ابو وليد البحيرى
2024-06-15, 10:03 AM
صِفَةِ النَّحْرِ وَالذَّبْحِ
يوسف بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن السيف
قَالَ الْمُصَنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ-: [وَالسُّنَّةُ نَحْرُ الْإِبِلِ قَائِمَةً مَعْقُولَةً يَدُهَا الْيُسْرَى فَيَطْعَنُهَا بِالْحَرْبَةِ فِي الْوَهْدَةِ الَّتِي بَيْنَ أَصْلِ الْعُنُقِ وَالصَّدْرِ، وَيَذْبَحُ غَيْرَهَا، وَيَجُوزُ عَكْسُهَا. وَيَقُولُ: بِسْمِ اللهِ وَاللهُ أَكْبَرُ اللَّهُمَّ هَذَا مِنْكَ وَلَكَ، وَيَتَوَلَّاهَا صَاحِبُهَا، أَوْ يُوَكِّلُ مُسْلِمًا وَيَشْهَدُهَا. وَوَقْتُ الذَّبْحِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ أَوْ قَدْرُهُ إِلَى يَوْمَيْنِ بَعْدَهُ، وَيُكْرَهُ فِي لَيْلَتَيْهِمَا ؛ فَإِنْ فَاتَ قَضَى وَاجِبَهُ].
أَشَارَ الْمُصَنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ- هُنَا إِلَى صِفَةِ النَّحْرِ وَالذَّبْحِ؛ فَالنَّحْرُ لِلْإِبِلِ، وَالذَّبُحُ لِلْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، وَذَكَرَ غَيْرَهَا مِنَ الْأَحْكَامِ.
وَالْكَلَامُ هُنَا فِي فُرُوعٍ:
الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: صِفَةُ التَّضْحِيَّةِ بِبَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ (الذَّبْحُ وَالنَّحْرُ).
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: السُّنَّةُ نَحْرُ الْإِبِلِ. وَهَذَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ: (وَالسُّنَّةُ نَحْرُ الْإِبِلِ قَائِمَةً مَعْقُودَةً يَدُهَا الْيُسْرَى؛ فَيَطْعَنُهَا فِي الْوَهْدَةِ الَّتِي بَيْنَ أَصْلِ الْعُنُقِ وَالصَّدْرِ).
فَذَكَرَ أَنَّ السُّنَّةَ نَحْرُ الْإِبِلِ قَائِمَةً مَعْقُولَةً؛ أَيْ: مَرْبُوطَةً يَدُهَا الْيُسْرَى؛ لِأَنَّ الذَّابِحَ يَأْتِيهَا مِنَ الْجِهَةِ الْيُمْنَى، فَيَطْعَنُهَا بِالسِّكِّينِ أَوِ الْحَرْبَةِ، وَأَنْ يَكُونَ النَّحْرُ فِي الْوَهْدَةِ الَّتِي بَيْنَ أَصْلِ الْعُنُقِ وَالصَّدْرِ؛ لِأَنَّ هَذَا أَسْهَلُ لِخُرُوجِ رُوحِهَا، وَهَذَا إِذَا تَيَسَّرَ، فَإِنْ لَمْ يَتَيَسَّرْ فَلَا حَرَجَ أَنْ يَنْحَرَهَا كَيْفَمَا شَاءَ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِهَا تُنْحَرُ قَائِمَةً قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ﴾ [الحج: 36]، وَمَعْنَى: ﴿ وَجَبَتْ ﴾؛ أَيْ: سَقَطَتْ عَلَى الْأَرْضِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا فِعْلُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ فَقَدْ رَوَى زِيَادُ بْنُ جُبَيْرٍ قال: «رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَتَى عَلَى رَجُلٍ قَدْ أَنَاخَ بَدَنَتَهُ يَنْحَرُهَا قَالَ: ابْعَثْهَا قِيَامًا مُقَيَّدَةً سُنَّةَ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-»[1].
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: السُّنَّةُ ذَبْحُ غَيْرِ الْإِبِلِ. وَهَذَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ: (وَيَذْبَحُ غَيْرَهَا).
