخرين بهذا فظنوا أن مَنْ كثر كلامه وجداله وخصامه في مسائل الدين فهو أعلم ممن ليس كذلك.
وهذا جهل محض.
وانظر إلى أكابر الصحابة وعلمائهم كأبي بكر وعمر وعلي ومعاذ وابن مسعود وزيد بن ثابت كيف كان كلامهم أقل من كلام ابن عباس وهم أعلم منه.
وكذلك كلام التابعين:
أكثر من كلام الصحابة والصحابة أعلم منهم
وكذلك تابعوا التابعين:
كلامهم أكثر من كلام التابعين والتابعون أعلم منهم.
فليس العلم بكثرة الرواية ولا بكثرة المقال
ولكنه نور يقذف في القلب يفهم به العبد الحق ويميز به بينه وبين الباطل ويعبر عن ذلك بعبارات وجيزة محصلة للمقاصد.
وقد كان النبي صلي الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم واختصر له الكلام اختصاراً
ولهذا ورد النهي عن كثرة الكلام والتوسع في القيل والقال.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :
(إن اللَه لم يبعث نبيا إلا مبلغاً وإن تشقيق الكلام من الشيطان)
يعني:
أن النبي إنما يتكلم بما يحصل به البلاغ
وأما كثرة القول وتشقيق الكلام فإنه مذموم.
وكانت خطب النبي صلى الله عليه وسلم قصداً.
وكان يحدث حديثاً لو عده العاد لأحصاه
وقال:
(إن من البيان سحراً)
وإنما قاله:
في ذم ذلك لا مدحاً له كما ظن ذلك من ظنه ومن تأمل سياق ألفاظ الحديث قطع بذلك.
وفي الترمذي وغيره عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً :
(إن اللَه ليبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة بلسانها)
وفي المعنى أحاديث كثيرة مرفوعة وموقوفة على عمر وسعد وابن مسعود وعائشة وغيرهم من الصحابة.
فيجب أن يعتقد:
أنه ليس كل من كثر بسطة للقول وكلامه في العلم كان أعلم ممن ليس كذلك.
وقد ابتلينا بجهلة من الناس:
يعتقدون في بعض من توسع في القول من المتأخرين انه أعلم ممن تقدم.
فمنهم :
من يظن في شخص أنه أعلم من كل من تقدم من الصحابة ومن بعدهم لكثرة بيانه ومقاله.
ومنهم:
من يقول هو أعلم من الفقهاء المشهورين المتبوعين.
وهذا يلزم منه ما قبله:
لأن هؤلاء الفقهاء المشهورين المتبوعين
أكثر قولا ممن كان قبلهم
فإذا كان من بعدهم أعلم منهم لاتساع قوله كانوا أعلم ممن كان أقل منهم قولا بطريق الأولى كالثوري والأوزاعي والليث وابن المبارك وطبقتهم وممن قبلهم من التابعين والصحابة أيضاً.
فإن هؤلاء كلهم أقل كلاماً ممن جاء بعدهم.
وهذا:
1- تنقص عظيم بالسلف الصالح.
2- وإساءة ظن بهم.
3- ونسبته لهم إلى الجهل.
4- وقصور العلم.
ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولقد صدق ابن مسعود في قوله في الصحابة: أنهم أبر الأمة قلوباً، وأعمقها علوماً، وأقلها تكلفاً.
وروي نحوه عن ابن عمر أيضاً.
وفي هذا إشارة إلى:
أن من بعدهم أقل علوماً وأكثر تكلفاً.
وقال ابن مسعوداً أيضاً:
( إنكم في زمان كثير علماؤه قليل خطباؤه وسيأتي بعدكم زمان قليل علماؤه كثير خطباؤه فمن كثر علمه وقل قوله فهو الممدوح ومن كان بالعكس فهو مذموم.)
وقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم لأهل اليمن بالإيمان والفقه:
وأهل اليمن أقل الناس كلاماً وتوسعاً في العلوم لكن علمهم علم نافع في قلوبهم ويعبرون بألسنتهم عن القدر المحتاج إليه من ذلك.
وهذا هو الفقه والعلم النافع:
فأفضل العلوم في تفسير القرآن ومعاني الحديث والكلام في الحلال والحرام ما كان مأثوراً عن الصحابة والتابعين وتابعيهم إلى أن ينتهي إلى أئمة الإسلام المشهورين المقتدى بهم الذين سميناهم فيما سبق.
فضبط ما روي عنهم في ذلك أفضل العلوم مع تفهمه وتعقله والتفقه فيه.
