ابو وليد البحيرى
2024-05-16, 09:09 AM
كتاب "حياة ابن كثير وكتابه تفسير القرآن العظيم"
فضيلة الشيخ محمد بن عبد الله الفالح
https://majles.alukah.net/imgcache/2024/05/25.jpg
تفريغ المحاضرة
تقديم فضيلة الشيخ عبد العزيز الداخل -حفظه الله- :
الحمدلله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين
أما بعد:
فنرحب في هذه الليلة؛ ليلة الثلاثاء الثامن والعشرين من شهر رجب لعام ألف وأربعمائة وخمس وثلاثين للهجرة ، بضيفنا الكريم: فضيلة الشيخ أبي القاسم محمد بن عبد الله الفالح،
الأستاذ المساعد بكلية أصول الدين في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقا.
وضيفنا الكريم له عناية بالغة بتفسير ابن كثير وآثاره ومؤلفاته؛ فنرحب به ونتيح له المجال الآن للحديث عن تفسير ابن كثير على وجه الخصوص، وما شاء من محاور أخرى.
قال فضيلة الشيخ محمد بن عبد الله الفالح -حفظه الله- :
بسم الله والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم إنا نعوذ بك من فتنة القول كما نعوذ بك من فتنة العمل، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحديث عن تفسير الحافظ الإمام أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير حديث ذو شجون، وكما قيل إن تفسيره وكذلك كتابه الآخر البداية والنهاية موسوعتان سارت بهما الركبان.
وللعلماء قديما وحديثا ثناء عاطر على هذا التفسير؛ ومن ذلك:
- قول الإمام السيوطي في طبقات الحفاظ: إنه التفسير الذي لم يؤلف على نمطه مثله.
- وقول الشوكاني في البدر الطالع: وهو من أحسن التفاسير إن لم يكن أحسنها.
- وكذلك الشيخ عبد الرحمن بن حسن في الدرر السنية يقول: أفضل ما في أيدي الناس من التفاسير هذه الثلاثة: تفسير أبي جعفر محمد بن جرير، وتفسير الحسين بن مسعود البغوي، وتفسير العماد إسماعيل بن كثير، فهذه أجل التفاسير.
-كذلك الإمام المحدّث أحمد شاكر رحمه الله في كتابه (العمدة) الذي هو اختصار لتفسير ابن كثير يقول: إن تفسير ابن كثير أحسن التفاسير التي رأينا وأجودها وأدقها بعد تفسير إمام المفسرين أبي جعفر الطبري، ولسنا نوازن بينهما وبين أي تفسير آخر مما بأيدينا، فما رأينا مثلهما ولا ما يقاربهما، فكتابه بجانب أنه تفسير للقرآن معلم ومرشد لطالب الحديث يعرف به كيف ينقد الأسانيد والمتون وكيف يميز الصحيح من غيره، فهو كتاب في هذا المعنى تعليمي عظيم، ونفعه جليل كثير.
-كذلك الإمام ابن باز رحمه الله له كلام مثل كلام السابقين؛ إلا أنه يضيف أنه في مجال معتقد أهل السنة والجماعة يقرره على المنهج الصحيح، وأنه في جانب الأحاديث والكلام عنها لا يُجارى ولا يُشقّ له غبار.
ومثله الشيخ صالح الفوزان، ومحمد لطفي الصباغ.
- وإمام العصر ومحدث العصر الألباني رحمه الله لما سئل ما أحسن ما يقرأ طالب العلم في الحديث وفي الرقائق والتفسير والحديث وعدد مجموعة من الفنون، فقال: أما ما يتعلق بالرقائق وتزكية النفس وكذا فعلى السائل أن يقرأ في رياض الصالحين، وفي المعتقد لا يغفل عن العقيدة الطحاوية مع شرحها لابن أبي العز الأذرعي، أما التفسير فإنني أنصح السائل أن يقرأ في تفسير الحافظ ابن كثير فما رأينا مما في أيدينا الآن من التفاسير مثل تفسير ابن كثير، وإن كان فيه بعض التطويل أو الطول فعلى السائل أن يعود ويمرن نفسه على القراءة والنظر فيه.
