المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : شرح كتاب الحج من صحيح مسلم



ابو وليد البحيرى
2024-05-23, 03:58 AM
شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: فَرْضُ الحَجّ ِمرّةً في العُمر



الحجُّ منْ أفْضلِ العبادات وأجلّ القُربات، شَرَعه سبحانه إتماماً لدينه وقد دلّ الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم على وجُوبه على المستطيع في العمر مرّة واحدة


الحجُّ منْ أفْضلِ العبادات، وأجلّ القُربات، شَرَعه -سبحانه- إتماماً لدينه، وشرع معه العُمرة، التي ورد ذكرها في القرآن الكريم، إلى جانب فريضة الحَج، في قوله -تعالى-: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (البقرة: 196)، وقد دلّ الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم على وجُوب الحج على المستطيع في العمر مرّة واحدة.
فأما الكتاب: فقوله -سبحانه-: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (آل عمران:97)، وأما السُّنة: فقد ثبتَ ذلك في أحاديث كثيرة منها: حديث ابن عمر - رضي الله عنه -: عن النّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «بُني الإسلام على خمس: شهادة أنْ لا إله إلا الله، وأنْ مُحمّداً رسول الله، وإقام الصّلاة، وإيتاء الزّكاة، وصَوم رمضان، وحَج البيت مَنْ اسْتطاع إليه سبيلاً». متفق عليه. ونقل الإجْماع على الوجوب: الإمام ابن المنذر وابن قدامة وغيرهم. وأما العُمرة: فقد اختلف العلماء -رحمهم الله- في حُكمها، والصحيح: أنّها واجبة على مَنْ يجبُ عليه الحَج، لعدد مِنَ الأدلة، منْها: حديث عائشة -رضي الله عنها- أنّها قالت: «قلتُ يا رسول الله: على النّساء جِهاد؟ قال: «نعم، عليهنّ جهادٌ لا قتالَ فيه، الحجُّ والعُمرة». رواه أحمد. كما وقع الخَلاف أيضاً بينهم: في وجُوب الحجّ على المُسْتطيع فوراً أم على التّراخي؟ والأكثر على أنّه يجبُ على الفَور، فلا يَجوز للعبد تأخيره إذا كان مُستطيعاً؛ لأمر الله -تعالى- به في قوله: {وأتمّوا الحجَّ والعُمْرة لله} (البقرة 196)، وقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (آل عمران: 97)، والأصْل في الأوامر أنْ يقوم بها المكلف فوراً.
شُروط وجُوب الحج
الحج لا يكون واجبًا على المُكَلَّف إلا إذا توافرت فيه شُروط معينه، وتُسمى هذه الشّروط «شُروط الوجُوب» فإذا توفرت هذه الشّروط كان الحج واجبًا على المُكَلَّف، وإلا فلا يجب عليه، وهذه الشروط هي:
أولا: الإسْلام
فغير المُسْلم لا يصحّ منه الحجّ ولو أتى به، لقوله -تعالى-: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} (التوبة:54)؛ فالإسلام شرطٌ لصحة كل عبادة، وشرط لوجوبها.
ثانيا: التكليف
وهو أنّ يكون المُسلم بالغاً عاقلاً، فالصّغير لا يجبُ عليه الحج؛ لأنّه غير مكلّف، لكن لو حج صحّ منه، ولا يجزئه ذلك عن حجّة الإسْلام، فيلزمه أن يحج مرة أخرى بعد بلوغه، أما المجنون فلا يجب عليه الحج ولا يصح منه؛ لأن الحج لا بد فيه من نيةٍ وقصد، ولا يمكن وجود ذلك من المجنون.
ثالثاً: الحُرّية
فلا يجبُ الحجّ على العبد المملوك؛ لأنّه غير مستطيع، لكن لو حج صحّ منه، ويلزمه أنْ يحجّ حجّة الإسلام إذا أُعْتق.
رابعاً: الاسْتطاعة
والاستطاعة تكون في المال والبدن، بأن يكونَ عنده مالٌ يتمكن به منَ الحَجّ، ويكون أيضاً صحيح البدن، غير عاجز عن أداء المناسك، فإنْ كان المكلف غير قادرٍ لا ببدنه ولا بماله، ففي هذه الحال لا يجب الحج عليه، لعدم تحقق شرط الاستطاعة، وإنْ كان قادراً بماله غير قادر ببدنه، فيلزمه أنْ ينيب مَنْ يحجّ عنه، ولا يلزم المُكَلَّف الاسْتدانة لأجلِ الحج، كما لا يلزمه الحج ببذل غيره له، ولا يَصير مستطيعاً بذلك.
خامساً: وجُود المحرم للمرأة
فمن الاستطاعة أنْ يكون للمرأة مَحْرَم يسافر معها، فمَن لمْ تَجد المَحْرم فالحجّ غير واجبٍ عليها، وذلك لمنع الشّرع لها منَ السّفر مِنْ غير مَحْرم، وسيأتي مزيد من التفصيل لهذه الأحْكام، خلال شرحنا لأحاديث: كتاب الحجّ، من (مُختَصَر صَحيح مُسْلم) للحافظ المنذري -رحمهما الله تعالى.
باب: فَرْضُ الحَجّ ِمرّةً في العُمر
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَال: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ فَحُجُّوا»، فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثاً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ لَوَجَبَتْ، ولَمَا اسْتَطَعْتُمْ»، ثُمَّ قَالَ: «ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ، واخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ». الحديث الأول: رواه مسلم في كتاب الحج (2/975) باب: فرض الحجّ مرّة في العُمر. في هذا الحَديثِ يقولُ أبو هُرَيْرَةَ - -: «خطَب رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - النَّاسَ»، أي: قامَ فيهم خَطيباً، فقال: «إنَّ اللهَ -عزَّ وجلَّ- قد فرَض عليكم الحَجَّ»، أي: أوجَب عليكم الحجَّ، والتَّوجُّهَ إلى بَيتِه الحرامِ، والطَّوافَ حولَه، والإتيانِ بكلِّ الأركانِ بحسَبِ ما أوضَحه الشَّارعُ.
قوله: «فقال رجُلٌ: في كلِّ عامٍ؟»
أي: هل فرَض اللهُ الحجَّ علينا في كلِّ عامٍ؟ «فسَكَت عنه»، أي: لم يَرُدَّ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وسكَتَ إعْراضاً عن هذا السُّؤالِ الَّذي فيه تَشديدٌ، «حتَّى أعادَه ثلاثًا»، أي: حتَّى أعادَ الرَّجلُ سُؤالَه ثلاثَ مرَّاتٍ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لو قلتُ: نعَمْ، لوَجَبَت، ولو وجبَت ما قُمتُمْ بها»، أي: لو أجَبْتُك بقولِ: «نعَمْ» لأصبَح الأمرُ فَرضاً واجباً لازماً أنْ يَحُجَّ المُسلِمُ كلَّ عامٍ، وهذا فيه مِن المشقَّةِ والتَّعسيرِ، ما يُخالِفُ نهْجَ الإسْلامِ في التَّيسيرِ.
ظاهرُ الحديثِ
وظاهرُ هذا الحديثِ: يَقتَضي أنَّ أمْرَ افتِراضِ الحجِّ كلَّ عامٍ كان مُفوَّضًا إليه حتَّى لو قال: نعَمْ لحصَل، وليس بمُستبعَدٍ أن يَأمُرَ اللهُ -تعالى- بالإطلاقِ ويُفوِّضَ أمْرَ التَّقييدِ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ ولذلك قال النَّبيُّ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- للرَّجُلِ: «ذَروني ما تَرَكتُكم»، أي: اترُكوني واترُكوا سُؤالي إذا تُرِكتُم وتَرَكتُ الرَّدَّ علَيكم، وهذا كان إشارةً إلى كَراهةِ السُّؤالِ في النُّصوصِ المطلَقةِ والتَّفتيشِ عن قُيودِها، بل يَنبَغي العمَلُ بإطلاقِها قدْرَ الاستطاعةِ حتَّى يَظهَرَ فيها قَيدٌ؛ «فإنَّما هلَك مَن كان قَبْلَكم بكثرةِ سُؤالِهم واختلافِهم على أنبيائِهم»، أي: هلَكوا بكثرةِ الأسئلةِ فيما لا يُفيدُ ممَّا تتَرتَّب عليه فرْضُ أمورٍ شاقَّةٍ وصعبةٍ عليهم، ولم يَستَطيعوا أداءَها فهلَكوا بالعِصيانِ.
لا يُكلِّفُ اللهُ نفساً إلَّا وُسْعَها
قوله: «فإذا أمَرتُكم بالشَّيءِ فخُذوا به ما استَطَعتُم»، أي: افعَلوا مِن الأوامرِ ما تَستَطيعونه دُونَ مشَقَّةٍ ولا تَفريطٍ، فلا يُكلِّفُ اللهُ نفساً إلَّا وُسْعَها، «وإذا نَهيتُكم عن شيءٍ فاجتَنِبوه»، أي: إنَّ النَّواهيَ الَّتي أنهاكم عنها وأُبلِّغُكم عن اللهِ بها فابتَعِدوا عنها تمامًا ولا تَقْرَبوها، وهذا بمعنى ما في قولِه -تعالى-: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (المائدة: 101)، وهذا تَوجيهٌ وتَربيةٌ نبويَّةٌ للمُسلمين على طاعةِ اللهِ ورسولِه قدْرَ الاستطاعةِ، والانتهاءِ عمَّا نَهى اللهُ عنه، مع عدَمِ التَّنطُّعِ في الدِّينِ، وكثرةِ التَّشدُّقِ مع تَشقيقِ الكلامِ فيما لا يُفيدُ، والنَّهي عن كَثرةِ السُّؤالِ عمَّا لم يقَعْ، وقد ورَد في الصَّحيحَيْن عن عامِرِ بنِ سَعْدِ بنِ أبي وقَّاصٍ عن أبيه قالَ: قالَ رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ أعظَمَ المسْلِمينَ في المسْلِمين جُرْماً، مَنْ سَأل عَن شَيءٍ لم يُحرَّمْ على المسْلِمين، فحُرِّم عَليهِم مِن أَجْلِ مَسْأَلتِه». وكذلك مَن سأَل عن أمرٍ فنزَل التَّشديدُ فيه مِن أجْلِ مَسألتِه، وليس في هذا مَنعٌ للسُّؤالِ، وإنَّما هو تَوجيهٌ للتَّوقُّفِ عندَ أوامرِ اللهِ ونَواهيه. قال النووي -رحمه الله- في قوله: «... وإذا نَهيتكم عن شيءٍ فدَعوه» هذا الرجل السائل هو «الأقرع بن حابس» كذا جاء مُبيناً في غير هذه الرواية، واختلف الأصوليون في أنّ الأمر: هل يقتضي التّكرار؟ والصّحيح عند أصحابنا لا يقتضيه. والثاني: يقتضيه. والثالث: يتوقف فيما زاد على مرة على البيان فلا يحكم باقتضائه ولا بمنعه، وهذا الحديث قد يستدلُّ به مَنْ يقول بالتوقف؛ لأنّه سأل فقال: أكلّ عام؟ ولو كان مُطلقه يقتضي التكرار أو عدمه لمْ يَسْأل، ولقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا حاجة إلى السّؤال، بل مطلقه محمول على كذا، وقد يجيب الآخرون عنه: بأنه سأل استظهاراً واحتياطاً.
قوله: «ذَرُوني ما تركتكم»
وقوله: «ذَرُوني ما تركتكم» ظاهر في أنّه لا يقتضي التكرار، قال الماوردي: ويحتمل أنه إنّما احتمل التّكرار عنده منْ وجْه آخر؛ لأنّ الحج في اللغة: قصد فيه تكرّر، فاحتمل عنده التّكرار منْ جِهة الاشتقاق، لا منْ مُطلق الأمر، قال: وقد تعلّق بما ذكرناه عن أهل اللغة ههنا مَنْ قال بإيجاب العمرة، وقال: لمّا كان قوله -تعالى-: {ولله على الناس حج البيت} (آل عمران: 97) يقتضي تكرار قصد البيت بحُكم اللغة والاشْتقاق، وقد أجْمعوا على أنّ الحج لا يجب إلا مرّة، كانت العودة الأخْرى إلى البيت تقتضي كونها عُمرة؛ لأنّه لا يجب قصده لغير حجٍ وعمرة بأصل الشرع. وأمّا قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لو قلتُ: نعم لوجبت». ففيه دليلٌ للمذهب الصحيح أنه -صلى الله عليه وسلم - كان له أنْ يجتهد في الأحكام، ولا يشترط في حكمه أنْ يكون بوحي، وقيل: يشترط، وهذا القائل يجيب عن هذا الحديث بأنه لعلّه أوْحي إليه ذلك. والله أعلم. قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ذرُوني ما تَركتكم» دليل على أنّ الأصل عدم الوجوب، وأنّه لا حُكم قبل ورود الشرع، وهذا هو الصحيح عند محققي الأصوليين، لقوله -تعالى-: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} (الإسراء).
من قواعد الإسلام المهمة
قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما اسْتطعتم» هذا من قواعد الإسلام المهمة، ومن جوامع الكلم التي أعطيها - صلى الله عليه وسلم -، ويدخل فيه ما لا يحصى من الأحكام كالصلاة بأنواعها، فإذا عجز عن بعض أركانها أو بعض شروطها أتى بالباقي، وإذا عجز عن بعض أعضاء الوضوء أو الغسل غسل الممكن، وإذا وجد بعض ما يكفيه من الماء لطهارته أو لغسل النجاسة فعل الممكن، وإذا وجبت إزالة منكرات أو فطرة جماعة ممن تلزمه نفقتهم أو نحو ذلك، وأمكنه البعض فعل الممكن، وإذا وجد ما يستر بعض عورته أو حفظ بعض الفاتحة أتى بالممكن ؛ وأشباه هذا غير منحصرة، وهي مشهورة في كتب الفقه، والمقصود التنبيه على أصل ذلك، وهذا الحديث موافق لقول الله -تعالى- : {فاتقوا الله ما استطعتم}، وأما قوله -تعالى-: {اتقوا الله حق تقاته} ففيها مذهبان أحدهما: أنها منسوخة بقوله -تعالى- : {فاتقوا الله ما استطعتم}. والثاني: وهو الصحيح أو الصواب، وبه جزم المحققون أنها: ليست منسوخة، بل قوله -تعالى-: {فاتقوا الله ما استطعتم} مفسرة لها ومبينة للمراد بها، قالوا: {وحق تقاته} هو امتثال أمره، واجتناب نهيه، ولم يأمر -سبحانه وتعالى- إلا بالمستطاع، قال الله -تعالى-: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}. وقال -تعالى-: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} والله أعلم. «شرح النووي». وأمّا قوله - صلى الله عليه وسلم -: «وإذا نهيتكم عن شيء فَدَعُوه» فهو على إطْلاقه، فإنْ وُجِد عذرٌ يُبيحه كأكلِ المَيتة عند الضَّرُورة، أو شرب الخَمْر عند الإكْراه، أو التلفّظ بكلمة الكُفْر إذا أكْره، ونحو ذلك، فهذا ليسَ مَنْهياً عنه في هذا الحال. والله أعلم.
فوائد الحديث
- الحجّ فريضة منْ فرائض الإسْلام، وأنّه لا يجبُ في العُمر إلا مرةً واحدة بأصل الشّرع، وقد يجب زيادة ذلك بالنذر، وقد أجْمعت الأمّة على ذلك. - أمَر الشَّرعُ بفِعلِ ما في الاسْتطاعةِ، والاجتنابِ التَّامِّ للنواهي الشرعيَّةِ، وأمَرَ بالوقوفِ عندَ توجيهاتِ اللهِ ورَسولِه، وعدَمِ تَخطِّيها بالتكلف والزّيادة.

اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي

ابو وليد البحيرى
2024-05-25, 06:27 PM
شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: ثوابُ الحَجّ والعُمْرة

جعَلَ اللهُ عزَّوجلَّ الطاعاتِ وسائرَ أعمالِ الخيرِ مُكفِّراتٍ للذُّنوبِ ورافعاتٍ للدَّرَجاتِ ومِن أجلِّ الطاعاتِ في الأجْرِ وأعْلاها في الدَّرجةِ الحجُّ والعُمرةُ
فَريضةُ الحجِّ هي الرُّكنُ الخامسُ مِن أركانِ الإسلامِ وهي الفَريضةُ التي تَستوجِبُ مُفارَقةَ المَألوفاتِ والعاداتِ استجابةً لرَبِّ العالَمينَ
الحجّ المُستوفي لشُروطِه مُكفِّرٌ للذُّنوبِ جَميعِها صَغائرَ وكَبائرَ إلَّا ما وَرَدَ في حُقوقِ العِبادِ

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَال: «الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ، كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، والْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ»، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَتَى هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ». في الباب حديثان: رواهما مسلم في الحج (2/983) باب: في فَضْل الحَجّ والعُمرة ويوم عرفة. في الحَديثِ الأول: يُخبِرُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِفضْلِ عِبادةِ العُمْرةِ والحجِّ، أمَّا العُمرةُ فقالَ فيها - صلى الله عليه وسلم -: «العُمرةُ إلى العُمرةِ كَفَّارةٌ لِما بيْنَهما» أي: مَن اعتَمَر عُمَرتَينِ، كانَتِ العُمرتانِ سَببًا في تَكفيرِ ما بيْنَهما مِن الصَّغائرِ، وعدَمِ المُؤاخَذةِ بها يومَ القِيامةِ. والعُمرةُ هي: التعبُّدُ للهِ -تعالى- بالإحْرامِ مِن الميقاتِ والطَّوافِ بالبيتِ، والسَّعْيِ بيْن الصَّفا والمَرْوةِ، والتحَلُّلِ منها بالحَلْقِ أو التَّقصيرِ، أمَّا الحجُّ فإنَّه قَصْدُ المشاعِرِ المقدَّسةِ بمكة وما حولها، لأداءِ المناسكِ وقْتٍ مَخصوصٍ، تَعبُّدًا للهِ -عزَّ وجلَّ.
الحج المبرور ليس له جَزاءٌ إلَّا الجنَّةُ ثمَّ أخبَرَ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الحجَّ المبرورَ ليس له جَزاءٌ إلَّا الجنَّةُ، قال العُلماء: والحج المبرور له خمسة أوصاف: الأول: أن يكون خالصاً لله -تعالى-، لا رياءَ فيه ولا سُمْعة، ففي صحيح مسلم: من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا: قال الله -تعالى-: «أنا أغنى الشُّركاء عن الشِّرك، مَنْ عمِلَ عملًا أشْركَ فيه معي غيري، تَركتُه وشِرْكه».
والثاني: أنْ تكونَ نفقته منْ حلال، قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنّ الله طيبٌ لا يقبلُ إلا طيباً». رواه مسلم.
والثالث: البُعد عن المعاصي والآثام، كالجِماع ودواعيه، والفُسُوق والجدال المذموم، والبدع والخرافات وغيرها، قال -تعالى-: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (البقرة: 197).
والرابع: حُسْنُ الخُلق ولين الجانب مع الرّفقة، وعلى هذا كان حجّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - مع الجَمع الغفير، وكذلك كان الصّحابة والسلف.
والخامس: تعظيمُ شعائر الله -تعالى-، وهي المناسك كلّها، كالطّواف بالبيت، والصّفا والمروة، وعرفة ومِنى وغيرها، قال -تعالى-: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} (البقرة: 158)، فيُعظِّم المشاعر، ويملؤها بذكر الله -تعالى- والخُضوع والتذلل له.

الحرص على تطبيق سُنّة النبي - صلى الله عليه وسلم وكذا الحرص على تطبيق سُنّة النبي - صلى الله عليه وسلم - في أعمال الحج كلها، قال ابن عبد البر -رحمه الله- في صفة الحج المبرور-: «هو الذي لا رياءَ فيه ولا سُمْعة، ولا رَفث، ولا فُسُوق، ويكون بمَالٍ حلال». انظر «التمهيد» {22/ 39}.
من فوائد الحديث 1- الحديث دليلٌ على فضل الإكثار منَ العمرة؛ لِما في ذلك من تكفير للذنوب، وجمهور العلماء على أن التكفير يقع على الصّغائر دون الكبائر، وأن الكبائر لا بد لها من توبة. 2- الحديث دليلٌ على جواز تكْرار العُمرة في السّنَة مرّتين أو أكثر، خلافًا لمن كره ذلك كالإمام مالك، وبعض السلف كإبراهيم النخعي والحسن البصري، وسعيد بن جبير وابن سيرين، وذلك أنّ حديث الباب يقتضي الفرق بين العمرة والحج؛ إذْ لو كانت العمرة لا تفعل إلا مرةً واحدة في السّنة، لكانت كالحج، ولقيل: «الحجّ إلى الحج»، فلما قال: «العُمْرة إلى العُمْرة»، دلَّ على ذلك على تكرارها، وأنّها ليستْ كالحج. وأيضاً: العُمرة وقتها مطلق في جميع العام، وليست كالحجّ مقيد بوقتٍ لا يكون إلا مرّةً بالسّنة، وبنحو هذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، في مجموع فتاوى ابن تيمية (26 / 268 - 269)، وانظر: (بداية المجتهد2 / 231 ). 3- الحديث دليل على فضل الحج المبرور وأنّ جزاءه الجنة. 4- الترغيبُ في الاستِكثارِ مِن الاعتِمارِ. 5- جعَلَ اللهُ -عزَّ وجلَّ- الطاعاتِ وسائرَ أعمالِ الخيرِ مُكفِّراتٍ للذُّنوبِ، ورافعاتٍ للدَّرَجاتِ، ومِن أجلِّ الطاعاتِ في الأجْرِ وأعْلاها في الدَّرجةِ الحجُّ والعُمرةُ.
الحديث الثاني
يُبيِّنُ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم - في الحديث الثاني أنَّ مَن حَجَّ للهِ مُبتغيًا وجْهَه بلا رِياءٍ ولا سُمعةٍ، فلَم يَرفُث، بمعنى: فلم يَفعَلْ شَيئًا مِن الجِماعِ أو مُقدِّماتِه، وقيل: الرَّفَثُ اسمٌ للفُحشِ مِنَ القولِ، ولَم يَفسُقْ، أي: ولَم يَرتكِبْ إثماً أو مُخالَفةً شَرعيَّةً -صَغيرةً أو كَبيرةً- تُخرِجُه عَن طاعةِ اللهِ -تعالى-، وإنَّما صرَّحَ بنَفْيِ الفِسقِ في الحجِّ، مع كَونِه مَمنوعًا في كلِّ حالٍ، وفي كلِّ حِينٍ، لزِيادةِ التَّقبيحِ والتَّشنيعِ، ولزِيادةِ تَأكيدِ النَّهيِ عنه في الحجِّ، وللتَّنبيهِ على أنَّ الحجَّ أبعَدُ الأعمالِ عن الفِسقِ. فمَن فَعَلَ ذلك، عادَ بعدَ حَجِّه نَقيًّا مِن خَطاياهُ، كما يَخرُجُ المولودُ مِن بطْنِ أُمِّه، أو كأنَّه خَرَجَ حِيَنئذٍ مِن بَطْنِ أُمِّه، ليس عليه خَطيئةٌ ولا ذَنْبٌ، كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمّه: أَيْ بِغَيْرِ ذَنْب، وَظَاهِره غُفْرَان الصَّغَائِر وَالْكَبَائِر. قاله الحافظ، وإليه ذهب القرطبي والقاضي عياض، وقال الترمذي: هو مخصوصٌ بالمعاصي المتعلقة بحقّ اللّه لا العباد، قاله المناوي في (فيض القدير). وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله تعالى-: معنى قوله -عليه الصلاة والسلام-: «مَنْ حجَّ فلمْ يرفث ولم يفسق، رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه»: أنّ الإنسان إذا حجّ واجتنب ما حرّم الله عليه من الرفث، وهو إتيان النساء، والفُسُوق وهو مخالفة الطّاعة، فلا يترك ما أوجب الله عليه، ولا يفعل أيضاً ما حرّم الله عليه، فإن خالف فهذا هو الفُسوق؛ فإذا حجّ الإنسانُ ولمْ يَفْسق ولمْ يرفث، فإنّه يَخْرج منْ ذلك نقيا منَ الذُّنوب، كما أنّ الإنسان إذا خَرَج منْ بطن أمّه، فإنّه لا ذَنْب عليه، فكذلك هذا الرجل إذا حجّ بهذا الشرط، فإنّه يكون نقيا مِنْ ذُنُوبه». (فتاوى ابن عثيمين 21/20).
من فوائد الحديث 1- بَيانُ فضْلِ الحجِّ، وأنَّ الحجَّ المُستوفيَ لشُروطِه مُكفِّرٌ للذُّنوبِ جَميعِها صَغائرَ وكَبائرَ، إلَّا ما وَرَدَ في حُقوقِ العِبادِ. 2- فَريضةُ الحجِّ هي الرُّكنُ الخامسُ مِن أركانِ الإسلامِ، وهي الفَريضةُ التي تَستوجِبُ مُفارَقةَ المَألوفاتِ والعاداتِ استجابةً لرَبِّ العالَمينَ، وقد وَعَدَ اللهُ -تعالى- مَن أدَّاها بحقِّها بأعظَمِ الجَزاءِ.

اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي

ابو وليد البحيرى
2024-05-25, 06:29 PM
شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب : في يوم الحجّ الأكبر

الحديث فيه مَشروعية إرْسال مَنْ يقوم بالأمر بالمَعروف والنّهي عن المنكر في الحج والمساجد والأسواق وغيرها
في الحديث فَضيلةٌ ومَنْقَبةٌ لأبي بَكرٍ وعليِّ بْنِ أبي طالبٍ رضي الله عنهما ثمّ لأبي هريرة رضي الله عنه
مَوسِم الحجِّ تَبرُزُ فيه المُفاصَلةُ التَّامَّةُ مع أهلِ الشِّركِ والكُفرِ ويبدؤها الحاج والمعتمر بقوله: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فِي الحَجَّةِ الَّتِي أَمَّرَهُ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عله وسلم- قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فِي رَهْطٍ يُؤَذِّنُونَ فِي النَّاسِ يَوْمَ النَّحْرِ: «لَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ»، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَكَانَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَقُولُ: يَوْمُ النَّحْرِ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، مِنْ أَجْلِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. رواه مسلم في الحج (2/982) باب: لَا يَحُجُّ بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ، ولَا يَطُوفُ بِالبَيْتِ عُرْيانٌ، وبيان يوم الحجّ الأكبر. يُخبر أبو هُرَيرةَ - رضي الله عنه - أنّ أَبا بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رضي الله عنه - بعثه فِي الحَجَّةِ الَّتِي أَمَّرَهُ عَلَيها رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عله وسلم-، أي: الحجة التي جعله فيها أميراً ليحجّ بالناس، وذلك سنة تسع من الهجرة، وهي قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ التي حجّها رسول الله - صلى الله عله وسلم-، «فِي رَهْطٍ يُؤَذِّنُونَ فِي النَّاسِ يَوْمَ النَّحْرِ» الرهط من الرّجال: ما دون العشرة، لا يكون فيهم امرأة، والرّهط لا واحد له من لفظه، «يؤذنون» أي: يُعلمون الناس، فالمراد هنا الأذان اللغوي وهو الإعلام. وجاء أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عله وسلم- بعث عليَّ بنَ أبي طالبٍ - رضي الله عنه - بعْدَ أبي بَكرٍ - رضي الله عنه - يَقرَأُ على النَّاسِ سُورةَ بَراءةَ، لِيَنْقُضَ عهْدَ المشركينَ، و(بَراءة) هي سُورةُ التَّوبةِ، وأنْ يُناديَ أيضًا بمِثلِ ما بُعِثَ به أبو بَكرٍ - رضي الله عنه -، فأذَّن عليٌّ - رضي الله عنه - معهم يومَ النحرِ بسُورةِ براءة، وبمِثْلِ ما أذَّنَ أبو هُرَيرةَ وأصحابُه بأَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ، ولَا يَطُوفَ بالبَيْتِ عُرْيَانٌ. و«يوم النّحر» هو اليوم العاشر من ذي الحجّة.
فوائد الحديث في الحديث فوائد عدة نذكر منها ما يلي:
الفائدة الأولى كان المُشْركون يَحُجُّونَ كلَّ سَنةٍ، وكان بعضُهم يَطوفُ بِالبيتِ عُريانًا، فلمَّا فَتَحَ اللهُ مَكَّةَ أمَرَ نَبِيَّه أنْ يَمْنَعَ كُلَّ أفْعالِ الجاهِلِيَّةِ حَوْلَ البَيْتِ، وأنْ يُعْلِنَ البَراءَةَ مِنَ الشِّرْكِ والمُشرِكينَ، وقد أمَّرَ النَّبيُّ - صلى الله عله وسلم- أبا بكرٍ - رضي الله عنه - على الحجَّاجِ في العامِ التاسِعِ من الهِجرةِ، وهي الحجَّةُ الَّتي قبْلَ حجَّتِه - صلى الله عله وسلم-، وأمره أن يُعلِنَ في النَّاسِ هذه المبادئَ الإسلاميّة.
الفائدة الثانية الحديثُ فيه دلالة على النّهي عن الطّواف بالبيت عُريانًا، وإبْطال ما كان عليه أهلُ الجاهلية مِنَ الطّواف عراةً، قال مجاهد: كان المشركون يطوفون بالبيت عراة، فأنزلَ الله -تعالى-: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}، (الأعراف: 28). قال الحافظ ابن كثير: كانت العرب- ما عدا قُريشاً- لا يطُوفُون بالبيت في ثيابهم التي لبسوها، يتأولون في ذلك أنّهم: لا يَطُوفُون في ثيابٍ عَصَوا الله فيها، وكانت قريش- وهم الحُمس- يطوفون في ثيابهم، ومَنْ أعَاره أحْمسي ثوباً، طافَ فيه، ومَنْ معه ثوبٌ جديد، طافَ فيه ثمّ يُلقيه فلا يتملّكه أحَد، فمَنْ لمْ يجدْ ثوباً جديداً ولا أعَاره أحْمسي ثوباً، طاف عرياناً. قال: وأكثر ما كانَ النساءُ يَطفن عُراةً بالليل. وكان هذا شيئًا قد ابْتدعوه مِنْ تلقاء أنفسِهم، واتّبعوا فيه آباءهم، ويَعتقدُون أنّ فعل آبائهم مُسْتندٌ إلى أمرٍ مِنَ الله وشَرْع؛ فأنكرَ اللهُ -تعالى- عليهم ذلك، فقال: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا}، فقال -تعالى- ردّاً عليهم: {قلْ} أي: قلْ يا محمد، لمَن ادّعى ذلك: {إنّ الله لا يأمرُ بالفَحْشاء} أي: هذا الذي تَصْنعُونه فاحشةٌ مُنْكرة، واللهُ لا يأمرُ بمثلِ ذلك؟ {أتقُولُون على اللهِ ما لا تعلمون} أي: أتُسْندُون إلى الله مِنَ الأقوال، ما لا تعلمون صحته؟! انتهى. واستدلّ بالآية والحديث، مَنْ قال: إنّ الطواف يُشْترط له سَتْر العَورة، وبه قال الجمهور مالك والشافعي وأحمد رحمهم الله وغيرهم، وهو القولُ الصّحيح. ولأنّ الطواف بالبيت صلاة، كما جاء عن ابنِ عبَّاسٍ -رضي الله عنهما-: أنَّ النبيَّ - صلى الله عله وسلم- قال: «الطَّوافُ حَولَ البيتِ مِثلُ الصَّلاةِ، إلَّا أنَّكم تتكلَّمونَ فيه، فمن تكلَّمَ فيه فلا يتكَلَّمنَّ إلَّا بخيرٍ». أخرجه الترمذي (960) واللفظ له، والدارمي (1847)، وابن حبان (3836). وصححه الألباني في (صحيح سنن الترمذي)(960)، فلا شكّ أنّ الطّواف عُرياناً لا يجوز شَرعاً، بل ولا مُروءة وخُلُقاً وأدَباً مع أعظم المساجد في الأرْض، وأبلغها حُرمة عند الله -تعالى.
الفائدة الثالثة الحديثُ فيه دليل على أنّه يجبُ تَطهير الحَرم من كلّ شِرْكٍ ومُشرك، وقال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (التوبة: 28)، فيَحرُم إدخالُ المُشْرك الحَرمَ. قال النووي -رحمه الله-: «فلا يُمكَّن مُشركٌ من دُخُول الحَرَم بحال، حتى لو جَاء في رسالةٍ أو أمْرٍ مُهم، لا يُمكَّن مِنْ الدُّخُول، بل يَخرُج إليه مَن يَقْضي الأمر المُتعلّق به، ولو دَخل خُفيةً ومرِضَ ومات، نُبشَ وأُخْرج مِنَ الحَرم». (شرح النووي لمسلم) حديث ( 1347). وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: «لا يَحجُّ بعد العام مُشْرك» ويدخل في ذلك غير المُشْرك أيضاً، فإذا كان هناك إنْسانٌ كافر، فإنّه لا يحلّ له الحج، وبناءً على ذلك، فإنّ مَنْ لا يُصلّي لا يحلّ له أنْ يحج، ولو حجَّ لم يُقبل منه، فيكون آثِماً، ولعلّ هذا يكون تذكرة لأولئك الذين ابتُلوا بترك الصلاة، حتى يُصلُّوا، ليَتَمكّنُوا مِنَ الحَج». انظر شرحه للبخاري (5/332).
الفائدة الرابعة الحديث فيه مَشروعية إرْسال مَنْ يقوم بالأمر بالمَعروف والنّهي عن المنكر، في الحج والمساجد والأسواق وغيرها؛ ففي هذا الحَديثِ، يُخبِرُ أبو هُرَيرةَ - رضي الله عنه - أنَّ أبا بكرٍ الصِّدِّيقَ - رضي الله عنه - قد أرسل جماعةً -منهم أبو هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - يومَ النَّحرِ -ويومُ النَّحرِ هو يومُ عيدِ الأضْحى، وهو اليومُ العاشِرُ من ذي الحجة- يُعلِمونَ النَّاسَ، ويُنادونَ فيهم: ألَّا يَقرَبَ البيتَ الحرامَ بعْدَ هذا اليومِ مُشرِكٌ، وألَّا يَطوفَ بِالبيتِ عُريانٌ. وكان صَدْرُ سُورةِ التوبةِ قد أُنزِلَ على النَّبيِّ - صلى الله عله وسلم- بعد خروجِ أبي بكرٍ - رضي الله عنه - بالحُجَّاجِ إلى مكَّةَ، فبعث رسولُ الله - صلى الله عله وسلم- عليَّ بن أبي طالبٍ - رضي الله عنه - نائباً عنه يتلوها على النَّاسِ، وقيل: كان مِن عَادةِ العربِ أنْ يقومَ بإبْرامِ العُهودِ أو نقْضِها سيِّدُ القَوْمِ، أو مَن ينُوبُ عنه مِن قَرابَتِه.
الفائدة الخامسة في الحديث فَضيلةٌ ومَنْقَبةٌ لأبي بَكرٍ وعليِّ بْنِ أبي طالبٍ -رضي الله عنهما-، ثمّ لأبي هريرة - رضي الله عنه .
الفائدة السادسة أنَّ مَوسِمَ الحجِّ تَبرُزُ فيه المُفاصَلةُ التَّامَّةُ مع أهلِ الشِّركِ والكُفرِ، ويبدؤها الحاج والمعتمر بقوله: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إنّ الحمد والنّعمة لك والملك، لا شريك لك.

اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي

ابو وليد البحيرى
2024-05-28, 05:22 PM
شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: فَضلُ يوم عَرَفة

الدُّعاء لا يلزم أنْ يُسْتجاب كما دعا به الدّاعي بل هو في نفسِه عبادةٌ يثاب عليها المُسلم والمُسلمة

الأيَّامُ الفاضِلةُ مَواسِمُ لنَفَحاتِ اللهِ وعَطاياهُ لعِبادِه يَغفِرُ فيها الذُّنوبَ ويَرفَعُ فيها الدَّرَجاتِ

عن عَائِشَةَ -رضي الله عنها-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْداً مِنْ النَّارِ، مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمْ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ». الحديث رواه مسلم في كتاب الحج (2/982-983) باب: في فضل الحجّ والعمرة، ويوم عرفة. في هذا الحَديثِ يُخبِرُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ ما يكونُ في يَومِ عَرفةَ مِنَ الخَلاصِ عنِ العَذابِ، والعِتقِ منَ النَّارِ، أَكثرَ ممَّا يَكونُ في سائرِ الأيَّامِ، و(عَرَفةُ) موضع على الطَّريقِ بيْنَ مَكَّةَ والطَّائِفِ، تبعُدُ عن مَكَّةَ حَوالَيْ (22 كم)، وعلى بُعدِ (10 كم) مِن مِنًى، و(6 كم) مِن مُزدَلِفةَ، يقِفُ عليها الحجَّاجُ يومَ التَّاسِعِ من ذي الحِجَّةِ يَدْعونَ اللهَ ويَستَغفرونَه.
اقتراب الله من عباده الحجيج قوله: «وإنَّه» -سُبحانَه وتعالى- «لَيدْنو» أي: يَقْتربُ مِنْ عباده الحَجيج، ويدنو دُنُوًّا حقيقياً يَليقُ بجَلالِهِ وعَظمَتِه، كما أثْبَتَه -سُبحانَه- لِنَفسِه، دُونَ تَشبيهٍ أوْ تَمثيلٍ، كما هو قول أهل السنّة والجَماعة في سائر الأسْماء والصّفات الإلهية، وروى ابن خزيمة وابن حبان والبزار وأبو يعلى والبيهقي: عن جابر - رضي الله عنه -، مرفوعاً: «ما مِنْ يومٍ أفضل عند اللهِ منْ يومِ عَرفة، ينزلُ الله -تعالى- إلى سَماء الدنيا، فيُباهي بأهْلِ الأرْض أهلَ السّماء،...».
قوله: «ثُمَّ يُباهي بِهم المَلائكةَ» قوله: «ثُمَّ يُباهي بِهم المَلائكةَ» بمَن بعَرَفةَ منَ المسلِمينَ الواقِفينَ، فيُظهِرُ فَضْلَهم للملائكة، ويُرِيهِم حُسنَ عَملِهم، ويُثْني عَليهم عِندَهم، والمباهاة أَصلُها من البَهاءِ: وهو الحُسنُ والجَمالُ، فيُفاخِرُ بهم ويُعظِّمُهم بحَضرةِ الملائكةِ. قوله: «فيَقولُ: ما أَرادَ هَؤلاءِ؟» أي: أيُّ شَيءٍ أَرادَ هَؤلاءِ، حيثُ تَركوا أهْلَهم وأَوْطانَهم، وصَرَفوا أَموالَهم، وأَتعَبوا أَبْدانَهم؟ والجوابُ محذوفٌ، تَقديرُه: ما أرادُوا إلَّا المَغفرةَ والرِّضا من ربّهم، وهذا يَدُلُّ عَلى أَنَّهم مَغفورٌ لَهم، لأنَّه لا يُباهى بأهْلِ الخَطايا والذُّنوبِ، إلَّا مِن بَعدِ التَّوبةِ والغُفرانِ. وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً: «إنّ الله يُباهي بأهلِ عرفات أهل السماء، فيقول لهم: انظروا إلى عبادي، جاؤوني شُعْثاً غُبْراً». رواه أحمد في «مسنده» وابن حبان في «صحيحه»، والحاكم في «مستدركه».
فضل يوم عرفة وعن جابر - رضي الله عنه -، مرفوعاً أيضًا: «ما مِنْ يومٍ أفضل عند الله منْ يومِ عرفة، ينزل الله -تعالى- إلى سماء الدنيا، فيباهي بأهل الأرض أهل السماء، فيقول: انظروا إلى عبادي، جاؤوني شعثًا غبرًا ضاجِّين، جاؤوا من كلّ فجٍّ عميق، يرجُون رحمتي، ولم يروا عقابي، فلم يُرَ يوماً أكثر عتقاً من النار، مِنْ يومِ عرفة». رواه ابن خزيمة وابن حبان والبزار وأبو يعلى والبيهقي. وفي مصنف عبد الرزاق: من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: في حديث الرجلين اللَّذين جاءَا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يسألانه عن أمْر دينهم، وكان منْ جوابه لهما: «وأمّا وقوفك بعَرفة، فإنّ الله -تبارك وتعالى- ينزلُ إلى سَماء الدنيا، فيُباهي بهم الملائكة، فيقول: هؤلاء عبادي جاؤوا شُعثاً غبراً منْ كلّ فجٍ عَميق، يَرجُون رحمتي، ويَخافُون عَذابي، ولمْ يَروني، فكيفَ لو رَأوني؟ فلو كانَ عليك مثل رَمْل عَالج، أو مثل أيامِ الدُّنيا، أو مثل قَطْر السماء ذُنُوبًا، غَسَلها اللهُ عنك». ونحوه عند ابن عبد البر في (تمهيده) بسندٍ صحيح: عن أنس - رضي الله عنه - قال: كنتُ مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في مَسجد الخَيف قاعداً، فأتاه رجلٌ مِنَ الأنْصار، ورجلٌ مِنْ ثقيف، فذكر حَديثاً فيه طول، وفيه: «... وأمّا وقُوفك عشية عرفة، فإنّ الله يهبطُ إلى سماء الدنيا، ثمّ يباهي بكم الملائكة، فيقول: هؤلاء عبادي جاؤوني شعثاً سُفْعاً، يرجون رحمتي ومغفرتي، فلو كانتْ ذُنُوبكم كعَدَد الرّمل، وكعَدد القَطْر، وكزَبَد البَحر، لغفرتُها، أفيضُوا عبادي مَغْفوراً لكم، ولمَنْ شَفَعتم له».
«يا بِلال، أنْصت لي الناس» وروى ابنُ عبد البر أيضاً: بسنده عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: «وقَفَ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بعَرَفات، وكادت الشّمس أنْ تؤوب، فقال: «يا بِلال! أنْصت لي الناس»، فقامَ بلال، فقال: أنْصتوا لرسُول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنَصَت الناس، فقال: «مَعَاشر الناس، أتاني جبريل آنفًا، فاقْرأني منْ ربّي السلام، وقال: إنّ اللهَ غَفَر لأهل عرفاتٍ، وأهلِ المَشْعر، وضَمِنَ عنْهم التَّبِعات». فقام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فقال: يا رسولَ الله، هذا لنا خاصٌّ، فقال: «هذا لكم، ولمَنْ أتَى بَعْدكم إلى يوم القيامة»، فقال عمر - رضي الله عنه -: كثُر خيرُ اللهِ وطَاب. ورمل عالج: هو ما تَراكَمَ مِنَ الرّمل، ودَخل بعضُه في بعض. وعالِج: موضِعُ معروف بالبادية، بها رَمْل. وشعثًا: منْ تَلَبَّدَ شعره واغْبَرَّ، والشَّعِث: المُغْبَرُّ الرأْس، الجافُّ الذي لم يَدَّهِن. والتَّشَعُّث: التَّفرُّق والتنكُّث. سُفْعاً: السَّفْع السَّواد والشُّحوب، ومنه قيل للأَثافي: سُفْعٌ، وهي التي أُوقد بينها النار، فسَوَّدَت صِفاحَها التي تلي النار. غُبراً: الغُبْرة: اغبِرار اللَّون، يغْبَرُّ للهمِّ ونحوه، والغُبْرة لون الأغبر، وهو شبيه بالغبار. قال الحافظ النّووي: «هذا الحديث ظاهر الدلالة في فَضل يومِ عرفة، وهو كذلك»، وقد وفَّق النووي بين الأحاديث الدالة على فَضْل يوم عَرَفة، والأحاديث الدالّة على فضل يوم الجُمعة، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: «خيرُ يومٍ طَلعتْ فيه الشمس، يوم الجُمعة». رواه مسلم، بأنّ الأحاديث الواردة في فضل يوم عرفة، تفيد أنّ يومَ عَرَفة أفضل أيام السَنة، أمّا الأحاديثُ الواردة في أفضليّة يوم الجُمعة، فمحمولة على أنّ يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع. انظر شرحه على «صحيح مسلم».
الإكثار منْ ذكر الله -تعالى وقال ابن قدامة في المغني: يستحب الإكثار منْ ذكر الله -تعالى-، والدُّعاء يوم عرفة؛ فإنّه يومٌ تُرْجى فيه الإجابة، ولذلك أحببنا له الفِطْر يومئذ، ليتقَوّى على الدُّعاء، مع أنّ صومه بغيرِ عرفة يعدل سنتين. انتهى، وقد رُوي عن سالم بن عبد الله بن عمر: أنّه رأى سائلاً يسألُ يومَ عرفة، فقال: يا عاجز، في هذا اليوم تَسْأل غير الله؟! وذهب بعضُ أهل العلم: إلى أن هذا الفَضل خاصٌّ بالحَاج. قال الباجي المالكي: ويَحتمل أنْ يُريدَ به الحاج خاصّة، لأنّ معنى دُعاء يوم عَرَفة في حقّه يَصح، وبه يختص، وإنْ وُصِف اليوم في الجُمْلة بيوم عرفة، فإنّه يُوصفُ بِفعل الحاج فيه، والله أعْلم. انتهى. (المنتقى شرح الموطأ). فمن رأى تعلّقَ الفضل في الحديث بالمكان مع الزمان، قَصَرَ ذلك على الحاج في عرفة، ومَنْ رأى تعلق الفضل بالزّمان، جَعله عامًا يشمل الحاج وغيره، وإنْ كان هو للحاج آكدَ، والإجابة في حقّه أقربَ، لاجتماع فضل المَكان مع الزمان. وحديثنا في الباب هنا: أنّ رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما مِنْ يومٍ أكثر مِنْ أنْ يُعْتقَ اللهُ فيه عبداً مِنَ النار، مِنْ يوم عرفة..». قد ذكر فَضل اليوم والزّمان.
فوائد الحديث أنّ الله فَضَّلَ بعضَ الأيَّامِ عَلى بعضٍ، والأيَّامُ الفاضِلةُ هي مَواسِمُ لنَفَحاتِ اللهِ، وعَطاياهُ لعِبادِه، يَغفِرُ فيها الذُّنوبَ، ويَرفَعُ فيها الدَّرَجاتِ، وَمِن تِلكَ الأيَّامِ الفاضلةِ: يَومُ عَرَفةَ، وهو الرّكن الأعظم في الحج.
إِثباتُ صِفةِ الدُّنوِّ للهِ -سُبحانَه وتعالى-، والقُرْب مِنْ عباده، كَما تَليقُ بجَلالِه وعَظمتِه، كما ثبت ذلك في الثُلث الأخير مِنَ الليل.
وفيه: إِثْباتُ صِفةِ المُباهاةِ للهِ -سُبحانَه وتعالى-، كَما تَليقُ بِجلالِه وعَظمتِه.
أعظمُ الجوائز في يومِ عَرَفة: غُفْرانُ الذّنُوب.
خطبَ عمرُ بن عبد العزيز - رضي الله عنه - بعَرفة، فقال: «إنّكم قد جِئتُم مِنَ القريب والبَعيد، وأنْضَيتُم الظّهر- أي: أتْعبتم رَواحلكم-، وأخْلَقْتُم الثياب - أي: أبليتُم ثيابكم، وليس السّابق اليوم مَنْ سَبقت دابّته وراحلته، وإنّما السّابق اليوم مَنْ غُفر له. وننبّه على أنّ الدُّعاء لا يلزم أنْ يُسْتجاب كما دعا به الدّاعي، بل هو أولاً في نفسِه عبادةٌ يثاب عليها المُسلم والمُسلمة، وقد يُعجِّل الله ثمرة هذه الطاعة للدّاعي فيَحصل مطلوبُه، وقد تكون سببًا لحصول نِعَمٍ أُخَرَ، أو اندفاع مَصائب، وقد يُؤخّر الله ثمرته إلى الآخرة، فيكفّر به السيّئات، ويَرفع به الدّرجات.

اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي

ابو وليد البحيرى
2024-05-28, 05:25 PM
شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: ما يقولُ إذا رَكِبَ إلى سَفَرِ الحَجِّ وغيرِه

الحديث فيه فوائد عظيمة تتعلق بالسفر والدُّعاء الوارد فيه يشتمل على طلب مصالح الدين التي هي أهمّ الأمُور وعلى مَصَالح الدنيا وعلى حُصول المَحاب ودفع المكاره والمَضار
السَّفَرُ فيه المَشقَّةُ والعَناءُ ومِن رَحمةِ اللهِ سُبحانَه أنْ خلَقَ لعِبادِه ما وفَّقَهم لصُنعِه ممّا يَركَبونَه فتَحمِلُهم على ظُهورِها للوُصولِ إلى غاياتِهم بلا عَناءٍ ومَشَقَّةٍ

عن عَلِيِّ الْأَزْدِيِّ: «أَنَّ ابْنَ عُمَرَ -رضي الله عنهما- عَلَّمَهُمْ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا اسْتَوَى عَلَى بَعِيرِهِ خَارِجًا إِلَى سَفَرٍ، كَبَّرَ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ } اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذَا الْبِرَّ والتَّقْوَى، ومِنْ الْعَمَلِ مَا تَرْضَى، اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا، واطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ، والْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وكَآبَةِ الْمَنْظَرِ، وَسُوءِ الْمُنْقَلَبِ فِي الْمَالِ والْأَهْلِ». وإِذَا رَجَعَ قَالَهُنَّ، وزَادَ فِيهِنَّ: «آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ». الحديث رواه في الحج (2/978) وبوب عليه بمثل تبويب المنذري. في هَذا الحَديثِ يُعلِّمُ الصحابي عبداللهِ بنُ عُمرَ -رضي الله عنهما- بعضَ أَصْحابِه دُعاءَ السَّفرِ، فأخبَرَهم أنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رَكِبَ واستَقرَّ عَلى ظَهرِ بَعيرِه، ويدخُلُ فيه كلُّ أنْواعِ الدوابِّ الَّتي تُركَبُ، وكذا الوَسائلُ الحَديثةُ، «خَارِجًا إِلَى سَفَرٍ» خارجًا مِنَ المَدينةِ إِلى سَفرٍ من الأسفار.
كان -صلى الله عليه وسلم - يَقولُ: «اللهُ أَكبرُ» ثَلاثَ مرَّاتٍ كان يَقولُ: «اللهُ أَكبرُ» ثَلاثَ مرَّاتٍ، أي: يذكُرُ اللهَ -تعالى- بالتكبير، وتَكبيرُه - صلى الله عليه وسلم - عندَ الاسْتِواءِ والارْتفاعِ فوقَ الدابَّةِ، هو استِشْعارٌ لكِبرياءِ اللهِ -عزَّ وجلَّ-، وأنَّه أكبَرُ منْ كلِّ شيءٍ، فيُكبِّرُه ليَحمد له ذلك، فيَزيدَه من فَضلِه، وهو افتتاحٌ لسفره بتكبيرِ الله -عزَّ وجلَّ-، والثناء عليه، كما كان يختمه بذلك. ثُمَّ يَقولُ: «سُبحانَ الَّذي سخَّر لَنا هَذا» فَجَعلَه مُنقادًا لَنا، والإشارةُ إلى المَركوبِ، «وَما كنَّا له مُقْرِنينَ» فأي: ما كنَّا نُطيقُ قَهرَه واستِعمالَه للرّكوب، لوْلا تَسخيرُ اللهِ -سُبحانَه وتعالى- إيَّاه لَنا، ففيه الثّناء على الله بتَسخِيره للمَرْكوبُات التي تَحْمل الأثقال والنُّفوس إلى البلاد النائية، والأقطار الشّاسعة، واعْترافٌ بنعمة الله بالمَركوبات، وهذا يدخل فيه المَركوبات منَ الإبل والخَيل، وكذا المراكب البحريّة والبريّة والجوّية الحديثة، فكلّها تدخل في هذا، وبهذا ذكّر نوحٌ - صلى الله عليه وسلم - الرّاكبين معه في السّفينة فقال: {ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} (هود:41)، وقال -تعالى-: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} (إبراهيم: 32). فهذه المراكب كلّها، وأسبابها، وما به تتمّ وتكتمل، كلّها منْ نِعم الله وتسخيره، يجبُ على العباد الاعتراف لله -تعالى- بنعمته فيها، وخُصُوصاً وقت مباشرته -يعني الرُّكوب- ففيه تذكّر النّعمة التي لولا الباري لما حَصَلت، ولكنّ أكثر الخلق في غفلة عن شُكره، بل في عُتوٍّ واسْتكبار عن الله، وتَجبّر بهذه النّعم على العباد.
قوله: {وَإنَّا إِلى ربِّنا لَمُنقلِبونَ} قوله: {وَإنَّا إِلى ربِّنا لَمُنقلِبونَ} أي: وإنَّا إلى رَبِّنا من بعدِ مماتِنا لصائرونَ إلى الله -تعالى-، وراجِعونَ إليه؛ فإنَّ الإنْسانَ لَمَّا رَكِبَ مُسافراً عَلى ما ذَلَّل اللهُ له، كأنَّه يَتذكَّرُ السَّفرَ الأَخيرَ مِن هَذه الدُّنيا، وهوَ سَفرُ الإنْسانِ إلى اللهِ -عزَّ وجلَّ- إذا ماتَ، وحَمَله النَّاسُ على أَعْناقِهم، فكما أنّ الإنسان يُسَافر في الدنيا، فهناك سفرٌ آخر إلى الآخرة، فكما بدأ الخَلْق فهو يعيدهم، قال -سبحانه-: {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} (العلق: 8). أي: إلى الله المصير والمرجع، {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} (النجم:31). ثُمَّ بَعدَ ذَلك أَثنَى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلى اللهِ ودَعاهُ، فقالَ: «اللَّهمَّ إِنَّا نَسْألُكَ في سَفرِنا هَذا البِرَّ والتَّقْوى، ومِنَ العمل ما تَرْضى» والبِرُّ: هو الْتِزامُ الطَّاعةِ، والتَّقْوى: البُعدُ عنِ المَعصيةِ، أي: يَمْتثِلُ الأَوامرَ والواجبات، ويَجتنِبُ النَّواهيَ والمُحرّمات، ثمّ سَألَ ربَّه أنْ يَرزُقَه مِنَ العَملِ ما يَرضَى بِه عنْهُ. فسأل اللهَ -تعالى- أنْ يكون السّفر مَوصُوفًا بهذه الوَصْف الجليل، محتويًا على أعمال البر كلّها، سواءً المُتعلّقة بحقّ الله، والمتعلّقة بحُقُوق الخَلْق، وعلى التقوى التي هي اتّقاء سَخط الله، بتركِ جميع ما يكرهه الله مِنَ الأعمال والأقوال، الظّاهرة والباطنة، كما سَأله العمل بما يَرْضاه الله، وهذا يَشْمل جميعَ الطّاعات والقُرُبات، ومتى كان السفر على هذا الوصف، فهو السّفر الرابح، وهو السّفر المبارك.
قوله: «اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا» قوله: «اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا، واطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ» سأَلَه تَهوينَ السَّفرِ وهوَ تَيسيرُه، وأنْ يُقرِّبَ لَه مَسافةَ ذَلك السَّفرِ، فكم مِنْ سَفرٍ امتدّ أياماً كثيرة، لكنّ الله هوّنه ويسّره على أهله! وكم مِنْ سَفرٍ قصير، صار أصعب مِنْ كل صعب! فلا سهل إلا ما جعله الله سهلاً، بلطفه ومعونته. ثُمَّ أتْبَعَ دُعاءَه بقولِه: «اللَّهُمَّ أَنتَ الصَّاحبُ في السَّفرِ» يَعني: تَصحَبُني في سَفَري، فتُيسِّرُه وتُسهِّلُه عليَّ، «والخَليفةُ في الأَهلِ» أي: مِن بَعْدي، فتَحوطُهم بِرعايتِكَ وعِنايتِكَ، فهوَ -جلَّ وعَلا- معَ الإِنسانِ في سَفرِه، وخَليفتُه في أَهلِه؛ لأنَّه -جلَّ وعَلا- بكُلِّ شَيءٍ مُحيطٌ، وعلمه وقُدْرته في كلّ مكان.
الاستعاذة من وعثاء السفر ثُمَّ استَعاذَ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ بعضِ ما يُصيبُ الإِنسانَ في السَّفرِ، ومِنها «وَعْثاءُ السَّفرِ» وهيَ شِدَّتُه ومَشقَّتُه وتَعَبُه، «وكآبةُ المَنظَرِ» وهيَ تَغيُّرُ الوجهِ كأنَّه مَرضٌ، والنَّفسِ بالانْكسارِ ممَّا يَعرِضُ لها فيما يُحِبُّه ممَّا يُورِثُ الهَمَّ والحُزنَ، وقيلَ: المُرادُ مِنه الاستِعاذةُ مِنْ كلِّ مَنظرٍ يَعقُبُ الكآبةَ عندَ النَّظرِ إِليهِ، «وسُوءُ المُنقلَبِ» وَذلكَ أنْ يَرجِعَ فَيَرى في أَهلِه وَمالِه ما يَسوؤُه. قوله: «وكان إذا رجَعَ قالَهنّ» أي: تلكَ الجُمَلَ المَذكورةَ، وقالَ بعدَهنَّ: «آيِبونَ» أي: نحنُ راجِعونَ مِنَ السَّفرِ بالسَّلامةِ، «تائِبونَ» مِنَ المَعصيةِ إلى الطَّاعةِ، «عابِدونَ، لربِّنا حامِدونَ» أي: مُثْنونَ عليه -تعالى- بصِفاتِ كَمالِه وجَلالِه، وشاكِرونَ له على نِعَمِه وأفْضالِه. والمَعْنى: أنَّنا في طَريقِ عَودَتِنا إلى بَلَدِنا ومَوْطِنِنا وأهْلِنا، قدْ عَقَدْنا العَزْمَ على العَوْدةِ إلى اللهِ -تعالى-، والتَّوْبةِ الصَّادِقةِ له، المُقْتَرِنةِ بالأعْمالِ الصَّالحةِ، مِنَ الشُّكرِ للهِ، والمواظَبةِ على عِبادتِه، والتَّقرُّبِ إليه بالصَّلاةِ، وغيرها من الأعمال الصالحة. كان - صلى الله عليه وسلم - في كُلِّ حالِه يَتذكَّرُ العِبادةَ فهوَ - صلى الله عليه وسلم - في كُلِّ حالِه يَتذكَّرُ العِبادةَ، وأنَّه عبْدٌ للهِ -سُبحانَه وتعالى-، فيسأل الله -تعالى- في رجُوعه وعَوده مِنْ سفره، فيقول: «آيبون تائبون عابدون، لربّنا حامدون»، أي: نسألك اللهمّ أنْ تجعلنا في إيابنا ورجُوعنا، مُلازمين للتوبة لك، وعبادتك وحمدك، وأنْ تَخْتم سفرنا هذا بطاعتك، كما ابتدأته بالتوفيق لها، وهذا يُشبه قوله -تعالى-: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} (الإسراء:80). ومدخل الصِّدْق ومَخْرجه: أنْ تكونَ أسْفار العبد، ومداخله ومخارجه، كلّها تحوي الصّدْق والحَقّ، والاشتغال بما يُحبه الله ويرضاه، مقْرونة بالتّوكل على الله، ومصحوبة بمَعونَته، وقد كانت أسفاره - صلى الله عليه وسلم - كلها محتوية لهذه المعاني الجليلة، وكلّها في طاعة الله -تعالى- وطلب مرضاته.
قوله: «لربّنا حامدُون» قوله: «لربّنا حامدُون» فيه: الاعتراف بنعمتِه آخِراً، كما اعْترفَ بها أولاً في تسخير الدّابة، فكما أنّ على العَبد أنْ يَحْمد الله على التوفيق لفعل العبادة، والشُّروع في الحاجة، فعليه أنْ يَحمدَ الله على تكميلها وتَمَامها، والفَراغ منها، فإنّ الفَضَل فضله، والخير خيره، والأسْباب أسبابه، والله ذو الفَضل العظيم. وفي حَديثِ عبداللهِ بنِ سَرجِسَ - رضي الله عنه -في صَحيحِ مُسلمٍ (2/979) ومُسنَدِ أحمَدَ- أنَّه كان يَبدأُ بالأهْلِ إذا رجَعَ، وفيه يقولُ: «كان رسولُ الله إذا سافر، يَتعوّذ مِنْ وعثاء السفر، وكآبة المُنقلب، والحور بعد الكون، ودَعوة المظلُوم، وَسُوءِ الْمَنْظَرِ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ». وفيه أيضا: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - استَعاذَ مِنَ الحَوْرِ بعدَ الكَوْرِ، يَعني: مِنَ النُّقصانِ بعدَ الزِّيادةِ، وتَغيُّرِ الحالِ مِنَ الطَّاعةِ إلى المَعصيةِ، وتَعوَّذَ أيضًا مِن دَعوةِ المَظلومِ، أي: أَعوذُ بكَ مِنَ الظُّلمِ، فإنَّه يَترتَّبُ عَليه دُعاءُ المَظلومِ، فإنَّه ليس بينَه وبينَ اللهِ حِجابٌ، كما في الصَّحيحَينِ. ولهذا قال في تحقيق تهوين السفر اللهم: إني أعوذ بك من وعثاء السفر أي: مشقته وصعوبته وكآبة المنظر أي: الحزن الملازم، والهم الدائم وسوء المنقلب في المال والأهل والولد أي: يا رب نسألك أن تحفظ علينا كل ما خلفناه وراءنا، وفارقناه بسفرنا، من أهل وولد ومال، وأن ننقلب إليهم مسرورين بالسلامة، والنعم المتوافرة علينا وعليهم، فبذلك تتم النعمة، ويكمل السرور.
فوائد الحديث الحديث فيه فوائد عظيمة تتعلق بالسفر، والدُّعاء الوارد فيه، يشتمل على طلب مصالح الدين، التي هي أهمّ الأمُور، ومَصَالح الدنيا، وعلى حُصول المَحاب، ودفع المكاره والمَضار، وعلى شُكر نعم الله، والتذكّر لآلائه وكرمه، واشْتمال السّفر على طاعة الله، وما يقرب إليه.
التَّرغيبُ في ذِكرِ اللهِ -تعالى- عندَ السَّفرِ والرُّجوعِ منه.
تَذكَّر نِعمةَ اللهِ -تعالى- عليهم بتَيسيرِه وتَذليلِه لهم تلك المراكِبَ.
السَّفَرُ فيه المَشقَّةُ والعَناءُ، ومِن رَحمةِ اللهِ -سُبحانَه- أنْ خلَقَ لعِبادِه ما وفَّقَهم لصُنعِه ممّا يَركَبونَه في البَحرِ مِنَ السُّفُنِ، وفي البَرِّ مِنَ الإبلِ والخيلِ والسَّيَّاراتِ، وفي الجَوِّ مِنَ الطَّائراتِ، فتَحمِلُهم على ظُهورِها للوُصولِ إلى غاياتِهم بلا عَناءٍ ومَشَقَّةٍ.


اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي

ابو وليد البحيرى
2024-06-05, 07:10 PM
شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: سَفَرُ المرأة إلى الحَجّ مع ذِي مَحْرم


لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤمنُ باللهِ العَظيمِ واليوْمِ الآخِرِ الذي فيه الحِسابُ والجنَّةُ والنارُ أنْ تُسافِرَ مَسيرةَ يَومٍ ولَيلةٍ إلَّا أنْ يكونَ معَها رجُلٌ مِن مَحارِمِها
وُجودُ الزَّوجِ أو المَحرمِ مع المرأة ليس لدَفْعِ الاعتداءِ عنها إنْ حدَثَ فقَطْ وإنَّما أيضًا لدَفْعِ الرِّيبةِ والشَّكِّ عنها ونحْوِ ذلك
النّهي عن سفر المرأة من غير ذي محرم يدلّ على أنّ للمَرأةِ مَكانة عَظيمة في الإسْلامِ وقدْ رفَعَ قدْرَها وحافَظَ عليْها وأمَرَ برعايتِها في كلِّ الأحوالِ

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه - قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الْآخِرِ، أَنْ تُسَافِرَ سَفَراً يَكُونُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَصَاعِداً، إِلَّا ومَعَها أَبُوهَا، أَوْ ابْنُهَا، أَوْ زَوْجُهَا، أَوْ أَخُوهَا، أَوْ ذُو مَحْرَمٍ مِنْهَا» وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم - قَال: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الْآخِرِ، تُسَافِرُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ، إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ»، وعن ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ يَقُولُ: «لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ، ولَا تُسَافِرْ الْمَرْأَةُ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ». فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ امْرَأَتِي خَرَجَتْ حَاجَّةً، وَإِنِّي اكْتُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: «انْطَلِقْ فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ». هذه الأحاديث رواها مسلم في الحج (2/975- 978) باب: سَفر المَرأة مع محرم إلى حجٍّ وغيره.
في هذه الأحاديث نهَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وزَجَرَ عنْ أنْ تُسافِرَ المرأةُ بغَيرِ مَحرَمٍ، وأخبَر بحُرْمةِ ذلك، وأنَّه لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤمنُ باللهِ العَظيمِ واليوْمِ الآخِرِ، الذي فيه الحِسابُ والجنَّةُ والنارُ، أنْ تُسافِرَ مَسيرةَ يَومٍ ولَيلةٍ، إلَّا أنْ يكونَ معَها رجُلٌ مِن مَحارِمِها؛ لأنَّ مَنْ كانتْ تُؤمِنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ لا تَأتي المَناهيَ، ولا تُخالِفُ الأوامِرَ، وكأنَّه تَلميحٌ بالعِقابِ مِنَ اللهِ لمَن خالفَتْ هذا الأمرَ.
سفَر المرأةِ لمدَّةِ ثَلاثةِ أيَّامٍ
وقد جاء في الصَّحيحَينِ: مِن حَديثِ ابنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-: النَّهيُ عن سفَرِ المرأةِ لمدَّةِ ثَلاثةِ أيَّامٍ ولَياليها، إلَّا أنْ يكونَ معَها مَحرَمٌ، فقيل: إنَّ اختِلافَ المدَّةِ هو لاختلافِ السَّائِلينَ، واختلافِ مَواطنِهم، وليس في النَّهيِ عن الثَّلاثةِ تَصريحٌ بإباحةِ اليومِ واللَّيلةِ، وليس في هذا كلِّه تَحديدٌ لأقلِّ ما يقَعُ عليه اسمُ السَّفرِ، ولم يَرِدْ عنه - صلى الله عليه وسلم - تَحديدُ أقلِّ ما يُسمَّى سَفراً، فالحاصلُ: أنَّ كلَّ ما يُسمَّى سَفراً تُنهَى عنه المرأةُ بغَيرِ زوجٍ، أو مَحْرمٍ، سواءٌ كان ثَلاثةَ أيَّامٍ، أو يومَينِ، أو يَوماً، أو نِصفَ يومٍ، أو غيرَ ذلك. قوله: «لا يَحلّ لامْرأة تُؤمن بالله واليوم الآخر» خصّ المُؤمنة بالذّكر؛ لأنّ صاحبَ الإيمان، هو الذي يَنتفع بخطابِ الشّارع، وينقاد له.
قوله: «مَسْيرة يوم وليلة»
وقوله: «مَسْيرة يوم وليلة» وفي حديث ابن عمر: «لا تُسافر المَرأة ثلاثة أيام، إلا مع ذي محْرم»، وفي حديث أبي سعيد: «لا تُسافر امرأة مسيرة يومين ليسَ معها زوجها أو ذو محرم»، وفي حديث ابن عباس قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تسافر المرأة إلا مع ذي مَحرم، ولا يدخل عليها رجلٌ إلا ومعها مَحرم»، فقال رجل: يا رسول الله، إني أريدُ أنْ أخْرج في جيشِ كذا وكذا، وامرأتي تريد الحج، فقال: «اخرُج معها»، قال الحافظ ابن حجر: «وقد عَمِل أكثر العلماء في هذا الباب بالمُطلق، لاخْتلاف التقييدات. قال ابنُ المنير: وقع الاخْتلاف في مَواطن بحسب السائلين، ويُحتمل أن يكون ذكر الثلاث قبل ذِكْر ما دونها، فيؤخذ بأقل ما ورد في ذلك، وأقله الرواية التي فيها ذكر البريد، فعلى هذا يتناول السفر طويل السير وقصيره، ولا يتوقّف امتناع سير المرأة على مسافة القصر». «فتح الباري» (4/ 75).
قوله: «إلا ومعها ذُو محْرم»
فسّره في حديث أبي سعيد بقوله: «إِلَّا ومَعَها أَبُوهَا، أَوْ ابْنُهَا، أَوْ زَوْجُهَا، أَوْ أَخُوهَا، أَوْ ذُو مَحْرَمٍ مِنْهَا». فمَحرَمُ المرأةِ هو زَوجُها ومَن يَحرُمُ علَيها بالتَّأبيدِ، بسَببِ قَرابةٍ، أو رَضاعٍ، أو صِهْريةٍ، كأبيها، وابنها، وأخيها، فلا يَدخُلُ في المحرَمِ ابنُ العَمِّ ولا ابنُ الخالِ، ولا زوجُ الأختِ، ولا زوجُ العمَّةِ، ولا زوجُ الخالةِ، وما شابَههم، ممَّن يَحِلُّ لهم الزَّواجُ منها لو فارَقَ زَوجتَه. ووُجودُ الزَّوجِ أو المَحرمِ معها ليس لدَفْعِ الاعتداءِ عنها إنْ حدَثَ فقَطْ، وإنَّما أيضًا لدَفْعِ الرِّيبةِ والشَّكِّ عنها، ونحْوِ ذلك، قال الحافظ: «واسْتدلّ به على عدم جواز السّفر للمرأة بلا مَحرم، وهو إجماعٌ في غير الحج والعمرة، والخُروج من دار الشرك، ومنْهم من جعل ذلك من شرائط الحج.
منع الخلوة بالأجنبية
قوله: «ولا يَدْخل عليها رجلٌ إلا ومعها محرم»، فيه منع الخلوة بالأجنبية، وهو إجماع، لكن اختلفوا: هل يقوم غير المحرم مقامه في هذا كالنسوة الثقات، والصحيح الجواز، لضَعف التهمة به، ونقل ابن المنذر الإجماع على أن للرجل منع زوجته من الخروج في الأسفار كلها، وإنما اختلفوا فيما كان واجبًا. (فتح الباري) (2/ 568).
حج المرأة مع ذي محرم
قال شيخ الإسْلام ابن تيمية: «وليس للزّوج منع زوجته من الحجّ الواجب مع ذي مَحْرم، بل عليها أنْ تحج وإنْ لمْ يأذن في ذلك، حتى إنّ كثيراً منَ العلماء أو أكثرهم يوجبون لها النّفقة عليه مدّة الحج..»، وقال في «الفتاوى المصرية»: إنّ المرأة لا تسافر للحجّ إلا مع زوج أو ذي محرم، والمحرم زوج المرأة، أو من تحرم عليه على التأبيد بنسبٍ أو سببٍ، وهو قول أكثر العلماء، واختاره ابن عقيل، وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أمهات المؤمنين في التحريم لا المحرمية اتفاقًا، والله أعلم». الاختيارات الفقهية (1/ 465).
من فقه الحديث
قال الحافظ أبو عمر ابن عبدالبر: «في هذا الحديث من الفقه: أنّ المرأة لا يجوز لها أن تسافر هذه المسافة فما فوقها، إلا مع ذي محرم، أو زوج، وقد اختلفت ألفاظ أحاديث هذا الباب في مقدار المسافة، وسنذكر ذلك والمعنى فيه في آخر هذا الباب إن شاء الله. واختلف الفقهاء في معنى ذي محرم للمرأة، هل هو من السبيل الذي ذكر الله في الحج أم لا؟ فقالت طائفة: المحرم من السبيل الذي قال الله -عزوجل-: {من استطاع إليه سبيلا} (آل عمران: 97). فمَن لم يكن لديها ذو محرم فتخرج معه، فليست ممن استطاع إلى الحج سبيلاً، لنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ تُسافر المرأة إلا مع ذي مَحرم منها. وممّن ذهب إلى هذا إبراهيم النخعي، والحسن البصري، وأبو حنيفة، وأصحابه، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وأبو ثور، وقال الأثرم: سمعت أحمد بن حنبل يسأل عن الرجل، هل يكون محرَمًا لأم امرأته يخرجها إلى الحج؟ فقال: أما في حجة الفريضة فأرجو؛ لأنها تخرج إليها مع النساء ومع كل من أمنته، وأما في غيرها فلا، وكأنه ذهب إلى أنّه لم يذكر في القرآن، قال أبو عمر: يعني في قول الله -عزوجل-: {ولا يُبْدين زينتهن إلا لبعولتهن} الآية. قال الأثرم: قيل لأحمد: فيَحجُّ الرجلُ بأخت امرأته؟ قال: لا؛ لأنّها ليستْ منه بمحرم، لأنّها قد تحلّ له، قيل له: فالأخ من الرّضاعة يكون محرماً؟ قال: نعم، قيل له: فيكون الصّبي مَحْرماً، قال لا، حتّى يحتلم؛ لأنّه لا يقومُ بنفسه، فكيف تخرج معه امرأة في سفر؟ لا حتى يحتلم، وتجبُ عليه الحدود، أو يبلغ خمس عشرة سنة.
مقدار السفر
ثم ساق الروايات في الباب في مقدار السفر، ثم قال: وقد اضطربت الآثار المرفوعة في هذا الباب، كما ترى في ألفاظها، ومحملها عندي - والله أعلم - أنّها خرجت على أجوبة السائلين، فحدّث كل واحد بمعنى ما سمع، كأنّه قيل له - صلى الله عليه وسلم - في وقتٍ ما: هل تسافر المرأة مسيرة يوم بلا مَحْرم؟ فقال: لا، وقيل له في وقت آخر: هل تسافر المرأة مسيرة يومين بغير محرم؟ فقال: لا، وقال له آخر: هل تسافر المرأة مسيرة ثلاثة أيام بغير محرم؟ فقال: لا. وكذلك معنى الليلة والبريد ونحو ذلك، فأدى كل واحد ما سمع على المعنى، والله أعلم. ويجمع معاني الآثار في هذا الباب- وإن اختلفت ظواهرها- الحَظْر على المرأة أنْ تُسافرَ سفراً يخاف عليها الفتنة بغير محرم، قصيراً كان أو طويلاً، والله أعلم. انتهى.
الأحاديث متنوعة في هذا
وقال الشيخ العلامة ابن باز -رحمه الله-: «الأحاديث متنوعة في هذا، فيها يومان، وفيها يوم وليلة، وفيها يوم، وفيها ليلة، وفيها ثلاثة أيام، وفيها مطلق، هذا على اختلاف الأسْئلة يجيبهم على قدر سؤالهم -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الجامع ما رواه الشيخان في الصحيحين عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا يخلونّ رجل بامرأة إلا ومعها ذو مَحْرم، ولا تُسَافر المرأة إلا مع ذي محرم؛ فقال رجل: يا رسول الله، إنّ امْرأتي خرجتْ حاجّة، وإني اكتتبتُ في غزوة كذا وكذا، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «انطلق فحجّ مع امرأتك». أخرجه البخاري.
حديث جامع
والحديث الجامع: «لا تُسَافر إلا مع ذي محْرَم». أي: سفر، يوم أو ليلة، أو يومين، أو ثلاث، أو أكثر، أو أقلّ؛ لأنّها عَورة وفتنة، وإذا لمْ يكنْ معها محرمٌ يَصُونها ويلاحظها عن الخطر العظيم عليها، فالشيء الجامع هو السّفر وما يُعدُّ سفرًا هو الممنوع قد يكون يوماً، قد يكون يومين، قد يكون ثلاثة، وقد يكون أكثر من ذلك. قال: ولا فرق بين الطائرة وبين القطار والسيارة وبين الجمل، فإن الذي أخبر عن هذا يعلم -سبحانه- ما في السماء والأرض، وما يكون في آخر الزمان، والرسول -[- إنّما يخبر عن مشروعية ذلك، لقوله -سبحانه-: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (النجم:3-4)، فهو يعلم عن شرع الله، ويُخبر عن شرع الله في الحاضر والمستقبل، والله -سبحانه- يعلم ما يكون في آخر الزمان في القرن الرابع عشر، والخامس عشر من الطائرات والسيارات والقطارات، والبواخر العظيمة السريعة وغير ذلك، فحُكْمه واحدٌ بيَّنه لعباده، ولمْ يَقل: إلا إذا كان في آخر الزمان، وجاءت مراكب سريعة فلا بأس، قد جعل الحكم واحداً». انتهى (مجموع فتاويه).
فوائد الحديث
من فوائد الحديث النَّهيُ عن سَفرِ المرأةِ بغَيرِ مَحرمٍ معَها، سواء يوماً وليلةً أو أكثرَ أو أقل، وهذا النّهي يدلّ على أنّ للمَرأةِ مَكانة عَظيمة في الإسْلامِ، وقدْ رفَعَ قدْرَها وحافَظَ عليْها، وأمَرَ برعايتِها في كلِّ الأحوالِ، في الحَضرِ والسَّفرِ، ومِن أَوْجُهِ المحافَظةِ عليها ما جاء في هذا الحديثِ.

اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي

ابو وليد البحيرى
2024-06-05, 07:13 PM
شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: حجّ الصّبي وأجْر مَنْ حَجَّ به


الإسلامُ وضعَ شُروطًا للتَّكليفِ وإيجاب الفرائضِ على المسلمِ ومِن ذلك أنَّه جَعَلَ الحجَّ غيْرَ واجبٍ إلَّا على البالغِ العاقلِ الحُرِّ المُستطيعِ

عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-: عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لَقِيَ رَكْبًا بِالرَّوْحَاءِ، فَقَالَ: «مَنْ الْقَوْمُ؟»، قَالُوا: الْمُسْلِمُونَ، فَقَالُوا: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَرَفَعَتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ صَبِيًّا، فَقَالَتْ: أَلِهَذَا حَجٌّ؟ قَال: «نَعَمْ، وَلَكِ أَجْرٌ». يَرْوي عبداللهِ بنُ عبَّاسٍ -رضي الله عنهما- أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - «لقي ركباً بالرّوحاء فقال: من القوم؟» الرّكب: هم الجماعةُ المُسافِرون، وهم أصْحاب الإبل خاصّة، وأصله أنْ يُسْتعمل في عشرةٍ فما دونها، و«الروحاء» مكان على ستةٍ وثلاثين ميلاً من المدينة. وكان ذلك في طَريقِ الرُّجوعِ مِن حَجَّةِ الوَداعِ، كما بيَّنَت رِوايةُ النَّسائيِّ.

قوله: «فَقَالَ: «مَنْ الْقَوْمُ؟»
قوله: «فَقَالَ: «مَنْ الْقَوْمُ؟» فأجابوه بأنَّهم مِن جَماعةِ المسلمين، وقوله: «فَقَالُوا: مَنْ أَنْتَ؟» قال القاضي عياض: يحتمل أنّ هذا اللقاء كان ليلاً فلمْ يعْرفوه - صلى الله عليه وسلم -، ويَحتمل كونه نَهاراً، لكنّهم لمْ يروه - صلى الله عليه وسلم - قبل ذلك لعدم هِجرتهم، فأسْلموا في بلدانهم ولمْ يهاجروا قبل ذلك.
ألهَذا حَجّ؟
قوله: «فرفعتْ امرأةٌ صَبيا لها فقالت: ألهَذا حَجّ؟ الصَبيّ هو الصغير هو الَّذي لمْ يصل سِنَّ البلوغِ. قال: «نعم، ولك أجْر». قال النووي: فيه حجّة للشّافعي ومالك وأحمد وجماهير العلماء: أنّ حَج الصّبي مُنعقدٌ صحيح، يُثاب عليه، وإنْ كان لا يُجْزيه عن حجّة الإسْلام، بل يقع تطوعاً، وهذا الحديث صَريحٌ فيه، وقال أبو حنيفة: لا يصحّ حجّه؟ قال أصْحابه: وإنّما فعلوه تمريناً له ليعتاده، فيقع إذا بلغ، وهذا الحديث يردّ عليهم، قال القاضي: لا خلافَ بين العلماء في جواز الحجّ بالصّبيان، وإنّما مَنَعه طائفة مِنْ أهل البدع، ولا يُلتفت إلى قولهم، بل هو مَردُود بفعل النّبي - صلى الله عليه وسلم - وأصْحابه، وإجماع الأمة، وإنما خلاف أبي حنيفة في أنه هل ينعقد حجه وتجري عليه أحْكام الحج، وتجبُ فيه الفدية، ودم الجُبران، وسائر أحْكام البالغ، فأبو حنيفة يمنع ذلك كله، ويقول: إنّما يجبُ ذلك تمريناً على التعليم، والجمهور يقولون: تجري عليه أحْكام الحج في ذلك، ويقولون: حجّه منعقدٌ يقع نفلاً؛ لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل له حجّاً. قال القاضي: وأجْمعوا على أنه لا يُجزئه إذا بلغ عن فريضة الإسْلام، إلا فرقة شذّت فقالت: يُجزئه؟ ولمْ تلتفت العلماء إلى قولها. انتهى. فلمَّا عَلِموا أنَّه رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، رَفَعَت إليه امرأةٌ منْهم وسَأَلت: «أَلِهذا حَجٌّ؟» أي: يَحصُلُ لِهذا الصَّغيرِ ثوابُ حَجٍّ، فأجابَها - صلى الله عليه وسلم -: نَعَمْ» لَه حجُّ النَّفلِ، «ولَكِ أَجرٌ» أي: بسَببِ تَجنيبِها إيَّاه ما يَجتنِبُه المُحرِمُ، وفِعلِ ما يَفعَلُه المُحرِمُ، وتَعليمِه إنْ كان مُميِّزاً، أو أجْرُ النِّيابةِ في الإحرامِ، والرِّميِ، والإيقافِ، والحملِ في الطَّوافِ والسِّعيِ، إنْ لم يكُنْ مُميِّزًا، وفي قولِه: «ولكِ أجْرٌ» تَرغيبٌ لها. فالحَجُّ يَصِحُّ مِن الصَّبيِّ، ويُثابُ عليه، ولكنْ لا يَكفِيه عن الفريضةِ، وعليه حَجُّ الفريضةِ بعْدَ البلوغِ.
فوائد الحديث
الإسلامُ وضعَ شُروطًا للتَّكليفِ وإيجاب الفرائضِ على المسلمِ، ومِن ذلك أنَّه جَعَلَ الحجَّ غيْرَ واجبٍ إلَّا على البالغِ العاقلِ، الحُرِّ المُستطيعِ.
مشروعية الحج بالصغير مُطلقاً، سواء كان مُميّزاً أم لا.
وفيه: أنَّ الصَّبيَّ يُثابُ على طاعتِه، ويكُتَبُ له حَسناتُه.
وثُبوتُ الأجرِ لوليِّ الصَّبيِّ إذا حجَّ به.
وفيه: أنَّ مَن جَهِل شيئًا فعليه أنْ يَسألَ أهلَ العلمِ عمَّا يَجهَلُه مِن الأحكام، قال الله -تعالى-: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} (النحل: 43).
وفيه: أنَّ مَن أعان شخصًا على طاعةٍ فله أجرٌ.
ومشروعية الزّيادة في الجواب عن السُّؤال زيادة في الفائدة، وهو مِنْ عادة الشّرع، والبلغاء والعُلماء.
وفيه: أنّ على النّساء أنْ يسألن عمّا يَجهلنه منَ الأحْكام كالرجال، وأنْ يتفقّهن في الدّين.




اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي

ابو وليد البحيرى
2024-06-11, 02:04 AM
شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: الحجُّ عمَّنْ لا يَسْتَطيعُ الرُّكوب



من فوائد الحديث منْعُ النَّظَرِ إلى الأجنبيَّاتِ وغَضُّ البَصَرِ وأنه يخشى على الصالحين ما يخشى على غيرهم من الفتنة بالنساء

العالِم يُغيِّرُ مِن المُنكَرِ ما يُمكِنُه إذا رَآه وإزالةُ المُنكَرِ باليَدِ لمَن أمكَنَه مِن غَيرِ مَفسَدةٍ زائدةٍ عنِ المُنكَرِ الحاصِلِ ولو مع الأقارب

عَنْ عبداللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- أَنَّهُ قَالَ: كَانَ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ تَسْتَفْتِيهِ، فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الْآخَرِ، قَالَتْ: يا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ؛ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخاً كَبِيراً، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَال: «نَعَمْ». وذَلِكَ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ. الحديث رواه مسلم في الحج (2/973) باب: الحَجّ عن العَاجز لزَمانةٍ وهَرَم ونحوهما، أو للمَوت، وقد ذكره البخاري في باب الحج عمّن لا يستطيع الثبوت على الراحلة.
في هذا الحَديثِ يَحكي عبداللهِ بنُ عبَّاسٍ -رَضيَ اللهُ عنهما- أنَّ الفَضلَ بنَ العبَّاسِ -رَضيَ اللهُ عنهما- كانَ راكبًا خَلْفَ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - على الدَّابَّةِ؛ والفضل: هو ابن العباس بن عبدالمطلب، وهو أكبر أبناء العباس وبه كان يُكنى، وكان جميلًا، وقد مات بالشام في طاعون عمواس، وليس له عقب.
معنى رديفه
ومعنى رديفه: أي رَكب خلفَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، على عَجز راحلته -صلى الله عليه وسلم -، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قد أردف أسامة بن زيد، منْ عرفة إلى المزدلفة ثم أردف الفضل من المزدلفة إلى منى، وذلك في حجّة الوداع، قبيل رمي جمرة العقبة أو بعدها يوم النحر.
قوله: «فجاءتِ امرأةٌ مِن خَثْعَمٍ»
قوله: «فجاءتِ امرأةٌ مِن خَثْعَمٍ» وهي قَبيلةٌ يَمنيَّةٌ معروفة، مساكنها تقع جنوبي مساكن غامد وزهران. «تستفتيه» أي: تَسأَلُ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن الحَجِّ، فكان الفَضلُ - رضي الله عنه - يَنظُرُ إليها، وكانَتْ هي أيضًا تَنظُرُ إليه، وقوله: «فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الْآخَرِ» أي: أخذَ يصرف وجْه الفضل، أي: يلويه حتى لا يتمكّن من النظر إليها. الشق الآخر: أي إلى الجانب الآخر الذي لا تقع عينه فيه على الخثعمية، فلمَّا رآهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَنظُر إليها صَرَفَ وَجْهَ الفَضْلِ - رضي الله عنه - إلى الشِّقِّ الآخَرِ؛ ليَكُفَّ بَصَرَه عن النَّظرِ إليها، ولِتُقلِعَ هي أيضاً عن النَّظَرِ إليه، ولم يَأمُرْها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بصَرْفِ وَجْهِها إلى الشِّقِّ الآخَرِ، وإنْ كانتِ المرأةُ مَمنوعةً مِن النَّظَرِ إلى الرجُلِ أيضاً، مِثلَما يُمنَعُ الرجُلُ لقولِه -تعالَى-: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} (النور: 30).
وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ
وقولِه: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) النور: 31، وقيل: يحْتَملِ أنْ يكونَ نظَرُها للفضْلِ كان عن غَيرِ قصْدٍ؛ لأنَّها إنَّما كانتْ تَنظُرُ جِهةَ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِمَسألتِها. ويَحتمِلُ أنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - اكْتَفَى بصَرْفِ وَجْهِ الفضْلِ؛ لأنَّ ذلك يَمنَعُ نَظَرَ المرأةِ إلى شَيءٍ مِن وَجْهِ الفضْلِ، فكان في ذلك مَنْعٌ للفضْلِ مِن النَّظَرِ إليها ومَنْعٌ لها مِن النَّظَرِ إليه، ولعلَّها لمَّا صَرَفَ وَجْهَ الفضْلِ فَهِمَت ذلك، فصَرَفَت وَجْهَها أو بَصَرَها عن النَّظَرِ إليه.
أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟
قوله: «قَالَتْ: يا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ؛ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخاً كَبِيراً، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟» فسَأَلتِ المرأةُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن مَشروعيَّةِ الحَجِّ نِيابةً عن أبِيها، وأبوها قِيل: هو حُصينُ بنُ عَوفٍ الخَثْعميُّ، الذي أدركته فَريضةُ الحجّ وهو شَيخٌ كَبيرٌ، لا يَستقِرُّ جِسمُه على الرَّاحِلةِ، أو لم تَتَوافَرْ فيه شُروطُ الحَجِّ؛ إلَّا في هَذه السِّنِّ المتأخِّرةِ، حتَّى أصبَحَ عاجِزاً، ضَعيفَ الجِسمِ، مُنهَكَ القُوى، فأجابَها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بأنْ تَحُجَّ عنه.
ما يشترط للنائب في الحج
ويُشتَرَط في النَّائِبِ في الحجّ والعمرة: أنْ يكونَ قد حَجَّ حَجَّةَ الإسْلامِ عن نفْسِه أوَّلًا واعتمر، وإلَّا كانتِ الحجَّةُ أو العُمرة عن نفْسِه، ولم تُجْزِئْ عن المَنوبِ عنه؛ لحَديثِ أبي داودَ: عن ابنِ عبَّاسٍ -رَضيَ اللهُ عنهما-: «أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سَمِعَ رجُلًا يقولُ: لَبَّيكَ عن شُبْرُمةَ، قال: مَن شُبرمةَ؟ قال: أخٌ لي -أو قريبٌ لي- قال: «حَجَجتَ عن نفْسَك؟» قال: لا، قال: «حُجَّ عن نفْسِك، ثمَّ حُجَّ عن شُبرمةَ».
فوائد الحديث
1- الحَجُّ هو الرُّكنُ الخامِسُ مِنْ أرْكانِ الإسْلامِ، وهو الفَريضةُ التي تَستوجِبُ مُفارَقةَ الأهل والوطن كالجهاد في سبيل الله، استِجابةً لرَبِّ العالَمينَ، وليس لمَن أدَّاهُ على وَجْهِه وبحَقِّه مِنْ ثَوابٍ إلَّا الجنَّةُ.
2- وفيه: جواز الاستِنابة في حَجِّ الفَريضةِ؛ عن عَاجِزٍ عجزاً مَيؤوسٍاً مِن زَوالِه.
3- وفيه: بِرُّ الوالدَينِ، والاعتِناءُ بأمرِهِما، والقِيامُ بمِصالِحِهما؛ مِن قَضاءِ دَينٍ ديني كزكاة أو حجٍّ أو نذرٍ أو كفارة، وكذا خِدمةٍ، ونَفَقةٍ، وغيرِ ذلكَ مِن أُمورِ الدِّينِ والدُّنيا، وأن الحجّ عن الوالد من برّه. 4- وفيه: أنَّ الاستِطاعةَ تكونُ بالآخرين كما تكونُ بالنَّفْسِ.
5- وفيه: تَواضُعُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم .
6- وفيه: مَنزِلةُ الفَضْلِ بنِ العبَّاسِ -رَضيَ اللهُ عنهما- مِن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، حيثُ أرْدفه خلفه على الراحلة.
7- وفيه: منْعُ النَّظَرِ إلى الأجنبيَّاتِ، وغَضُّ البَصَرِ، وأنه يخشى على الصالحين ما يخشى على غيرهم من الفتنة بالنساء، والعمل على عدمِ اختلاط النساء بالرجال.
8- أنّه يجوزُ للمرأة الاستفتاء في العلم والترافع في الحُكم، والمعاملة وإظْهار صوتها في ذلك، إذا لمْ تحدث فتنة من ذلك.
9- وفيه: أنَّ العالِمَ يُغيِّرُ مِن المُنكَرِ ما يُمكِنُه إذا رَآه، وإزالةُ المُنكَرِ باليَدِ لمَن أمكَنَه مِن غَيرِ مَفسَدةٍ زائدةٍ عنِ المُنكَرِ الحاصِلِ ولو مع الأقارب.
مسألة مهمة
مسألة: لا يصحّ الاستدلال بحديث الفضل بن العباس - رضي الله عنه -؛ على جواز كشف الوجْه للنساء، وقد أجاب العلماء على ذلك بأجوبة، قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: «وأجيب عن ذلك أيضاً من وجهين: الوجه الأول: أنه ليس في شيء من روايات الحديث التصريح بأنها كانت كاشفة عن وجهها، وأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رآها كاشفة عنه، وأقرّها على ذلك، بل غاية ما في الحديث أنها كانت «وضيئة»، وفي بعض روايات الحديث: «أنّها حسناء»، ومعرفة كونها وضيئة، أو حسناء لا يستلزم أنها كانت كاشفة عن وجهها، وأنه - صلى الله عليه وسلم - أقرّها على ذلك، بل قد ينكشف عنها خمارها من غير قصد، فيراها بعض الرجال من غير قصد كشفها عن وجهها...». «أضواء البيان» (6 / 254 - 256).
وقال الشيخ ابن باز -رحمه الله-: «وأما حديث الخثعمية التي سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع عند مرجعه من مزدلفة إلى منى في حجة الوداع قالت: يا رسول الله إن أبي شيخ كبير، أدركته فريضة الله، ولم يحج، أفأحج عنه؟ قال: نعم حجّي عن أبيك، فجعل الفضل ينظر إليها، وتنظر إليه، فصرف وجه الفضل عنها، صرفه إلى الجهة الأخرى، قالوا هذا يدل على أنها كانت متكشفة، وهذا غلط، فإنه ليس بدليلٍ على أنّها متكشفة، قد ينظر إليها وتنظر إليه وليستْ متكشفة، قد تميل الوجه إليه وهي متخمرة، وينظر إليها إلى حُسن كلامها إلى صوتها إلى خدها القائم مع السّتر، ليس بضروري أن تكون متكشفة، ...». «التعليقات على ندوات الجامع الكبير». وقال الشيخ العثيمين -رحمه الله-: «وقد استَدلّ بهذا - أي: حديث الخثعمية-: مَن يرى أن المرأة يجوز لها كشف الوجه، وهذا الحديث- بلا شك- من الأحاديث المتشابهة، التي فيها احتمال الجواز، وفيها احتمال عدم الجواز، أما احتمال الجواز: فظاهر، وأما احتمال عدم الدلالة على الجواز فإننا نقول: هذه المرأة محرمة، والمشروع في حق المحرِمة أن يكون وجهها مكشوفاً، ولا نعلم أن أحداً من الناس ينظر إليها سوى النبي - صلى الله عليه وسلم -، والفضل بن العباس، فأما الفضل بن العباس: فلم يقرَّه النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل صَرف وجهه، وأمّا النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: فإن الحافظ ابن حجر رحمه الله- ذكَر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يجوز له من النظر إلى المرأة، أو الخلوة بها، ما لا يجوز لغيره، كما جاز له أنْ يتزوج المرأة دون مهر، ودون ولي، وأن يتزوج أكثر من أربع، والله -عز وجل- قد فسح له بعض الشيء في هذه الأمور؛ لأنه أكمل الناس عفةً، ولا يمكن أن يرِد على النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يرِد على غيره من الناس، من احتمال ما لا ينبغي أن يكون في حق ذوي المروءة.
القاعدة عند أهل العلم
وعلى هذا: فإنّ القاعدة عند أهل العلم: أنه إذا وُجد الاحتمال، بَطَل الاستدلال، فيكون هذا الحديث من المتشابه، والواجب علينا في النصوص المتشابهة: أنْ نردّها إلى النصوص المحكمة، الدالة دلالة واضحة على أنه لا يجوز للمرأة أنْ تكشف وجهها، وأنْ كشف المرأة وجهها من أسباب الفتنة، والشر» انتهى. «دروس وفتاوى الحرم المكي» (1408 هـ، شريط رقم 16).

اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي

ابو وليد البحيرى
2024-06-11, 02:08 AM
شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: في الحَائض والنُّفَساء إذا أرَادَتَا الإحْرَام

من أحكام الحديث مَشروعية الإهْلال بالتَّلْبيةِ عندَ الإحْرامِ في الحجِّ أوِ العُمرةِ ولو على غير طهارة وأنَّ المَرأةَ فيه كالرَّجلِ
الحجُّ هو الرُّكنُ الخامسُ مِنْ أَرْكانِ الإِسْلامِ وهوَ عِبادةٌ لمَنِ استَطاعَ إليها سَبيلًا وفي الحجِّ مَشقَّةٌ تَقتَضي التَّيسيرَ

عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: نُفِسَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ بِمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ بِالشَّجَرَةِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَبَا بَكْرٍ يَأْمُرُهَا: أَنْ تَغْتَسِلَ وتُهِلَّ. الحديث رواه مسلم في الحج (2/869) باب: إحْرام النُّفَساء، واسْتِحباب اغْتِسالها للإحْرام، وكذا الحائض. تَرْوي عائشةُ أمُّ المؤمِنينَ -رضي الله عنها- أنَّ أَسْماءَ بنتَ عُمَيسٍ «نُفِسَتْ» بكسر الفاء، وأمّا النُّون ففيها الوجهان: الضّم والفتح، ونُفِسَتْ أي: وَلَدتْ، وسُمِّيَ نِفاساً لخُرُوجِ النَّفَسِ، وهوَ المَولودُ، أوِ خُروج الدَّمُ مِنَ الرّحم. والمعنى: أنّها ولدت، ويقال لمن حاضت: نُفِست أيضاً، إلا أنّ المَشهور قول لمَن ولدت: «نفست»، وأَسْماءُ بنتُ عُمَيسٍ هيَ الخَثْعمية صحابيّة، كانت زوجةً لجَعفر بن أبي طالب، ثمّ زوجةً لأبي بكر الصديق، ثمّ لعليّ بن أبي طالب. هاجرت أسماءُ للحبشة، ثمّ إلى المدينة، لذا فتُكنّى «صاحبة الهجرتين». لمَّا وَلَدتِ ابنَها مُحمَّدَ بنَ أَبي بكرٍ -رَضيَ اللهُ عنهما- في طَريقِ الذَّهابِ لحَجَّةِ الوَداعِ، في السَّنةِ العاشرةِ منَ الهِجرةِ، أمَرَ رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - زَوجَها أَبا بكرٍ أنْ يَأمُرَها أنْ تَغتسِلَ مِن نِفاسِها ودَمِها، وأنْ تُهِلَّ بالحجِّ، وهذا الاغتِسالُ للنَّظافةِ، لا للطَّهارةِ ورفع الحَدث، لأنَّ النُّفَساءَ كالحائضِ لا تَطهُرُ إلَّا بانْقِطاعِ الدَّمِ عنها. وَتُهِل: أي: تُلبي، وتقدَّم أن الإهلال أصْله: رَفْعُ الصّوت بالتّلْبية، إلا أنّ المرأة تَخْفضُ صوتها بحضرة الأجانب.
الحائض والنفساء وأعمال الحج وفيه: أنّ الحائضُ والنُّفَساءُ يصِحُّ مِنْهما جَميعُ أَفْعالِ الحجِّ، إلَّا الطَّوافَ بالبيت. ولمَا رَواه أيضاً النَّسائيُّ وابنُ ماجة: عن أبي بكرٍ - رضي الله عنه -: عن رسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قال: «وتَصنَعَ ما يَصنَعُ النَّاسُ» أي: منَ الذِّكرِ والتَّلْبيةِ، وتقِفُ بمِنًى وعَرفاتٍ والمُزدَلِفةِ، «إلَّا أنَّها لا تَطوفُ بالبيتِ» أي: لا تَطوفُ بالكَعبةِ المُشرَّفةِ، طوافَ الرُكنِ وهو الإفاضة، إلَّا بعدَ أنْ تطهُرَ منَ النِّفاسِ، ثمَّ تطوفَ. وقَولُه: «بالشَّجرةِ» هي الشَّجرةُ الَّتي كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَنزِلُ تحتَها عندَ خُروجِه منَ المدينةِ إلى مكَّةَ للعُمرةِ أوِ الحجِّ، فكان يَنزِلُ تحتَ ظِلِّ هذه الشَّجرةِ ويُصلِّي، ثُمَّ يُهِلُّ مُحْرِماً يُريدُ العُمرةَ أوِ الحجَّ. وفي رِوايةِ جابرِ بنِ عبدِ اللهِ عندَ مُسلمٍ أنَّها نُفِسَتْ بِذي الحُلَيفةِ، وفي رِوايةِ النَّسائيِّ: «بالبَيداءِ» هَذه المَواضعُ الثَّلاثةُ مُتقاربةٌ، فالشَّجرةُ بِذي الحُلَيفةِ، وأمَّا البَيداءُ فهيَ بطَرفِ ذي الحُلَيفةِ. يُؤخذ من الحَديث الأحْكام التالية:
الحُكمُ الأول مَشْروعية الاغْتسال عند الإحْرَام، بل هو سُنّة مؤكّدة، ووجه ذلك: أنّ أسْماء بنتَ عُميس -رضي الله عنها- نُفَسَاء، وهي وإنْ اغْتَسلت لنْ تستحلَّ بغُسْلها صلاةً ولا غيرها، ومع ذلك أمَرها النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنْ تَغْتسل، والاغْتسال للإحْرام مُسْتحبٌ بالإجْماع، ونقل ابن المنذر -رحمه الله- الإجْماع على أنّ الإحْرام بغير اغتسالٍ جائز. انظر الإجماع (ص: 55). فجمهور العُلَماء أنّ الاغتسال عند الإحْرام مُسْتحب، حتى للحائضِ والنّفساء لحديث الباب، انظر المغني (5/75)، وخالف ابنُ حزم -رحمه الله-، فقال بوجُوبه على النُّفَساء دون الحائض، أخذاً بظاهر حديث الباب، انظر المحلى (7/82)، وأيضا: فإنّ الاغتسالَ للإحْرام لا يجبُ، وأنّ الإجْماع على جَواز الإحْرام بدُونه.
الحكم الثاني صحّة التعبد بالاغْتِسال عند الإحْرَام مِنَ الحَائض والنُّفَساء، وكذا في جميع أفعال الحج يصحُّ منْهما، إلا الطّواف بالبيتِ وركعتيه، لقول النّبي - صلى الله عليه وسلم -: «افْعَلي ما يفعلُ الحاج، غيرَ ألا تَطُوفي بالبيتِ حتّى تَطْهُري».
الحكم الثالث صِحَّةُ إحْرامِ النُّفَساءِ والحَائضِ، معَ اغتِسالِهما للإِحْرامِ، فالحجُّ هو الرُّكنُ الخامسُ مِنْ أَرْكانِ الإِسْلامِ، وهوَ عِبادةٌ لمَنِ استَطاعَ إليها سَبيلًا، وفي الحجِّ مَشقَّةٌ تَقتَضي التَّيسيرَ، ومِن ذلكَ: أنَّ المَرأةَ المُحرِمةَ إذا وَلَدتْ في أَثناءِ إحْرامِها، وقَبلَ البَدءِ في أَعْمالِ الحجِّ، فلَها أنْ تَغتَسلَ وتَتطهَّرَ، وتُهِلَّ بالحجِّ، غيرَ أنَّها لا تَطوفُ إلَّا بعدَ طَهارتِها الكاملةِ. وَفي هذا تَيسيرٌ عَليها حتَّى لا يَفوتَها الحجُّ في أيَّامِه المَعلومةِ.
الحُكم الرابع ما في الإسْلامِ مِنْ يُسرٍ ورفع حرَجٍ عن المُكلفين وتخفيف على أصحاب الأعذار، ومن ذلك: رِعايتُه للمَرأةِ النُّفَساءِ والحَائض عند الإحرام، حتَّى لا يَفوتَها الحجُّ، وتُضْطرَّ للعَودةِ إليه في سَنةٍ قادمةٍ، وربّما أصابها ما أصابها في العام الأول.
الحكم الخامس مَشروعية الإهْلال بالتَّلْبيةِ عندَ الإحْرامِ في الحجِّ أوِ العُمرةِ، ولو على غير طهارة، وأنَّ المَرأةَ فيه كالرَّجلِ.
من شروط الدعوة إلى الله -تعالى الدعوة إلى الله -تعالى- وتربية النفوس وتزكيتها وتعريف الخلق بخالقهم من أعظم الطاعات وأجلِّ القربات، قال الله -تعالى-: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينََ } (فصلت:٣٣)، ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم» متفق عليه. ويشترط في الدعوة إلى الله -تعالى- أن تكون لله وحده لا شريك له؛ فيجب أن يكون الداعية متعبدا لله بالدعوة إليه مخلصًا له، ولا يجوز أن يكون قصده أغراضًا دنيويةً كحب الشهرة أو استمالة الناس إلى أهدافٍ دنيويةٍ كالجماعات والأحزاب، بل الواجب على الداعية أن يكون قصده من الدعوة إلى الله هداية الناس وتعريفهم بربهم وبما يقربهم إليه، وتحذيرهم مما يبعدهم عن الله ويسخطه عليهم، وأساس الدعوة العلم؛ فيشترط على الداعية أن يكون عالمًا بما يدعو إليه مما يأمر به أو ينهى عنه، فلا يأمر إلاّ بالمعروف ولا ينهى إلاّ عن المنكر، ويبدأ بالمتفق عليه ولا يشدد في المختلف فيه. ومما يشترط في صحة الدعوة وسلامتها عن الأغراض الدنيوية، أن يكون الباعث عليها الشفقة على المدعوين ورحمتهم، وهذا مدخل أساسي في دعوة العامة والأبرياء، ولاسيما وأنّ الأكثرية من الدعاة اليوم يمارسون الدعوة في أوساط المجتمع المسلم؛ فدعوتهم تعليم وتذكير وتزكيةٌ وتصويب وتصحيح لما يختل من مفاهيم الإسلام في أذهان أو سلوكيات المسلمين، سواء في القضايا العقدية أم العملية؛ ولهذا لابد أن يصدر الخطاب الدعوي من قلب رحيم مشفق ولسانٍ مسدد عفيف. قال -تعالى في وصف صاحب الدعوة وإمام الدعاة صلى الله عليه وسلم -: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِين َ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (التوبة ١٢٨) فيجب أن يكون قدوة الدعاة هو صاحب الدعوة وحامل لوائها رسول الله - صلى الله عليه وسلم .

اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي

ابو وليد البحيرى
2024-06-13, 02:15 AM
شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: في المَوَاقِيت في الحَجِّ والعُمْرة

أهل مكة يُحْرمون لنُسُكهم منْ مكة ولا يلزمهم الخُروج إلى الحلّ للإحرام منه وكذا كلّ مَن كان بيته داخل حُدود المواقيت فإنّه يُحْرم مِنْ بيته
المواقيتُ حدّدها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لأهل الآفاق فلا يجوز لمُسلمٍ يُريد الحَجّ أو العُمرة أنْ يتجاوزها دُون إحْرام وهذه الأماكن تختلف قُرْباً وبُعداً عن مكة فأبعدها ذُو الحُليفة

عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلِأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةَ، ولِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِلِ، ولِأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ. قَالَ: «فَهُنَّ لَهُنَّ، وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ، مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ والْعُمْرَةَ، فَمَنْ كَانَ دُونَهُنَّ فَمِنْ أَهْلِهِ، وكَذَا فَكَذَلِكَ، حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْهَا»، وعن أَبي الزُّبَيْرِ: أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما-: يُسْأَلُ عَنْ المُهَلِّ، فَقَالَ: سَمِعْتُ- أَحْسَبُهُ رَفَعَ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «مُهَلُّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، والطَّرِيقُ الْآخَرُ الْجُحْفَةُ، ومُهَلُّ أَهْلِ الْعِرَاقِ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ، ومُهَلُّ أَهْلِ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ، ومُهَلُّ أَهْلِ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ». المواقيت: هي جَمع ميقات، وأصل التوقيت أنْ يُجْعل للشيء وقتٌ يَختصّ به، ثم اتسع فيه فأطلق على المكان أيضاً، ومواقيتُ الحَجّ: المُراد بها هنا: ما حدّدته الشّريعة مِنَ الأماكن التي لا يجوزُ أنْ يتجاوزها مَنْ أرادَ الحَجّ أو العُمرة إلا مُحْرماً، فهي الأماكن التي وقْتَتها وحدّدتها الشريعة للإحْرام منْها.
قوله: «وقّتَ لأهْلِ المَدينة ذا الحُليفة» أي: جَعَل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وفرض لهم ذلك الموضع ميقاتاً للإحرام. وذو الحليفة: قريةٌ بينها وبين المَدينة نحو أربعة أميال، وتسمى الآن (آبار عليّ) وبها مسجد كان يعرف بمسجد الشجرة، وقد جُدّد بناؤه، وقد أحْرم رسول الله -صلى الله عليه وسلم - من عنده.
قوله: «وَلِأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةَ» والجحفة: هي قريةٌ كانت جنوبي شرق رابغ، على نحو ميلين، وتسمى مهيعة، فأجْحف السيل بها فسُمّيت الجُحفة، ولمَّا خَربت ونضب ماؤها، اتفقّ المسلمون على أنْ يكون الإحْرام مِنْ «رابغ» بدلاً منها، لأنّها قبلها بقليل، وبها ماء للاغتسال. وبين رابغ والمدينة نحو (275 كيلو مترا). وقوله: «ولِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِلِ» ونَجد: هي ما ارتفع من بلاد العرب، ومنه قول الأعشى:
نَبيٌّ يَرَى ما لا يَرَونَ وذِكْره
أغَارَ لعَمْرِي في البِلاد وأنْجَدَا والمصطلح عليه عند عامة العرب، أنّ نَجداً ما وَقع من بلاد العرب شَرقي جبل حضن، ولذلك قيل: من رأى حضنًا فقد أنْجد، يعني دَخل أرض نجد، وحضن: شرقي الطائف، ونجْدٌ الآنَ تُمثِّلُ قلْبَ الجَزيرةِ العربيَّةِ، تَتوسَّطُها مَدينةُ الرِّياضِ عاصمةُ المَملكةِ العَربيَّةِ السُّعوديةِ، وتَشمَلُ أقاليمَ كثيرةً، منها: القَصيمُ، وسديرُ، والأفلاجُ، واليَمامةُ، والوشمُ، وغيرُها.
قرن المنازل وقرن المنازل: هو المعروف الآن بالسيل الكبير، وهي قرية بها ماء على مرحلتين من مكة شرقيها وتوازي (وادي مَحْرم) الواقع على طريق الطائف (الهدا) وعنده مسجدٌ يُحْرم منه القادمون من الطائف، ونجد إلى مكة عن طريق الهدا. ويَبعُدُ عن مكَّةَ المُكرَّمةِ (75 كم).
قوله: «ولِأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ» ويلمْلم: ويقال فيه ألَمْلم ويرموم، وهو بتهامة على مرحلتين من مكة جنوباً، وبالقرب منها الآن قرية (السّعديّة) يُحْرم الناس القادمون مِنَ اليمن، وتَبعد عن مكة بحوالي (105) كيلو متراً جنوباً، وفي حديث جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ: «ومُهَلُّ أَهْلِ الْعِرَاقِ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ» وذات عرق اخْتُلِف فيها، هل هي توقيفية أو اجتهادية؟ يعني: هل جاء النص فيها عن النبي -[- أو وقّتها الصّحابة عندما فُتِحت العراق؟ قال الشافعي -رحمه الله في الأم-: «هو غير منصوص عليه». وروى البخاري: من طريق نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: لما فُتِحَ هذان الْمِصْرَان، أتوا عمر، فقالوا: يا أمير المؤمنين، إنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حَدّ لأهلِ نَجدٍ قَرْناً، وهو جَور عن طريقنا، وإنّا إنْ أرَدْنا قرناً، شقّ علينا. قال: فانظروا حذوها من طريقكم، فَحَدّ لهم ذات عرق. وما رواه مسلم: في الباب من طريق أبي الزبير أنّه سمع جابر بن عبدالله -رضي الله عنهما- يُسأل عن المهل، فقال: سمعت- أحسبه رفع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم - فقال: «مهلّ أهل المدينة من ذي الحليفة، والطريق الآخر الجحفة، ومهل أهل العراق من ذات عرق... الحديث. فقال الحافظ النووي في «المجموع»: «وأمّا حديث جابر في ذات عرق فضعيف، رواه مسلم في صحيحه، لكنّه قال في روايته عن أبي الزبير أنّه سمع جابرا يسأل عن المهل فقال: سمعت- أحسبه رفع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ومهل أهل العراق من ذات عرق، فهذا إسناد صحيح، لكنّه لم يجزم بِرَفْعِه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم - فلا يثبت رفعه بمجرد هذا. انتهى. وقال الإمام ابن عبدالبر: أجْمع أهل العلم بالحجاز والعراق والشام وسائر أمصار المسلمين- فيما علمت- على القول بهذه الأحاديث واستعمالها، لا يخالفون شيئا منها، واختلفوا في ميقات أهل العراق، وفيمن وقَّتَه. وقال القرطبي في التفسير: «وأجمعَ أهل العلم على القول بظاهر هذا الحديث واستعماله، لا يخالفون شيئا منه، واختلفوا في ميقات أهل العراق».
قوله: «هنَّ لهنّ» أي: هذه المَواقيت للبلاد المَذْكورة. «ولمَنْ أتَى عَلْيهنّ» أي: ولمَنْ مَرّ على المواقيت المذكورة من غير أهل البلاد المذكورة. «مِنْ غيرِ أهلهن» أي: من غير البلاد التي وقتتْ لها هذه المواقيت. وهو دليلٌ واضح على أنّ مَن مَرّ بهذه المواقيت وهو يريد الحج أو العمرة، وجبَ عليه الإحْرام منها، سواءً كان مِنْ أهلِ المواقيت الأخْرى أو لمْ يكنْ منْها، فلو مرّ الشّامي أو اليمني أو النجدي بذي الحليفة فهي ميقاتُه، وإنّما يكون الميقات المحدّد لأهل بلده هو إذا مرّ به، ولم يمر بميقاتٍ قَبله. قوله: «ممّن أرادَ الحجّ والعُمرة» أي: ممّن قَصَد بمُرُوره على هذه الأماكن: نُسك الحجّ والعُمرة. قوله: «فَمَنْ كَانَ دُونَهُنَّ فَمِنْ أَهْلِهِ، وكَذَا فَكَذَلِكَ، حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْهَا» أي: ومَنْ كان مسكنه، أو كان عزمه على الحجّ أو العمرة أدنى لمكة من هذه المواقيت. «فَمِنْ أَهْلِهِ» وفي رواية: «فمن حيثُ أنشأ» أي: فإحرامه مِنَ المكان الذي عَزَم فيه على النُّسُك، كأهل جدة وبحرة ونحوها من الأماكن التي تقع داخل المواقيت، فيكون إحْرام الشخص من المكان نفسه الذي يَعزم فيه على أداء النسك، وهو معنى: «وكَذَا فَكَذَلِكَ»، «حتى أهل مكة يُهلّون منها» أي: حتى أهل مكة يُحْرمُون لنُسُكهم من بُيوتهم بمكة.
فوائد الحديث 1- هذه المواقيتُ حدّدها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل الآفاق، فلا يجوز لمُسلمٍ يُريد الحَجّ أو العُمرة، أنْ يتجاوزها دُون إحْرام، وهذه الأماكن تختلف قُرْباً وبُعداً عن مكة، فأبعدها ذُو الحُليفة. 2- الإحْرام مِنَ هذه المواقيت هو تعظيمٌ لحُرْمة البيتِ العتيق. 3- مَنْ مرّ بميقاتٍ من هذه المواقيت، وهو لا يُريد الحج أو العُمرة، فإنّه لا يجبُ عليه الإحْرام منه. 4- إن أهل مكة يُحْرمون لنُسُكهم منْ مكة، ولا يلزمهم الخُروج إلى الحلّ للإحرام منه، وكذا كلّ مَن كان بيته داخل حُدود المواقيت، فإنّه يُحْرم مِنْ بيته.

اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي

ابو وليد البحيرى
2024-06-13, 02:17 AM
شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: الطِّيبُ للمُحْرم قبلَ أنْ يُحْرِم


كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ الطِّيبَ ويَستكثِرُ منه في كلِّ حالٍ وهو مِن الأُمورِ التي حُبِّبَت إليه مِن الدُّنيا
الطِّيبَ مِن مَحظوراتِ الإحْرامِ ولكنَّه مشروعٌ قبْلَ الإحْرامِ حتّى لو بقِيَ أثَرُه بَعدَ الإحرامِ

عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِحُرْمِهِ حِينَ أَحْرَمَ، ولِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ، وعن عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ المِسْكِ فِي مَفْرِقِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ مُحْرِمٌ. في هذا الحَديثِ تُخبِرُ عائشةُ -رضي الله عنها- أنَّها كانت تُطيِّبُ بيَدَيْها النبيَّ -صلى الله عليه وسلم - لِإحْرامِه قبْلَ أنْ يُحرِمَ للحجِّ أو العُمرةِ، ولحِلِّه بعْدَ أنْ يَتحلَّلَ التَّحلُّلَ الأوَّلَ في الحجِّ، وهو بَعدَ رَميِ جَمرةِ العَقَبةِ والحَلْقِ، وقبْلَ طَوافِ الإفاضةِ، والتَّحلُّلُ الأولُ يَحِلُّ بَعده كُلُّ شَيءٍ إلَّا الاستِمتاعَ بالنِّساءِ، وذلك كما في رِوايةٍ لِلنَّسائيِّ: «ولِحِلِّه بَعدَما رَمى جَمرةَ العَقَبةِ، قَبلَ أنْ يَطوفَ بالبَيتِ». وقال رَاوي الحديثِ- واصفًا فِعْلَ عائِشةَ -رضي الله عنها-: «وبَسَطَتْ يَدَيْها» كأنَّها تُحاكي ما فَعَلَتْ مِن قبْلُ بالفِعلِ معَ القولِ، وقيل: فعلَتْ ذلِك مُبالَغةً في الوُقوعِ، ردًّا على مَن أنْكَرَ ذلك، فإنَّ ابنَ عُمَرَ كان يُنكِرُ التَّطيُّبَ قبْلَ الإحرامِ، والصحيح: أنّ هذا لا إشْكالَ فيه، أنْ يتطيب في رأسه وبدنه، لا في ثوبه الذي يُحْرم فيه، والممنوع هو: أنْ يَمَسَّ الطِّيبَ حالَ الإحْرامِ.
حديثٌ صحيحٌ ثابتٌ وللحافظ أبي عُمر بن عبدالبر في (التمهيد) بحثٌ مطوّل في هذا، فقال: هذا حديثٌ صحيحٌ ثابتٌ، لا يختلف أهلُ العلم بالحديثِ في صِحّته وثُبوته، ولكن الفُقهاء اخْتلفوا في القَولِ به على حسَب ما ذكرناه في باب حميد بن قيس من كتابنا هذا، وذكرنا اعتلال كل طائفةٍ لمذهبها في ذلك، مِنْ جِهة الأثر والنظر هناك، وسنذكر هاهنا فيه منْ جهة الأثر، ما لمْ يقع هناك إنْ شاء الله. وهذا الحديث رُوي عن عائشة من وجوه، فممن رواه عنها: القاسم، وسالم، وعروة، والأسود، ومسروق، وعمرة، وممن رواه عن القاسم ابنه عبدالرحمن، وأفلح بن حميد، ورواه عن عروة ابن شهاب وعثمان بن عروة وهشام بن عروة، ولم يسمعه هشام من أبيه، إنّما سمعه من أخْيه عثمان، عن أبيه، ثم روى بإسناده: عن عبدالرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة قالت: كنتُ أطيّبُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بأطيبِ ما أجِدُ لحَرمه ولحِلّه، وحين يُريدُ أنْ يَزُورَ البيتَ. وعنه أيضاً: قالت عائشة: طيّبتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - قبلَ أنْ يُحْرِم، ويوم النّحر قبل أنْ يَطُوفَ بالبيت بطيبٍ فيه مِسْك. وروى: عن أبي إسحاق عن الأسود عن عائشة: أنّ رسُول الله - صلى الله عليه وسلم- كان يَتطَيّب قبلَ أنْ يُحْرم، فتَرَى أثرَ الطّيب في مفْرقه بعد ثلاث.
المَنْهيُّ عنه: التّطيب بعد الإحْرام قال أبو عمر: فذهبَ قومٌ إلى القول بهذه الآثار، وقالوا: لا بأسَ أنْ يَتطيّب المُحْرِم قبل إحْرامه بما شاءَ من الطيب ومِسْكا كان أو غيره ممّا يبقى عليه بعد إحْرامه، ولا يضرّه بقاؤه عليه بعد إحْرامه، إذا تطيّب قبل إحْرامه؛ لأنّ بقاءَ الطّيب عليه، ليسَ بابتداءٍ منه، وليسَ بمتطيّبٍ بعد الإحْرام، وإنّما المَنْهيُّ عنه: التّطيب بعد الإحْرام. قالوا: ولا بأس أنْ يَتطيّبَ أيضاً إذا رَمَى جَمرة العَقَبة، قبلَ أنْ يَطُوفَ بالبيت، وحُجّتهم فيما ذهبوا إليه من ذلك كله، حديث عائشة هذا، وهو حديثٌ ثابت، وقد عَمِلت به عائشة -رضي الله عنها-، وجماعة منَ الصحابة، منهم: سعد بن أبي وقاص، وعبدالله بن عباس، وعبدالله بن الزبير، وعبدالله بن جعفر، وأبو سعيد الخدري، وجماعة من التابعين بالحجاز والعراق، وإليه ذهب الشافعي وأصحابه، والأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، وزُفَر، وبه قال أحمد بن حنبل، وإسحاق، وأبو ثور، وكل هؤلاء يقول: لا بأسَ أنْ يَتطيّبَ قبلَ أنْ يُحْرم، وبعد رمي جمرة العقبة. ثمّ روى بسنده: عن عبدالرحمن بن القاسم عن أبيه قال: رأيتُ عائشةَ تَنْكتُ في مفارقها الطِّيبَ قبلَ أنْ تُحْرم، ثم تُحْرم. وعن الشعبي قال: كان سعد يتطيّب عند الإحْرام بالذّريرة، وعن ابن عباس، وابن الزبير: أنّهما كانا لا يَريان بالطِّيب عند الإحْرام بأسَا، وعن ابن الحنفية: أنّه كان يُغلّف رأسه بالغالية الجيّدة، إذا أراد أنْ يُحرم. ثمّ قال ابنُ عبدالبر: وقال آخرون، منهم مالك وأصحابه: لا يجوز أنْ يَتطيّب المُحْرم قبل إحْرامه بما يبقى عليه رائحته بعد الإحرام، وإذا أحْرم حَرُم عليه الطيب حتّى يطوف بالبيت، وهذا مذهب عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعبدالله بن عمر، وعثمان بن أبي العاص، وبه قال عطاء، والزهري، وسعيد بن جبير، والحسن، وابن سيرين، وإليه ذهب محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة، وهو اختيار الطحاوي.
حُجّة مَنْ ذَهَب هذا المذهب قال: وحُجّة مَنْ ذَهَب هذا المذهب من جهة الأثر: حديث يعلى بن أمية عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنّه أمَرَ الرجل الذي أحْرَم بعُمْرةٍ وعليه طِيب خَلُوق أو غيره، وعليه جُبّة، أنْ يَنْزعَ عنه الجُبّة، ويغسلَ الطّيب، وادّعوا الخُصُوص في حديث عائشة؛ لأنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم- كان أمْلَك الناس لأربه، ولأنّ ما يُخاف على غيره مِنْ تَذكّر الجِمَاع المَمنوع منه في الإحرام، مأمونٌ منه - صلى الله عليه وسلم -، وقالوا: لو كان على عُمومه للناس عامة، ما خَفِي على عمر، وعثمان، وابن عمر، مع علمهم بالمَناسك وغيرها، وجلالتهم في الصّحابة، وموضع عطاء من عِلْم المناسك موضعه، وموضع الزهري من علم الأثر موضعه. قال ابن جريج: كان عطاء يَأخذ في الطّيب للمُحرم بهذا الحديث، قال ابن جريج: وكان عطاء يكره الطيب عند الإحْرام، ويقول: إنْ كان به شيءٌ منه فليغسله ولينقه، وكان يأخذ بشأن صاحب الجبة، قال ابن جريج: وكان شأن صاحبِ الجُبّة قبلَ حَجّة الوداع، والآخرُ فالآخر مِنْ أمْرِ رسُول الله -صلى الله عليه وسلم - أحقُّ أنْ يُتّبع.
مذهب ابن جريج قال أبو عمر: مذهب ابن جريج في هذا الباب خلاف مذهب عطاء، وحُجّته أنّ الآخر ينسخ الأول، حُجةٌ صحيحة، ولا خلافَ بين جماعة أهلِ العلمِ بالسّير والأثر، أنّ قصة صاحب الجُبّة كانت عام حُنين بالجِعْرانة سنة ثمان، وحديث عائشة عام حَجّة الوداع، وذلك سنة عشر، فإذا لمْ يَصح الخُصُوص في حديث عائشة، فالأمر فيه واضح جدا. وروى بسنده: عن محمد بن المنتشر قال: سألتُ ابن عمر عن الطّيب عند الإحْرام؟ فقال: لأنْ أطّلى بالقَطِران أحبّ إليّ مِن ذلك، فذكرت ذلك لعائشة فقالت: يَرْحمُ الله أبا عبدالرحمن، قد كنتُ أطيّبُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فيَطُوف على نسائه، ثمّ يُصْبح يَنْضخ طِيبًا. قال أبو عمر: قد أجْمعوا على أنّه لا يجوزُ للمُحرم بعد أنْ يُحْرم، أنْ يَمسّ شيئاً مِنَ الطّيب، حتّى يَرْمي جمرة العَقَبة، واختلفوا في ذلك إذا رمى الجمرة قبل أنْ يطوف بالبيت على ما ذكرنا، وأجْمعوا أنه إذا طافَ بالبيت طواف الإفاضة يوم النّحر، بعد رمي جَمرة العقبة، أنه قد حَلّ له الطّيبُ، والنّساء، والصّيد، وكل شيء، وتمَّ حِلّه، وقضى حجه.
إذا طافَ طوافَ الإفاضة فقد تمّ حَجّه قال أبو عمر: فإذا طافَ طوافَ الإفاضة، فقد تمّ حَجّه، وحلّ له كلَّ شيء بإجْماع، وإنّما رخّص الشافعي، ومن تابعه في الطّيب، لمَن رَمَى جَمْرة العقبة، لحديث عائشة: طيبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - لإحرامه قبل أنْ يُحرم، ولحِلّه قبل أنْ يطوفَ بالبيت. تُريد بعد رَمْي جمرة العقبة، ورخص في الصيد منْ أجل قول عمر: إلا النّساء، والطّيب، ولم يقل: «والصيد». وقد قال الله -عز وجل-: {وإذا حَلَلْتُم فاصْطَادُوا}. ومَنْ رَمَى جَمْرة العقبة فقد حلّ له الحلاق والتفث كلُّه بإجماع، فقد دخل تحت اسم الإحْلال، وفي هذه المسألة ضروب من الاعتلال تركتها، والله المستعان. (التمهيد).
فوائد الحديث أنَّ الطِّيبَ مِن مَحظوراتِ الإحْرامِ، ولكنَّه مشروعٌ قبْلَ الإحْرامِ، حتّى لو بقِيَ أثَرُه بَعدَ الإحرامِ.
وقد كان رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم- يُحِبُّ الطِّيبَ، ويَستكثِرُ منه في كلِّ حالٍ، وهو مِن الأُمورِ التي حُبِّبَت إليه مِن الدُّنيا.
بَيَّنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم- لأمته أحكامَ الحَجِّ والعُمرةِ، وسُننَهما، وآدابَهما بالقَولِ والفِعلِ، ونقَلَ الصَّحابةُ ما سَمِعوه وما رَأوْه مِنه - صلى الله عليه وسلم - في ذلك.
وفيه: خِدمةُ المرأةِ لزَوْجِها وتَطييبُها له.



اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي

ابو وليد البحيرى
2024-06-22, 11:23 AM
شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: المِسْكُ أطْيبُ الطِّيب

فِتنةُ النِّساءُ أعظَمُ الفِتنِ وقدْ زُيِّن للنَّاسِ حُبُّ الشَّهواتِ وقُدِّمَت شَهوةُ النِّساءِ على جَميعِ الشَّهواتِ لأنَّ المِحنةَ بهنَّ أعظَمُ المِحنَ على قَدْرِ الفِتنةِ بهنَّ
بَذلُ الهديَّةِ وقَبولُها بابٌ مِن أبْوابِ الخَيرِ وسَبَبٌ مِن أسْبابِ التَّحابِّ والتَّرابُطِ بيْنَ النَّاسِ وقدْ حَثَّ عليها الإسلامُ وبارَكَها

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَكَرَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، حَشَتْ خَاتَمَهَا مِسْكًا، وَالْمِسْكُ أَطْيَبُ الطِّيبِ. الحديث رواه مسلم (4/1765-1766) في كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها. باب: استعمال المسك وأنّه أطيب الطيب، وكراهة ردّ الريحان والطيب، الحديث ذكره المنذري هنا مختصرًا، ونصه في مسلم: «كانَتِ امْرَأَةٌ مِن بَنِي إسْرائِيلَ قَصِيرَةٌ، تَمْشِي مع امْرَأَتَينِ طَوِيلَتَيْنِ، فاتَّخَذَتْ رِجْلَيْنِ مِن خَشَبٍ، وخاتَمًا مِن ذَهَبٍ مُغْلَقٌ مُطْبَقٌ، ثُمَّ حَشَتْهُ مِسْكًا، وهو أطْيَبُ الطِّيبِ، فَمَرَّتْ بيْنَ المَرْأَتَيْنِ، فَلَمْ يَعْرِفُوها، فقالَتْ بيَدِها هَكَذا. ونَفَضَ شُعْبَةُ يَدَهُ. يَحكي النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديثِ: أنَّ امْرأةً قَصيرةً مِن بني إسرائيلَ كانت تَمشي معَ امرأتَينِ طوِيلتَينِ، والمرادُ: أنَّها إذا مَشتْ معَ صاحبِتَيْها الطَّويلتينِ بانَ قِصرُها، فلَبِستْ في قدَمَيها رِجلَينِ مُزوَّرتينِ من خَشبٍ، أو اتَّخذتْ كعبَينِ طَويلينِ عاليَينِ لنَعلَيْها، فكأنَّهما لطُولِهما رِجْلانِ، وذلِك حتَّى تكونَ طويلةً مِثلَهما، فلا يَتفاضلانِ ولا يَتميَّزانِ ولا يَتباهيانِ عَلَيها. واتَّخَذت خاتمًا مِن ذَهبٍ، وجَعَلَت هذا الخاتمَ مُغلَقًا مُطْبَقًا، أي: جعَلَتْ له غَلَقًا، والمُطْبَقُ هو الَّذي دَاخلُه فارغٌ، ثمَّ وَضَعَتْ داخلَ الخاتمِ مِسْكًا وأحكَمتْهُ وأغلَقتْ عليهِ، والمسكُ أفضلُ الطِّيبِ وأطيبُه وأحسَنُه، وأصْل المِسكِ دمٌ يَجتمِعُ في سُرَّةِ الغَزالِ إلى وَقتٍ مَعلومٍ مِن السَّنةِ، وعندَ حُصولِه تَمرَض الظِّباءُ، فيَتساقطُ منها فيُؤخَذ ويُصنع من الطِيب. فمَرَّت تلكَ المرأةُ بيْن المرأتينِ الطَّويلتينِ وهي لابسةٌ للرِّجْلِ الخشبِ والخاتمِ، فلم يَعرِفاها، لأنَّها غيَّرتْ هيئتَها وطال جِسمُها بالرِّجلَينِ المزوَّرتَينِ، «فقالتْ بِيدِها هَكذا» أي: وعندَ مُرورِها عليهنَّ أشارتْ بيَدِها الَّتي فيها الخاتمُ المحشُوُّ مِسكًا وحرَّكتْها بعْدَ أنْ فَتَحَتْه، ففاحَ ريحُ المسكِ، وكأنَّها تَتفاضَلُ عليهِما. قال الرَّاوي -وهو أبو أُسامةَ حمَّادُ بنُ أُسامةَ-: «ونَفَضَ شُعبةُ يدَه»، أي: حَاكى شُعبةُ حرَكةَ اليدِ كما فعَلَت المرأةُ، وفي روايةٍ لأحمدَ: «فكانتْ إذا مرَّتْ بالمجلسِ حَرَّكتْه، فنَفَخَ رِيحُه»، أي: إذا مرّت بمجالِسِ النَّاسِ والرِّجالِ، تَعمَّدتْ تَحريكَ الخاتمِ ليَفوحَ رِيحُه، فيَشَمَّه الناسُ، فتَنجذِبَ الأنظارُ إليها، كأنَّها تَتفاخَرُ على قَرِينتَيها اللَّتين معها.
التَّحذيرُ مِن فِتنة الدُّنيا وفِتنة النِّساءِ ورواه أحمدُ في مُسنَدِه، وفي أوَّلِه التَّحذيرُ مِن فِتنة الدُّنيا وفِتنة النِّساءِ خاصَّةً، قال النَّبيُّ -[-: «إنَّ الدُّنيا خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فاتَّقوها واتَّقوا النِّساءَ» أي: فاحْذُروا الدُّنيا وخافوا الوقوعَ في فِتنتِها، ومِن أشدِّ فِتنِها النِّساءُ، ثمَّ ذَكَر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قِصَّةَ النِّسوةِ الثَّلاثِ، وكيف تَفنَّنتْ إحداهنَّ في إظهارِ مَفاتنِها وإغواءِ النَّاسِ.
من فوائد الحديث فيه: بَيانُ فَضلِ المِسكِ على سائرِ الطِّيبِ.
وأنّ فِتنة النِّساء أعظَمُ الفِتنِ، وقدْ زُيِّن للنَّاسِ حُبُّ الشَّهواتِ، وقُدِّمَت شَهوةُ النِّساءِ على جَميعِ الشَّهواتِ، لأنَّ المِحنةَ بهنَّ أعظَمُ المِحنَ على قَدْرِ الفِتنةِ بهنَّ.
الحَثُّ على مُلازمَةِ التَّقوَى، وعَدمِ الانْشِغالِ بظَواهرِ الدُّنيا وزِينَتِها.

باب: الْأَلُوَّة والكَافُور عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا اسْتَجْمَرَ، اسْتَجْمَرَ بِالْأَلُوَّةِ غَيْرَ مُطَرَّاةٍ، وبِكَافُورٍ يَطْرَحُهُ مَعَ الْأَلُوَّةِ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا كَانَ يَسْتَجْمِرُ رَسُولُ اللَّهِ -[-. الحديث رواه مسلم في الباب السابق. يَرْوي التَّابعيُّ نافعٌ مَولى ابنِ عُمرَ أنَّ عبدَ اللهِ بنَ عُمَرَ -رضي الله عنهما- كان إذا اسْتَجْمَرَ، أي: إذا أرادَ أنْ يُطيِّبَ المكانَ، أو نفْسَه، أو الضِّيفانَ، استَعْمَل المِجمَرَ، وهو أنْ يُوضَعَ شَيءٌ مِن الطِّيبِ والبخور على تلكَ الأحْجارِ المُجمرة المُشْتعلة، فإذا احتَرَق نَفَذَ مع دُخَانِه رَوائحُ طَيِّبةٌ، فالاسْتِجمار هنا: استعمالُ الطّيب والتبخّر به، مأخوذٌ من المجمر، وهو البُخور، وأمّا «الألُوّة» فقال الأصمعي وأبو عبيد وسائر أهل اللغة والغريب: هي العود يتبخّر به. قال الأصمعي: أراها فارسية معربة، وهي بضم اللام وفتح الهمزة وضمها، لغتان مشهورتان. وقوله: «غيرَ مُطرّاة» أي غير مخلوطة بغيرها من الطّيب. لكنَّه كان في بعضِ الأوقاتِ يَستخدِمُ مع بَخورِ العُودِ كافُوراً، فإنَّه يَزِيدُه طِيبًا، والكافورُ نَبتٌ وشَجرٌ مَعروفٌ. وكان ابنُ عُمرَ -رضي الله عنهما- يُخبِرُ أنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كان يَستجمِرُ ويَتبخَّرُ بمِثلِ فِعلِه هذا.
فوائد الحديث أنّ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كان يُحِبُّ الرَّوائحَ الطَّيِّبةَ والعِطور والبُخُور، ويُقرِّبُها إليه، ويَحرِصُ على الأخذِ منها.
اسْتحبابُ الطّيب للرجال كما هو مُستحب للنساء، لكنْ يستحب للرجال من الطيب ما ظهر ريحه، وخفي لونه، وأمّا المرأة فيستحبّ لها ما ظهر لونه، وخَفي ريحه، لا سيما إذا أرادت الخروج إلى المَسجد أو غيره، كُرِه لها كلّ طيبٍ له ريحٌ يظهر.
ويتأكد اسْتحباب الطّيب للرّجال يوم الجُمعة، والعيد ونحوها، عند حُضور مجامع المسلمين، ومجالس الذّكر والعلم، وكذا عند إرادته معاشرة زوجته ونحو ذلك.
وفيه: فَضلُ الصحابي عبدِ الله بنِ عُمَرَ - رضي الله عنه -، واعتِنائِه بالسُّنَّةِ، ومُلازمتُه لاتِّباعِ النبي - صلى الله عليه وسلم - والاقتداء به.

باب: في الرّيْحان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -» «مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ رَيْحَانٌ فَلَا يَرُدُّهُ، فَإِنَّهُ خَفِيفُ المَحْمِلِ، طَيِّبُ الرِّيحِ». الحديث رواه مسلم في الباب السابق. في هذا الحديثِ يُرشِدُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى أنَّ «مَنْ عُرِض عليه» يعني مَنْ أُعْطِيَ رَيْحَانًا هَديَّةً، وهو كلُّ نَبْتٍ مَشمُومٍ طيِّبِ الرِّيحِ، فلا يَرُدَّ المُعْطيَ ولْيَأْخُذْه منه، والمرادُ به في هذا الحديثِ الطِّيبَ كلَّه، فعندَ أبي داودَ: «مَن عُرِض عليه طِيبٌ». وفي صَحيحِ البُخاريِّ: «كان النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم - لا يَرُدُّ الطِّيبَ». ويُعلِّلُ - صلى الله عليه وسلم - سَببَ النَّهيِ عن ردِّ الرَّيحانِ: بكَونِه «خَفِيفُ المَحْمِلِ» أي: خَفِيفَ الحَمْلِ، ورائحتُه جَميلة، فهو هَديَّةٌ نافعةٌ جميلة، ولا مُؤْنةَ فيها ولا مِنَّةَ، لِجرَيانِ عادةِ النَّاسِ بذلكَ، ولِسُهولتِه عليهم، ولقِلَّةِ ما يَتناوَلُ منه عندَ العَرْضِ، ولأنَّه ممَّا يَسْتطيبُه الإنسانُ مِن نَفسِه ويَسْتطيبُه مِن غَيرِه، فلا تُرَدُّ مِثلُ هذه الهديَّةُ، كيْ لا يَتأذَّى المُعطي بِرَدِّه، فرَدُّها لا وَجْهَ له إلَّا مِن عُذرٍ، والحديثُ فيه إشارةٌ إلى حِفظِ قُلوبِ النَّاسِ بقَبولِ هَداياهُم.
من فوائد الحديث في الحديثِ: بَيانُ فضْلِ الرَّيْحانِ، والتَّرغيبُ للمسلم في اسْتعمالِ الطِّيبِ.
استحباب قبول هدية الرّيحان، فإنّه لا منّةَ بأَخْذِه، وقد جرت العادة بالتسامح في بذله.
بَذلُ الهديَّةِ وقَبولُها بابٌ مِن أبْوابِ الخَيرِ، وسَبَبٌ مِن أسْبابِ التَّحابِّ والتَّرابُطِ بيْنَ النَّاسِ، وقدْ حَثَّ عليها الإسلامُ وبارَكَها، ولا سيَّما إنْ كانتِ الهديَّةُ خَفيفةً سَهلةً لا تُكلِّفُ المانحَ ولا الآخِذَ كَثيرَ جَهدٍ وعَناءٍ، وهذا ما يَنطبِقُ على الطِّيبِ عمومًا.
استحباب عرض المسلم الطيب على إخوانه، ولا سيما عند حضور الجُمع والجماعات.


اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي

ابو وليد البحيرى
2024-07-02, 10:49 AM
شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: الإحْرام مِنْ عِنْدِ المَسْجِدِ ذي الْحُلَيْفَةِ

أخَذَ الصَّحابةُ رَضيَ اللهُ عَنهم مَناسِكَ الحجِّ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في حَجَّةِ الوَداعِ كما أمَرَهم بذلك وبَلَّغوا مَن بَعدَهم فلم يتركوا شيئاً صغيراً كان أو كبيراً

عَنْ سَالِمِ بْنِ عبداللَّهِ: أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ - رضي الله عنه - يَقُولُ: بَيْدَاؤُكُمْ هَذِهِ، الَّتِي تَكْذِبُونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - فِيها، مَا أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - إِلَّا مِنْ عِنْدِ المَسْجِدِ. يَعْنِي ذَا الْحُلَيْفَةِ. الحديث رواه مسلم في الحج (2/843) باب: أمْرُ أهلِ المَدينة بالإحْرام منْ عند مسجد ذي الحُلَيفة، عَنْ سَالِمِ بْنِ عبداللَّهِ وهو الإمام الزاهد، الحافظ، مُفْتي المدينة، أبو عمر وأبو عبدالله، القرشي العَدَوي، المَدني، وأمّه أم ولد. مولده في خلافة عثمان. حدث عن أبيه فجوّد وأكثر، وعن أبي هريرة وأبي أيوب وعائشة وغيرهم. قال ابن عيينة: دخل هشام الكعبة، فإذا هو بسالم بن عبدالله، فقال: سَلْني حاجة. قال: إنّي أسْتحيي مِنَ الله أنْ أسأل في بيتِه غيره؟ فلما خَرجَا قال: الآن فَسْلنِي حاجة، فقال له سالم: منْ حَوائج الدنيا، أمْ مِنْ حَوائج الآخرة؟ فقال: من حوائج الدنيا. قال: والله ما سألتُ الدنيا مَنْ يملكها، فكيفَ أسألها من لا يملكها. (السير) (4/458). توفي سنة ست ومائة.
قوله: «بَيْدَاؤُكُمْ هذه» قوله: أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ - رضي الله عنه -، وهو الصحابي عبدالله بن عُمر بن الخطاب، وقوله: «بَيْدَاؤُكُمْ هذه» البيداء القَفْر الخَالي عن العِمْران والأثر، ويقال لها: مَفازة من باب التّفاؤل، وإلَّا فهي في الأصْل مَهْلكة، وكلّ مفازةٍ بيداء، وهي في الحديث: مفازة أمام ذي الحليفة بين مكة والمدينة، أولها شَرَف مرتفع قريب منْ مسجد ذي الحليفة، فيُخبِرُ سالمُ بنُ عبداللهِ بنِ عمرَ أنَّ أباه عبداللهِ - رضي الله عنه - كان إذا قِيلَ له: إنَّ رفعَ الصَّوتِ بالتَّلبيةِ في الحَجِّ أو العُمرةِ يَبدأُ منَ البَيداءِ، يُنكِرُ ذلك.
قوله: «الَّتِي تَكْذِبُونَ» قوله: «الَّتِي تَكْذِبُونَ» المَقصود هنا تُخْطئُون، والكذب: الإخْبار عن الشّيء على خلافِ ما هو عليه، فإنْ كان مع العَمْد فهو الكذبُ المَذموم، وإنْ كان منْ غير قصدٍ مع سَهْو وغلط، فهو الخطأ، وهو المَقصُود في حديث الباب، وهذا يُؤخَذ منه أنّ الإخْبار بخلافِ الواقع، يُسمَّى كذباً على كلّ حال، لكنه إذا وقع خَطأً مِنْ غير عَمْد، فلا يأثم، وإن كان من عمد، فهو الكذبُ الذي يأثمُ به صاحبه وهو المشهور اليوم». انظر: (المفهم) الحج، باب: بيان المَحلّ الذي أهلَّ منه رسُول الله». حديث (1056). قوله: «مَا أَهَلَّ رَسُولُ اللهِ إِلَّا مِنْ عِنْدِ الْمَسْجِدِ» يعني: مسجد ذي الحُليفة، لأنّ «ألْ» في قوله: «المسجد» ألْ العَهْدية، والمَعهُود هو مسجد ذي الحليفة، ومَسجدِ ذي الحُلَيْفةِ، بيْنَه وبيْنَ المدينةِ سِتَّةُ أمْيالٍ أو سَبْعةٌ (10 كم تقريبًا)، وهي مِيقاتُ أهْلِ المدينةِ، وكذا مَنْ مَرَّ بها مِنْ غيرِ أهْلِها، وفي الرواية الأخرى: «إِلَّا مِنْ عِنْدِ الشَّجَرَةِ»، والمراد: الشّجرة التي كانت عند المسجد، وقوله: «أَهَلَّ» منَ الإهْلال، وتقدَّم أنّ معناه رَفْعُ الصّوت بالتّلْبية.
سَببُ اخْتلافِ الصَّحابةِ -رَضِي اللهُ عنهم- في المواضِعِ ولعلَّ سَببَ اخْتلافِ الصَّحابةِ -رَضِي اللهُ عنهم- في المواضِعِ الَّتِي أهَلَّ منها رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: أنَّ كُلًّا منْهم أخبَرَ بما رأَى، فالنَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم - خرَجَ مِنَ المدينَةِ حاجّاً، فلمَّا صلَّى في مَسجدِ ذِي الحُلَيْفةِ أهَلَّ بالحَجِّ، فسَمِعَ ذلك منه أقْوامٌ فحَفِظُوا عنه، ثُمَّ رَكِبَ، فلمَّا استَقلَّتْ به ناقتُه أهَلَّ، وأدرَكَ ذلك منه أقْوامٌ، لأنَّهمْ كانوا يَأْتُونَ جَماعاتٍ، فسَمِعوه فقالوا: إنَّما أهَلَّ رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم - حِينَ اسْتَقلَّتْ به ناقتُه، ثُمَّ مَضَى رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم -، فلمَّا عَلا على شَرَفِ البَيْداءِ أهَلَّ، وأدْرَكَ ذلك منه أقْوامٌ، فقالوا: إنَّما أهَلَّ حينَ عَلا على شَرَفِ البَيْداءِ، فنقَلَ كلٌّ مِنهم ما سَمِعَ، وظهَرَ بذلك أنَّ الخِلافَ وقَعَ في ابتدَاءِ الإهْلالِ والإحْرامِ مِنَ المِيقاتِ. ويُؤيد هذا: ما رَواه أبو داودَ: عنِ ابنِ عبَّاسٍ -رَضيَ اللهُ عنهما- قال: «وأيمُ اللهِ، لقدْ أوجَبَ في مُصلَّاه، وأهَلَّ حينَ اسْتقَلَّتْ به ناقتُه، وأهَلَّ حينَ عَلا على شَرَفِ البَيداءِ». وهذا واضح والحمدلله.
فوائد الحديث 1- بيان مَوضع إهْلال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وأنَّه أهلَّ من المَسْجد. 2- ميقات ذي الحُليفة، إنّما هو مِنَ المَسْجد، لا مِنَ البَيداء التي بعده، قال النووي -رحمه الله-: «وفيه دلالةٌ على أنّ ميقاتَ أهلِ المدينة منْ عند مسجدِ ذي الحليفة، ولا يَجوزُ لهم تأخيرُ الإحْرام إلى البَيداء، وبهذا قال جميع العلماء». (شرح النووي). 3- فيه دلالة على أنّ الإخْبار بخِلافِ الواقع، يُسمَّى كذِباً وإنْ كان وَقَع سَهْواً، وهذا منْ حيثُ العُموم، وإلَّا فالكذبُ المَذموم في النُّصُوص هو الذي يقع عن عَمْد، فهو الذي يَحْرُم، ويأثم به صاحبُه. 4- أخَذَ الصَّحابةُ -رَضيَ اللهُ عَنهم- مَناسِكَ الحجِّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حَجَّةِ الوَداعِ، كما أمَرَهم بذلك، وبَلَّغوا مَن بَعدَهم، فلم يتركوا شيئاً صغيراً كان أو كبيراً.
الإسلا م هو الدِّينُ الحق قال -تعالى-: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإسلام} (آل عمران:19). وقال -تعالى-: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران:84-85). وقال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (آل عمران:102). وقال -تعالى-: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران:64). وقال -تعالى-: {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} (الأنعام: 125-126). وقال -تعالى-: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (الحج:78). وقال -تعالى-: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} (الزمر:22). وقال -تعالى-: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (فصلت:33). والإسلام ناسخٌ لجميع الشرائع من قبل، وهو محفوظ من التبديل والتغيير أو النقص؛ وذلك لكونه الخاتم، فتكفَّل الله بحفظه.
قال -تعالى-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِينًا} (المائدة:3). وقال -تعالى-: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران:85). وجاء في صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ دَفَعَ اللَّهُ -عز وجل- إِلَى كُلِّ مُسْلِمٍ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا فَيَقُولُ: هَذَا فَكَاكُكَ مِنَ النَّارِ».
وفي رواية: « يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَاسٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِذُنُوبٍ أَمْثَالِ الْجِبَالِ، فَيَغْفِرُهَا اللَّهُ لَهُمْ، وَيَضَعُهَا عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى»، (رواه مسلم من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه ).
وفي رواية: «والذي نفْسُ محمدٍ بيده لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة يَهُوديٌّ ولا نصرانِيٌّ ثم يموت ولم يؤمنْ بالذي أُرْسِلتُ به إلا كان من أصحاب النار».


اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي

ابو وليد البحيرى
2024-07-21, 03:47 PM
شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: الْإِهْلَالُ حين تَنْبَعِث الرَاحِلَة

يوم التّروية: هو الثامن من ذي الحجة وسُمّي بذلك لأنّ الناس كانوا يتروون فيه من الماء أي: يَحملونه معهم منْ مكة إلى عرفات ليَستعملوه في الشرب وغيره

كان عبداللهِ بنُ عمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما يَهتَمُّ اهتمامًا شَديدًا باتِّباعِ السُّنةِ النَّبويَّةِ في كلِّ أُمورِ حَياتِه وفي عِباداتِه

عَنْ عُبَيْدِ بْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ قَالَ لِعبداللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: يَا أَبَا عبدالرَّحْمَنِ، رَأَيْتُكَ تَصْنَعُ أَرْبَعًا، لَمْ أَرَ أَحَداً مِنْ أَصْحَابِكَ يَصْنَعُهَا، قَالَ: مَا هُنَّ يَا ابْنَ جُرَيْجٍ؟ قَالَ: رَأَيْتُكَ لَا تَمَسُّ مِنْ الْأَرْكَانِ إِلَّا الْيَمَانِيَيْن ِ، وَرَأَيْتُكَ تَلْبَسُ النِّعَالَ السِّبْتِيَّةَ، ورَأَيْتُكَ تَصْبُغُ بِالصُّفْرَةِ، ورَأَيْتُكَ إِذَا كُنْتَ بِمَكَّةَ، أَهَلَّ النَّاسُ إِذَا رَأَوْا الْهِلَالَ، وَلَمْ تُهْلِلْ أَنْتَ حَتَّى يَكُونَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ؟ فَقَالَ عبداللَّهِ بْنُ عُمَرَ: أَمَّا الْأَرْكَانُ، فَإِنِّي لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَمَسُّ إِلَّا الْيَمَانِيَيْن ِ، وأَمَّا النِّعَالُ السِّبْتِيَّةُ، فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَلْبَسُ النِّعَالَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَعَرٌ، ويَتَوَضَّأُ فِيهَا، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَلْبَسَهَا، وأَمَّا الصُّفْرَةُ فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصْبُغُ بِهَا، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَصْبُغَ بِهَا، وأَمَّا الْإِهْلَالُ، فَإِنِّي لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُهِلُّ، حَتَّى تَنْبَعِثَ بِهِ رَاحِلَتُهُ. الحديث رواه مسلم في كتاب الحج (2/844) باب: الإهلال من حيثُ تنبعث الراحلة، ورواه البخاري. وعُبَيْدِ بْنِ جُرَيْجٍ هو التّيمي مولاهم، المَدَني، مكيٌّ، منْ ثِقات التابعين، وسألَ هذا التابعيُّ: عبداللهِ بنَ عُمرَ -رَضيَ اللهُ عنهما- عَن أربعةٍ أُمورٍ، يقول: لم يَرَ أصحابَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَفعَلونَها، فقال لابن عمر: رأيتُك تصنع أرْبعاً، لمْ أرَ أحداً منْ أصحابك يصنعها، إلى آخره. قال المازري: يحتمل أنّ مُراده لا يَصْنعُها غيرُك مُجْتمعة، وإنْ كان يصنع بعضها. قوله: «رأيتُك لا تمسّ مِنَ الأركان إلا اليَمانيين» قال له ابن عمر -في جوابه-: إنّه لمْ «يرَ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَمَسُّ إلا اليمانيين» وهما بتخفيف الياء، هذه اللغة الفَصيحة المشهورة، قالوا: لأنّ نِسْبتها إلى اليَمن، فحقّه أنْ يقال: اليَمني، وهو جائز، فلما قالوا «اليماني» أبْدلوا من إحدى ياءي النّسب ألفاً، فلو قالوا: اليماني بالتّشديد، لزم منه الجَمع بين البدل والمُبدل. والمُراد بالرُّكنين اليَمانيين: الرُّكن اليماني، والرُّكن الذي فيه الحَجَر الأسْود، ويقال له: العراقي، لكونه إلى جِهة العراق، وقيل للذي قبله: اليماني، لأنّه إلى جِهة اليمن، ويُقال لهما: اليَمانيان تغليباً لأحَد الاسْمين، كما قالوا: الأبَوَان للأبِ والأم، والقَمَران للشّمس والقمر، والعُمَران لأبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-، ونظائره مَشْهورة، فتارةً يُغلّبون بالفضيلة كالأبوين، وتارة بالخفّة كالعُمَرين، وتارةً بغير ذلك، وقد بسطته في تهذيب الأسماء واللغات. (النووي بتصرف).
الركنان الشاميان لا يُسْتلمان قال العلماء: ويقال للرُّكنين الآخرين اللذين يليان الحِجر: الشّاميان، لكونهما بجِهة الشّام، قالوا: فاليمانيان باقيان على قواعد إبْراهيم - عليه السلام -، بخِلاف الشّاميين، فلهذا لمْ يُسْتلما، واسْتلم اليمانيان لبقائهما على قواعد إبراهيم - عليه السلام -، ثمّ إنّ العراقي مِنَ اليمانيين اختصّ بفضيلة أخرى، وهي الحَجَر الأسْود، فاختصّ لذلك مع الاسْتلام بتقبيله، ووضع الجبهة عليه، بخلاف اليماني. والله أعلم. (النووي). قال القاضي: وقد اتفق أئمّة الأمْصَار والفقهاء اليوم: على أن الركنين الشاميين لا يُسْتلمان، وإنّما كان الخِلافُ في ذلك العصر الأول من بعضِ الصحابة، وبعض التابعين، ثمّ ذهب.
قوله: «ورأيتُك تلبسُ النِّعال السّبتية» قال ابنُ عمر في جوابه: «وأمّا النّعال السّبتية، فإنّي رأيتُ رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يَلبس النّعال التي ليس فيها شَعر، ويتوضّأ فيها، وأنا أحبّ أنْ ألبسها»، و»السبتية» بكسر السين وإسكان الباء الموحدة، وقد فسّرها ابن عمر بقوله: «التي ليس فيها شعر»، وهكذا قال جماهير أهل اللغة، وأهل الغريب وأهل الحديث: إنّها التي لا شَعر فيها، قالوا: وهي مشتقة من «السَّبت» بفتح السين وهو الحَلْق والإزالة، ومنه قولهم: سَبَتَ رأسه، أي: حَلَقه، قال الهروي: وقيل: سُمّيت بذلك، لأنّها انْسَبَتت بالدّباغ، أي: لانت، يقال: رطبةٌ مُنْسَبتة، أي: لينة. وقال أبو عمرو الشيباني: السّبت: كلُّ جِلْدٍ مدبوغ، وقال أبو زيد: السبت: جلود البقر مدبوغة كانت، أو غير مدبوغة، وقيل: هو نوعٌ من الدباغ يقلع الشّعر، وقال ابن وهب: النعال السبتية كانت سوداً لا شَعْر فيها، قال القاضي: وكانت عادة العرب لباس النعال بشعرها غير مدبوغة، وكانت المدبوغة تعمل بالطائف وغيره، وإنما كان يلبسها أهلُ الرفاهية. وقوله: «ويتوضّأ فيها» معناه: يتوضّأ ويَلْبسها ورجلاه رَطْبتان.
قوله: «ورأيتُك تَصبغ بالصُّفرة» وقال ابن عمر في جوابه: «وأمّا الصُّفرة، فإنّي رأيتُ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَصْبُغ بها، فأنا أحبُّ أنْ أصبُغ بها» فقوله: «يصبغ وأصبغ» بضم الباء وفتحها، لغتان مشهورتان، حكاهما الجَوهري وغيره. قال المازري: قيل: المراد في هذا الحديث: صبغ الشّعر، وقيل: صبغ الثوب، قال: والأشْبه أنْ يكونَ صَبغ الثياب، لأنّه أخْبر أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم - صَبغ، ولمْ يُنقل عنه -صلى الله عليه وسلم - أنه صبغ شعره. وقال القاضي عياض: هذا أظْهر الوجهين، وإلا فقد جاءت آثار عن ابن عمر، بيّن فيها تَصْفير ابن عُمر لِحْيته، واحتجّ بأنّ النّبي -صلى الله عليه وسلم - كان يصفّر لحيته بالوَرْس والزعفران. رواه أبو داود، وذكر أيضا في حديث آخر: احْتجاجه بأنّ النبي -صلى الله عليه وسلم لا- كان يصبغ بها ثيابه، حتى عمامته. فعن زيد بن أسلم عنِ ابنِ عمرَ: أنّه كان يصفِّرُ لحيتَه بالصُّفرةِ، حتى تمتلئَ ثيابُه من الصُّفرةِ، فقيل لهُ: لمَ تصبغْ بالصُّفرةِ؟ قال: إنّي رأيتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يصبغ بها، ولمْ يكنْ شَيءٌ أحبَّ إليهِ منْها، وقد كان يصبغ بها ثيابَه كلَّها، حتى عمامَتَهُ. أخرجه أبو داود (4064)، والنسائي (5085) باختلافٍ يسير، وأحمد (5717) بنحوه فيُخبِرُ زيدُ بنُ أسلَمَ: أنَّ ابنَ عُمرَ كان يَصبُغُ لِحْيتَه» أي: يُغيِّرُ مِن لَونِها بالصُّفْرَةِ، أي: يَجعَلُ لونَ شَعرِ لِحيَتِه أصفَرَ، وذلك بنَباتِ الوَرْسِ. والوَرْسُ: نَباتٌ كالسِّمْسِمِ أصفَرُ، «حتَّى تَمتلِئَ ثِيابُه مِن الصُّفرةِ»، أي: مِن كَثرَةِ صَبغِه لِلحيَتِه، «فقيلَ لابنِ عُمرَ: لِم تَصبُغُ بالصُّفرَةِ؟ فقال» ابنُ عُمرَ: «إنِّي رأَيتُ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم - يَصبُغُ بها»، أي: امتِثالًا مِنه لفِعْلٍ قد رآه مِن رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم -، فهو يَتَّبِعُه فيه، «ولم يَكُنْ شيءٌ أحَبَّ إليه»، أي: إلى رَسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم - «مِنْها»، أي: مِن الصَّبْغِ بالصُّفْرَةِ، «وقد كان يَصبُغُ بها ثِيابَه كلَّها حتَّى عِمامَتَه»، أي: حتَّى إنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم - لِحُبِّه للصُّفرَةِ وإعجابِه بها كان يَستَعمِلُها لِجَميعِ ثيابِه بما في ذلك عِمامَتُه -صلى الله عليه وسلم . قوله: «ورأيتك إذا كنتَ بمكّة، أهلّ الناسُ إذا رَأوا الهِلال، ولمْ تُهل أنتَ، حتّى يكون يوم التروية». قال ابن عُمر في جوابه: «وأما الإهْلال، فإنّي لمْ أرَ رسُول الله -صلى الله عليه وسلم - يهل حتى تَنْبعث به راحلته».
يوم التروية ويوم التّروية: فبالتاء المثناة فوق، وهو الثامن من ذي الحجة، سُمّي بذلك؛ لأنّ الناس كانوا يتروون فيه من الماء، أي: يَحملونه معهم منْ مكة إلى عرفات، ليَستعملوه في الشرب وغيره، فالحاج يُحْرِمَ يومَ التَّرويةِ ويُهِلَّ بالحَجِّ، ويفعَلَ كما فعل عند الإحْرامِ مِنَ المِيقاتِ، مِنَ الاغتسالِ والتَّطَيُّب، ولُبْسِ الإزار وغير ذلك، وهو مَذهَبُ الجُمْهورِ: الحَنَفيَّة، والشَّافعيَّة، والحَنابِلة، وابنِ حَزْمٍ مِنَ الظاهريَّة، وهو قَوْلُ طائِفةٍ مِنَ السَّلَفِ.
الأدِلَّة على ذلك مِنَ السُّنَّةِ عن جابِرِ بنِ عبداللهِ -رَضِيَ اللهُ عنهما-، قال: «فلمَّا كان يومُ التَّرويةِ، تَوَجَّهوا إلى مِنًى، فأهَلُّوا بالحَجِّ». رواه مسل(1218)، وعنه -رضي الله عنه - قال: «أهلَلْنا مع رسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بالحجِّ، فلمَّا قَدِمْنا مكَّةَ أَمَرَنا أن نَحِلَّ ونَجْعَلَها عُمْرةً، فكَبُرَ ذلك علينا وضاقَتْ به صُدُورُنا، فبَلَغَ ذلك النّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فما ندْري أشيءٌ بلَغَه مِنَ السَّماءِ، أمْ شيءٌ مِن قِبَلِ النَّاس؟ فقال: أيُّها النَّاس أحِلُّوا، فلَولا الهَدْيُ الذي معي فعَلْتُ كما فعَلْتُم، قال: فأحْلَلْنا حتى وَطِئْنا النِّساءَ، وفَعَلْنَا ما يفعَلُ الحَلالُ، حتى إذا كان يومُ التَّرْويَةِ، وجَعَلْنا مكَّةَ بظَهْرٍ، أهْلَلْنا بالحَجِّ». رواه مسلم (1216).
وقال المازري: أجابه ابنُ عُمر بضربٍ مِنَ القياس، حيثُ لمْ يتمكّن مِنَ الاستدلال بنفسِ فعل رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - على المَسألة بعينها، فاستدلّ بما في معناه، ووجه قياسه: أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - إنّما أحْرَم عند الشُّروع في أفْعال الحَج، والذهاب إليه، فأخّرَ ابنُ عمر الإحْرَام إلى حال شُروعه في الحَج، وتوجّهه إليه، وهو يومُ التّروية، فإنّهم حينئذ يَخرجون مِنْ مكة إلى مِنى، ووافق ابن عمر على هذا الشافعي وأصحابه، وبعض أصحاب مالك وغيرهم، فكان ابنُ عُمرَ -رَضيَ اللهُ عنهما- متَّبِعًا لا مُبتدِعاً، -رضِي اللهُ عَن أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم - أجمعينَ.
وقوله في هذا الباب: «فإنّي لمْ أرَ رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يهل حتى تنبعث به راحلته»، وقال في الحديث السابق: «ثم إذا استوت به الناقة قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهل»، وفي الحديث الذي قبله «كان إذا استوت به راحلته قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهل»، وفي رواية: «حين قام به بعيره»، وفي رواية: «يُهلّ حتى تستوي به راحلته قائمة».

الأفضل أنْ يُحرم إذا انبعثت به راحلته هذه الروايات كلها متفقة في المعنى، وانبعاثها هو استواؤها قائمة، وفيها دليل لمالك والشافعي والجمهور: أنّ الأفضل أنْ يُحرم إذا انبعثت به راحلته، وقال أبو حنيفة: يُحرم عقبَ الصلاة وهو جالس قبل ركوب دابته، وقبل قيامه، وهو قولٌ ضعيف للشافعي، وفيه حديث من رواية ابن عباس لكنه ضعيف.
وفيه: أن التلبية لا تقدم على الإحرام. فأجابَه ابنُ عُمرَ -رَضيَ اللهُ عنهما- هنا بِضرْبٍ مِنَ القِياسِ، حيثُ لم يَتمكَّنْ مِنَ الاستِدلالِ بِنفْسِ فِعلِ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - على المسألةِ بعَينِها، فاستدلَّ بما في معناهُ، ووجْهُ قِياسِه: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إنَّما أحرَمَ عندَ الشُّروعِ في أفعالِ الحجِّ والذَّهابِ.
فوائد الحديث فيه أنّ عبداللهِ بن عمَرَ -رَضيَ اللهُ عنهما- يَهتَمُّ اهتمامًا شَديدًا باتِّباعِ السُّنةِ النَّبويَّةِ، في كلِّ أُمورِ حَياتِه وفي عِباداتِه، ورُبَّما صنَعَ أموراً لم يَصْنَعْها غَيرُه، لشِدَّةِ تَحرِّيه لاتِّباعِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم .
بَيانُ مَشروعيَّةِ الوُضوءِ في النَّعلينِ.
وفيه: بَيانُ أنَّ الخيرَ في اتِّباعِ السُّنةِ مع الاجْتهادِ والقياسِ عليها لِمَن كان أهْلاً لذلك.
وفيه: سُؤالُ المُتعلِّمِ للعالمِ عمَّا رآهُ منه ولم يَعرِفْ أصْلَه أو لم يَفهَمْه، وتوضيحُ العالِم ذلِك للسائِلِ.


اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي

ابو وليد البحيرى
2024-07-21, 03:49 PM
شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: في الإهْلال بالحَجّ مِنْ مَكّة

الحجُّ هوَ أحدُ أَركانِ الإسْلامِ الَّتي أمَرَ اللهُ عزّوجلَّ بها عبادَهُ يَفعلُها المُستطيعُ صحيًّا ومادِّيًّا بحسب استطاعته
المُعتمِر إنْ كان مَكِّيًّا أو خارِجَ مَكَّةَ وداخِلَ المِيقاتِ فَمِيقاتُهُ الحِلُّ وإنْ كان خارِجَ المِيقاتِ فَمِيقَاتُهُ مِيقاتُ حَجِّهِ

عَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - أَنَّهُ قَالَ: أَقْبَلْنَا مُهِلِّينَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِحَجٍّ مُفْرَدٍ، وَأَقْبَلَتْ عَائِشَةُ -رَضيَ اللهُ عنها- بِعُمْرَةٍ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِسَرِفَ عَرَكَتْ، حَتَّى إِذَا قَدِمْنَا طُفْنَا بِالكَعْبَةِ، وَالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَحِلَّ مِنَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ. قَال فَقُلْنَا: حِلُّ مَاذَا؟ قَالَ: «الْحِلُّ كُلُّهُ» فَوَاقَعْنَا النِّسَاءَ، وَتَطَيَّبْنَا بِالطِّيبِ، وَلَبِسْنَا ثِيَابَنَا، ولَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عَرَفَةَ إِلَّا أَرْبَعُ لَيَالٍ، ثُمَّ أَهْلَلْنَا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، ثُمَّ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى عَائِشَةَ -رَضيَ اللهُ عنها- فَوَجَدَهَا تَبْكِي، فَقَال: «مَا شَأْنُكِ؟» قَالَتْ: شَأْنِي أَنِّي قَدْ حِضْتُ، وقَدْ حَلَّ النَّاسُ وَلَمْ أَحْلِلْ، وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ، والنَّاسُ يَذْهَبُونَ إِلَى الْحَجِّ الْآنَ. فَقَال: «إِنَّ هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، فَاغْتَسِلِي ثُمَّ أَهِلِّي بِالْحَجِّ»، فَفَعَلَتْ، وَوَقَفَتْ الْمَوَاقِفَ، حَتَّى إِذَا طَهَرَتْ طَافَتْ بِالْكَعْبَةِ والصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ قَال: «قَدْ حَلَلْتِ مِنْ حَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ جَمِيعًا» فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَجِدُ فِي نَفْسِي أَنِّي لَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ حَتَّى حَجَجْتُ. قَال: «فَاذْهَبْ بِهَا يَا عبدالرَّحْمَنِ، فَأَعْمِرْهَا مِنْ التَّنْعِيمِ». وذَلِكَ لَيْلَةَ الْحَصْبَةِ، الحديث رواه مسلم في الحج (2/881) باب: بيان وجوه الإحرام، وأنه يجوز إفراد الحج والتمتع والقران، وجواز إدخال الحج على العمرة، ومتى يحلّ القارن من نُسكه. في هذا الحَديثِ يَقول جَابِرُ بنُ عبداللهِ -رَضيَ اللهُ عنهما-: «أَقْبَلْنَا مُهِلِّينَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِحَجٍّ مُفْرَدٍ»، قوله: «أقبلنا» أي: أغلبنا أقْبَلوا مُهِلِّينَ معَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِحَجٍّ مُفْرَدٍ، والإهْلالُ: هو رَفعُ الصَّوتِ بالتَّلبيةِ، والمرادُ به هنا: عَقدُ نيَّةِ الإحْرامِ، والإفْرادُ: هو أنْ يُحرِمَ الحاجُّ بالحَجِّ فقطْ، وكانتْ أمُّ المؤمِنينَ عائشةُ -رَضيَ اللهُ عنها- ممَّن أحرَمَ بِعُمْرةٍ.
«حَتَّى إِذَا كُنَّا بِسَرِفَ عَرَكَتْ» أي: حتَّى إذا كانوا بِسَرِفَ، وهو اسمُ مكانٍ على بُعد عَشَرةِ أمْيَالٍ (16 كم تقريبًا) من مَكَّةَ، «عَرَكَتْ» أي: حاضَتْ عَائِشَةُ -رَضيَ اللهُ عنها-، ثمّ إنهم لمَّا قَدِموا إلى مكَّةَ؛ طافوا بالكَعْبةِ، وسَعَوْا بيْنَ الصَّفا والمَروةِ، وتلك أعْمالُ العُمرةِ، أمَرَ رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أصْحابَه -رَضيَ اللهُ عنهمُ- الَّذين لمْ يَسوقوا الهَديَ أنْ يَحِلَّوا من إحْرامِهم، والهدي: اسمٌ لكلِّ ما يُهْدَى إلى الكَعبةِ، منَ الأنْعامِ: من الإبِلِ والبَقرِ والغَنمِ، قُربةً إلى اللهِ -تعالى-.
فَقُلْنَا: حِلُّ مَاذَا؟ قَال: «فَقُلْنَا: حِلُّ مَاذَا؟» أي: فسأَلوا: أيُّ نَوْعٍ منَ الحِلِّ الَّذي نَتحلَّلُ به؟ كأنَّهم كانوا مُتردِّدينَ في هذا الحِلِّ؛ لأنَّهم جاؤوا للحجِّ، والحاجُّ من شأنِه لا يحِلُّ حتَّى يَقضيَ جميعَ مَناسِكِه، فأجابَهُم - صلى الله عليه وسلم - فقال: «الحِلُّ كُلُّهُ» أي: إنَّ كُلَّ الأشياءِ الَّتي مُنِعَتْ بِسببِ الإحْرامِ؛ تَحِلُّ لكم، حتّى النساء. ويُسمَّى هذا النّسك: التَّمتُّعَ في الحجِّ، وهو مَن اعْتمرَ ثمّ حلّ، وانتظر الإحْرام مرةً أخرى يوم التّروية.
{وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وأمّا النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وبعضُ أصْحابِه ممَّن ساقوا الهَديَ، فلم يَحِلُّوا من إحْرامِهم، لقوله -تعالى-: (وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ وَلَا تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ) البقرة: 196. والمعنى: وأدُّوا الحج والعمرة تامَّيْنِ، خالصين لوجه الله -تعالى-، فإنْ مَنَعكم عن الذهاب لإتمامهما بعد الإحْرام بهما مانع، كالعدو والمرض، فالواجب عليكم ذَبْحُ ما تيسر لكم من الإبل أو البقر أو الغنم، تقرباً إلى الله -تعالى-؛ لكي تَخْرُجوا منْ إحْرامكم بحلق شَعر الرّأس أو تقصيره، ولا تحلقوا رؤوسكم إذا كنتُم مُحصرين؛ حتى تَنْحرُوا هديكم في المَوضع الذي أُحْصرتم فيه، ثمّ تحلّوا مِنْ إحْرامكم، كما نَحَرَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في «الحديبية» ثمّ حَلَق رأسه. وغير المُحْصر: لا يَنحر الهدي إلا في الحَرَم، الذي هو مَحلّه في يوم العيد، وهو اليوم العاشر من ذي الحجّة وما بعده من أيام التشريق.
قوله: «ما بال الناس حَلّوا ولمْ تُحلّ؟ ويدلّ عليه أيضًا: قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما سئل في حجة الوداع: «ما بال الناس حَلّوا ولمْ تُحلّ؟ قال: «إني قد سَقْتُ الهَدي؛ فلا أُحلّ حتّى أنحر». قوله: «فَوَاقَعْنَا النِّسَاءَ، وَتَطَيَّبْنَا بِالطِّيبِ، وَلَبِسْنَا ثِيَابَنَا، ولَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عَرَفَةَ إِلَّا أَرْبَعُ لَيَالٍ» أي: فأطاعَ الَّذين لم يَسوقوا الهَديَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فيما أمَرَهم به، فخَلَعوا ثيابَ إحْرامِهم، ثُمَّ قَصَّروا شَعرَهم ولمْ يَحلِقوه، حتَّى يَتسَنَّى لهمُ الحَلقُ بعدَ الحجِّ، ومن ثَمَّ وَاقَعوا النِّساءَ، أي: جامَعوهُنَّ، وتَطَيَّبوا بالطِّيبِ، ولَبِسُوا الثِّيابَ المَمْنُوعَ لُبْسُها في الإحْرامِ، ولَيسَ بينَهم وبينَ الوُقوفِ بِعَرَفةَ -في اليومِ التَّاسِعِ من ذي الحِجَّةِ- إلَّا أربعُ ليالٍ.
قوله: «ثُمَّ أَهْلَلْنَا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ» أي: ثُمَّ أحرَمَ الَّذين كانوا مُتمتِّعينَ بالعُمرةِ بنُسكِ الحَجِّ يومَ التَّرْوِيةِ، وهو اليومُ الثَّامِنُ من ذِي الحِجَّةِ، وسُمِّيَ بذلك؛ لأنَّ الماءَ كان قَليلًا بِمِنًى، فكانوا يَرْتَوونَ منَ الماءِ ويَحْمِلونَه لِمَا بعدَ ذلك. وفيه دليل: على أنّ وقتَ الإحْرام بالحجّ يكونُ يوم التّروية، وهو اليومُ الثامن من ذي الحجّة.
أمرٌ قَدَّرَهُ اللهُ -تعالى- على بَناتِ آدَمَ ثُمَّ دخَلَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على عَائِشةَ -رَضيَ اللهُ عنها- فوجَدَها تَبْكي، فسأَلَها عن سببِ بُكائِها، فأخبَرَتْه بحَيْضِها، وأنَّه منَعَها العُمرةَ؛ لأنَّها لم تطُفْ بالكَعبةِ، وهي ما زالَتْ في حَيضَتِها، والنَّاسُ يَتأهَّبونَ لأداءِ مَناسِكِ الحجِّ، فهي تَبْكي لفَواتِ كلِّ ذلك عليها، فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مواسيًا لها: «إنَّ هذا» أي: إنّ الحَيْضَ أمرٌ قَدَّرَهُ اللهُ -تعالى- على بَناتِ آدَمَ، ,وفي رواية: «أمْرٌ كتَبَه اللهُ -تعالى-» أي: قدَّره، «على بناتِ آدَمَ»، أي: إنَّك لستِ مُختصَّةً بذلك، بل كلُّ بناتِ آدَمَ يكونُ مِنهنَّ هذا، وهذا تَطْييبِ منه - صلى الله عليه وسلم - لخاطرِها، وتسلية وتأنيساً لها، وتخفيفاً لهمها، ومعناه: إنك لستِ مُختصّة به. وهذا دال على أنّ الحائض ومثلها النفساء، والجُنب، والمُحْدث؛ يصح منهم جميع أفعال الحج وأقواله وهيئاته؛ إلا الطواف، فإنه يُشْترط فيه الطهارة، وهذا مذهبُ الجمهور، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «الطواف بالبيت صلاة». رواه الترمذي. والصلاة الطهارة شَرط فيها؛ بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يقبل الله صلاة بغير طهور». متفق عليه. قوله: «فاغْتَسِلي» أي: للنَّظافةِ، وإلا فغسلها هذا لا يرفع الحَدَث، «ثُمَّ أهِلِّي بالحَجِّ» أي: أحْرمي بإحْرامِكِ الَّذي أنتِ فيه، وَالحائضُ والنُّفَساءُ يصِحُّ مِنهما الإحْرام، وجَميعُ أَفعالِ الحجِّ إلَّا الطَّوافَ؛ لقَولِه - صلى الله عليه وسلم -: «اقْضي ما يَقْضي الحاجُّ؛ غيرَ أنْ لا تَطوفي». متَّفقٌ عليه.
فعل عائشة -رضي الله عنها ففعَلَتْ عائشةُ -رَضيَ اللهُ عنها- ما أمَرَها به النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، ووقَفتِ المَواقِفَ كلّها، وأتَتِ بالمناسكَ، فوقَفتْ بعَرَفةَ، وذهَبَتْ إلى مُزْدَلِفةَ ومِنًى، ورمت الجمرة، حتَّى إذا طَهُرَتْ من حَيْضِها، طافَتْ بالكَعْبةِ، وسَعَتْ بيْنَ الصَّفَا والمَرْوةِ، وأخْبَرَها - صلى الله عليه وسلم - أنَّها قدْ حَلَّتْ من حَجَّتِها وعُمْرَتِها جمِيعًا، وذلك أنَّ أعْمالَ العُمرةِ دخلَتْ في الحجِّ؛ لأنَّها صارَتْ قارنةً، فحلَّتْ منهما جميعاً. فقالتْ عَائِشةُ للنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنِّي أجِدُ في نَفْسي أنِّي لَمْ أطُفْ بالبَيْتِ حتَّى حَجَجْتُ» أي: حينَ أحرَمْتُ بالعُمرةِ في أوَّلِ أمرِها، لم أطفْ بالبيت، ومُرادُها أنَّها لم تَتمتَّعْ بالعُمرةِ مثلَ غيرِها، فأمرَ - صلى الله عليه وسلم - أخَاها عبدالرَّحمنِ بنَ أبي بكرٍ -رَضيَ اللهُ عنهم- أنْ يَذهَبَ بها لِتُحرِمَ بِعُمْرةٍ منَ التَّنْعيمِ، تَطْييباً لقَلبِها، و»التَّنعيمُ» مَوضِعٌ على ما يُقارِبُ مِن 5 إلى 6 كيلومتراتٍ مِن مَكَّةَ، أقْرَبُ أطرافِ الحِلِّ إلى البَيْتِ، وسُمِّيَ به لأنَّ على يَمِينِه جبَلَ نُعَيْمٍ، وعلى يَسارِهِ جبَلَ نَاعِمٍ، والواديَ اسمُه: نَعْمَانُ.
قوله: «وكان ذلك ليلةَ الحَصْبةِ» أي: لَيلةَ المَبيتِ بِالمُحَصَّبِ بعدَ النَّفْرِ من مِنًى، والمُحصَّبُ مَوضِعٌ خارجَ مكَّةَ، وهو مَسيلٌ واسعٌ فيه دِقاقُ الحَصَى يقَعُ بينَ مِنًى ومَكَّةَ، وهو إلى مِنًى أقرَبُ، وقيلَ: هو موضِعُ رَمْيِ الجِمار بِمِنًى، وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قدْ نزَلَ به بعدَ انْتهاءِ أيَّامِ رَمْيِ الجَمَراتِ، وكان مَوْلاه أبو رافِعٍ قد نصَبَ له الخَيْمةَ، وَهذا النُّزولُ والمَبيتُ في هذا المكانِ كان قَبلَ طَوافِ الوَداعِ؛ فقدْ جاءَ في صَحيحِ البُخاريِّ: «أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - صلَّى الظُّهرَ والعَصرَ، والمغرِبَ والعِشاءَ، ثُمَّ رقَدَ رَقْدةً بالمُحصَّبِ، ثُمَّ رَكِبَ إلى البَيتِ فَطافَ بِه».
فوائد الحديث متابعة الصحابة للرسول - صلى الله عليه وسلم - في أفعاله وأقواله بالحج والعمرة وغيرهما، وحرصهم على ذلك، والنَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حجَّ مرَّةً واحدةً، وكان ذلك في العامِ العاشِرِ منَ الهِجرةِ، وسُمِّيَت بحَجَّةِ الوَداعِ، فنقَلَ عنهُ الصَّحابةُ -رَضيَ اللهُ عنهم- تَفاصيلَ تلكَ الحَجَّةِ؛ كي نتعلَّمَ الأمّة كيفيَّةَ الحجِّ الَّذي أمَرَ بهِ اللهُ -عزَّ وجلَّ.
فيه بيانُ تَيسيرِ الشَّرعِ على الحائضِ في أُمُورِ الحجِّ والعُمرةِ.
مَشروعيَّةُ التَّمتُّعِ بالعُمرةِ في أشهُرِ الحجِّ.
المُعتمِرَ إنْ كان مَكِّيًّا أو خارِجَ مَكَّةَ، وداخِلَ المِيقاتِ فَمِيقاتُهُ الحِلُّ، وإنْ كان خارِجَ المِيقاتِ فَمِيقَاتُهُ مِيقاتُ حَجِّهِ.
فَسْخُ الحَجِّ إلى العُمْرةِ، لمَنْ لم يَسق الهدي.
الطَّواف الواحِد والسَّعْي الواحِد يُجْزِئانِ القارِنَ عن حَجِّهِ وعُمرَتِه.
الحجُّ هوَ أحدُ أَركانِ الإسْلامِ الَّتي أمَرَ اللهُ -عزَّ وجلَّ- بها عبادَهُ، يَفعلُها المُستطيعُ صحيًّا ومادِّيًّا، بحسب استطاعته.


اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي

ابو وليد البحيرى
2024-07-26, 10:07 AM
شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: التّلبية

كان رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم «يُهِلُّ» أي: يَرفَعُ صَوْتَه بالتَّلبِيةِ ويقول في إهْلالِه: «لَبَّيكَ اللهُمَّ لَبَّيكَ»
الحِكمةُ مِنَ التَّلبيةِ: التَّنبيهُ على إكْرامِ اللهِ تعالى لعِبادِه بأنَّ وُفودَهم على بَيتِه إنَّما كان باستِدعاءٍ مِنه وطلب
التلبية إجابةٌ للعبادة وإشْعار للإقامة عليها وإنّما يتركها إذا شَرَعَ فيما يُنافيها وهو التّحللُ منْها والتّحلل يحصل بالطواف والسعي

عَنْ عبداللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً، عِنْدَ مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ أَهَلَّ، فَقَال: «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ والنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ». قَالُوا: وَكَانَ عبداللَّهِ بْنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما- يَقُولُ: هَذِهِ تَلْبِيَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ نَافِعٌ: كَانَ عبداللَّهِ - رضي الله عنه - يَزِيدُ مَعَ هَذَا: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ، والْخَيْرُ بِيَدَيْكَ، لَبَّيْكَ والرَّغْبَاءُ إِلَيْكَ، والْعَمَلُ. الحديث رواه مسلم في الحج (2/842) باب: التلبية وصِفتها ووقتها. في هذا الحَديثِ بَيانٌ لِصفةِ تَلبِيةِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عندَ الإهْلالِ بالحَجِّ؛ حيثُ يَذكُرُ عبداللهِ بنُ عُمرَ -رضي الله عنهما- أنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كان «يُهِلُّ» أي: يَرفَعُ صَوْتَه بالتَّلبِيةِ، ويقول - صلى الله عليه وسلم - في إهْلالِه: «لَبَّيكَ اللهُمَّ لَبَّيكَ» لبيك أي: أُكرِّرُ إجابَتي لكَ، في امتِثالِ أمْرِكَ بالحَجِّ، فأُلَبِّي أمْرَكَ مرَّةً بعدَ مرَّةٍ.
قوله: «لبَّيكَ لا شَريكَ لكَ لبَّيكَ» أي: أنتَ وحدَكَ مالِكٌ في مُلكِكَ بلا مُنازِعٍ أو شَريكٍ، «إنَّ الحَمدَ والنِّعْمةَ لكَ» أي: فلكَ وحْدَكَ الحَمدُ والشُّكرُ والثَّناءُ، وكلُّ نِعمةٍ فهيَ مِنكَ وأنتَ مُعْطيها، «والمُلْكَ لا شَريكَ لكَ» ذكَرَ المُلْكَ بعدَ الحَمدِ والنِّعمةِ، لتَعميمِ أَسْبابِ الطَّاعةِ وإيضاحِ وجوهِ الانْقيادِ والعِبادةِ، ثُمَّ أتْبَعَه بقولِه: «لا شَريكَ لكَ» ليَزولَ الشَّبهُ عنه ويَستقِلَّ بالمُلكِ والحمدِ والنِّعمةِ مُنفرِدًا. وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لا يَزيدُ على قولِ تلك الكلِماتِ في تَلبيتِه وإهْلالِه. وقيلَ: الحِكمةُ مِنَ التَّلبيةِ: التَّنبيهُ على إكْرامِ اللهِ -تعالى- لعِبادِه، بأنَّ وُفودَهم على بَيتِه، إنَّما كان باستِدعاءٍ مِنه وطلب.
متى يُلبّي الحاجُّ أو المعتمر؟ في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: أهَلّ النبي - صلى الله عليه وسلم - حين اسْتَوتْ به راحلته قائمة، وفي رواية: كان ابن عمر -رضي الله عنهما- إذا صلّى بالغداة بذي الحليفة أمَرَ براحلته فَرُحِّلَتْ، ثم ركب فإذا اسْتَوتْ به استقبل القبلة قائمًا، ثم يُلَبِّي حتى يبلغ الحَرَم ثمّ يُمْسك.
إهْلال رسُول الله - صلى الله عليه وسلم وفي حديث جابر بن عبدالله -رضي الله عنهما- أنّ إهْلال رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ ذِي الحُليفة حين اسْتوت به راحلته. رواه البخاري، وقوله: «أَهَلَّ، فَقَال: «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ،...». فيه: أنّ السُّـنَّة رفعُ الصّوت بالتلبية بالنّسبة للرِّجال. وعن أنس - رضي الله عنه - قال: صَلَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة الظّهر أربعًا، والعصر بذي الحُلَيفة ركعتين، وسمعتُهم يصْرُخُون بهما جميعًا. رواه البخاري، قال ابن حجر: قوله: «وسمعتهم يَصرخون بهما جميعاً» أي: بالحج والعمرة، ومراد أنس بذلك: من نَوى منهم القِران، ويحتمل أنْ يكون على سبيل التوزيع، أي بعضهم بالحج، وبعضهم بالعمرة، قاله الكرماني. ويُشْكِل عليه قوله في الطريق الأخرى، يقول: لبيك بحجة وعمرة معاً. اهـ. وفي رواية للبخاري: قال: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحنُ معه بالمدينة الظهر أرْبعًا، والعصر بذي الحليفة ركعتين، ثمّ بات بها حتى أصبح، ثمّ ركبَ حتى اسْتَوتْ به على البيداء، حَمِد الله وسَبّح وكَبّر، ثم أهَلّ بِحَج وعمرة، وأهلّ الناسُ بهما. وروى ابن أبي شيبة: عن بكر بن عبدالله المزني قال: كنتُ مع ابن عمر فَلَبّى حتى أسْمَعَ ما بينَ الجبلين، قال ابن حجر: إسناده صحيح.
رفع الصحابة أصواتهم بالتلبية وأخرج أيضًا: من طريق المطلب بن عبدالله قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرفعون أصواتهم بالتلبية، حتى تُبَحّ أصواتهم. قال ابن حجر: إسناده صحيح. وروى أيضًا: عن زيد بن خالد الجُهني قال: قال رسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: جاءني جبريل فقال: « يا محمَّدُ، مُرْ أصحابَكَ فليَرفَعوا أصواتَهُم بالتَّلبيةِ، فإنَّها مِن شعارِ الحجِّ». رواه ابن ماجة. وروى أيضا من طريق المسيب بن رافع قال: كان ابن الزبير يقول: التلبيةُ زينة الحج وقال ابن عباس: هي زينةُ الحاجّ. وروى عبدالرزاق: عن معمر عن الزهري عن سالم قال: كان ابنُ عُمر يَرْفعُ صَوته بالتلبية، فلا يأتِ الرَّوحاء حتى يَصْحَل صوته قال الخليل: صَحل صوتُه يصحل صَحْلاً، فهو أصْحل، إذا كانت فيه بُحّة. قال الخرقي: ويُستحب اسْتدامة التلبية، والإكثار منها على كل حالٍ، لا سيما إذا علا نشْزا، أو هبط وادياً، وإذا التقت الرفاق، وإذا غطى رأسه، وفي دُبر الصلوات المكتوبة. «المغني» (5/105). وبهذا قال الشافعي. قال ابنُ عبدالبر: أجْمعُ العُلماء على أنّ السُّنّة في المَرأة، ألا تَرفعَ صَوتَها، وإنّما عليها أنْ تُسْمِع نفسَها. «المغني (5/160).. فَخَرَجَتْ منْ جملة ظاهر الحديث، وخُصَّتْ بذلك، وبَقِي الحديث في الرّجال، قال ابنُ قدامة: وإنّما كُره لها رفعُ الصّوت، مُخافةَ الفِتْنة بها، ولهذا لا يُسنُّ لها أذانٌ ولا إقامة، والمَسْنُون لها في التّنْبيه في الصلاة: التّصفيق دُون التّسبيح.
متى يَقطع المُعتمِر التّلبية؟ قال الإمامُ أحمد: يقطع المُعتَمِر التلبية إذا اسْتلم الرُّكن، قال ابن قُدامة في المغني (5/256): وبهذا قال ابنُ عباس وعطاء وعمرو بن ميمون وطاووس والنخعي والثوري وإسحاق وأصحاب الرأي. وقال ابن عمر وعروة والحسن: يقطعها إذا دَخل الحَرَم. وحُكِي عن مالك: أنه إنْ أحْرمَ مِن المِيقات، قطع التلبية إذا وَصَلَ إلى الحَرم، وإنْ أحْرمَ بها مِنْ أدْنى الحِلّ، قطع التلبية حين يَرَى البيت. قال ابن قدامة: ولنا ما روي عن ابن عباس- يرفعُ الحديث- كان يُمْسِك عن التّلْبية في العمرة إذا اسْتلمَ الحَجَر. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: عن النّبي - صلى الله عليه وسلم - اعْتمرَ ثلاث عُمَر، ولمْ يزلْ يُلَبّي حتّى اسْتلمَ الحَجَر.
التلبية إجابةٌ على العبادة ولأنّ التلبيةَ إجابةٌ للعبادة، وإشْعار للإقامة عليها، وإنّما يتركها إذا شَرَعَ فيما يُنافيها، وهو التّحللُ منْها، والتّحلل يحصل بالطواف والسعي، فإذا شرع في الطواف فقد أخَذ في التّحلّل، فينبغي أنْ يقطع التلبية، كالحجّ إذا شَرَع في رمي جَمرة العقبة لحصول التحلل بها، أمّا قبل ذلك فلم يشرع فيما ينافيها فلا معنى لقطعها، والله أعلم. اهـ. وقال ابن عبدالبر: اخْتَلَف العُلماء في قطع التلبية في العُمرة. وقال مالك في موطئه- على ما ذكره ابن قدامة- وأضافَ ذلك إلى ابن عمر وعروة بن الزبير. وقال الشافعي: يقطع المُعْتمر التلبية في العُمرة، إذا افتتح الطّواف. وقال مرة: يُلَبِّي المعتمر حتى يستلم الرُّكن، وهو شيءٌ واحد. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يزال المعتمر يلبي حتى يفتتح الطواف. قال أبو عمر: لأنّ التلبية استجابةٌ لمَا ذكر إليه فرضَاً أو نَدْبا، فإذا وصَلَ إلى البيت قَطَع الاسْتجابة، والله أعلم، وهؤلاء كلُّهم لا يُفَرِّقُون بين المُهِلّ بالعمرة، بعيد أو قريب. اهـ. قالَ نَافِعٌ: كَانَ عبداللَّهِ - رضي الله عنه - يَزِيدُ مَعَ هَذَا: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ، والخَيْرُ بِيَدَيْكَ، لَبَّيْكَ والرَّغْبَاءُ إِلَيْكَ، والعَمَلُ. وهذهِ الزِّيادةُ مِن قَولِ ابن عُمرَ - رضي الله عنه -، وقدْ ورَدَ عن بَعضِ الصَّحابةِ زِياداتٌ أُخْرى في التَّلبيةِ، وهيَ مِن بابِ الزِّيادةِ في الخيرِ، وقد ورَدَ في الصَّحيحَينِ أنَّه - صلى الله عليه وسلم - لم يكنْ يُنكِرُ على أحدٍ من أصْحابِه شيئاً منْ إهْلالِه. وعن أنس - رضي الله عنه - قال: لبيكَ حقاً، تعبداً ورِقًّا، قال القاضي: قال أكثر العلماء: المُسْتحبُ الاقْتصارُ على تلبية رسُول الله - صلى الله عليه وسلم -. وبه قال مالك والشافعي. نقله النووي. قوله: «وَالخَيْرُ بِيَدَيْكَ» أي: بِيَدِك الخيرُ كلّه، كما في قوله -تعالى-: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (آل عمران: 26).
صِفة «اليَد» لله -عَزّوجَلّ وكما في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث علي بن أبي طالب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنّه كان إذا قامَ إلى الصلاة قال: «وَجَّهْتُ وَجْهي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفًا، وما أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ، إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي، وَمَحْيَايَ وَمَمَاتي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، لا شَرِيكَ له، وبِذلكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ،.. . وفيه: لبيكَ وسَعديك، والخَيرُ كلُّه في يَديك، والشَّرُّ ليسَ إليك، أَنَا بكَ وإلَيْكَ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إلَيْكَ...». رواه مسلم وأهل السُّنّة: يُثبِتون بمثل هذه النُّصُوص صِفة «اليَد» لله -عَزّ وجَلّ. ومعنى «والرغباء إليك»: قال المازري: يُرْوى بفتح الراء والمدّ، وبضم الراء مع القصر، ونظيره: العُلا والعلياء، والنّعمى والنَّعْماء. قال القاضي: وحَكَى أبو علي فيه أيضًا الفتح مع القصر: الرَّغْبَى مثل سَكْرَى، ومعناه هنا: الطّلب والمسألة إلى مَنْ بيده الخير، وهو المقصود بالعمل، الْمُسْتَحِقّ للعبادة. اهـ (النووي).

اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي

ابو وليد البحيرى
2024-08-09, 11:01 AM
شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: في التّلبية بالعمرة والحج

في الحديث دلالةٌ على بقاء أنْواع الأنْسَاك إلى قيام السّاعة مِنْ عُمْرةٍ أو إفْراد بالحجّ أو قِران بين الحجّ والعُمرة إمّا بنُسُك قِران أو تمتُّع
أُمَّةُ الإسْلامِ آخِرُ أُمَمِ الأنْبياءِ في الدُّنيا ونبيُّها خاتَمُ الأنْبياءِ وقد أُرسِلَ إلى النَّاسِ كافَّةً بَشيرًا ونَذيرًا ودعوتُه ممتدَّةٌ إلى آخرِ الزَّمانِ
صفَةُ القِرَانِ: هُوَ أَنْ يُلَبِّيَ الرَّجُلُ بالحَجِّ والعُمْرَةِ مَعاً مِنَ المِيقَاتِ فَيَقُولُ: «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ بِعُمْرَةٍ وحَجَّةٍ» وَيَبْدَأُ بالعُمْرَةٍ ويظلُّ على إحرامه حتى الحجّ

عن أَنَسٍ -رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَهَلَّ بِهِمَا جَمِيعًا: لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا، لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا، وعن أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - يُحَدِّثُ: عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيُهِلَّنَّ ابْنُ مَرْيَمَ بِفَجِّ الرَّوْحَاءِ، حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا، أَوْ لَيَثْنِيَنَّهُ مَا»، وفي الباب حديثان: الحديث الأول: رواه مسلم في الحج (2/905) باب: في الإفْراد والقِران بالحجّ والعُمرة. في هذا الحَديثِ يُخبِرُ أنَسُ بنُ مالكٍ - رضي الله عنه -: «أنَّه سمِعَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَهَلَّ بِهِمَا جَمِيعًا» يعني: الحجّ والعمرة، أي: رَفَعَ صوْتَهُ بالتَّلبيةِ بهما فقال: «لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا»، وفي لفظ: «يُلبِّي بالحَجِّ والعُمرَةِ جميعًا» وذلك في حَجَّةِ الوَداعِ، وهذا دليلٌ واضح على أنَّه - صلى الله عليه وسلم - كانَ قارِنًا في حجّته، وجاء في رواية مسلم: فأخبَرَ بكرُ بنُ عبداللهِ - وهو راوي الحَديثِ عن أنسٍ - رضي الله عنه - عبداللهِ بنَ عُمرَ -رضي الله عنهما- بما قالَه أنسٌ - رضي الله عنه -، فقالَ عبداللهِ - رضي الله عنه - مُعقِّبًا على أنسٍ - رضي الله عنه -: «لبَّى بالحَجِّ وحْدَهُ» أي: كانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مُفرِداً، ولم يجعَلْ معَه عُمرةً.
ما تَعدُّونَنا إلَّا صِبْيانًا! فرجع بَكرٌ بقَولِ ابنِ عُمرَ هذا إلى أنَسٍ - رضي الله عنه -، فقالَ - صلى الله عليه وسلم -: «ما تَعدُّونَنا إلَّا صِبْيانًا!» أي: ما تَحسَبونَنا إلَّا صِغاراً، لا نَعلَمُ شيئًا مِن أَحْوالِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وسُننِه، يقصِدُ - صلى الله عليه وسلم - بذلك: صِغَرَ سِنِّه، وقصر مدَّةَ صُحبتِه وخِدمتِه للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حينَما حضَرَ إلى المَدينةِ مُهاجراً، كان عُمرُ أنَسٍ - رضي الله عنه - حينَئذٍ عَشْرَ سِنينَ، وعليه فإنَّ أنَسًا - رضي الله عنه - كان بعُمرِ العِشرينَ يومَ حجَّةِ الوَداعِ، فمِثلُه ممّا يُقبَلُ حَديثُه بلا شَكّ، لبُلوغِه ورُشدِه. فأنَسٌ - رضي الله عنه - بذلك؛ يُنكِرُ بمَقولتِه تلك على مَن يظُنُّ به شيئاً مِنْ ذلك، ولذلك قالَ: «سَمعْتُ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقولُ: لبَّيكَ عُمرةً وحَجًّا» ويؤكِّدُ - رضي الله عنه - ذلك بما رَواه عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وأنَّه رَآه وسَمِعَه يفعَلُ ذلك.
الرَّاجِحُ أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان قارِنًا والرَّاجِحُ والأصَحُّ أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان قارِنًا، كما قال أنَسٌ، ومَنْ قال بغيرِ ذلك؛ فإنَّه بَنى على ما شاهَدَه منَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وسَمِعَه في إهْلالِه، فمَن سَمِعَه أهلَّ بالحجِّ، ظنَّه أنَّه أفرَدَ، ومَن سَمِعَه أهلَّ بالعُمرةِ ظنَّ أنَّه تمتَّعَ، ومَن سَمِعَه أهلَّ بالحجِّ والعُمرةِ معاً، علِمَ أنَّه قارِنٌ بينَهما بإحْرامٍ واحدٍ، ودخَلَتِ العُمرةُ في أعْمالِ الحجِّ
فوائد الحديث حجُّ بيت الله وهو الرُّكنُ الخامسُ مِن أَركانِ الإِسْلامِ، هوَ عِبادةٌ لمَنِ استَطاعَ إليها سَبيلًا، وتُؤخَذُ جميعُ أَعْمالِه مِن سُنَّةِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قولاً وفعلاً، كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصْحابه فقال لهم: «خُذُوا عنّي مَنَاسِككم».
وكان التَّابِعونَ يَذهَبونَ إلى أصْحابِ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ليَسأَلوهم، ويَتعلَّموا منهم حَديثَ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وأفْعالَه وأقْوالَه في الحج، وغيره من العِباداتِ.
وفيه: أنّ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - علَّمَنا أحْكامَ الحجِّ والعُمْرَةِ، وبيَّنَها قَوْلًا وفِعْلًا، وكان الصَّحابةُ الكِرامُ يتَّبِعونَهُ، ويَنْقُلونَ إلينا كُلَّ سُنَّتِهِ القَوْليَّةِ والعَمَليَّةِ والتَّقْريريَّة ِ.
وفيه: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في حَجَّةِ الوَداعِ قارِنًا بين الحَجِّ والعُمْرةِ في نُسُكٍ واحِدٍ، وكان معه هدْيُهُ، وكان إهْلالُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بهما جميعاً كما في هذا الحديث، وقيل: كان قرانه في نِهايَةِ الأمْرِ، وإلَّا فإنَّه بَدَأَ بالحَجِّ، ثمَّ أدْخَلَ عليه العُمْرةَ، فصار قارِنًا.
وصفَةُ القِرَانِ: هُوَ أَنْ يُلَبِّيَ الرَّجُلُ بالحَجِّ والعُمْرَةِ مَعاً مِنَ المِيقَاتِ، فَيَقُولُ: «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ بِعُمْرَةٍ وحَجَّةٍ» وَيَبْدَأُ بالعُمْرَةٍ، ويظلُّ على إحرامه حتى الحجّ، فيذهب إلى عرفة، ويُتم حجّه، فَيَجْمَعُ بين عَمَلِ الحَجِّ والعُمْرَةِ في عَمَلٍ واحِدٍ، حَتَّى يَطوفَ طَوافَ الإفَاضَةِ، ثُمَّ يَجِبُ عليه ما يَجِبُ على المُتَمَتِّعِ بالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ مِنَ الهَدْيِ إنْ تَيَسَّرَ ذلك عليه، أو الصِّيَامُ إنْ لَمْ يَجِدْ هَدْياً.
الحديث الثاني في الباب حديث أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - يُحَدِّثُ: عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيُهِلَّنَّ ابْنُ مَرْيَمَ بِفَجِّ الرَّوْحَاءِ، حَاجًاً أَوْ مُعْتَمِراً، أَوْ لَيَثْنِيَنَّهُ مَا» أخرجه مسلم في الحج (2/915) باب: إهلال النّبي - صلى الله عليه وسلم - وهديه. في هذا الحَديثِ يُقسِمُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - باللهِ تعالى، الَّذي يملِكُ رُوحَ ونفس عَبدِه ونبيِّه محمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -، ويملِكُ أنْ يَقبِضَها، وكثيراً ما كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقسِمُ بهذا القسَمِ، فيُقسمُ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ عيسَى ابنَ مَريمَ -عليهما السَّلامُ- سينزلُّ مِنَ السّماء إلى الأرْض، وذلك في آخِرِ الزَّمانِ، وهو مِنْ عَلاماتِ يومِ القِيامةِ الكُبْرى، ويهلّ والإهْلالُ: هو رفعُ الصَّوتِ بالتَّلبيةِ، وهذا كنايةٌ عن خُروجِه للحجِّ إلى بَيتِ اللهِ عزَّ وجلَّ. ويقَعُ ذلك بفَجِّ الرَّوْحاءِ، والرَّوْحَاءِ: بفَتْح الفاء وتشديد الجِيم، بين مكّة والمَدينة، وكان طريق النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - إلى بدر، وإلى مكة عام الفتح، وعام حَجّة الوَدَاع، ويكونُ إهْلالُه عليه السَّلامُ مُفرِدًا بالحجِّ، أو مُفرِدًا بالعُمرةِ، أو يَجمعُ بيْنَ الحجِّ والعُمرةِ. ونَبيُّ اللهِ عيسَى ابنُ مَريمَ -عليه السَّلامُ- حيٌّ في السَّماءِ، وثبَتَ في الصَّحيحَينِ: «أنَّه -عليه السَّلامُ- سينزِلُ قبلَ يومِ القِيامةِ إلى الأرْضِ، حكَماً عَدلًا، فيَكسِرُ الصَّليبَ، ويقتُلُ الخِنزيرَ، ويضَعُ الجِزيةَ»، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم .
فوائد الحديث بيانُ أنَّ الأنْبياءَ يحُجُّونَ بيتَ الله الحَرَام ويَعتمِرونَ.
أنّ أُمَّةُ الإسْلامِ شأنُها عَظيمٌ؛ فإنَّها آخِرُ أُمَمِ الأنْبياءِ في الدُّنيا، ونبيُّها خاتَمُ الأنْبياءِ، وقد أُرسِلَ إلى النَّاسِ كافَّةً بَشيرًا ونَذيرًا، ودعوتُه ممتدَّةٌ إلى آخرِ الزَّمانِ.
وفي الحديث دلالةٌ على بقاء أنْواع الأنْسَاك إلى قيام السّاعة، مِنْ عُمْرةٍ، أو إفْراد بالحجّ فقط، أو قِران بين الحجّ والعُمرة، إمّا بنُسُك قِران أو تمتُّع.
وفيه إخبارٌ بما يكون في آخِر الزّمان، قبيل قيام السّاعة، وهو بعد نُزُول عيسى عليه السّلام؛ حيث سيهلّ عليه السلام ويلبّي إلى مكة حاجّاً أو مُعتمراً، أو آتياً بالحجّ والعُمرة جميعاً.


اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي

ابو وليد البحيرى
2024-08-09, 11:03 AM
شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: في إفْرَادِ الحَجّ



المُعتمر والمُفرد لا هَدْي عليهما لكن لا يمنع ذلك منْ أنْ يُهْدي المُفرد والمُعتمر اسْتحباباً
يستحب سوق الهدي للمُفْرد والمُعتمر فالنّبيُّ صلى الله عليه وسلم ساق الهَدْي اسْتحبابًا
في الحديث وقوعُ الاجتهادِ في الأحكامِ بيْن الصَّحابةِ وإنكارُ بَعضِ المُجتهِدين على بَعضٍ بالنَّصِّ

عَنْ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: أَهْلَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْحَجِّ مُفْرَداً، وفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَهَلَّ بِالْحَجِّ مُفْرَدًا، وعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - أَفْرَدَ الْحَجَّ. الحديثان رواهما مسلم في الحج (2/904- 905) باب: في الإفْرَاد بالحَجِّ والعُمرة.
يقول الصحابي الجليل ابن عمر -رضي الله عنهما-: «أهْلَلْنا مع رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحَجّ مُفرداً» أي: أنّه بدأ أولَ الحَجّ مُفْرداً، فلمّا أتى إلى الجِعْرانة، أدْخلَ عليها العمرة، فاعتمرَ أولاً، وبَقِي على إحْرامه، ولمْ يتحلّل إلا في يوم النّحر، وهذا يَردُّ على منْ يقول: إنّ النّبي - صلى الله عليه وسلم - كان مُفْرداً فقط.
أيِّ الحجّ أفضل؟
وقد اختلفَ العلماء في أيِّ الحجّ أفضل: الإفْراد، أو التّمتع، أو القِرَان؟ وكلّ مَنْ قال بقولٍ منها، قال: إنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فَعَلَ ذلك، وظَهَر له هذا في بعض الأدلة فاعتمد عليه، أمّا الذي قال: إنّ التّمتع أفضل، فاعتمد على ظاهر بعض الروايات التي تقول: تمتع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعُمرة إلى الحج.
والرد على هذا القول:
الأمر الأول: أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - تمنّى لو أنّه تمتّع، فقال: «لو اسْتقبلتُ مِنْ أمْري ما اسْتَدْبرتُ، ما سقتُ الهَدي مِنَ المِيقات» فالذي يَسوق الهَدي مِنَ الميقات، هو القارنُ لا المُتمتّع.
الأمر الثاني: أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لما اعْتمر، لمْ يَتَحلّل إلا في يومِ النّحر، بعد أداء المناسك، فهذا يدلُّ على أنّه كان قارناً.

الذي يقول: إنّ الإفْراد أفْضل
والذي يقول: إنّ الإفْراد أفْضل، اعتمد على أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان مُفرداً في حَجّه، وأنّ منْشأ الحج، أي: أصْل الحجّ في ذي الحليفة، كان إفراداً، وقد أهلّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحجّ فقط منْ ذي الحليفة، كما هي أحاديث الباب. والصّوابُ والصّحيح: أنّه - صلى الله عليه وسلم - بدأ الحج مُفرداً، ثمّ أدخلَ عليه مِنَ الجِعْرانه العُمْرة، فكان أولاً مُفرداً، وقبل أداء الحجّ، أدْخلَ عليه العُمرة، فاعتمرَ أولاً ثمّ حَجّ. ومعلوم أنّ سوق الهدي على سبيل الاسْتحباب للمُفْرد والمُعتمر، فالنّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ساق الهَدْي اسْتحباباً؛ لأنّه نَوى الإفراد، ولكن سوق الهدي حَمَله على إدخال العمرة على الحجّ، فصَار قارنًا، وهناك اتفاقٌ بين أهلِ العلم: أنّ المُعتمر لا هَدْي عليه، وأنّ المُفردَ لا هَدْي عليه، لكن لا يمنع ذلك منْ أنْ يُهْدي المُفرد والمُعتمر اسْتحباباً، وقد قال أنس: «سَمعتُ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يلبّي بالحجّ والعُمْرة جَميعاً»، وعبدالله بن عمر يقول: أنا كنتُ معه، وما كان يُلبّي إلا بالحج فقط.
تفسير هذا الخلاف
وتفسير هذا الخلاف: أنّ عبدالله بن عمر حَكى ما قد سَمعه أولَ الأمْر، منْ ميقات ذي الحليفة، وأنس بن مالك كان يَأخذ بخِطَام ناقته في مناسك الحَجّ، ابتداءً مِن الجعرانة حتى قَضَى حَجّه، فسَمِعه يقول: «لبيك اللهُمّ عُمرةً وحجّة». فلمّا أدخلَ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - العُمرة على الحَجّ، سَمِعه أنسٌ فحَكى ما سمعه، وعبدالله بن عمر حكى ما سمعه أولاً، فكلّ واحدٍ مِنَ الصّحابة يحكي ما قد سمعه، وسيأتي الحديث. الرأيَ الصّحيح
في حَجّة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -
قال النووي: «قدَّمْنا أنّ الرأيَ المُخْتار- بل الصّحيح- في حَجّة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: أنه كان في أوّلِ إحْرامه مُفْرداً، ويحمل عليه حديث عبدالله بن عمر، ثمَّ أدخلَ العُمْرة على الحَجّ فصَارَ قَارناً، وهذا حديثُ أنس، وبهذا اتّفقت الرّوايات، وجمعنا بين الأحاديث أحْسَن جمع، فحديثُ ابن عمر مَحْمولٌ على أوّل إحْرامه، وحديث أنس مَحمولٌ على أواخره وأثنائه، وكأنّه لمْ يسمعه أولاً، ولا بُدّ مِنْ هذا التأويل أو نحوه، لتكونَ روايةُ أنسٍ مُوافقة لرواية الأكثرين، كما سبق بيان ذلك».
باب: القِرَان بينَ الحَجّ والعُمْرة
عَنْ بَكْرٍ بن عبدالله: عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُلَبِّي بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ جَمِيعًا. قَالَ بَكْرٌ فَحَدَّثْتُ بِذَلِكَ ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ: لَبَّى بِالْحَجِّ وَحْدَهُ، فَلَقِيتُ أَنَسًا فَحَدَّثْتُهُ بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ، فَقَالَ أَنَسٌ: مَا تَعُدُّونَنَا إِلَّا صِبْيَانًا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا».
باب: في مُتْعُةِ الحجِّ
عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رضي الله عنه - قَالَ: تَمَتَّعْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَمْ يَنْزِلْ فِيهِ الْقُرْآنُ، قَالَ رَجُلٌ بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ، وعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رضي الله عنه - بِهَذَا الْحَدِيثِ قَالَ: تَمَتَّعَ نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَتَمَتَّعْنَا مَعَهُ، وعَنْ جَابِرِ بْنِ عبداللَّهِ -رضي الله عنهما- قَالَ: قَدِمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَنَحْنُ نَقُولُ: لَبَّيْكَ بِالْحَجِّ، فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نَجْعَلَهَا عُمْرَةً.
الأحاديث رواها مسلم في الحج (2/900) باب: جواز التمتع. في هذا الحَديثِ يَرْوي عِمْرانُ بنُ حُصينٍ - رضي الله عنه - أنَّهم تَمتَّعوا على عَهدِ رَسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، والمَقصودُ بِالمُتعَةِ هنا: التَّمتُّعُ في الحَجِّ، بالعمرةِ مع الحجِّ، وفَعَلوه في حياتِه وَهوَ مَوجودٌ حاضِرٌ بيْنَهُم، ونَزَلَ القرآنُ بمَشروعيَّتِه، قالَ -تعالَى-: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} (البقرة: 196)، ولم يَنزِلْ قُرآنٌ يُحرِّمْه، فاستقَرَّ هذا الحُكمُ، وهو مستمِرٌّ، ولم يَنْهَ عنه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حتَّى مات.
قوله: «قَالَ رَجُلٌ بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ»
أي: فلا نَسخَ لهذا الحُكْمِ بعْدَ ذلك، مهْما قال رجُلٌ بِرَأيِه ما شاء، يعني: مِن تَرْكِه، أو ترك الأخذِ به، وأنَّ الرَّأيَ بعْدَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - باختيارِ الإفرادِ بحَجٍّ فقطْ، لا يَنسَخُ ما سَنَّه النبي - صلى الله عليه وسلم - مِن التَّمتُّعِ والقِرانِ. والرَّجلُ المَقصودُ هُنا هوَ: عُمرُ بنُ الخَطَّابِ - رضي الله عنه -، فَقدْ نَهَى عَنِ التَّمتُّعِ في الحَجِّ، وكان نهيُه عن ذلك على جِهةِ التَّرغيبِ للنَّاسِ، فيما يَراهُ الأفضلَ لَهُم بأنْ يُفرِدوا العُمرَةَ بِسَفرٍ، والحَجَّ بِسَفرٍ. قال ابن عبدالبر: لا خلافَ بين العلماء أنّ التمتع المراد بقول الله -تعالى-: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ} (البقرة: 196). هو الاعتمار في أشهر الحج. قال: ومِنَ التّمتع أيضاً: القِرَان؛ لأنّه تمتعٌ بسُقوط سَفَره للنُّسُك الآخر من بلده. قال: ومِنَ التمتع أيضاً: فَسْخُ الحج إلى العُمرة. انتهى
أوَّلَ مَن نَهى عن التَّمتُّعِ
وكان أوَّلَ مَن نَهى عن التَّمتُّعِ: عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ - رضي الله عنه -، في أيَّامِ خِلافتِه - رضي الله عنه -، وتابَعَه عُثمانُ - رضي الله عنه - في ذلك، وغَرَضُهم منه: الحثُّ على تَحصيلِ فَضيلةِ الإفْرادِ، وليَكثُرَ قصْدُ الناسِ بيتَ الله الحرام طوال العام، حاجِّينَ ومُعتمِرينَ، وليس إبطالًا للتَّمتُّعِ، وفي مسلمٍ: أنَّ ابنَ الزُّبَيرِ أيضًا كان يَنْهى عنها، وابنُ عَبَّاسٍ كان يأمُرُ بها، فسألوا جابرًا، فأشار إلى أنَّ أوَّلَ مَنْ نَهَى عنها كان عُمَرَ - رضي الله عنه .
فوائد الحديث
وقوعُ الاجتهادِ في الأحكامِ بيْن الصَّحابةِ، وإنكارُ بَعضِ المُجتهِدين على بَعضٍ بالنَّصِّ.
وفيه: إقرارٌ للقاعدةِ الفِقهيَّةِ: «لا اجتِهادَ مع ثُبوتِ النَّصِّ».
وفيه: جوازُ نَسخِ القُرآنِ بالقُرآنِ، ولا خِلافَ فيه، وجوازُ نَسخِه بالسُّنَّةِ، ووجهُ الدَّلالةِ منه قولُه: «ولم يَنْهَ عنْها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -»، فإنَّ مفهومَه: أنَّه لو نَهَى عنها، لامتنَعْتُ، ويستلزِمُ ذلك رَفْعَ الحُكمِ، ومقتضاه جوازُ النَّسخِ بالسُّنّة.


اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي

ابو وليد البحيرى
2024-08-22, 11:38 PM
شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: مَنْ أحْرَمَ بالحَجّ ومَعَه الهَدْي



التَّمتُّعُ في الحَجِّ هو أنْ يُحْرِمَ الحاجُّ بالعُمْرَةِ في أشهُرِ الحَجِّ ثمَّ يَحِلَّ منها ثم يُحْرِمَ بالحَجِّ مِن عامِه
أبطَلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عادةً مِنْ عاداتِ الجاهليَّةِ التي كانتْ تُحرِّمُ العُمرةَ في أشهُرِ الحجِّ وأقَرَّ شَريعةَ الإسْلامِ وما فيها مِن التَّوسعةِ في أُمورِ الحجِّ والعُمرةِ

عن مُوسَى بْنِ نَافِعٍ قَالَ: قَدِمْتُ مَكَّةَ مُتَمَتِّعاً بِعُمْرَةٍ قَبْلَ التَّرْوِيَةِ بِأَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، فَقَالَ النَّاسُ: تَصِيرُ حَجَّتُكَ الْآنَ مَكِّيَّةً، فَدَخَلْتُ عَلَى عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ فَاسْتَفْتَيْتُ هُ، فَقَالَ عَطَاءٌ: حَدَّثَنِي جَابِرُ بْنُ عبداللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، أنَّهُ حَجَّ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَامَ سَاقَ الهَدْيَ مَعَهُ، وَقَدْ أَهَلُّوا بِالْحَجِّ مُفْرَدًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَحِلُّوا مِنْ إِحْرَامِكُمْ فَطُوفُوا بِالْبَيْتِ، وبَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ، وقَصِّرُوا وأَقِيمُوا حَلَالًا، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ، فَأَهِلُّوا بِالحَجِّ، واجْعَلُوا الَّتِي قَدِمْتُمْ بِهَا مُتْعَةً». قَالُوا: كَيْفَ نَجْعَلُهَا مُتْعَةً، وقَدْ سَمَّيْنَا الحَجَّ؟ قَالَ: «افْعَلُوا مَا آمُرُكُمْ بِهِ، فَإِنِّي لَوْلَا أَنِّي سُقْتُ الْهَدْيَ، لَفَعَلْتُ مِثْلَ الَّذِي أَمَرْتُكُمْ بِهِ، وَلَكِنْ لَا يَحِلُّ مِنِّي حَرَامٌ، حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ»، فَفَعَلُوا.
الحديث رواه مسلم في الحج (2/884-885) باب: بيان وُجُوه الإحرام، وأنّه يجوز إفرادُ الحَج والتّمتع والقران، وجواز إدْخال الحجّ على العمرة، ومتّى يحلّ القارن من نُسكه.

مُوسى بنُ نافع هو التّابعي أبو شهاب الحنّاط الأسَدي، الهُذَلى الكوفى الأكبر، وليسَ بأبي شهاب الأصْغر عبدربه بن نافع، روى عن عطاء بن أبي رباح وسعيد بن جبير ومجاهد، روى عنه يحيى بن سعيد القطان وعيسى بن يونس ومحمد بن عبيد وأبو نُعيم، صدوق، أخرجَ له البخاري ومسلم. في هذا الحديثِ يَرْوي التابعيُّ موسى بْنُ نافعٍ أنَّه قَدِمَ إلى مكَّةَ مُتَمَتِّعًا بعُمْرةٍ، وأهَلَّ بذلك، فوَصَل مكَّةَ ودَخَلها قَبْلَ يومِ التَّرْوِيَةِ -وهو اليومُ الثَّامِنُ مِن ذي الحِجَّةِ- بثَلَاثةِ أيَّامٍ، وسُمِّيَ يومُ التَّرويةِ بذلك، لأنَّ الحُجَّاجَ كانوا يَرْتَوُونَ فيه مِن الماءِ لِما بعْدَه، أي: يَستَقُون ويَسْقُون إبِلَهم فيه، استِعدادًا للوُقوفِ يومَ عرَفةَ، فَقالَ له بعضُ الناسِ مِن أهْلِ مَكَّةَ: تَصِيرُ الآنَ حَجَّتُكَ مَكِّيَّةً، حيثُ تَفوتُك فَضيلةُ الإحْرامِ مِنَ المِيقاتِ، فتُشْبِهُ في ذلك حَجَّةَ أهلِ مكَّةَ، اللذين لا يُحْرِمون مِنْ مِيقاتٍ مُعيَّنٍ، بلْ يُحرِمون للحجِّ مِن مَكانِهم، فذَهَبَ أبو شِهابٍ إلى التابعيِّ الجليل الفقيه عَطاءِ بنِ أبي رَباحٍ لِيَسأَلَه في ذلك ويَسْتفتيهِ، فحَدَّثَه أنَّ جَابِرَ بنَ عبدالله -رَضيَ اللهُ عنهما- أخْبَرَهُ: أنَّه حجَّ مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يومَ ساقَ البُدْنَ معَه، مِن المدينةِ إلى مَكَّةَ في حَجَّةِ الوَداعِ، في السَّنةِ العاشرةِ مِن الهجرةِ، والبُدْنُ يُقصَدُ بها الهَدْيُ، والهدْيُ: اسمٌ لِما يُهدَى ويُذبَحُ في الحرَمِ مِن الإبلِ والبقَرِ والغنَمِ والمَعْزِ.
قَصْدُ النِّيَّةِ في الإحْرامِ
قال: وقد أهَلُّوا بالحَجِّ مُفرَدًا، أي: أَحْرَموا مُفْرِدينَ بالحَجِّ، والمُرادُ بالإهْلالِ هنا: قَصْدُ النِّيَّةِ في الإحْرامِ، وهو في الأصلِ رفْعُ الصَّوتِ بالتَّلبيةِ، فأمَرَهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عِندَ قُدومِهم إلى مَكَّةَ، أنْ يَحِلُّوا مِنْ إحرامِهِم، فيَفسَخوا الحَجَّ إلى العُمرةِ، ويَتحلَّلوا مِن عُمرَتِهم بالطَّوافِ والسَّعيِ والتَّقصيرِ، ثمَّ يُقيموا بها حَلالًا، يَحِلُّ لهُم كُلُّ شَيءٍ، حتَّى مُعاشَرةُ النِّساءِ، حتَّى إذا كانَ يومُ التَّرويةِ، وهو اليومُ الثامِنُ مِن ذي الحِجَّةِ، فعلَيهم أنْ يُهِلُّوا، أي: يُحْرِموا بالحَجِّ، ويَتَوجَّهوا إلى عَرَفَةَ، ويَجعَلوا الأفعال الَّتي قَدِموا بها تَمتُّعًا بالعُمرةِ.
التَّمتُّعُ في الحَجِّ
والتَّمتُّعُ في الحَجِّ: هو أنْ يُحْرِمَ الحاجُّ بالعُمْرَةِ في أشهُرِ الحَجِّ، ثمَّ يَحِلَّ منها، ثم يُحْرِمَ بالحَجِّ مِن عامِه، فإذا قدِمَ مكَّةَ في أشْهُرِ الحجِّ واعتَمَر وانْتَهى مِن عُمرتِه، فله أنْ يَتحلَّلَ مِن إحْرامِه، ويَتمتَّعَ بكلِّ ما هو حَلالٌ حتَّى تبدَأَ مَناسِكُ الحجِّ.
سؤال الصَّحابةُ للنبيَّ - صلى الله عليه وسلم
فسَأَل الصَّحابةُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: كيفَ يَجعَلون نُسكَهم الأوَّلَ عُمرةً ومُتْعَةً بها وهم قدْ أحْرَموا بنِيةِ الحَجَّ؟ فأمَرَهم أنْ يَفعَلوا ما أمَرَهم به، وأخْبَرَهم أنَّه لَولا أنَّه - صلى الله عليه وسلم - ساقَ الهَديَ، لفَعَلَ مِثلَ الَّذي أمَرَهُم به، وفَسَخَ الحَجَّ إلى عُمرةِ، ولكِن ذلك لا يَحِلُّ له، ولا يَحِلُّ له فِعلُ شَيءٍ مِن مَحظوراتِ الإحْرامِ، حتَّى يَصِلَ الهدْيُ إلى المَكانِ الَّذي يُنحَرُ فيه بِمِنًى يومَ النَّحرِ، في العاشرِ مِن ذي الحِجَّةِ، فاستجابَ الصحابةُ -رَضيَ اللهُ عنهم- لأمْرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - على الفورِ، وفعَلوا ما أمَرَهم به، وبذلك أبطَلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عادةً مِنْ عاداتِ الجاهليَّةِ، التي كانتْ تُحرِّمُ العُمرةَ في أشهُرِ الحجِّ، وأقَرَّ شَريعةَ الإسْلامِ وما فيها مِن التَّوسعةِ في أُمورِ الحجِّ والعُمرةِ.
اخْتَلَاف العُلَمَاء فِي هَذَا الفَسْخِ
وَقَدِ اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي هَذَا الفَسْخِ: هَلْ هُوَ خَاصٌّ لِلصَّحَابَةِ تِلْكَ السَّنَةِ خَاصَّةً؟ أَمْ هو بَاقٍ لَهُمْ ولِغَيْرِهِمْ إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ؟ فَقَالَ أَحْمَدُ وطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ: لَيْسَ خَاصًّا، بَلْ هُوَ بَاقٍ إِلَى يَومِ القِيَامةِ، فَيَجُوزُ لِكُلِّ مَنْ أَحْرَمَ بِحَجٍّ، ولَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ، أَنْ يَقْلِبَ إِحْرَامَهُ عُمْرَةً، ويَتَحَلَّلَ بِأَعْمَالِها. وقَالَ مالِكٌ والشَّافِعِيُّ وأَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ مُخْتَصٌّ بِهِمْ فِي تِلْكَ السَّنَةِ لَا يَجُوزُ بَعْدَها؟ وإِنَّمَا أُمِرُوا بِهِ تِلْكَ السَّنَةَ، لِيُخَالِفُوا مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الجَاهِلِيَّةُ مِنْ تَحْرِيمِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الحَجِّ. والراجح هو الأوّل: فقد ثبَتَ في صَحيحِ البُخاريِّ: لَمَّا أمَر رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أصحابَه بالمُتْعةِ -أي التَّمتُّع-، قال جابرُ بنُ عبداللهِ -رَضيَ اللهُ عنهما-: وأنَّ سُراقةَ بنَ مالكِ بنِ جُعْشُمٍ لقِيَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وهو بالعَقَبةِ، وهو يَرميها، فقال: ألَكُم هذه خاصَّةً يا رسولَ اللهِ؟ قال: «لا، بلْ للأبدِ».
وفِي رواية قال: أَلِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِأَبَدٍ؟ فَقَالَ: «لِأَبَدِ أَبَدٍ».
فَالْحَاصِلُ مِنْ مَجْمُوعِ طُرُقِ الْأَحَادِيثِ: أَنَّ العُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ جَائِزَةٌ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وكَذَلِكَ القِرَانُ، وأَنَّ فَسْخَ الحَجِّ إِلَى العُمْرَةِ غير مُخْتَصٌّ بِتِلْكَ السَّنَةِ، بل للأبد، واللَّهُ أَعْلَم.