وما حدث بعدهم من التوسع:
لا خير في كثير منه
إلا أن يكون:
شرحاً لكلام يتعلق من كلامهم
وأما ما كان مخالفاً لكلامهم:
1- فأكثره باطل.
2- أو لا منفعة فيه.
وفي كلامهم في ذلك كفاية وزيادة:
1- فلا يوجد في كلام من بعدهم من حق إلا وهو في كلامهم موجود بأوجز لفظ وأخصر عبارة.
2- ولا يوجد في كلام من بعدهم من باطل إلا وفي كلامهم ما يبين بطلانه لمن فهمه وتأمله.
3- ويوجد في كلامهم من المعاني البديعة والمآخذ الدقيقة مالا يهتدي إليه من بعدهم ولا يلم يه.
فمن لم يأخذ العلم من كلامهم فاته ذلك الخير كله مع ما يقع في كثير من الباطل متابعة لمن تأخر عنهم.
ويحتاج من أراد جمع كلامهم إلى:
1- معرفة صحيحة من سقيمه: وذلك بمعرفة الجرح والتعديل والعلل فمن لم يعرف ذلك فهو غير واثق بما ينقله من ذلك ويلتبس عليه حقه بباطله، ولا يثق بما عنده من ذلك كما يرى من قل علمه بذلك لا يثق بما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن السلف لجهله بصحيحه من سقيمه فهو لجهله يجوز أن يكون كله باطلا لعدم معرفته بما يعرف به صحيح ذلك وسقيمه.
قال الأوزاعي: العلم ما جاء به أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فما كان غير ذلك فليس بعلم.
وكذا قال الإمام أحمد وقال في التابعين: أنت مخير. يعنى مخيرا في كتابته وتركه.
وقد كان الزُهري يكتب ذلك وخالفه صالح بن كيسان ثم ندم على تركه كلام التابعين.
وفي زماننا يتعين كتابة كلام أئمة السلف المقتدى بهم إلى زمن الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد:
وليكن الإنسان على حذر مما حدث بعدهم فإنه حدث بعدهم حوادث كثيرة وحدث من انتسب إلى متابعة السنة والحديث من الظاهرية ونحوهم وهو أشد مخالفة لها لشذوذه عن الأئمة وانفراده عنهم بفهم يفهمه أو يأخذ مالم يأخذ به الأئمة من قبله.
فأما الدخول مع ذلك في كلام المتكلمين أو الفلاسفة فشر محض
وقَلَّ مَنْ دخل في شيء من ذلك إلا وتلطخ ببعض أوضارهم كما قال أحمد: لا يخلو من نظر في الكلام من أن يتجهم.
وكان هو وغيره من أئمة السلف يحذرون من أهل الكلام وإن ذبوا عن السنة.
وأما ما يوجد في كلام من أحب الكلام المحدث واتبع أهله:
مِنْ ذم من لا يتوسع في الخصومات والجدال ونسبته إلى:
1- الجهل.
2- أو إلى الحشو.
3- أو إلى أنه غير عارف بالله.
4- أو غير عارف بدينه.
فكل ذلك من خطوات الشيطان نعوذ باللَه منه.
يتبع
في رسالة ابن رجب
"فضل علم السلف على علم الخلف"
د. فؤاد بن يحيى الهاشمي
تقوم الرسالة على تقرير معنيين اثنين أشار إليهما الحافظ في مطلع رسالته، وهما:
1- معنى العلم وانقسامه إلى علم نافع وعلم غير نافع.
2- التنبيه على فضل علم السلف على علم الخلف.
-------------------------
بين الحافظ ابن رجب أن الله تعالى ذكر في كتابه "العلمَ":
1- تارة في مقام المدح وهو العلم النافع.
2- وتارة في مقام الذم وهو العلم الذي لا ينفع.
والعلم النافع على قسمين:
1- العلم النافع الذي ينتفع به صاحبه.
2- العلم النافع في نفسه لكنه لم ينتفع به صاحبه.
فالقسم الأول: العلم النافع الذي ينتفع به صاحبه:
· فمثل قوله تعالى (قُل هَل يَستَوي الَّذينَ يَعلَمونَ وَالَّذينَ لا يَعلَمون)
· وقوله (شَهِدَ اللَهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلّا هُوَ وَالمَلائِكَة وَأُولوا العِلمَ قائِماً بِالقِسط)
· وقوله (وَقُل رَبِّ زِدني عِلماً)
· وقوله (إِنَّما يَخشى اللَهَ مِن عِبادِهِ العُلَماءُ)
· وما قص سبحانه من قصة آدم وتعليمه الأسماء وعرضهم على الملائكة وقولهم (سُبحانَكَ لا عِلمَ لَنا إِلّا ما عَلَّمتَنا إِنَّكَ أَنتَ العَليمُ الحَكيم).