هذا ما يتعلق بمكانة هذا التفسير؛ الذي هو تفسير الحافظ ابن كثير وكلام العلماء عنه.
[حياة الحافظ ابن كثير وشيء من ترجمته]
أما عن حياة الحافظ ابن كثير، والمحاور التي طُلب مني الحديث عنها؛ التعريف بالحافظ ابن كثير وبيان فضله وإمامته، فممكن أن نختصر بعض الشيء.
الحافظ ابن كثير ولد سنة السبعمائة، وبعضهم يقول سبعمائة وواحد، وتوفي سبعمائة وأربع وسبعين في دمشق، أما ولادته فكانت في بصرى الشام التي تسمى الآن درعا، والتي تدور فيها في هذه الأيام رحى المعارك –نصرهم الله وأيّدهم-، وتلك البلاد هي مكان الإمام النووي وابن الصلاح فهي أنجبت علماء أفذاذ يقتدى بهم.
أما عن اسم ابن كثير هو: الإمام الحافظ الشيخ المفسر وعمدة المحدثين إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي، ونسبته إلى قريش ذكر هذا الكلام له شيخه المزّي ففرح بها وأصبح الحافظ ابن كثير يثبتها في نسبه، ومولده كما ذكرت سنة سبعمائة مستنبط هذا من قوله فيما يحكي عن أبيه: وتوفي في شهر جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعمائة، وكنت إذ ذاك صغيرا ابن ثلاث سنين أو نحوها لا أدركه ........ .
وولادته في مزرعة أحد القرى التي هناك يقال لها المسيفرة، وكان يطلق عليها اسم شَرْكة، ويطلق عليها اليوم أهل تلك البلاد اسم الشويك، انتقل بعد ذلك إلى مجيدل القرية من أعمال بصرى الشام من حوران التي فيها ولادته، وبها نشأ.
بعد ذلك لما توفي والده وهو صغير انتقل إلى دمشق حاضرة العلم، وقام برعايته أخوه الأكبر عبد الوهاب كما ذكر ذلك هو وردده كثيرا في البداية والنهاية.
كعادة العلماء يبدأون بحفظ القرآن وطلب العلم وثني الركب على العلماء وكانت دمشق في ذلك الوقت تعجّ بكثير من العلماء من مختلف المذاهب الحنفي والشافعي والحنبلي، وابن كثير تتلمذ في تلك المدارس على عدد من العلماء، وإن كان شافعيا إلا أنه في الأخير يلتزم الدليل وإن خالف المذهب الشافعي.
وذكر في ترجمته عدد من الشيوخ الذين قرأ عليهم سواء في القرآن أو في التجويد أو في النحو أو في سائر الفنون لكنه تأثر بشخص كبير علم ولم أجد فيما اطلعت عليه ممن ترجم لابن كثير أنه درس عليه فن من الفنون؛ الذي هو شيخ الإسلام ابن تيمية فتأثر به أيّما تأثر، ومن قال أن شيخه ابن تيمية قد يردّ عليه أنه لم يقرأ عليه كتاب معين، ونعرف أن ابن تيمية توفي عام سبعمائة وثمان وعشرين، وابن كثير ولد سبعمائة أو سبعمائة وكذا، وابن تيمية آخر عمره قضاه في السجن ما بين مصر وبين القلعة في دمشق، إلا أنه تأثر به ابن كثير تأثرا كبيرا، كما تأثر بقرين ابن تيمية الذي هو ابن القيم، هذا عن المشيخة التي صاغت فكر الحافظ ابن كثير، كذلك زميله الإمام الذهبي والرزالي، كل منهم يجتمعون ويتدارسون.
ومن شيوخه في الحديث –حريّ أن يشار به- الذي هو الحجاج يوسف بن عبد الرحمن المزي، كان من أهل حلب ثم هاجر إلى دمشق واستقرّ في المزّة التي هي ظاهر دمشق، وكانت المزة منحها معاوية بن أبي سفيان لبني كلب أخوال أحد أولاده، وتعتبر من أرقى أحياء دمشق في الوقت الحاضر، فتتلمذ عليه وتزوّج ابنته كذلك.
المكانة العلمية لابن كثير إذا عرفنا من المشيخة الذين درس عليهم، ومن تأثر بهم وبالجو المحيط، يكون الأمر مفروغا منه، أو نقول عند الكلام عن مكانته العلمية أنه قدم ابن كثير من بصرى إلى دمشق وسكن الصاغة العتيقة، والمحيط الذي تربى فيه ابن كثير بدءا من قريته الأولى التي كان والده يتولى فيها الخطابة إلى جانب أخيه عبد الوهاب، ونشأته في دمشق في كنف تلك المدارس، وكذلك هو تولّى التدريس سنة سبعمائة وست وثلاثين فيدل على أنه نبغ مبكرا، كما أنه درّس في الجامع الأموي، فقد ورد في البداية والنهاية قال: في صبيحة يوم الأربعاء سنة سبعمائة وسبع وستين حضر العلامة عماد الدين ابن كثير درس التفسير، الذي أنشأه ملك الأمراء (منكلي بغا)، وحضر واجتمع القضاة والأعيان وأخذ في أول تفسير الفاتحة، وكان يوما مشهودا، وقد تولّى التدريس في تربة أم الصالح عوضا عن شيخه الذهبي.
مما يدلّ على رسوخه في العلم وثقة المجتمع فيه مشاركته الفاعلة في أمر الفتوى، حيث كانت ترد إليه الفتاوي من الحكام وغيرهم، وذكر في حادثة الاسكندرية، لما أن النصارى اعتدوا على المسلمين في الاسكندرية، وأراد الوالي في دمشق أن ينكل بالنصارى الذين في دمشق، فقال: لا يجوز؛ هؤلاء مازالوا على الذمة ولم يصدر منهم ما يوجب ذلك فما يحقّ لنا أن نأخذهم بجريرة غيرهم، فقبل منه هذا الرأي.
أما عن معتقد ابن كثير؛ فتكلم فيه من تكلّم، والواقع يؤخذ تقرير معتقده من خلال كلامه على آيات الأسماء والصفات في تفسيره، من خلال تتبعي ذلك أن ابن كثير على معتقد أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات وفي أهل البيت، وفي كل ما يتعلّق بهذه المسألة، من قال إنه عنده تفويض ومن قال إنه أشعريّ، كلّ هذه دعاوى مغرضين ولا تصحّ نسبة ذلك إلى ابن كثير، ومن قال بغير ذلك فعليه أن يثبت من خلال تفسيره بالآيات التي فيها آيات وأحاديث الأسماء والصفات.
أما عن أخلاق ابن كثير؛ فحدّث ولا حرج بعالم نشأ مع كتاب الله عزوجل وارتبط بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه ألّف كتابه العظيم (جامع المسانيد والسنن والهادي لأقوم سنن) الذي رتّب فيه قرابة عشرة مؤلفات في السنة على مسانيد الصحابة: الكتب الستة إلى جانب مسند الإمام أحمد وأبو يعلى، وكتب أخرى لا تحضرني الآن لكن مجموعها عشرة، رتّبها على مسانيد الصحابة وبلغ قرابة ثلاثين مجلدا، عبدالملك ... أخرج جزءا منها، ثم أتى قلعجي وأكمل باقي ذلك الكتاب العظيم، وما فاته من النسخ الخطيّة أخذها من مواضع أخرى.
من تلاميذه: ابن الجزري، والزركشي، والعراقي.
وفي سنة سبعمائة وأربع وسبعين توفي الحافظ ابن كثير رحمة الله عليه، وخلّف لنا من هذه المؤلفات ما يقارب ستين مؤلفا منها ما هو مطبوع، ومنها ما هو مخطوط، ومنها ما هو مخطوط مفقود، هذا ما يتعلق بحياة الحافظ ابن كثير على شيء من العجالة.
أحمد شاكر رحمة الله عليه اختصر تفسير ابن كثير في كتابه الذي سمّاه (عمدة التفسير) ترجم ترجمة رائعة لابن كثير، فمن أراد ذلك فليرجع إليها، وكل من أتى بعد أحمد شاكر هم عالة عليه، اللهم إن يضيفون أشياء أخرى وزيادات، أما في السبك فترجمة ما رأيت ما يقاربها ولا ما يدانيها، هذا عن حياة الحافظ ابن كثير.
[تفسير ابن كثير وبيان مزاياه]
أما عن تفسيره: اشتهر بقولهم (تفسير القرآن العظيم) وهو من أشهر ما دوّن في التفسير بالمأثور، بعد تفسير الطبري، ومن أصح التفاسير بالمأثور، إن لم يكن أصحّها، يجمع أصح الآثار الواردة في تفسير الآية، والكلام على رتبتها غالبا، وينبّه على الإسرائيليّات في كثير من الأحاديث، كما يمتاز بحسن البيان وعدم التعقيد، وعدم التشعب في المسائل.
وطريقته في تفسيره: يذكر الآية ثم يفسّرها بعبارة سهلة موجزة، ثم يقوم بتوضيح الآية بآية أخرى إن أمكنه ذلك، ويعارض ما بين الآيتين، ثم يشرع في سرد الأحاديث المرفوعة التي تتعلق بالآية، ويبيّن ما يُحتجّ به وما لا يُحتجّ به منها، بعد تفسير القرآن بالقرآن، والقرآن بالسنة، يتبع ذلك بأقوال الصحابة، والتابعين ومن يليهم من علماء السلف، ويقوم بترجيح بعض الأقوال على بعض، وعندما يشرح آية من آيات الأحكام فإنه يدخل في المناقشات الفقهية من دون إطالة.
فخصائص هذا التفسير باختصار هي:
1: التنبيه على الإسرائيليّات.
2: المعرفة الواسعة بفنون الحديث وأحوال الرجال.
3: شدّة العناية بتفسير القرآن بالقرآن.
وبمناسبة معرفته الواسعة بأحوال الرجال له كتاب اسمه:(الرفع والتكميل في الثقات والضعفاء والمجاهيل)، يوجد منه مجلد واحد (الثالث)، وجده حمّاد الأنصاري في الصنادقية في مصر، واشتراه -أظن- بألفين ريـال، ولما أحضره إلى المدينة وجد عليه ختم مكتبة المسجد النبوي، فأرجعه إليهم وأعطوه نسخة مصورة، كما حدثني بذلك ببيته بالمدينة رحمة الله عليه.
يتبع
فضيلة الشيخ محمد بن عبد الله الفالح
https://majles.alukah.net/imgcache/2024/05/25.jpg
تفريغ المحاضرة
تقديم فضيلة الشيخ عبد العزيز الداخل -حفظه الله- :
الحمدلله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين
أما بعد:
فنرحب في هذه الليلة؛ ليلة الثلاثاء الثامن والعشرين من شهر رجب لعام ألف وأربعمائة وخمس وثلاثين للهجرة ، بضيفنا الكريم: فضيلة الشيخ أبي القاسم محمد بن عبد الله الفالح،
الأستاذ المساعد بكلية أصول الدين في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقا.
وضيفنا الكريم له عناية بالغة بتفسير ابن كثير وآثاره ومؤلفاته؛ فنرحب به ونتيح له المجال الآن للحديث عن تفسير ابن كثير على وجه الخصوص، وما شاء من محاور أخرى.
قال فضيلة الشيخ محمد بن عبد الله الفالح -حفظه الله- :
بسم الله والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم إنا نعوذ بك من فتنة القول كما نعوذ بك من فتنة العمل، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحديث عن تفسير الحافظ الإمام أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير حديث ذو شجون، وكما قيل إن تفسيره وكذلك كتابه الآخر البداية والنهاية موسوعتان سارت بهما الركبان.
وللعلماء قديما وحديثا ثناء عاطر على هذا التفسير؛ ومن ذلك:
- قول الإمام السيوطي في طبقات الحفاظ: إنه التفسير الذي لم يؤلف على نمطه مثله.
- وقول الشوكاني في البدر الطالع: وهو من أحسن التفاسير إن لم يكن أحسنها.
- وكذلك الشيخ عبد الرحمن بن حسن في الدرر السنية يقول: أفضل ما في أيدي الناس من التفاسير هذه الثلاثة: تفسير أبي جعفر محمد بن جرير، وتفسير الحسين بن مسعود البغوي، وتفسير العماد إسماعيل بن كثير، فهذه أجل التفاسير.
-كذلك الإمام المحدّث أحمد شاكر رحمه الله في كتابه (العمدة) الذي هو اختصار لتفسير ابن كثير يقول: إن تفسير ابن كثير أحسن التفاسير التي رأينا وأجودها وأدقها بعد تفسير إمام المفسرين أبي جعفر الطبري، ولسنا نوازن بينهما وبين أي تفسير آخر مما بأيدينا، فما رأينا مثلهما ولا ما يقاربهما، فكتابه بجانب أنه تفسير للقرآن معلم ومرشد لطالب الحديث يعرف به كيف ينقد الأسانيد والمتون وكيف يميز الصحيح من غيره، فهو كتاب في هذا المعنى تعليمي عظيم، ونفعه جليل كثير.
-كذلك الإمام ابن باز رحمه الله له كلام مثل كلام السابقين؛ إلا أنه يضيف أنه في مجال معتقد أهل السنة والجماعة يقرره على المنهج الصحيح، وأنه في جانب الأحاديث والكلام عنها لا يُجارى ولا يُشقّ له غبار.
ومثله الشيخ صالح الفوزان، ومحمد لطفي الصباغ.
- وإمام العصر ومحدث العصر الألباني رحمه الله لما سئل ما أحسن ما يقرأ طالب العلم في الحديث وفي الرقائق والتفسير والحديث وعدد مجموعة من الفنون، فقال: أما ما يتعلق بالرقائق وتزكية النفس وكذا فعلى السائل أن يقرأ في رياض الصالحين، وفي المعتقد لا يغفل عن العقيدة الطحاوية مع شرحها لابن أبي العز الأذرعي، أما التفسير فإنني أنصح السائل أن يقرأ في تفسير الحافظ ابن كثير فما رأينا مما في أيدينا الآن من التفاسير مثل تفسير ابن كثير، وإن كان فيه بعض التطويل أو الطول فعلى السائل أن يعود ويمرن نفسه على القراءة والنظر فيه.
هذا ما يتعلق بمكانة هذا التفسير؛ الذي هو تفسير الحافظ ابن كثير وكلام العلماء عنه.
[حياة الحافظ ابن كثير وشيء من ترجمته]
أما عن حياة الحافظ ابن كثير، والمحاور التي طُلب مني الحديث عنها؛ التعريف بالحافظ ابن كثير وبيان فضله وإمامته، فممكن أن نختصر بعض الشيء.
الحافظ ابن كثير ولد سنة السبعمائة، وبعضهم يقول سبعمائة وواحد، وتوفي سبعمائة وأربع وسبعين في دمشق، أما ولادته فكانت في بصرى الشام التي تسمى الآن درعا، والتي تدور فيها في هذه الأيام رحى المعارك –نصرهم الله وأيّدهم-، وتلك البلاد هي مكان الإمام النووي وابن الصلاح فهي أنجبت علماء أفذاذ يقتدى بهم.
أما عن اسم ابن كثير هو: الإمام الحافظ الشيخ المفسر وعمدة المحدثين إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي، ونسبته إلى قريش ذكر هذا الكلام له شيخه المزّي ففرح بها وأصبح الحافظ ابن كثير يثبتها في نسبه، ومولده كما ذكرت سنة سبعمائة مستنبط هذا من قوله فيما يحكي عن أبيه: وتوفي في شهر جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعمائة، وكنت إذ ذاك صغيرا ابن ثلاث سنين أو نحوها لا أدركه ........ .
وولادته في مزرعة أحد القرى التي هناك يقال لها المسيفرة، وكان يطلق عليها اسم شَرْكة، ويطلق عليها اليوم أهل تلك البلاد اسم الشويك، انتقل بعد ذلك إلى مجيدل القرية من أعمال بصرى الشام من حوران التي فيها ولادته، وبها نشأ.
بعد ذلك لما توفي والده وهو صغير انتقل إلى دمشق حاضرة العلم، وقام برعايته أخوه الأكبر عبد الوهاب كما ذكر ذلك هو وردده كثيرا في البداية والنهاية.
كعادة العلماء يبدأون بحفظ القرآن وطلب العلم وثني الركب على العلماء وكانت دمشق في ذلك الوقت تعجّ بكثير من العلماء من مختلف المذاهب الحنفي والشافعي والحنبلي، وابن كثير تتلمذ في تلك المدارس على عدد من العلماء، وإن كان شافعيا إلا أنه في الأخير يلتزم الدليل وإن خالف المذهب الشافعي.
وذكر في ترجمته عدد من الشيوخ الذين قرأ عليهم سواء في القرآن أو في التجويد أو في النحو أو في سائر الفنون لكنه تأثر بشخص كبير علم ولم أجد فيما اطلعت عليه ممن ترجم لابن كثير أنه درس عليه فن من الفنون؛ الذي هو شيخ الإسلام ابن تيمية فتأثر به أيّما تأثر، ومن قال أن شيخه ابن تيمية قد يردّ عليه أنه لم يقرأ عليه كتاب معين، ونعرف أن ابن تيمية توفي عام سبعمائة وثمان وعشرين، وابن كثير ولد سبعمائة أو سبعمائة وكذا، وابن تيمية آخر عمره قضاه في السجن ما بين مصر وبين القلعة في دمشق، إلا أنه تأثر به ابن كثير تأثرا كبيرا، كما تأثر بقرين ابن تيمية الذي هو ابن القيم، هذا عن المشيخة التي صاغت فكر الحافظ ابن كثير، كذلك زميله الإمام الذهبي والرزالي، كل منهم يجتمعون ويتدارسون.
ومن شيوخه في الحديث –حريّ أن يشار به- الذي هو الحجاج يوسف بن عبد الرحمن المزي، كان من أهل حلب ثم هاجر إلى دمشق واستقرّ في المزّة التي هي ظاهر دمشق، وكانت المزة منحها معاوية بن أبي سفيان لبني كلب أخوال أحد أولاده، وتعتبر من أرقى أحياء دمشق في الوقت الحاضر، فتتلمذ عليه وتزوّج ابنته كذلك.
المكانة العلمية لابن كثير إذا عرفنا من المشيخة الذين درس عليهم، ومن تأثر بهم وبالجو المحيط، يكون الأمر مفروغا منه، أو نقول عند الكلام عن مكانته العلمية أنه قدم ابن كثير من بصرى إلى دمشق وسكن الصاغة العتيقة، والمحيط الذي تربى فيه ابن كثير بدءا من قريته الأولى التي كان والده يتولى فيها الخطابة إلى جانب أخيه عبد الوهاب، ونشأته في دمشق في كنف تلك المدارس، وكذلك هو تولّى التدريس سنة سبعمائة وست وثلاثين فيدل على أنه نبغ مبكرا، كما أنه درّس في الجامع الأموي، فقد ورد في البداية والنهاية قال: في صبيحة يوم الأربعاء سنة سبعمائة وسبع وستين حضر العلامة عماد الدين ابن كثير درس التفسير، الذي أنشأه ملك الأمراء (منكلي بغا)، وحضر واجتمع القضاة والأعيان وأخذ في أول تفسير الفاتحة، وكان يوما مشهودا، وقد تولّى التدريس في تربة أم الصالح عوضا عن شيخه الذهبي.
مما يدلّ على رسوخه في العلم وثقة المجتمع فيه مشاركته الفاعلة في أمر الفتوى، حيث كانت ترد إليه الفتاوي من الحكام وغيرهم، وذكر في حادثة الاسكندرية، لما أن النصارى اعتدوا على المسلمين في الاسكندرية، وأراد الوالي في دمشق أن ينكل بالنصارى الذين في دمشق، فقال: لا يجوز؛ هؤلاء مازالوا على الذمة ولم يصدر منهم ما يوجب ذلك فما يحقّ لنا أن نأخذهم بجريرة غيرهم، فقبل منه هذا الرأي.
أما عن معتقد ابن كثير؛ فتكلم فيه من تكلّم، والواقع يؤخذ تقرير معتقده من خلال كلامه على آيات الأسماء والصفات في تفسيره، من خلال تتبعي ذلك أن ابن كثير على معتقد أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات وفي أهل البيت، وفي كل ما يتعلّق بهذه المسألة، من قال إنه عنده تفويض ومن قال إنه أشعريّ، كلّ هذه دعاوى مغرضين ولا تصحّ نسبة ذلك إلى ابن كثير، ومن قال بغير ذلك فعليه أن يثبت من خلال تفسيره بالآيات التي فيها آيات وأحاديث الأسماء والصفات.
أما عن أخلاق ابن كثير؛ فحدّث ولا حرج بعالم نشأ مع كتاب الله عزوجل وارتبط بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه ألّف كتابه العظيم (جامع المسانيد والسنن والهادي لأقوم سنن) الذي رتّب فيه قرابة عشرة مؤلفات في السنة على مسانيد الصحابة: الكتب الستة إلى جانب مسند الإمام أحمد وأبو يعلى، وكتب أخرى لا تحضرني الآن لكن مجموعها عشرة، رتّبها على مسانيد الصحابة وبلغ قرابة ثلاثين مجلدا، عبدالملك ... أخرج جزءا منها، ثم أتى قلعجي وأكمل باقي ذلك الكتاب العظيم، وما فاته من النسخ الخطيّة أخذها من مواضع أخرى.
من تلاميذه: ابن الجزري، والزركشي، والعراقي.
وفي سنة سبعمائة وأربع وسبعين توفي الحافظ ابن كثير رحمة الله عليه، وخلّف لنا من هذه المؤلفات ما يقارب ستين مؤلفا منها ما هو مطبوع، ومنها ما هو مخطوط، ومنها ما هو مخطوط مفقود، هذا ما يتعلق بحياة الحافظ ابن كثير على شيء من العجالة.
أحمد شاكر رحمة الله عليه اختصر تفسير ابن كثير في كتابه الذي سمّاه (عمدة التفسير) ترجم ترجمة رائعة لابن كثير، فمن أراد ذلك فليرجع إليها، وكل من أتى بعد أحمد شاكر هم عالة عليه، اللهم إن يضيفون أشياء أخرى وزيادات، أما في السبك فترجمة ما رأيت ما يقاربها ولا ما يدانيها، هذا عن حياة الحافظ ابن كثير.
[تفسير ابن كثير وبيان مزاياه]
أما عن تفسيره: اشتهر بقولهم (تفسير القرآن العظيم) وهو من أشهر ما دوّن في التفسير بالمأثور، بعد تفسير الطبري، ومن أصح التفاسير بالمأثور، إن لم يكن أصحّها، يجمع أصح الآثار الواردة في تفسير الآية، والكلام على رتبتها غالبا، وينبّه على الإسرائيليّات في كثير من الأحاديث، كما يمتاز بحسن البيان وعدم التعقيد، وعدم التشعب في المسائل.
وطريقته في تفسيره: يذكر الآية ثم يفسّرها بعبارة سهلة موجزة، ثم يقوم بتوضيح الآية بآية أخرى إن أمكنه ذلك، ويعارض ما بين الآيتين، ثم يشرع في سرد الأحاديث المرفوعة التي تتعلق بالآية، ويبيّن ما يُحتجّ به وما لا يُحتجّ به منها، بعد تفسير القرآن بالقرآن، والقرآن بالسنة، يتبع ذلك بأقوال الصحابة، والتابعين ومن يليهم من علماء السلف، ويقوم بترجيح بعض الأقوال على بعض، وعندما يشرح آية من آيات الأحكام فإنه يدخل في المناقشات الفقهية من دون إطالة.
فخصائص هذا التفسير باختصار هي:
1: التنبيه على الإسرائيليّات.
2: المعرفة الواسعة بفنون الحديث وأحوال الرجال.
3: شدّة العناية بتفسير القرآن بالقرآن.
وبمناسبة معرفته الواسعة بأحوال الرجال له كتاب اسمه:(الرفع والتكميل في الثقات والضعفاء والمجاهيل)، يوجد منه مجلد واحد (الثالث)، وجده حمّاد الأنصاري في الصنادقية في مصر، واشتراه -أظن- بألفين ريـال، ولما أحضره إلى المدينة وجد عليه ختم مكتبة المسجد النبوي، فأرجعه إليهم وأعطوه نسخة مصورة، كما حدثني بذلك ببيته بالمدينة رحمة الله عليه.
يتبع