فوائد الحديث
مَشروعيَّةُ التَّمتُّعِ بالعُمرةِ في أشْهُرِ الحجِّ.
وفيه: طاعةُ الصَّحابةِ لرَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في كلّ ما يأمرهم به.

من أصول منهج السلف ومعالمه
من معالِمِ منهج السلف وأصوله لُزومُ اتباعِ الكتابِ العزيزِ والسُّنَّة الصحيحة الثابتة، والحَذَرُ من اتباع الهَوَى والبِدَع، لقولِه - صلى الله عليه وسلم -: «فإنه من يعِش منكم فسيرَى اختِلافًا كثيرًا؛ فعليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخُلفاء الراشِدين المهديِّين من بعدِي، عضُّوا عليها بالنواجِذ، وإياكم ومُحدثات الأمور! فإن كلَّ بدعةٍ ضلالة». لُزومِ الجماعة، والسَّمع والطاعةِ بالمعروف في المنشَطِ والمكرَه، على حدِّ قولِه -عزَّ شأنُه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) (النساء: 59). لا تعصُّب إلا للحقِّ وما جاء في كتاب الله وكلامِ رسولِه - صلى الله عليه وسلم -، وعدمُ التعصُّب يقترِنُ بعدمِ ادِّعاءِ العِصمةِ لأحدٍ كائِنًا من كان من عُلماء الدين وأئمَّتِه من الصحابةِ ومن بعدَهم، فضلاً عن غيرِهم. فلا عِصمةَ إلا لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يُبلِّغُ عن ربِّه -عز وجل-، ومن هنا؛ فإنهم لا يمنَعون من الخلافِ فيما يسُوغُ فيه الخِلاف، بناءً على فهمِ النصِّ وتقدير المصالحِ والمفاسِد، وتحقيق الغايات والمقاصِد، إذا صدرَ الاجتهادُ من أهلِه في محلِّه. بقولِه - صلى الله عليه وسلم -: «الدينُ النَّصيحة، الدينُ النَّصيحة، الدينُ النَّصيحة». قلنا: لمن يا رسول الله؟! قال: «لله، ولكتابِه، ولرسولِه، ولأئمة المُسلمين وعامَّتِهم». أخرجه مسلم في صحيحه من حديث تميمٍ الدارِيِّ - رضي الله عنه - نصيحةٌ في حفظ الحقِّ والمكانةِ، والبُعد عن التَّشنيعِ والتَّشهير، أو سُلُوك مسالِكَ تُؤدِّي إلى التفرُّق والشَّحناء. مصدرُ التلقِّي هو الوحيُ، ويعرِضُون عقولَهم وفهُومَهم وآراءَهم على الكتاب والسُّنَّة؛ فما وافقَها قبِلُوه، وما خالَفَها أعرَضُوا عنه، ونصُّ الشارِعِ هو الأصلُ، تنقادُ إليه النفوسُ، وتعتمِدُ عليه، تتبَعُه ولا يتبَعُها، «لا يُؤمنُ أحدُكم حتى يكون هواهُ تبَعًا لما جِئتُ به».

اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي

ابو وليد البحيرى
2024-08-22, 11:40 PM
شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: نَسخُ التّحلّل مِنَ الإحْرام والأمْر بالتَّمَام

في الحديث مَشروعيَّةُ الإحرامِ المُبهَمِ ويَصْرِفُه إلى ما شاءَ مِن أنواعِ النُّسُكِ قبْلَ شُروعِه في العبادة

عَنْ أَبِي مُوسَى - رضي الله عنه - قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وهُوَ مُنِيخٌ بِالْبَطْحَاءِ، فَقَالَ: بِمَ أَهْلَلْتَ؟ قَالَ قُلْتُ: أَهْلَلْتُ بِإِهْلَالِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: هَلْ سُقْتَ مِنْ هَدْيٍ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ حِلَّ، فَطُفْتُ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ أَتَيْتُ امْرَأَةً مِنْ قَوْمِي فَمَشَطَتْنِي، وغَسَلَتْ رَأْسِي، فَكُنْتُ أُفْتِي النَّاسَ بِذَلِكَ فِي إِمَارَةِ أَبِي بَكْرٍ، وإِمَارَةِ عُمَرَ، فَإِنِّي لَقَائِمٌ بِالْمَوْسِمِ، إِذْ جَاءَنِي رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي شَأْنِ النُّسُكِ. فَقُلْتُ: أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ كُنَّا أَفْتَيْنَاهُ بِشَيْءٍ فَلْيَتَّئِدْ، فَهَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ قَادِمٌ عَلَيْكُمْ، فَبِهِ فَأْتَمُّوا، فَلَمَّا قَدِمَ قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، ما هَذَا الَّذِي أَحْدَثْتَ فِي شَأْنِ النُّسُكِ؟ قَالَ: إِنْ نَأْخُذْ بِكِتَابِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَالَ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (البقرة: 196). وَإِنْ نَأْخُذْ بِسُنَّةِ نَبِيِّنَا -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام-، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَحِلَّ حَتَّى نَحَرَ الْهَدْيَ. عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَتْ المُتْعَةُ فِي الْحَجِّ، لِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - خَاصَّةً، في الباب حديثان: الحديث الأول: رواه مسلم في الحج (2/895) باب: في نَسخ التّحلّل من الإحرام والأمر بالتمام. في هذا الحَديثِ يَحكي أبو مُوسى الأشْعَرِيُّ - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَه إلى قَومٍ باليَمَنِ، وكان - صلى الله عليه وسلم - قدْ أرْسَلَه ليَكونَ مُعلِّمًا وقاضيًا لأهْلِها، فرَجَع أبو مُوسى - رضي الله عنه - والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِبَطْحَاءِ مَكَّةَ، وهو مُحرِمٌ بحَجَّةِ الوَداعِ، والبَطحاءُ: مكانٌ ذو حَصًى صَغيرةٍ، وهو في الأصلِ مَسيلُ وادي مكَّةَ، وهو يَقُعُ جَنوبَ الحرمِ الشَّريفِ أمامَ جَبلِ ثَورٍ، ويُقالُ له: الأَبْطَحُ أيضاً، فسَأَلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أبا مُوسى - رضي الله عنه -: بِمَ أهلَلْتَ؟ والمرادُ بالإهلالِ هنا: قصْدُ النِّيةِ في الإحْرامِ، وهو في الأصْلِ رفْعُ الصَّوتِ بالتَّلبيةِ، فأجابَه أبو مُوسَى - رضي الله عنه - أنَّه أهَلَّ كإهلالِ النّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - -وكان رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ممَّن ساقَ الهَدْيَ، فقَرَنَ في إحْرامِه بيْن العُمرةِ والحجِّ- فسَأَله: هلْ مَعَكَ مِن هَديٍ؟ فأجابَ: لا، فأمَرَه - صلى الله عليه وسلم - أنْ يَطوفَ بالبَيتِ وبالصَّفا والمروةِ، فيكونُ بذلك قدْ أتَّم عُمرةً، ثمَّ أمَرَه أنْ يَحِلَّ مِن إحرامِه، فيُباح له كلُّ شَيءٍ. فأَتَى أبو مُوسى - رضي الله عنه - امرأةً من قَومِه، وهذا مَحمولٌ على أنَّها كانتْ مَحْرَمًا له، فسَرَّحَتْ له شَعرَه بالمُشطِ، وغَسَلتْ رَأْسَه، ولم يَذكُرِ الحَلْقَ أو التَّقصيرَ، إمَّا لكونِه مَعلومًا عندَهُم، أو لدُخولِه في أمْرِه بالإحلالِ.
زَمانُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ - رضي الله عنه فلمّا جاء زَمانُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ - رضي الله عنه - وخِلافتُه، فذُكِرَ له ذلك فقالَ: إنْ نَأخُذْ بكِتابِ الله، فإنَّه يَأمُرُنا بالتَّمامِ، أي: بإتمامِ أفعالِهما بعْدَ الشُّروعِ فيهما، قال اللهُ -تعالَى-: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (البقرة: 196)، وتَأويلُه للآيةِ: هو إفرادُ كلِّ نُسكٍ على حِدَةٍ، واستَشهَدَ - رضي الله عنه - بقِرانِ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وأنَّه لم يَحِلَّ مِن إحْرامِه حتَّى نَحَرَ الهَدْيَ بمِنًى. وظاهِرُ كَلامِ عُمَرَ - رضي الله عنه - هذا، إنكارُ فسْخِ الحجِّ إلى العُمرةِ، وليس مُرادُ عُمَرَ - رضي الله عنه - بذلكَ مُخالَفةَ القُرآنِ والسُّنَّةِ، وقد رَوَى النَّسائيُّ: أنَّ أبا مُوسى سَأَلَ عُمرَ عن ذلِك، فقال عُمرُ: قد عَلِمْتُ أنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قد فَعَلَه، ولكنْ كَرِهْتُ أنْ يَظلُّوا مُعرِّسينَ بهنَّ في الأرَاكِ، ثمَّ يَروحوا في الحجِّ تَقطُر رُؤوسُهم؟ ومعْناه: أنّه كَرِه التَّمتُّعَ، لأنَّه يَقتضي التَّحلُّلَ ووَطْءَ النِّساءِ، إلى حِينِ الخُروجِ إلى الحجِّ. فكان مِنْ رأي عُمر: عَدمُ التّرفّه للحَجّ، فكرِه لهُم قُربَ عَهدهم بالنساء، وقد أخرج مسلم: من حديث جابر أنّ عُمر قال: «افْصلُوا حَجّكم مِنْ عُمْرتكم، فإنّه أتمّ لحَجّكم، وأتَمّ لعُمْرتكم».
قوله: «أنْ نَأخذَ بكتابِ الله» قوله: «أنْ نَأخذَ بكتابِ الله... إلخ» هذا مُحصّل جواب عمر - رضي الله عنه - في مَنَعه الناس مِنَ التّحلل بالعُمرة: أنّ كتابَ الله دالٌ على منع التّحلّل لأمْره بالإتْمام، فيقتضي اسْتمرار الإحْرام إلى الفراغ من الحج، وأنّ سُنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيضاً دالة على ذلك، لأنّه لمْ يحلّ حتّى بلغَ الهَدي محلّه، لكنْ الجواب عن ذلك، ما أجاب به هو - صلى الله عليه وسلم -، حيث قال: «ولولا أنّ مَعي الهَدي، لأحْللت». فدلّ على جواز الإحْلال لمَنْ لمْ يكنْ معه هَدْي، وتبيّن منْ مُجْموع ما جاء عن عمر في ذلك أنّه مَنَعَ منْه، سَدّاً للذّريعة. (انظر الفتح). وقال النووي: والمُختار أنّه نَهى عن المُتعة المَعْروفة، التي هي الاعْتمار في أشْهر الحَج، ثمّ الحَجّ مِنْ عامه، وهو على التّنْزيه، للتّرغيب في الإفْراد، كما يظهر من كلامه، ثمّ انْعقدَ الإجْماع على جواز التّمتّع مِنْ غير كراهة، ونفي الاخْتلاف في الأفضل. ويُمكن أنْ يتمسّك مَنْ يقول: بأنّه إنّما نَهَى عن الفسخ، بقوله في الحديث الذي أشرنا إليه قريبا مِنْ مسلم: «إنّ الله يُحلُّ لرسُوله ما شاء». والله أعلم.
فوائد الحديث اتِّباعُ سُنَّةِ رَسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - واقتِفاءُ أثَرِه في أفعالِه.
وفيه: مَشروعيَّةُ التَّمتُّعِ بالعُمرةِ في أشهُرِ الحجِّ.
وفيه: مَشروعيَّةُ الإحرامِ المُبهَمِ، ويَصْرِفُه إلى ما شاءَ مِن أنواعِ النُّسُكِ، قبْلَ شُروعِه في أفعالِ النُّسُكِ.
وفيه: دلالة على جواز تعليق الإحْرام، بإحْرام الآخر.

الحديث الثاني
عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَتْ المُتْعَةُ فِي الحَجِّ، لِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - خَاصَّةً، هذا الأثر رواه مسلم في الحج (2/897) باب: جواز التمتع، وفيه يُخبِرُ أبو ذَرٍّ - رضي الله عنه - أنَّ المُتعةُ في الحجِّ كانتْ لأصْحابِ محمَّدٍ خاصَّةً، يَعني: فسْخَ الحجِّ إلى العُمرةِ كان خاصًّا للصَّحابةِ فقط، وذلك أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قد أمَرَ بها بعضَ أصْحابِه في حَجَّةِ الوَداعِ لمَن لمْ يسُقْ معَه الهَديَ، وكان أبو ذَرٍّ - رضي الله عنه - من هؤلاء الَّذين فَسَخوا حَجَّهم إلى عُمرةٍ، أمَّا النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - والبعضُ الآخَرونَ منَ الصَّحابةِ ممَّن معَهمُ الهَديُ كانوا قارِنينَ، أي: جَمَعوا بينَ الحجِّ والعُمرةِ بإحْرامٍ واحدٍ. وقولُه هذا مخالِفٌ لما ورَدَ في الأحاديثِ الصَّحيحةِ والثَّابِتةِ عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّ التَّمتُّعَ جائزٌ في أشهُرِ الحجِّ، وأنّه باقٍ إلى يوم القيامة كما سبق. وقيلَ: إنَّ قولَ أبي ذَرٍّ هذا يُحمَلُ على أنَّ الفَسخَ الواجبَ الَّذي يَتعيَّنُ، هو الَّذي كان لأصْحابِ الرَّسولِ - صلى الله عليه وسلم -، وأمَّا غَيرُهم فإنَّه يَبْقى على الاسْتِحْبابِ.
انكسار القلب وخضوعه لله -تعالى يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله وهو يتحدث عن انكسار القلب وخضوعه لله تعالى-: «ليس شيء أحب إلى الله -تعالى- من هذه الكسرة والخضوع والتذلل والإخبات والانطراح بين يديه -سبحانه-، والاستسلام له، فما أقرب الجبر من هذا القلب المكسور! وما أدنى النصر، والرحمة والرزق منه! وأحبُّ القلوب إلى الله -سبحانه- قلب قد تمكنت منه هذه الكسرة، وملكته هذه الذلة، وهذه الذلة والكسرة الخاصة تدخله على الله -تعالى- وترميه على طريق المحبة، فيفتح له منها باب لا يفتح له من غير هذه الطريق، وإن كانت سائر الأعمال والطاعات تفتح للعبد أبوابًا من المحبة، لكن الذي يفتح منها من طريق الذل والانكسار والافتقار وازدراء النفس ورؤيتها «أي بالنسبة لحق الله» بعين الضعف والعجز والعيب والنقص والذم نوع آخر، وفتح آخر، والسالك بهذه الطريق غريب عن الناس، وهم في واد وهو في واد، فالله المستعان وهو خير الغافرين».

اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي

ابو وليد البحيرى
2024-08-28, 11:10 AM
شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: الهَدْي في القِرَانِ بينَ الحَجّ والعُمْرَة

الحِكمةُ مِنَ التَّلبيةِ: التَّنبيهُ على إكْرامِ اللهِ تعالى لعِبادِه بأنَّ وُفودَهم على بَيتِه إنَّما كان باستِدعاءٍ مِنه وطلب
القارِنُ هو مُتَمتِّعٌ مِنْ حيثُ اللُّغةُ ومِنْ حيثُ المعْنى لأنَّه حَظِيَ بإدْخالِ العُمرةِ في أعْمالِ الحجِّ حيثُ تَرفَّهَ باتِّحادِ المِيقاتِ والإحْرامِ والفِعلِ
في الحديث اتِّباعُ الصّحابي عبدالله بنِ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما سُنَّةَ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم واقتِفاؤه أثَرَه في أفعالِه كافة

عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عبداللَّهِ بْنَ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: خَرَجَ فِي الْفِتْنَةِ مُعْتَمِرًا، وقَالَ: إِنْ صُدِدْتُ عَنْ الْبَيْتِ، صَنَعْنَا كَمَا صَنَعْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم -، فَخَرَجَ فَأَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وسَارَ حَتَّى إِذَا ظَهَرَ عَلَى الْبَيْدَاءِ الْتَفَتَ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: مَا أَمْرُهُمَا إِلَّا وَاحِدٌ، أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ الْحَجَّ مَعَ الْعُمْرَةِ، فَخَرَجَ حَتَّى إِذَا جَاءَ الْبَيْتَ طَافَ بِهِ سَبْعًا، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعًا، لَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ، ورَأَى أَنَّهُ مُجْزِئٌ عَنْهُ، وَأَهْدَى. في هذا الحَديثِ يَروي نافعٌ، مَولى ابنِ عُمَرَ، أنَّ عبداللهِ بنَ عُمَرَ -رَضيَ اللهُ عنهما- أرادَ الحَجَّ وذلك عامَ نُزولِ الحَجَّاجِ بابنِ الزُّبَيرِ في مكة، وكان ذلك عامَ اثنَيْنِ وسَبعينَ مِنَ الهِجرةِ، عِندَما نَزَلَ الحَجَّاجُ بنُ يوسُفَ الثَّقَفيُّ بأمْرٍ مِن عبدالملِكِ بنِ مَرْوانَ لمُحارَبةِ عبداللهِ بنِ الزُّبَيرِ، وعَزَمَ ابنُ عُمَرَ -رَضيَ اللهُ عنهما- على الحَجِّ في ذلك العامِ، فخِيفَ عليه مِن أنْ يَصُدُّوه ويَمنَعوه عنِ البَيتِ، فتَلا قَولَه -تعالَى-: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الأحزاب: 21)، وأنَّه سيَفعَلُ كما فَعَلَ رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم .
أوجَبَ حَجًّا وعُمرةً بظاهِرِ البَيْداءِ ثمّ أشهَدَهم أنَّه أوجَبَ عُمرةً في أوَّلِ الأمرِ، ثم أوجَبَ حَجًّا وعُمرةً بظاهِرِ «البَيْداءِ»، والبَيداءُ في اللُّغةِ: هي الصَّحراءُ التي لا شَيءَ فيها، والمَقصودُ بها هنا مَكانٌ فَوقَ عَلَمَيْ ذي الحُلَيفةِ إذا صُعِدَ مِنَ الوادي، وفي أوَّلِ البَيداءِ بِئرُ ماءٍ، ويَبعُدُ عن مَكَّةَ حَوالَيْ (420 كم)، وأهدَى هَديًا اشتَراه في الطَّريقِ مِن «قُدَيْدٍ»، وهو مَوضِعُ ماءٍ قَريبٍ مِنَ الجُحْفةِ، بَينَ مَكَّةَ والمَدينةِ، وهو مِنَ الحِلِّ وليس مِنَ الحَرمِ، وإنْ كان داخِلَ الميقاتِ، ويَبعُدُ عن مَكَّةَ المُكرَّمةِ (150 كم)، ويَقَعُ إلى الشَّمالِ الشَّرقيِّ منها. ولم يَنحَرْ، ولم يَحِلَّ مِن شَيءٍ حَرُمَ منه، ولم يَحلِقْ، ولم يُقَصِّرْ، إلى أنْ جاء يَومُ النَّحرِ، وهو يَومُ العاشرِ مِن ذي الحِجَّةِ، فنَحَرَ وحَلَقَ، ورَأى أنَّه قد قَضى طَوافَ الحَجِّ والعُمرةِ بطَوافِه الأوَّلِ، فالقارِنُ يَقتصِرُ على أفعالِ الحَجِّ، وتَندرِجُ أفعالُ العُمرةِ كُلُّها في أفعالِ الحَجِّ، ولا يَحِلُّ القارِنُ إلَّا يَومَ النَّحرِ بعد ذبح الهدي.
فوائد الحديث الخُروجُ إلى النُّسُكِ في الطَّريقِ المَظنونِ خَوفُها، إذا غلبَ على ظنّه السَّلامةَ فيها.
وفيه: اتِّباعُ الصّحابي ابنِ عُمَرَ -رَضيَ اللهُ عنهما- سُنَّةَ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، واقتِفاؤه أثَرَه في أفعالِه.

باب: الهَدْيُ في المُتْعة عَنْ سَالِمِ بْنِ عبداللَّهِ: أَنَّ عبداللَّهِ بْنَ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، وَأَهْدَى فَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وبَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ، ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، فَكَانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ أَهْدَى فَسَاقَ الْهَدْيَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُهْدِ، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَكَّةَ، قَالَ لِلنَّاسِ: «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ، حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ، ومَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَهْدَى، فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلْيُقَصِّرْ ولْيَحْلِلْ، ثُمَّ لِيُهِلَّ بِالْحَجِّ ولْيُهْدِ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا، فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ، وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ»، وطَافَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ، فَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ أَوَّلَ شَيْءٍ، ثُمَّ خَبَّ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ مِنْ السَّبْعِ، ومَشَى أَرْبَعَةَ أَطْوَافٍ، ثُمَّ رَكَعَ حِينَ قَضَى طَوَافَهُ بِالْبَيْتِ عِنْدَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ فَانْصَرَفَ، فَأَتَى الصَّفَا فَطَافَ بِالصَّفَا والْمَرْوَةِ سَبْعَةَ أَطْوَافٍ، ثُمَّ لَمْ يَحْلِلْ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ، حَتَّى قَضَى حَجَّهُ، وَنَحَرَ هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْرِ، وَأَفَاضَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ. وفَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، مَنْ أَهْدَى وسَاقَ الْهَدْيَ مِنْ النَّاسِ.
هَدْيِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حَجَّةِ الوداعِ يَحكي سالم عن أبيه عبداللهِ بنُ عُمَرَ -رَضيَ اللهُ عنهما- جانباً مِنْ هَدْيِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حَجَّةِ الوداعِ، وكانت في السَّنةِ العاشرةِ مِن الهجرةِ، فبيَّنَ أنَّ رَسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم - تَمتَّع في حَجَّةِ الوَداعِ بالعُمرةِ إلى الحَجِّ، ومَعلومٌ أنَّ رَسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم - إنّما حجَّ قارنًا، بأنْ جَمَعَ بيْن الحجِّ والعُمرةِ بإحْرامٍ واحدٍ، وعليه فالتَّمتُّعُ المقصودُ هنا: مَحمولٌ على التَّمتُّعِ اللُّغويِّ، والمعْنى: أنَّه - صلى الله عليه وسلم - أحرَمَ أوَّلًا بالحجِّ مُفرِداً، ثمَّ أحْرَمَ بالعُمرةِ، فصار قارِنًا في آخِرِ أمْرِه، والقارِنُ هو مُتَمتِّعٌ مِنْ حيثُ اللُّغةُ، ومِنْ حيثُ المعْنى، لأنَّه حَظِيَ بإدْخالِ العُمرةِ في أعْمالِ الحجِّ؛ حيثُ تَرفَّهَ باتِّحادِ المِيقاتِ والإحْرامِ والفِعلِ.
المُراد بالتَّمتُّعِ هنا القِرانُ وممَّا يدُلُّ على أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم - كان قارنًا، وأنَّ المُرادَ بالتَّمتُّعِ هنا القِرانُ: قولُ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديثِ: «مَن كانَ مِنكُم أهْدَى، فإنَّه لا يَحِلُّ لِشَيءٍ حَرُمَ منه حتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ»، والنّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كان ممَّن أهْدى إلى الحرَمِ. قولُ ابنِ عمَرَ: «وبَدَأَ رَسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فأهَلَّ بالعُمْرَةِ، ثُمَّ أهَلَّ بالحَجِّ» مَحمولٌ على التَّلبيةِ في أثناءِ الإحْرامِ، كما جاء في حَديثِ أنسٍ عندَ مُسلِمٍ: سَمِعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: «لَبَّيك بعُمرةٍ وحَجٍّ»، وليس المرادُ أنَّه أحرَمَ في أوَّلِ أمْرِه بعُمرةٍ، ثمَّ أحْرَمَ بحَجٍّ.
قولُه: «فَتَمَتَّعَ النَّاسُ مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم » قولُه: «فَتَمَتَّعَ النَّاسُ مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ»، أي: في آخِرِ الأمرِ، فكَثيرٌ منْهم أو أكثَرُهم أحْرَمُوا بالحجِّ أوَّلًا مُفرَداً، ثمَّ فَسَخوه إلى العُمرةِ آخِراً، فَصاروا مُتمتِّعين، وهمُ الذين لمْ يَسُوقوا معهم الهَدْيَ، فلمَّا دَخَلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَكَّةَ قال للنَّاسِ: «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ، حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ،...» أي: مَنْ كان مِنْكم ساقَ الهَدْيَ معه، فإنَّه لا يَحِلُّ لِشَيءٍ حَرُمَ منه منَ مَحظوراتِ الإحْرامِ، فيَبْقى على إحْرامِه حتَّى يَقضيَ حَجَّه، وذلك لقولِه -تعالى-: {وَلَا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (البقرة: 196).
قوله: «ومَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَهْدَى...» أي: ومَن لم يكُن منكم قدْ ساق الهَدْيَ فَليَطُفْ بالبَيتِ طَوافَ العُمرةِ، وبالصَّفا والمروةِ، وليُقصِّرْ مِن شَعرِ رَأسِه، فيَصيرُ بذلك حَلالًا، فيَحِلُّ له فِعلُ كلِّ ما كان محظورًا عليه في الإحرامِ، مِن الطِّيبِ واللِّباسِ، والنِّساءِ والصَّيدِ، وغيرِ ذلك. قوله: «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ..» وجَّهَ - صلى الله عليه وسلم - الصحابة للتَّقصيرِ دونَ الحلْقِ، مع أنَّ الحلْقَ أفضَلُ، وذلك لِيَبْقى له شَعرٌ يَحلِقُه في الحجِّ، وقولُه - صلى الله عليه وسلم -: «ثمَّ ليُهِلَّ بالحجِّ» أي: يومَ التَّرويةِ، يومَ الثامنِ مِن ذي الحِجَّةِ، لا أنَّه يُهِلُّ عَقِبَ التَّحلُّلِ مِن العُمرةِ، ومَنْ لمْ يَجِدْ هَدْياً، أو لم يَجِدْ ثَمنَه، أو زادَ ثَمَنُه على ثَمَنِ المِثلِ، أو كان صاحبُه لا يُريدُ بَيعَه، فلْيَصُمْ ثَلاثةَ أيَّامٍ في الحَجِّ بعْدَ الإحرامِ به، وسَبْعةً إذا رَجَعَ إلى أهلِه بِبَلدِه أو بمَكانٍ تَوطَّنَ به.
طواف النبي - صلى الله عليه وسلم - حَولَ الكَعبةِ قوله: «وطَافَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ، فَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ أَوَّلَ شَيْءٍ..» يُخبِرُ ابنُ عمَرَ -رَضيَ اللهُ عنهما- أنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - طافَ حَولَ الكَعبةِ حِين قَدِمَ مَكَّةَ طَوافَ القُدومِ، واستَلَمَ الرُّكنَ أوَّلَ شَيءٍ، وهو الحجَرُ الأسودُ، والمرادُ باستلامِه: مَسْحُه وتَقبيلُه، أوَّلَ ما قَدِمَ قبْلَ أنْ يَبتدِئَ بشَيءٍ، وقوله: «ثُمَّ خَبَّ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ مِنْ السَّبْعِ، ومَشَى أَرْبَعَةَ أَطْوَافٍ..» أي: رَمَلَ وأسرَعَ في ثَلاثةِ أطوافٍ، ومَشى أرْبَعةً، فيه: مشروعية الرمل في الأشواطِ الثلاثةِ الأولى في الطَّوافِ. ثمَّ صلَّى رَكعتَين حِين قَضى طَوافَه بالبَيتِ عِندَ مَقامِ إبراهيمَ، ثمَّ سلَّم منهما فانْصرَفَ، ثمَّ سَعى بيْن الصَّفا والمروةِ سَبْعةَ أشواطٍ، ويَبتدِئُ الشَّوطُ الأوَّلُ مِن الصَّفا ويَنْتهي بالمَروةِ، والشَّوطُ الثَّاني عكْسُ ذلك، مِن المَروةِ إلى الصَّفا، والشَّوطُ الثالثُ مِثلُ الأوَّلِ، وهكذا إلى أنْ يَتِمَّ السَّعيُ في الشَّوطِ السابعِ.
قوله: «ثُمَّ لَمْ يَحْلِلْ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى قَضَى حَجَّهُ» أي: ظَلَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مُحرِمًا إلى أنْ أتمَّ حَجَّه، ونَحَرَ الهَدْيَ يومَ العيدِ، وطاف بالبيتِ طَوافَ الإفاضةِ، لأنَّه ساقَ الهَدْيَ معه، وإلَّا لَتحلَّلَ مِن العُمرةِ كما أمَرَ أصحابَه، وفَعَلَ مِثلَ ما فَعَلَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كلُّ مَن ساقَ الهَدْيَ مِن النَّاسِ، فلم يَفسَخوا الحجَّ إلى العُمرةِ، فكان - صلى الله عليه وسلم - وبعضُ الناسِ قارنينَ، والفريقُ الآخرُ مُتمتِّعينَ.
فوائد الحديث مَشروعيَّةُ الحجِّ قارِنًا أو مُتمتِّعًا.
جواز إدْخالِ نِيَّةِ التَّمتُّعِ على مَن حَجَّ قارناً أو مُفرِدًا.
طاعة الصّحابة للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - على كلّ حال.


اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي

ابو وليد البحيرى
2024-09-06, 09:34 PM
شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: في إفْراد الحَجّ على العُمْرة


المُحرِمَ قدْ يُخشَى أنْ يَمنعَه مانعٌ مِن إتمامِ الحجِّ، كالمرضِ أو العدو ونحوِه، فيُريدُ أنْ يتحلَّلَ مِنَ الحجِّ إذا حصَلَ له هذا المانعُ، دُونَ أنْ يَجِبَ عليه فِديةٌ أو قَضاءٌ
النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم علَّمَ أمّته أُمُورَ الحجِّ والعُمرةِ وفَرائضَهما وسُننَهما وآدابَهما وقال في حَجَّةِ الوداعِ: «خُذوا عَنِّي مَناسِكَكم»
ثبَتَ بروايةِ أربعةَ عَشَرَ من الصَّحابةِ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أمَرَ مَن لم يَسُقِ الهدْيَ بفسْخِ الحجِّ وجعْلِه عُمرةً ومِن جُملتِهم عائشةُ رضي الله عنها

عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-: أَنَّهَا قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، ومِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ، حَتَّى قَدِمْنَا مَكَّةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ ولَمْ يُهْدِ، فَلْيَحْلِلْ، وَمَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وأَهْدَى، فلَا يَحِلُّ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ، وَمَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ فَلْيُتِمَّ حَجَّهُ». قَالَتْ عَائِشَةُ -رضي الله عنها-: فَحِضْتُ فَلَمْ أَزَلْ حَائِضًا، حَتَّى كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَلَمْ أُهْلِلْ إِلَّا بِعُمْرَةٍ، فَأَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ أَنْقُضَ رَأْسِي وأَمْتَشِطَ، وأُهِلَّ بِحَجٍّ، وأَتْرُكَ الْعُمْرَةَ. قَالَتْ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ، حَتَّى إِذَا قَضَيْتُ حَجَّتِي، بَعَثَ مَعِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، وأَمَرَنِي أَنْ أَعْتَمِرَ مِنْ التَّنْعِيمِ، مَكَانَ عُمْرَتِي الَّتِي أَدْرَكَنِي الْحَجُّ، وَلَمْ أَحْلِلْ مِنْهَا. رواه مسلم في الحج (2/870-871) باب: بيان وجوه الإحرام، ورواه البخاري في كتاب الحج (1560) باب: قول الله تعالى (الحج أشهر معلومات). تُخْبِرُ عائشةُ -رضي الله عنها- فتقول: «خرَجْنا مع رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في حجَّةِ الوداعِ» وهي الحَجَّةُ التي حَجَّها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وسُمِّيَتْ بذلك؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان كالمُوَدِّعِ لهم في خُطَبِ الحَجِّ، ولمْ يَلْبَثْ كَثيرًا بعدَها، وكانتْ في السَّنةِ العاشِرةِ من الهِجرةِ.
قولها: «فمِنَّا مَن أهَلَّ بالحجِّ» أي: أحرَمَ ناويًا الحجَّ دونَ تحلُّلٍ بعُمرةٍ، «ومِنَّا مَن أهَلَّ بعُمرةٍ وأهْدى» أي: أحرَمَ ناويًا عُمرةً، وساقَ هَدْيَه ليذْبَحَه بعدَ إتمامِ عُمرتِه، ثمَّ يتحلَّلُ ويتمتَّعُ إلى الحجِّ، قالت عائشةُ -رضِيَ اللهُ عنها-: «فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَن أهَلَّ بعُمرةٍ ولم يُهْدِ، فليَحْلِلْ، ومَن أهَلَّ بعُمرةٍ فأهْدى، فلا يَحِلَّ» يعني: مَن أحرَمَ بالعُمرةِ ومعه الهدْيُ، فليُدْخِلِ الحجَّ في العُمرةِ، ليكونَ قارِنًا، «ومَن أهَلَّ بحَجَّةٍ، فلْيُتِمَّ حَجَّه». وقد ثبَتَ بروايةِ أربعةَ عَشَرَ من الصَّحابةِ: أنَّه - صلى الله عليه وسلم - أمَرَ مَن لم يَسُقِ الهدْيَ بفسْخِ الحجِّ، وجعْلِه عُمرةً، ومِن جُملتِهم عائشةُ -رضي الله عنها-، فقد قالتْ في الحديثِ المُتَّفقِ عليه: «خرَجْنا مع رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لا نَرى إلَّا الحجَّ، قالت: فلمَّا أنْ طاف بالبيتِ، وبين الصَّفا والمروةِ، قال: «مَن كان معه هَدْيٌ، فلْيُقِمْ على إحرامِه، ومَن لم يكنْ معه هَدْيٌ، فلْيَحْلِلْ».
عُمرة عائشة -رضي الله عنها- كانت مِنَ التّنْعيم قالت عائشةُ -رضي الله عنها-: «وَلَمْ أُهْلِلْ إِلَّا بِعُمْرَةٍ، فَأَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ أَنْقُضَ رَأْسِي وأَمْتَشِطَ، وأُهِلَّ بِحَجٍّ، وأَتْرُكَ الْعُمْرَة»َ، فهذه الرواية صريحة في أن عائشة -رضي الله عنها- كانت قارنة، وأن طوافها وسعيها مرة واحدة، كفى عن الحج والعمرة معًا، وكذا قوله - صلى الله عليه وسلم - لها: «يَسَعك طوافك لحجّك وعمرتك»، وكل ذلك صريح في أنّ عُمرتها مِنَ التّنْعيم، لمْ تكنْ لأنّها لمْ تعتمر مع حجها، وإنما كانت إرْضاءً لمشاعرها؛ لأنّه - صلى الله عليه وسلم - كان يرضي هواها، ويستجيب لمطالبها، لدلالها وصغارها وحبه لها ولأبيها. وجاء في رواية جابر - رضي الله عنه -: «وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً سهلاً- أي كريم الخلق حسن العشرة- إذا هَويت الشيءَ، تابعها عليه، فأرسلها مع عبد الرحمن بن أبي بكر فأهلّت بعُمْرةٍ من التّنعيم».
قوله: «هذه مكان عُمْرتك» أما قوله: «هذه مكان عُمْرتك» فمعناه كما قال النووي: «أنّها أرادت أنْ يكونَ لها عُمْرة منفردة عن الحج، كما حَصل لسائر أمهات المؤمنين، وغيرهن مِنَ الصّحابة، الذين فَسَخُوا الحج إلى العُمرة، وأتمّوا العُمرة، وتحلّلوا منها قبل يوم التروية، ثمّ أحرموا بالحجّ من مكة يوم التّروية، فحصل لهم عمرة منفردة، وحجّة منفردة، وأما عائشة فإنّما حصل لها عمرة مُنْدرجة في حجّةٍ بالقِران، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النفر: «يسعك طوافك لحجك وعمرتك» أي: وقد تما وحسبا لك جميعاً، فأبت، وأرادت عُمْرة منفردة، كما حصل لباقي الناس، فلما اعتمرت عمرة منفردة، قال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: «هذه مكان عمرتك» أي: التي كنت تريدين حصولها منفردة، غير مندرجة، فمنعك الحيض من ذلك».
فوائد الحديث بيانُ بعضِ الأمورِ في هَدْيِه في تِلك الحَجَّةِ.
أنّ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - علَّمَ أمّته أُمُورَ الحجِّ والعُمرةِ، وفَرائضَهما وسُننَهما وآدابَهما، وقال في حَجَّةِ الوداعِ: «خُذوا عَنِّي مَناسِكَكم».

باب: الاشْتراط في الحجّ والعُمْرة عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-: أَنَّ ضُبَاعَةَ بِنْتَ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ -رضي الله عنها- أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَتْ: إِنِّي امْرَأَةٌ ثَقِيلَةٌ، وإِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ، فَمَا تَأْمُرُنِي قَالَ: «أَهِلِّي بِالْحَجِّ، وَاشْتَرِطِي: أَنَّ مَحِلِّي حَيْثُ تَحْبِسُنِي». قَالَ: فَأَدْرَكَتْ، رواه مسلم في الحج (2/867) باب: جواز اشْتراط المحرم بعذر المرض ونحوه. تُخبِرُ عائِشةُ -رضي الله عنها- أنه لَمَّا دَخلَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على ضُبَاعةَ بنتِ الزُّبَيْرِ بنِ عبدِ المطَّلِبِ بنتِ عَمِّ رَسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - و-رضي الله عنها-، وسألَها - صلى الله عليه وسلم - عَن سببِ عدَمِ حَجِّها، فقال لها: «لعلَّكِ أردْتِ الحجَّ؟» يعني: أردتِ الخُروجَ للحَجِّ معنا، فإنَّا نحِبُّ أن تتوجَّهي معنا للحَجِّ، فذكَرَت لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّها تجِدُ نَفْسَها مَريضةً.
«حُجِّي واشْتَرِطي» فقال لها النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «حُجِّي واشْتَرِطي»، ثم بَيَّن لها - صلى الله عليه وسلم - ما تَقولُه في الاشتراطِ، فقال: «أَهِلِّي بِالْحَجِّ، وَاشْتَرِطِي: أَنَّ مَحِلِّي حَيْثُ تَحْبِسُنِي». وفي رواية: «قُولي: اللَّهمَّ مَحلِّي حيثُ حبستَنِي» ومعناه: أنِّي حيثُ عجزْتُ عَنِ الإتيانِ بِالمناسكِ، وانْحبسْتُ عنها بسَببِ قوَّةِ المرضِ تحلَّلتُ، ومَكانُ تحلُّلي عَنِ الإحْرامِ مكانُ حَبَستَنِي فيه عَنِ النُّسكِ بعلَّةِ المرضِ. والاشتراطُ في الحجِّ هو: أنْ يَنويَ المُحرِمُ الحجَّ، ويقولَ: اللَّهمَّ مَحلِّي حيثُ حَبْستَنِي، أي: إنِّي أكونُ حَلالًا حيثُ مَنعَني مانعٌ مِن إتمامِ الحجِّ والمناسكِ، وفائدتُه: أنَّ المُحرِمَ قدْ يُخشَى أنْ يَمنعَه مانعٌ مِن إتمامِ الحجِّ، كالمرضِ أو العدو ونحوِه، فيُريدُ أنْ يتحلَّلَ مِنَ الحجِّ إذا حصَلَ له هذا المانعُ، دُونَ أنْ يَجِبَ عليه فِديةٌ أو قَضاءٌ. وكانت ضُباعَةُ زَوجةَ المقدادِ بنِ الأسودِ رضِي اللهُ عنهما، وهو المِقدادُ بنُ عَمرِو بنِ ثَعلَبةَ بنِ مالكٍ الكِنديُّ، صاحِبُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وأحَدُ السَّابِقينَ الأوَّلين، ويقالُ له: المِقدادُ بنُ الأسوَدِ، لأنَّه رُبِّي في حَجرِ الأسوَدِ بنِ عَبدِ يَغُوثَ الزُّهريِّ، فتَبَنَّاه. وقد شَهِد بَدرًا والمشاهِدَ مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وكان يومَ بَدرٍ فارساً، وعاش نحوًا من سبعين سنة، مات في سنةِ ثلاثٍ وثلاثين، وصلَّى عليه عُثمانُ بنُ عَفَّان، وقَبْرُه بالبقيعِ.
فوائد الحديث أنَّ المُحْصَرَ يَحِلُّ حيثُ يُحبَسُ.
وفيه: أنَّ النَّسبَ لا يُعتبَرُ في الكَفاءةِ، وإلَّا لَمَا جازَ لِلمقدادِ - رضي الله عنه - أنْ يَتزَّوجَ ضُباعةَ -رضي الله عنها-، لأنَّها فوقَه في النَّسبِ، فهي بِنتُ أشرافِ القَومِ، وهو كان حليفًا مُتبَنًّى.


اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي

ابو وليد البحيرى
2024-09-15, 10:18 AM
شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: مَنْ أحْرَمَ وعليه جُبّةٌ وأثَر الخَلُوق

القاضي إذا لمْ يتبيَّن له الحُكم فإنّه يُمْسك حتى يتبيَّن له كما أمْسَك النّبي صلى الله عليه وسلم عن الإجابة حتى نزول الوحي عليه
السُّنةَ النّبويّة وَحيٌ مِنْ عند الله تعالى ينزلُ بها جبريل عليه السلام كما أنَّ القرآنَ وَحيٌ وقد تَرِدُ السّنّة بأحْكامٍ ليستْ في القرآنِ
يَحرم على المُحْرم استعمالُ الطّيب ولبس المَخيط الذي على قَدْر البَدن أو جُزء منه
عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ - رضي الله عنه - قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ بِالْجِعْرَانَة ِ، عَلَيْهِ جُبَّةٌ، وَعَلَيْهَا خَلُوقٌ، أَوْ قَالَ: أَثَرُ صُفْرَةٍ، فَقَالَ: كَيْفَ تَأْمُرُنِي أَنْ أَصْنَعَ فِي عُمْرَتِي؟ قَالَ: وأُنْزِلَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم- الْوَحْيُ، فَسُتِرَ بِثَوْبٍ، وَكَانَ يَعْلَى يَقُولُ: وَدِدْتُ أَنِّي أَرَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- وَقَدْ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، قَالَ فَقَالَ: أَيَسُرُّكَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم- وَقَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ؟ قَالَ: فَرَفَعَ عُمَرُ طَرَفَ الثَّوْبِ، فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ لَهُ غَطِيطٌ- قَال: وأَحْسَبُهُ قَالَ: كَغَطِيطِ الْبَكْرِ- قَالَ: فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْهُ قَالَ: أَيْنَ السَّائِلُ عَنْ الْعُمْرَةِ؟ اغْسِلْ عَنْكَ أَثَرَ الصُّفْرَةِ، أَوْ قَالَ: أَثَرَ الْخَلُوقِ، واخْلَعْ عَنْكَ جُبَّتَكَ، واصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ؛ مَا أَنْتَ صَانِعٌ فِي حَجِّكَ». الحديث أخرجه مسلم في الحج (2/836) باب: ما يباح للمحرم بحج أو عمرة وما لا يباح وبيان تحريم الطيب. وأخرجه البخاري في (الحج) باب: غسل الخلوق ثلاث مرات من الثياب، حديث (1536) تعليقًا، ويَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ - رضي الله عنه - هو ابن أبي عبيدة التميمي، حليف قريش، صحابي مشهور.
قوله: «وَهُوَ بِالْجِعْرَانَة ِ» قوله: «وَهُوَ بِالْجِعْرَانَة ِ» بكسر الجيم، قال النووي -رحمه الله-: «فيها لغتان مشهورتان: إحداهما إسْكان العين، وتخفيف الراء، والثانية كسر العين وتشديد الراء، والأولى أفصح، وبهما قال الشافعي وأكثر أهل اللغة. والجعرانة: موضع ماء بين الطائف ومكة المكرّمة، وهي إلى مكة أقرب، نزلها رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قسَم غنائم هوازن، مَرجعَه مِنْ غزاة حنين والطائف، وأحْرم منْها، وما زال الاسم معروفاً.
قوله: «عَلَيْهِ جُبَّةٌ وَعَلَيْهَا خَلُوقٌ أَوْ قَالَ أَثَرُ صُفْرَةٍ» الجبّة: هي بضم الجيم وتشديد الباء مفتوحة، ثوب واسع الكمين، مفتوح من الأمام، يُلبس فوق الثياب. وأمّا الخَلُوق: بفتح الخاء، فهو نوعٌ مِنَ الطّيب يُركّب فيه زعفران، وقيل: أعظم أجزائه الزّعفران، والمراد بأثر الصُّفْرة: رائحة الزّعفران. وفي الرواية الأخرى: «متمضّخ بالخَلوق» أي: متلوِّث به، مُكثِر منه. فسَألَ الرجل النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما حُكْمُ رَجُلٍ أحرَمَ بِعُمرةٍ، وهو مُتلَطِّخٌ بالطِّيبِ في ثَوبِه وبَدَنِه؟ فسَكَت النّبيُّ - صلى الله عليه وسلم- عن إجابتِه، ولمْ يُجِبْه فَوراً، فجاءَه الوَحيُ، وهنا أشارَ عُمَرُ - رضي الله عنه - بِيَدِه إلى يَعْلى - رضي الله عنه -؛ حتَّى يَرى كَيفيَّةَ نُزولِ الوَحيِ على رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم-، فأدْخَلَ يَعْلَى - رضي الله عنه - رَأسَه داخِلَ الثَّوبِ، فإذا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم- مُحمَرُّ الوجْهِ تَتردَّدُ أنفاسُه بِصَوتٍ مَسموعٍ.
قوله: «فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ لَهُ غَطِيطٌ قوله: «فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ لَهُ غَطِيطٌ - قَالَ: وَأَحْسِبُهُ قَالَ كَغَطِيطِ الْبَكْرِ» الغطيط: هو كصوت النائم الذي يُردِّده مع نفَسِه، و»الْبَكْرِ» بفتح الباء هو الفتي مِنَ الإبل، وفي الرواية الأخرى «محمّر الوَجه» والاحْمرار لشدّة الوحي وثقله؛ كما قال -تعالى-: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} (المزمل: 5). قوله: «فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْهُ» بضم السين وكسر الراء المشدّدة؛ أي: أُزِيلَ ما به، وكشِف عنه. وقوله: «اغْسِلْ عَنْكَ أَثَرَ الصُّفْرَةِ»، في الرواية الأخرى: «أما الطّيبُ الذي بك، فاغْسله ثلاث مرات» وهذا مِنَ المُبالغة في الإزالة، ويحتمل لأنّ الطيب كان كثيرًا، فيحتاج إلى تكرارٍ في إزالته، ويؤيده رواية «مُتمَضّخ» وهذه الرواية تدلّ على أنّ الطّيب الذي معه؛ كان بجسَده أيضاً؛ لأنه قال: «وأما الطّيبُ الذي ببدنه».
قوله: «وَاصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ مَا أَنْتَ صَانِعٌ فِي حَجِّك» أي: مِنْ اجْتناب المَحْظُورات؛ لأنّ ظاهر الحديث يدلُّ على أنّه يَعرفُ أعمال الحَجّ ومَحظُوراته؛ لكنّه يسألُ عن العُمرة، فأرشده النّبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أنّ حُكمهما واحد مِنْ حيثُ المَحظورات، قال ابن العربي -رحمه الله-: « كأنّهم كانوا في الجاهلية يخلعون الثّياب، ويجتنبون الطّيب في الإحْرام إذا حجّوا، وكانوا يَتَساهلُون في ذلك في العُمْرة؛ فأخْبره النبيُّ - صلى الله عليه وسلم- أنَّ مَجْرَاهما واحد».
من فوائد الحديث 1- الحديث دليل على أنه يَحرم على المُحْرم استعمالُ الطّيب، ولبس المَخيط الذي على قَدْر البَدن أو جُزء منه. 2- وأنَّ مَحظُوراتِ الحَجِّ والعُمرةِ واحِدةٌ. 3- والنَّهيُ عن التَّطيُّبِ عِندَ الإحْرامِ هو بالنِّسبةِ إلى الثِّيابِ بكُلِّ ما يَبقى أثرُه لَوناً أو رائِحةً، أما التَّطيُّبُ في الجَسدِ، فلا مانع منه، فقد ثبَتَ في الصَّحيحَينِ: أنَّ عائشةَ -رَضيَ اللهُ عنها- طَيَّبَت رَسولَ اللهِ -[- عندَ إحرامِه، أيْ قَبلَه. 4- وفيه: المُبالَغةُ في الإنْقاءِ في غَسل الطِّيبِ للمُحرِمِ. 5- والحديث دليلٌ على أنّ مَنْ فَعلَ مَحظُوراً مِنْ مَحْظُورات الإحْرام، ناسياً أو جاهلًا، فإنه يجبُ عليه إزالتُه في الحال، ولا كفَّارة عليه. 6- وفيه: أنَّ السُّنةَ النّبويّة وَحيٌ مِنْ عند الله، كما أنَّ القرآنَ وَحيٌ، ينزلُ بها جبريل عليه كما ينزل بالقرآن، وقد تَرِدُ السّنّة بأحْكامٍ ليستْ في القرآنِ كما هو هنا. 7-الحديث فيه بيان شدّة ما يَجدُه النبي - صلى الله عليه وسلم- مِنَ الوحي عند نُزُوله. 8- فيه ما كان عليه الصَّحابةُ الكرامُ -رَضيَ اللهُ عنهم- يُحِبُّون أنْ يَعلَموا أحْوالَ النّبيِّ - صلى الله عليه وسلم. 9- وفيه دليل على أنّ القاضي والمُفْتي إذا لمْ يتبيَّن له الحُكم، فإنّه يُمْسك حتى يتبيَّن له، وهذا يُؤخذ منْ إمْسَاك النّبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإجابة حتى نزول الوحي عليه، وهكذا هو حال أهل العلم الرّبانيين، إذا لمْ يعلم أحدٌ منْهم الإجابة أمْسَك عن الجواب، أو قال: لا أعْلم، ولا يتكلّم بما لا يَعلم؛ حتى يراجع كُتُبه، أو يسألُ مَنْ هو أعلم منْه.
{إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيم}
معنى الاسمين ودلالتهما في حق الله تعالى قال الإمام الشنقيطي -رحمه الله تعال في تفسير قوله تعالى-: {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيم}: «الحكم في الاصطلاح: هو من يضع الأمور في مواضعها ويوقعها في مواقعها، فالله -جل وعلا- حكم لا يضع أمرا إلا في موضعه، ولا يوقعه إلا في موقعه، ولا يأمر إلا بما فيه الخير، ولا ينهى إلا عما فيه الشر، ولا يعذب إلا من يستحق العذاب وهو -جل وعلا- ذو الحكمة البالغة له الحجة والحكمة البالغة، وأصل الحكم في لغة العرب: معناه: المنع؛ نقول: حكمه، وأحكمه إذا منعه، هذا هو أصل الحكم، والعليم: صيغة مبالغة؛ لأن علم الله -جل وعلا- محيط بكل شيء، يعلم خطرات القلوب، وخائنات العيون، وما تخفي الصدور، حتى إن من إحاطة علمه -سبحانه- علمه بالعدم الذي سبق في علمه ألا يوجد، فهو عالم أن لو وجد كيف يكون، وأن اسم (الحكيم العليم) فيه أكبر مدعاة للعباد أن يطيعوه، ويتبعوا تشریعه؛ لأن حكمته -سبحانه- تقتضي ألا يأمرهم إلا بما فيه الخير، ولا ينهاهم إلا عما فيه الشر، ولا يضع أمرا إلا في موضعه، وبإحاطة علمه يعلمون أن ليس هنالك غلط في ذلك الفعل، أو أن ينكشف عن غير المراد، بل هو في غاية الإحاطة والإحكام، وإذا كان من يأمرك بحكم لا يخفى عليه شيء حكيم في غاية الإحكام لا يأمرك إلا بما فيه الخير، ولا ينهاك إلا عما فيه الشر، فإنه يحق عليك أن تطيع وتمتثل»، فاسم الحكيم يقتضي الإيمان بأن الله -عزوجل- حكيم في أحكامه وقضائه وقدره؛ فكما أنه حكيم في شرعه ودينه، فهو حكيم في قضائه وقدره. لذلك فإن مَن عرف اللهَ بعلمه وحكمته، أثمر ذلك في قلبه الرِّضا بحكم الله وقدَرِه في شرعه وكونه، فلا يعترض على أمره ونهيه ولا على قضائه وقدَرِه، وإنما يَرضى المؤمن العارِف بأسماء الله وصِفاته بحكم الله وقضائه؛ لأنَّه يعلم أنَّ تدبير الله له خيرٌ من تدبيره لنفسه، وأنَّه -تعالى- أعلم بمصلحته من نفسه، ولذا تراه يَرضى ويسلّم، بل إنَّه يرى أنَّ هذه الأحكام القدَريَّة الكونية أو الشرعية إنما هي رحمة وحكمة، وحينئذ لا تراه يعترض على شيء منها، بل لسان حاله: رضيتُ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيا.

اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي

ابو وليد البحيرى
2024-09-19, 10:01 AM
شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: ما يَجْتَنبُ المُحْرِمُ مِنَ الّلبَاس

يحرم على المُحْرمين من الرجال لبس القُمُص والعمائم والبرانس والسراويل ونحوها
من فوائد الحديث بيان يُسر الشريعةِ الإسلاميَّةِ ورفْعها للحَرجِ عنِ المُكلَّفينَ
يحرم على النساء والرجال المحرمين لبس الثّياب التي مسّها الورس أو الزّعفران

عَنْ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم -: مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تَلْبَسُوا الْقُمُصَ، ولَا الْعَمَائِمَ، ولَا السَّرَاوِيلَات ِ، ولَا الْبَرَانِسَ، وَلَا الْخِفَافَ، إِلَّا أَحَدٌ لَا يَجِدُ النَّعْلَيْنِ؛ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُم َا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ، ولَا تَلْبَسُوا مِنْ الثِّيَابِ شَيْئًا؛ مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ وَلَا الْوَرْسُ»، وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وهُوَ يَخْطُبُ يَقُولُ: «السَّرَاوِيلُ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ الْإِزَارَ، والْخُفَّانِ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ». يَعْنِي: المُحْرِمَ. في الباب حديثان، رواهما مسلم في أول كتاب الحج (2/834-835) باب: ما يباح للمُحرم بحجٍّ أو عُمرة، وما يُباح وبيان تحريم الطيب عليه. في الحديثِ الأول: يَذكُرُ عبداللهِ بنُ عمَرَ بنِ الخطَّابِ -رَضيَ اللهُ عنهما- أنَّ رجُلًا جاء إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَسأَلُه عمَّا يَلبَسُ مِن الثِّيابِ في حالةِ الإحرامِ بالحجِّ أو العُمرةِ، فأجابَه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بذِكرِ ما يَحرُمُ لُبْسُه؛ وذلك لأنَّ المَمنوعَ مُنحصِرٌ، فأمْكَنَ التَّصريحُ به، وأمَّا المُباحُ فأكثَرُ مِن أنْ يَنحصِرَ، ولذا عَدَلَ عن ذِكرِه لذِكرِ المَحظورِ، وكأنَّه أراد أنْ يقولَ: اجتَنِبْ هذه الأشياءَ والْبَسْ ما سِواها.
ما يلبس المُحْرم؟ فالسؤال ورد بصيغة: ما يلبس المُحْرم؟ وورد جوابه من أفصح الخلق - صلى الله عليه وسلم -: لا يلبس القمص إلخ الحديث. قال الحافظ في الفتح: قال النووي: قال العلماء: هذا الجواب منْ بديع الكلام وجَزله، لأنّ ما لا يلبس مُنْحصر، فحصر التصريح به، وأمّا الملبُوس الجائز؛ فغير مُنْحصر، فقال: لا يلبس كذا، أي: ويلبس ما سواه. انتهى. ثم قال الحافظ: وقال البيضاوي: وفيه إشارة إلى أن حقّ السؤال أنْ يكون عمّا لا يلبس، لأنّه الحُكمُ العارض في الإحْرام المحتاج لبيانه؛ إذْ الجواز ثابتُ الأصل بالاستصحاب، فكان الأليق بالسؤال عمّا لا يلبس. وقال غيره: هذا يشبه أسْلوب الحَكيم، ويقربُ منه قوله -تعالى-: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْ نِ وَالْأَقْرَبِين َ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} الآية، (البقرة: 215). فعَدلَ عن جِنس المُنْفق، وهو المَسؤول عنه إلى ذكر المنفق عليه؛ لأنّه أهم. انتهى.


المحظورات التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم فذَكَرَ - صلى الله عليه وسلم - المَحظُوراتِ فقال: «لا تَلْبَسُوا القمصَ» وهو الثَّوبُ المُفصَّلُ على الجسمِ ذُو الأكمامِ، ويُلبَسُ مِنْ أعْلى، فيَدخُلُ في الذِّراعينِ ويُغطِّي الجسَدَ والعَورةَ. «ولَا السَّرَاوِيلَات ِ» جمْعُ سِروالٍ، وهو لِباسٌ يُغطِّي ما بيْن السُّرَّةِ والرُّكبتينِ غالبًا، ويُحيطُ بكلٍّ مِن الرِّجلينِ على حِدَةٍ، ويُلبَسُ مِن الأسفلِ، فيَدخُلُ مِن القدَمَينِ ويُغطِّي العورةَ وأعْلاها قَليلًا. «ولَا العَمَائِمَ» جمْعُ عِمامةٍ، وهي ما يُلَفُّ على الرَّأسِ. «ولَا البَرَانِسَ» جمْعُ بُرْنُسٍ، وهو الثَّوبُ الشاملُ للرَّأسِ والبدَنِ، فهو كلُّ ثَوبٍ رَأْسُه منه مُلتصِقٌ به. قوله: «إِلَّا أَحَدٌ لَا يَجِدُ النَّعْلَيْنِ؛ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُم َا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ» أي: ولا يَلبَسُ المُحرِمُ أيضاً الخُفَّين، وهو ما يُلبَسُ على القدَمِ ساتراً لها، ويُصنَعُ مِن الجِلدِ، بخِلافِ النَّعلِ، فهو غيرُ ساترٍ للقَدَمِ، فلا يُغطِّي ظَهْرَ القدَمِ تَماماً، قال - صلى الله عليه وسلم -: «إلَّا أنْ يَكونَ أحَدٌ ليسَتْ له نَعْلانِ، فلْيَلْبَسِ الخُفَّيْنِ، ولْيَقْطَعْ أسْفَلَ مِنَ الكَعْبَينِ» فإذا أراد لُبْسَ الخُفَّينِ -لفَقْدِه النَّعلينِ- فلْيَقطَعِ الخُفَّينِ حتى يَكونَا أنْزَلَ مِن الكَعْبَين؛ ليَقرَبا بذلك مِن مُشابَهةِ النَّعلينِ، والكَعْبانِ هما العَظْمانِ الناتئانِ عندَ مَفصِلِ الساقِ والقدَمِ، وهذه الأمورُ المذكورةُ مَحظورةٌ بالنِّسبةِ للرِّجالِ دُونَ النِّساءِ.
ما تشترك فيه المرأة مع الرجال قال الحافظ في الفتح: أجْمعوا على أنّ المُراد به هنا الرجل، ولا يلتحق به المرأة في ذلك، قال ابن المنذر: أجْمعوا على أنّ للمَرأة لبس جميع ما ذُكر، وإنّما تشترك مع الرجال في مَنْع الثوب الذي مسّه الزّعْفران أو الورس اهـ، ثم قال الحافظ: وقال عياض: أجمعَ المسلمون على ما ذكر في هذا الحديث لا يلبسه المحرم، وأنه نبّه بالقميص والسّراويل على كلّ مُحيط، وبالعَمائم والبَرانس على كلّ ما يُغطّى الرأس به مَخيطًا أو غيره، وبالخفاف على كل ما يستر الرجل انتهى. هذا: ولو حَمَلَ شيئًا على رأسه لحاجته؛ لا لتغطيته فإنّه لا يضر، وكذلك لو انغمس في الماء، أو وضع يده على رأسه، فإنه لا يسمى لابسًا في شيء من ذلك وليس للمرأة ثياب مُعينة للإحْرام، بل تلبسُ ما شاءت مِنَ الّلباس، ما دام لا يصف ولا يشف، غير أنّه لا يجوز لها أنْ تنتقب، ولا أنْ تلبس القفازين. ثمَّ قال - صلى الله عليه وسلم -: «ولَا تَلْبَسُوا شيئًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ ولَا الوَرْسُ» والزَّعفرانُ: نَباتٌ طَيِّبُ الرائحةِ يُستعمَلُ طِيبًا في الزَّمنِ السابقِ، ويُصبَغُ به. والورْسُ: نَباتٌ أصفَرُ طَيِّبُ الرائحةِ يَحتوي على مادَّةٍ يُصبَغُ بها الثِّيابُ. وهذا النَّهيُ شاملٌ للرِّجالِ والنِّساءِ.
النهي عن لبس النقاب والقفازين ثمَّ قال - صلى الله عليه وسلم -: «ولَا تَنْتَقِبِ المَرْأَةُ المُحْرِمَةُ، ولَا تَلْبَسِ القُفَّازَيْنِ» والنِّقَابُ: هو الخِمارُ الَّذي يُسْدَلُ على الوَجْهِ أو تَحتَ مَحاجِرِ العَينِ، فتَسْتُرَ به المرأةُ وَجْهَها، وتَفتَحَ لِعَيْنَيها بقَدْرِ ما تَنظُرُ منه. والقُفَّازُ: هو شَيءٌ تَلبَسُه النِّساءُ في أيديهِنَّ يُغطِّي الأصابعَ والكَفَّ والسَّاعدَ والمرادُ نَهْيُها عَن لُبْسِ النِّقابِ والقُفَّازِ، وأمَّا غيرُ النِّقابِ والقُفَّازِ مِمَّا يَسْتُرُ الوَجهَ واليدَينِ، مِن الخِمارِ ونَحوِه، فلِلمرأةِ أنْ تَستُرَ وجْهَها ويدَيْها به عِندَ حَضرةِ الرِّجالِ الأجانبِ أو مُحاذاتِهم؛ فقدْ رَوى الحاكمُ في مُستدرَكِه عن أسماءَ بنتِ أبي بكرٍ -رَضيَ اللهُ عنها-: أنَّها كانتْ تُغطِّي وجْهَها في الإحرامِ، وقد جاء النَّصُّ بالنَّهيِ عن النِّقابِ والقُفَّازِ خاصَّةً، وليس عن تَغطيةِ الوجْهِ واليدَينِ.
فوائد الحديث بيَّنَ اللهُ -عزَّوجلَّ- في كتابه، ورَسولُه - صلى الله عليه وسلم - في حديثه، ما يَحِلُّ للمُحرِمِ فِعلُه، وما يَحرُمُ عليه، ونَقَلَ ذلك الصَّحابةُ الكرامُ -رَضيَ اللهُ عنهم أجمعينَ- ذلك للأمة.
تحريم لبس القُمُص والعمائم والبرانس والسراويل ونحوها للمُحْرم من الرجال.
تحريم لبس الأحْذية التي تُغطّي موضع الوضوء مِن الرِّجل، على المحرم من الرجال.
تحريم لبس الثّياب التي مسّها الورس أو الزّعفران على المُحْرم من الرجال أو النساء.
تحريم التطيّب لمَنْ كان مُحْرماً.
إجابةُ السَّائِلِ بأكثرَ مِن سُؤالِه؛ إتمامًا للفائِدةِ.

الحديث الثاني عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وهُوَ يَخْطُبُ يَقُولُ: «السَّرَاوِيلُ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ الْإِزَارَ، والْخُفَّانِ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ». يَعْنِي: المُحْرِمَ، في هذا الحَديثِ يُخبِرُ عبداللهِ بنُ عبَّاسٍ -رَضيَ اللهُ عنهما- أنَّه سَمِعَ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم - يَخطُبُ وذلك في عَرَفاتٍ في حَجَّةِ الوداعِ في العامِ العاشرِ مِن الهِجرةِ، يقول: «السَّرَاوِيلُ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ الْإِزَارَ» والإزارُ هو قِطعةُ القُماشِ تُشَدُ على الوَسطِ، يُستَرُ بها ما بيْن السُّرَّةِ والرُّكبةِ، والسَّراويلُ: هي لِباسٌ مَخيطٌ يُغطِّي ما بيْن السُّرَّةِ والرُّكبتينِ غالبا. قوله: «والْخُفَّانِ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ» وفي اللفظ الأخر: «مَن لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الخُفَّيْنِ» والنَّعْلُ: هي التي تُلبَسُ في الرِّجلِ عندَ المَشْيِ، وكلُّ ما وُقِيَت به القَدَمُ مِن الأرضِ، والغالِبُ فيهِ أنَّه لا يَستُرُ القَدَمَ، والخُفُّ: هو ما يُلبَسُ في الرِّجلِ مِن جِلدٍ رَقيقٍ، ويكونُ ساتِراً للكَعْبينِ فأكثَرَ، ويَلبَسُه المُحرِمُ بعْدَ أنْ يَقْطَعَ أسْفَلَ مِنَ الكَعْبَيْنِ -وهما العَظْمانِ الناتئانِ عندَ مَفصِلِ الساقِ والقدَمِ- كما جاء في رِوايةِ ابنِ عمَرَ في الصَّحيحَينِ، فأباحَ - صلى الله عليه وسلم - لُبْسَ السَّراويلِ لمَن لمْ يَجِدْ إزارًا يَلبَسُه. أمَّا إنْ وَجَدَ الإزارَ أو النَّعلَ، فليس له لُبْسُهما.

اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي

ابو وليد البحيرى
2024-09-28, 03:00 PM
شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: في الصَّيدِ للمُحْرم

هناك أحكامٌ وآدابٌ يَجِبُ على المُحرِمِ الالتزامُ بها حتَّى تَتِمَّ عِبادتُه على الوجْهِ الأكمَلِ وَفْقَ مُرادِ اللهِ عزَّوجلَّ

في جواز قبول الهدية يُسْتحبّ لمن امتنع مِنَ قبول هديةٍ ونحوها لعُذر أن يعتذر بذلك إلى المُهْدي تطييبًا لقلبه

عَنْ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ اللَّيْثِيِّ - رضي الله عنه -: أَنَّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِمَاراً وَحْشِيًّا، وَهُوَ بِالْأَبْوَاءِ أَوْ بِوَدَّانَ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَال: فَلَمَّا أَنْ رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا فِي وَجْهِي؛ قَالَ: «إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ» وعَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَدِمَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ يَسْتَذْكِرُهُ: كَيْفَ أَخْبَرْتَنِي عَنْ لَحْمِ صَيْدٍ، أُهْدِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وهُوَ حَرَامٌ؟ قَالَ قَالَ: أُهْدِيَ لَهُ عُضْوٌ مِنْ لَحْمِ صَيْدٍ فَرَدَّهُ، فَقَالَ: «إِنَّا لَا نَأْكُلُهُ، إِنَّا حُرُمٌ»، الحديثان رواهما مسلم في الحج (2/850) باب: تحْريم الصّيد للمُحْرم. الصَّعب بن جثَّامة هو ابن قيس بن ربيعة اللّيثي، صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان جثامة حليف قريش، تزوج أخت أبي سفيان بن حرب، واسمها فاختة، وقيل: زينب. فولدت له الصعب، وكان الصعب ينزلُ الأبواء وودّان مِنَ الحِجاز. قوله: «أَنَّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِمَاراً وَحْشِيًّا»، وفي رواية: «منْ لحم حمار وحش»، وفي رواية «عَجْز حِمار وحشٍ يَقْطر دما»، وفي رواية: «شِقّ حمار وحش»، وفي رواية: «عُضْواً مِنْ لَحْم صيد» هذه روايات مسلم، وترجم له البخاري: باب إذا أهْدِي للمُحرم حِماراً وحشيا حيّاً لمْ يقبل، ثم رواه بإسناده، وقال في روايته: «حماراً وَحْشيَّاً»، وحُكي هذا التأويل أيضًا عن مالك وغيره، قال النّووي: وهو تأويلٌ باطل، وهذه الطُّرق التي ذكرها مسلم؛ صَريحة في أنه مذبوح، وأنّه إنّما أهدى بعضَ لَحْم صَيدٍ لا كله.
تَحريم الاصْطياد على المُحْرم واتفقَ العُلماء على تَحريم الاصْطياد على المُحْرم، وقال الشافعي وآخرون: يَحْرُمُ عليك تملّك الصّيد بالبيع والهِبة ونحوهما، وفي مُلكه إيّاه بالإرث خلاف، وأما لحم الصيد: فإنْ صَاده أو صِيدَ له فهو حرام، سواء صيد له بإذنه أم بغير إذنه، فإنْ صَاده حلالٌ لنفسِه ولمْ يَقصد المُحرم، ثمّ أهدى منْ لَحمه للمُحْرم أو باعه لمْ يحرم عليه، هذا مذهبنا، وبه قال مالك وأحمد وداود. (شرح النووي). قوله: «وهو: بالأبْواء أو بودّان» وهما مكانان بين مكة والمدينة، جَنوبَ غرْبِ المدينةِ، ويَبعُدانِ عنها نحْوُ (250 كيلومِترٍ تَقريبًا). قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أنا لمْ نرُدّه عليك إلا أنا حُرُم» أي: مُحْرمون، قال القاضي عياض: رواية المحدثين في هذا الحديث «لمْ نرُدّه» بفتح الدال. قال: وأنكره مُحققُو شيوخنا مِنْ أهل العربية، وقالوا: هذا غلط من الرواة، وصوابه: ضم الدال، قال: ووجدته بخط بعض الأشياخ بضم الدال، وهو الصّواب عندهم على مذهب سيبويه. قال أبو حنيفة: لا يَحْرُم عليه ما صِيدَ له؛ بغير إعانةٍ منه، وقالت طائفة: لا يحلّ له لَحمُ الصيد أصْلاً، سواءً صَاده، أو صَاده غيرُه له، أو لمْ يَقْصده، فيَحرُم مُطْلقًا، حكاه القاضي عياض عن عليّ وابن عمر وابن عباس -رضي الله عنهم-؛ لقوله تعالى: {وحُرّمَ عليكم صيد البَرّ ما دُمْتم حُرُما} (المائدة: ٦٩). قالوا: المُراد بالصيد: المَصِيد، ولظاهر حديث الصّعْب بن جثامة، فإنّ النّبي - صلى الله عليه وسلم - ردّه، وعلّل ردّه أنّه مُحْرم، ولمْ يقل: لأنّك صِدّته لنا. وكذا حديث زيد بن أرقم: «إِنَّا لَا نَأْكُلُهُ، إِنَّا حُرُمٌ».
احتجاج الشافعي وموافقوه واحتج الشافعي وموافقوه: بحديث أبي قتادة المذكور في صحيح مسلم بعد هذا، فإنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الصيد الذي صاده أبو قتادة - وهو حلال - قال للمُحْرمين: «هو حَلالٌ فكلوا». وفي الرّواية الأخرى قال: «فهل معكم منه شيء؟ قالوا: معنا رجله، فأخذها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأكلها». وفي سنن أبي داود والترمذي والنسائي: عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «صيدُ البَرّ لكم حَلال، ما لمْ تَصِيدُوه، أو يُصَادُ لكم». قلت: وسنده حسن. قال أصْحابنا: يجبُ الجَمع بين هذه الأحاديث، وحديث جابر هذا صريحٌ في الفرق، وهو ظاهرٌ في الدّلالة للشافعي وموافقيه، وردٌ لما قاله أهل المذهبين الآخرين، ويُحمل حديث أبي قتادة على أنه لمْ يَقْصدهم باصْطياده، وحديث الصّعب أنّه قَصَدهم باصْطياده، وتُحْمل الآية الكريمة على الاصْطياد، وعلى لحمِ ما صِيدَ للمُحْرم؛ للأحاديث المَذْكورة المُبيّنة للمراد مِنَ الآية. وأما قولهم في حديث الصّعب: أنه - صلى الله عليه وسلم - عَلّلَ بأنه مُحْرم؛ فلا يمنع كونه صِيدَ له؛ لأنّه إنّما يَحْرُم الصيد على الإنسان؛ إذا صِيدَ له، بشَرط أنه مُحْرم، فبيّن الشّرط الذي يَحْرم به.
قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنا لمْ نَردّه عليك إلا أنّا حُرُم» فيه: جواز قبول الهدية للنبيّ - صلى الله عليه وسلم -، بخلاف الصّدقة. وفيه: أنه يُسْتحبّ لمن امتنع مِنَ قبول هديةٍ ونحوها لعُذر؛ أن يعتذر بذلك إلى المُهْدي، تطييبًا لقلبه. وقد علَّل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - له ذلك بقولِه: «أنَّا حُرُمٌ» وهو مِن جميلِ خُلُقِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنَّه لَمَّا رأى تَغيُّرَ وجْهِ الصَّعبِ بنِ جَثَّامةَ وحُزنَه مِن ردِّ هَديَّتِه، بيَّن له أنَّه لم يَرُدَّها لشَيءٍ؛ إلَّا لأنَّه مُحرِمٌ لا يَأكُلُ الصَّيدَ المذبوحَ مِن أجْلِه. ولا يُعارِضُ امتِناعُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عن قَبولِ الحِمارِ الوَحشيِّ مِن الصَّعبِ بنِ جَثَّامةَ؛ قَبولَه للأكْلِ مِن الحِمارِ الوحشيِّ الَّذي اصطادَه أبو قَتادةَ - رضي الله عنه -؛ لأنَّ الفرْقَ بيْن الحالتينِ أنَّ أبا قتادةَ - رضي الله عنه - لمْ يَصطَدِ الحِمارَ مِن أجْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، بلِ اصطادَهُ مِن أجْلِ نفْسِه، ثمَّ أكَل معه أصحابُه وأكَلَ منه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، بخِلافِ الصَّعبِ بنِ جثَّامةَ الَّذي اصطادَ الحِمارَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ فلذلك رفَضَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَبولَه أو الأكْلَ منه؛ لأنَّ المُحرِمَ لا يَصطادُ حالَ إحرامِه، ولا يَأكُلُ مِن صَيدٍ اصطادَه مُحرِمٌ أو حَلالٌ له.
فوائد الحديث هناك أحكامٌ وآدابٌ يَجِبُ على المُحرِمِ الالتزامُ بها؛ حتَّى تَتِمَّ عِبادتُه على الوجْهِ الأكمَلِ، وَفْقَ مُرادِ اللهِ عزَّ وجلَّ، ومِن هذه الأحكامِ: تَحريمُ صَيدِ البرِّ حالَ الإحْرامِ؛ قال -تعالَى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} (المائدة: 95). استحباب تَوضيحُ عُذرِ مَن امتنَع مِن قَبولِ هَديَّةٍ ونحوِها للمُهدِي؛ تطْييبًا لقلبِه. وفيه: حُسْنُ خُلقِه - صلى الله عليه وسلم - وطِيبِ مُعامَلتِه لأصْحابِه. وفيه: مَشروعيَّةُ أكْلِ لُحومِ الحُمُرِ الوَحشيَّةِ، وأنّ المُحرّم هو الحمار الأهلي. وفيه: بَيانُ ما يَجوزُ أكْلُه للمُحرِمِ مِن الصَّيدِ، وهو الذي صادَه الحلالُ، دونَ أنْ يُساعِدَه المُحرِمُ عليه بشَيءٍ.
حقيقة المنهج السلفي المتأمل في تاريخ الدعوة الإسلامية يرى أن منهج الصحابة -رضي الله عنهم- والتابعين قام على تعظيم نصوص الوحيين القرآن والسنة، وكمال التسليم لهما، أما المخالفون لمنهجهم وطريقهم من أهل البدع والأهواء، فقد زلَّت أقدامهم، وضلت عقولهم في ذلك، فحرَّفوا، وغيَّروا، وبدَّلوا، وأوَّلوا، ووقعوا في الفتنة والزَّيغ والضلال، فضلوا وأضلوا عن سواء السبيل، وإن الحق والهدى والنجاة في متابعة ما كان عليه أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنهم كانوا على الهدى المستقيم؛ ولهذا جعلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - الميزان الحق حين وقوع الفتن والافتراق في أُمته؛ وهذا المنهج ليس منهجًا قاصرًا عن مواكبة أحداث الحياة والعصر، وليس منهجًا ناقصًا يعتريه الخلل والخطأ، إنما هو منهج حياة شامل وكامل صلح به المسلمون الأوائل، ومكنوا به، وشموليته تعني دخول جميع مجالات الحياة البشرية في منهجه، من حياة الإنسان الخاصة، وإلى حياة الأمم والعالم، فمن شموليته دخول العقيدة والعبادة والأخلاق في منهجه، ودخول شؤون المعاملات والتجارات والاقتصاد والسياسة، ومجالات العلم والبحث والفكر والتربية، وشؤون الحكم والسلطان، والحرب والسلم وأحكام الأسرة المسلمة، وغير ذلك مما يتعلق بجميع شؤون الإنسان في الحياة كما قال -تعالى-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} (المائدة:3)، وقال -تعالى-: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الأنعام:162).

اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي

ابو وليد البحيرى
2024-10-02, 08:48 PM
شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: ما يقتل المُحْرِم مِنَ الدّواب

شَرَعَ الإسلامُ ما يَحفَظُ على المَرءِ حَياتَه وأمْوالَه من التَّلَفِ ومن ذلك أنَّه أجاز قتْلَ بعضِ الحَيواناتِ والطُّيورِ لِما تُسبِّبُه من أذًى وضَرَرٍ على النَّاسِ
في الحديث دلالة على كمال التشريع الإسلامي حيث طلب القضاء على ذوي الفَساد والإفساد

عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «خَمْسٌ فَوَاسِقُ، يُقْتَلْنَ فِي الحِلِّ وَالْحَرَمِ: الحَيَّةُ، وَالغُرَابُ الْأَبْقَعُ، والْفَأْرَةُ، والْكَلْبُ الْعَقُورُ، والْحُدَيَّا»، وعَنْ ابن عمر -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما-: عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «خَمْسٌ لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُنَّ فِي الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ: الْفَأْرَةُ، وَالْعَقْرَبُ، والْغُرَابُ، والْحِدَأَةُ، والْكَلْبُ الْعَقُورُ». وقَالَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ فِي رِوَايَتِهِ: «فِي الْحُرُمِ والْإِحْرَامِ»، الحديث رواه مسلم في الحج (2/856) باب: ما يندي للمُحرم وغيره قتله من الدواب في الحلّ والحرم. في هذا الحَديثِ يقولُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «خَمسٌ فَواسِقُ» وسُمِّيَتْ فَواسِقَ لخُبْثِهِنَّ، وقيل: لخُروجِهِنَّ من الحُرمةِ في الحِلِّ والحَرَمِ، بمعنى: لا حُرْمةَ لها بحالٍ. وقيل: أرادَ بتَفْسيقِها تَحريمَ أَكْلِها، أو هي فَواسِقُ لخُروجِها على النَّاسِ، واعتِراضِها بالمَضَارِّ عليهم، وقيلَ: إنَّ تَسْميتَها فَواسِقَ، لخُروجِها عمَّا عليه سائرُ الحَيَوانِ، بما فيها مِن الضَّررِ الذي لا يُمكِنُ الاحترازُ منه.
تسمية صحيحة جارية قال الحافظ: قال النووي وغيره: تسمية هذه الخمس فواسق، تسمية صحيحة جارية على وفق اللغة، فإنّ أصْل الفسق لغة: الخُرُوج، ومنه، فسقت الرطبة: إذا خرَجت عن قشرها، وقوله -تعالى-: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} (الكهف: 50)، أي: خَرج، وسُمِّي الرجل فاسقًا لخُرُوجه عن طاعة ربّه، فهو خُروج مخْصُوص.
قوله: «يُقتَلْنَ في الحِلِّ والحَرَمِ» أي: يُقتَلْنَ أينَما وُجدن، حتى وإنْ كنَّ في الحَرَمِ، لأنَّ الأصْلَ هو النَّهيُ عن قَتلِ حَيَواناتِ الحَرَمِ أو صَيدِهِنَّ. والحَرَمُ: حَرَمُ مكة، وسُمِيَ بذلك لاحترامه وتعظيمه، وهو ما كان داخل الأميال التي تبعد عن الكعبة بنسب مختلفة: أطولها: 14 ميلاً من جهة بطن عرنة، وأقصرها: 3 أميال منْ جهة التّنعيم، والحِل: ما كان خارج حُدود الحَرم. قال الحافظ: «وعرف بذلك أنْ لا إثم في قتلها على المُحْرم، ولا في الحرم، ويؤخذ من جواز ذلك للحلال وفي الحل من باب الأولى، وقد وقع ذكر الحل صريحًا عند مسلم: من طريق معمر عن الزهري عن عروة بلفظ: «يقتلن في الحل والحرم»، ويعرف حكم الحلال بكونه لمْ يقم به مانع، فهو بالجواز أولى».
قوله: «الحَيَّةُ» وهي الثُّعبانُ، «والفَأرةُ» وذلك لخُروجِها من جُحْرِها على النَّاسِ، وإفْسادِها لمَعايَشِهم، وأمْوالِهم، وزُروعِهم، وغيرِ ذلك.
«والغُرابُ الأبقَعُ» وهو الذي فيه سَوادٌ وبَياضٌ؛ وذلك لأنَّ هذا الغُرابَ يتَّعدّى على النَّاسِ ويُؤذيهم، ويسرق طعامهم، أمَّا الغُرابُ الأسوَدُ فلا يُهاجِمُ فلا يَقتُلُ، قال الحافظ: «قال ابن قدامة: يلتحق بالأبقع ما شاركه في الإيذاء وتَحريم الأكل، وقد اتفق العلماء على إخْراج الغراب الصّغير الذي يأكل الحَبّ، ويقال له: غراب الزّرع، ويقال له: الزّاغ، وأفتوا بجواز أكله، فبقي ما عداه من الغربان مُلْتحقٌ بالأبقع».
قوله: «والكَلبُ العَقورُ» أي: المُتّصف بالعَقر، وهو الذي يجرح بنابه أو ظفره، وهو الذي يَهجُمُ على النَّاسِ، وعلى الحَيَواناتِ ويعقرها، أي: يقتلها. «والحِدَأةُ» وهو طائر من الجوارح، يعيش على أكل الجيف وصغار الطيور، ويَخطَفُ صِغارَ الحيوانات وما يُشبِهُها، «والكلب العقور» قال مالك في الموطأ: كل ما عَقَر الناس، وعدا عليهم وأخافهم، مثل: الأسد والنمر والفهد والذئب، هو العقور. قال الحافظ: «وهو قول الجمهور، وقال بعض العلماء: أنواع الأذى مختلفة، وكأنه نبَّه بالعَقرب على ما يُشاركها في الأذى باللّسع، ونحوه من ذوات السموم، كالحيّة والزّنْبور، وبالفأرة على ما يشاركها في الأذى بالنقب والقَرض، كابن عرس، وبالغراب والحدأة، على ما يشاركها في الأذى بالاختطاف كالصقر، وبالكلب العقور على ما يشاركه في الأذَى بالعدوان والعقر كالأسد والفهد». «فتح الباري» (4/ 40).
التَّنبيه على ما يضُرُّ بالأموالِ وقيلَ: قد ذكَرَ الحِدَأةَ والغُرابَ للتَّنبيهِ على ما يضُرُّ بالأموالِ مُجاهَرةً، وعلى ما أذاهُ بالاختِطافِ كالصَّقْرِ والبازِ، وذكَرَ الفأْرةَ للتَّنبيهِ على ما يضُرُّ بالأموالِ اختِفاءً، ونبَّهَ بالكَلبِ العَقورِ على كُلِّ عَادٍ بالعَقرِ والافتِراسِ بطَبْعِه، كالأسَدِ والفَهْدِ والنَّمِرِ، ونَبَّهَ بالحَيَّةِ والعَقْرَبِ على ما يُشارِكُهما في الأَذى باللَّسْعِ، وأيضاً: «الوزغ»: فعن عائشة -رضي الله عنها-: أنّ رسُول الله - قوله: «يُقتَلْنَ في الحِلِّ والحَرَمِ»- قال: «الوَزَع فُويْسق»، ولمْ أسْمَعه أمَر بقتله، رواه البخاري. قال الحافظ: «وقضية تَسْميته إيّاه فويسقًا، أنْ يكونَ قتله مباحًا، وكونها لمْ تَسمعه لا يدلّ على منع ذلك، فقد سَمَعه غيرها، انتهى، ونقل ابن عبدالبر: الاتفاق على جواز قتله في الحِلّ والحَرم، وروى ابن أبي شيبة: أنّ عطاء سئل عن قتل الوزغ في الحَرم، فقال: إذا آذاك فلا بأس بقتله، والله أعلم». (4/40). وقال في الاختيارات: «والقَمل والبعوض والقَرَد إن قرصه قتَله عقاباً، وإلا فلا يقتله، ولا يجوز قتل النّحل وهو يأخذ عسله، وإنْ لم يندفع ضرره إلا بقتله جاز». «الاختيارات الفقهية» (1/466).
من فوائد الحديث شَرَعَ الإسلامُ ما يَحفَظُ على المَرءِ حَياتَه وأمْوالَه من التَّلَفِ، ومن ذلك أنَّه أجاز قتْلَ بعضِ الحَيواناتِ والطُّيورِ، لِما تُسبِّبُه من أذًى وضَرَرٍ على النَّاسِ.
وفيه: مُحاربة الإسْلام للأذى والعدوان، حتّى في البهائم.
كمال التشريع الإسلامي؛ حيث طلب القضاء على ذوي الفَساد والإفساد.
ومنها: مشروعية قتل هذه الدَّوَابّ الخمسِ في الحِلِّ والحرم، للمُحل والمُحرم.
جواز قتل كل ما شابهها في طَبْعها من الأذية والضّرر، وقيل: بجواز قتلها ولو كانت صغيرة، اعتباراً بمآلها.

السنة وحي كالقرآن إن من أصول الدين طاعةَ رسول رب العالمين، والأخذَ بسُنَّتِهِ، وترك ما نهى عنه، وتصديق خبره، والإيمان بما جاء به، وألَّا نعبد الله إلا بما شرعه رسول الله - قوله: «يُقتَلْنَ في الحِلِّ والحَرَمِ»-، وهذا هو معنى شهادة أن محمدًا رسول الله، كما أن معنى شهادة لا إله إلا الله هو الإخلاص لله -سبحانه-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (النساء: 59)، {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} (النساء: 80). فاتباع السنة وطاعة الرسول - قوله: «يُقتَلْنَ في الحِلِّ والحَرَمِ»- هي الهداية والنجاة والسعادة، وهي الصراط المستقيم. قال الإمام مالك -رحمه الله-: «السُّنَّة سفينة نوح، من ركِبها نجا، ومن تخلَّف عنها غرِق». {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (الأنفال: 24).
التحذير الشديد والوعيد وقد جاء التحذير الشديد والوعيد الأكيد على ترك السنن، ومخالفة هَدْيِ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-؛ قال الله -تعالى-: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور: 63)، {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (الأنعام: 153)، وقد قال رسول الله -[-: «من أطاعني، فقد أطاع الله، ومن عصاني، فقد عصى الله».
السُّنَّة المأثورة الصحيحة ثم اعلم أن السُّنَّة المأثورة الصحيحة عن النبي - قوله: «يُقتَلْنَ في الحِلِّ والحَرَمِ»- هي وحي، كما أن القرآن وحي: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (النجم: 4)؛ أي: القرآن، {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل: 44)، {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44): أي: بالسُّنَّة، فالسُّنَّة تُبيِّن القرآن وتوضِّحه، وتُفصِّل أحكامه؛ وقد قال النبي - قوله: «يُقتَلْنَ في الحِلِّ والحَرَمِ»-: «ألَا إني أُوتيت الكتاب ومثله معه -أي السنة- ألَا يُوشِك رجل شبعان على أريكته، يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحِلُّوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرِّموه»(2).
السنة لا تعارض بشيء وهذه السُّنَّة المطهَّرة لا تُعارَض بشيء، لا تُعارَض بالآراء، ولا بأقوال الرجال، ولا تُعارَض بالأهواء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الحجرات:1)، قال الإمام أحمد -رحمه الله-: «من ردَّ حديث النبي - قوله: «يُقتَلْنَ في الحِلِّ والحَرَمِ»-، فهو على شفا هَلَكَة».

اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي

ابو وليد البحيرى
2024-10-15, 11:43 PM
شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: الحِجَامةُ للمُحْرِم


الحِجامةُ وَسيلةٌ مِن الوَسائلِ الطِّبِّيةِ الَّتي تُستعمَلُ في استخراجِ الدَّمِ الفاسدِ مِن الجسمِ للتَّداوي وتعدّ الحجامة من الطب النبويّ
في الحديث جواز الحجامة للمحرم ولا فدية عليه وأنّ خُروج الدم من المحرم لا يضر إحرامه ولا شيء عليه
يشرع العِلاجِ للمُحرِمِ مِن كلِّ ما يعرَض له مِن عِلَّةٍ في جَسَدِه بما يُرْجى دفْعُ مَكروهِها عنه مِن الأدويةِ المُباحةِ

عَنْ ابْنِ بُحَيْنَةَ -رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - احْتَجَمَ بِطَرِيقِ مَكَّةَ، وهُوَ مُحْرِمٌ وَسَطَ رَأْسِهِ. الحديث رواه مسلم في الحج (2/863) باب: جواز الحجامة للمُحرم، ورواه أيضا عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، ورواه البخاري بلفظ: «احْتَجَمَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم - وهو مُحْرِمٌ بلَحْيِ جَمَلٍ، في وسَطِ رَأْسِهِ».في هذا الحديثِ يُخبِرُ الصحابي عبداللهِ ابنُ بُحَينةَ - رضي الله عنه - وهو ابن مالك وبحينة هي أمّه. أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم - قد احتَجَم وهو مُحْرم، أي: وهو مُتلبِّسٌ بالإحرامِ للحجِّ أو العُمرةِ، وكانت الحِجامةُ في وسَطِ رَأسِه -صلى الله عليه وسلم .
وَسيلةٌ مِن الوَسائلِ الطِّبِّيةِ والحِجامةُ وَسيلةٌ مِن الوَسائلِ الطِّبِّيةِ الَّتي تُستعمَلُ في استخراجِ الدَّمِ الفاسدِ مِن الجسمِ للتَّداوي، وتعدّ الحجامة من الطب النبويّ، وتُستخدم لعلاج العديد من الأمراض والمشكلات الصحيّة، وذلك من خلال جذب كميّة من الدم باستخدام كاسات الهواء من المكان المصاب إلى الجلد، ثمّ يتم إخراج هذا الدم الفاسد إلى خارج الجسم، وبالتالي ينقطع عن الدورة الدمويّة فيخفّف بذلك من الألم والالتهاب الحاصل في المكان.
الحِجَامة وسط الرّأس والحِجَامة وسط الرّأس: تعالج الصداع الكُلي في الرأس، وتتخلص من الشقيقة، وتقلل من الحساسيّة والتهابات الجيوب الأنفيّة، وتعالج أمراض العيون والتهاباتها، والتهابات الأذن الوسطى والداخليّة، وتحمي من اضطرابات المتعلقة بجهاز الدوران، وتنشط الذاكرة وتزيد من التركيز والنشاط، وتخلّص من الأمراض العقليّة والعصبيّة، وتعطي الهدوء والراحة للأعصاب، وتعالج مشكلات الأسنان، وتتخلص من التهابات العصب، وتحمي من ارتفاعات ضغط الدم، والشلل النصفي، والنزيف المهبلي، وتخلص من الضغوطات النفسيّة والتعب، والأرق، والإجهاد، وتحسن تدفق الدم عبر الدماغ، ومن ثم تزيد من التركيز والنشاط، وقد بيّن كثيرٌ من العلماء فضل الحِجامة وأماكنها، كالإمام ابن القيم في (زاد المعاد)، ولنا كتاب في الحجامة مطبوع.
قولُه: «بلَحْيِ جَمَلٍ» هو مكانٌ على طَريقِ مكَّةَ، يَبعُدُ عن المدينةِ قُرابةَ سَبعةِ أميالٍ، أي: (12 كم) تقريبًا، وروى البخاري: عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: «أنَّ النّبيَّ -صلى الله عليه وسلم - احْتَجَمَ وهو مُحْرِمٌ، واحْتَجَمَ وهو صَائِمٌ»، فيُخبِرُ عبداللهِ بنُ عبَّاسٍ -رضي الله عنهما- أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم - احتجَمَ وهو مُحْرِمٌ، واحتجَمَ أيضًا وهو صائمٌ. وظاهِرُ الحديثِ: أنَّه -صلى الله عليه وسلم - وقَعَ منه الأمرانِ المذكورانِ مُفترِقَينِ، وفي رِوايةِ البخاريِّ: أنَّه - صلى الله عليه وسلم - احتَجَمَ وهو مُحرِمٌ في رَأسِه مِن شَقيقةٍ كانتْ به. والشقيقة نَوعٌ مِن صُداعٍ يَعرِضُ في مُقدَّمِ الرأسِ وإلى أحدِ جانبَيهِ، وكان احتجامُه -صلى الله عليه وسلم - وهو مُحرِمٌ. وورد الحثّ على الحجامة في أيام من الشهر أحاديث، منها: ما أخرجه أبو داود: من حديث أبي هريرة رفعه: «مَنْ احْتَجم لسَبْع عشرة، وتِسْع عشرة، وإحْدَى وعشرين، كان شفاءً مِنْ كلّ داء».
فوائد الحديث جواز الحجامة للمحرم ولا فدية عليه، وأنّ خُروج الدم من المحرم لا يضر إحرامه ولا شيء عليه، ومثله جواز إجْراء الجراحة للمُحرّم ولا شيء عليه، ومَشروعيَّةُ العِلاجِ للمُحرِمِ مِن كلِّ ما يعرَض له مِن عِلَّةٍ في جَسَدِه، بما يُرْجى دفْعُ مَكروهِها عنه مِن الأدويةِ المُباحةِ.
وكذا جواز قلع الضرس ونحوه للمحرم، ولا شيء عليه.
وفيه: جواز التدواي للمحرم بما لا طيب فيه، ولا شيء عليه.
أنّ اللهُ -عزَّ وجلَّ- قد بيَّنَ وكذا رَسولُه - صلى الله عليه وسلم - ما يَحِلُّ للمُحرِمِ فِعلُه، وما يَحرُمُ عليه، ونَقَلَ ذلك الصَّحابةُ الكرامُ -رضي الله عنهم- أجمعينَ.

باب: مُدَاواةُ المُحْرِم عَيْنيه
عَنْ نُبَيْهِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِمَلَلٍ، اشْتَكَى عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ عَيْنَيْهِ، فَلَمَّا كُنَّا بِالرَّوْحَاءِ اشْتَدَّ وَجَعُهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ يَسْأَلُهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ: أَنْ اضْمِدْهُمَا بِالصَّبِرِ، فَإِنَّ عُثْمَانَ - رضي الله عنه - حَدَّثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الرَّجُلِ إِذَا اشْتَكَى عَيْنَيْهِ، وَهُوَ مُحْرِمٌ؛ ضَمَّدَهُمَا بِالصَّبِرِ. الحديث أخرجه مسلم في الحج (2/863) باب: جواز مُداوة المُحرّم عينيه. في هذا الحَديثِ يُخبِرُ التَّابِعيُّ نُبَيْهُ بنُ وَهْبٍ أنَّهم خَرَجوا مُحْرِمينَ بالحجِّ ومَعَهم أَبانُ بنُ عُثمانَ بنِ عفَّانَ - رضي الله عنه -، وكان أميرًا على الحجَّاجِ، فلمَّا وَصَلوا إلى مِنطقةِ مَللٍ، وهي إلى الغربِ مباشرةً من حَوضِ وادي العَقيقِ غربَ المدينةِ، وتَبعُدُ عنها قُرابةَ 50 كم في هذه المِنطَقةِ بدأَ عُمرُ بنُ عُبيدِ اللهِ في الشِّكايةِ مِن وَجعِ عَينَيْه. ثُمَّ لَمَّا وَصَلوا إلى مِنطَقةِ الرَّوْحاءِ، زادَ وجَعُ عَينَيْه ممَّا يَقتَضي المُداواةَ، والرَّوحاءُ: موضِعٌ بينَ الحرَمَينِ، على بُعدِ 80 كيلومتراً منَ المدينةِ، فأرسَلَ إلى أبانَ بنِ عُثمانَ يَسألُه عن حُكمِ التَّداوي في العَينِ للمُحرِمِ، فأرسَلَ إليه أَبانُ بنُ عُثمانَ بالإِجابةِ، وهي: أنَّ أباه عُثمانَ بنَ عفَّانَ - رضي الله عنه - رَوى عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّ المُحرِمَ إذا اشْتَكى عَينَيْه ضَمَّدَهما، أي: شَدَّهما بالعِصابةِ معَ تَقْطيرِ الصَّبِرِ في العَينَينِ، والصَّبِرُ: عُصارةٌ جامدةٌ لشَجرٍ مُرٍّ، والمَقصودُ أنْ يَخلِطَ الصَّبِرَ بالماءِ، فيَقطُرَه في عَينَيْه، أو يَكتحِلَ بهِ، أو يَضعَه عَلى عَينيْه، والصَّبِرُ ليس بطِيبٍ، فلا يُمنَعُ منه المُحرِمُ.
فوائد الحديث في الحديث جواز تَضميدُ العَينِ وغَيرِها بالصَّبِرِ ونحوِه للمُحْرِمِ، وقد اتفق العلماء على جواز تضميد العين وغيرها بالصّبر ونحوه ممّا ليس بطيب، ولا فدية في ذلك، فإنّ احتاج إلى ما فيه طيب جاز له فعله وعليه الفدية، واتفق العلماء على أنّ للمُحرم أنْ يكتحل بكحلٍ لا طيب فيه، إذا احتاج إليه ولا فدية عليه فيه، وأما الاكتحال للزّينة فمكروه عند الشافعي وآخرين، ومنعه جماعة منهم أحمد وإسحاق، وفي مذهب مالك قولان كالمذهبين، وفي إيجاب الفدية عندهم بذلك خلاف.
الحَجُّ رُكنٌ مِن أَركانِ الإِسْلامِ، وهوَ عِبادةٌ لِمَنِ استَطاعَ إليها سَبيلًا، وقد حُظِرَ على المحرِمِ بعضُ المباحاتِ الَّتي كانتْ حَلالًا له قبلَ الإحْرامِ، وفي الحجِّ مَشقَّةٌ تَقتَضي التَّيسيرَ، ومِنَ التَّيسيرِ أنْ يُباحَ له المُداواةُ بالمُباحاتِ.


اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي

ابو وليد البحيرى
2024-10-28, 11:15 PM
شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: غَسْلُ المُحْرم رأسَه


الحديثُ واضح الدّلالة على جواز اغْتسال المُحرم وغَسله رأسه وإمْرار يده على شَعره ودَلْكه باليد منْ غير أنْ يتعمّد أنْ ينتف شعرًا
الصّحابة كانوا يناظرون بعضهم بعضًا في الأحْكام وأنهم رضي الله عنهم يَختلِفونَ أحْيانًا في بَعضِ المَسائلِ لكنَّهمْ كانوا يَتعامَلونَ بآدابِ الخِلافِ التي علَّمَهم إيَّاها النبيُّ صلى الله عليه وسلم

عَنْ عبداللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ: عَنْ عبداللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَالْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا بِالْأَبْوَاءِ، فَقَالَ عبداللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ، وقَالَ المِسْوَرُ: لَا يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ، فَأَرْسَلَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ أَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ بَيْنَ الْقَرْنَيْنِ، وَهُوَ يَسْتَتِرُ بِثَوْبٍ، قَالَ: فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ مَنْ هَذَا؟ فَقُلْتُ: أَنَا عبداللَّهِ بْنُ حُنَيْنٍ، أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ عبداللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ أَسْأَلُكَ: كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ؟ فَوَضَعَ أَبُو أَيُّوبَ - رضي الله عنه - يَدَهُ عَلَى الثَّوْبِ، فَطَأْطَأَهُ حَتَّى بَدَا لِي رَأْسُهُ، ثُمَّ قَالَ لِإِنْسَانٍ يَصُبُّ: اصْبُبْ، فَصَبَّ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ حَرَّكَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُهُ - صلى الله عليه وسلم - يَفْعَلُ. الحديث رواه مسلم في الحج (2/864) باب: جواز غَسل المُحْرم بدنه ورَأسه. وأخرجه البخاري في جزاء الصيد (1840) باب: الاغتسال للمحرم، وعبدالله بن حُنين الهاشمي مولاهم، تابعي ثقة، قال الحافظ ابن حجر: المشهور أنّ حنينًا كان مولى للعباس، وهبه له النبي - صلى الله عليه وسلم - فأولاده موال له.
يحكي عبداللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ مناظرة علمية جرت بين اثنين منْ صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد اخْتلفا بالأبْواء، أي: وهما في المكان المعروف بالأبواء، وهي مَنطقةٌ بيْن مكَّةَ والمدينةِ، تَقَعُ جَنوبَ غرْبِ المدينةِ، وتَبعُدُ عنها نحْوَ (250 كم) تَقريبًا، وبها قبْرُ أمِّ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أي: وهما نازلان فيه للاسْتراحة، حول حُكم اغْتسال المُحْرم، وغَسل رأسه، ودلك أصُول شَعْره، فعبدالله بن عباس -رضي الله عنهما- يقول: هذا جائز، ولعلّه كان على علمٍ بذلك عن رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - عن طريق أبي أيوب الأنصاري، وكان يقول في مجالسه: أميِطوا عنكم الأذى، فإنّ الله لا يصنع بأذاكم شيئا. والمسْور بن مخرمة - رضي الله عنه - يقول: هذا غير جائز، فقد حرم على المحرم قلع شعره، والغُسْل ودَلْك الرأس، يُعرّض شعره للسقوط، فيقع في المُحرّم، وكأنه يقول ذلك اجتهادًا ورأيًا، وكانا في فَوجٍ من أفواج حجّ بيت الله، وهم مُحْرمُون، ويتوقف على الفتوى اغتسال كثير من الحجاج، فأرسل ابن عباس مولاه عبدالله بن حنين إلى أبي أيوب يسأله: هل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يغتسل وهو مُحْرم؟ فلما وصلَ ابنُ حنين إلى أبي أيوب وجده على رأس بئر يغتسل، قال: «يغتسل بين القرنين» أي: بين قرني البئر، تثنية قَرْن، وهما الخَشبتان، أي العَمُودان اللذان يُنْصبان على رأس البئر، وتمدّ بينهما خشبة يعلق عليها البكرة، التي يجرّ عليها الحبل المُسْتقي به. أي: قد وقفَ بين قائمي البئر، وسَتَر نفسه عن الناس بثوب، فسلّم عليه، وقال له: أَنَا عبداللَّهِ بْنُ حُنَيْنٍ، أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ عبداللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ أَسْأَلُكَ: كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَغْسِلُ رَأْسَهُ وهُوَ مُحْرِمٌ؟
السؤال عن أصل الخلاف
وكان الأصلُ أنْ يَسأل عن أصْل الخِلاف: وهو هل يغسلُ المُحْرمُ رأسه أو لا يَغْسل؟ لكنّه لما جاء فوجده يغتسل، أخذ الجواب، وأحبّ أنْ لا يرجع إلا بفائدة، فتصرّف في السّؤال بفِطْنته، فسأله عن كيفية الغسل، وخصّ الرأس بالسّؤال؛ لأنّها موضع الإشْكال في هذه المَسألة، لأنّها محلّ الشعر الذي يخشى سُقُوطه في أثناء الغُسل، بخلاف بقية البدن غالباً. فقال له: أسألك كيفَ كان رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يَغسلُ رأسه؟ قال: «فوضَعَ أبو أيوب يدَه على الثّوب فطَأطأه» أي: أمْسكَ بالثوب المُسْتتر به، وأزاله مِنْ أعلاه حتّى يكشف عن رأسه ووجْهه، وقال لمَنْ يَصبّ عليه: اصبُبْ على رأسي، وأخَذَ يدلك شَعره بيديه، ومُساعده يصبّ عليه. وفي رواية: «جمع ثيابه إلى صَدره حتى نظرت إليه». وفي رواية: «حتى رأيتُ رأسَه ووجهه». ثم قال: «هكذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغتسل وهو مُحْرم»، ورجع ابن حنين إلى مَن أرسله بالسؤال، فتقبل المِسْور الخبر راضياً مُسلّماً، وقال لابن عباس: «لا أماريك أبدًا» أي لا أجادلك، وأصل المراء استخراج ما عند الإنسان يقال: أمرى فلان فلانًا إذا استخرج ما عنده، وأطلق ذلك في المجادلة لأن كلاً مِنَ المُتجادلين يستخرج ما عند الآخر من الحُجّة. أي: لك الفضل ولك السبق في العلم، ومخالفك لا يغلبك، وأعاهدك ألا أجادلك بعد اليوم أبداً. رضي الله عن الصحابة أجمعين.
فوائد الحديث
الحديثُ واضح الدّلالة على جواز اغْتسال المُحرم، وغَسله رأسه، وإمْرار يده على شَعره، ودَلْكه باليد، منْ غير أنْ يتعمّد أنْ ينتف شعرًا، واستدل به القرطبي على وجُوب الدّلك في الغسل.
قال: لأنّ الغُسل لو كان يتم دونه، لكان المُحْرم أحَقّ بأنْ يجوز له تركه، قال الحافظ ابن حجر: ولا يخفى ما فيه. اهـ (الفتح 4/57)، أي غاية ما فيه: أنّ أبا أيوب دلك، وأنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدلك، وقد يكون من باب الاستحباب، فمن أين يُؤخذ الوجوب؟ قال النووي: واتفق العُلماء على جواز غَسل المُحْرم رأسه وجَسَده مِنَ الجنابة، بل هو واجبٌ عليه، وأمّا غسله تبرّداً، فمذهبنا ومذهب الجُمهور: جَوازه بلا كراهة. ويجوز عندنا: غسلُ رأسه بالسّدر والخطمي؛ بحيثُ لا ينتف شعراً، ولا فدية عليه ما لم ينتف شعراً، وقال أبو حنيفة ومالك: هو حرامٌ موجب للفدية. واستُدلّ به على أنّ تخليل اللّحية في الوضوء، باقٍ على اسْتحبابه، خلافًا لمن قال: يكره، كالمتولي من الشافعية، خشية انتتاف الشعر؛ لأنّ في الحديث: «ثم حَرّك رأسَه بيديه» ولا فَرْقَ بين شَعر الرأس وشَعر اللحية، إلا أنْ يقال: إنّ شَعر الرأس أصْلب، قال الحافظ: والتحقيق أنه خلاف الأولى، في حق بعض دون بعض.
وفيه: مناظرة الصّحابة بعضهم بعضًا في الأحْكام، وأنهم -رضي الله عنهم- يَختلِفونَ أحْيانًا في بَعضِ المَسائلِ، لكنَّهمْ كانوا يَتعامَلونَ بآدابِ الخِلافِ التي علَّمَهم إيَّاها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم .
ورجُوعهم إلى النُّصوص عند الاخْتلاف، وترك الاجْتهاد والقِياس عند وجُود النص.
وقبولهم خبر الواحد، ولو كان تابعيًا، وأنّ قَبوله كان مَعلومًا مشْهورًا عند الصّحابة.
وأنّ قولَ بعضهم ليس بحجّة على بعض، إلَّا بدَليلٍ يَجِبُ التَّسليمُ له، مِن كِتابٍ أو سُنَّةٍ، قال ابنُ عبدالبر: لو كان معنى الاقتداء في قوله - صلى الله عليه وسلم - «أصْحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهْتَديتم» يُراد به الفَتوى، لمّا احتاج ابن عباس إلى إقامة البيّنة على دعواه، بل كان يقول للمسور: أنا نجمٌ وأنت نجم، فبأيّنا اقتدَى مَن بَعدنا كفاه، ولكن معناه- كما قال المزني وغيره منْ أهل النظر- أنه في النّقل؛ لأنّ جميعهم عُدَول. انتهى. (الفتح 4/57) وقلت: والحديث فيه ضعف.
وفيه الاعْتراف للفاضِل بفَضله.
وإنْصاف الصّحابة بعضهم بعضاً.
واسْتتار المُغتسل عند الغُسل.