· وما قصه سبحانه وتعالى من قصة موسى عليه السلام وقوله للخضر (هَل أَتَّبِعُكَ عَلى أَن تُعَلِمَني مِمّا عُلِّمتَ رُشدا)
فهذا هو العلم النافع .
القسم الثاني: العلم النافع في نفسه لكنه لم ينتفع به صاحبه:
وقد أخبر عن قوم أنهم أوتوا علماً ولم ينفعهم علمهم، فهذا علم نافع في نفسه لكن صاحبه لم ينتفع به:
· قال تعالى (مَثَلُ الَّذينَ حُمِّلوا التَوراةَ ثُمَّ لَم يَحمِلوها كَمَثَلِ الحِمارِ يَحمِلُ أَسفارا)
· وقال (وَاِتلُ عَلَيهِم نَبَأَ الَّذي آتَيناهُ آياتِنا فَاِنسَلَخَ مِنها فَأَتبَعَهُ الشَيطانُ فَكانَ مِنَ الغاوينَ وَلَو شِئنا لَرَفَعناهُ بِها وَلَكِنَّهُ أَخلَدَ إِلى الأَرضِ وَإِتَّبَعَ هَواهُ)
· وقال تعالى (فَخَلَفَ مِن بَعدَهُم خَلفَ وَرِثوا الكِتابَ يَأخُذونَ عَرَضَ هذا الأَدنى وَيَقولونَ سَيُغفَرُ لَنا وَإِن يَأتِهِم عَرَضٌ مِثلُهُ يَأخُذوهُ أَلَم يُؤخَذ عَلَيهِم ميثاقُ الكِتابِ أَلّا يَقولوا عَلى اللَهِ إِلّا الحَقَّ وَدَرَسوا ما فيهِ وَالدارُ الآخِرَةُ خَيرٌ لِلَّذينَ يَتَّقون) الآية
· وقال (وَأَضَلَّهُ اللَهُ عَلى عِلمٍ) على تأويل من تأول الآية على علم عند من أضله الله.
وأما الثاني: فهو العلم الذي ذكره الله تعالى على جهة الذم له:
· فقوله في السحر (وَيَتَعَلَّمون ما يَضُرُّهُم وَلا يَنفَعُهُم وَلَقَد عَلِموا لَمَنِ اِشتَراهُ مالَهُ في الآخِرَةِ مِن خَلاقٍ)
· وقوله (فَلَمّا جاءَتهُم رُسُلُهُم بِالبَيِّناتِ فَرِحوا بِما عِندَهُم مِنَ العِلمِ وَحاقَ بِهِم ما كانوا بِهِ يَستَهزِئون)
· وقوله تعالى (يَعلَمونَ ظاهِراً مِنَ الحَياةِ الدُنيا وَهُم عَن الآخِرَةِ هُم غافِلون).
ولذلك جاءت السنة بتقسيم العلم:
1- إلى نافع.
2- وإلى غير نافع.
وجاءت كذلك بـ :
1- الاستعاذة من العلم الذي لا ينفع.
2- وسؤال العلم النافع.
ففي صحيح مسلم عن زيد بن أرقم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول:
(اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها).
خرجه أهل السنن من وجوه متعددة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي بعضها : (ومن دعاء لا يسمع)، وفي بعضها: ( أعوذ بك من هؤلاء الأربع ).
وخرج النسائي من حديث جابر أن النبي صلي الله عليه وسلم كان يقول :
(اللهم إني أسألك علماً نافعاً وأعوذ بك من علم لا ينفع)
وخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول :
(اللهم انفعني بما علمتني وعلمني ما ينفعني وزدني علماً)
وخرج النسائي من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو :
(اللهم انفعني بما علمتني وعلمني ما ينفعني وارزقني علماً تنفعني به)
وخرج أبو نعيم من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول :
(اللهم إنّا نسألك إيماناً دائماً فرب إيمان غير دائم، وأسألك علماً نافعاً فرب علم غير نافع)
وخرج أبو داود من حديث بُريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(إنَّ منَ البيان سحراً وإن من العلم جهلاً)
1- وإن صعصعة بن صوحان فسر قوله :(إن من العلم جهلاً):
أن يتكلف العالم إلى علمه مالا يعلم فيجهله ذلك.