أَيْ: وَالسُّنَّةُ ذَبْحُ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، وَتَكُونُ عَلَى جَنْبِهَا الْأَيْسَرِ مُوَجَّهَةً إِلَى الْقِبْلَةِ؛ لِعُمُومِ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً ﴾ [البقرة: 67]، وَلِحَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «ضَحَّى النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بكَبْشَيْنِ أمْلَحَيْنِ أقْرَنَيْنِ، ذَبَحَهُما بيَدِهِ، وسَمَّى وكَبَّرَ، ووَضَعَ رِجْلَهُ علَى صِفَاحِهِمَا»[2].
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: حُكْمُ ذَبْحِ الْإِبِلِ، وَنَحْرِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ. وَهَذَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ: (وَيَجُوزُ عَكْسُهَا).
أَيْ: وَيَجُوزُ ذَبْحُ مَا يُنْحَرُ، أَوْ نَحْرُ مَا يُذْبَحُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَجَاوَزْ مَحَلَّ الذَّكَاةِ، وَلِعُمُومِ حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَكُلْ»[3].
الْفَرْعُ الثَّانِي: مَا يُقَالُ عِنْدَ الذَّبْحِ أَوِ النَّحْرِ. وَهَذَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ: (وَيَقُولُ: بِسْمِ اللهِ وَاللهُ أَكْبَرُ اللَّهُمَّ هَذَا مِنْكَ وَلَكَ).
وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: حُكْمُ التَّسْمِيَةِ عَلَى الْهَدْيِ أَوِ الْأُضْحِيَّةِ. وَهَذَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ: (وَيَقُولُ: بِسْمِ اللهِ).
أَيْ: وَيَقُولُ: بِسْمِ اللهِ وُجُوبًا.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِ التَّسْمِيَةِ عَلَى الذَّبِيحَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّسْمِيَةَ عِنْدَ الذَّبْحِ وَاجِبَةٌ، وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْمَشْهُورُ في الْمَذْهَبِ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاهِيرِ أَهْلِ الْعِلْمِ[4]. وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: ﴿ وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ﴾ [الأنعام: 121]، وَذَكَرُوا بِأَنَّهُ إِذَا نَسِيَ التَّسْمِيَةَ أَوْ جَهِلَهَا فَإِنَّهَا تَحِلُّ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ [الأنعام: 121]، وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَةِ عَلَى رَفْعِ الْإِثْمِ وَالْحَرَجِ بِالنِّسْيَانِ وَالْجَهْلِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ التَّسْمِيَةَ عِنْدَ الذَّبْحِ سُنَّةٌ، وَهَذَا رِوايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ[5]. وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ: «أَنَّ جَارِيَةً لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ تَرْعَى غَنَمًا لَهُ بِالْجُبَيْلِ الَّذِي بِالسُّوقِ، وَهُوَ بِسَلْعٍ؛ فَأُصِيبَتْ شَاةٌ، فَكَسَرَتْ حَجَرًا فَذَبَحَتْهَا بِهِ، فَذَكَرُوا لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَمَرَهُمْ بِأَكْلِهَا»[6]؛ كَمَا اسْتَدَلُّوا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ ذَبَائِحَ أَهْل الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ ﴾ [المائدة: 5]، وَهُمْ لاَ يَذْكُرُونَ التَّسْمِيَةَ. كَمَا اسْتَدَلُّوا: بِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «الْمُسْلِمُ يَكْفِيهِ اسْمُهُ، فَإِنْ نَسِيَ أَنْ يُسَمِّيَ حِينَ يَذْبَحُ فَلْيَذْكُرِ اسْمَ اللهِ وَلْيَأْكُلْهُ» ، وَلَكِنَّهُ ضَعِيفٌ، وَالصَّوَابُ وَقَفْهُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-[7].
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا شَرْطٌ وَلَا تَسْقُطُ بِحَالٍ، لَا سَهْوًا وَلَا عَمْدًا وَلَا جَهْلًا، وَهَذَا مَذْهَبُ الظَّاهِرِيَّةِ ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ[8]، اخْتَارَهَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَغَيْرُهُ[9]، وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ قَوْلِهِ: ﴿ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ [الأنعام: 121]، وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «ما أنْهَرَ الدَّمَ، وذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عليه، فَكُلْ»[10]؛ فَشَرْطُ حِلِّ الْأَكْلِ التَّسْمِيَةُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إِذَا فُقِدَ الشَّرْطُ فُقِدَ الْمَشْرُوطُ، فَإِذَا فُقِدَتِ التَّسْمِيَةُ فَإِنَّهُ يَفْقِدُ الْحِلَّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: حُكْمُ قَوْلِ غَيْرِ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الذَّبْحِ. وَهَذَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ: (وَاللهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ هَذَا مِنْكَ وَلَكَ).
أَمَّا قَوْلُ: (اللهُ أَكْبَرُ)؛ فَهُوَ سُنَّةٌ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: (اللَّهُمَّ هَذَا مِنْكَ وَلَكَ)، فَلِمَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «ذَبَحَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ الذَّبْحِ كَبْشَيْنِ أَقْرَنَيْنِ أَمْلَحَيْنِ مُوجَأَيْنِ، فَلَمَّا وَجَّهَهُمَا قَالَ: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا، وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ، وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ مِنْكَ وَلَكَ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ بِاسْمِ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ ذَبَحَ»[11]. وَمَعْنَى: (اللَّهُمَّ هَذَا مِنْكَ)؛ أَيْ: هَذِهِ الذَّبِيحَةُ مِنْ فَضْلِكَ وَعَطَائِكَ وَرِزْقِكَ. وَمَعْنَى قَوْلِ: (وَلَكَ)؛ أَيْ: إِخْلَاصًا وَتَعَبُّدًا.
فَائِدَةٌ: الَّذِي ثَبَتَ قَوْلُهُ عِنْدَ ذَبْحِ الذَّبِيحَةِ قَوْلُ: (بِسْمِ اللهِ وَاللهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنِّي). كَمَا رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «أَخَذَ الْكَبْشَ فَأَضْجَعَهُ، ثُمَّ ذَبَحَهُ، ثُمَّ قَالَ: بِاسْمِ اللهِ، اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ، وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَمِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ ضَحَّى بِهِ»[12].
يتبع
يوسف بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن السيف
قَالَ الْمُصَنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ-: [وَالسُّنَّةُ نَحْرُ الْإِبِلِ قَائِمَةً مَعْقُولَةً يَدُهَا الْيُسْرَى فَيَطْعَنُهَا بِالْحَرْبَةِ فِي الْوَهْدَةِ الَّتِي بَيْنَ أَصْلِ الْعُنُقِ وَالصَّدْرِ، وَيَذْبَحُ غَيْرَهَا، وَيَجُوزُ عَكْسُهَا. وَيَقُولُ: بِسْمِ اللهِ وَاللهُ أَكْبَرُ اللَّهُمَّ هَذَا مِنْكَ وَلَكَ، وَيَتَوَلَّاهَا صَاحِبُهَا، أَوْ يُوَكِّلُ مُسْلِمًا وَيَشْهَدُهَا. وَوَقْتُ الذَّبْحِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ أَوْ قَدْرُهُ إِلَى يَوْمَيْنِ بَعْدَهُ، وَيُكْرَهُ فِي لَيْلَتَيْهِمَا ؛ فَإِنْ فَاتَ قَضَى وَاجِبَهُ].
أَشَارَ الْمُصَنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ- هُنَا إِلَى صِفَةِ النَّحْرِ وَالذَّبْحِ؛ فَالنَّحْرُ لِلْإِبِلِ، وَالذَّبُحُ لِلْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، وَذَكَرَ غَيْرَهَا مِنَ الْأَحْكَامِ.
وَالْكَلَامُ هُنَا فِي فُرُوعٍ:
الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: صِفَةُ التَّضْحِيَّةِ بِبَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ (الذَّبْحُ وَالنَّحْرُ).
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: السُّنَّةُ نَحْرُ الْإِبِلِ. وَهَذَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ: (وَالسُّنَّةُ نَحْرُ الْإِبِلِ قَائِمَةً مَعْقُودَةً يَدُهَا الْيُسْرَى؛ فَيَطْعَنُهَا فِي الْوَهْدَةِ الَّتِي بَيْنَ أَصْلِ الْعُنُقِ وَالصَّدْرِ).