وجواز الاسْتعانة بالغير في الطّهارة.
وجواز الكلام والسّلام حالة الطّهارة.


اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي

ابو وليد البحيرى
2024-10-28, 11:22 PM
شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: في الفِدْية على المُحْرم

يسَّرَ الشَّرعُ الحنيفُ على النَّاسِ فيما يشُقُّ عليهم منْ الأحكامِ وبَيَّن لهم البدائِلَ الشَّرعيَّةَ لِمن لم يستَطِعْ فِعلَ ما أمَرَ اللهُ به
المُحرِم إذا مات فإنَّه يَبقى في حَقِّه حُكمُ الإحْرامِ فلا يُحَنَّطُ بطيب ولا يُغَطَّى رَأْسُه ولا يُكَفَّنُ في ثَلاثةِ أثْوابٍ كغَيرِه

عَنْ عبداللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ قَالَ: قَعَدْتُ إِلَى كَعْبٍ - رضي الله عنه - وَهُوَ فِي المَسْجِدِ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (البقرة: 196). فَقَالَ كَعْبٌ -]-: نَزَلَتْ فِيَّ، كَانَ بِي أَذًى مِنْ رَأْسِي، فَحُمِلْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - والْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي، فَقَالَ: «مَا كُنْتُ أُرَى أَنَّ الْجَهْدَ بَلَغَ مِنْكَ مَا أَرَى، أَتَجِدُ شَاةً؟» فَقُلْتُ: لَا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (البقرة: 196). قَالَ: صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، أَوْ إِطْعَامُ سِتَّةِ مَسَاكِينَ، نِصْفَ صَاعٍ طَعَاماً، لِكُلِّ مِسْكِينٍ. قَالَ: فَنَزَلَتْ فِيَّ خَاصَّةً، وَهِيَ لَكُمْ عَامَّةً. الحديث رواه مسلم في الحج (2/861) باب: جواز حلق الرأس للمُحرم إذا كان به أذى، ووجوب الفدية لحلقه، وبيان قدرها، ورواه البخاري في الحج (1814) باب: قول الله -تعالى-: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (البقرة: 196). وفي التفسير (4517) فهو متفق عليه. في هذا الحَديثِ يروي التابعيُّ الثقة عبداللهِ بنُ مَعقِلٍ وهو ابن مقرن، أبو الوليد المزني الكوفي. لأبيه صحبة. وقد حدث عن أبيه، وعن عليّ، وابن مسعود، وكعب بن عجرة، وجماعة، وكَعْبِ بنِ عُجْرةَ هو الأنصاري السّالمي المدني، من أهل بيعة الرّضوان، له عدة أحاديث.
معْنى قولِه -تعالى-:
{فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} يقول عبداللهِ بنُ مَعقِلٍ أنَّه قَعَدَ إلى الصَّحابيِّ كعْبِ بنِ عُجْرةَ - رضي الله عنه - في مَسجدِ الكوفةِ، فسَألَه عن معْنى قولِه -تعالى-: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (البقرة: 196)، فأجابه كَعْبُ بنُ عُجْرةَ - رضي الله عنه - بما وقَعَ له، فقالَ: حُمِلْتُ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - والقَمْلُ يَتناثَرُ على وَجْهي»، وفي راوية لمسلم أنه كان بالحديبية، فقالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا رآه كذلك: «مَا كُنْتُ أُرَى أَنَّ الْجَهْدَ بَلَغَ مِنْكَ مَا أَرَى» أي: ما كنتُ أظنّ أنّ المَشقَّةَ والتَّعبَ «قد بَلَغَ بك هذا» الَّذي رأيْتُ. أي: آذاه القمل في رأسه، فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ يحلق رأسه، ليتخلّص مِنْ أذى القمل، ثمَّ سأله النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أَتَجِدُ شَاةً؟» والشّاة هي الواحِدةُ مِنَ الضَّأنِ، وتُذبَحُ فِديةً نظيرَ ارتكابِ أمْرٍ مِنْ محظوراتِ الإحرامِ، وهو هنا: حَلْقُ الشَّعرِ لأجْلِ إزالةِ القَملِ عنه، فقال كعبٌ للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: لا أجِدُها، أي: لا أملِكُها، ولا أملِكُ ثمنَها. فقال له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «صُمْ ثَلاثةَ أيَّامٍ» أي: نظيرَ ما ستفعَلُه منْ حَلقِ شَعرِ رأسِك، وهذا بيانٌ لِقولِه -تعالى-: {ففدية مِنْ صِيَامٍ} أو أطْعِم ستَّةَ مَساكينَ، بياناً لِقولِه -تعالى-: {أَوْ صَدَقَةٍ} لكُلِّ مِسكينٍ نِصفُ صاعٍ مِن طَعامٍ. كما في رواية: «أو تصدّق بفَرَقٍ بين ستة مساكين» والفَرَق: ثلاثة آصُع، قال: «واحلِقْ رأسَك».
مذهب الأئمّة الأربعة وورد عن ابن عباس في قوله: {ففدية منْ صِيامٍ أو صَدقةٍ أو نُسُك} قال: إذا كان «أو» فأيّه أخذتَ، أجْزأ عنك، قال ابن أبي حاتم: وروي عن مجاهد، وعكرمة، وعطاء، وطاووس، والحسن، وحميد الأعرج، وإبراهيم النخعي، والضحاك، نحو ذلك، قال ابن كثير: «وهو مذهب الأئمّة الأربعة وعامة العلماء، أنه يخير في هذا المقام، إنْ شاء صام، وإنْ شاء تصدّق بفَرَق، وهو ثلاثةُ آصُع، لكلّ مسكينٍ نصفُ صاع، وهو مُدّان، وإنْ شاء ذبح شاة، وتصدّق بها على الفقراء، أيُّ ذلك فعل، أجْزأه. ولمّا كان لفظ القُرآن في بيان الرُّخْصة جاء بالأسْهل فالأسهل: {ففديةٌ منْ صِيامٍ أو صَدقةٍ أو نُسُك}، ولمّا أمَر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كعب بن عجرة بذلك، أرْشده إلى الأفْضل، فالأفضل، فقال: انْسُك شاة، أو أطعم ستة مساكين، أو صم ثلاثة أيام؛ فكلٌّ حسن في مقامه. ولله الحمد والمنة. انتهى قَوله: «فَنَزَلَتْ فِيَّ خَاصَّةً، وَهِيَ لَكُمْ عَامَّةً» أخبَرَ كعبُ بنُ عُجرةَ - رضي الله عنه - مَنْ سأله أنَّ الآيةَ وإنْ كانت نزلت فيه خاصَّةً، فهي للمُسلمينَ عامَّةً، فالعَمَلُ بمقتضاها لكُلِّ النَّاسِ إلى يومِ القيامةِ، وهي قاعدة مهمة، نصّ الأصوليون والفقهاء عليها، وهي أن: «العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب»، وهذه القاعدة متفق عليها عند جماهير أهل العلم ولم يخالف فيها إلا القليل.
فوائد الحديث 1- يسَّرَ الشَّرعُ الحنيفُ على النَّاسِ فيما يشُقُّ عليهم منْ الأحكامِ، وبَيَّن لهم البدائِلَ الشَّرعيَّةَ لِمن لم يستَطِعْ فِعلَ ما أمَرَ اللهُ به. 2- مَشروعيَّةُ حَلقِ المُحرِمِ شَعْرَ رَأسِه لِأَذى القَملِ ونحوه مِن الأمراض. 3- وفيه: بيانُ حِرصِ التابعينَ على معرفةِ الأحكامِ، وبيانُ الصَّحابة لهم. 4- وفيه: جُلوسِ الصحابة -رضي الله عنهم- للناس للتدريس ولمُذاكَرةِ العِلمِ، وحرص التابعين على الأخذ عنهم.
باب: في المُحْرم يموت ما يفعل عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: خَرَّ رَجُلٌ مِنْ بَعِيرِهِ، فَوُقِصَ فَمَاتَ، فَقَالَ: «اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا». الحديث رواه مسلم في الحج (2/865) باب: ما يُفعل بالمُحرم إذا مات. ورواه البخاري في الجنائز (1265، 1266، 1267). فهو متفق عليه. في هذا الحَديثِ يَروي عبدالله بنُ عبَّاسٍ -رَضيَ اللهُ عنهما- أنَّ رَجُلًا كان يَقِفُ مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - على جبلِ عرَفاتٍ في حجَّةِ الوَداعِ، وكان راكبًا دابَّتَه، فسقَطَ عنها، «فَوَقَصَ» وفي لفظ: «فَوَقَصَتْه» أي: كَسَرَتْ عُنُقَه، وفي لفظ: «فأَقْصَعَتْه» أي: فمات موتًا سريعًا، فأَمَر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يَغسِلوه بِماءٍ وسِدْرٍ، والمقصود بالسدر هو ورقُ شجرِ النَّبْقِ، وأوراقه تقوم مقام الصابون برائحة طيبة، ويوضع في ماء الغسل، ولكنْ لا يُستخدَمُ كطِيبٍ، وأن يُكَفِّنوه في ثَوبَينِ.
ولا يُحَنِّط من الحنوط وهو كل ما يخلط من الطيب لأكفان الموتى وأجسامهم من مسك وذريرة وصندل وعنبر وكافور وغير ذلك. بوضعِ الطِّيبِ الَّذي يُخلطُ ويوضَعُ للمَيتِ، لأنَّه قد مات متلبِّسًا بالحجِّ، والحاجُّ لا يَتطيَّبُ، ولا يُخَمِّروا رَأْسَه، فلا يُغَطُّوه، لِأَنَّه مُحرِمٌ، وعلَّل ذلك بأنَّه يُبعَثُ يَومَ القيامةِ يُلَبِّي، وهي الحال التي مات عليها. قال النووي: في هذه الروايات دلالة بينة لمذهب الشافعي وأحمد وإسحق وموافقيهم، في أن المحرم إذا مات لا يجوز أن يلبس المخيط، ولا تخمر رأسه، ولا يمس طيباً وقال مالك والأوزاعي وأبو حنيفة وغيرهم: يفعل به ما يفعل بالحي وهذا الحديث راد عليهم. اهـ
فوائد الحديث 1- أنَّ المُحرِمَ إذا مات فإنَّه يَبقى في حَقِّه حُكمُ الإحْرامِ، فلا يُحَنَّطُ بطيب، ولا يُغَطَّى رَأْسُه، ولا يُكَفَّنُ في ثَلاثةِ أثْوابٍ كغَيرِه. 2- وفيه: الكَفَنُ في ثَوبَيْنِ لِلمُحْرِمِ، بدون إضافة. 3- وفيه: مَشروعيَّةُ تَكْفينِ المُحرِمِ في ثيابِ إحْرامِه، وأنّ التكفين في الثياب الملبوسة جائز، قال النووي: وهو مُجمعٌ عليه، وجواز الكفن في ثوبين، وأما الثلاثة أثواب الواردة في حديث عائشة فهي للاستحباب، وهو قول الجمهور، وأما الواحد الساتر لجميع البدن فلا بدّ منه بالاتفاق. 4- وأن التكفين واجب، وهو إجماع في حق المسلم، وكذلك غسله والصلاة عليه ودفنه. 5- وفيه: مَشروعيَّةُ استِعْمالِ السِّدْرِ في غُسْلِ المَيِّتِ. 6- قال ابن بطال: فيه أن من شرع في عمل طاعة، ثم حال بينه وبين إتمامه الموت، رُجيَ له أن يكتبه الله له في الآخرة من أهل ذلك العمل. 7- يومُ القِيامةِ يومُ الجَزاءِ على الأعْمالِ في هذه الدُّنيا، والجزاءُ يكونُ مِن جِنسِ العَملِ، فيَبعثُ اللهُ كلَّ إنسانٍ على ما ماتَ عليه مِن اعتقادٍ وعملٍ فيُجازِيه عليه. 8- قال النووي: وفيه دليل على استحباب دوام التلبية في الإحرام.

اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي

ابو وليد البحيرى
2024-11-10, 03:19 PM
شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: المَبيتُ بِذِي طَوى والاغْتِسال قبلَ دُخُول مكة

كان للنبيُّ صلى الله عليه وسلم عاداتٌ وسُننٌ في سَفَرِه منها أنّه يَنتظِرُ في أوَّلِ السَّفرِ في مَكانٍ قَريبٍ مِن المدينةِ ليَتجمَّعَ المسافِرون معه

عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ -رضي الله عنهما-: كَانَ لَا يَقْدَمُ مَكَّةَ إِلَّا بَاتَ بِذِي طَوًى حَتَّى يُصْبِحَ، ويَغْتَسِلَ ثُمَّ يَدْخُلُ مَكَّةَ نَهَاراً، ويَذْكُرُ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ فَعَلَهُ. الحديث رواه مسلم في الحج (2/919) باب: اسْتحباب المَبيت بذي طوى، عند إرادة دخول مكة، والاغتسال لدخولها، ودخولها نهارا. ورواه البخاري في الحج (3/1574) باب: دخول مكة نهاراً أو ليلا. يَروي نافع مولى ابن عمر: أنّ ابنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما- كانَ لا يقدم مكة، إلا بَاتَ بِذِي طَوًى حَتَّى يُصْبِحَ» أي: يَنزِل بذي طُوًى، يقال بفتح الطاء وضمها وكسرها، والفتح أفصح وأشهر، ويصرف ولا يصرف. وهو اسمُ بِئرٍ أو مَوضِعٍ بِقُربِ مَكَّةَ، ينزل بها ويبيت حتَّى يُصبِحَ، فيُصلِّي الصُّبحَ حينَ يَقدَمُ مِن المدينةِ إلى مَكَّةَ، ويصلي بمَكانُ صَلاة النبي - صلى الله عليه وسلم- وهو على أَكَمَةٍ غَليظةٍ، وهي مَوضِعٌ عَظيمٌ واسعٌ مُرتَفِعٌ على ما حَولَه أو تَلٌّ مِن حَجَرٍ.
الأماكنَ التي صلَّى فيها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم ولم تكُنْ صَلاةُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في المَسجِد الَّذي بُنِيَ هُناكَ بعْدَ ذلك، ولكِن أسفَلَ مِن ذلِك المسجدِ، حَسبَما أشار ابنُ عمَرَ -رضي الله عنهما-، وقدْ روَى البُخاريُّ: عن عبداللهِ بنِ عمَرَ -رضي الله عنهما- تِسعةَ أحاديثَ تُحدِّدُ الأماكنَ التي صلَّى فيها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم- في أسفارِه في الطَّريقِ بيْن المدينةِ ومَكَّةَ، منها هذا الحديثُ، وهذه المساجدَ لا يُعرَفُ اليومَ منها غيرُ مَسجدِ ذي الحُليفةِ، والمساجِدِ التي بالرَّوحاءِ. وقد ورَدَ عن عمَرَ بنِ الخطَّابِ - رضي الله عنه - أنَّه كان يَنْهى الناسَ عن قصْدِ التَّبرُّكِ بالمواضعِ والأماكنِ التي كان رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم- يُصلِّي فيها، خَشيةً عليهم أنْ يَجعَلوا لها فَضْلًا في ذاتِها، وهذا النَّهيُ منه منِ بابِ سَدِّ الذَّرائعِ، أمَّا الأماكنُ التي نُصَّ على فضْلِ الصَّلاةِ فيها، كالحَرَمينِ، والأقْصى وقُباءٍ ونحْوِها، وكذلك قصْدُ المساجدِ عامَّةً بالصَّلاةِ، حتَّى التي وَرَدَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم- صلَّى فيها، فلا تَدخُلُ تحْتَ هذا النَّهيِ.
فوائد الحديث 1- فيه استحباب الاغتسال لدخول مكة، وأنه يكون بذي طوى لمن كانت في طريقه، ويكون بقدر بعدها لمن لم تكن في طريقه. قال النووي: قال أصحابنا: وهذا الغسل سُنة، فإن عجز عنه تيمم. 2- قال: ومنْها: المَبيت بذي طَوى، وهو مُستحب لمن هو على طريقه، وهو موضعٌ معروف بقرب مكة. 3- ومنها: استحباب دخول مكة نهاراً، وهذا هو الصحيح الذي عليه الأكثرون من أصحابنا وغيرهم، أنّ دخولها نهاراً أفضل من الليل، وقال بعض أصحابنا وجماعة من السلف: الليل والنهار في ذلك سواء، ولا فضيلة لأحدهما على الآخر، وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم- دخلها مُحرماً بعمرة الجعرانة ليلاً، ومن قال بالأول حمله على بيان الجواز، والله أعلم. انتهى 4- وفيه: ما كان عليه أصحابُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم- مِنْ تتبَّع هَدْيَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم- في كلِّ أحوالِه، وقد كان عبداللهِ بنُ عمَرَ من أشدِّهم اجتهاداً في تَحرِّي الأماكنِ التي صلَّى فيها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم- في أسفارِه، فيُصلِّي فيها تَبرُّكًا وحُبًّا له - صلى الله عليه وسلم .
باب: دُخُول مَكة والمدينة مِنْ طَرِيق والخُرُوج مِنْ طَرِيق عَنْ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَخْرُجُ مِنْ طَرِيقِ الشَّجَرَةِ، وَيَدْخُلُ مِنْ طَرِيقِ الْمُعَرَّسِ، وإِذَا دَخَلَ مَكَّةَ دَخَلَ مِنْ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا، ويَخْرُجُ مِنْ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى. الحديث رواه مسلم في الحج (2/918) باب: استحباب دُخُول مكّة مِنَ الثنيّة العليا، والخُروج منها من الثنيّة السّفلى، ودُخول بلده من طريق غير التي خرج منها. ورواه البخاري الحج (3/1575) باب: منْ أينَ يدخل مكة؟ في هذا الحديثِ يَرْوي عبداللهِ بنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما-: أنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم- كانَ يَخرُجُ مِن المدينةِ إلى العُمرةِ أو الحَجِّ، مِن طَريقِ الشَّجرةِ الَّتي عِندَ مَسجدِ ذي الحُلَيْفةِ، ويَدخُلُ مِن طَريقِ المُعَرَّسِ، وهو بَطْحاءُ ذي الحُلَيْفةِ، وسُمِّيَ المُعَرَّسَ، لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم- كانَ إذا رَجَعَ إلى المدينةِ نَزَلَ فيه آخِرَ اللَّيلِ، فسُمِّيَ مُعَرَّساً مِن التَّعريسِ، وهُو النُّزولُ آخِرَ اللَّيلِ، وكان - صلى الله عليه وسلم- يَنزِلُ فيه ويُصلِّي فيه، ويَبيتُ فيه، ويقَعُ أسْفَل مِن مَسجِدِ ذي الحُلَيفةِ. وذو الحُليفةِ: قَريةٌ بيْنها وبيْن المدينةِ سِتَّةُ أميالٍ أو سبعَةٌ (10 كم)، وهي مِيقاتُ أهلِ المدينةِ ومَن مرَّ بها. ثمَّ يُخبِرُ عبداللهِ بنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما- أنَّه - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذا خَرجَ مُسافرًا إلى مَكَّةَ -لحَجٍّ أو عُمرةٍ- يُصلِّي في مَسجِد الشَّجرةِ بذي الحُلَيْفةِ، وإذا رَجَعَ مِن سَفرِه نَزَلَ آخِرَ اللَّيلِ في وَسطِ وادي ذي الحُلَيْفةِ، وصلَّى فيه، وباتَ فيه إلى الصَّباحِ، ثمَّ يَتوجَّهُ إلى المدينةِ، لئلَّا يَفجَأَ الناسُ أهالِيَهم لَيلًا. وقدْ روى البُخاريُّ ومسلم عن عبداللهِ بنِ عمَرَ -رضي الله عنهما- أحاديثَ عدَّةَ تُحدِّدُ الأماكنَ التي صلَّى فيها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم- في أسفارِه، وهذه الأماكنَ والمساجدَ لا يُعرَفُ اليومَ منها غيرَ مَسجِدِ ذي الحُلَيفةِ، والمساجِدِ التي بالرَّوحاءِ.
فوائد الحديث كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم- له عاداتٌ وسُننٌ في سَفَرِه، فكان منها: أنّه يَنتظِرُ في أوَّلِ السَّفرِ في مَكانٍ قَريبٍ مِن المدينةِ، ليَتجمَّعَ المسافِرون معه، وكذلك عندَ الرُّجوعِ، يَنتظِرُ في مكانٍ قَريبٍ مِن المدينةِ، ولا يَدخُلُها إلَّا في الصَّباحِ، وكان يُصلِّي في كلِّ مكانٍ يَنزِلُ فيه.


اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي

ابو وليد البحيرى
2024-11-10, 03:21 PM
شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: في النُّزُول بمَكّة للحَج
- ضَرَبَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بنفْسِه المثلَ الأكمَلَ في كلِّ العِباداتِ والتعامُلاتِ ومِن ذلك: أحكامُ التَّوارُثِ بيْن المسلِمِ والكافرِ وبيانُ عدَمِ التَّوارُثِ بيْنهما

عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ -رضي الله عنهما- أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَنْزِلُ فِي دَارِكَ بِمَكَّةَ؟ فَقَالَ: «وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ أَوْ دُورٍ؟» وَكَانَ عَقِيلٌ وَرِثَ أَبَا طَالِبٍ هُوَ وَطَالِبٌ، وَلَمْ يَرِثْهُ جَعْفَرٌ وَلَا عَلِيٌّ شَيْئًا، لِأَنَّهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ، وَكَانَ عَقِيلٌ وَطَالِبٌ كَافِرَيْنِ، الحديث رواه مسلم في الحج (2/984) باب: النّزولُ بمكة للحَاج، وتوريث دورهما، ورواه البخاري في الحج (1588) باب: توريث دور مكة وبيعها وشرائها، وأنّ الناس في المسجد الحرام سواء خاصة؛ لقوله -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (الحج:25)، البادي: الطّاري، مَعكوفاً: محبوسًا، فالحديث متفق عليه. يَرْوي أسامةُ بنُ زيدٍ - رضي الله عنه - في هذا الحَديثِ فيقول: أنَّه سَأَلَ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم-، وذلك عندَ فتْحِ مكَّةَ كما في الرواية الأخرى لمسلم، وهي في السَّنةِ الثامنةِ مِن الهِجرةِ، فقال له: أينَ سَيَنزِلُ ويُقيمُ غدا؟ هل في دُورِه التي تَرَكَها قبْلَ الهِجرةِ في مكَّةَ؟ فقال له: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَنْزِلُ فِي دَارِكَ بِمَكَّةَ؟ فَقَالَ له - صلى الله عليه وسلم-: «وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ أَوْ دُورٍ؟» والرَّباع بفتح الراء، جمع ربع: وهو المَنْزل المُشْتمل على أبيات، وقيل: هو الدار. أي: بَيِّن له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم- أنَّه لا مَكانَ له في دُورِ أبي طالِبٍ، ولا غَيرِه مِن قَومِه في مَكَّةَ؛ وذلك لأنَّ المُؤمِنَ لا يَرِثُ الكافر.
لا يرث المُؤمن الكافر وكان عقيلُ قد ورث أبا طالب، هو وطالب، ولمْ يَرثه جعفر ولا عليّ - رضي الله عنه - شيئًا؛ لأنّهما كانا مُسلمين، وكان عقيل وطالب كافرين، ولا يرث المُؤمن الكافر، وقد فسَّر الرَّاوي -ولعلَّه أسامةُ رضي الله عنه - أنَّه لَمَّا مات أبو طالِبٍ عمُّ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَرِثَه ابناهُ الكافرانِ: عَقيلٌ وطالبٌ، وحازا كلَّ مُمتلكاتِه المُشتملةِ على عِدَّةِ بُيوتٍ، ولم يَرِثْه جَعْفَرٌ وعَلِيٌّ المؤمنانِ، ولو كانا وارثَين؛ لنَزَلَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في دُورِهما، وكانت كأنَّها مِلكُه؛ لِعلمِه بإيثارِهِما إيَّاه على أنفُسِهما. وفي رواية البخاري: فكان عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ - رضي الله عنه - يقولُ: لا يَرِثُ المُؤمِنُ الكافِرَ. والمرادُ أنَّه كان يقولُ ذلك؛ بِناءً على ما أقَرَّه - صلى الله عليه وسلم- مِن عدَمِ وِراثةِ علِيٍّ وجَعفرٍ -رَضيَ اللهُ عنهما- مِن أبي طالبٍ.
ولاية الميراث وقالَ ابنُ شِهَابٍ الزُّهريُّ كما في رواية البخاري: إنهم كَانُوا يَتَأَوَّلُونَ قَولَ اللهِ -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (الأنفال: 72)، فيُفسِّرون الوِلايةَ في هذه الآيةِ: بوِلايةِ المِيراثِ، وتَتمَّتُها: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُم ْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}(الأنفال : 72-73). والمعنى: إنَّ الذين آمَنوا باللهِ ولم يُهاجِروا مِن بَلَدِ الكفْرِ إلى بَلَدِ الإسلامِ، ليس عليكمْ -أيُّها المؤمِنون- أنْ تَنصُروهم وتَحمُوهم حتَّى يُهاجِروا في سَبيلِ اللهِ، وإنْ ظَلَمَهم الكفَّارُ، فطَلَبوا منْكم النَّصرَ؛ فانْصُروهم على عَدُوِّهم، إلَّا إذا كان بيْنكم وبيْن عَدُوِّهم عَهْدٌ لم يَنقُضوه، واللهُ بما تَعمَلون بَصيرٌ، لا يَخْفَى عليه شَيءٌ مِن أعمالِكم، وسيُجازيكم عليها. والذين كَفَروا باللهِ يَجمَعُهم الكفْرُ، فيُناصِرُ بَعضُهم بَعضًا، فلا يُواليهم مُؤمنٌ، إنْ لم تُوالُوا المؤمنين وتُعادُوا الكافرينَ تَحدُثْ فِتنةٌ للمُؤمنينَ؛ حيث لم يَجِدوا مَن يُناصِرُهم مِن إخوانِهم في الدِّينِ، ويَحدُثْ فَسادٌ في الأرضِ عَظيمٌ بالصَّدِّ عن سَبيلِ اللهِ.
ترك النبي - صلى الله عليه وسلم- لتصرفات الجاهلية قال الحافظُ ابن حجر: وأخرج هذا الحديث الفاكهي من طريق محمد بن أبي حفصة، وقال في آخره: ويقال إنّ الدار التي أشار إليها؛ كانت دار هاشم بن عبد مناف، ثم صارت لعبدالمطلب ابنه، فقسمها بين ولده حين عمر، فمِن ثَمَّ صار للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم- حقّ أبيه عبد الله، وفيها وُلد النّبي - صلى الله عليه وسلم . ثم قال: محصل هذا أنّ النّبي - صلى الله عليه وسلم - لما هاجر؛ اسْتولى عقيل وطالب على الدار كلّها، باعتبار ما ورثاه منْ أبيهما، لكونهما كانا لمْ يُسلما، وباعتبار ترك النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لحقّه منها بالهِجْرة، وفقد طالب ببدر، فباع عقيل الدار كلّها. وقال الداودي وغيره: كان مَنْ هاجر مِنَ المؤمنين؛ باع قريبه الكافر داره، وأمْضى النبيّ - صلى الله عليه وسلم- تصرُّفات الجاهلية؛ تأليفًا لقُلوب مَنْ أسلم منهم». الفتح (3/452).
المقصود بالمسجد في الآية وقوله -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (الحج: 25)، قال القاضي إسماعيل: ظاهر القرآن يدلّ على أنّ المراد به: المسجد الذي يكون فيه النُّسُك والصّلاة، لا سائر دُور مكة، وقال ابن خزيمة: لو كان المراد بقوله -تعالى-: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} (الحج: 25)، جميع الحَرَم، وأنّ اسم المَسْجد الحرام واقعٌ على جميع الحَرم؟ لما جاز حفرُ بئرٍ ولا قبر، ولا التّغوّط ولا البول، ولا إلقاء الجِيَف والنتن، قال: ولا نعلم عالِماً منع من ذلك، ولا كرِه لحائضٍ ولا لِجُنب دُخُول الحرم، ولا الجِماع فيه، ولو كان كذلك، لجازَ الاعتكاف في دُور مكة وحَوانيتها، ولا يقول بذلك أحد، والله أعلم؛ انتهى. «الفتح» (3/451)، واحتج الشافعي بحديث أسامة هذا؛ على جواز بيع دُور مكة وتِجارتها؛ قال الحافظ: وبالجواز قال الجمهور. الفتح (3/ 450).
من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم قول عمر - رضي الله عنه -: «لا يرث المؤمن الكافر»، هو من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم-، رواه البخاري في كتاب الفرائض بلفظ: «لا يَرثُ المُسْلمُ الكافر، ولا الكافرُ المسلم». وللنسائي: «لا يَتَوارَثُ أهلُ مِلتين»، وحملها الجمهور على أن المراد بإحدى الملتين الإسلام، وبالأخرى الكفر. قال الحافظ: «وهو أَولى مِنْ حملها على ظاهر عمومها، حتى يمتنع على اليهودي مثلًا أنْ يَرثَ مِنَ النصراني، والأصح عند الشافعية أنّ الكافرَ يرث الكافر، وهو قول الحنفية والأكثر». الفتح (12/51). وقال البخاري: باب لا يرثُ المُسلمُ الكافر، ولا الكافرُ المُسلم، وإذا أسلمَ قبل أنْ يُقْسم الميراث؛ فلا ميراثَ له. البخاري (8/194). قال الحافظ: أشار إلى أنّ عُمُومه يتناول هذه الصورة، فمن قيَّد عدم التوارث بالقسمة احتاج إلى دليل؛ قال ابن المنيِّر: صورة المسالة إذا مات مسلم وله ولدان مثلًا مسلم وكافر، فأسلم الكافر قبل قسمة المال، قال ابن المنذر: ذهبَ الجُمْهور إلى الأخذ بما دلّ عليه عُمُوم حديث أسامة. انتهى. والحديث دليل على انقطاع التوارث بين المُسْلم والكافر، قال الموفق ابن قدامة: مَنْ لمْ يرث لمعنى فيه، كالمُخَالف في الدّين، والرّقيق، والقَاتل، فهذا لا يَحْجبُ غيره، في قول عامّة أهلِ العلم. ولا يَرثُ المُسْلم الكافر، ولا الكافر المسلم، لا بالنّسَب، ولا بالولاء، في قول جمهور العلماء، وهو رواية عن أحمد. «المغني» (14/94).
فوائد الحديث 1- ضَرَبَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم- بنفْسِه المثلَ الأكمَلَ في كلِّ العِباداتِ والتعامُلاتِ، ومِن ذلك: أحكامُ التَّوارُثِ بيْن المسلِمِ والكافرِ، وبيانُ عدَمِ التَّوارُثِ بيْنهما. 2- وفيه: مَشروعيَّةُ تَوريثِ دُورِ مكَّةَ ومَنازلِها، وكذا بيعها وشِراؤها.

اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي

ابو وليد البحيرى
2024-11-17, 02:57 PM
شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: الرَّمَلُ في الطّوافِ والسّعْي

الحَجُّ هو الرُّكن الخَامس مِنْ أرْكان الإسلام وهو عِبادةٌ تَوقيفيَّةٌ عَلَّمَها النبيُّ صلى الله عليه وسلم أصْحابَه بالفِعلِ وبالقَولِ
الرّمل لا يكونُ إلا في الثلاثة أشواط الأول مِنَ الطواف والرَّمَل اصْطِلاحًا هو الإسْراعُ في المَشيِ مع تقارُبِ الخُطَى للرجال دون النساء

عَنْ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا طَافَ فِي الْحَجِّ والْعُمْرَةِ، أَوَّلَ مَا يَقْدَمُ، فَإِنَّهُ يَسْعَى ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ يَمْشِي أَرْبَعَةً، ثُمَّ يُصَلِّي سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ يَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا والْمَرْوَةِ، وعَنْ جَابِرِ بْنِ عبداللَّهِ -رضي الله عنهما- أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَمَلَ مِنْ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهِ، ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ، وعَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-: أَرَأَيْتَ هَذَا الرَّمَلَ بِالْبَيْتِ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ، ومَشْيَ أَرْبَعَةِ أَطْوَافٍ، أَسُنَّةٌ هُوَ؟ فَإِنَّ قَوْمَكَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ سُنَّةٌ؟ قَالَ فَقَالَ: صَدَقُوا، وكَذَبُوا؟ قَالَ قُلْتُ: مَا قَوْلُكَ صَدَقُوا وَكَذَبُوا؟ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدِمَ مَكَّةَ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّ مُحَمَّداً وأَصْحَابَهُ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ مِنْ الْهُزَالِ، وكَانُوا يَحْسُدُونَهُ، قَالَ: فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَرْمُلُوا ثَلَاثًا، ويَمْشُوا أَرْبَعًا، قَالَ قُلْتُ لَهُ: أَخْبِرْنِي عَنْ الطَّوَافِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ رَاكِبًا، أَسُنَّةٌ هُوَ؟ فَإِنَّ قَوْمَكَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ سُنَّةٌ؟ قَالَ: صَدَقُوا وَكَذَبُوا، قَالَ قُلْتُ: ومَا قَوْلُكَ صَدَقُوا وَكَذَبُوا؟ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَثُرَ عَلَيْهِ النَّاسُ، يَقُولُونَ: هَذَا مُحَمَّدٌ، هَذَا مُحَمَّدٌ، حَتَّى خَرَجَ الْعَوَاتِقُ مِنْ الْبُيُوتِ، قَال: وكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَا يُضْرَبُ النَّاسُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَمَّا كَثُرَ عَلَيْهِ رَكِبَ، والْمَشْيُ وَالسَّعْيُ أَفْضَلُ. الحديث الأول: رواه مسلم في الحج (2/930) باب: اسْتِحباب الرَّمَل في الطَّواف والعُمرة، وفي الطّواف الأول مِنَ الحجّ، ورواه البخاري في الحج (1603، 1604)، في هذا الحَديثِ: يَروي عبداللهِ بنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما- أنَّ رَسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم - كان إذا طافَ طَوافَ القُدومِ أوِ العُمرةِ، أسرَعَ في الأشواطِ الثَّلاثةِ الأُولى، وهو ما يُسمَّى الرَّمَلَ، ويَمشي في الأربعةِ الباقيةِ، وفي لفظ البخاري: «أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذَا طَافَ بالبَيْتِ الطَّوَافَ الأوَّلَ، يَخُبُّ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ، ويَمْشِي أَرْبَعَةً...».

قوله: «ثلاثة وأرْبعة» وأما قوله: «ثلاثة وأرْبعة» فمُجمع عليه، وهو أنّ الرّمل لا يكونُ إلا في الثلاثة الأول مِنَ السبع، والرَّمَل اصْطِلاحًا: هو الإسْراعُ في المَشيِ، مع تقارُبِ الخُطَى، وهو دُون الوثوبِ والعَدْوِ، ويُسَمَّى أيضاً: الخَبَب. وقوله: «ثمّ يُصلّي سَجْدتين» فالمُرادُ ركعتي الطّواف، وهما سُنّة على المَشْهور مِنَ مذاهب العلماء، وسمّاهما سَجدتين مَجازاً. وقوله: «ثمَّ يَطوفُ بين الصّفَا والمَرْوة» ففيه: دليلٌ على وجوب الترتيب بين الطواف والسعي، وأنّه يُشْترط تَقدّم الطّواف على السّعي، فلو قدم السعي، لمْ يصح السّعي، قال النووي: وهذا مذهبنا ومذهب الجمهور.
الحديث الثاني رواه مسلم في الباب نفسه، وفيه أيضاً: مَشروعيَّةُ الرَّمَلِ في الأشْواطِ الثلاثةِ في الطَّوافِ حَولَ الكعبةِ، من الحَجر الأسود حتى ينتهي إليه.
الحديث الثالث هذا الحديث رواه مسلم في الباب نفسه، ورواه البخاري في الحج (1602) باب: كيفَ كانَ بدء الرَّمَل؟ وقوله: «قلتُ لابن عباس: أرأيت هذا الرّملَ بالبيت، ثلاثةَ أطْواف، ومَشْي أربعة أطواف، أسُنّة هو؟ فإنّ قومَكَ يَزْعمُون أنّه سُنّة. فقال: صَدَقوا وكذبوا...»، يعني: أنّهم صَدَقوا في أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فَعَله، وكذَبُوا في قولهم: إنّه سُنّةٌ مَقصُودة مُتأكّدة؛ لأنّ النّبي - صلى الله عليه وسلم - لمْ يَجْعله سُنّةً مطلوبة دائماً على تكرّر السّنين، وإنّما أمَرَ به تلك السَّنَة، لإظْهار القُوّة عند الكفّار، وقد زَالَ هذا المعنى.
أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بالرمل وهو قَوله في الرواية الأخرى: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدِمَ مَكَّةَ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا وأَصْحَابَهُ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ مِنْ الْهُزَالِ، وكَانُوا يَحْسُدُونَهُ، قَالَ: فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَرْمُلُوا ثَلَاثًا، ويَمْشُوا أَرْبَعًا..». والهزال أي: الضّعف والوَهَن، وفي رواية لمسلم: «قد وهَنتْهم الحُمّى، ولقوا منْها شِدّة»، هذا معنى كلام ابن عباس -رضي الله عنهما-، وهذا الذي قاله مِنْ كون الرّمل ليس سُنّةً مَقْصودة؟ هو مذهبه، وخالفه جميعُ العُلَماء مِنَ الصّحابة والتابعين وأتباعهم، ومَنْ بَعدهم، فقالوا: هو سُنّة في الطّوافاتِ الثلاثِ مِنَ السّبع، فإنْ تَرَكه فقد تَركَ سُنّة، وفاتته فضيلة، ويَصحّ طَوافه، ولا دَمَ عليه. وقال الحسن البَصري والثوري وعبدالملك بن الماجشون المالكي: إذا تَركَ الرّمل، لَزِمه دَمٌ؟ وكان مالك يقولُ به، ثمّ رَجع عنه. ودليل الجُمهور: أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - رَمَلَ في حَجّة الوَداع في الطَّوافات الثلاث الأول، ومَشَى في الأرْبع، ثمّ قال - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك: «لتأخُذُوا منَاسِكَكُم عنّي». والله أعلم. (انظر النووي).
فائدة: هلْ على النِّساءِ رَمَلٌ؟ ليسَ على النِّساءِ رمَلٌ في الطَّوافِ، وقد نقلَ الإجْماعَ على ذلك: ابنُ المنذر في «الإجماع» (ص: 55)، الطحاوي، وابن عبدالبر في «التمهيد» (2/78)، وابن بطال، وابن رشد، وغيرهم. قوله: «قلتُ له: أخْبرني عن الطّواف بين الصّفا والمَرْوة رَاكباً، أسُنّةٌ هو؟ فإنّ قومك يَزعُمُون أنّه سُنّة؟ قال: صَدقوا وكذبُوا... إلى آخره، يعني: أنّهم صَدَقوا في أنّه - صلى الله عليه وسلم - طَافَ راكباً، وكذَبُوا في أنّ الرُّكوبَ أفْضَل، بل المَشْي أفضَل، وإنّما رَكِبَ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - للعُذْر الذي ذَكرَه، وهو أنّ الناس ازْدَحمُوا عليه - صلى الله عليه وسلم -، ممّا دعاه للرُّكوب على الناقة، وهذا الذي قاله ابنُ عباس هنا مُجْمعٌ عليه، فقد أجْمع العلماء على أنّ الرُّكوبَ في السّعي بين الصّفا والمَرْوة جائز، وأنّ المَشْي أفْضل منْه، إلا لعُذر. قوله: «حتّى خَرَج العَواتقُ مِنَ البيوت» والعَواتقُ: جمع عاتق، وهي البِكرُ البَالغة، أو المُقاربة للبُلُوغ، وقيل: التي تَتَزوج. سُمّيت بذلك، لأنّها عَتَقت منْ استْخدام أبويها، وابْتذالها في الخُرُوج والتّصرّف، الذي تَفعله الطفلة الصّغيرة.
فوائد الحديث أنّ الرَّمَلُ يكونُ في الأشواطِ الثَّلاثةِ الأُولى في العُمْرة، وفي طَوافِ القُدومِ في الحَج.
وفيها: أنّ السَّعيِ بَينَ الصَّفا والمَروةِ، يكون بعدَ الطّواف بالبَيت، ولا يصحّ قبله.
وفيها: جَوازُ إطْلاقِ لَفظِ «الطَّوافِ» على السَّعيِ بَينَ الصَّفا والمَروةِ.
وأنّ الحَجُّ وهو الرُّكن الخَامس مِنْ أرْكان الإسلام، عِبادةٌ تَوقيفيَّةٌ، عَلَّمَها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أصْحابَه بالفِعلِ وبالقَولِ، وقد نَقَلوا لنا صِفةَ هذه العِبادةِ كما رَأوْها وسَمِعوها، وكما أدَّوْها معه - صلى الله عليه وسلم -، ورَضيَ اللهُ عنْهم.


اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي

ابو وليد البحيرى
2024-11-24, 05:44 AM
شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: تَقبيلُ الحَجَر الأسْود في الطّواف

الحديث يدلّ على كراهة تَقبيل ما لمْ يرد الشّرع بتقبيله أمّا تقبيلُ يد الأبوين احْتراماً لهما وبرّاً بهما فهو مُسْتحب وكذا مَنْ في حُكْمهما مِنَ العُلماء والصّالحين
في الحديث قاعدةٌ عظيمةٌ في اتِّباعِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فيما يَفعَلُه ولو لم تُعلَمِ الحِكْمةُ فيه وأنَّ الشَّرعِ فيه ما هو تَعبُّدٌ مَحضٌ وما هو مَعقولُ المَعنى

عَنْ عبداللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ قَالَ: رَأَيْتُ الْأَصْلَعَ- يَعْنِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ- يُقَبِّلُ الْحَجَرَ، ويَقُولُ: «واللَّهِ، إِنِّي لَأُقَبِّلُكَ، وإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ، وأَنَّكَ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، ولَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَبَّلَكَ؛ مَا قَبَّلْتُكَ». الحديث رواه مسلم في الحج (2/925) باب: اسْتحباب تقبيل الحجر الأسود في الطّواف، وعبدالله بن سَرْجس هو المُزني، الصّحابي المُعمّر نزيل البَصرة، مِنْ حلفاء بني مخزوم. يقول: «رَأَيْتُ الْأَصْلَعَ -يَعْنِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ-» الأصْلع، يعني عمر - رضي الله عنه -، وفي رواية: الأصيلع، فيه: أنّه لا بأسَ بِذكرِ الإنْسان بلقبه، أو وصفه الذي لا يَكرهه، «يُقَبِّلُ الحَجَرَ» فعُمَرَ بنَ الخطَّابِ - رضي الله عنه - كانَ يُقَبِّلُ الحَجَرَ الأسوَدَ، وهو الموجودُ في البَيتِ الحَرامِ، ومَكانُه في الرُّكنِ الجَنوبيِّ الشَّرقيِّ لِلكعبةِ المُشرَّفةِ مِنَ الخارِجِ، وهو في غِطاءٍ مِنَ الفِضَّةِ في أيَّامِنا هذه.
وإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَر قوله: «واللَّهِ، إِنِّي لَأُقَبِّلُكَ، وإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ، وأَنَّكَ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ» فأوْضَحَ عُمرُ - رضي الله عنه - أنَّ سَببَ تَقبيلِه لهذا الحجرِ، هو رُؤيَتُه النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُقبِّلُه، ولَولا ذلك؛ ما قَبَّلَه عُمَرُ - رضي الله عنه -؛ لِعِلْمِه أنَّه حَجَرٌ لا يَضُرُّ ولا يَنفَعُ بذاتِه، وإنَّما النَّفعُ بالثَّوابِ الذي يَحصُلُ باتّباع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، والاستِنانِ بتَقبيلِه له، وعن سُوَيدِ بنِ غَفَلةَ، قال: رأيتُ عُمَرَ قبَّل الحَجَرَ والتَزَمَه، وقال: «رأيتُ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بك حفِيّاً». رواه مسلم.
لماذا قال عمر - رضي الله عنه - ذلك؟ وقيل: إنَّما قال عُمَرُ ذلك؛ لأنَّ النَّاسَ كانوا حَديثي عَهدٍ بعِبادةِ الأصنامِ، فخَشيَ أنْ يَظُنَّ الجُهَّالُ أنَّ استِلامَ الحَجَرِ، هو مِثلُ ما كانتِ العَربُ تَفعَلُه في الجاهليَّةِ، فأرادَ أنْ يُعلِّمَهم أنَّ استِلامَ الحَجَرِ لا يُقصَدُ به إلَّا تَعظيمُ اللهِ -تعالى-، والوُقوفُ عِندَ أمرِ نَبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، وأنَّ ذلك مِنْ شَعائرِ الحَجِّ. ولأنَّ اللهَ -تعالى- فضَّلَ بعضَ الأحْجارِ على بعضٍ، وبعضَ البِقاعِ على بعضٍ، وبعضَ اللَّيالي والأيامِ على بعضٍ، وإنَّما شُرِعَ تَقبيلُ الحَجَرِ إكرامًا وإعظامًا لحَقِّه، ولِيُعلَمَ بالمُشاهَدةِ مَن يُطيعُ في الأمرِ والنَّهيِ، وذلك شَبيهٌ بقصَّةِ إبليسَ حيثُ أُمِرَ بالسُّجودِ لآدمَ عليه السَّلامُ. وكُلُّ ما قالَه عُمَرُ هنا إنَّما هو لِبَيانِ أنَّ أمرَ الدِّينِ مَبنيٌّ على التَّصديقِ والاتِّباعِ، وليس كَلامُه اعتِراضاً على أفْعالِ المَناسِكِ؛ ولذلك استدرَكَ على نَفْسِه، فقال: شَيءٌ فَعَلَه رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فلا نُحِبُّ أنْ نَترُكَه، بل علينا أنْ نَتَّبِعَه.
فوائد الحديث 1- الحَجَرُ الأسوَدُ حَجَرٌ كرِيمٌ، أنزَلَه اللهُ -سُبحانَه وتعالَى- مِنَ الجنَّةِ، فقد روى البيهقي في السنن، والطبراني في الكبير واللفظ له: عن ابن عباس - رضي الله عنه -ما، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «الحَجَرُ الأسْود مِنْ حَجارة الجنّة، وما في الأرْض مِنَ الجنّة غيره، وكان أبيض كالمَهَا، ولولا ما مسّه مِنْ رِجْس الجاهلية، ما مسَّه ذُو عَاهة إلا برئ». 2- كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُقبِّلُه؛ واتِّباعاً لهَدْيِه نُقبِّلُه ونَستلِمُه، ونُشيرُ إليه، وإنْ كان حَجَرًا لا يَضُرُّ ولا يَنفَعُ. 3- فإنْ لمْ يُمكنه أنْ يَسْتلمه أو يُقبّله مِنَ الزّحام، أشار إليه بيده، فعن أبي الطُّفَيلِ - رضي الله عنه - قال: «رأيتُ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَطُوف بالبيتِ، ويستلِمُ الرُّكْنَ بمِحْجَنٍ معه، ويقبِّلُ المِحْجَنَ». رواه مسلم، وفيه دليل: على اسْتحباب استلام الحَجَر الأسود في الطّواف، وأنّه إذا عَجَز عن اسْتلامه بيده، بأنْ كان راكباً أو غيره، اسْتلمه بعَصَا ونحوها، ثمّ قَبّلَ ما استلم به. 4- وكما أنّ فيه مَشروعيَّةُ تَقبيلِ الحَجَرِ الأسوَدِ، ففيه الإشارةُ إلى النَّهيِ عن تَقبيلِ ما لمْ يَرِدِ الشَّرعُ بتَقبيلِه مِنَ الأحجارِ وغيرِها، فعن عبداللهِ بنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عنهما- أنَّه قال: «لمْ أرَ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَمْسَحُ مِنَ البيت، إلَّا الرُّكْنينِ اليَمَانِيَّينِ ». متفق عليه، فلا يُشرع تَقبيل شيءٍ مِنَ البَيتِ الحَرام، ولا غيره في المَسْجد كالمقام ونحوه؛ لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لمْ يفعله، ولا أصْحابه.
قاعدةٌ عظيمةٌ في الاتِّباعِ 5- وفيه قاعدةٌ عظيمةٌ في اتِّباعِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فيما يَفعَلُه، ولو لم تُعلَمِ الحِكْمةُ فيه، وأنَّ الشَّرعِ فيه ما هو تَعبُّدٌ مَحضٌ، وما هو مَعقولُ المَعنى، قال الخطابي: فيه تَسْليمُ الحكمة، وتَرْك طلب العِلل، وحُسن الاتباع فيما لمْ يُكشف لنا عنه منَ المعنى، وأمور الشّريعة على ضربين: ما كُشِفَ عن عِلّته، وما لمْ يكشف، وهذا ليسَ فيه إلا التّسليم. انتهى. فكثيرٌ مِنْ مناسك الحج تعبّدي، لا يَخضع للتّحكيم العَقْلي، ولا تُدْرك عِلّته، وقد شاء الله -تعالى- أنْ يكون الشّرعُ الإسْلامي في أغلب أحْكامه مُعلّلاً، يَحْكم العقل بفائدته والدوافع إليه، وشاء الله بحكمته أنْ يختبرَ المُسْلم في بعضها؛ بطلبِ الطّاعة فيما لا يُدرك حِكمته؛ ليظهر مَدَى الاسْتجابة للأوامر والنّواهي، باعتبارها صادرة من الله -تعالى- فحَسب، بل قد يرفضُ العَقلُ الفعلَ المَطلوب، ولا يقبله ولا يَسْتسيغه، لكنّه إذا تحقق أنّه مَطلب المشرع؛ لزِمَ التّسْليم والاسْتجابة، وهذا هو قمة العبادة والخضوع، والطاعة المشرع، وكانت خطيئة إبليس، أنه سقط في هذا الامتحان؛ إذْ أُمِر بالسجود لآدم -عليه السلام- فاعتَرضَ بعقله على أمْرِ الله -عز وجل. 6- وفيه: بَيانٌ لِتَسليمِ الصَّحابةِ واتباعهم، وقوةِ إيمانِهم. 7- وفيه: أنّ بَيانُ السُّنَنِ يكونُ بالقَولِ، ويكون بالفِعلِ. 8- وفيه: أنَّ على الإمامِ إذا خَشِيَ فَسادَ اعتِقادِ أحدٍ، بسَببِ فِعلٍ ما، أنْ يُبادِرَ إلى بَيانِ الأمْرِ وتَوضيحِه.
الاقتداء برسُول الله - صلى الله عليه وسلم 9- وفيه: أنّ المُسلمين يَقْتدُون برسُول الله - صلى الله عليه وسلم - في مَسْحهم بأيديهم الرّكنَ اليماني مِنَ الكعبة في الطّواف، وتقبيلهم الحَجَر الأسود ومَسْحه، أو استلامه ولو بِعَصا، هم يُؤمنُون بأنّ هذه الجَمَادات مَخلوقة كبقيّة المَخلوقات، وهُم حين يُعظّمُونها، إنّما يُعظّمُون أمَرَ الله، فالتّعظيم إذاً لله -تعالى- وأمْره، وصَدق الله العظيم؛ إذْ يقول: {ومنْ يُعظّم شَعائرَ الله فإنّها مِنْ تقوى القلوب} (الحج:32)، فلا يُعظمُونها لتقرّبهم إلى الله زُلْفى كما كان المُشْركون يَعبُدُون الأصْنام، فالأحْجار لا تقرّبُ إلى الله زُلفى في عقيدة المُسلمين، وإنّما اتّباع الأوامر أيّاً كانت، هي التي تُقرّبُ إلى الله زُلفى.
فضل الحجر الأسود 10- وممّا جاء في فضل الحجر الأسود: حديثُ عبدالله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في الحَجَرِ: «واللهِ ليبعثنَّه اللهُ يومَ القيامةِ، له عَينانِ يُبْصرُ بهما، ولِسانٌ يَنْطقُ به، يشهدُ علَى مَنْ استلمَه بحقٍّ». أخرجه الترمذي (961) واللفظ له، وابن ماجة (2944)، وأحمد (2215) وصححه الألباني. فقوله: «يَشهَدُ على مَن استلَمه بحقٍّ»، أي: مَنْ أشار إليه أو قبَّله بحَقٍّ، والحقُّ ما كان يفعَلُه النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالإخْلاصِ، والتَّعبُّدِ للهِ -عز وجل-، ولا يكونُ استِلامُه بقصْدِ الرِّياءِ، أو بتَعظيمٍ وتقديسٍ للحجَرِ نفْسِه. 11- استدلّ بعضُهم بهذه الأحاديث، على مَشْروعيّة تقبيل الأمَاكن الشريفة وتقبيل المُصْحف وكتُب الحديث وغيرها، بقَصْد التّعْظيم والتّبرّك، وكذلك تقبيل أيدي الصّالحين، ويرون أنّ ذلك حَسَنٌ مَحْمود؛ باعتبار القَصْد والنيّة. والتحقيق: منع تقبيل ما لمْ يَرد الشّرْع بتقبيله مِنَ الأحْجار والأماكن وغيرها، بقصد التّبرّك، والاقتصار في ذلك على ما ورد الشّرع به، ليكون الدافع هو الاسْتجابة لأمر الشرع فحسب، بل الحديث يدلّ: على كراهة تَقبيل ما لمْ يرد الشّرع بتقبيله، أمّا تقبيلُ يد الأبوين احْتراماً لهما، وبرّاً بهما؛ فهو مُسْتحب، وكذا مَنْ في حُكْمهما، مِنَ العُلماء والصّالحين.
اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي

ابو وليد البحيرى
2024-11-29, 07:12 AM
شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: اسْتِلامُ الرُّكنَينِ اليَمَانِيين في الطَّوَاف

تَقبيل الحَجَرِ الأسوَدِ مِنَ السُّنَنِ المُستحبّة لمَن قَدِرَ عليه فإنْ لم يَقدِرْ فلا يُؤذِ النَّاسَ
الإيمانُ مَبنيٌّ على التَّسليمِ للهِ تعالى ولِرَسولِه صلى الله عليه وسلم في كُلِّ الأوامِرِ والنَّواهي سَواءٌ ظهَرَ لِلمُؤمِنِ العِلَّةُ أم لم تَظهَرْ
أجْمعت الأمّةُ على اسْتحباب اسْتلام الرُّكنين اليمانيين واتّفق الجماهير على أنّه لا يُمْسح الرُّكنين الآخرين واسْتحبّه بعضُ السّلف

عَنْ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: مَا تَرَكْتُ اسْتِلَامَ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ: الْيَمَانِيَ وَالْحَجَرَ، مُذْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَلِمُهُمَا ، فِي شِدَّةٍ ولَا رَخَاءٍ، وعن ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- يَقُولُ: لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَلِمُ غَيْرَ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَيْن ِ. في الباب حديثان، رواهما مسلم في الحج، في (2/924-925) باب: اسْتحبابُ اسْتلام الرُّكنين اليَمَانيين في الطّواف، دُون الرُّكنين الأخرين، وقد رواهما البخاري في الحَج (1608، 1609) باب: مَنْ لمْ يَسْتلم إلا الرُّكنين اليمانيين. في الحديثِ الأول: يَروي نافعٌ مَولى ابنِ عُمَرَ، أنَّ عبداللهِ بنَ عُمَرَ -رضي الله عنهما- أخبَرَ عن نَفْسِه: أنَّه ما تَرَكَ استِلامَ الرُّكنَيْنِ اليَمانِيَيْنِ -وهما الحَجَرُ الأسوَدُ، والرُّكنُ اليَمانِيُ، اللَّذانِ في جِهَةِ اليَمنِ- والاسْتلام: هو المَسح باليد، يقال: استلمتُ الحَجَر إذا لَمَسته، فالاستِلامُ هو المَسحُ باليَدِ عليهما، ويُزادُ مع الحَجَرِ الأسوَدِ التَّقبيلُ.
الحجر الأسود والحَجَر الأسْود هو في الزَّاوية القَريبة مِنْ باب الكعبة، والحَجَر ليس أسْود اللون، بل أحْمر إلى السّواد، لكنّه بالنسبة لبقية حِجارة الكعبة أسود، وعُرِف بهذا الاسم منْ بناء الكعبة، وهو مَوضُوعٌ على ارتفاع ذِراعين وثُلثي ذراعٍ مِنَ الأرض، والرُّكن الذي قَبله منْ جِهة الشّرق، هو الرُّكنُ اليَماني، ومِنَ المعلوم أنّ الطائف يجعل الحَجَر على يَساره ويَطوف.
استلام النبي - صلى الله عليه وسلم - للحجر الأسود قوله: «مُذْ رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَلِمُهُمَا » مُذْ، أي: مُنذ رأيته يَستلمهما، وفي رواية: «يفعله» أي: يفعل الاسْتلام، وقوله: «في شدّةٍ ولا رَخَاء» أي: سواءً كان في زِحامٍ أو فُسْحة، في ضِيقٍ، ولا سَعةٍ، بل في كُلِّ الأحوالِ، مُنذُ رُؤيتِه النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَستلِمُهما. وقد قال اللهُ -تعالى-: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الأحزاب: 21).
اسْتلام الرُّكنين اليمانيين قال النووي: وقد أجْمعت الأمّةُ على اسْتحباب اسْتلام الرُّكنين اليمانيين، واتّفق الجماهير على أنّه لا يُمْسح الرُّكنين الآخرين، واسْتحبّه بعضُ السّلف، وممّن كان يقول باسْتلامهما: الحَسَن والحُسين ابنا عليّ، وابن الزبير، وجابر بن عبدالله، وأنس بن مالك، وعروة بن الزبير، وأبو الشعثاء جابر بن زيد -رضي الله عنهم-، قال القاضي أبو الطيّب: أجْمعت أئمّة الأمْصَار والفقهاء: على أنّهما لا يُسْتلمان، قال: وإنّما كان فيه خلافٌ لبعض الصّحابة والتابعين، وانْقَرضَ الخِلاف، وأجمعوا على أنّهما لا يُسْتلمان، والله أعلم. (شرح النووي). وكان النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لا يَستلِمُ ويَمسَحُ بيَدِه مِنَ الكَعبةِ، غيرَ الرُّكنَيْنِ اليَمانِيَّيْنِ : رُكنِ الحَجَرِ الأسوَدِ، والرَّكنِ اليَمانِيِّ، وذلك لأنَّهما على القَواعِدِ الإبراهيميَّةِ، ففي الرُّكنِ الأسوَدِ فَضيلتانِ: كَونُ الحَجَرِ فيه، وكَونُه على القَواعِدِ، وفي الثَّاني الثَّانيةُ فقطْ، ومِن ثَمَّ خُصَّ الأوَّلُ بمَزيدِ تَقبيلِه دُونَ الثَّاني.
تَقبيل الحَجَرِ الأسوَدِ وليُعلَمْ أنَّ تَقبيلَ الحَجَرِ الأسوَدِ مِنَ السُّنَنِ المُستحبّة لمَن قَدِرَ عليه، فإنْ لم يَقدِرْ فلا يُؤذِ النَّاسَ، بل عليه أنْ يَضَعَ يَدَه عليه مُستَلِماً، ثمّ يَرفَعَها ويُقَبِّلَها، فإنْ لم يَقدِرْ قام بحِذائِه وأشارَ نَحوَه وكَبَّرَ، ولا يُقبّل يده، وكان عبداللهِ بنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما- يَمشي بَينَهما ولا يَرمُلُ، لِيَكونَ ذلك أيسَرَ وأرفَقَ لاستِلامِه، لِيَقْوَى عليه عِندَ الازدِحامِ، وهذا يَدُلُّ على أنَّه كان يَرمُلُ في الباقي مِنَ البَيتِ. وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كما سبق قد أمَرَ أصحابَه في عُمرةِ القَضاءِ أنْ يَمشُوا ولا يَرمُلوا بَينَ الرُّكنَينِ، حتى لا يَتعَبوا، ثمَّ يُسرِعوا في بَقيَّةِ الطَّوافِ حَولَ البَيتِ، في الأشْواطِ الثَّلاثةِ الأُولى، ثم إنَّه - صلى الله عليه وسلم - رَمَلَ في طَوافِه أوَّلَ قُدومِه في حَجَّةِ الوَداعِ مِنَ الحَجَرِ إلى الحَجَرِ ثلاثًا، ومَشَى أربَعًا، فاستقَرَّتْ سُنَّةُ الرَّمَلِ على ذلك مِنَ الحَجَرِ إلى الحَجَرِ، لأنَّه المُتأخِّرُ مِن فِعلِه - صلى الله عليه وسلم .
فوائد الحديث فَضيلةُ الصحابي ابنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-، لِشِدَّةِ حِرصِه على تَتبُّعِ آثارِ النّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - والعَملِ بها.
وفيه: أنّ الإيمانُ مَبنيٌّ على التَّسليمِ للهِ -تعالى- ولِرَسولِه - صلى الله عليه وسلم - في كُلِّ الأوامِرِ والنَّواهي، سَواءٌ ظهَرَ لِلمُؤمِنِ العِلَّةُ، أم لم تَظهَرْ.
وأنّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بَيَّنَ مَناسِكَ الحَجِّ والعُمرةِ وأعمالَهما، بالقَولِ والفِعلِ، وبَيَّنَ ما يَجوزُ، وما لا يَجوزُ فيهما.