2- ويُفسر أيضا :
بأن العلم الذي يضر ولا ينفع جهل؛ لأن الجهل به خير من العلم به فإذا كان الجهل به خيراً منه فهو شر من الجهل وهذا كالسحر وغيره من العلوم المضرة في الدين أو في الدنيا.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم تفسير بعض العلوم التي لا تنفع:
ففي مراسيل أبي داود: عن زيد بن أسلم قال: ( قيل يا رسول الله ما أعلمَ فلانا قال: بم. قالوا: بأنساب الناس. قال: علم لا ينفع وجهالة لا تضر.)
وخرجه أبو نعيم في كتاب رياض المتعلمين من حديث بقية عن ابن جريج عن عطاء عن أبي هريرة مرفوعا وفيه أنَّهم قالوا:
(أعلم الناس بأنساب العرب وأعلم الناس بالشعر وبما اختلفت فيه العرب )
وزاد في آخره: ( العلم ثلاثة ما خلاهن فهو فضل: آية محكمة، أو سنة قائمة، أو فريضة عادلة).
وهذا الإسناد لا يصح وبقية دَلَّسهُ عن غير ثقة.
وآخر الحديث خرجه أبو داود وابن ماجه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا:
( العلم ثلاثة ما سوى ذلك فهو فضل: آية محكمة، أو سنة قائمة، أو فريضة عادلة)
وفي إسناده عبد الرحمن بن زياد الإفريقي وفيه ضعف مشهور.
وقد ورد الأمر:
بأن يُتعلم من الأنساب ما توصل به الأرحام من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم)
أخرجه الإمام احمد والترمذي.
وخرجه حميد بن زنجويه من طريق آخر عن أبي هريرة مرفوعا: (تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم ثم انتهوا وتعلموا من العربية ما تعرفون به كتاب الله ثم انتهوا وتعلموا من النجوم ما تهتدون به في ظلمات البر والبحر ثم انتهوا)
وفي إسناد روايته ابن لُهَيعة.
وخرج أيضاً من رواية نعيم بن أبي هند قال: قال عمر: (تعلموا من النجوم ما تهتدون به في بركم وبحركم ثم امسكوا وتعلموا من النسبة ما تصلون به أرحامكم وتعلموا ما يحل لكم من النساء ويحرم عليكم ثم انتهوا )
وروى مسعر عن محمد ابن عبد الله قال قال عمر بن الخطاب : (تعلموا من النجوم ما تعرفون به القبلة والطريق).
وكان النخعي لا يرى بأساً أن يتعلم الرجل من النجوم ما يهتدي به.
ورخص في تعلم منازل القمر أحمد وإسحق ويتعلم من أسماء النجوم ما يهتدي به.
وكره قتادة تعلم منازل القمر: ولم يرخص ابن عيينه فيه ذكره حرب عنهما.
وقال طاوس: رب ناظر في النجوم ومتعلم حروف أبي جاد ليس له عند الله خلاق خرجه حرب. وخرجه حميد بن زنجويه من رواية طاوس عن ابن عباس.
وهذا محمول على علم التأثير لا علم التسيير فان علم التأثير باطل محرم وفيه ورد الحديث المرفوع : (ومن اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر). خرجه أبو داود من حديث ابن عباس مرفوعا
وخرج أيضاً من حديث قبيصة مرفوعاً: (العيافة والطِيَرة والطرق من الجبت)
والعيافة: زجر الطير.
والطرق: الخط في الأرض.
فعلم تأثير النجوم:
باطل محرم والعمل بمقتضاه كالتقرب إلى النجوم وتقريب القرابين لها كفر.
وأما علم التسيير:
فإذا تعلم منه ما يحتاج إليه للإهتداء ومعرفة القبلة والطرق كان جائزاً عند الجمهور.
وما زاد عليه فلا حاجة إليه وهو يشغل عما هو أهم منه
وربما أدى التدقيق فيه إلى إساءة الظن بمحاريب المسلمين في أمصارهم كما وقع ذلك كثيراً من أهل هذا العلم قديماً وحديثاً وذلك يفضي إلى اعتقاد خطأ الصحابة والتابعين في صلاتهم في كثير من الأمصار وهو باطل.
وقد أنكر الأمام أحمد الاستدلال بالجدي وقال: إنما ورد ما بين المشرق والمغرب قبلة: يعني لم يرد اعتبار الجدي ونحوه من النجوم.
وقد أنكر ابن مسعود على كعب قوله أن الفلك تدور
وأنكر ذلك مالك وغيره
وأنكر الإمام أحمد على المنجمين قولهم: أن الزوال يختلف في البلدان.
وقد يكون إنكارهم أو إنكار بعضهم لذلك لأن الرسل لم تتكلم في هذا وإن كان أهله يقطعون به وإن كان الاشتغال به ربما أدى إلى فساد عريض.
وقد اعترض بعض من كان يعرف هذا:
على حديث النزول ثلث الليل الآخر.
وقال:
ثلث الليل يختلف باختلاف البلدان فلا يمكن أن يكون النزول في وقت معين.
ومعلوم بالضرورة من دين الإسلام قبح هذا الاعتراض وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أو خلفاءه الراشدين لو سمعوا من يعترض به لما ناظروه بل بادروا إلى عقوبته وإلحاقه بزمرة المخالفين المنافقين المكذبين.
وكذلك التوسع في علم الأنساب هو مما لا يحتاج إليه:
وقد سبق عن عمر وغيره النهي عنه مع أن طائفة من الصحابة والتابعين كانوا يعرفونه ويعتنون به.
وكذلك التوسع في علم العربية لغة ونحواً:
هو مما يشغل عن العلم الأهم والوقوف معه يحرم علماً نافعاً.
وقد كره القاسم بن مخيمرة علم النحو وقال: أوله شغل وآخره بغي.
وأراد به: التوسع فيه.
ولذلك كره أحمد التوسع في معرفة اللغة وغريبها وأنكر على أبي عبيدة توسعه في ذلك وقال: هو يشغل عما هو أهم منه.
ولهذا يقال: إن العربية في الكلام كالملح في الطعام.
يعني: أنه يؤخذ منها ما يصلح الكلام كما يؤخذ من الملح ما يصلح الطعام وما زاد على ذلك فإنه يفسده.
وكذلك علم الحساب:
يحتاج منه إلى ما يعرف به حساب ما يقع من قسمة الفرائض والوصايا والأموال التي تقسم بين المستحقين لها.
والزائد على ذلك مما لا ينتفع به إلا في مجرد رياضة الأذهان وصقالها لا حاجة إليه ويشغل عما هو أهم منه.
وأما ما أحدث بعد الصحابة من العلوم التي توسع فيها أهلها وسموها علوما وظنوا أن من لم يكن عالماً بها فهو جاهل أو ضال:
فكلها بدعة وهي من محدثات الأمور المنهي عنها.
فمن ذلك ما أحدثته المعتزلة من الكلام في القدر وضرب الأمثال للَّه.
وقد ورد النهي عن الخوض في القدر
ومنها :
الخوض في سر القدر.
وقد ورد النهي عنه عن علي وغيره من السلف فإن العباد لا يطلعون على حقيقة ذلك.
ومن ذلك أعني محدثات الأمور:
ما أحدثه المعتزلة ومن حذا حذوهم من الكلام في ذات الله تعالى وصفاته بأدلة العقول
وهو أشد خطراً من الكلام في القدر
لأن الكلام في القدر كلام في أفعاله وهذا كلام في ذاته وصفاته.
وينقسم هؤلاء إلى قسمين:
أحدهما: من نفى كثيراً مما ورد به الكتاب والسنة من ذلك لاستلزامه عنده للتشبيه بالمخلوقين
كقول المعتزلة: لو رأي لكان جسما لأنه لا يرى إلا في جهة:
وقولهم: لو كان له كلام يسمع لكان جسما.
ووافقهم:
من نفى الاستواء فنفوه لهذه الشبهة: وهذا طريق المعتزلة والجهمية.
وقد اتفق السلف على تبديعهم وتضليلهم.
وقد سلك سبيلهم في بعض الأمور كثير ممن انتسب إلى السنة والحديث من المتأخرين.
والثاني:
من رام إثبات ذلك بأدلة العقول التي لم يرد بها الأثر
ورد على أولئك مقالتهم
كما هي طريقة مقاتل بن سليمان ومن تابعه كنوح بن أبي مريم وتابعهم طائفة من المحدثين قديماً وحديثاً.
وهو أيضاً:
مسلك الكرامية:
فمنهم:
من أثبت لإثبات هذه الصفات الجسم إما لفظا وإما معنى.
ومنهم:
من أثبت للَّه صفات لم يأت بها الكتاب والسنة كالحركة وغير ذلك مما هي عنده لازم الصفات الثابتة.
وقد أنكر السلف :
على مقاتل قوله في رده على جهم بأدلة العقل وبالغوا في الطعن عليه.
ومنهم من استحل قتله، منهم مكي بن إبراهيم شيخ البخاري وغيره.
والصواب:
ما عليه السلف الصالح من إمرار آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت من غير تفسير لها ولا تكييف ولا تمثيل.
ولا يصح من أحد منهم خلاف ذلك البتة خصوصاً الإمام أحمد ولا خوض في معانيها ولا ضرب مثل من الأمثال لها.
وإن كان بعض من كان قريباً من زمن الإمام أحمد فيهم من فعل شيئاً من ذلك اتباعاً لطريقة مقاتل فلا يقتدى به في ذلك إنما الإقتداء بأئمة الإسلام كابن المبارك ومالك والثوري والأوزاعي.
والشافعي وأحمد واسحق وأبي عبيد ونحوهم.
وكل هؤلاء لا يوجد في كلامهم شيء من جنس كلام المتكلمين فضلا عن كلام الفلاسفة: ولم يدخل ذلك في كلام من سلم من قدح وجرح
وقد قال أبوزرعة الرازي: كل من كان عنده علم فلم يصن علمه واحتاج في نشره إلى شيء من الكلام فلستم منه.
ومن ذلك - أعني محدثات العلوم - :
ما أحدثه فقهاء الرأي منضوابط وقواعد عقلية وردِّ فروع الفقه إليها ؛ وسواءٌ خالفت السنن أم وافقتها ؛طرداً لتلك القواعد المقرَّرة ، وإن كان أصلها مما تأولوهعلىنصوص الكتاب والسنة ؛ لكن بتأويلات يخالفهم غيرهم فيها، وهذا هو الذي أنكروه من فقهاء أهل الرأي بالحجاز والعراق ، وبالغوا في ذمهوإنكاره.
"فأما الأئمة وفقهاء أهل الحديث:
فإنهم يتبعون الحديث الصحيح حيث كان إذا كان معمولا به عند الصحابة: ومن بعدهم: أو عند طائفة منهم فأما ما اتفق على تركه فلا يجوز العمل به لأنهم ما تركوه إلا على علم أنه لا يعمل به.
قال عمر بن عبد العزيز: خذوا من الرأي ما يوافق من كان قبلكم فإنهم كانوا أعلم منكم.
كما نقل عنه:
أن ما خالف أهل المدينة من الحديث:
فإن مالكا يرى الأخذ بعمل أهل المدينة.
وأن الأكثرين أخذوا بالحديث.
ومما أنكره أئمة السلف الجدال والخصام والمراء في مسائل الحلال والحرام أيضاً:
ولم يكن ذلك طريقة أئمة الإسلام.
وإنما أحدث ذلك بعدهم كما أحدثه فقهاء العراقيين في مسائل الخلاف بين الشافعية والحنفية وصنفوا كتب الخلاف ووسعوا البحث والجدال فيها وكل ذلك محدث ل أصل له وصار ذلك علمهم حتى شغلهم ذلك عن العلم النافع، وقد أنكر ذلك السلف.
وورد في الحديث المرفوع في السنن : (ما ضل قوم بعد هدى إلا أوتوا الجدل ) ثم قرأ: (ما ضَرَبوهُ لَكَ إِلّا جَدَلاً بَل هُم قَومٌ خَصِمون).
وقال بعض السلف: إذا أراد الله بعبد شراً أغلق عنه باب العمل وفتح له باب الجدل.
وقال مالك: أدركت أهل هذه البلدة وإنهم ليكرهون هذا الإكثار الذي فيه الناس اليوم.
يريد المسائل.
وكان يعيب كثرة الكلام والفتيا ويقول: يتكلم أحدهم كأنه جمل مغتلم يقول: هو كذا هو كذا بهدر في كلامه.
وكان يكره الجواب في كثرة المسائل ويقول: قال اللَهُ عز وجل (وَيَسأَلونَكَ عَنِ الرّوحِ قُلِ الرّوحُ مِن أَمرِ رَبّي) فلم يأته في ذلك جواب.
وقيل له: الرجل يكون عالماً بالسنن يجادل عنها؟
قال: لا ولكن يخبر بالسنة فإن قبل منه وإلا سكت.
وقال: المراء والجدال في العلم يذهب بنور العلم.
وقال: المراء في العلم يُقسي القلب ويورث الضعن.
وكان يقول: في المسائل التي يسأل عنها كثيراً لا أدري.
وكان الإمام أحمد يسلك سبيله في ذلك.
وقد ورد النهي عن:
1- كثرة المسائل.
2- وعن أغلوطات المسائل.
3- وعن المسائل قبل وقوع الحوادث.
وفي ذلك ما يطول ذكره.
ومع هذا ففي كلام السلف والأئمة كمالك والشافعي وأحمد وإسحاق:
1- التنبيه على مأخذ الفقه.
2- ومدارك الأحكام.
بكلام وجيز مختصر يفهم به المقصود من غير إطالة ولا إسهاب.
وفي كلامهم من رد الأقوال المخالفة للسنة بألطف إشارة وأحسن عبارة بحيث يغني ذلك من فهمه عن إطالة المتكلمين في ذلك بعدهم
بل ربما لم يتضمن تطويل كلام من بعدهم من الصواب في ذلك ما تضمنه كلام السلف والأئمة مع اختصاره وإيجازه.
فما سكت مَنْ سكت مِنْ كثرة الخصام والجدال مِنْ سلف الأمة جهلا ولا عجزاً
ولكن سكتوا عن علم وخشية للَّه.
وما تكلم من تكلم وتوسع من توسع بعدهم لاختصاصه بعلم دونهم
ولكن حباً للكلام وقلة ورع.
كما قال الحسن وسمع قوما يتجادلون: هؤلاء قوم ملوا العبادة وخف عليهم القول وقَلّ.
وقال مهدي بن ميمون:
سمعت محمد بن سيرين وما رآه رجل، ففطن له، فقال: إني أعلم ما يريد إني لو أردت أن أماريك كنت عالماً بأبواب المراء.
وفي رواية قال:
أنا أعلم بالمراء منك ولكني لا أماريك.
وقال إبراهيم النخعي: ما خاصمت قط.
وقال عبد الكريم الحوري: ما خاصم ورع قط.
وقال جعفر بن محمد: إياكم والخصومات في الدين فإنها تشغل القلب، وتورث النفاق.
وكان عمر بن عبد العزيز يقول: إذا سمعت المراء فاقصر.
وقال: من جعل دينه عرضاً للخصومات أكثر التنقل.
وقال: إن السابقين عن علم وقفوا وببصر نافذ كفوا وكانوا هم أقوى على البحث لو بحثوا. وكلام السلف في هذا المعنى كثير جداً.
وقد فتن كثير من المتأخرين بهذا فظنوا أن مَنْ كثر كلامه وجداله وخصامه في مسائل الدين فهو أعلم ممن ليس كذلك.
وهذا جهل محض.
وانظر إلى أكابر الصحابة وعلمائهم كأبي بكر وعمر وعلي ومعاذ وابن مسعود وزيد بن ثابت كيف كان كلامهم أقل من كلام ابن عباس وهم أعلم منه.
وكذلك كلام التابعين:
أكثر من كلام الصحابة والصحابة أعلم منهم
وكذلك تابعوا التابعين:
كلامهم أكثر من كلام التابعين والتابعون أعلم منهم.
فليس العلم بكثرة الرواية ولا بكثرة المقال
ولكنه نور يقذف في القلب يفهم به العبد الحق ويميز به بينه وبين الباطل ويعبر عن ذلك بعبارات وجيزة محصلة للمقاصد.
وقد كان النبي صلي الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم واختصر له الكلام اختصاراً
ولهذا ورد النهي عن كثرة الكلام والتوسع في القيل والقال.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :
(إن اللَه لم يبعث نبيا إلا مبلغاً وإن تشقيق الكلام من الشيطان)
يعني:
أن النبي إنما يتكلم بما يحصل به البلاغ
وأما كثرة القول وتشقيق الكلام فإنه مذموم.
وكانت خطب النبي صلى الله عليه وسلم قصداً.
وكان يحدث حديثاً لو عده العاد لأحصاه
وقال:
(إن من البيان سحراً)
وإنما قاله:
في ذم ذلك لا مدحاً له كما ظن ذلك من ظنه ومن تأمل سياق ألفاظ الحديث قطع بذلك.
وفي الترمذي وغيره عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً :
(إن اللَه ليبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة بلسانها)
وفي المعنى أحاديث كثيرة مرفوعة وموقوفة على عمر وسعد وابن مسعود وعائشة وغيرهم من الصحابة.
فيجب أن يعتقد:
أنه ليس كل من كثر بسطة للقول وكلامه في العلم كان أعلم ممن ليس كذلك.
وقد ابتلينا بجهلة من الناس:
يعتقدون في بعض من توسع في القول من المتأخرين انه أعلم ممن تقدم.
فمنهم :
من يظن في شخص أنه أعلم من كل من تقدم من الصحابة ومن بعدهم لكثرة بيانه ومقاله.
ومنهم:
من يقول هو أعلم من الفقهاء المشهورين المتبوعين.
وهذا يلزم منه ما قبله:
لأن هؤلاء الفقهاء المشهورين المتبوعين
أكثر قولا ممن كان قبلهم
فإذا كان من بعدهم أعلم منهم لاتساع قوله كانوا أعلم ممن كان أقل منهم قولا بطريق الأولى كالثوري والأوزاعي والليث وابن المبارك وطبقتهم وممن قبلهم من التابعين والصحابة أيضاً.
فإن هؤلاء كلهم أقل كلاماً ممن جاء بعدهم.
وهذا:
1- تنقص عظيم بالسلف الصالح.
2- وإساءة ظن بهم.
3- ونسبته لهم إلى الجهل.
4- وقصور العلم.
ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولقد صدق ابن مسعود في قوله في الصحابة: أنهم أبر الأمة قلوباً، وأعمقها علوماً، وأقلها تكلفاً.
وروي نحوه عن ابن عمر أيضاً.
وفي هذا إشارة إلى:
أن من بعدهم أقل علوماً وأكثر تكلفاً.
وقال ابن مسعوداً أيضاً:
( إنكم في زمان كثير علماؤه قليل خطباؤه وسيأتي بعدكم زمان قليل علماؤه كثير خطباؤه فمن كثر علمه وقل قوله فهو الممدوح ومن كان بالعكس فهو مذموم.)
وقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم لأهل اليمن بالإيمان والفقه:
وأهل اليمن أقل الناس كلاماً وتوسعاً في العلوم لكن علمهم علم نافع في قلوبهم ويعبرون بألسنتهم عن القدر المحتاج إليه من ذلك.
وهذا هو الفقه والعلم النافع:
فأفضل العلوم في تفسير القرآن ومعاني الحديث والكلام في الحلال والحرام ما كان مأثوراً عن الصحابة والتابعين وتابعيهم إلى أن ينتهي إلى أئمة الإسلام المشهورين المقتدى بهم الذين سميناهم فيما سبق.
فضبط ما روي عنهم في ذلك أفضل العلوم مع تفهمه وتعقله والتفقه فيه.
وما حدث بعدهم من التوسع:
لا خير في كثير منه
إلا أن يكون:
شرحاً لكلام يتعلق من كلامهم
وأما ما كان مخالفاً لكلامهم:
1- فأكثره باطل.
2- أو لا منفعة فيه.
وفي كلامهم في ذلك كفاية وزيادة:
1- فلا يوجد في كلام من بعدهم من حق إلا وهو في كلامهم موجود بأوجز لفظ وأخصر عبارة.
2- ولا يوجد في كلام من بعدهم من باطل إلا وفي كلامهم ما يبين بطلانه لمن فهمه وتأمله.
3- ويوجد في كلامهم من المعاني البديعة والمآخذ الدقيقة مالا يهتدي إليه من بعدهم ولا يلم يه.
فمن لم يأخذ العلم من كلامهم فاته ذلك الخير كله مع ما يقع في كثير من الباطل متابعة لمن تأخر عنهم.
ويحتاج من أراد جمع كلامهم إلى:
1- معرفة صحيحة من سقيمه: وذلك بمعرفة الجرح والتعديل والعلل فمن لم يعرف ذلك فهو غير واثق بما ينقله من ذلك ويلتبس عليه حقه بباطله، ولا يثق بما عنده من ذلك كما يرى من قل علمه بذلك لا يثق بما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن السلف لجهله بصحيحه من سقيمه فهو لجهله يجوز أن يكون كله باطلا لعدم معرفته بما يعرف به صحيح ذلك وسقيمه.
قال الأوزاعي: العلم ما جاء به أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فما كان غير ذلك فليس بعلم.
وكذا قال الإمام أحمد وقال في التابعين: أنت مخير. يعنى مخيرا في كتابته وتركه.
وقد كان الزُهري يكتب ذلك وخالفه صالح بن كيسان ثم ندم على تركه كلام التابعين.
وفي زماننا يتعين كتابة كلام أئمة السلف المقتدى بهم إلى زمن الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد:
وليكن الإنسان على حذر مما حدث بعدهم فإنه حدث بعدهم حوادث كثيرة وحدث من انتسب إلى متابعة السنة والحديث من الظاهرية ونحوهم وهو أشد مخالفة لها لشذوذه عن الأئمة وانفراده عنهم بفهم يفهمه أو يأخذ مالم يأخذ به الأئمة من قبله.
فأما الدخول مع ذلك في كلام المتكلمين أو الفلاسفة فشر محض
وقَلَّ مَنْ دخل في شيء من ذلك إلا وتلطخ ببعض أوضارهم كما قال أحمد: لا يخلو من نظر في الكلام من أن يتجهم.
وكان هو وغيره من أئمة السلف يحذرون من أهل الكلام وإن ذبوا عن السنة.
وأما ما يوجد في كلام من أحب الكلام المحدث واتبع أهله:
مِنْ ذم من لا يتوسع في الخصومات والجدال ونسبته إلى:
1- الجهل.
2- أو إلى الحشو.
3- أو إلى أنه غير عارف بالله.
4- أو غير عارف بدينه.
فكل ذلك من خطوات الشيطان نعوذ باللَه منه.
يتبع