فَذَكَرَ أَنَّ السُّنَّةَ نَحْرُ الْإِبِلِ قَائِمَةً مَعْقُولَةً؛ أَيْ: مَرْبُوطَةً يَدُهَا الْيُسْرَى؛ لِأَنَّ الذَّابِحَ يَأْتِيهَا مِنَ الْجِهَةِ الْيُمْنَى، فَيَطْعَنُهَا بِالسِّكِّينِ أَوِ الْحَرْبَةِ، وَأَنْ يَكُونَ النَّحْرُ فِي الْوَهْدَةِ الَّتِي بَيْنَ أَصْلِ الْعُنُقِ وَالصَّدْرِ؛ لِأَنَّ هَذَا أَسْهَلُ لِخُرُوجِ رُوحِهَا، وَهَذَا إِذَا تَيَسَّرَ، فَإِنْ لَمْ يَتَيَسَّرْ فَلَا حَرَجَ أَنْ يَنْحَرَهَا كَيْفَمَا شَاءَ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِهَا تُنْحَرُ قَائِمَةً قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ﴾ [الحج: 36]، وَمَعْنَى: ﴿ وَجَبَتْ ﴾؛ أَيْ: سَقَطَتْ عَلَى الْأَرْضِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا فِعْلُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ فَقَدْ رَوَى زِيَادُ بْنُ جُبَيْرٍ قال: «رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَتَى عَلَى رَجُلٍ قَدْ أَنَاخَ بَدَنَتَهُ يَنْحَرُهَا قَالَ: ابْعَثْهَا قِيَامًا مُقَيَّدَةً سُنَّةَ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-»[1].
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: السُّنَّةُ ذَبْحُ غَيْرِ الْإِبِلِ. وَهَذَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ: (وَيَذْبَحُ غَيْرَهَا).
أَيْ: وَالسُّنَّةُ ذَبْحُ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، وَتَكُونُ عَلَى جَنْبِهَا الْأَيْسَرِ مُوَجَّهَةً إِلَى الْقِبْلَةِ؛ لِعُمُومِ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً ﴾ [البقرة: 67]، وَلِحَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «ضَحَّى النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بكَبْشَيْنِ أمْلَحَيْنِ أقْرَنَيْنِ، ذَبَحَهُما بيَدِهِ، وسَمَّى وكَبَّرَ، ووَضَعَ رِجْلَهُ علَى صِفَاحِهِمَا»[2].
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: حُكْمُ ذَبْحِ الْإِبِلِ، وَنَحْرِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ. وَهَذَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ: (وَيَجُوزُ عَكْسُهَا).
أَيْ: وَيَجُوزُ ذَبْحُ مَا يُنْحَرُ، أَوْ نَحْرُ مَا يُذْبَحُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَجَاوَزْ مَحَلَّ الذَّكَاةِ، وَلِعُمُومِ حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَكُلْ»[3].
الْفَرْعُ الثَّانِي: مَا يُقَالُ عِنْدَ الذَّبْحِ أَوِ النَّحْرِ. وَهَذَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ: (وَيَقُولُ: بِسْمِ اللهِ وَاللهُ أَكْبَرُ اللَّهُمَّ هَذَا مِنْكَ وَلَكَ).
وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: حُكْمُ التَّسْمِيَةِ عَلَى الْهَدْيِ أَوِ الْأُضْحِيَّةِ. وَهَذَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ: (وَيَقُولُ: بِسْمِ اللهِ).
أَيْ: وَيَقُولُ: بِسْمِ اللهِ وُجُوبًا.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِ التَّسْمِيَةِ عَلَى الذَّبِيحَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّسْمِيَةَ عِنْدَ الذَّبْحِ وَاجِبَةٌ، وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْمَشْهُورُ في الْمَذْهَبِ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاهِيرِ أَهْلِ الْعِلْمِ[4]. وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: ﴿ وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ﴾ [الأنعام: 121]، وَذَكَرُوا بِأَنَّهُ إِذَا نَسِيَ التَّسْمِيَةَ أَوْ جَهِلَهَا فَإِنَّهَا تَحِلُّ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ [الأنعام: 121]، وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَةِ عَلَى رَفْعِ الْإِثْمِ وَالْحَرَجِ بِالنِّسْيَانِ وَالْجَهْلِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ التَّسْمِيَةَ عِنْدَ الذَّبْحِ سُنَّةٌ، وَهَذَا رِوايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ[5]. وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ: «أَنَّ جَارِيَةً لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ تَرْعَى غَنَمًا لَهُ بِالْجُبَيْلِ الَّذِي بِالسُّوقِ، وَهُوَ بِسَلْعٍ؛ فَأُصِيبَتْ شَاةٌ، فَكَسَرَتْ حَجَرًا فَذَبَحَتْهَا بِهِ، فَذَكَرُوا لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَمَرَهُمْ بِأَكْلِهَا»[6]؛ كَمَا اسْتَدَلُّوا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ ذَبَائِحَ أَهْل الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ ﴾ [المائدة: 5]، وَهُمْ لاَ يَذْكُرُونَ التَّسْمِيَةَ. كَمَا اسْتَدَلُّوا: بِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «الْمُسْلِمُ يَكْفِيهِ اسْمُهُ، فَإِنْ نَسِيَ أَنْ يُسَمِّيَ حِينَ يَذْبَحُ فَلْيَذْكُرِ اسْمَ اللهِ وَلْيَأْكُلْهُ» ، وَلَكِنَّهُ ضَعِيفٌ، وَالصَّوَابُ وَقَفْهُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-[7].
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا شَرْطٌ وَلَا تَسْقُطُ بِحَالٍ، لَا سَهْوًا وَلَا عَمْدًا وَلَا جَهْلًا، وَهَذَا مَذْهَبُ الظَّاهِرِيَّةِ ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ[8]، اخْتَارَهَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَغَيْرُهُ[9]، وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ قَوْلِهِ: ﴿ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ [الأنعام: 121]، وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «ما أنْهَرَ الدَّمَ، وذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عليه، فَكُلْ»[10]؛ فَشَرْطُ حِلِّ الْأَكْلِ التَّسْمِيَةُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إِذَا فُقِدَ الشَّرْطُ فُقِدَ الْمَشْرُوطُ، فَإِذَا فُقِدَتِ التَّسْمِيَةُ فَإِنَّهُ يَفْقِدُ الْحِلَّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: حُكْمُ قَوْلِ غَيْرِ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الذَّبْحِ. وَهَذَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ: (وَاللهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ هَذَا مِنْكَ وَلَكَ).
أَمَّا قَوْلُ: (اللهُ أَكْبَرُ)؛ فَهُوَ سُنَّةٌ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: (اللَّهُمَّ هَذَا مِنْكَ وَلَكَ)، فَلِمَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «ذَبَحَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ الذَّبْحِ كَبْشَيْنِ أَقْرَنَيْنِ أَمْلَحَيْنِ مُوجَأَيْنِ، فَلَمَّا وَجَّهَهُمَا قَالَ: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا، وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ، وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ مِنْكَ وَلَكَ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ بِاسْمِ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ ذَبَحَ»[11]. وَمَعْنَى: (اللَّهُمَّ هَذَا مِنْكَ)؛ أَيْ: هَذِهِ الذَّبِيحَةُ مِنْ فَضْلِكَ وَعَطَائِكَ وَرِزْقِكَ. وَمَعْنَى قَوْلِ: (وَلَكَ)؛ أَيْ: إِخْلَاصًا وَتَعَبُّدًا.
فَائِدَةٌ: الَّذِي ثَبَتَ قَوْلُهُ عِنْدَ ذَبْحِ الذَّبِيحَةِ قَوْلُ: (بِسْمِ اللهِ وَاللهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنِّي). كَمَا رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «أَخَذَ الْكَبْشَ فَأَضْجَعَهُ، ثُمَّ ذَبَحَهُ، ثُمَّ قَالَ: بِاسْمِ اللهِ، اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ، وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَمِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ ضَحَّى بِهِ»[12].
يتبع