الحديث الثاني وهو حديثُ ابن عباس -رضي الله عنهما- فيقُولُ: لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَلِمُ غَيْرَ الرُّكْنَيْنِ اليَمَانِيَيْنِ ، وهو تأكيدٌ لما سَبق، مِنْ أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لمْ يكنْ يَسْتلم مِنَ الأرْكان الأرْبَعة للكعبة، إلا الحَجَر الأسْود، والرُّكن اليَمَاني. - ولرُكن الحَجَر فَضِيلتان: الفضيلة الأولي: كونه على قواعد إبْراهيم -عليه الصّلاة والسّلام.
الفضيلة الثانية: وكون الحَجَر الأسود فيه.
- والرُّكن اليَماني له فضيلةٌ واحدة، وهو كونه على قواعد إبْراهيم. وليس للشّامي والعِراقي شَيء مِنْ هذا، فإنّ تأسِيسهما خارجٌ عن أسْاس إبْراهيم -عليه الصّلاة والسّلام-؛ حيثُ أخرج الحَجَر مِنَ الكعبة منْ جِهتهما؛ ولهذا فإنّه يُشْرع اسْتلام الحَجَر الأسْود وتَقْبيله، ويُشْرع اسْتلام الرّكن اليماني بلا تَقبيل، ولا يُشرع في حقّ الرُّكنين الباقيين اسْتلامٌ ولا تَقبيل، والشّرعُ مَبْناه على الاتّباع، لا على الإحْدَاث والابتداع، ولله -تعالى- في شَرعه حِكَمٌ وأسْرار، وقد روى البخاري: في الحج (1608) باب: مَنْ لمْ يَسْتلم إلا الرُّكنين اليمانيين.
ومَنْ يَتّقي شَيئاً مِنَ البَيت؟ عن أبي الشّعْثاء أنّه قال: ومَنْ يَتّقي شَيئاً مِنَ البَيت؟ وكان معاويةُ يَسْتلم الأرْكان، فقال له ابنُ عباس -رضي الله عنهما-: إنّه لا يُسْتلمُ هَذَان الرُّكْنان، فقال: ليسَ شَيءٌ مِنَ البيتِ مَهْجُوراً، وكان ابنُ الزبير -رضي الله عنهما- يَسْتلمهنّ كلّهن، ورواه الإمام أحمد: عن ابنِ عباس: أنَّهُ طافَ مع مُعاويةَ بالبَيتِ، فجعَلَ مُعاويةُ يَستَلِمُ الأركانَ كُلَّها؛ فقال له ابنُ عبَّاسٍ: لِمَ تَستَلِمُ هذَينِ الرُّكنَينِ، ولم يَكُنْ رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَستَلِمُهما؟ فقال مُعاويةُ: ليس شَيءٌ مِنَ البَيتِ مَهجوراً. فقال ابنُ عبَّاسٍ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الأحزاب: 21)؛ فقال مُعاويةُ: صَدَقتَ. قال الحافظ: ويُؤخذ منه: حِفظُ المَرَاتب، وإعْطاء كلّ ذِي حَقٍّ حقّه، وتَنزيل كلّ أحَدٍ مَنزلته. وأجابَ الشّافعي عن قول مَنْ قال: ليسَ شَيءٌ مِنَ البَيتِ مَهْجُوراً، بأنّا لمْ نَدَع اسْتلامهما هَجْراً للبيت، وكيف يَهْجُره وهو يطُوف به؟ ولكنّا نَتّبعُ السُّنّة فِعلاً أو تَرْكاً، ولو كان تركُ استلامهما هَجْراً، لكان تَركُ اسْتلام ما بين الأرْكان هَجْراً لها، ولا قائلَ به. (الفتح).

اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي

ابو وليد البحيرى
2024-12-10, 02:45 PM
شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: الطَّوافُ على الرّاحلة

في الحديث جواز الطَّواف راكبًا على الرَّاحلةِ ويُلحَقُ بها ما في مَعْناها كالكَراسيِّ المُتحرِّكةِ ونَحوِها ولا سيما إذا كانتْ هناك مَصلَحةٌ مِنَ الرُّكوبِ
اسْتلامُ الحَجَرِ الأسْودِ سُنّة نبويّة ومَن عجَزَ عنِ اسْتلامِه بيَدِه استَلَمَه بعَصاً ونحوِها بشرط ألا يؤذي بها الناس
الإسلامُ دِينُ السَّماحةِ والتَّيسيرِ ومِن ذلك تَيسيرُه على المَرضى وأصحابِ الأعذارِ في أعمالِ الحَجِّ والعُمرةِ

عنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: طَافَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْبَيْتِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى رَاحِلَتِهِ، يَسْتَلِمُ الحَجَرَ بِمِحْجَنِهِ، لِأَنْ يَرَاهُ النَّاسُ، ولِيُشْرِفَ وَلِيَسْأَلُوهُ ، فَإِنَّ النَّاسَ غَشُوهُ. الحديث رواه مسلم في الحج (2/927) باب: جواز الطواف على بعيرٍ وغيره، واسْتلام الحجر بمِحجن ونحوه للراكب. يُخبِرُ جابرُ بنُ عبدِ اللهِ -رضي الله عنهما- أنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - طافَ بالبَيتِ الحَرامِ في حَجَّةِ الوَداعِ، وهي الحَجَّةُ الَّتي حَجَّها النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وكانت في السَّنةِ العاشرةِ مِنَ الهِجرةِ، سُمِّيَت بذلك؛ لأنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان كالمُوَدِّعِ لهم، ولمْ يَلبَثْ كثيراً بعدَها حتَّى توفَّاه اللهُ -عزَّ وجَلَّ.
قوله: «عَلى راحلَتِه» قوله: «عَلى راحلَتِه»، تُطلَقُ على كلِّ دابَّةٍ أُعِدَّت للرُّكوبِ، وكان - صلى الله عليه وسلم - في تلك الحَجَّةِ راكبًا على ناقةٍ، وكان - صلى الله عليه وسلم - يَلمَسُ الحَجرَ الأسْودَ بِمِحجَنِه، وهوَ العَصا المُعوَجَّةُ الطَّرفِ. وفي صَحيحِ مُسلمٍ: عن أبي الطُّفَيلِ - رضي الله عنه - قال: «ويُقبِّلُ المِحْجَنَ»؛ لأنَّ مِنْ سُننِ الطَّوافِ تَقبيلَ الحَجرِ الأسْوَدِ، فلمَّا عجَزَ عنِ اسْتلامِه بيَدِه، اسْتَلَمَه بعصًا، وقبَّلَ ما استَلَمَ. ثُمَّ بيَّنَ جابرٌ - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إنّما رَكِبَ ناقتَه ليَسهُلَ على النَّاسِ رُؤيتُه، وليَكونَ في مَكانٍ مُرتفعٍ حتَّى يُميِّزَه النَّاسُ، وليَتمَكَّنوا مِن سُؤالِه عمَّا أَشْكلَ عَليهم مِن مَناسكِ الحجِّ، وفعَلَ ذلك لأنَّ النَّاسَ «غَشُوه» أي: ازدَحَموا عليه، فخَشيَ عليهم من هذا التَّزاحُمِ، وكذلك حتَّى لا يَضطَرَّ أنْ يَصرِفَ النَّاسَ عنه، فكان رُكوبُه أيسَرَ له ولهم، وأكثَرَ فائدةً للاقْتِداءِ به، وليَرَوْه ويَسْألوه عمَّا بَدا لهم.
فوائد الحديث جواز الطَّوافُ راكبًا على الرَّاحلةِ، ويُلحَقُ بها ما في مَعْناها كالكَراسيِّ المُتحرِّكةِ ونَحوِها، خُصوصاً إذا كانتْ هناك مَصلَحةٌ مِنَ الرُّكوبِ، كإفْتاءِ النَّاسِ وتَعْليمِهم، وكذا جواز الطّواف راكباً مع العُذر كما سيأتي؛ والمشي أفضل، وإنّما ركبَ رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - للمَصلحة، وهي أنّ الناس قد غَشوه وتكاثروا عليه، فأراد أنْ يُفيدهم ويَسْتفيدوا منه؛ بأنْ يكون في مكانٍ مُرتفع فيسألونه، وأيضًا: قد تكاثر عليه الناس؛ منْهم مَنْ يريد النّظر إلى صفة طوافه، ومنهم مَنْ يُريد النظر إلى شَخْصه الكريم؛ فازْدحموا عليه، ومنْ كمال رأفته بأمّته، ومساواته بينهم: أنْ ركبَ على بعير، يطوف عليه؛ ليتَسَاوى الناس في رؤيته والنّظر إليه.
وفيه: أنّ اسْتلام الحَجَرِ الأسْودِ سُنّة نبويّة، وأنَّ مَن عجَزَ عنِ اسْتلامِه بيَدِه -لرُكوبٍ أو زِحامٍ أو غيرِه- استَلَمَه بعَصاً ونحوِها، بشرط ألا يؤذي به الناس.
وفيه أنّ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بَيَّنَ مَناسِكَ الحَجِّ والعُمرةِ وأعْمالَهما، بالقَولِ والفِعلِ، وبيَّنَ ما يَجوزُ وما لا يَجوزُ فيهما.
وأنّ السُّنّة أنْ يستلم الحجرَ ويُقبل يده، وإذا لم يستطع أن يستلمه بيده استلمه بشيء، وقبّل ذلك الشّيء.
وفيه: إظْهار العالم أفْعاله مع أقواله؛ لتَحصل به القدوة الكاملة والتعليم النافع.
وفيه: كمال خُلُق النبي وشفقته على أمّته - صلى الله عليه وسلم -، ومُراعاته لهم.
جواز إدْخال الحيوان الطّاهر إلى المسجد، إذا لم يترتب على إدخاله أذية للآخرين.
وقد استدلّ بالحديث أيضًا: على طَهارة بول ما يُؤكل لحمه، منْ حيثُ إنّه لا يُؤمن بولُ البعير في أثناء الطّواف في المَسْجد، ولو كان نَجسًا؛ لم يُعرّض النبي - صلى الله عليه وسلم - المَسْجد للنّجاسة.

باب: الطّواف راكبًا لعُذر
عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -رضي الله عنها- أَنَّهَا قَالَتْ: شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنِّي أَشْتَكِي، فَقَالَ: «طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ، وأَنْتِ رَاكِبَةٌ» قَالَتْ: فَطُفْتُ وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَئِذٍ يُصَلِّي إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ، وَهُوَ يَقْرَأُ: بِالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ. الحديث رواه مسلم في الحج في الموضع السابق، ورواه البخاري في الحج (1633) باب: المريض يطوف راكباً. في هذا الحَديثِ تَروي أُمُّ سَلَمةَ -رضي الله عنها- أنَّها شَكَتْ إلى رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنَّها مريضة، وأنّ مرَضها يَمنَعُها مِنَ المَشيِ في الطَّوافِ، فرَخَّصَ لها بالطَّوافِ مِن وَراءِ النَّاسِ، وهي راكبةٌ على بَعيرِها، فطافَتْ كذلك. قولها: «فَطُفْتُ ورَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَئِذٍ يُصَلِّي إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ» أي: كان رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي إلى الكَعبةِ مُتَّصِلًا بجِدارِها، مِن أجْلِ أنَّ المَقامَ كان حِينَئذٍ مُلصَقًا بالبيتِ قَبلَ أنْ يَنقُلَه عُمَرُ مِن ذلك المكانِ، والبَيتُ كُلُّه قِبلةٌ. وكان - صلى الله عليه وسلم - يصلي صَلاةَ الصُّبحِ، وكان يَقرَأُ بِسورةِ: (وَالطُّورِ* وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ).
فوائد الحديث التَّيسيرُ على الحُجّاج، وجواز الطّواف حال الركوب، وطَوافُ المَريضِ راكبًا إنْ لمْ يَستطِعِ المَشيَ من التخفيف، فالإسلامُ دِينُ السَّماحةِ والتَّيسيرِ، ومِن ذلك: تَيسيرُه على المَرضى، وأصحابِ الأعذارِ، في أعمالِ الحَجِّ والعُمرةِ.
وفيه: أنَّ النِّساءَ يَطُفنَ وَراءَ الرِّجالِ، ولا يَختلِطنَ بهم؛ لأنَّ ذلك أستَرُ لهنَّ، ولأنّ الطواف بالبيتِ كالصّلاة، ومِنَ السُّنّة في صلاة الجماعة: أنْ يتأخّرن عن صُفوف الرجال، فكذا في الطّواف.
وفيه: أنَّ مَن يَطوفُ وَقتَ صَلاةِ الجَماعةِ لِعُذرٍ، فلا يطوف بين المُصلين وبين البيت؛ لئلا يَشْغل الإمام والناس، فيُؤذيهم، بل يَطوفُ مِن وَراءِ النَّاسِ، والراكب عليه أيضاً: أنْ يَجْتنبَ ممّرَ الناس ما اسْتطاع، فلا يُخالط المُشاة؛ لئلا يؤذيهم.
وفيه: اسْتحباب قُرب الإمام مِنَ البيت الحَرام في الصّلاة.
وفيه: قراءة النّبي - صلى الله عليه وسلم - بسُورة الطُّور في صَلاة الصُّبح.


اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي

ابو وليد البحيرى
2024-12-17, 02:03 PM
شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: الطواف بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ … وقوله -تعالى-: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} البقرة: 158.

الحَجُّ عِبادةٌ تَوقيفيَّةٌ عَلَّمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابَه إيَّاها بالفِعلِ والقَولِ وقد نَقَلوا لنا صِفةَ هذه العِبادةِ كما رَأوْها وأدَّوْها معه صلى الله عليه وسلم ورَضيَ اللهُ عنهم
الحَديثُ يُوضِّحُ جانباً مِن جَوانبِ حجِّ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في حَجَّةِ الوَداعِ فَقد كانَ قارنًا بيْنَ الحجِّ والعُمرةِ لأنَّه كانَ معَه الهَديُ ولِذلكَ سَعَى هو ومَنْ كان مثله سَعياً واحدًا

عن عُرْوَةَ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ -رضي الله عنها-: مَا أَرَى عَلَيَّ جُنَاحًا، أَنْ لَا أَتَطَوَّفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ؟ قَالَتْ: لِمَ قُلْتُ؟ لِأَنَّ اللَّهَ -عز وجل- يَقُولُ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الْآيَةَ، فَقَالَتْ: لَوْ كَانَ كَمَا تَقُولُ، لَكَانَ: فلا جناح عليه أن لا يطوّف بهما، إِنَّمَا أُنْزِلَ هَذَا فِي أُنَاسٍ مِنْ الْأَنْصَارِ، كَانُوا إِذَا أَهَلُّوا أَهَلُّوا لِمَنَاةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، فَلَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَطَّوَّفُوا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَلَمَّا قَدِمُوا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لِلْحَجِّ، ذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ -تعالى- هَذِهِ الْآيَةَ، فَلَعَمْرِي، مَا أَتَمَّ اللَّهُ حَجَّ مَنْ لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. الحديث أخرجه مسلم في الحج (2/928) باب: بيان أنّ السّعي بين الصّفا والمروة ركنٌ لا يصح الحجّ إلا به، وقد أخرجاه في الصحيحين مطولاً: عن عُروة قلت: أرأيتِ قول الله -تعالى-: {إنّ الصّفا والمروة مِنْ شعائر الله فمَنْ حجّ البيت أو اعتمر فلا جُناح عليه أنْ يطوّف بهما} قلت: فوالله، ما على أحدٍ جُناحٌ ألا يطوف بهما، فقالت عائشة: بئسما قلت يا ابنَ أخْتُي! إنّها لو كانت على ما أوّلتها عليه، كانت: فلا جناح عليه ألا يطّوف بهما، ولكنها إنّما أنزلت أن الأنصار كانوا قبل أنْ يُسْلموا كانوا يُهلّون لمناة الطاغية، التي كانوا يعبدونها عند المُشلّل، وكان مَنْ أهلّ لها، يتحرّجَ أنْ يطوّف بالصّفا والمَروة، فسألوا عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: يا رسُول الله، إنا كنّا نتحرّج أنْ نطوف بالصّفا والمروة في الجاهلية، فأنزلَ الله -عز وجل-: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّه} إلى قوله: { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} قالت عائشة: «ثمّ قد سنّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الطّوافَ بهما، فليس لأحَدٍ أنْ يَدعَ الطّواف بهما». وروى البخاري (1648) أيضًا: عن عاصم بن سليمان قال: قُلتُ لأنَسِ بنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه -: أَكُنْتُمْ تَكْرَهُونَ السَّعْيَ بيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ؟ قالَ: نَعَمْ، لأنَّهَا كَانَتْ مِن شَعَائِرِ الجَاهِلِيَّةِ حتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} (البقرة: 158). وفي صحيح مسلم: من حديث جابر الطويل، وفيه: أنّ رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - لمّا فَرَغَ مِنْ طَوافه بالبيت، عاد إلى الرُّكن فاسْتَلمه، ثمّ خَرَج منْ بابَ الصّفا، وهو يقول: {إنّ الصّفا والمَرْوة منْ شعائر الله} ثُمّ قال: «أبْدَأ بما بَدَأ الله به». وفي رواية النسائي: «ابْدؤوا بمَا بَدَأ اللهُ به»، فكلُّ هذه الأحاديث وغيرها، دلّت على مَشْروعية السّعي بين الصّفا والمروة.
وجوب السعي على الحاج وفي حَديثِ الباب: يَروي التَّابِعيُّ عُروةُ بنُ الزُّبَيرِ أنَّه سَألَ خالتَه أُمَّ المُؤمِنينَ، عائِشةَ -رضي الله عنها-، عن مَعنى قَولِ اللهِ -عز وجل-: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} (البقرة: 158)؛ حيثُ فَهِمَ منها أنَّ السَّعيَ غَيرُ واجِبٍ على الحاجِّ، فأجابَتْه بأنَّه قد أخطَأ في فَهمِه، وأنَّ الآيةَ أُنزِلَتْ في الأنْصارِ؛ حيثُ كانوا قَبلَ أنْ يُسلِموا، يَحُجُّونَ لِصَنمٍ يُسَمَّى: مَناةَ، عِندَ المُشَلَّلِ، وهو جَبلٌ بَينَ مَكَّةَ والمَدينةِ، يُهبَطُ منه إلى قُدَيْدٍ، فكان مَنْ حَجَّ مِنَ الأنصارِ بعد الإسْلام، يَرى أنّ في السَّعيِ بَينَ الصَّفا والمَروةِ إثمًا عَظيما؛ لأنَّهما كان فيهما صَنمانِ يَعبُدُان منْ دون الله، وهما إسافٌ ونائِلةُ، وكانوا يَكرَهونَهما. فلَمَّا أسلَموا سَألوا رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَن ذلك، فأنزلَ اللهُ -تعالى- هذه الآيةَ، فبَيَّنَ لهم أنَّه لا إثمَ عليهم في السَّعيِ بَينَ الصَّفا والمَروةِ، كما كانوا يَظُنُّونَ؛ لأنَّ السَّعيَ بَينَهما مِن شَعائرِ اللهِ، أيْ: مِن مَناسِكِ الحَجِّ والعُمرةِ، وقال الزُّهريُّ: ثمّ أخبَرتُ أبا بَكرِ بنَ عبدالرَّحمنِ بحَديثِ عائِشةَ، فأعجَبَه ذلك، وقال: إنَّ هذا لَعِلْمٌ، أيْ: إنَّ كلامَ عائِشةَ -رضي الله عنها- لَعِلْمٌ ما كُنتُ سَمِعتُه. ثمّ بَيَّنَ أنَّه سَمِعَ رِجالًا مِن أهلِ العِلمِ قالوا بغَيرِ الذي قالَتْه عائِشةُ -رضي الله عنها-، فإنَّهم لم يَخُصُّوا سَبَبَ نُزولِ الآيةِ بطائِفةٍ واحِدةٍ، وهي الأنصارُ الذين كانوا يَتحرَّجونَ مِنَ الطَّوافِ بَينَ الصَّفا والمَروةِ، بل ذَكَروا طائِفةً أُخرى عَكْسَها، مِمَّن كان يُهِلُّ بمَناةَ، فكانوا يَطوفونَ كُلُّهم بالصَّفا والمَروةِ ولا يَتحرَّجونَ، فلَمَّا ذَكَرَ اللهُ -تعالى- الطَّوافَ بالبَيتِ ولم يَذكُرِ الصَّفا والمَروةَ في القُرآنِ، قالوا: يا رَسولَ اللهِ، كنَّا نَطوفُ بالصَّفا والمَروةِ في الجاهليَّةِ، وإنَّ اللهَ أنزَلَ في القُرآنِ الطَّوافَ بالبَيتِ، فلم يَذكُرِ الصَّفا والمَروةَ، فهل علينا مِن إثْمٍ أنْ نَطوفَ بالصَّفا والمَروةِ؟ وإنَّما سَألوا عن ذلك بِناءً على ما ظَنُّوه مِن أنَّ التَّطوُّفَ بِهما مِن فِعلِ الجاهليَّةِ، فأنزَلَ اللهُ -تعالى-: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}، قال أبو بَكرٍ: فأسمَعُ هذه الآيةَ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} نزَلَتْ في الفَريقَيْنِ كِلَيْهما، في الأنصارِ الذين كانوا يَتحرَّجونَ، وقَومٍ مِنَ العَربِ الذين كانوا يَطوفونَ ثم تَحرَّجوا أنْ يَطوفوا بهما في الإسلامِ.
فوائد الحديث 1- مشروعية السّعي بين الصفا والمروة، وأنّه مِنْ شعائر الله في الحجّ والعمرة. 2- أهميَّةُ تَدارُسِ العِلمِ بَينَ العُلَماءِ وتَلاميذِهم؛ لِتَصويبِ المَفاهيمِ الخَطَأِ، وبيان الحقّ منَ الباطل. 3- الحَجُّ عِبادةٌ تَوقيفيَّةٌ، عَلَّمَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أصحابَه إيَّاها بالفِعلِ والقَولِ، وقد نَقَلوا لنا صِفةَ هذه العِبادةِ كما رَأوْها وأدَّوْها معه - صلى الله عليه وسلم -، ورَضيَ اللهُ عنهم.
باب: الطَّوافُ بالصَّفَا والمَرْوة سُبْعاً واحداً عن جَابِرِ بْنِ عبداللَّهِ - رضي الله عنه - قال: لَمْ يَطُفْ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ولَا أَصْحَابُهُ بَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ إِلَّا طَوَافًاً وَاحِدًا. الحديث رواه مسلم في الحج (/930) باب: بيان أنّ السّعي لا يُكرّر. يقولَ جابرُ بنُ عبداللهِ -رَضيَ اللهُ عنهما-: «لم يَطُفِ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ولا أَصْحابُه بيْنَ الصَّفا والمَروةِ إلَّا طوافًا واحدًا». وفي رِوايةٍ زادَ: «طوافَه الأَوَّلَ» أي: إنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان قارنا، وكذا مَن كان مَعَه كان قارناً، لم يَسعَوْا بيْنَ الصَّفا والمَروةِ إلَّا سَعياً واحداً، وهوَ السَّعيُ الَّذي كانَ معَ طَوافِ القُدومِ، والقارِنُ يَكْفيهِ طَوافٌ واحِدٌ، وسَعيٌ واحدٌ؛ لأنَّ أفْعالَ العُمرةِ تَندرِجُ في أفْعالِ الحجِّ.
الَّذين تمتَّعوا بالعُمرةِ إلى الحجِّ أمَّا الَّذين تمتَّعوا بالعُمرةِ إلى الحجِّ: فعليهم سَعْيانِ: سَعْيٌ لعُمرَتِهم، وسَعيٌ لحَجِّهم يومَ النَّحرِ، يُوضِّحُ ذلكَ ما رَواه البُخاريُّ -واللَّفظُ له- ومُسلمٌ: عن عائشةَ -رضي الله عنها- قالتْ: «فطافَ الَّذينَ كانوا أَهلُّوا بالعُمرةِ بالبَيتِ وبينَ الصَّفا والمَروةِ، ثُمَّ حلُّوا، ثُمَّ طافوا طَوافًا آخرَ بعدَ أنْ رَجَعوا مِن منًى». أي: مَن كان مُتمتِّعًا، «وأمَّا الَّذين جَمَعوا الحجَّ والعُمرةَ» أي: مَن كان قارنًا «فإنَّما طافوا طَوافًا واحدًا».
فوائد الحديث 1- الإِهْلالُ بالحج إمَّا أنْ يَكونَ إفْراداً، أو قِراناً، أو تمتُّعاً بالعُمرةِ إلى الحجِّ. 2- القارن يكفيه سعيٌّ واحد، كما في حديث الباب، إمّا أنْ يجعلَه بعد طواف القُدُوم، كما فعلَ النّبيّ -عليه الصلاة والسلام-، أو بعد طواف الإفاضة، أو بعد طواف الوداع، ولا يُعيد الطواف حينئذٍ. وأمّا المتمتع فإنّه يسَعى سعيين: سَعياً لعُمْرته، ثمّ سعياً آخر لحجّه يوم النّحر. 3- وفيه: تسمية السّعي طوافًا. 4- الحَديثُ يُوضِّحُ جانباً مِن جَوانبِ حجِّ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حَجَّةِ الوَداعِ، فَقد كانَ قارنًا بيْنَ الحجِّ والعُمرةِ؛ لأنَّه كانَ معَه الهَديُ؛ ولِذلكَ سَعَى هو ومَنْ كان مثله سَعياً واحداً.

اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي

ابو وليد البحيرى
2024-12-17, 02:05 PM
شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: ما يلزم مَنْ أحْرَمَ بالحَجّ ثمّ قَدِمَ مكّة مِنَ الطّوافِ والسّعي

كان التَّابِعونَ يَسألونَ الصَّحابةَ رَضيَ اللهُ عنهم فيما أشكَلَ عليهم مِن شَرائِعَ وعِباداتٍ وكانوا مِنْ أحرَصِ النَّاسِ على تَعلُّمِ سُنَّةِ رَسولِ اللهِ [ واتباعها

الجِماع مِن مَحظوراتِ الإحرامِ بل هو أشَدُّها حتى يَقضيَ المُحرِمُ مَناسِكَه ويَحِلَّ منها فلا يجوز الجِماع للمُحْرم بالحج أو العمرة حتى يَتحلّل وإذا جامع في العُمرة قبل الفراغ منْ سعيها فسَدَت العمرة

عَنْ وَبَرَةَ قَالَ: كُنْتُ جَالِساً عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: أَيَصْلُحُ لِي أَنْ أَطُوفَ بِالْبَيْتِ، قَبْلَ أَنْ آتِيَ الْمَوْقِفَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: لَا تَطُفْ بِالْبَيْتِ، حَتَّى تَأْتِيَ الْمَوْقِفَ؟ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَقَدْ حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَطَافَ بِالْبَيْتِ، قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ الْمَوْقِفَ، فَبِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَحَقُّ أَنْ تَأْخُذَ، أَوْ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا؟»، وفي رواية: رأينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحْرَم بالحجّ، وطَافَ بالبيت، وسَعَى بينَ الصّفا والمَرْوة. عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: سَأَلْنَا ابْنَ عُمَرَ -رضي الله عنهما-: عَنْ رَجُلٍ قَدِمَ بِعُمْرَةٍ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ وَلَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، أَيَأْتِي امْرَأَتَهُ؟ فَقَالَ: «قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، وبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعاً، وَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ»، وفي الباب حديثان، رواهما مسلم في الحج (2/905) وبوّب عليه بمثل تبويب المصنف.
الحَديثِ الأول في الحَديثِ الأول: يَرْوي التَّابِعيُّ وَبَرةُ بنُ عبدالرَّحمنِ الكوفيُّ أنَّ رجُلًا سَأل عبداللهِ بنَ عُمرَ -رضي الله عنهما-: هَل يصِحُّ أنْ أَطُوفَ بالْبَيتِ بعدَ الإِحْرامِ، وقبلَ الوُقوفِ بعَرفةَ؟ وفي رواية لمُسلم: «وقد أحرَمتُ بالحجِّ» أي: أفرَدَ الإحْرامَ بالحجِّ، ولمْ يكنْ مُتمتِّعًا ولا قارِناً، سألَه ابنُ عُمرَ -رضي الله عنهما-: وأيُّ شيءٍ يَمنعُكَ مِن أنْ تَبدأَ بالطَّوافِ؟! وهذا دَليلٌ عَلى مُوافَقةِ ابنِ عُمرَ عَلى مشروعيّة الطَّوافِ أوَّلًا. فقالَ الرَّجلُ السَّائلُ: فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: لَا تَطُفْ بِالْبَيْتِ، حَتَّى تَأْتِيَ الْمَوْقِفَ؟ وفي رواية: «إنِّي رأيتُ ابنَ فُلانٍ» يقصِدُ عبداللهِ بنَ عبَّاسٍ -رضي الله عنهما- «يَكرهُهُ» أي: كان ابن عباس -رضي الله عنهما- يَنهى عن الِابْتداءِ بالطَّوافِ، قبلَ قُدُومِ عَرَفةَ. فقَالَ له ابْنُ عُمَرَ: فَقَدْ حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَطَافَ بِالْبَيْتِ، قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ الْمَوْقِفَ، فَبِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَحَقُّ أَنْ تَأْخُذَ، أَوْ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا؟». وفي رواية لمسلم: «وأنتَ أَحبُّ إلينا مِنه، رأينَاه قدْ فتَنَته الدّنيا» يقصِدُ أنَّه يقدِّمُ قولَ ابنِ عُمرَ على قولِ ابنِ عبَّاسٍ -رَضيَ اللهُ عنهم-، مُدَّعيًا أنَّ ابنَ عبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قد فَتنَتْه الدُّنيا؛ لأنَّه كان واليًا على البَصرةِ من قِبَلِ ابنِ عمِّه عليِّ بنِ أبي طالبٍ - رضي الله عنه -، والوِلاياتُ تكونُ محلَّ الخطَرِ والفِتْنةِ، وأمَّا ابنُ عُمَرَ فلم يتوَلَّ شيئاً. فقال له ابنِ عُمرَ -رضي الله عنهما-: «وأيُّنا لمْ تَفتِنْه الدُّنيا» وهذا مِن إنْصافِه، وتَواضُعِه وزُهدِه، وردّه على طَعنِ الرَّجلِ على ابنِ عبَّاسٍ - رضي الله عنه -، وبَيانًا منه لفَضلِ عبداللهِ بنِ عبَّاسٍ -رضي الله عنهما. ثُمَّ أخبَرَ ابنُ عُمرَ -رضي الله عنهما- أنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أحْرمَ بالحجِّ، وَطافَ بالبَيتِ طوافَ القُدومِ سَبعةَ أشْواطٍ، وسَعى بينَ الصَّفا والمَروةِ، يَعني: أنَّه ابتدَأَ بالطَّوافِ والسَّعيِ قبلَ الخُروجِ إلى مِنًى وعَرفةَ. قالَ العلماء: إنْ كان المُحْرِمُ مُفرِدًا بالحجِّ، وقَعَ طَوافُه هذا للقُدومِ، وإنْ كان مُفرِداً بالعُمرةِ أو مُتمتِّعاً أو قارِنًا، وقَعَ عن طَوافِ العُمرةِ نَواه له أو لغَيرِه، وعلى القارِنِ أنْ يطوفَ طَوافًا آخَرَ للقُدومِ. والمشهورُ عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه أحرَمَ قارِنًا لحَجَّةٍ وعُمرةٍ معًا، فكان طوافُه - صلى الله عليه وسلم - لعُمرتِه، ثُمَّ أُدخِلتِ العُمرةُ في أعْمالِ الحجِّ. وقد ذكر الصحابي الجليل ابنُ عُمرَ -رضي الله عنهما- للرَّجلِ قاعدةً يتَّبِعُها في طلَبِه للعِلمِ، وهي أنَّ سُنَّةَ اللهِ وسُنَّةَ رَسولِه - صلى الله عليه وسلم - أَحقُّ وأوْلى في الاتِّباعِ مِن قولِ فلان، وسُنَّةِ فُلانٍ. وقولُه: «إنْ كُنتَ صادِقًا» مَعناه: إنْ كُنتَ صادِقًا في اتِّباعِكَ للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَلا تَعدِلْ عن فِعلِه.
فوائد الحديث وَرَعُ الصَّحابةِ عنِ خَوضِ بَعضِهم في أعْراضِ بعضٍ.
وفيه: عَدمُ القَبولِ بتَزكيةِ النَّفْسِ في مَعرِضِ ازْدِراءِ الآخَرينَ.

الحديث الثاني
الحديث الثاني رواه البخاري في العمرة (1793) باب: متى يَحلُّ المعتمر؟ وفي هذا الحَديثِ يَروي التَّابِعيُّ عَمرُو بنُ دِينارٍ أنَّهم سَألوا عبداللهِ بنَ عُمَرَ -رضي الله عنهما-: هل يَجوزُ أنْ يُجامِعَ الرَّجُلُ زَوجتَه وهو في العُمرةِ قَبلَ السَّعيِ بَينَ الصَّفا والمَروةِ؟ ومعلومٌ أنَّ الجِماعَ مِن مَحظوراتِ الإحرامِ بل هو أشَدُّها حتى يَقضيَ المُحرِمُ مَناسِكَه ويَحِلَّ منها، فلا يجوز الجِماع للمُحْرم بالحج أو العمرة، حتى يَتحلّل، وإذا جامع في العُمرة قبل الفراغ منْ سعيها، فسَدَت العمرة، ولزم المضي والاستمرار فيها، ثم قضاؤها من مكان الإحْرام بالأولى، مع ذبح شاةٍ عن كلّ واحدٍ منكما، تُذبحُ وتُوزع على فقراء مكة. وأمّا الجماع بعد السعي وقبل الحلق أو التقصير، فلا تفسد به العمرة، لكن تلزم فيه الفدية على التخيير. فأخبَرَه ابنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما-: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَدِمَ مَكَّةَ، فطافَ بالبَيتِ الحرامِ سَبعةَ أشواطٍ، ثم صلَّى رَكعتَيْنِ خَلفَ مَقامِ إبراهيمَ، ثم سَعى بَينَ الصَّفا والمَروةِ، وقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الأحزاب: 21)، يُريدُ ابنُ عُمَرَ بذلك: أنَّه - صلى الله عليه وسلم - لم يكُنْ يَفعَلُ شيئًا مِمَّا ذكَرَه السَّائِلُ قَبلَ السَّعيِ بَينَ الصَّفا والمَروةِ.
وَجهُ الاستِدلالِ ووَجهُ الاستِدلالِ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - جَعَلَ العُمرةَ شَيئًا واحِدًا له أجزاءٌ: الطَّوافُ والصَّلاةُ خَلفَ المَقامِ، والسَّعيُ بَينَ الصَّفا والمَروةِ، ثم الحلق أو التقصير، فهذه أجزاءُ العُمرةِ، فلا يَصِحُّ أنْ يَقَعَ الرَّجُلُ على زَوجتِه بَينَ أجزائِها. وقد سألَ عَمرُو بنُ دِينارٍ جابِرَ بنَ عبداللهِ -رضي الله عنهما- أيضًا عن ذلك، فقال له جابِرٌ - رضي الله عنه -: لا يَقرَبِ الرَّجُلُ امرأتَه حتى يَطوفَ بَينَ الصَّفا والمَروةِ». رواه البخاري (1794)، أي: حتى يُتِمَّ عُمرَتَه بكُلِّ نُسُكِها، ويَحلِقَ أو يُقصِّرَ شَعرَه، ثم له أنْ يَتحلَّلَ ويُباشِرَ ما يَحِلُّ له.
فوائد الحديث مَشروعيَّةُ إطلاقِ لَفظِ (الطَّوافِ) على السَّعيِ بَينَ الصَّفا والمَروةِ.
كان التَّابِعونَ يَسألونَ الصَّحابةَ -رَضيَ اللهُ عنهم- فيما أشكَلَ عليهم مِن شَرائِعَ وعِباداتٍ، وكانوا مِنْ أحرَصِ النَّاسِ على تَعلُّمِ سُنَّةِ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - واتباعها.


اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي

ابو وليد البحيرى
2024-12-24, 01:35 PM
شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: في دُخُولِ الكَعْبة والصّلاة فيها والدُّعَاء

كان أصْحابُ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حريصين على معرفة سُنَّةِ النَّبيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم واتّباعها والعمل بها وكان مِن أحرَصِهم على ذلك عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ رضي الله عنهما
الكَعبةُ المُشرَّفةُ هي بيتُ اللهِ العتيقُ ولها مكانةٌ عظيمةٌ في قلوبِ المسلمينَ وقد صلَّى النبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم في جَوْفِها وداخِلَها عامَ فتحِ مكَّةَ

عَنْ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - اللهِ صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ الْفَتْحِ فَنَزَلَ بِفِنَاءِ الكَعْبَةِ، وأَرْسَلَ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ فَجَاءَ بِالمِفْتَحِ فَفَتَحَ الْبَابَ، قَالَ: ثُمَّ دَخَلَ النَّبِيُّ - اللهِ صلى الله عليه وسلم - وبِلَالٌ وأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ، وأَمَرَ بِالْبَابِ فَأُغْلِقَ، فَلَبِثُوا فِيهِ مَلِيًاً، ثُمَّ فَتَحَ الْبَابَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَبَادَرْتُ النَّاسَ فَتَلَقَّيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - اللهِ صلى الله عليه وسلم - خَارِجاً، وبِلَالٌ عَلَى إِثْرِهِ، فَقُلْتُ لِبِلَالٍ: هَلْ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - اللهِ صلى الله عليه وسلم -؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: أَيْنَ؟ قَالَ: بَيْنَ العَمُودَيْنِ، تِلْقَاءَ وَجْهِهِ. قَالَ: ونَسِيتُ أَنْ أَسْأَلَهُ كَمْ صَلَّى؟ وعن ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَسَمِعْتَ ابْنَ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- يَقُولُ: إِنَّمَا أُمِرْتُمْ بِالطَّوَافِ، ولَمْ تُؤْمَرُوا بِدُخُولِهِ! قَالَ: لَمْ يَكُنْ يَنْهَى عَنْ دُخُولِهِ، وَلَكِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبِيَّ - اللهِ صلى الله عليه وسلم - لَمَّا دَخَلَ الْبَيْتَ، دَعَا فِي نَوَاحِيهِ كُلِّهَا، ولَمْ يُصَلِّ فِيهِ حَتَّى خَرَجَ، فَلَمَّا خَرَجَ رَكَعَ في قُبُلِ الْبَيْتِ رَكْعَتَيْنِ. وقَالَ: هَذِهِ الْقِبْلَةُ قُلْتُ لَهُ مَا نَوَاحِيهَا أَفِي زَوَايَاهَا؟ قَالَ بَلْ فِي كُلِّ قِبْلَةٍ مِنْ الْبَيْتِ. في الباب حديثان، رواهما مسلم في الحج (2/966) باب: استحباب دُخول الكعبة للحاج وغيره، والصلاة فيها، والدعاء في نواحيها كلها.
الحَديث الأوّل يُخبِرُ عَبدُ اللهِ بنُ عُمرَ -رضي الله عنهما- أنَّ النَّبيَّ - اللهِ صلى الله عليه وسلم - جاء يومَ فَتحِ مكَّةَ، وذلك في السَّنةِ الثَّامِنةِ مِن الهِجْرةِ، وكان يَركَبُ خَلْفَه أُسامةُ بنُ زَيدٍ - رضي الله عنه - على ناقَتِه الَّتي تُسمَّى القَصْواءَ، وكان معَه بِلالُ بنُ رَباحٍ وعُثْمانُ بنُ طَلْحةَ -رضي الله عنهما-، فأناخَ النَّبيُّ - اللهِ صلى الله عليه وسلم - راحِلَتَه عندَ البَيتِ الحَرامِ، وبعَثَ إلى عُثْمانَ بنَ طَلْحةَ يَجلِبُ له مِفْتاحَ البَيتِ الحَرامِ.
عثمان بن طلحة - رضي الله عنه - وعثمان بن طلحة، هو الحَجَبي، قال النّووي: هو بفتح الحاء والجيم، منسوبٌ إلى حِجَابة الكعبة، وهي ولايتها وفتحها وإغْلاقها وخِدْمتها، ويقال له ولأقاربه: الحَجبّون والحَجبة، وهو عثمان بن طلحة بن أبي طلحة، واسم أبي طلحة عبدالله بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي القرشي العبدري، أسلم مع خالد بن الوليد وعمرو بن العاص في هدنة الحديبية، وشهد فتح مكة، ودَفع النبي - اللهِ صلى الله عليه وسلم - مفتاح الكعبة إليه، وإلى أبي شيبة بن عثمان بن أبي طلحة، وهو ابن عم عثمان هذا، لا ولده، وقال: خُذُوها يا بني طلحة، خالدة تالدة، لا ينزعها منكم إلا ظالم، ثمّ نَزل المدينة، فأقام بها إلى وفاة النبي - اللهِ صلى الله عليه وسلم -، ثم تحوّل إلى مكة، فأقام بها حتى توفي، سنة اثنتين وأربعين، وقيل: إنه اسْتشهد يوم أجنادين- بفتح الدال وكسرها- وهي موضع بقُرب بيت المقدس، كانت غزوته في أوائل خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وثبت في الصحيح: قوله - اللهِ صلى الله عليه وسلم -: «كلُّ مأثَرةٍ كانت في الجاهلية، فهي تحتَ قدمي، إلا سِقاية الحاج، وسَدانة البيت»، قال القاضي عياض: قال العلماء: لا يجوزُ لأحَدٍ أنْ يَنْزعها منهم. قال: وهي ولاية لهم عليها منْ رسُول الله - اللهِ صلى الله عليه وسلم -، فتبقى دائمةً لهم ولذُرياتهم أبداً، ولا يُنازعون فيها، ولا يُشاركون ما داموا مَوجودين، صالحين لذلك.
قوله: «فأتاهُ به» قوله: «فأتاهُ به، فدخَلَ هو وأُسامةُ بنُ زَيدٍ، وبِلالُ بنُ رَباحٍ، وعُثْمانُ بنُ طَلْحةَ -رضي الله عنهم-، وأغْلَقوا البابَ عليهم، وفي رواية: «فأغلقها عليه» ضمير الفاعل يحتمل أنْ يكون لرسول الله - اللهِ صلى الله عليه وسلم -، فقد جاء في بعض الروايات: عن ابن عمر قال: كان بنو أبي طلحة يزعُمُون، أنّه لا يستطيع أحدٌ فتحَ الكعبة غيرهم، فأخذ رسُول الله - اللهِ صلى الله عليه وسلم - المِفْتاح، ففتحها بيده، لكنّها رواية ضعيفة، كما جاء في رواية أخرى «فأغلقاها عليه» والضّمير لعثمان وبلال، وهي رواية ضعيفة أيضًا، رواها مالك في الموطأ، والظاهر أنّ ضمير الفاعل لعثمان بن طلحة.
فأمر بالباب فأغلق ففي الرواية الثانية «فأمر بالباب فأغلق» وفي الرواية الخامسة: «وأجَافَ عليهم عثمان بن طلحة الباب» فالمباشر للغَلْق هو عثمان، لأنّه مِنْ وظيفته، وأسْندَ الفعل «أجَافُوا عليهم الباب» في الرواية الرابعة، باعْتبارهم راضيين به، وإنّما أمَرَ - اللهِ صلى الله عليه وسلم - بإغْلاق الباب، ليكونَ أسْكن لقَلْبه، وأجْمع لخُشُوعه، ولئلّا يَجْتمعَ الناسُ عليه، ويَدخلوا ويزدَحموا، فينالهم ضَرر، ويَتشوّش عليه الحال بسببِ لغَطهم، وقد يقال: إنّما أغْلقه خشيةَ أنْ يكثرَ الناس عليه، فيُصلّوا بصَلاته، فليتزمُوها فيشقّ عليهم، كما فَعلَ في صلاة الليل، حيثُ لمْ يَخْرج إليهم.
قوله: «ثمّ مكثَ فيها» في الرواية الثانية: «فلَبثُوا فيه مَليا»، والضّمير في «فيه» للبيت، ومليّاً، أي: زَمَناً طويلاً. وفي الرواية الرابعة: «فأجافوا عليهم الباب طويلاً» أي: أغْلقوه عليهم زَمَناً طويلاً. وقوله: «فسألتُ بلالاً حينَ خَرَج» في الرّواية الثانية: «فبادرت الناس، فتلقيتُ رسُول الله - اللهِ صلى الله عليه وسلم - خارجاً، وبلال على إثْره، فقلت لبلال» وفي الرواية الرابعة: «فكنتُ أول مَنْ دَخل، فلقيتُ بلالاً فقلت». وفي الرواية الخامسة: «فخرج النبي - اللهِ صلى الله عليه وسلم - ورقيت الدرجة، وكانت قدر ثلثي ذراع، فدخلتُ البيت، فقلت». ومنْ مجموع الروايات يتبيّن: أنّ عبدالله بن عُمر حين فتح الباب، رَقَى الدّرجة التي تحت الباب، فدخل عقب خُرُوج النّبيّ - اللهِ صلى الله عليه وسلم -، والتقى ببلال في الداخل قبل أنْ يَخْرج فسَأله، فمعنى «حينَ خَرَج» حينَ قَارب، وبَاشَرَ الخُرُوج. قوله: «ماذا صنع رسول الله - اللهِ صلى الله عليه وسلم -؟» أي: في داخل الكعبة. وفي الرواية الثانية: «فقلت لبلال: هل صلّى فيه رسُول الله - اللهِ صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم. قلت: أين؟ قال.... إلخ وهذه الرواية أوضح الروايات في سؤالِ ابن عمر لبلال، وقد ذكرتْ بعض الروايات بعضاً، وتركت بعضاً، وكأنه استثبت أنّه - اللهِ صلى الله عليه وسلم - صلّى في الكعبة، ثمّ سألَ عنْ مكان صلاته فيها.
قوله: «بين العَمُودين تِلْقاءَ وَجْهه» أي: في مقابل اتّجاهه. وكان سقفُ الكعْبة آنذاك قائماً على ستة أعْمدة في صفّين، كلُّ صفٍّ يَعْترض البابَ ثلاثةُ أعْمِدة، فتركَ - اللهِ صلى الله عليه وسلم - صفّ الأعْمدة القريب مِنَ الباب، وفي الصفّ المُقدّم ترك عَمُوداً عن يمينه، وعمودين عن شماله، وفي مواجهة حائط الكعبة، وخلف ظَهره باب الكعبة، وهذا معنى قوله في الرواية الأولى: «جعلَ عَمُودين عن يساره، وعَمُوداً عن يمينه، وثلاثة أعْمدة وَرَاءه». وقوله في الرواية الثانية: «بين العَمُودين تلقاء وجْهه». وقوله في الرواية الرابعة: «بين العَمُودين المُقدّمين». وقوله في الرواية السادسة والسابعة: «بين العمودين اليمانيين» بتخفيف الياء، لأنّهم جعلوا الألف بدل إحدى ياءي النّسب، وجوّز سيبويه التشديد. قال النووي: هكذا هو في مسلم: «عَمُودين عن يساره، وعَمُوداً عن يمينه». وفي رواية للبخاري: «عَمودين عن يمينه، وعَمُوداً عن يساره» وهكذا هو في الموطأ وفي سنن أبي داود. وفي رواية للبخاري: «عَمُوداً عن يمينه، وعَمُوداً عن يساره». اهـ وقد روى البخاري: أنّ عبدالله بن عُمر: كان إذا دَخَلَ الكعْبة، مَشَى قبل الوجْه حين يَدخل، ويجعل الباب قِبلَ الظُّهر، ويَمشي حتى يكون بينه وبين الجدار الذي قِبل وجْهه، قريباً من ثلاثة أذرع، فيُصلّي، يَتَوخّى المكان الذي أخبره بلالٌ، أنّ رسول الله - اللهِ صلى الله عليه وسلم - صلى فيه.
مكوث النبي - اللهِ صلى الله عليه وسلم - داخل الكعبة فمَكَثَ النَّبيُّ - اللهِ صلى الله عليه وسلم - ومَن معَه داخِلَ الكَعْبةِ وَقْتًا طَويلًا، ثمَّ خرَجَ، فأسرَعَ النَّاسُ في الدُّخولِ إلى الكَعْبةِ، وكان عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما- أسْبَقَ النَّاسِ إلى الدُّخولِ، فلمَّا دخَلَ وجَدَ بِلالَ بنَ رَباحٍ - رضي الله عنه - واقفًا وراءَ البابِ، فسَأَلَه: أين صلَّى رَسولُ اللهِ - اللهِ صلى الله عليه وسلم -؟ فقال له: صلَّى بيْنَ ذَيْنِكَ العَمودَيْنِ المُقدَّمَينِ، وكان البَيتُ الحَرامُ على سِتَّةِ أعْمِدةٍ سَطرَينِ، أي: صَفَّينِ، وذلك قبْلَ أنْ يُهدَمَ، ويُبْنى في زمَنِ عبدِ اللهِ بنِ الزُّبَيرِ -رضي الله عنهما-، فصلَّى النَّبيُّ - اللهِ صلى الله عليه وسلم - بيْنَ العَمودَينِ في الصَّفِّ الأوَّلِ، وجعَلَ البابَ خَلْفَ ظَهرِه، واستقبَلَ بوَجْهِه ما يَستَقبِلُه مَن يَدخُلُ البَيتَ مِن الجِدارِ، وكان عندَ المَكانِ الَّذي صلَّى فيه النَّبيُّ - اللهِ صلى الله عليه وسلم - مَرْمَرةٌ حَمْراءُ، وهي منَ الأحْجارِ النَّفيسةِ. قال ابنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما-: ونَسيتُ أنْ أسْأَلَه: كمْ صلَّى؟
فوائد الحديث مَشْروعيَّةُ دُخولِ الكَعْبةِ، والصَّلاةِ بداخلها.
وفيه: السُّؤالُ عن الشّيء مِنْ أجْلِ العِلمِ، والحِرصُ عليه.
وفيه: تَواضُعُ النَّبيِّ - اللهِ صلى الله عليه وسلم -، وحُسنُ عِشرَتِه لأصْحابِه، وحَملُه النَّاسَ على دابَّتِه.
ما كان عليه أصْحابُ رَسولِ اللهِ - اللهِ صلى الله عليه وسلم - مِنَ الحِرصِ على معرفة سُنَّةِ النَّبيِّ - اللهِ صلى الله عليه وسلم -، واتّباعها والعمل بها، فَفِيها خير الدُّنْيا والآخِرةِ، وكان مِن أحرَصِهم على ذلك عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ -رضي الله عنهما-.
أنّ الكَعبةُ المُشرَّفةُ هي بيتُ اللهِ العتيقُ، ولها مكانةٌ عظيمةٌ في قلوبِ المسلمينَ، وقد صلَّى النبيُّ - اللهِ صلى الله عليه وسلم - في جَوْفِها وداخِلَها عامَ فتحِ مكَّةَ.


اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي