المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري



ابو وليد البحيرى
2024-04-30, 07:13 PM
شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري (1) باب: أَوَّلُ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ

اعداد: الفرقان




الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

فهذا تتمة الكلام على أحاديث كتاب «الصلاة» من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء.
235.عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ أَوَّل؟ قَالَ: «الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ» قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى» قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: «أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَأَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ، فَصَلِّ، فَهُوَ مَسْجِدٌ».
الشرح: قال المنذري: باب: أول مسجد وضع في الأرض، وهذا الحديث أخرجه الإمام مسلم ( 1/370 ) في أول كتاب المساجد ومواضع الصلاة.
من حديث أبي ذر، وهو جُندب بن جنادة على الأصح، الغفاري، من بني غفار، الصحابي المشهور، مناقبه كثيرة جدا، مات سنة اثنتين وثلاثين في خلافة عثمان.
قال: «قلت: يا رسول الله، أي مسجد وضع في الأرض أول؟» يعني: أي المساجد بُني في الأرض أولاً للصلاة فيه، والتعبد لله تعالى فيه، فتغفر لهم ذنوبهم، وترفع درجاتهم، ثم للطواف به، وللتوجه إليه واتخاذه قبلة.
فقال صلى الله عليه وسلم : «المسجد الحرام» ومعلوم بالاتفاق أن المسجد الحرام هو الذي بمكة، كما قال الله تبارك وتعالى مخبرا عن شرف البيت وفضله: {إنّ أولَ بيتٍ ُوضع للناس للذي ببكة مباركاً وهُدى للعالمين فيه آياتٌ بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حجُ البيت من استطاعَ إليه سبيلاً ومنْ كفَرَ فإن الله غنيٌ عن العالمين} (آل عمران: 96-97). وبكة من أسماء مكة {مباركا} أي: كثير البركة والمنفعة، الدينية والدنيوية {وهدى للعالمين} أي فيه هداية للناس علماً وعملا، فكم من الناس من اهتدى بزيارة البيت الحرام، بل من رؤيته ومشاهدته.
ونبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام هو باني المسجد الحرام، وإبراهيم عليه الصلاة والسلام نبيٌ يعظمه اليهود والنصارى ويحترمونه ويحبونه، وله عندهم جميعا قدرٌ ومنزلة في التوراة والإنجيل، ومع ذلك فإنهم لا يحجون البيت الذي بناه؟؟ ولا يتوجهون إليه، ولا يستقبلونه في صلاتهم؟؟!! وهذا من تناقضاتهم الكثيرة!!
مع أن المسجد الحرام أول مسجد وضع في الأرض، ليتعبّد فيه لله وللصلاة والذكر، فله السبقُ على جميع بيعهم وكنائسهم التي يعظمونها ويعمرونها.
قوله: «قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى» أي المسجد الأقصى الذي هو ببيت المقدس والذي يسمى أيضا: بإلياء، هوالمسجد الثاني الذي بني في الأرض، وسمي بالمسجد الأقصى لبعده عن المسجد الحرام في المسافة، وقد بناه نبي الله يعقوب بن إسحق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، وجدّد بناءه نبي الله سليمان عليه الصلاة والسلام كما صح في الحديث.
قال: «قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة» أي: كم المدة بين بناء المسجد الحرام والمسجد الأقصى - حرّره الله من أيدي اليهود الغاصبين – قال: بينهما أربعون سنة.
قوله «وأينما أدركتك الصلاة فصلّ، فهو مسجد» هذا دليل على جواز الصلاة في جميع بقاع الأرض، إلا ما استثناه الشرع المطهر، من الصلاة في المقابر والمواضع النجسة ونحوها، فقد ورد النهي عن الصلاة في المقابر في قوله عليه الصلاة والسلام: «لا تَجلسوا على القُبور، ولا تُصلّوا إليها، ولا عليها» رواه الإمام مسلم.
وكذلك ورد النهي عن الصلاة في معاطن الإبل، أي في مبارك الإبل، والنهي عن الصلاة في أعطان الإبل وفي الحمام، لأنه موضع تحضره الشياطين، والحمام هو الموضع الذي يغتسل فيه، وليس هو موضع قضاء الحاجة، وكذا النهي عن الصلاة في المواضع النجسة كالمزبلة أو ما شابهها، فهذه مواضع لا يصح الصلاة فيها.
وكذلك ما ورد من النهي عن الصلاة فيه أو كراهية الصلاة فيه كالصلاة في الأماكن التي فيها تصاوير أو أصنام أو صلبان، هذا كله يدل على الكراهة. قال عمر لبعض عظماء النصارى: «إنا لا ندخل كنائسكم من أجل التماثيل التي فيها الصور» رواه البخاري في كتاب الصلاة، باب الصلاة في البيعة عند الحديث رقم 434. ووصله عبد الرزاق.
وفيه أيضا: وكان ابن عباس رضي الله عنهما يصلي في البيعة إلا بيعة فيها تمثال. قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري، 1/ 532: وصله البغوي في الجعديات، وزاد فيه: «فإن كان فيها تماثيل خرج فصلى في المطر».
قال أهل العلم: لا بأس بالصلاة في الكنيسة، ولا يصلي إلى الصور، هذا إذا لم يجد مكاناً يصلي فيه غيرها.
قال الشوكاني: وهذا الحديث يدل على جواز تحويل أماكن الكنائس إلى مساجد، وتدل الآثار على جواز الصلاة في الكنائس، ولا يُصلَّى إلى الصور، ولا في مكان نجس (انظر: نيل الأوطار 1/ 687).
وجَعْل الأرض كلها مسجدا وطهورا للأمة أينما كانوا، هو من خصائص أمة محمد عليه الصلاة والسلام، ومما فضلت به الأمة الإسلامية، خلافا لأهل الكتاب، فإنهم لا يصلون إلا في كنائسهم وبيعهم، فلا يصلي أحدهم إلا بالمكان المخصص للصلاة فقط.
وأيضا فمن فضل الله تعالى على أمة محمد أن الله عز وجل جعل لهم الأرض كلها طهورا، فإذا فقدت الماء يمكنك أن تستعمل الصعيد الطيب من الأرض، فتتيمم بصعيد الأرض، يعني ما صعد على سطحها من التراب الطاهر ثم تصلي، فحيثما أدركتك الصلاة فعندك مسجدك وعندك طهورك، فلله الحمد حمدا كثيرا طيبا.
41-باب: ابتناء مسجد النبي
238.عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قال: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَنَزَلَ فِي عُلْوِ الْمَدِينَةِ فِي حَيٍّ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، فَأَقَامَ فِيهِمْ أَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، ثُمَّ إِنَّهُ أَرْسَلَ إِلَى مَلَأ بَنِي النَّجَّارِ فَجَاءُوا مُتَقَلِّدِينَ بِسُيُوفِهِمْ، قَالَ: فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَأَبُو بَكْرٍ رِدْفُهُ، وَمَلَأُ بَنِي النَّجَّارِ حَوْلَهُ حَتَّى أَلْقَى بِفِنَاءِ أَبِي أَيُّوبَ، قَالَ: فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ يُصَلِّي حَيْثُ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ، وَيُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ، ثُمَّ إِنَّهُ أَمَرَ بِالْمَسْجِدِ، قَالَ: فَأَرْسَلَ إِلَى مَلَأِ بَنِي النَّجَّارِ فَجَاءُوا، فَقَالَ: «يَا بَنِي النَّجَّارِ، ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ هَذَا» قَالُوا: لَا وَاللَّهِ لَا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلَّا إِلَى اللَّهِ، قَالَ أَنَسٌ: فَكَانَ فِيهِ مَا أَقُولُ، كَانَ فِيهِ نَخْلٌ وَقُبُورُ الْمُشْرِكِينَ وَخِرَبٌ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ بِالنَّخْلِ فَقُطِعَ، وَبِقُبُورِ الْمُشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ، وَبِالْخِرَبِ فَسُوِّيَتْ، قَالَ: فَصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةً، وَجَعَلُوا عِضَادَتَيْهِ حِجَارَةً، قَالَ: فَكَانُوا يَرْتَجِزُونَ وَرَسُولُ اللَّهِ مَعَهُمْ، وَهُمْ يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُ الْآخِرَهْ، فَانْصُر الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَه ْ».
الشرح: قال المنذري: باب ابتناء مسجد النبي صلى الله عليه وسلم .
والإمام مسلم رواه في الباب المتقدم.
وهذا الحديث فيه قصة بناء مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة النبوية، يقول أنس رضي الله عنه: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم للمدينة» يعني مهاجرا من مكة «فنزل في علو المدينة في حي يقال لهم بنو عمرو ابن عوف» وهم من سكان المدينة. «فأقام فيهم صلى الله عليه وسلم أربع عشرة ليلة في بيت أبي أيوب الأنصاري»، لأنه صلى الله عليه وسلم لما جاء على راحلته قال لهم: «دعوها فإنها مأمورة» أي فحيثما تبرك فسأنزل، فبركت الناقة عند بيت أبي أيوب رضي الله عنه فنزل عنده صلى الله عليه وسلم ضيفا، وأقام في غرفة له في علو البيت أربع عشرة ليلة.
قوله: «ثم أرسل إلى ملأ بني النجار» والملأ هم الأشراف والسادة من بني النجار، وبنو النجار أخوال النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنّ أم النبي صلى الله عليه وسلم آمنة بن وهب ترجع إلى بني النجار.
قوله: «فجاءوا: يعني أشراف بني النجار جاءوا متقلدين سيوفهم» أي جاءوا وقد لبسوا السيوف، وهذا يدل على النصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنهم جاءوا مستعدين لكل ما يطلبه منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى ولو طلب منهم أرواحهم والقتال عنه لفعلوا.
قوله: «فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته وأبو بكر ردفه، وملأ بني النجار حوله حتى ألقى بفناء أبي أيوب» فيه: جواز الارتداف على الدابة، فإذا كانت الدابة تطيق أن يركبها اثنان جاز ذلك. قوله: «فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي حيث أدركته الصلاة، ويصلي في مرابض الغنم» وهذا دليل على جواز الصلاة في مرابض الغنم، وهي الأماكن التي تبيت بها الغنم وتضع أجسادها عليها تسمى بالمرابض، وفيه دليل لطهارة بولها وروثها، وهو قول عامة أهل العلم، أن ما يؤكل لحمه فبوله وروثه طاهر.
وإنما منع النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة في معاطن الإبل؛ لأنها تحضرها الشياطين، وليس لأن بولها وروثها نجسان، بل هما طاهران، وإنما كما قال أهل العلم: لأنها تحضرها الشياطين، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في معاطن الإبل ومباركها.
قوله: «ثم إنه أمر بالمسجد» أي إن النبي صلى الله عليه وسلم أول بناء بناه في المدينة وأول مؤسسة أسسها هو مسجده صلى الله عليه وسلم ، فالمسجد هو نواة دولة الإسلام والمسلمين، وهو مكان الصلاة فرضها ونفلها، ومكان اجتماع المسلمين، ومحل تدارسهم وتعلمهم القرآن والسنة النبوية، وفيه الدعوة إلى الله تعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه في الأمور المهمة ويجتمع بهم في المسجد، ويستقبل وفود العرب في المسجد، ويأمر بالصدقات وجمعها في المسجد ويفرقها فيه، وكان فقراء المسلمين يبيتون فيه، وربما بعض شبابهم من العزاب، يبيتون فيه ويصلون ويتهجدون في المسجد، فالمسجد كان مؤسسة عظيمة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وزمن السلف الصالح، وليس مكانا يصلي فيه الناس الفريضة ثم يخرجون ويغلق، وإنما كان كما ذكرنا مؤسسة ومعهدا ومدرسة وجامعة، بل هناك جامعات إسلامية عريقة انبثقت من المساجد، ومن أشهرها الجامع الأزهر، وهو جامعة كذلك، وجامع القرويين وجامع الزيتونة والجامع الأموي في الشام حرّره الله عز وجل من أيدي الظلمة المعتدين، وغيرها من المساجد الكبرى التي كانت في العالم الإسلامي عبارة عن جامعات.
قوله: «فأرسل إلى ملأ بني النجار، فجاءوا، فقال: يا بني النجار ثامنوني بحائطكم» ثامنوني يعني: اطلبوا ثمنا أو بايعوني أرضكم، والحائط هو الأرض المحاطة بحائط. قالوا: «لا والله، لا نطلب ثمنه إلا إلى الله» يعني: لا نطلب ثمنه وإنما هو لله، أو إنما نطلب ثمنه من الله.
قال أنس: «فكان فيه ما أقول» كان في هذه الأرض التي طلب النبي صلى الله عليه وسلم من بني النجار أن يبيعوها له، يقول أنس: «كان فيها نخلٌ وقبور المشركين وخَرِب» خرب تُروى بفتح الخاء وبكسرها، وكلاهما جائز، وهي ما تخرّب من البناء، أي كان فيها أبنيةٌ متخربة قديمة، فأزالها وسوّى الأرض.
قوله: «فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنخل فقطع» وهذا فيه جواز قطع النخل للضرورة والحاجة والمصلحة، إما لاستعمال جذوعها وخشبها، وإما لأجل أن يبنى مكانها شيء، أو أن يغرس مكانها شجر آخر، أو إذا كانت في مكان يخشى سقوطها على الناس، أو لاتحاذ مكانها مسجدا، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم هاهنا، أو أن تقطع في بلاد الكفار المحاربين نكاية بهم، وإلحاقا للضرر بهم وإضعافا لهم وهزيمة، إذا كان في ذلك مصلحة، كما قال الله تعالى: {ما قَطعتم من لينةٍ أو تركتموها قائمةً على أُصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين} (الحشر:5). وإلا فالأصل أن نترك النخيل وغيرها من الأشجار المفيدة؛ لأن ذلك من عمارة الأرض.
قوله: «وأمر بقبور المشركين فنبشت» فيه: جواز نبش القبور للمصلحة، ومعنى «النبش» أن تحفر القبور وتنقل العظام إلى مكان آخر، فالنبي [ أزال قبور المشركين، وما حولها من التراب المختلط بعظامهم، وسوى الأرض حتى تكون منبسطة صالحة للصلاة عليها ولاتخاذها مسجدا، وفي هذا دليل على أن الأرض إذا كانت مقبرة قديمة، واندرست قبورها وانمحت، أنه يجوز نبشها وتنظيفها والانتفاع بها إذا دعت الحاجة الضرورية لذلك.
قوله: «فصفوا النخل قبلة» جعلت جذوع النخل صفا في قبلة المسجد «وجعلوا عضادتيه حجارة» العضادتان جانبا باب المسجد، جعلوها من الحجارة.
وقوله: «وكانوا يرتجزون» والرجز هو نوع من الشعر، وقيل: الرجز شعر قصير، والرجز قد يكون بغير قصد، وقال بعض أهل العلم: منها قول النبي صلى الله عليه وسلم في حنين: «أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب» وهذا موزون لكنه خرج من غير قصد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول الشعر، فليس هو بشاعر، لكن قد يقول كلاما موزونا، وهذا لا ينافي الآية الكريمة: {وما علّمناه الشَّعرَ وما ينبغي له إنْ هو إلا ذكرٌ وقرآنٌ مبين} (يس: 69).
فهم يفرقون بين الرجز والشعر ببعض الفوارق منها هذا، والارتجاز وقول الشعر في حال العمل أو في حال السفر معروف عند العرب، ففيه تنشيط للنفوس، وتسهيل للعمل، ومواصلة المشي والحركة.
وكانوا يرتجزون كما في هذه الرواية فيقولون: «اللهم إنه لا خيرَ إلا خير الآخرة، فانصر الأنصار والمهاجرة» وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرتجز معهم في شعرهم، هذا أثناء عملهم في بناء المسجد.
وكانوا يقولون: اللهم إنه لا خير إلا خير الآخرة، فانصر الأنصار والمهاجرة. وفي بعض الروايات أنهم كانوا يقولون: اللهم لا خير إلا خير الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة. يعني للمهاجرين والأنصار.
وما أحسن رجزهم، وما أجمل شعرهم الذي فيه الحث على الخير، والتزهيد في الدنيا، والترغيب في الآخرة، خلافا لكثير من الأشعار والأناشيد التي لا فائدة منها ولا خير في كلماتها، سوى الطرب وتضييع الأوقات، والصد عن الذكر والقرآن!
وقد جازى الله تبارك وتعالى الأنصار خير الجزاء، وعوضهم خيرا في الدنيا والآخرة مما بذلوه لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم من الأموال والأنفس، فهم قد بذلوا من أموالهم ما بذلوا، ونصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وآووا أصحابه فرفعهم الله عز وجل فوق العالمين درجات.
{ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم}.
وصل اللهم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ابو وليد البحيرى
2024-04-30, 07:15 PM
شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 2) باب: في المسجد الذي أسس على التقوى

اعداد: الفرقان






الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

فهذا تتمة الكلام على أحاديث كتاب «الصلاة» من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء.
237.عن أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: مَرَّ بِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قُلْتُ لَهُ: كَيْفَ سَمِعْتَ أَبَاكَ يَذْكُرُ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى؟ قَالَ: قَالَ أَبِي: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِ بَعْضِ نِسَائِهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْمَسْجِدَيْنِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى؟ قَالَ: فَأَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصْبَاءَ فَضَرَبَ بِهِ الْأَرْضَ، ثُمَّ قَالَ: «هُوَ مَسْجِدُكُمْ هَذَا» لِمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، قَالَ: فَقُلْتُ: أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ أَبَاكَ هَكَذَا يَذْكُرُهُ.
الشرح:
قال الإمام المنذري: باب المسجد الذي أسس على التقوى.
وقد رواه الإمام مسلم في كتاب الحج (2/ 1015) وبوب عليه النووي (9/ 168): باب بيان أن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة.
وأورد فيه حديث أبي سلمة بن عبدالرحمن وهو ابن عوف الزهري المدني، قيل: اسمه: عبد الله، وقيل: إسماعيل، تابعيٌ ثقة مكثر، مات سنة 94 أو 104 هـ، روى له الستة.
وعبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، تابعي أيضا ثقة، مات سنة اثنتي عشرة، روى له مسلم والأربعة.
قال: إن أبا سلمة بن عبد الرحمن سأله، فقال: «قلت: كيف سمعت أباك يذكر في المسجد الذي أسس على التقوى؟» يعني الآية من سورة التوبة، حيث يقول الله تبارك وتعالى: {لمسجدٌ أُسّسَ على التَّقوى منْ أول يوم أحقُّ أنْ تقوم فيه، فيه رجالٌ يُحبون أن يتطهروا والله يحبُ المطّهرين} (التوبة: 108).
فالمسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، اختلف فيه أهل العلم، فقالت طائفة: هو مسجد قباء. وقال آخرون: هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا ما اختاره أبو سعيد الخدري، ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث إن ابنه عبدالرحمن سأله: «أيُّ المسجدين الذي أُسس على التقوى؟ فقال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت بعض نسائه، فقلت: يا رسول الله أي المسجدين الذي أسس على التقوى؟ قال: فأخذ كفاً من حصباء فضرب به الأرض» الحصباء هي الحصى الصغار، وكان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضه من الحصباء، ولم يكن مفروشا بالسجاد، ولا بالحصر ولا غيره، وإنما كان من تراب عليه حصباء.
فلما سئل النبي صلى الله عليه وسلم : أي المسجدين الذي أسس على التقوى؟ هل هو مسجد قباء أو المسجد النبوي؟ أخذ النبي صلى الله عليه وسلم كفا من الحصباء، ثم ضرب به الأرض، ثم قال: «هو مسجدكم هذا» يعني مسجد المدينة. أي: هو مسجده الشريف، وذلك أنه إذا كان مسجد قباء هو المقصود بالآية، وأنه المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، وبُنيت قواعده على البر والتقوى، والصلاح والإخلاص، فمسجد الرسول صلى الله عليه وسلم أولى بهذا الفضل والشرف، وهو داخل في الآية من باب أولى؛ لأنه أفضل عند الله عز وجل من جميع المساجد، إلا المسجد الحرام الذي بأم القرى.
وفي رواية أخرى: عن أبي سعيد رضي الله عنه أيضا: أنه اختلف رجلان من بني خدرة في المسجد الذي أسس على التقوى، فقال أبو سعيد الخدري: هو مسجد رسول الله، وقال العمري: هو مسجد قباء، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن ذلك؟ فقال: «هو هذا المسجد» لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال: «في ذلك خيرٌ كثير» الحديث عند الإمام أحمد ومسلم والترمذي والنسائي.
وقوله: «في ذلك خيرٌ كثير» يعني: مسجد قباء فيه خير كثير.
فثبت أن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد الرسول أولا، وما سواه من المساجد في الإسلام تبعٌ له؛ لأنه أشرفها وإن كان المسجد الحرام أعظم منه لكنه بني قبل الإسلام، فمسجد النبي صلى الله عليه وسلم هو أفضل مسجد أسس في الإسلام، وقد أثنى الله تعالى على أهله، فقال {فيه رجالٌ يحبون أن يتطّهروا} (التوبة: 108).
وقوله {فيه رجال} هذا وصف لهم بالرجولة، وصفات الرجولة هي الشجاعة ونصرة الحق والكرم والسماحة والحلم وغير ذلك، ووصفهم بأنهم يحبون أن يتطهروا من النجاسات، ومن الذنوب والخطايا والسيئات، ويطهروا قلوبهم مما لا يحب الله تعالى من الكفر والشك والنفاق، والحقد والغل والشقاق {والله يحب المطهرين} الطهارة المعنوية والحسية.
43-باب: فضل الصلاة في مَسْجِدِ المدينة ومكة
240.عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ امْرَأَةً اشْتَكَتْ شَكْوَى، فَقَالَتْ: إِنْ شَفَانِي اللَّهُ، لَأَخْرُجَنَّ فَلَأُصَلِّيَنَ ّ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَبَرَأَتْ ثُمَّ تَجَهَّزَتْ تُرِيدُ الْخُرُوجَ، فَجَاءَتْ مَيْمُونَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ تُسَلِّمُ عَلَيْهَا، فَأَخْبَرَتْهَا ذَلِكَ، فَقَالَتْ: اجْلِسِي فَكُلِي مَا صَنَعْتِ، وَصَلِّي فِي مَسْجِدِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: «صَلَاةٌ فِيهِ، أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَسَاجِدِ، إِلَّا مَسْجِدَ الْكَعْبَةِ».
الشرح:
قال المنذري: باب فضل الصلاة في مسجد المدينة ومكة.
وهذا الحديث رواه مسلم في الحج (2/ 1014) وبوب عليه النووي (9/166) باب فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة.
قال ابن عباس: «إن امرأة اشتكت شكوى» أي مرضت مرضا، فنذرت فقالت: «إن شفاني الله، لأخرجن فلأصلين في بيت المقدس» إنْ شفاها الله عز وجل من مرضها، وبرأت من سقمها، أن تخرج وتصلي في بيت المقدس، أي: المسجد الأقصى، والمقدس هو المطهر والمنزه.
قوله «فبرأت» أي: شفاها الله عز وجل من مرضها «ثم تجهزت تريد الخروج» أي: لأجل أن توفي بنذرها «فجاءت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تسلم عليها» أي: جاءت من أجل أن تسلّم على ميمونة بنت الحارث الهلالية رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن تسافر، وهذه سنةٌ مستحبة، أن الإنسان إذا أراد أن يسافر، يسلم على أهله وعلى أصحابه قبل السفر، وأما إذا جاء من السفر فإنّ أصحابه يأتون للسلام عليه.
فلما أخبرتها بذلك، وأنها تريد السفر لأجل الصلاة في المسجد الأقصى، لأجل أن توفي بنذرها، قالت لها ميمونة رضي الله عنها: «اجلسي فكُلي ما صنعتِ» أي: اجلسي ولا تسافري، وكلي ما صنعت، يعني ما تجهزت به للسفر من الزاد والطعام وصلي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «صلاةٌ فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد، إلا مسجد الكعبة».
وهذا من فضل سؤال أهل العلم والاتصال بهم؛ فإنهم يفيدونك بفوائد عظيمة، وينفعونك نفعا كثيرا، ويوفرون عليك الوقت والجهد والمال، والبركة والخير إنما تكون مع أهل العلم والأكابر منهم، فميمونة قالت لها: اجلسي هنا ولا تسافري، فالأمر لا يحتاج منك للسفر إلى المسجد الأقصى، وأنت بقربك المسجد النبوي؛ لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «صلاةٌ فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد» ويدخل فيه المسجد الأقصى، إلا مسجد الكعبة، فإذا صليت في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقد وفيت بنذرك وزيادة؛ وذلك لفضل المسجد النبوي على غيره من المساجد.
وعلى هذا: فمن نذر أن يفعل طاعة أو يتطوع بعبادة، فجاء بأفضل منها، فإنه يكفيه عن نذره، فلو نذر أنْ يذبح شاة، فذبح بقرة أو بعيرا بدلا من الشاة، فإنه يكفيه عن نذره وزيادة؛ فإنّ البعير والبقرة عن سبعة من الغنم، كما هي المسألة هنا، فإن المرأة نذرت أن تصلي في المسجد الأقصى، فإذا صلت في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه يكفيها عن نذرها، لأن الصلاة فيه أفضل من كل المساجد، إلا مسجد الكعبة، وذلك أن الصلاة بالمسجد النبوي بألف صلاة.
ولو نذر رجلٌ أن يصلي في المسجد النبوي، فصلى في مسجد الكعبة، كفاه أيضا عن نذره؛ لأن الصلاة في المسجد الحرام تعدل مائة ألف صلاة فيما سواه من المساجد. وهذا من الفقه والعلم الذي استفادته أم المؤمنين ميمونة زوج الرسول صلى الله عليه وسلم من زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وفي هذا الحديث: فضل الصلاة بمسجد المدينة، مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن الصلاة فيه بألف صلاة فيما سواه من المساجد، وهو يعم الصلوات كلها فرضها ونفلها.
وفيه: أن المسجد الحرام أفضل عند الله تعالى من جميع المساجد.
وفي هذا الحديث: دليل على جواز الفُتيا والقضاء، والنبي صلى الله عليه وسلم حيٌ، إذا وثق الصحابي بعلمه وما عنده من الدليل، وذلك أن ميمونة رضي الله عنها أفتت ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي موجود بين أظهرهم، وقد أفتت المرأة بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وفهمت من كلامه.
ولو حصل خطأ من الصحابي في الفتيا أو التبليغ في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنّ الوحي سيبلغ النبي صلى الله عليه وسلم بقوله، أو إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقره على كلامه، وينكر عليه، كما أفتى بعض الصحابة الصحابي الذي أصابته جنابة وفي رأسه شجةٌ – أي جرح – بوجوب الغسل، ولم يرخصوا له بالتيمم لقدرته على الماء، وأمروه أن يغتسل فاغتسل فمات رضي الله عنه، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: «قتلوه قتلهم الله! ألا سألوا إذْ لم يَعلمَوا؛ فإنما شفاء العيِّ السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده» رواه أبو داود (336) من حديث جابر وابن عباس رضي الله عنهما.
وفي حديث عمرو بن العاص قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقتُ إنْ اغتسلت أنْ أهلك، فتيممت، ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: «يا عمرو، صليت بأصحابك وأنتَ جنب؟» فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت: إني سمعت الله يقول {ولا تقتُلوا أنفسَكم إنَّ الله كان بكم رحيما} (النساء: 29). فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقلْ شيئا. رواه أبو داود (334).
أي إنه صلى الله عليه وسلم أقره على اجتهاده.
وهناك جملة وافرة من فتاوى الصحابة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته، وقد اعتنى بها العلماء قديماً وحديثا لمكانتها من الدين، ولأنها فهم السلف الصالح لهذه الأمة، وهي مصداق قوله صلى الله عليه وسلم : «تَسمعون ويُسمعُ منكم، ويُسمعُ ممن يَسمعُ منكم» رواه أحمد وأبو داود من حديث ابن عباس.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وأما أقوال الصحابة؛ فإن انتشرت ولم تنكر في زمانهم فهي حجة عند جماهير العلماء، وإن تنازعوا رد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، ولم يكن قول بعضهم حجة مع مخالفة بعضهم له باتفاق العلماء، وإن قال بعضهم قولا ولم يقل بعضهم بخلافه ولم ينتشر؛ فهذا فيه نزاع، وجمهور العلماء يحتجون به كأبي حنيفة ومالك وأحمد في المشهور عنه، والشافعي في أحد قوليه، وفي كتبه الجديدة الاحتجاج بمثل ذلك في غير موضع، ولكن من الناس من يقول: هذا هو القول القديم».
(مجموع الفتاوى / الجزء العشرون: فصل في أقوال الصحابة)
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله في «إعلام الموقعين»: «فصل: الأصل الثاني: فتاوى الصحابة: الأصل الثاني من أصول فتاوى الإمام أحمد ما أفتى به الصحابة، فإنه إذا وجد لبعضهم فتوى لا يعرف له مخالف منهم فيها،لم يعدُها إلى غيرها، ولم يقل إن ذلك إجماع، بل من ورعه في العبارة يقول: لا أعلم شيئا يدفعه، أو نحو هذا، كما قال في رواية أبي طالب: «لا أعلم شيئا يدفع قول ابن عباس وابن عمر وأحد عشر من التابعين عطاء ومجاهد وأهل المدينة على تسري العبد» وهكذا قال أنس بن مالك: «لا أعلم أحدا رد شهادة العبد» حكاه عنه الإمام أحمد، وإذا وجد الإمام أحمد هذا النوع عن الصحابة، لم يقدم عليه عملا ولا رأيا ولا قياسا».
ثم قال: «فصل: الأصل الثالث: الاختيار من أقوال الصحابة إذا اختلفوا.
الأصل الثالث من أصوله إذا اختلف الصحابة تخير من أقوالهم ما كان أقربها إلى الكتاب والسنة، ولم يخرج عن أقوالهم، فإنْ لم يتبين له موافقة أحد الأقوال حكي الخلاف فيها ولم يجزم بقول».
(إعلام الموقعين: فصل الأصول التي بنيت عليها فتاوى ابن حنبل).
وقد اعتنى بأقوال الصحابة وفتاواهم الأئمة قديماً وحديثا، كالإمام مالك في الموطأ، وعبد الرزاق وابن أبي شيبة في مصنفيهما، والبخاري في كتبه، وابن حزم في المحلى، وابن عبد البر في الاستذكار، والنووي في شرح المهذب، وابن قدامة في المغني، وغيرهم كثير، وفي هذه الكتب من أقوال الصحابة في المسائل الفقهية وغيرها الشيء الكثير الكثير.
كما اعتنى الإمام الطبري وابن كثير والقرطبي والسيوطي في تفاسيرهم بذكر أقوال الصحابة في تفسير القرآن ومعانيه.

ابو وليد البحيرى
2024-05-04, 04:09 AM
شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 3 ) باب: إتيان مسجد قباء والصلاة فيه
اعداد: الفرقان


الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فهذا تتمة الكلام على أحاديث كتاب «الصلاة» من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء.
241.عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْتِي مَسْجِدَ قُبَاءٍ رَاكِبًا وَمَاشِيًا، فَيُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ فِي رِوَايَتِهِ: قَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ: فَيُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ.
الشرح: قال المنذري: باب إتيان مسجد قباء والصلاة فيه.
وقد أخرجه الإمام مسلم في الحج (2/1016) وبوب النووي: باب فضل مسجد قباء، وفضل الصلاة فيه وزيارته.
عن نافع هو مولى ابن عمر، أبو عبدالله المدني تابعي ثقة ثبت، فقيه مشهور، مات سنة 117 هـ، روى له الستة.
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي مسجد قباء راكبا وماشيا» كان للاستمرار، أي من عادة الرسول الله صلى الله عليه وسلم المستمرة أن يأتي مسجد قباء، وقباء المشهور فيه المد والتذكير والصرف، وفي لغة: «قبا» مقصور دون همز، وهو من عوالي المدينة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي هذا المسجد الذي هو أول مسجد أسس في المدينة على التقوى، يليه مسجده صلى الله عليه وسلم ، كان يأتيه راكباً وماشيا.
وفي رواية لمسلم (2/1017): عن عبدالله بن دينار أن ابن عمر: كان يأتي قُباء كلَّ سبت. وكان يقول: رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم يأتيه كل سبتٍ.
قال أهل العلم: كل سبت، يعني: كل أسبوع، ويمكن أن يراد به ظاهره أنه يأتي في كل يوم سبت.
وفي هذا الحديث: مشروعية زيارة مسجد قباء، وإتيانه راكبا وماشيا، وأخذ منه أهل العلم جواز تخصيص بعض أيام الأسبوع لزيارة المسجد، وهو قول الجمهور.
ومنها: ما تعارف عليه أهل العلم من تخصيص بعض الأيام بالدروس، مثل درسنا هذا في يوم السبت بعد المغرب، أي: لا حرج في هذا العمل، فلا يأتي إنسان فيقول: لا يجوز تخصيص يوم بالدرس، وهذه بدعة؟ نقول: لا، على هذا جرى عمل أهل العلم قديما وحديثا، أنهم يخصصون بعض الأيام أو الساعات للتدريس والتعليم، لحفظ ومدارسة القرآن وقت، ولتعليم الفقه وقت، وللعقيدة والحديث وقت وهكذا.
وقال العلامة صديق حسن خان: وهكذا جميع المواضع الفاضلة، تجوز زيارتها راكبا وماشيا.
قوله: «فيصلي فيه ركعتين» فيه بيان فضل البقعة، وفضل مسجد قباء والصلاة فيه، وأنه تستحب زيارته الصلاة فيه.
وقد جاء في الحديث الصحيح: أن الصلاة فيه تساوي عمرة، فقد قال صلى الله عليه وسلم : «صلاةٌ في مسجد قُباء، تَعدل عمرة». رواه أحمد والترمذي.
وهذا يدل على فضل عظيم، وأجر كبير، وثواب وفير، في عمل قليل أن تتوضأ ثم تقصد مسجد قباء فتصلي فيه ركعتين، تكون لك كعمرة.
وقد جاء عن الصحابة ما يدل على اهتمامهم بالصلاة فيه والحث عليها، فقد روى عمر بن شبة في (تاريخ المدينة) عن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص قالت: سمعت أبي يقول: «لأن أصلي في مسجد قباء ركعتين، أحب إليَّ من أن آتي بيت المقدس مرتين، لو يعلمون ما في قباء لضربوا إليه أكباد الإبل». قال الحافظ ابن حجر: وإسناده صحيح.
وروى ابن أبي شيبة نحوه في المصنف.
وروى عبد الرزاق في المصنف (9163): عن عمر بن الخطاب أنه قال: «لو كان مسجد قباء في أفقٍ من الآفاق، لضربنا إليه أكباد المطي».
فعلى المسلم إذا كان في المدينة النبوية ألا يفوت الصلاة في مسجد قباء، فيصلي فيه ركعتين، سواء كان ذلك بالنهار أم بالليل، لا فرق في ذلك.
والله تعالى أعلم.
45- باب: فضل من بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا
242.عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ: أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ أَرَادَ بِنَاءَ الْمَسْجِدِ، فَكَرِهَ النَّاسُ ذَلِكَ، وَأَحَبُّوا أَنْ يَدَعَهُ عَلَى هَيْئَتِهِ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ [ يَقُولُ: «مَنْ بَنَى مَسْجِدًا لِلَّهِ، بَنَى اللَّهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ مثله».
الشرح: قال المنذري رحمه الله: باب فضل من بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا.
وهذا الحديث أخرجه الإمام مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة برقم (533) وبوب عليه النووي: باب فضل المساجد والحث عليها.
وأخرجه البخاري (450) في كتاب الصلاة، باب: منْ بنى مسجدا.
عن محمود بن لبيد وهو ابن عقبة بن رافع الأوسي الأشهلي، من صغار الصحابة، جل روايته عن الصحابة، مات سنة (96) هـ وقيل (97) وله تسع وتسعون سنة، روى له مسلم والأربعة.
أن عثمان بن عفان رضي الله عنه أمير المؤمنين، وثالث الخلفاء الراشدين «أراد بناء المسجد» أي: أراد توسعة المسجد النبوي؛ لأنه كان مبنيا قبل ذلك، وذلك بعد أن كثُر الناس وزاد عددهم، فلم يعد المسجد قادراً على استيعابهم.
قوله: «فكره الناس ذلك وأحبوا أن يدعه على هيئته» أي إن الصحابة رضي الله عنهم كرهوا أن يزيد في المسجد النبوي، أو أنْ يغير من بنائه الذي بناه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة سابقا، وأحبوا لو أنه تركه كما هو.
وقال البغوي في شرح السنة: لعل الذي كره الصحابة من عثمان، بناؤه بالحجارة المنقوشة، لا مجرد توسيعه.
قوله: فقال عثمان: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من بنى مسجداً لله، بنى الله له في الجنة مثله» هذه حجة عثمان في تجديده للمسجد النبوي، وبنائه إياه بناء أوسع مما كان عليه، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من بنى مسجدا لله ».
وعند البخاري: قال عثمان: أكثرتم عليّ، وإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول.. فذكره.
وقوله «لله» يدل على الإخلاص، أنه بنى المسجد يريد الأجر والثواب من الله، وفي بعض روايات مسلم: «منْ بنى مسجداً يبتغي به وجه الله» أي يطلب رضاه، وهذا أيضا فيه تنبيهٌ على الإخلاص، وأنه ليس له غرضٌ ولا قصد في بناء المسجد، إلا أنه يبتغي وجه الله تبارك وتعالى.
وقوله: «مسجدا» بالتنكير للشيوع، فيدخل فيه الكبير والصغير.
قوله: «بنى الله له في الجنة مثله» مثله يعني بيتاً مثله، إما بصفته وسعته، ومعلوم أن الجنة فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فهو وإن كان مسماه مسمى البيت، لكن هو يختلف عن بيوت الدنيا لأنه من بيوت الجنة، وبيوت الجنة كبقية نعيم الجنة وما فيها من الزخرف والذهب والفضة، واللؤلؤ والياقوت والمرجان، والمسك الذي هو تربتها وغير ذلك، فليس في الدنيا شيءٌ مما في الجنة إلا مجرد الأسماء، كما قال ابن عباس: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء.
وقيل: معنى «بنى الله له مثله في الجنة» أن بيته في الجنة يكون له فضل كفضل المساجد على بيوت الدنيا، أي له من الشرف والفضل والمكانة، مثل ما للمسجد من الشرف والفضل والمكانة، على بيوت الناس في الدنيا.
قال النووي في معنى قوله «مثل»: يحتمل مثله في القدر والمساحة، ولكنه أنفس بزيادات كثيرة، ويحتمل مثله في مسمى البيت، وإنْ كان اكبر مساحة وأشرف. انتهى.
وقد أثنى الله سبحانه على من يعمر مساجده وبيوته بكتابه الكريم، فقال: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} (التوبة: 18).
وعمارة المساجد كما تكون بإقامتها وإنشائها، تكون بترميمها وتعاهدها وصيانتها، وهو كله مما يدخل في الصدقة الجارية، ولو كانت المشاركة بمبلغ قليل، يدل على ذلك ما ورد في الحديث الصحيح: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ: عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ، وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ أو مسجدًا بَنَاهُ أو بَيتًا لِابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أو نَهْرًا أَجْرَاهُ، أو صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ في صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ، يَلْحَقُهُ مِنْ بعد مَوته». رواه ابن ماجة وحسنه الألباني.
وفضل الإنفاق على المساجد وتعميرها والإسهام في استمرارها وبنائها حاصل ولو بأقل القليل، كما ورد عَنْ النَّبِي صلى اللَّه عليه وسلَم أَنَّه قَالَ: «مَنْ بَنَى مَسْجِدًا لِلَّهِ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ، أَوْ أَصْغَرَ، بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ». رواه ابن ماجة وابن خزيمة.
قال السندي في شرحه لابن ماجة: وقَوْله: «كَمَفْحَصِ قَطَاة» هُوَ مَوْضِعهَا الذي تُخَيِّم فِيهِ وَتَبِيض؛ لِأَنَّهَا تَفْحَص عنْه التُّراب، وَهَذا مَذْكُور لِإِفَادَةِ الْمُبَالَغَة فِي الصِّغَر، وَإِلَّا فَأَقَلّ الْمَسْجِد أَنْ يَكُون مَوْضِعًا لِصَلَاةِ وَاحِد.ٍ انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (1/ 545): وَحَمَلَ أَكْثَر الْعُلَمَاءِ ذَلِكَ عَلَى الْمُبَالَغَةِ؛ لِأَنَّ الْمَكَانَ الَّذِي تَفْحَصُ الْقَطَاة عَنْهُ لِتَضَع فِيهِ بَيْضَهَا وَتَرْقُد عَلَيْهِ، لَا يَكْفِي مِقْدَاره لِلصَّلَاةِ فِيهِ، ويؤيده رواية جابر هذه. وَقِيلَ: بَلْ هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَالْمَعْنَى أَنْ يَزِيدَ فِي مَسْجِدٍ قَدْرًا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ تَكُونُ تِلْكَ الزِّيَادَة هَذَا الْقَدْر. أَوْ يَشْتَرِكُ جَمَاعَة فِي بِنَاءِ مَسْجِدٍ، فَتَقَعُ حِصَّة كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ذَلِكَ الْقَدْر انتهى.
وفي هذا الحديث: فضل عثمان رضي الله عنه وهو ثالث الخلفاء الراشدين، فقد وسع المسجد النبوي توسعة عظيمة، وأنفق فيه نفقات كثيرة، وهذا من فضائله صلى الله عليه وسلم .
وفيه: احتجاج الصحابة بالدليل والحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم عند المناظرة، وقبل الإقدام على العمل، فقد احتج بالحديث على من كره توسعة المسجد النبوي.
فائدة: قال ابن الجوزي: منْ كَتَب اسمه على المسجد الذي يبنيه، كان بعيدا عن الإخلاص. انتهى.
قلت: وهذا إذا كان بمكان يعرفه فيه الناس، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد

ابو وليد البحيرى
2024-05-07, 11:44 PM
شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 4 ) باب: فضل المساجد
اعداد: الفرقان



الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

فهذا تتمة الكلام على أحاديث كتاب «الصلاة» من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء.

244.عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهن : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللَّهِ مَسَاجِدُهَا، وَأَبْغَضُ الْبِلَادِ إِلَى اللَّهِ أَسْوَاقُهَا».

الشرح: قال المنذري: باب فضل المساجد.

وهذا الحديث أخرجه الإمام مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، وبوب عليه النووي باب: فضل الجلوس في مصلاه بعد الصبح وفضل المساجد.

عن عبدالرحمن بن مهران مولى أبي هريرة رضي الله عنه ، ويقال: مولى الأزد، أبو محمد المدني، تابعي، قال أبو حاتم: صالح، وذكره ابن حبان في الثقات، روى له مسلم والنسائي.

والمولى يطلق ويراد به العبد الرقيق، ويطلق ويراد به السيد، ويطلق على ابن العم والناصر وغير ذلك، والمراد هاهنا أنه كان رقيقا لأبي هريرة.

قال: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أحبُّ البلاد إلى الله مساجدها» وجاء بلفظ: «أحب البقاع إلى الله المساجد»، وذلك أن المساجد هي محل الصلوات المفروضة والمسنونة، ومحل قراءة القرآن، والدعاء والذكر، وحضور الملائكة واستماع الصالحين، ومحل حلقات العلم والتدريس، وتحفيظ كتاب الله، وغير ذلك من فضائلها، فهي بيوت الطاعات وبيوت العبادات، وهي مؤسسة على البر والتقوى، فهذه هي المساجد قد أسست لأجل العبادة والطاعة، فهنيئا لمن وفقه الله لعمارتها.

ويدل على شرف المساجد أدلة كثيرة منها: أن الله تعالى نسبها إلى نفسه، فقال {وأنّ المساجدَ لله فلا تَدعوا مع الله أحداً} (الجن: 18).

وأن الله عز وجل أمر ببنائها ورفعها، ومدح من يعمرها بالبناء وبالصلاة والذكر، ووعدهم الأجر الحسن، فقال: {في بُيوتٍ أَذن الله أن تُرفعَ وُيذكر فيها اسمُه يُسبّح له فيها بالغُدو والآصال رجالٌ لا تُلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكرِ الله وإقام الصّلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلّب فيه القلوبُ والأبصار ليَجزيهم اللهُ أحسنَ ما عملوا ويزيدهم منْ فضله} (النور: 37 -38).

وأيضا فإنّ عمارة المساجد من علامات الإيمان، كما قال الله تعالى: {إنما يَعمرُ مساجدَ الله منْ آمنَ بالله واليوم الآخرِ وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخشَ إلا الله فعسى أُولئك أنْ يكونوا من المهتدين} (التوبة: 18).

وعمارة المسجد تكون عمارة حسية وعمارة معنوية، أما العمارة الحسية: فهي بناء المساجد وتشييدها وصيانتها، وأما العمارة المعنوية: فهي أن تعمر بيوت الله بالصلاة فيها، وبالاعتكاف فيها، والجلوس فيها بعد الصلاة ولانتظار الصلاة بعد الصلاة، وبقراءة القرآن، بعض الناس يهجر المساجد، فلا يكاد يدخل بيوت الله، ولا يعمر مساجد الله، وهذا ضد الإيمان، فالإيمان أن تعمر مساجد الله.

ومن عمارة المساجد: إحياؤها بالدروس العلمية، وحلقات تحفيظ القرآن واجتماع الصالحين، وإقامة الندوات والمحاضرات العلمية، وما أشبه ذلك فكله من تعمير المساجد.

وكانت المساجد في عصور الإسلام الأولى، معمورة بالصلوات وبالذكر وقراءة القرآن، والدروس والخطب ونشر العلم، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعقد الاجتماعات في مسجده الشريف، فيشاور المسلمين فيه، ويرسل منه القادة، وتنطلق منه الجيوش، ويعزي الناس في المسجد إذا جاء خبر وفاة بعض أصحابه وقادته، ويهنئ الناس بما يسرهم فيه من النصر والبشارات، وهكذا، فقد كان المسجد هو قاعدة الأمة الذي تنطلق منه، وقلبها النابض، وليس مكاناً لمجرد أن يصلي فيه الإنسان ركعتين أو ثلاثا، ثم يخرج ويغلق ويهجر!

وعقوبة تعطيل وهدم المساجد من أشد العقوبات عند الله تعالى، كما قال الله عز وجل: {ومنْ أظلم ممن مَنعَ مساجدَ الله أنْ يُذكر فيها اسمُه وسَعَى في خرابها أولئك ما كان لهم أنْ يَدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزيٌ ولهم في الآخرة عذابٌ عظيم} (البقرة: 114).

فمن يغلق المساجد ويمنع الناس من الصلاة فيها والذكر، وإقامة شعائر الدين، وعقد الدروس العلمية وتعليم الناس ما يجهلون من أمور دينهم، فهذا تخريب معنوي عظيم للمساجد، وفيه عقوبات عظيمة في الدنيا والآخرة، أما التخريب الحسي فهو أن يهدم المسجد ويخرب، كما يفعل أعداء الله عز وجل اليوم من النصيرية الكفرة الملاحدة بالشام، فيضربون المساجد بالمدافع، ويقصفون المآذن بالدبابات وبالطائرات، فلا إيمان لهم يردعهم عن ذلك، ولا تعظيم للرحمن جل جلاله في قلوبهم، ولا دولة إسلامية قوية ترهبهم؛ ولذا تجرأوا على الله عز وجل، وعلى بيوته، وتجرأوا على دماء المؤمنين وأعراضهم، والله سبحانه وتعالى سيخزيهم ويذلهم عاجلا أو آجلا، ويجعلهم عبرة وآية لخلقه وللناس أجمعين {إنَّ ربّكَ لبالمرصاد} (الفجر: 14).

وأيضا مما يدل على شرف المساجد: أنّ منْ تعلّق قلبه بالمساجد، أظله الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله، كما في الحديث: «ورجلٌ قلبه معلقٌ بالمساجد» أي: كلما خرج منها عاد إليها، حتى لو سافر فإنه أول ما ينزل بالمكان، يسأل: هل هناك مسجد قريب؟ لأن قلبه متعلق ببيوت الرحمن، لا يستطيع مفارقاتها سواء كان في الحل أو الترحال.

قوله: «وَأَبْغَضُ الْبِلَادِ إِلَى اللَّهِ أَسْوَاقُهَا» وأما الأسواق فإنها أبغض البقاع إلى الله تعالى؛ لأن الأسواق محل الغفلة عن ذكر الله وعن الصلاة، ولأن الأسواق فيها الغش والخداع، والأيمان الكاذبة، فيحلف أحدهم بالله وهو كاذبٌ من أجل أن يروّج سلعته، وفي الأسواق أيضا أكل الربا، وإخلاف الوعد، وغير ذلك، وأما في زماننا فالأسواق اليوم صارت محلا لتبرج النساء وتعريهن! وخروجهن بملابس غير ساترة، واختلاطهن بالرجال، وكأنها تعرض نفسها على الناس في الأسواق، والعياذ بالله! وهذا ما زاد بلاء الأسواق بلاء!

ومن البلاء الحادث في الأسواق اليوم: وجود البائعات المتبرجات في المحلات التجارية بالأسواق! فيدخل الإنسان إلى المحل التجاري وإذا الباعة كلهم من النساء المتبرجات المائلات، ولا حول ولا قوة إلا بالله!!

فهذه الأمكنة حريٌ أن يخسف الله بها وبأهلها؛ لكثرة المعاصي التي تقع فيها، عافانا الله جميعا من كل شرٍ وبلاء.

47- باب: فضل كثرة الخُطى إلى المساجد

245. عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ بَيْتُهُ أَقْصَى بَيْتٍ فِي الْمَدِينَةِ، فَكَانَ لَا تُخْطِئُهُ الصَّلَاةُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ: فَتَوَجَّعْنَا لَهُ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا فُلَانُ، لَوْ أَنَّكَ اشْتَرَيْتَ حِمَارًا يَقِيكَ مِنْ الرَّمْضَاءِ، وَيَقِيكَ مِنْ هَوَامِّ الْأَرْضِ، قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنَّ بَيْتِي مُطَنَّبٌ بِبَيْتِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ: فَحَمَلْتُ بِهِ حِمْلًا، حَتَّى أَتَيْتُ نَبِيَّ اللَّهِ فَأَخْبَرْتُهُ، قَالَ: فَدَعَاهُ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَذَكَرَ لَهُ أَنَّهُ يَرْجُو فِي أَثَرِهِ الْأَجْرَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ لَكَ مَا احْتَسَبْتَ».

الشرح: يقول المنذري رحمه الله: باب كثرة الخطى إلى المساجد. وهذا الحديث في كتاب المساجد في صحيح مسلم، وبوب عليه النووي رحمه الله: باب فضل الصلاة المكتوبة في جماعه وفضل انتظار الصلاة وكثرة الخطى إلى المساجد وفضل المشي إليها.

عن أبي بن كعب هو ابن قيس بن النجار الأنصاري الخزرجي، أبو المنذر الصحابي المشهور الذي هو من سادة قراء القرآن وحفظة الكتاب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد اختلف في سنة موته اختلافاً كثيرا، فقيل: سنة 19 هـ، وقيل: 32 هـ، وقيل غير ذلك، روى له الستة.

يقول: «كان رجل من الأنصار بيته أقصى بيت في المدينة» أقصى بيت يعني: أبعد بيت في المدينة عن المسجد النبوي، ومع ذلك «كانت لا ُتخطئه الصلاةُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم » سبحان الله! أبعد شخص في المدينة عن المسجد النبوي، مع ذلك كانت لا تفوته ولا تخطئه الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمسجده الشريف.

قوله: «فتوجعنا له» أي: تألمنا له وتوجعنا؛ لأن المسافة البعيدة ذهابا وإيابا.

قوله: «فقلت له: يا فلان، لو أنك اشتريت حمارا يقيك من الرمضاء، ويقيك من هوام الأرض» قال له: لو أنك اشتريت حمارا يحملك في ذهابك وفي إيابك، ويخفف عنك المشي، ويعينك على الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . والرمضاء: هي شدة الحر، أو الرمل الحار الذي يكون في شدة الحر في الظهيرة، وهوام الأرض: أي الحيات والثعابين والعقارب.

قوله: «أما والله ما أحب أن بيتي مطنب ببيت محمد صلى الله عليه وسلم » أي قال لهم: ما أُحب أن يكون بيتي مشدودا بالأطناب، والأطناب معروفة واحدها طنب، وهي الأوتاد التي تشدّ بها الخيمة، يقول: أنا ما أحب أن يكون بيتي قريبا من المسجد بجوار بيت الرسول صلى الله عليه وسلم ، كأن بيتي مشدود بأطناب بيت رسول الله، وبيوت النبي صلى الله عليه وسلم كانت ملاصقة لجدار مسجده، ومقصده أن تكثر خطاه إلى المسجد، فيكثر ثوابه بالمشي.

قال: «أبي بن كعب: فحملت به حملاً» أي لما قال هذه الكلمة، لما قال: ما أحب أن أكون بجوار بيت الرسول صلى الله عليه وسلم ! كأنما ثقلت على أبي بن كعب رضي الله عنه هذه الكلمة، ورآها كبيرة بحق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذهب أُبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بالكلام الذي سمعه من الرجل.

فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فسأله، فقال له مثل ذلك، وذكر له أنه يرجو في أثره ومشيه إلى المسجد الأجر والثواب في ذهابه وإيابه.

فقال له النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك: «لك ما احتسبت» يعني أن الله عز وجل أعطاك ما احتسبت، مما رجوت من الأجر الجزيل، والثواب الجميل، إن احتسبت الأجر والثواب في ذهابك وإيابك.

وقد وردت أحاديث في فضل المشي إلى المساجد:

في حديث لجابر رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم حثّ بعض الأنصار على عدم الانتقال بقرب المسجد، يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: خلت البقاع حول مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم - أي صار هناك أماكن خالية حول المسجد - فأراد بنو سلمة - وهم قبيلة معروفة من الأنصار - أرادوا أن يتحولوا إلى قرب المسجد، أي أرادوا أن يغيروا سكنهم ويسكنوا بقرب المسجد، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا بني سلمة، دياركم ُتكتب آثاركم، دياركم ُتكتب آثاركم» أي: ابقوا في محلكم وسكنكم، لتكتب لكم خطواتكم في ممشاكم إلى المسجد. فقالوا رضي الله عنهم: «ما كان يسرّنا أنا كنا تحولنا» يعني الحمد لله أنا سمعنا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن ننتقل، وإلا كان فاتنا الأجر والحسنات، لو أنّا تحولنا بقرب المسجد، لفاتنا الأجر والثواب، فيقولون: ما كان يسرنا، أي ما كان يفرحنا، لو أننا فاتنا هذا الأجر والثواب.

وقوله: «دياركم تكتب آثاركم» يعني إلزموا دياركم، لتكتب آثاركم، أي آثار خطواتكم للمسجد إذا لزمتوها.

وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج عامدا إلى الصلاة، فإنه في صلاةٍ ما كان يَعمدُ إلى الصلاة، وإنه يُكتب له بإحدى خطوتيه حَسنةٌ، وُيمحى عنه بالأخرى سيئةٌ، فإذا سمع أحدكم الإقامة فلا يسعَ، فإنّ أعظمكم أجرا، أبعدُكم داراً» قالوا: لم يا أبا هريرة؟ قال: منْ أجلِ كثرةِ الخُطى» متفق عليه.

وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ أعظمَ الناسِ أجراً في الصلاة، أبعدُهم إليها ممشى فأبعدهم...» متفق عليه.

وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «منْ راحَ إلى مسجد الجماعة، فخطوةٌ تمحو سيئة، وخطوةٌ تكتب له حسنة، ذاهباً وراجعا «رواه أحمد وابن حبان.

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ألا أدلُّكم على ما يمحو الله به الخَطايا، ويَرفع به الدرجات؟» قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «إسباغُ الوضوء على المكاره، وكُثرةُ الخُطى إلى المساجد، وانتظارُ الصلاةِ بعد الصلاة، فذلكم الرباطُ، فذلكم الرباط» رواه مالك ومسلم.

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «منْ غَدا إلى المسجد أو راح، أعدّ الله له في الجنة نزلاً، كلما غدا أو راح» متفق عليه.

وعن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «بَشّر المشّائين في الظُّلم إلى المساجد، بالنّور التام يوم القيامة» رواه أبو داود والترمذي.


وغيرها من الأحاديث النبوية.
والله تعالى أعلم.

ابو وليد البحيرى
2024-05-12, 10:34 AM
شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 5 ) باب: المَشي إِلَى الصلاة تمحى به الخَطايَا وتَرْفَعُ به الدَرَجَات
اعداد: الفرقان

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فهذا تتمة الكلام على أحاديث كتاب «الصلاة» من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء.
243.عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ [: «مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ مَشَى إِلَى بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ، لِيَقْضِيَ فَرِيضَةً مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ،كَانَتْ خَطْوَتَاهُ إِحْدَاهُمَا تَحُطُّ خَطِيئَةً، وَالْأُخْرَى تَرْفَعُ دَرَجَة».
الشرح: قال المنذري: باب المشي إلى الصلاة ُتمحى به الخطايا، وترفع به الدرجات.
وهذا الحديث رواه الإمام مسلم في الموضع السابق، وهو في الباب نفسه المتقدم الذي بوبه الإمام النووي.
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من تطهر في بيته» يعني توضأ أو اغتسل. «ثم مشى إلى بيت من بيوت الله» ثم خرج من بيته ومشى إلى مسجد من مساجد الله، أي: ليقضي فريضة من فرائض الله، أي: قصد المسجد لأداء الفريضة أو النافلة أو قراءة القرآن، ولم يقصده لشيء آخر، لم يقصده لأجل الدنيا، أو الصحبة والأنس بالناس، وإنما قصده لأجل العبادة.
قوله: «كانت خطوتاه إحداهما تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة» كل خطوة يخطوها نحو المسجد تحط عنه خطيئة، أي تمحو عنه سيئة، والخطوة الثانية ترفع له عند الله درجة، فالإنسان إذا مشى إلى المسجد وكان بيته قريبا من المسجد كم خطوة يخطوها؟ على أقل الأحوال يمكن أن يخطو مئة خطوة أو خمسين خطوة، يعني خطواتك هذه تمحو خمسين سيئة عنك، وترفع لك خمسين درجة في الجنة.
وإذا رجع أيضا فالأجر ثابت له بعدد الخطوات؛ لأن الرجوع مكمّل للعبادة.
وفي حديث آخر: أن النبي [ قال: «منْ غَدا إلى المسجد أو رَاح، أعدّ اللهُ له في الجنة نُزلاً، كلما غَدا أو راح» رواه مسلم.
وقال أيضا: «ألا أدلُّكم على ما يَمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟» قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «إسباغ الوضوء على المكاره، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط فذلكم الرباط» رواه مسلم.
وقد ذكرنا جملة من الأحاديث في هذا في الباب السابق.
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد.
49- باب: إتيان الصلاة بالسكينة وترك السعي
244 عَن أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ فَسَمِعَ جَلَبَةً، فَقَالَ: «مَا شَأْنُكُمْ؟» قَالُوا: اسْتَعْجَلْنَا إِلَى الصَّلَاةِ، قَالَ: «فَلَا تَفْعَلُوا، إِذَا أَتَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا سَبَقَكُمْ فَأَتِمُّوا».
الشرح: قال المنذري في كتاب الصلاة: باب إتيان الصلاة بالسكينة وترك السعي، وأورد فيه حديث أبي عبد الله بن أبي قتادة، وهذا الحديث رواه الإمام مسلم في كتاب المساجد، وبوب عليه النووي: باب استحباب الصلاة بوقار وسكينة، والنهي عن إتيانها سعيا.
قال: عن أبي قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري، شهد أحدا وما بعدها، مات سنة 54 هـ، وقيل: سنة 38 هـ.
قال: «بينما نحن نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمع جَلَبة» والجلبة هي أصوات الحركة والاستعجال في المشي والكلام، والإنسان إذا هرول أو ركض يصدر له صوت في الأرض، وحركة في الثياب.
قوله: «فقال: ما شأنكم؟ قالوا: استعجلنا إلى الصلاة» فالنبي [ سألهم بعد الصلاة عن سبب الحركة والصوت، فقالوا: استعجلنا إلى الصلاة، فقال: «فلا تفعلوا، إذا أتيتم الصلاة فعليكم السكينة» فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الركض والهرولة والاستعجال إلى الصلاة المنافي للسكينة، ولو كان القصد هو الحرص على إدراك الصلاة.
وقال لهم: «إذا أتيتم الصّلاة فعليكم السّكينة» والسكينة من السكون والتأني وترك العبث، وجاء في حديث أبي هريرة مرفوعا: «إذا أقيمت الصلاة، فلا تأتوها وأنتم تسعون، وَأْتُوها وأنتم تمشون، وعليكم السكينة» يعني حتى لو أقيمت الصلاة وسمعتم الإقامة، فلا تأتوها وأنتم تسعون، أي تركضون، بل ائتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة.
وفي لفظ لمسلم أيضا: «إذا أُقيمت الصلاة فلا يَسعى إليها أَحدُكم، ولكنْ ليمش وعليه السكينة والوقار»، والسكينة والوقار قيل: هما بمعنى واحد، وإنما جمع بينهما تأكيدا، وقيل: إن السكينة تكون في الحركة، والوقار يكون في الهيئة وخفض الصوت، والإقبال على طريقه بغير التفات، مع غض البصر.
وفي هذه الأحاديث: الحث على إتيان الصلاة بالسكينة والوقار، والنهي عن إتيانها سعيا أو ركضا أو هرولة، سواء كان ذلك في صلاة الجمعة أو في غيرها من الصلوات، وسواء أُقيمت الصلاة أو لم تقم، وسواء خاف فوات الركعة أو لم يخف، فالجميع سواء في الحكم النبوي.
فإذا قال قائل: فما الجمع بين قول النبي صلى الله عليه وسلم هنا«فلا تأتوها وأنتم تسعون، واتوها وأنتم تمشون» وقول الله تعالى {فاسْعوا إلى ذكْر الله} (الجمعة)؟
فالجواب: أن السعي في الآية يقصد به: العمل والذهاب، أي إذا نودي للصلاة هو الذهاب والفعل، يعني اشتغلوا بالذهاب إلى الجمعة، ولا تشتغلوا بشيء آخر من البيع والشراء وغيرها من العقود.
وكما قال الله تعالى {وأنْ ليسَ للإنسان إلا ما سَعَى} (النجم).
أي: ليس له إلا ما عمل، وما قدّم من فعل وقول.
قوله صلى الله عليه وسلم : «فما أدركتم فصلوا وما سبقكم فأتموا»، وفي رواية «فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا» دليل على أن ما أدركه المسبوق مع الإمام هو أول صلاته، وما يأتي به بعد سلام الإمام هو آخر صلاته وتمامها؛ لأن النبي [ قال: «وما فاتكم فأتموا» وهذا قول الجمهور من أهل العلم.
وعكسه الحنفية فقالوا: ما أدركه مع الإمام هو آخر صلاته، يعني إذا أدرك مع الإمام الثالثة والرابعة تكون الثالثة والرابعة في حقه؟!
وحجة الجمهور أن أكثر الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم : «وما فاتكم فأتموا» فالإتمام لغة وشرعاً يعني إتمام ما تبقى، وتكميل ما فات، من الصلاة أو غيرها، وما جاء في بعض الروايات بلفظ «واقض ما سبقك»، فالمراد بالقضاء هنا «الفعل» وليس القضاء المصطلح عليه عند الفقهاء المتأخرين، فالفقهاء يسمون ما يدركه الإنسان في وقته أداء، وما يفعله أو يصليه بعد فوات وقته قضاء، وهو اصطلاح متأخر عندهم، لكن ليس هذا هو المراد في الكتاب العزيز والحديث الشريف، بل قد جاء استعمال القضاء بمعنى «الفعل» في آيات كثيرة، كما قال تعالى: {فقضَاهنّ سبعَ سمواتٍ} (فصلت:12)، أي خلقها وقضى فعلها، وقال: {فإذا قضيتُم مَناسككم} (البقرة:200)، يعني: إذا انتهيتم من فعل المناسك، وكذلك قوله: {فإذا قُضيتْ الصلاةُ فانتشروا} (الجمعة:10)، أي فرغتم من صلاة الجمعة، فالقضاء في هذا كله بمعنى الفعل، ومنه قولهم: قضيت حق فلان.
وهذا هو القول الراجح الصحيح الذي عليه عامة أهل العلم.
وأيضا قال بعض أهل العلم: إن قوله «وما فاتكم فاقضوا» فهذه الرواية فيها وهم وقع من الزهري، لكن لو قدّرنا عدم الوهم، فإن القضاء المراد به هنا: هو الأداء بمعنى الفعل، كقول الله تعالى: {فإذا قضيت الصلاة}.
والله تعالى أعلم.

ابو وليد البحيرى
2024-05-29, 10:59 AM
شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 6 ) باب خروج النساء إلى المساجد

اعداد: الفرقان


الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فهذا تتمة الكلام على أحاديث كتاب «الصلاة» من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء.

245 – عن زَينب الثّقَفية رضي الله عنها قالت: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا شَهدتْ إحـدَاكُنّ المسجدَ، فلا تَمسَّ طِيبا».
الشرح:
قال المنذري: باب خروج النساء إلى المساجد.
وهذا الحديث أخرجه الإمام مسلم في كتاب المساجد (1/326) وبوب عليه النووي: باب خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة، وأنها لا تخرج متطيبة.
والحديث عن زينب الثقفية، وهي بنت معاوية، وهي امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما، صحابية، روى لها الستة.
قالت: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا شَهِدت إحداكن المسجد فلا تمسّ طيبا» إذا شهدت إحداكن المسجد، أي إذا أرادت شهود الصلاة في المسجد، كما قال تعالى {إذا قُمْتم إلى الصّلاة} (المائدة: 6)، يعني: إذا أردتم القيام إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم.
قوله: «فلا تمس طيبا»، وفي رواية (1/328): «فلا تتطيب تلك الليلة»، فالمرأة إذا أرادت شهود الصلاة في الجماعة مع المسلمين في المسجد، يحرم عليها مس الطيب أو البخور، وفي حديث أبي هريرة مرفوعا عند مسلم أيضا (1/328): «أيما امرأةٍ أصابتْ بخوراً، فلا تَشهد معنا العشاءَ الآخرة» يعني: لا تشهد معنا صلاة العشاء، وهذا النهي للتحريم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد شدّد فيه، قال المناوي في الفيض ( 3/137 ): لأن الليل آفاته كثيرة، والظلمة ساترة، وخص العشاء لأنها وقت انتشار الظلمة، وخلو الطريق عن المارة، والفجار تتمكن حينئذ من قضاء الأوطار، بخلاف الصبح عند إدبار الليل وإقبال النهار، فتنعكس القضية، ذكره الطيبي.
وقال ابن دقيق العيد: وفيه حُرمة التطيب على مريدة الخروج إلى المسجد؛ لما فيه من تحريك داعية شهوة الرجال. قال: وألحق به حُسْن الملبس والحُلي الظاهر.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أيما امرأةٍ تطيّبتْ ثم خرجتْ إلى المسجد، لم تَقبلْ لها صلاةٌ حتى تَغتسل» رواه ابن ماجة.
ووردت أحاديث أخرى في التّشديد على النساء في الخروج متطيبات إلى الطريق، أو خارج بيتها، فقد روى أحمد والترمذي في جامعه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أيما امرأةٍ استعطرتْ ثم خرجت، فمرتْ على قوم ليجدُوا ريحها، فهي زانيةٌ، وكلُ عينٍ زانيةٌ».
فهذا يدل على أن هذا الفعل من كبائر الذنوب، وهو أن تخرج المرأة متعطرة لأجل أن يشم الرجال ريحها وطيبها.
فإذا كانت هي ممنوعة من مسّ الطيب إذا أرادت المسجد، فكيف يكون حالها إذا أرادت شهود الأسواق ومجامع الرجال؟! وكيف يكون حال المرأة لو أنها فعلت ما هو أشنع من وضع الطيب، كأن تخرج وقد كشفت عن بدنها وزينتها وتبرجت ووضعت المساحيق والألوان، ولبست الضيق من الثياب أو القصير؟! فهذا أشد قُبحا وخُبثا، وبلا شك هي داخلة في الوعيد السابق في قوله [: «فهي زانية، وكل عين - تنظر لها - فهي زانية؟!».
أما إذا أرادت أن تمس الطيب بعد رجوعها إلى بيتها وبعد أن تصلي في المسجد فريضة العشاء، فلا تمنع من الطيب حينئذ.
51 - باب: منع النساء من الخروج
246 - عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَقُولُ: «لَوْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ لَمَنَعَهُنَّ الْمَسْجِدَ، كَمَا مُنِعَتْ نِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ»، قَالَ: فَقُلْتُ لِعَمْرَةَ: أَنِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُنِعْنَ الْمَسْجِد؟ قَالَتْ: «نَعَمْ».
الشرح:
قال المنذري: باب منع النساء الخروج.
وهو في الباب نفسه الذي سبق في صحيح مسلم ( 1/329).
والحديث عن عمرة بنت عبدالرحمن وهو ابن سعد بن زرارة، الأنصارية، من المكثرين عن عائشة، ثقة، روى لها الستة.
أنها سمعت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: «لو أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى ما أحدث النساء» أي لو أنه [ رأى ما أحدث النساء من الزينة والطيب ولبس الثياب الحسنة وإظهار التبرج عند الخروج، لمنعهن من إتيان المسجد، فكيف بغيره من البقاع والأماكن؟!
قولها: «كما منعت نساء بني إسرائيل، فقالت عمرة: أنساء بني إسرائيل منعن من المسجد؟ قالت: نعم»، وذلك أنه لما حصل في نساء بني إسرائيل التبرج والتطيب وإظهار الزينة، منعن من الخروج إلى العبادة وأماكنها، لأجل منع الفتنة، وحسم مادة الشر، والشرع دائما يسد الذرائع المفضية إلى المحرمات، فكل ذريعة تؤدي إلى الحرام، وكل وسيلة توصل للحرام، جاء الشرع بسدها ومنعها، فمثلاً منع الشرع المرأة من السفر بغير محرم؛ لأن هذا ذريعة للفتنة والشر، ومنع المرأة أن تخلو برجل أجنبي عنها، وهكذا منع المرأة من التبرج والخروج بالزينة، ومنعها من الخروج وهي متطيبة متبخرة، كل هذه أبواب سدها الشرع لأجل منع الفتنة والشر والمعصية، وإن كان الأصل أنه يجوز للمرأة أن تصلي في المساجد.
أما إذا كانت المرأة تخرج إلى المسجد وهي مستترة وتاركة للطيب، ففي هذه الحالة لا يجوز أن تمنع؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إذا استأذنتْ أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها» رواه مسلم (1/328).
وفي لفظ عن ابن عمر قال: قال صلى الله عليه وسلم : «لا تمنعوا نساءكم المساجد، إذا اسْتأذنَّكم إليها» فقال بلال بن عبد الله وهو ابن عمر، قال لأبيه: والله لأمنعهن. قال: فأقبل عليه عبد الله فسبّه سباً سيئا، ما سمعته سبّه مثله قط، وقال: أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: والله لنمنعهنّ.
وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم : «لا تمنعوا النساء من الخروج إلى المساجد بالليل» فقال ابنٌ لعبدالله بن عمر: لا ندعهن يخرجن فيتخذنه دغلا - يعني طريقا إلى الفساد - فَزَبره ابنُ عمر - يعني نهره - وقال أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتقول: لا ندعهن؟!
وفي رواية ( 1/326): عنه أيضا قال صلى الله عليه وسلم : «ائذنوا للنساء بالليل إلى المساجد» فقال ابنٌ له يقال له واقدٌ: إذنْ يتخذنه دَغَلاً؛ فضرب في صدره، وقال: أحدّثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: لا؟!
وضربه له في صدره، نوعٌ من التعزير والتأديب للمعترض على السُّنة والمعارض لها برأيه بغير دليل.
وفيه أيضا: تعزير الوالد لولده ولو كان كبيرا، فابن عمر عزّر ابنه بلالا وزجره بالقول أولا، وفي رواية أنه دفعه في صدره.
فالمرأة في الأصل لا تمنع من الذهاب إلى المسجد، ولكن بالشروط التي نص عليها النبي صلى الله عليه وسلم ، وذكر تفصيلها العلماء وهي مأخوذة من الآيات والأحاديث، وهي: ألا تكون متطيبة، ولا متزينة ولا متبرجة، ولا تلبس مثلاً الخلاخل التي يسمع صوتها، ولا الثياب الفاخرة اللافتة للنظر، ولا تختلط بالرجال في الطريق، ولا أن تكون شابة لا يؤمن عليها في خروجها وحدها، وأن يكون الطريق آمنا فلا يكون فيه ما يخاف عليها منه، ولا بد من استئذان وليها للخروج، وإذا كانت المرأة متزوجة فإنها لا تخرج إلا بإذن زوجها، وألا يكون في خروجها للمسجد ما يضر بزوجها أو أبنائها وبيتها من وظائف وواجبات، فالمرأة أحيانا لو خرجت إلى المسجد ربما يتضرر أولادها الصغار، أو أنْ تخرج وتتركهم في البيت وحدهم ويكون في ذلك خطر عليهم، فلابد إذاً من مراعاة هذه الشروط كلها وما شابهها.
والله تعالى أعلم.

ابو وليد البحيرى
2024-06-23, 11:09 AM
شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 7 ) باب : ما يقولُ إذا دخل المسجد

اعداد: الفرقان



الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

فهذا تتمة الكلام على أحاديث كتاب «الصلاة» من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء.
247 .عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ أَوْ عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَقُلْ: «اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ، وَإِذَا خَرَجَ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ».
الشرح: قال المنذري: باب ما يقول إذا دخل المسجد، وهذا الحديث أخرجه الإمام مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها (1/494) وترجم عليه النووي هذا الباب نفسه: باب ما يقول إذا دخل المسجد.
وفيه حديث أبي حميد، أو أبي أسيد، شكٌ من الراوي .
أما أبو حميد فهو الساعدي الأنصاري المدني، اختلف في اسمه فقيل: عبدالرحمن، وقيل : المنذر بن سعد، قال الواقدي : توفي في أخر خلافة معاوية وأول خلافة يزيد ، روى له الستة .
وأما أبو أسيد فهو مالك بن ربيعة الساعدي ، صحابي شهد بدراً والمشاهد كلها ، روى له الستة .
قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا دخل أحدكم المسجد فليقل : اللهم افتح لي أبواب رحمتك « أي : إذا أراد أنْ يدخل المسجد سأل الله تبارك وتعالى أنْ يفتح له أبواب رحمته ، من المغفرة والفضل والرزق والإحسان وغيره.
وقوله: «وإذا خرج من المسجد فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك» وعادة أن الإنسان إذا خرج من المسجد، بعد أن يؤدي الصلاة، يبتغي من فضل الله تعالى، إما أن يذهب إلى السوق ليشتري له حاجة، ثم يرجع إلى بيته، وإما أنْ يخرج من المسجد لدكانه أو سوقه، أو لمقر عمله ووظيفته، ولذلك يسأل الله تبارك وتعالى من فضله ورزقه.
وجاء أيضا عند أصحاب السنن: أنه[ كان يقول إذا دخل المسجد: بسم الله، اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، اللهم إني أسألك من فضلك.
وجاء أيضا في الحديث : عن ابن عمرو بن العاص أنه كان يقول صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد: «أعوذُ باللهِ العظيم، وبوجهه الكريم، وسُلطانه القديم من الشيطانِ الرجيم، فإذا قال ذلك قال الشيطان: حُفِظ مني سائرَ اليوم». رواه أبو داود (466).
وروى البخاري ومسلم وأبو داود النسائي: عن ابن عباس قَالَ : بِتُّ ذَاتَ لَيْلَةٍ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى رَكْعَتَيِ الْفَجرِ، وَخَرَجَ إِلَى الصَّلاةِ وَهُوَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا ، وَفِي بَصَرِي نُورًا، وَفِي سَمْعِي نُورًا، وَفِي لِسَانِي نُورًا، وَعَنْ يَمِينِي نُورًا ، وَعَنْ يَسَارِي نُورًا، اللَّهُمَّ وَاجْعَلْ مِنْ فَوْقِي نُورًا، وَمِنْ تَحْتِي نُورًا، وَاجْعَلْ أَمَامِي نُورًا، وَمِنْ خَلْفِي نُورًا، اللَّهُمَّ وَأَعْظِمْ لِي نُورًا»، قَالَ: فَأَقَامَ بِلالٌ الصَّلاةَ فَصَلَّى .
وقال أهل العلم: إنه يدخل المسجد برجله اليمنى، وإذا خرج يخرج برجله اليسرى، فيقدم اليمنى لأعمال البر والطاعة والعبادة، ويقدم اليسرى لدخول الخلاء وغيره .
والله تعالى أعلم .
53- إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ فليَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ
248 .عَنْ أَبِي قَتَادَةَ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ قَالَ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ النَّاسِ، قَالَ: فَجَلَسْتُ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ[: «مَا مَنَعَكَ أَنْ تَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ تَجْلِسَ؟»، قَالَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْتُكَ جَالِسًا، وَالنَّاسُ جُلُوسٌ، قَالَ: «فَإِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ، فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ».
الشرح :
قال المنذري رحمه الله: باب إذا دخل المسجد فليركع ركعتين .
والحديث أخرجه الإمام مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها (1/495)، وبوب عليه النووي: باب استحباب تحية المسجد بركعتين، وكراهية الجلوس قبل صلاتهما، وأنها مشروعه في كل الأوقات.
ورواه البخاري في الصلاة ( 444 ) باب: إذا دخل المسجد فليركع ركعتين.
وأبو قتادة اسمه الحارث بن ربعي السَّلمي المدني ، أحد الفوارس المشهورين من أصحاب رسول اللهصلى الله عليه وسلم شهد أُحدا وما بعدها، مات سنة (54) هـ روى له الجماعة.
قال: «دخلت المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس بين ظهراني الناس «كان جالسا بينهم إما في حلقة علم، أو في حلقة قراءة للقرآن وما أشبه ذلك، وكان من عادة النبي صلى الله عليه وسلم أنيجلس بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس، وكان أصحابه يتحدثون أحيانا معه ويخوضون في أمور الجاهلية ، وما كانوا عليه قبل الإسلام ، وربما تبسم صلى الله عليه وسلم من ذلك .
قال: «فجلست» أي قبل أن يصلي شيئا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلمصلى الله عليه وسلم له: «ما منعك أن تركع ركعتين قبل أن تجلس» لما دخل أبو قتادة وجلس قبل أن يصلي، نبّهه النبي صلى الله عليه وسلمإلى الصلاة، فقال له: «ما منعك أن تركع ركعتين قبل أن تجلس؟».
قوله: «فقال: يا رسول الله، رأيتك جالسا والناس جلوس» يعني هذا الذي دعاني إلى عدم الصلاة، هو أني رأيتك جالسا والناس حولك جلوس، فتركت الصلاة من أجل أن أغتنم المجلس وألحق به وبأهله .
فلم يعد النبي صلى الله عليه وسلم هذا سببا لترك الركعتين عند دخول المسجد، بل قال له: «فإذا دخل أحدكم المسجد ، فلا يجلس حتى يركع ركعتين»، أي: في أي وقت من الأوقات ، والأصل في الأمر الوجوب، وأيضا لنهيه عن تركها ، بقوله: «فلا يجلس حتى يركع..» والأصل في النهي التحريم، كما هو معلوم من أصول الفقه.
ومثله ما جاء عَنْ جَابرِ بْنِ عَبْد الله قال: جَاءَ سُلَيْكٌ الْغَطَفَانِيُّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، ورَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ، فَجَلَس فقال له: «يَا سُلَيْكُ قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتين، وتَجَوَّزْ فيهما» ثُمَّ قال: «إذا جاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، والإمَامُ يَخْطُبُ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، وَلْيَتَجَوَّزْ فيهما»، رواه مسلم في الجمعة (2/ 597).
وهذا يدل على أن تحية المسجد لا تترك في أي حالٍ من الأحوال ، حتى ولو في حال خُطبة الإمام يوم الجمعة، فلو كانت التحية تترك في حال من الأحوال لتُركت في حال الخطبة ، لأن سماع الخطبة واجب ، لكنْ النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها في هذا الوقت ، ولما كان سليكا يجهل حكم هذه الصلاة، أمره النبي[ أن يقوم فيصليها، وهذا يدل على وجوب تداركها إذا لم يصل .
أما إذا دخل وقد أقيمت الصلاة، فإنه لا يجوز له أن يشتغل بغير الصلاة القائمة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أُقيمت الصلاة، فلا صلاةَ إلا المكتوبة» رواه مسلم والأربعة.
ولإنكار النبي صلى الله عليه وسلم على من اشتغل بالصلاة الراتبة عند إقامة الصلاة المفروضة كما في الصحيح .
ولهذا ذهب داود وابن حزم والظاهرية إلى وجوب تحية المسجد، لهذه الأدلة الواضحة .
وقال العلامة الصديق حسن خان: أدلة الوجوب أوضح من الشمس، فقول الإمام النووي وغيره من العلماء باستحباب تحية المسجد، وكراهة الجلوس قبل صلاتهما، لا يتفق مع هذا الحديث، ولا مع غيره كحديث سليك الغطفاني يوم الجمعة؟!
وذهب أيضا العلامة الشوكاني في كتابه «الفتح الرباني» إلى أن تحية المسجد واجبة.
ثم الجمهور من الفقهاء على أنها مشروعة في جميع الأوقات، حتى في أوقات النهي، أي وقت دخل فيه المصلي إلى المسجد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق في حديثه ، فقال: «إذا دخل أحدكم المسجد، فلا يجلس حتى يركع ركعتين»، ولم يقيد ذلك بوقتٍ دون وقت ، وذهب الإمام أبو حنيفة إلى كراهيتها في وقت النهي، والحجة عليه أولا أن الحديث الوارد فيها عام غير مخصوص.
والثاني: أن التحية لو كانت تترك بحال من الأحوال، لتركت في حال الخطبة التي يمنع فيها المسلم من رد السلام والكلام.
فالراجح في هذا أن تحية المسجد تصلى في كل الأوقات.
والله تعالى أعلم

ابو وليد البحيرى
2024-06-28, 10:53 AM
شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 8 ) باب: النهي أن يخرج من المسجد بعد الأذان
اعداد: الفرقان



الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب «الصلاة» من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء.

. عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ قَالَ: كُنَّا قُعُودًا فِي الْمَسْجِدِ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، فَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْمَسْجِدِ يَمْشِي، فَأَتْبَعَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ بَصَرَهُ حَتَّى خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم.

الشرح:

قال المنذري: باب النهي أن يخرج من المسجد بعد الأذان.

والحديث أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة (1/453)، وبوب عليه النووي (5/157): باب فضل صلاة الجماعة وبيان تشديد التخلف عنها.

أبو الشعثاء مشهور بكنيته، واسمه جابر بن زيد الأزدي، ثم الجعفي البصري، ثقة فقيه، قال ابن عباس عنه: لو أن أهل البصرة نزلوا عند قول جابر بن زيد لأوسعهم علماً من كتاب الله. وقال ابن حبان: كان فقيهاً ودفن هو وأنس بن مالك في جمعة واحدة، وكان من أعلم الناس بكتاب الله. روى له الجماعة.

قال: «كنا قعودا في المسجد مع أبي هريرة» فيه قعود السلف رحمهم الله في المساجد للتذاكر وقراءة القرآن، وغير ذلك من أنواع القربات، وكان أبو هريرة رضي الله عنه كان له مجالس عظيم، وأصحاب كثيرون يحدث فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم ما حفظه منه، إذْ كان من أوسع الصحابة حفظا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكثرة ملازمته له، وتفرغه للسماع منه، وببركة دعائه صلى الله عليه وسلم له بألا ينسى شيئا من الحديث، فكان كذلك.

قال: «فأذّن المؤذن» أي حان وقت الأذان فأذن المؤذن للصلاة داخل المسجد «فقام رجل من المسجد يمشي» أي قام رجل ممن كان جالسا بالمسجد، بعد سماعه للأذان يمشي متجها للخروج منه.

قوله: «فأتبعه أبو هريرة بصره»؛ أي نظر إليه أبو هريرة وتابعه ببصره حتى خرج من المسجد، وإنما تابعه ببصره لينظر ماذا يفعل، فلما خرج من المسجد بعد الأذان وقبل أن يصلي، قال: «أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم»، وفي هذا الإنكار دليل على أن الخروج من المسجد بعد الأذان، وقبل الصلاة منهي عنه، وأنه معصية لأن أبا هريرة رضي الله عنه قال: أما هذا فقد عصى أبا القاسم، ويقصد بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها كنية النبي صلى الله عليه وسلم، والقاسم هو أحد أبنائه صلى الله عليه وسلم.

وهذا الحديث وإن كان من قول أبي هريرة رضي الله عنه لكن له حكم الرفع؛ لأن أبا هريرة رضي الله عنه نسبه للرسول صلى الله عليه وسلم، ثم إنه جزم بهذا الحكم الشرعي، وإن هذه معصية للرسول صلى الله عليه وسلم.

وقد روى الإمام أحمد رحمه الله في المسند (10946) بسند حسن ما يؤيد ذلك: وهو قوله عليه الصلاة والسلام: «إذا كنتم في المسجد فنودي بالصلاة، فلا يخرج أحدكم حتى يصلي»، وقال الترمذي رحمه الله: وعليه العمل عند أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. يعني أنهم كانوا يكرهون أن يخرج الرجل من المسجد بعد الأذان قبل أن يصلي، إلا لعذر مثل أن يريد أن يتوضأ، والوضوء خارج المسجد، فيخرج من المسجد لأجل الوضوء، ومثل أن يريد الرجوع إلى بيته لإيقاظ أهله للصلاة بعد أن أذن المؤذن وهو بالمسجد، أو أن يريد الصلاة بمسجد آخر يدرك فيه الجماعة، ويكون خروجه لغرض صحيح مثل أن يكون فيه درس أو طلب علم، أو يريد أن يصل رحمه فيه، أو يزور أصحابه ونحو ذلك من المقاصد الشرعية، أما إذا خرج من المسجد بعد الأذان وقبل أن يصلي، وهو لا يريد الرجوع إلى الصلاة، فقد عصى الرسول صلى الله عليه وسلم كما في هذا الحديث الصحيح.

55 - باب: كفّارة الْبُزَاق فِي الْمَسْجِدِ

250. عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الْبُزَاقُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ، وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا».

الشرح:

قال المنذري: باب كفاره البزاق في المسجد.

وقد أخرجه الإمام مسلم في كتاب المساجد (1/390) وبوب عليه النووي (5/41): باب النهي عن البصاق في المسجد في الصلاة وغيرها.

ورواه أيضا البخاري (415) فالحديث متفق عليه.

والبزاق بالزاي، ويقال البصاق بالصاد، وهما لغتان مشهورتان صحيحتان، وهناك لغة قليلة غير مستعملة: بساق، ويعدها بعض أهل العلم غلطا، والصحيح المشهور أنها إما بالصاد وإما بالزاي.

قول النبي صلى الله عليه وسلم: «البزاق في المسجد خطيئة» وفي رواية لمسلم: «التَّفلُ في المسجد خطيئةٌ».

وجاء أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم: «نهى الرجل أن يتنخم في المسجد»، والنخامة ما يخرج من الصدر، والنخاعة ما يخرج من الرأس، يقال: تنخم وتنخع.

ففي هذه الأحاديث بيان أن البصاق في المسجد خطيئة، أي إثم وذنب ومعصية، سواء كان في أثناء الصلاة أو كان خارجها، وسواء احتاج إليه أم لا، لكن إذا احتاج إلى البصاق، ولم يكن معه منديل، يبصق في ثوبه كما جاء في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ُنخامة في قبلة المسجد، فأقبل على الناس فقال: «ما بالُ أحدكم يقوم مستقبل ربه فيتنخع أمامه ؟! أيحبُّ أحدكم أنْ يُستقبل فيتنخع في وجهه ؟! فإذا تنخعَ أحدُكم فليتنخعْ عن يساره تحت قدمه، فإن لم يجد فليقل هكذا» ووصف القاسم – أحد رواة الحديث – فتفل في ثوبه، ثم مسح بعضه على بعض. رواه مسلم (1/ 389).

وهذا إذا كان يصلي خارج المسجد يبصق عن يساره أو يبصق تحت رجله، أو كان المسجد مفروشا بالتراب حيث يمكنه دفنها في أرضه.

وقوله عليه الصلاة والسلام: «وكفارتها دفنها» أي عليه أن يكفر هذه الخطيئة بدفن البصاق، في تراب المسجد، أو يخرجها من المسجد، هذه كفارة هذه الخطيئة والذنب، كما أن للأيمان كفارات ولمحظورات الإحرام كفارات، فهذا كفارة البصاق في المسجد.

وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، كما في حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى بُصاقا في جدار القبلة أو مخاطا أو نُخامة، فَحكّه. رواه مسلم (1/389).

وترك البصاق في المسجد لا يجوز، ويدخل في الذّم كل من رآه ولم يدفنه أو يمسحه بمنديل ونحو ذلك، كما في الحديث: عن أبي ذر رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عُرضتْ علي أعمالُ أمتي، حسنُها وسيّئها، فوجدتُ في محاسن أعمالها: الأذى يُماطُ عن الطريق، ووجدتُ في مساوئ أعمالها: النّخاعة تكونُ في المسجد لا تدفن» رواه مسلم (1/390).

وقال القاضي عياض وبعض أهل العلم: ليس بخطيئة - يعني البصاق في المسجد - إلا في حق منْ لم يدفنه، وأما من أراد دفنه فليس بخطيئة!

فرده النووي- رحمه الله- بما حاصله: أن هذا كلام باطل، وغلط صريح مخالف لنص الحديث.

أي: لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول صريحا: البصاق في المسجد خطيئة، فكيف يقول القاضي عياض وغيره إنه يجوز البصاق في المسجد لكن يدفنه ؟! فهذا مخالف لكلام النبي صلى الله عليه وسلم، ومخالف أيضا لما قاله أهل العلم في هذا.

أما المراد بدفنها: فأن يدفنها في تراب المسجد ورمله، إذا حصل ذلك وإلا فيخرجها، أي إذا كان المسجد مفروشا بالسجاد فعليه أن يخرجها أو يمسحها بمنديل ونحوه.

وأيضا ورد في الحديث تحريم التفل تجاه القبلة إذا كان الإنسان يصلي، ففي حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال صلى الله عليه وسلم: «إذا كان أحدكم يصلي فلا يبصق قبل وجهه، فإن الله قبل وجهه إذا صلى» رواه مسلم (1/388).

فإذا صلى الإنسان فإنّ الله تعالى قبل وجهه، أي تجاه وجهه وأمامه إذا صلى؛ ولذلك يحرم على المصلي أن يبصق أمامه، أو أن يبصق عن يمينه ولكن يبصق عن يساره أو تحت قدمه اليسرى، وهذا إذا كان خارج المسجد إذا كان يصلي في صحراء أو في طريق.

وأيضا: يحرم التفل تجاه القبلة عموما ولو خارج الصلاة؛ لحديث حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «منْ تفل تجاه القبلة، جاء يوم القيامة وتفلُه بين عينيه» أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان (332 – موارد) والألباني في الصحيحة (222).

ويستفاد من هذا حديث الباب أيضا: أن البصاق والمخاط والنخامة من الطاهرات، مثل عرق الإنسان ودمعه؛ لأنها لو كانت نجاسات لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بدفنها في المسجد، ولما تفل في ثوبه.

وأيضا في الحديث: أنه يجوز للإنسان إذا احتاج للبصاق أن يبصق في أثناء الصلاة؛ لأن هذه حركة للحاجة، فالمصلي إذا احتاج أن يبصق في منديل أثناء صلاته، أو يتمخط أثناء صلاته، جاز للحاجة، ويدفع ذلك قدر الإمكان، يدافع الحركة غير الضرورية قدر الإمكان.

وفي الحديث: أن تنحنح أو تنخع المصلي لا تبطل به صلاته، ولو خرج منه حرفان فأكثر، فالإنسان إذا قال: أخ أو قال أح بان منه حرفان، وهذا لا يبطل الصلاة؛ لأنها حركة وصوت للحاجة، وهو مغلوب عليها فلا حرج عليه في ذلك، والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد.

ابو وليد البحيرى
2024-07-05, 09:34 AM
شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 9 )

باب: كراهية أكل الثوم وإتيان المساجد
اعداد: الفرقان


الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب «الصلاة» من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء.

251.عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ: «مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ - يَعْنِي الثُّومَ - فَلَا يَأْتِيَنَّ الْمَسَاجِدَ».

الشرح:

قال المنذري: باب كراهية أكل الثوم وإتيان المساجد.

والحديث رواه الإمام مسلم رحمه الله في كتاب المساجد ومواضع الصلاة (1/ 393) وبوب عليه الإمام النووي (5/48): باب نهي من أكل ثوما أو بصلا أو كراثا، أو نحوها مما له رائحة كريهة، عن حضور المسجد، حتى تذهب تلك الريح، وإخراجه من المساجد.

وحديث الباب حديث ابن عمر رضي الله عنهما: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في غزوة خيبر» وغزوة خيبر كانت سنة ثمان من الهجرة؛ حيث فتح فيها حصن خيبر، وهو حصنٌ حصين من حصون اليهود قريب من المدينة على بعد ثمانين كيلا تقريبا، وذلك عندما أبدى يهود خيبر عداء سافراً للمسلمين، ولا سيما عندما لحق بهم زعماء بني النضير لما أجلوا عن المدينة فنزلوا خيبر: وهم سلام بن أبي الحقيق، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وحيي بن أخطب، فلما نزلوها نزلوا بأحقادهم ضد المسلمين؛ ولذا كانوا كلما وجدوا فرصة للانتقام من المسلمين انتهزوها، ووجدوا في قريش وبعض قبائل العرب بغيتهم، فألبوهم ضد المسلمين، ثم جروهم إلى غزوة الخندق، وسعوا في إقناع بني قريظة بالانضمام إليهم والغدر بالمسلمين؛ ولذا كانت تلك العقوبة الرادعة التي أنزلها المسلمون بهم بعدما صرف الله عنهم الأحزاب، وأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم سرية عبد الله بن عتيك للقضاء على رأس من رؤوسهم أفلت من العقاب يوم قريظة، وهو سلام بن أبي الحقيق، فقتلوه.

وكانت هدنة الحديبية فرصة أمام المسلمين للقضاء على ما يشكل خطورة على أمن المسلمين، وقد وعد الله المسلمين بمغانم كثيرة يأخذونها إذا هزموا يهود خيبر، وقد كان ذلك، فغنموا الأراضي والأموال والنساء والذراري وغيرها، ولله الحمد والمنة.

قوله صلى الله عليه وسلم: «منْ أكل من هذه الشجرة - يعني الثوم -فلا يأتين المساجد» وفي الرواية الأخرى: «فلا يقربنّ مساجدنا حتى يذهب ريحها».

وفي حديث أنس رضي الله عنه عند مسلم: «فلا يقربنا ولا يصلي معنا» وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «لا يُؤذينا بريح الثوم».

وهذا كله فيه تصريحٌ بالنهي عن أكل الثوم ونحوه ثم دخول المسجد، وهذا مذهب أهل العلم كافة، وقال بعض أهل العلم: إنه خاص بمسجد الرسول صلى الله عليه وسلم! لكن حديث الباب يرده؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «فلا يأتين المساجد» وهذا فيه تعميم، فيشمل عموم المساجد، فالنهي عام لكل لمن أكل بصلا أو ثوما أن يحضر المسجد أي مسجد كان، ويلحق به: من أكل فجلا وكان يتجشأ، قاله عياض.

وقال ابن المرابط: ويلحق به من به بَخَر في فيه، أو به جرح أو رائحة. والبخر هو النتن الذي يكون في الفم من علة.

وهكذا يلحق بالثوم والبصل والكراث، كل ما له رائحة كريهة من المأكولات وغيرها، أو ظهور رائحة العرق، بجامع الرائحة المنفرة، فالحديث فيه معنى ونص، أما النص فهو النهي عن أكل الثوم، وسيأتي أيضا النهي عن أكل البصل والكراث، وأما المعنى في الحديث: فهو النهي عن أكل أي شيء له رائحة منتنة أو منفره، ثم حضور المساجد؛ لأنها مكان اجتماع الناس للصلاة والذكر، ومحل اجتماع الملائكة وهي تتأذى مما يتأذى منه الناس.

وقاس العلماء على المساجد: مجامع المسلمين الأخرى غير المسجد، كمصلى العيد والاستسقاء والجنائز بجامع اجتماع الناس فيها، وكذلك مجامع العلم والذكر، كالحلق العلمية والمحاضرات، وحلق قراءة القرآن وتدارسه وتعلمه وتعليمه ونحوها، ولا ُيلحق بها الأسواق ولا الطرقات وغيرها.

وفي الحديث: أن منع أكل الثوم إنما هو عند إتيان المساجد ونحوها فقط، أو الوقت الذي تقام فيه الصلاة؛ لئلا يذهب بعد أن يأكل البصل أو الثوم فيؤذي المسلمين، وليس فيه تحريم الثوم أو البصل مطلقا؛ لأنه مما أباحه الله تعالى.

ومن أدلة إباحة البصل والثوم: قول الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابي: «ُكلْ، فإني أناجي من لا تناجي» كما سيأتي في الحديث الذي بعده.

ومنها: حديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: «منْ أكلَ من هذه الشجرة الخبيثة شيئاً، فلا يَقربنا في مسجدنا» فقال الناس: حرّمتْ حرمت، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أيها الناس، إنه ليس بي تحريمُ ما أحلّ الله لي، ولكنها شَجرةٌ أكرهُ ريحها» رواه مسلم (1/395).

وقال أهل الظاهر: إنّ هذه البقلة إذا منعتْ من حضور الجماعة فهي حرامٌ؛ لأن الجماعة واجبة عند الظاهرية، وهو القول الصحيح عند أهل الحديث.

57- باب: اعتزال المسجد منْ أكلَ البّصل والكُراث والثّوم

252. عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: إَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا فَلْيَعْتَزِلْن َا، أَوْ لِيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا، وَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ» وَإِنَّهُ أُتِيَ بِقِدْرٍ فِيهِ خَضِرَاتٌ مِنْ بُقُولٍ، فَوَجَدَ لَهَا رِيحًا، فَسَأَلَ فَأُخْبِرَ بِمَا فِيهَا مِنْ الْبُقُولِ، فَقَالَ: «قَرِّبُوهَا» إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا رَآهُ كَرِهَ أَكْلَهَا، قَالَ: «كُلْ، فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لَا تُنَاجِي».

الشرح:

قال المنذري: باب اعتزال المسجد من أكل البصل والكراث والثوم.

الحديث أورده الإمام مسلم في الموضع السابق (1/394) وهو في الباب المتقدم فيه.

قوله: إن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أكل ثوما أو بصلاً فليعتزلنا، أو ليعتزلْ مسجدنا، وليقعدْ في بيته» وهذا دليل على منع من أكل البصل أو الثوم من دخول المساجد، كما سبق ذكره، وكذلك منعه من حضور مجامع المؤمنين التي يجلسون فيها ويجتمعون؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم: «فليعتزلنا» يفيد أيضا المنع من حضور مجامع المسلمين كحلق الذكر والعلم ونحوها.

قوله: «وليقعد في بيته»، يعني لا يجوز له أن يصلي مع الجماعة إذا أكل بصلاً أو ثوما، وليس هذا برخصة له أن يصلي في بيته، إنما هو منع له من حضور الجماعة؛ لئلا يتضرّر به الناس، وإذا تعمد الأكل من البصل أو الثوم وقت الصلاة ثم ترك الجماعة بسبب ذلك، فهو آثم، وإذا قدر على إزالة الرائحة من فمه بعد أن أكل البصل والثوم، فهذا واجب، كأن يأكل بعض الأعشاب أو بعض الأطعمة المطيبة لرائحة الفم، فإنه يجب من أجل ألا تفوت عليه صلاة الجماعة.

قوله: «وانه صلى الله عليه وسلم أُتي بقدر فيه خضرات» والخضرات هي البقول، وفي بعض الروايات: «أتي ببدر» والبدر في اللغة يطلق على الطبق المستدير، الذي يتخذ من الخوص وهو ورق النخل، وسمي بدراً لأنه مستدير كبدر السماء.

قوله: «فوجد لها ريحا» ذلك أن رائحة الثوم أو البصل أو الكراث تكون نفاذة وظاهرة في الطعام، «فسأل عما فيه من بقول، فأخبر بما فيها، فلما أخبر بما فيها من البقول، قال: «قربوها»، إلى بعض أصحابه، يعني أعطوها فلانا لرجل من أصحابه فليأكلها، فلما رآه الصحابي كره أكلها ودفعها إليه، كأنه كره أن يأكل منها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: «كُلْ؛ فإني أناجي من لا تناجي» أي: هناك فرقٌ بيني وبينك فأنت لست مثلي، ليس من جهة البشرية، وإنما من جهة الوحي ومناجاة الله تعالى، فأنا يوحى إلي، كما قال الله عز وجل: {قلْ إنما أنَا بشرٌ مثلكم يُوحى إليّ}.

فقوله: «فإني أناجي من لا تناجي» قال أهل العلم: المقصود به المناجاة مع جبريل عليه الصلاة والسلام، فإن جبريل كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي من القرآن والسنة، ومعلوم أن الملائكة تتأذى مما يتأذى به بنو آدم من الروائح الكريهة والخبيثة.

فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أكل البصل والثوم والكراث فلا يَقْربنّ مسجدنا؛ فإنّ الملائكة تتأذّى مما يتأذّى منه بنو آدم» وفي لفظ «مما يتأذى منه الإنس». رواه مسلم (1/ 394-395).

أي إن الملائكة تكره الروائح الخبيثة، كما يكره بنو آدم الروائح الكريهة، بخلاف الشياطين فإنها تميل إلى الأماكن الخبيثة والنجسة والروائح الخبيثة، كالخلاء ومواضع قضاء الحاجات، وما أشبه ذلك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا: «إنّ هذه الحُشوش محتَضَرة، فإذا أتى أحدُكم الخلاء فليقل: أعوذُ بالله من الخُبُثِ والخبائث» رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة. والحشوش جمع حُش، وهو مكان قضاء الحاجة، ومحتضرة يعني تحضرها الشياطين وتكثر فيها، أما الملائكة فإنها تتنزه عن أماكن النجاسات، ومواضع قضاء الحاجة، والمواضع ذوات الروائح الكريهة.

وهذا الحديث يدل على إباحة أكل الطعام الذي فيه بصل أو ثوم أو كراث، لأنه صلى الله عليه وسلم قال للصحابي: «كل» وهذا لفظ أمرٍ يفيد الإباحة على أقل الأحوال.

بل استنبط منه بعض الأطباء المعاصرين منه: أن النبي صلى الله عليه وسلم حثّ على أكل الثوم والبصل، وقال للصحابي: كل، وهو لفظ أمر، وأقل أحوال الأمر أن يفيد الاستحباب والحث، وأخذ من ذلك أن هذه النبتة فيها فوائد طبية جمّة للبدن، فثبت أن لها فوائد في تخفيض ضغط الدم، وتخفيض نسبة الدهون بالدم، ومكافحة الفطريات والجراثيم والميكروبات، ففيها مادة فعاله قاتلة للجراثيم وغير ذلك.

وكذلك البصل، ففيه فوائد ومنافع أيضا، ففيه مادة اليود، وهي مادة قاتلة للجراثيم، وفي الأمثال يقولون: أرض تصلها، كُل بصلها، أي: إذا وصلت أرضا مسافرا، فلأجل ألا تصاب بشيء من الحمى أو المرض، أو تستوخم البلد بسبب اختلاف الهواء، أو بسبب اختلاف الطعام، كل من بصل هذه الأرض، فسيحميك الله به من الأمراض.

ابو وليد البحيرى
2024-07-14, 10:36 AM
شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري (10)
باب: إخراج منْ وُجدَ منه ريح البصل والثوم من المسجد

اعداد: الفرقان



الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.


وبعد:

فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب «الصلاة» من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء.

253. عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه خَطَبَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَذَكَرَ نَبِيَّ اللَّهِ وَذَكَرَ أَبَا بَكْرٍ، قَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ كَأَنَّ دِيكًا نَقَرَنِي ثَلَاثَ نَقَرَاتٍ، وَإِنِّي لَا أُرَاهُ إِلَّا حُضُورَ أَجَلِي، وَإِنَّ أَقْوَامًا يَأْمُرُونَنِي أَنْ أَسْتَخْلِفَ، وَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ لِيُضَيِّعَ دِينَهُ وَلَا خِلَافَتَهُ وَلَا الَّذِي بَعَثَ بِهِ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم، فَإِنْ عَجِلَ بِي أَمْرٌ فَالْخِلَافَةُ شُورَى بَيْنَ هَؤُلَاءِ السِّتَّةِ، الَّذِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ، وَإِنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ أَقْوَامًا يَطْعَنُونَ فِي هَذَا الْأَمْرِ أَنَا ضَرَبْتُهُمْ بِيَدِي هَذِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَأُولَئِكَ أَعْدَاءُ اللَّهِ الْكَفَرَةُ الضُّلَّالُ، ثُمَّ إِنِّي لَا أَدَعُ بَعْدِي شَيْئًا أَهَمَّ عِنْدِي مِنْ الْكَلَالَةِ، مَا رَاجَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ مَا رَاجَعْتُهُ فِي الْكَلَالَةِ، وَمَا أَغْلَظَ لِي فِي شَيْءٍ مَا أَغْلَظَ لِي فِيهِ، حَتَّى طَعَنَ بِإِصْبَعِهِ فِي صَدْرِي، فَقَالَ: يَا عُمَرُ، أَلَا تَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ الَّتِي فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ، وَإِنِّي إِنْ أَعِشْ أَقْضِ فِيهَا بِقَضِيَّةٍ يَقْضِي بِهَا مَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَمَنْ لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُشْهِدُكَ عَلَى أُمَرَاءِ الْأَمْصَارِ، فَإِنِّي إِنَّمَا بَعَثْتُهُمْ عَلَيْهِمْ لِيَعْدِلُوا عَلَيْهِمْ، وَلِيُعَلِّمُوا النَّاسَ دِينَهُمْ، وَسُنَّةَ نَبِيِّهِمْ، وَيَقْسِمُوا فِيهِمْ فَيْئَهُمْ، وَيَرْفَعُوا إِلَيَّ مَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَمْرِهِمْ، ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ تَأْكُلُونَ شَجَرَتَيْنِ، لَا أَرَاهُمَا إِلَّا خَبِيثَتَيْنِ: هَذَا الْبَصَلَ وَهكذَا الثُّومَ، لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ إِذَا وَجَدَ رِيحَهُمَا مِنْ الرَّجُلِ فِي الْمَسْجِدِ، أَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ إِلَى الْبَقِيعِ، فَمَنْ أَكَلَهُمَا فَلْيُمِتْهُمَا طَبْخًا.

الشرح:

قال المنذري: باب إخراج من وجد منه ريح البصل والثوم من المسجد. والحديث رواه مسلم في الباب المتقدم.

وهو حديث لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه طويل أنه «خطب يوم الجمعة، فذكر نبي الله تعالى، وذكر أبا بكر رضي الله عنه» يعني ذكر ولاية النبي صلى الله عليه وسلم على الأمة، ثم خلافة أبي بكر رضي الله عنه.

ثم قال: «إني رأيت كأن ديكا نقرني ثلاث نقرات، وإني لا أراه إلا حضور أجلي» أي إن عمر رضي الله عنه رأى في المنام رؤيا، وهي كأن ديكا نقره ثلاث نقرات، فعبر ذلك بمن يطعنه أو يقتله بثلاث ضربات؛ ولهذا قال: وإني لا أراه إلا حضور أجلي.

قوله: «وإن أقواما يأمرونني أن أستخلف، وإن الله لم يكن ليضيع دينه ولا خلافته» يقول: إن بعض الناس يقولون لي: استخلف خليفة، اجعل لك من يلي خلافة المسلمين بعدك إذا مت.

ثم قال: «وإن الله عز وجل لم يكن ليضيع دينه ولا خلافته» أي: إن أستخلف فحسن، وإن تركت الاستخلاف فحسن، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستخلف أحدا، وإن الله عز وجل لم يكن ليضيع أمر المسلمين، بل الله سبحانه وتعالى يقيم للمسلمين من يقيم لهم أمر دينهم ودنياهم؛ لأن هذا الدين محفوظ بحفظ الله عز وجل وليس بحفظ الناس، وقد تكفل بأن يتم هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار.

ثم قال: «ولا الذي بعث به نبيه صلى الله عليه وسلم» يعني لم يكن الله تعالى ليضيع دينه ولا خلافته والذي بعث نبيه صلى الله عليه وسلم.

قوله: «فإن عجل بي أمر (يعني إن حصل الموت على عجالة أو فجأة) فالخلافة شورى بين هؤلاء الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض» والستة: هم عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف، فهؤلاء الستة توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، وهم أيضا من العشرة المبشرين بالجنة. ولم لِمَ يذكر سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل معهم، وهو أحد العشرة المبشرين ؟ قالوا: لأن سعيدا له قرابة من عمر رضي الله عنه، فتورع عمر أن يدخله في الستة؛ لئلا يتهم بأنه يحابي قرابته رضي الله عنه وأرضاه، كما تورع أن يدخل معهم ابنه عبدالله رضي الله عنهم.

قوله: «وإني قد علمتُ أن أقواما يطعنون في هذا الأمر» يعني يطعنون في أمر الخلافة، ويطعنون بفتح العين أصح.

قوله: «أنا ضربتهم بيدي هذه على الإسلام» يعني هم الآن يطعنون ويعترضون علي، وعلى تولية الأمور لأهلها، وأنا كنتُ أحد من ضربهم بيدي على الإسلام، يعني قاتلتهم على الإسلام حتى أسلموا، ثم هم الآن يعترضون؟!

قوله: «فإن فعلوا ذلك فأولئك أعداء الله الكفرة الضلال» أي: إذا فعلوا ذلك مستحلين له فهم كذلك، وإن لم يستحلوه فالمقصود أن فعلهم فعل الكفرة والضلال، وهذا يدل على خطورة الكلام في مثل هذا الأمر؛ لأنه يفرق جماعة المسلمين، ويشق صفهم.

قوله: «ثم إني لا أدع بعدي شيئا أهم عندي من الكلالة، وما راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء ما راجعته في الكلالة، وما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيه، حتى طعن بإصبعه في صدري فقال: يا عمر، ألا تكفيك آية الصيف، التي في آخر سورة النساء» أي إن عمر رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكلالة وأكثر السؤال عنه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا تكفيك آية الصيف» سميت بآية الصيف لأنها نزلت صيفا، وإن بعض الآيات نزلت صيفا وبعضها شتاء، مثال الآيات النازلة في الشتاء آية براءة عائشة رضي الله عنها من الإفك، فقالت: وإن جبينه ليتفصد عرقا في اليوم الشاتي.

وهذا أيضا من تميز الصحابة رضي الله عنهم وحفظهم لكتاب الله تعالى ومواضع نزوله، وأوقات ذلك، وأسباب النزول مما يعين على فهم القرآن الكريم.

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «التي في آخر سورة النساء» يدل على جواز قول: سورة النساء، وسورة البقرة وسورة آل عمران وهكذا، وهو مذهب انعقد الإجماع عليه، كما قال النووي رحمه الله؛ لأن بعض السلف كان يمنع من ذلك ويقول: السورة التي يذكر فيها النساء، السورة التي يذكر فيها البقرة، لكن الدليل هنا واضح وفي غيره من الأحاديث.

والآية هي قوله تعالى: {يَستفتُونك قلْ اللهُ يُفتيكم في الكَلالة إنْ امرؤٌ هلكَ ليس له ولدٌ وله أختٌ فلها نصفُ ما تركَ وهو يرثها إنْ لم يكن لها ولد} (النساء:176)، والكلالة هو من يهلك وليس له ولد ولا والد يرثه، فليس له ولد هو نص الآية، وقولنا: ولا والد، بدليل أن الله قال {وله أخت} فلو كان له والد لذكره الله عز وجل، ولأن الأخت لا ترث مع وجود الأب، كما هو معلوم بل هي محجوبة به، فالكلالة إذاً: من ليس له فرع وارث ولا أصل، فهذا يرثه الحواشي من أهله، وهم إخوانه وأخواته، أي الذكور والإناث.

قوله: «وإني إن أعش أقضي فيها بقضية يقضي بها من يقرأ القرآن ومن لا يقرأ القرآن» يعني: يستوي في فهمها العالم والجاهل.

وقوله «وإني إن أعش» فيه دليل على جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة.

ثم قال: «اللهم إني أشهدك على أمراء الأنصار وإني إنما بعثتهم عليهم ليعدلوا عليهم وليعلموا الناس دينهم وسنة نبيهم، ويقسموا فيهم فيئهم ويرفعوا إلي ما أشكل عليهم من أمرهم» وهذا غاية التقوى والإخلاص من عمر رضي الله عنه، والتبرؤ من أغلاط الأمراء والعمال والموظفين؛ إذ يقول: ما بعثت الولاة والعمال الذي هم أمراء عمر رضي الله عنهم على الأمصار والبلدان إلا ليعدلوا بين الناس في القضايا، وليعلموا الناس دينهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، و«يقسموا فيهم فيئهم» أي غنائمهم، و«يرفعوا إلي ما أشكل عليهم من أمرهم»، فإذا أشكل عليهم من أمرهم يراجعون الخليفة فيه. وإنما قال ذلك رضي الله عنه إشهادا لله عز وجل على عمله الذي يوافق ظاهره باطنه، وأيضا إنما قال ذلك تنبيها ونصحا للأمراء من بعده.

ثم قال وهذا موضع الشاهد من الحديث كله: «ثم إنكم أيها الناس تأكلون شجرتين لا أراهما إلا خبيثتين هذا البصل وهذا الثوم» وفيه وصف عمر رضي الله عنه للبصل والثوم بالشجرتين الخبيثتين، والخبيث في كلام العرب هو المكروه من قول أو فعل أو مال أو طعام أو شراب أو شخص، ولا يدل ذلك على تحريم البصل والثوم؛ لأن الثوم والبصل لو كانا حراما لحرمهما عمر، وإنما قال: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع، فمن وجد منه ريح الثوم والبصل ونحوهما من الروائح المنفرة والخبيثة، فإنه يخرج من المسجد، وهذا لمن بيده سلطة وقدرة من وال ونحوه.

وهذا فيه إنكار المنكر باليد، وإنكار المنكر باليد يشترط فيه الاستطاعة، والاستطاعة استطاعة شرعية واستطاعة بدنية، والمقصود هنا الاستطاعة الشرعية أن يخرجه إمام المسجد إن كان له سلطة أو يخرجه من له ولاية إن أمكنه ذلك.

ثم قال: «فمن أكلها فليمتهما طبخا» أي يميت ويقطع رائحتها بالطبخ، من أمات الشيء، أي كسر حدته وقوته، هذا معنى إماتة الشيء.

وفي هذا أن عمر رضي الله عنه نهى عن أكلهما نيئين لا مطبوخين، لأنهما إذا طبخا ذهبت الرائحة.
هذا وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ابو وليد البحيرى
2024-07-27, 11:38 AM
شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 11 )

باب: النهي عن أن تنشد الضالة في المسجد


اعداد: الفرقان

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.


وبعد:

فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب «الصلاة» من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء.

254 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «منْ سمعَ رجلاً يَنْشدُ ضالةً في المسجد، فليَقلْ: لا ردَّها اللهُ عليك؛ فإنّ المساجدَ لم تُبنَ لهذا».

الشرح:

قال المنذري باب: النهي عن أن تنشد الضالة في المسجد.

وأخرجه مسلم في المساجد ( 1/397 ) وبوب عليه النووي (5/54 ) باب: النهي عن نشد الضالة في المسجد، وما يقوله من سمع الناشد.

قوله: النهي عن نشد الضالة، من: نشدت الضالة أي طلبتها، وأنشدتها إذا عرّفتها، والضالة: هي الضائعة من كل ما يقتنى من الأموال، من الحيوان وغيره، يقال: ضل الشيء إذا ضاع، وتطلق على الذكر والأنثى والمفرد والجمع.

قال ابن الأثير: وقد تطلق على المعاني، ومنه الحديث: «الحكمة ضالة المؤمن» أي: لا يزال يتطلبها كما يتطلب الرجل ضالته. اهـ.

وحديث: «الكلمة الحكمة ضالة المؤمن» حديث ضعيف لا يصح، رواه الترمذي وابن ماجة وغيرهما، لكن معناه صحيح؛ فإنّ الحق أحقّ أن يتبع ولو جاء من العدو.

قوله: «منْ سمعَ رجلاً يَنْشدُ ضالةً في المسجد» أي: من سمع من يطلب ضالته، ويسأل الناس بصوت مرتفع في المسجد عن ضالته.

وفي رواية لمسلم (1/397): «أن رجلا نشد في المسجد، فقال: من دعا إلى الجمل الأحمر» أي: من وجد ضالتي وهو جملي الأحمر، فدعاني إليه.

قوله: «لا ردَّها اللهُ عليك» وفي رواية: «لا وَجدتَ» وهذا دعاءٌ عليه، وعقوبة له على مخالفته وعصيانه للشرع.

قوله: «فإنّ المساجدَ لم تُبنَ لهذا» وفي رواية: «إنما بُنيتْ المساجد لما ُبنيت له» أي: لم تبنَ المساجد للدنيا وأعمالها ونشد الضوال وما فقد من الأموال، إنما بنيت المساجد لذكر الله تعالى، والصلاة وقراءة القرآن، ودراسة الحديث، وتعليم العلوم الشرعية النافعة، ومذاكرة أحكام الحلال والحرام.

قال النووي: ويلحق به ما في معناه من: البيع والشراء والإجارة ونحوها من العقود، وكراهة رفع الصوت في المسجد.

قال القاضي عياض: فيه دليل على منع عمل الصانع في المسجد كالخياطة وشبهها، قال: وقد منع بعض العلماء من تعليم الصبيان في المسجد! قال: قال بعض شيوخنا: إنما يُمنع في المسجد من عمل الصنائع التي يختص بنفعها آحاد الناس، ويكتسب به فلا يتخذ المسجد متجرا، فأما الصنائع التي يشمل نفعها المسلمين في دينهم كإصلاح آلات الجهاد مما لا امتهان للمسجد في عمله، فلا بأس به. انتهى.

باب: النهي أن تُتخذ القبور مساجد

255 – عن عائشة وعبدالله بن عباس رضي الله عنهما قالا: لما نُزِل برسول الله[ طَفِق يَطرح خَميصةً له على وجهه، فإذا اغتنمّ كَشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك: «لعنةُ اللهِ على اليهود والنّصارى، اتخذوا قُبور أنبيائهم» يُحذّر مثلَ ما صنعوا.

الشرح: قال المنذري: باب: النهي أن تتخذ القبور مساجد.

والحديث أخرجه مسلم في المساجد (1/ 377) وبوب عليه النووي: باب النهي عن بناء المساجد على القبور، واتخاذ الصور فيها، والنهي عن اتخاذ القبور مساجد.

وأخرجه البخاري في الصلاة (435، 436 ) وغيرها.

قوله: «لما نزل برسول الله» نزل بضم النون وكسر الزاي، أي نزل به الموت، أو ملك الموت والملائكة الذين معه.

قوله « طفق» أي جعل «يطرح خميصة» هي كساء له أعلام، أي خطوط.

قوله: «فإذا اغتم بها» أي: كان إذا ضاق بها نَفَسه، أخّرها عن وجهه.

قوله: «فقال وهو كذلك» أي: وهو في تلك الحال، قال الحافظ ابن حجر: وكأنه صلى الله عليه وسلم عَلِم أنه مرتحلٌ من ذلك المرض، فخاف أن يُعظّم قبره كما فعل من مضى، فلعنُ اليهود والنصارى إشارةٌ إلى ذم من يفعل فعلهم.

قوله: «لعنةُ اللهِ على اليهود والنّصارى، اتخذوا قُبور أنبيائهم» واللعنة هي الطرد من رحمة الله تعالى، وهي دليل على قبح الشيء وشناعته وخبثه شرعا.

وفي رواية له: «قاتل الله اليهود» وهي بمعناها،كقوله تعالى: {قُتِل الإنسانُ ما أَكفره} (عبس: 17).

قوله: «يحذّر مثلَ ما صنعوا» جملة مستأنفة من كلام الرواي، وكأنه سُئل عن حكمة ذكر ذلك، فأجاب السائل.

وفي رواية لمسلم (1/376 ): «قالت: فلولا ذاك أُبرز قبره، غير أنه خُشي أن يُتخذ مسجدا»، وخشي: ضبط بضم الخاء وفتحها، قاله النووي.

قال في فتح المجيد: الظاهر أن قوله «يحذّر مثلَ ما صنعوا» من كلام عائشة رضي الله عنها؛ لأنها فهمت من قول النبي صلى الله عليه وسلم ذلك تحذير أمته من هذا الصنيع، الذي كانت تفعله اليهود والنصارى في قبور أنبيائهم، فإنه من الغلو في الأنبياء، ومن أعظم الوسائل إلى الشرك. قال: ومن غربة الإسلام: أن هذا الذي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعليه، تحذيرا لأمته أن يفعلوه معه صلى الله عليه وسلم ومع الصالحين من أمته، فعله الخلق الكثير من متأخري هذه الأمة، واعتقدوه قربة من القربات!! وهو من أعظم السيئات والمنكرات.

وما شعروا أن ذلك محادة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم ؟!

قال القرطبي: وكل ذلك لقطع الذريعة المؤدية إلى عبادة منْ فيها، كما كان السبب في عبادة الأصنام. انتهى.

إذ لا فرق بين عبادة القبور ومن فيها وعبادة الأصنام.

قوله: «فلولا ذاك أبرز قبره» أي: لولا ما يخشى من اتخاذ قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسجداً لأُبرز قبره، وجعل مع قبور الصحابة الذين كانت قبورهم في البقيع.

قوله: «غير أنه خُشي أن يُتخذ مسجدا» وخشي: كما ذكرنا ضبط بضم الخاء وفتحها، قال في «فتح المجيد»: فعلى الفتح يكون هو الذي خشي ذلك صلى الله عليه وسلم ، وأمرهم أن يدفنوه في المكان الذي قُبض فيه.

وعلى رواية الضم يحتمل أن يكون الصحابة هم الذين خافوا أن يقع ذلك من بعض الأمة، فلم يبرزوا قبره، خشية أن يقع ذلك من بعض الأمة غلوا وتعظيماً، بما أبدى وأعاد من النهي والتحذير منه، ولعن فاعله.

قال القرطبي: ولهذا بالغ المسلمون في سد الذريعة في قبر النبي صلى الله عليه وسلم فأغلقوا حيطان تُربته وسدوا المداخل إليها، وجعلوها محدقة بقبره صلى الله عليه وسلم ، ثم خافوا أن يُتخذ موضع قبره قبلة إذا كان مستقبل المصلين، فتصوّر الصلاة إليه بصورة العبادة، فبنوا جدارين من ركني القبر الشماليين، وحرفوهما حتى التقيا على زاوية مثلثة من ناحية الشمال، حتى لا يتمكّن أحدٌ من استقبال قبره. انتهى.

ويأتي مزيد بيان لهذه المسألة في الحديث التالي.

ابو وليد البحيرى
2024-08-04, 09:52 PM
شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 12 )

باب: النهي عن بناء المساجد على القبور
اعداد: الفرقان



الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

فهذه تتمة الكلام عن أحاديث كتاب «الصلاة» من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء.

256 – عن عائشةَ أن أم حبيبة وأم سلمة رضي الله عنهن: ذكرتا كنيسةً رأينها بالحبشة، فيها تصاوير، لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ أولئك إذا كان فيهم الرجلُ الصالحُ فماتَ، بَنوا على قَبره مسجداً، وَصَوّروا فيه تلك الصُّور، أولئك شِرارُ الخلقِ عند الله عزّ وجل يومَ القيامة».

الشرح: قال المنذري: باب: النهي عن بناء المساجد على القبور.

والحديث أخرجه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة (1/375 -376) في الباب السابق.

قوله: «أن أم حبيبة» هي أم المؤمنين رملة بنت أبي سفيان بن حرب الأموي، مشهورة بكنيتها مات سنة اثنتين أو أربع، وقيل: تسع وأربعين، وقيل: وخمسين، روى لها الجماعة.

قوله: «وأم سلمة» هي أم المؤمنين هند بنت أبي أمية بن المغيرة القرشية المخزومية، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاة أبي سلمة سنة أربع، وقيل: ثلاث، وكانت قد هاجرت مع أبي سلمة إلى الحبشة، ماتت سنة اثنتين وستين، روى لها الجماعة.

قوله «ذكرتا كنيسة» هي معبد النصارى.

قوله: «رأينها بالحبشة» رأتاها مع من معها من المهاجرات إليها، وذلك لما كانتا بالحبشة، زمن هجرة من هاجر من الصحابة إليها، بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وإشارته.

قوله: «فيها تصاوير» أي: فيها صور وتماثيل للأنبياء والصالحين.

قوله: «إنّ أولئك إذا كان فيهم الرجلُ الصالحُ فمات، بنوا على قبره مسجداً، وصوّروا فيه تلك الصُّور» الإشارة إلى ما ذكرت أم سلمة وأم حبيبة من التصاوير في الكنيسة.

قال القرطبي: وإنما صوّر أوائلهم الصور ليتأسوا بها، ويتذكروا أعمالهم الصالحة فيجتهدوا كاجتهادهم، ويعبدوا الله عند قبورهم، ثم خلفهم قومٌ جهلوا مرادهم، ووسوس لهم الشيطان أن أسلافهم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها، فحذّر النبي صلى الله عليه وسلم من مثل ذلك؛ سداً للذريعة المؤدية إلى ذلك. انتهى.

قوله «أولئك شرارُ الخلقِ عند الله عزّ وجل يومَ القيامة» وهذا القول منه صلى الله عليه وسلم يقتضي تحريم بناء المساجد على القبور، وقد لعن صلى الله عليه وسلم من فعل ذلك، كما مر معنا في الحديث السابق.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فهؤلاء جمعوا بين فتنتين: فتنة القبور، وفتنة التماثيل.

قال: وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع عن اتخاذ المساجد على القبور، هي التي أوقعت كثيرا من الأمم، إما في الشرك الأكبر، أو فيما دونه من الشرك، فإنّ النفوس قد أشركت بتماثيل الصالحين، وتماثيل يزعمون أنها طلاسم الكواكب ونحو ذلك، فإنّ الشرك بقبر الرجل الذي يعتقد بصلاحه، أقربُ إلى النفوس من الشرك بخشبة أو حجر.

قال: ولهذا تجد أهل الشرك يتضرّعون عندها ويخشعون ويخضعون، ويعبدون بقلوبهم عبادةً لا يفعلونها في بيوت الله، ولا وقت السَّحَر؟! ومنهم من يسجد لها؟! وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء، ما لا يرجونه في المساجد؟! فلأجل هذه المفسدة حسم النبي صلى الله عليه وسلم مادتها، حتى نهى عن الصلاة في المقبرة مطلقا، وإنْ لم يَقصد المصلي بركة البقعة بصلاته، كما يَقصد بصلاته بركة المساجد، كما نهى عن الصلاة وقت شروق الشمس وغروبها؛ لأنها أوقات يَقصد فيها المشركون الصلاة للشمس، فنهى أمته عن الصلاة حينئذ، وإنْ لم يقصد ما قصده المشركون؛ سداً للذريعة.

قال: وأما إذا قصد الرجل الصلاة عند القبور متبركاً بالصلاة في تلك البقعة، فهذا عين المحادّة لله ولرسوله، والمخالفة لدينه، وابتداع دين لم يأذن به الله؛ فإنّ المسلمين قد أجمعوا على ما علموه بالاضطرار من دين الرسول صلى الله عليه وسلم: أن الصلاة عند القبور منهيٌ عنها، وأنه صلى الله عليه وسلم لعنَ من اتخذها مساجد، فمن أعظم المحدثات وأسباب الشرك: الصلاة عندها، واتخاذها مساجد، وبناء المساجد عليها، وقد تواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن ذلك والتغليظ فيه.

قال: وقد صرّح عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد عليها، متابعة منهم للسنة الصحيحة الصريحة، وصرح أصحاب أحمد وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي بتحريم ذلك، وطائفة أطلقت الكراهة، التي ينبغي أن تحمل على كراهة التحريم؛ إحسانا للظن بالعلماء، وألا يظن بهم أن يُجوزوا فعل ما تواتر عن رسول الله من لعن فاعله والنهي عنه. انتهى (فتح المجيد: باب ما جاء من التغليظ فيمن عَبَد الله عند قبر رجلٍ صالح، فكيف إذا عبده؟!).

وقال البيضاوي: لما كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور الأنبياء تعظيما لشأنهم، ويجعلونها قبلة يتوجهون في الصلاة نحوها واتخذوها أوثانا، لعنهم النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى.

والعجب بعد ذلك من كثير ممن يدعي العلم بالقرآن والسنة النبوية، ثم لا ينكر هذا المنكر العظيم، بل ربما يحسّنه للناس؟! ويُفتي لهم بمشروعيته؟! وقد رأينا بعضهم يقيم الدروس العلمية في التفسير وغيره عند القبور والأضرحة؟؟ من غير أن ينكر هذا المنكر العظيم، ولا يحذر منه عوام المسلمين؟! فلا حول ولا قوة إلا بالله، وإنا لله وإنا إليه راجعون من غربة الإسلام وأهله!!

وبناء المساجد على القبور، أمرٌ محرم يجب على ولاة الأمور السعي في إزالته وهدمه.

قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ويجب هدم القباب التي على القبور؛ لأنها أسست على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم. انتهى.

وأما إذا كان القبر طارئا على المسجد، فيجب إخراج القبر من المسجد، ولا يجب هدم المسجد.

باب: جُعلتْ لي الأرضُ مسجداً وطهورا

257 - عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فُضلّت على الأنبياء بستٍ: أُعطيتُ جَوامعَ الكَلم، ونُصرتُ بالرُّعب، وأُحلتْ لي الغنائم، وجُعلتْ لي الأرضُ طَهوراً ومسجدا، وأُرسلتُ إلى الخَلقِ كافةً، وخُتم بي النبيون».

الشرح: قال المنذري: باب: جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا.

والحديث أخرجه مسلم في أول كتاب المساجد (1/371).

وأخرجه البخاري في التيمم وفي الجهاد (2977) وفي (7013) وفي الاعتصام (7273)

قوله: «فُضلّت على الأنبياء بستٍ» وفي الرواية الأخرى «بعثت بجوامع الكلم». وجوامع الكلم هي القرآن العظيم، الذي يحوي المعاني الكثيرة بالألفاظ القليلة، وكذلك يقع في كثير من الأحاديث النبوية الشريفة، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يتكلم باللفظ الموجز، القليل اللفظ الكثير المعنى، قال الحافظ: والقرآن هو الغاية في إيجاز اللفظ واتساع المعاني.

وقوله: «ونُصرتُ بالرُّعب»، وفي رواية: «مسيرة شهر» قال الحافظ ابن حجر: وظهر لي أن الحكمة في الاقتصار على الشهر، أنه لم يكن بينه وبين الممالك الكبار التي حوله أكثر من ذلك، كالشام والعراق واليمن ومصر، ليس بين المدينة النبوية للواحدة منها إلا شهر فما دونه.

قال: وليس المراد بالخصوصية مجرد حصول الرعب، بل هو وما ينشأ عنه من الظفر بالعدو. (الفتح 6/128).

قوله: «وأُحلتْ لي الغنائم» وفي رواية «ولم تحل لأحد قبلي» كما قال الله تعالى: {فكُلوا مما غَنمتم حَلالاً طيباً} (الأنفال: 69)، وهذا من رحمة الله تعالى بهذه الأمة الإسلامية، حيث أحل لها الغنائم وجعلها لهم حلالا، وكانت على الأمم السابقة حراما؛ ولهذا قال في ختام الآية {إنّ الله غفورٌ رحيم}. وكانت الغنائم من قبلنا تُجمع ثم تأتي نارٌ من السماء فتأكلها، كما جاء مبينا في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين في حديث يوشع بن نون عليه السلام.

قوله «وجُعلتْ لي الأرضُ طَهوراً ومسجدا», وهذا موضع الشاهد من الحديث في الباب؛ فإن التيمم هو من خصائص هذه الأمة المسلمة وحدها دون بقية الأمم، وهو من نعمة الله عليها، ورحمته لها، وتيسيره لها أمور دينها، فلم يجعل عليها حرجا ولا ضيقا ولا عسرا، كما قال الله تعالى: {فلم تَجدوا ماءً فتيّمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يُريد الله ليَجعل عليكم منْ حَرجٍ ولكن يُريد ليطهركم وليُتمّ نعمته عليكم لعلكم تشكرون} (المائدة: 6)، وهو مما يستوجب شكر الله عز وجل وحمده ومحبته.

وقد جاء في الرواية الأخرى: «وجعلت تربتها لنا طهورا».

وقد احتج بالرواية الأولى مالك وأبوحنيفة رحمهما الله وغيرهما ممن يرى جواز التيمم بجميع أجزاء الأرض.

واحتج بالرواية الثانية الشافعي وأحمد رحمهما الله وغيرهما ممن لا يرى جواز التيمم إلا بالتراب خاصة، وحملوا الرواية المطلقة وهي: «جعلت الأرض» على المقيدة وهي «تربتها» فلا يصح التيمم إلا بالتراب.

وفي الرواية الأخرى: «وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء».

كما يجوز التيمم عند عدم القدرة على الوصول للماء؛ لكونه في أرض بعيدة، أو في بئر عميقة ولا يستطيع الوصول إليه، أو لا يجد ثمنه.

كما يجوز التيمم إذا لم يقدر على استعمال الماء بسبب المرض.

وقوله «مسجدا»، معناه: أن من كان قبلنا من الأمم، إنما أبيح لهم الصلاة في مواضع مخصوصة، كالبِيَع والكنائس والصوامع.

قال القاضي عياض: وقيل: إن من كان قبلنا كانوا لا يصلون إلا فيما تيقنوا طهارته من الأرض، وخصصنا نحن بجواز الصلاة في جميع الأرض، إلا ما تيقنا نجاسته. انتهى.

قوله «وأُرسلتُ إلى الخَلقِ كافةً» كما قال تعالى: {قلْ يأيها الناسُ إني رسولُ الله إليكم جميعا} (الأعراف:8)، وقال سبحانه: {وما أَرسلناك إلا كافةً للناس بشيراً ونذيراً} وقال سبحانه {وما أَرسلناك إلا رحمةً للعالمين} وغيرها من الآيات الكريمة الدالة على عموم رسالته للناس كافة.

وفي الرواية الأخرى: «وبعثت إلى كل أحمر وأسود»، قيل الأحمر: البيض من العجم، والأسود: العرب لغلبة السمرة عليهم، وقيل: الأسود: السودان، وبالأحمر من عداهم من العرب وغيرهم، وقيل: الأحمر: الإنس، والأسود الجن، قال النووي: والجميع صحيح، فقد بعث إلى جميعهم.

وقوله: «وخُتم بي النبيون» فهو خاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه، كما قال الله تعالى {ما كان محمدٌ أبا أحدٍ من رجالكم ولكنْ رسولَ الله وخاتم النبيين} (الأحزاب: 40).


وإذا كان هو خاتم الأنبياء، فهو خاتم الرسل من باب أولى؛ لأن النبوة أعم من الرسالة، فإذا انتفت، انتفت الرسالة من باب أولى لأنها أخص، فكل نبي رسول، وليس العكس (انظر شرحنا على الطحاوية).
والله تعالى أعلم .

ابو وليد البحيرى
2024-08-10, 12:20 PM
شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 13 )

باب: قدْرُ ما يَسترُ المصلّي
اعداد: الفرقان



الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب «الصلاة» من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء.



258 – عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قامَ أحدُكم يُصلّي، فإنه يَسترُه إذا كان بين يديه مثلُ آخرةِ الرّحل، فإذا لم يكنْ بين يديه مثلُ آخرة الرّحل، فإنه يَقطعُ صلاته: الحمارُ، والمرأةُ، والكلب الأسودُ» قلت: يا أبا ذر، ما بالُ الكلبِ الأسودِ من الكلب الأحمر من الكلب الأصفر ؟ قال: يابن أخي، سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني، فقال: «الكلبُ الأسود شيطانٌ».

الشرح:

قال المنذري رحمه الله: باب: قدر ما يستر المصلي.

والحديث رواه مسلم في الصلاة (1/365) وبوب عليه النووي: باب قدر ما يستر المصلي.

ورواه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا بلفظ: «يقطعُ الصلاةَ: المرأةُ والحمار والكلب، ويقي منْ ذلك مثلُ مُؤْخِرة الرحل».

قوله: «فإنه يَستره إذا كان بين يديه مثلُ آخرةِ الرّحل» آخرة الرحل هي العود الذي في آخر الرحل الذي على ظهر البعير، وهو قدر عظم الذراع وهو ثلثي الذراع، ويتكئ عليه الراكب.

وفي رواية: «مثل مُؤخرة الرحل» بضم الميم وكسر الخاء وهمزة ساكنة.

ويقال بفتح الخاء مع فتح الهمزة وتشديد الخاء، ومع إسكان الهمزة، وتخفيف الخاء.

وفيه: استحباب الصلاة إلى السترة بين يدي المصلي، وهو قول جمهور العلماء، وأنه إذا صلى إلى غير سترة فإنه لا يأثم، كما في المجموع للنووي (2/209) والمغني (2/237) وغيرها.

وقيل: إنها واجبة.

وقد احتج الجمهور على الاستحباب بأحاديث، منها: حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أنه أتى منى والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيها بأصحابه إلى غير جدار. رواه البخاري (1/76) ومسلم (504).

واستحباب السترة هو للمنفرد والإمام، وأما المأموم فلا يسن له اتخاذ السترة؛ لأن الصحابة كانوا يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم ولا يتخذون خلفه سترة.

وفيه: بيان أقل السترة، وهو مؤخرة الرحل.

وتحصل السترة بأي شيء أقامه المصلي بين يديه مثلها أو أكثر.

والحكمة فيها: كفّ البصر عما وراءه، ومنع من يجتاز بقربه، واستدل عياض بهذا الحديث على أن الخط بين يدي المصلي لا يكفي، وإن كان قد جاء به الحديث، وأخذ به أحمد بن حنبل فهو ضعيف.

قلت: حديث الخط رواه أبو داود (689) وابن ماجة (943) عن أبي هريرة مرفوعا: «إذا صلى أحدُكم فليجعلْ تلقاء وجهه شيئا، فإنْ لم يجد فلينصبْ عصا، فإنْ لم يكن معه عصاً فليخطُط خطّا، ثم لا يضره ما مرّ أمامه».

وهو كما نقل العلامة حسن خان أنه حديث ضعيف، وقد أعله سفيان بن عيينة وابن الصلاح والنووي والبغوي وغيرهم بالاختلاف والاضطراب، وكذا الألباني في ضعيف أبي داود (134).

ولم يصب الحافظ ابن حجر رحمه في البلوغ في قوله: «ولم يصب من زعم أنه مضطرب بل هو حسن» وانظر تلخيص الحبير (1/305).

ولم ير مالك ولا عامة الفقهاء الخط، وحديث الباب حجة في رد الخط.

قال النووي (4/217): قال أصحابنا: ينبغي له أنْ يدنو من السترة ولا يزيد ما بينهما – أي بين المصلي والسُترة – على ثلاث أذرع، فإنْ لم يجد عصا ونحوها، جمع أحجارا أو ترابا أو متاعه، وإلا فليبسط مصلى، وإلا فليخط الخط !

وإذا صلى إلى سترة منع غيره من المرور بينه وبينها، وكذا يمنع من المرور بينه وبين الخط.

قال: ويحرم المرور بينه وبينها، فلو لم يكن سترة، أو تباعد عنها، فقيل: له منعه، والأصح: أنه ليس له؛ لتقصيره، ولا يحرم حينئذ المرور بين يديه لكن يكره.

قال: ولو وجد الداخل فرجة في الصف الأول، فله أن يمر يدي الصف الثاني، ويقف فيها لتقصير أهل الصف الثاني بتركها.

قال: والمستحب أن يجعل السترة عن يمينه أو شماله، ولا يصمد لها، والله أعلم. انتهى.

وقول النووي «والمستحب أن يجعل السترة عن يمينه أو شماله» لا يثبت فيه الدليل، وهو ما رواه أبوداود (693) عن ضباعة بنت المقداد عن أبيها مرفوعا: «ما رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى عُود ولا عمود ولا شجرة، إلا جعله على حاجبة الأيمن، أو الأيسر، ولا يَصمد له صَمْدا». وفيه: المهلب بن حجر البهراني، مجهول. وضعفه الألباني في السنن (136).

قوله: «فإذا لم يكنْ بين يديه مثلُ آخرة الرّحل، فإنه يَقطعُ صلاته: الحمارُ، والمرأةُ، والكلب الأسودُ» أي: إذا لم يكن له سترةٌ يقي بها صلاته من مرور هذه الأشياء، فإنها تقطع عليه صلاته.

وقال الإمام أحمد: يقطعها الكلب الأسود، وفي قلبي من الحمار والمرأة شيء!

وهو مذهب أصحاب الإمام أحمد، كما في زاد المستقنع فيما يبطل الصلاة، قال: وتبطل بمرور كلب أسود بهيم فقط. انتهى.

قال النووي: ووجه قوله: أن الكلب لم يجئ في الترخيص فيه شيء يعارض، وأما المرأة ففيها حديث عائشة المذكور بعد هذا، وفي «الحمار» حديث ابن عباس عند مسلم، وقال الجمهور من السلف والخلف: لا تبطل الصلاة بمرور شيء من هؤلاء ولا من غيرهم.

وتأولوا الحديث على أن المراد بالقطع نقص الصلاة؛ لشغل القلب بهذه الأشياء، وليس المراد إبطالها!

وقال بعضهم: إنه منسوخ ! بالحديث الآخر، وهو: «لا يقطع الصلاة شيء، وادرؤوا ما استطعتم، فإنما هو شيطان».

قال صديق حسن: وهذا غير مرض؛ لأن النسخ لا يصار إليه إلا إذا تعذر الجمع بين الأحاديث وتأويلها، وليس هنا تاريخ، ولا تعذر الجمع والتأويل، بل يتأول على ما ذكرناه، مع أن حديث «لا يقطع صلاة المرء شيء» ضعيف، والله أعلم. انتهى.

قلت: وقد بوب البخاري في الصلاة (105): باب من قال يقطع الصلاة شيء.

وهو حديث ضعيف كما قال، رواه أبوداود (719) وفيه: مجالد بن سعيد، ليس بالقوي. وضعفه الحافظ في الفتح تحت حديث (515) والألباني.

قال الحافظ: ومال الشافعي وغيره إلى تأويل القطع في حديث أبي ذر بأن المراد منه نقص الخشوع، لا الخروج من الصلاة. ويؤيد ذلك أن الصحابي سأل عن الحكمة في التقييد بالأسود فأجيب بأنه شيطان، وقد علم أن الشيطان لو مرّ بين يدي المصلي لم تفسد صلاته،كما سيأتي في الصحيح: «إذا ثوّب بالصلاة أدبرَ الشيطانُ، فإذا قضى التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه...» الحديث. انتهى.

وكل ما سبق لا يدل على عدم القطع وبطلان الصلاة المصرح به في هذا الحديث، ولا يصح أيضا حصر القطع بالكلب فقط، كما سيأتي بيانه في حديث عائشة رضي الله عنها، والله تعالى أعلم.

قوله: «قلت: يا أبا ذر، ما بالُ الكلبِ الأسودِ من الكلب الأحمر من الكلب الأصفر؟ قال: يابن أخي، سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني، فقال: «الكلبُ الأسود شيطانٌ»، وقوله «شيطان» هل المقصود به شيطان جن أم شيطان كلاب ؟ هو محتمل».
قال الشيخ ابن عثيمين في الشرح الممتع: الصحيح أنه شيطان كلاب، لا شيطان جن، والشيطان ليس خاصا بالجن، قال الله تعالى: {وكذلك جعلنا لكلّ نبيٍ عدواً شياطينَ الإنسِ والجنَ} (الأنعام: 112). فالشيطان كما يكون في الجن يكون في الإنس، ويكون في الحيوان، فمعنى شيطان في الحديث أي شيطان الكلاب؛ لأنه أخبثها؛ ولذلك يقتل على كل حال، ولا يحل صيده بخلاف غيره. انتهى.

ابو وليد البحيرى
2024-08-12, 11:24 PM
شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 14 )

باب : الدّنو من السترة
اعداد: الفرقان



الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب «الصلاة» من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء.

259- عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنهما قال: «كان بين مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الجِدار ممرُّ الشّاة».

الشرح :

قال المنذري رحمه الله: باب: الدنو من السترة .

والحديث أخرجه مسلم في الصلاة، وبوب عليه النووي (4/ 216) باب سترة المصلي والندب إلى الصلاة سترة، والنهي عن المرور بين يدي المصلي وحكم المرور ودفع المار، وجواز الاعتراض بين يدي المصلي والصلاة إلى الراحلة، والأمر بالدنو من السترة، وبيان قدر السترة وما يتعلق بذلك .

ورواه البخاري في الصلاة (496) باب: قدر كم ينبغي أن يكون بين المصلي والسترة .

قوله: «بين مصلى رسول الله» يعني «بالمصلى»: موضع السجود .

قوله «وبين الجدار» أي: جدار المسجد مما يلي القبلة، وجاء ذلك صريحا في رواية البخاري في الاعتصام، أي: المسافة ما بين المنبر والجدار، لأن مسجده لم يكن به محراب .

قال ابن بطال: هذا أقل ما يكون بين المصلي وسترته، يعني قدر ممر الشاة .

قال الحافظ: وقيل: أقل ذلك ثلاثة أذرع لحديث بلال «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة وبينه وبين الجدار ثلاثة أذرع كما سيأتي قريبا بعد خمسة أبواب .

وجمع الداودي: بأن أقله ممر الشاة، وأكثره ثلاثة أذرع .

وحمع بعضهم: بأن الأول في حال القيام والقعود، والثاني في حال الركوع والسجود .

وقال البغوي: استحب أهل العلم الدنو من السترة، بحيث يكون بينه وبينها قدر إمكان السجود، وكذلك الصفوف، وقد ورد الأمر بالدنو منها، وفيه بيان الحكمة في ذلك، وهو ما رواه أبوداود وغيره: من حديث سهل بن أبي حثمة مرفوعا: «إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها، لا يقطع الشيطان عليه صلاته» ( الفتح: 1/575 ) .

وحديث سهل رواه أبوداود (692) وإسناده على شرط الشيخين ، وصححه الألباني .

ورواه أبو داود (695) عن أبي سعيد الخدري مرفوعا بلفظ: «إذا صلى أحدكم، فليصل إلى سترة، وليدن منها». وأخرجه ابن ماجة .

وفيه أن من السنة: قرب المصلي من السترة .

وفي رواية: «وكان بين المنبر، والقبلة قدر ممر الشاة ».

قال النووي: المراد بالقبلة الجدار، وإنما أخر (المنبر) عن الجدار، لئلا ينقطع نظر أهل الصف الأول، بعضهم عن بعض.

قال: وينبغي أن يدنو من السترة، فلا يزيد ما بينهما على ثلاث أذرع .

فإن لم يجد عصاونحوها، جمع أحجارا أو ترابا أو متاعه .

وإلا فليبسط مصلى، وإلا فليخط الخط!

قال: وإذا صلى إلى سترة، منع غيره من المرور بينه وبينها ، وكذا يمنع المرور بينه وبين الخط، ويحرم المرور بينه وبينها، انتهى .

قال الشوكاني في «السيل الجرار »: هذه السنة – يعني اتخاذ السترة – ثابتة بالأحاديث الصحيحة الكثيرة، ولا وجه لتخصيص مشروعيتها بالفضاء، فالأدلة أعم من ذلك .

والكلام على مقدار السترة، ومقدار ما يكون بينها وبين المصلي، مستوفى من كتب الحديث، وشروحها، وأكثر الأحاديث مشتملة على الأمر بها .

قال : وظاهر الأمر الوجوب، فإنْ وُجد ما يصرف هذه الأوامر عن الوجوب إلى الندب، فذاك.

ولا يصلح للصرف قوله صلى الله عليه وسلم : «فإنه لا يضره ما مرّ بين يديه».

لأن تجنب المصلي لما يضره في صلاته، ويذهب ببعض أجرها، واجبٌ عليه. انتهى .

وأما خط الخط كسترة، فلم يثبت ، كما سبق بيانه في الحديث السابق .

باب : الاعتراض بين يدي المصلي

260 - عن عائشة رضي الله عنها: وذُكر عندها ما يقطع الصلاة: «الكلبُ، والحمار، والمرأة، فقالت عائشة: قد شبّهتمونا بالحمير والكلاب! والله لقد رأيتُ رسول الله [ يُصلي، وإني على السّرير، وبينه وبين القبلة مضطجعةٌ، فتبدو لي الحاجةُ فأكره أن أجلس فأوذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأَنسلُّ من عند رجليه».

الشرح :

قال المنذري: باب: الاعتراض بين يدي المصلي .

والحديث رواه مسلم في الصلاة ، وبوب عليه النووي ( 4 /229) الباب السابق .

وراه البخاري في الصلاة (1/581).

باب: الصلاة على السرير

وفي رواية «كان يصلي من الليل ، وأنا معترضة، بينه وبين القبلة كأعتراض الجنازة» .

وهذه أصرح وألصق بترجمة الباب.

وفي رواية: «قالت : كنت أنام بين يدي رسول الله [ ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني، فقبضت رجلي، وإذا قام بسطتهما، قالت: والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح» .

فاستدلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بذلك، وبعض العلماء بعدها؛ على أن المرأة لا تقطع صلاة الرجل! وبه بوب أبو داود على الحديث: باب من قال: المرأة لا تقطع الصلاة .

وفيه نظر؟! لأن عائشة رضي الله عنها لم تكن تمر بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما كانت تضطجع بين يديه، ثم تقوم للحاجة، وهذا واضح .

وفي الحدي: جواز صلاته إليها .

قال النووي: وكره العلماء أو جماعة منهم الصلاة إليها لغير النبي صلى الله عليه وسلم لخوف الفتنة بها، وتذكرها وإشغال القلب بها، وبالنظر إليها ، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فمنزه عن هذا كله، وصلاته مع أنه كان في الليل، والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح، انتهى.

قولها: «فتبدو لي الحاجةُ فأكره أن أجلس فأوذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأَنسلُّ من عند رجليه «قأنسل: أي أمضي وأخرج بتأن وتدريج. ومنه قول حسان رضي الله عنه: لأسلنّك منهم كما تُسل الشّعرة من العجين.

ابو وليد البحيرى
2024-08-17, 10:26 AM
شرح كتاب الصلاة من مختصر مسلم للمنذري (15)

باب تحويل القبلة عن الشام إلى الكعبة
اعداد: الفرقان




الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب «الصلاة» من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء.

261- عن أبي هريرة رضي الله عنه: «أن رجلا دخل المسجد فصلى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في ناحية، وفيه: إذا قُمتَ إلى الصلاة، فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر».

الشرح:

قال المنذري رحمه الله: باب تحويل القبلة عن الشام إلى الكعبة.

والحديث رواه مسلم في الصلاة (1/ 298) وهو في آخر ما بوب عليه النووي: باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة.

قال النووي: هذا الحديث مشتملٌ على فوائد كثيرة، وليعلم أولا أنه محمول على بيان الواجبات دون السنن، فإنْ قيل: لم يذكر فيه كل الواجبات، فقد بقي واجبات مجمع عليها ومختلف فيها، فمن المجمع عليه النية والقعود في التشهد الأخير، وترتيب أركان الصلاة. ومن المختلف فيه: التشهد الأخير، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والسلام، وهذه الثلاثة واجبة عند الشافعي رحمه الله تعالى.

قال: وفي هذا الحديث دليل على أن إقامة الصلاة ليست واجبة، وفيه وجوب الطهارة واستقبال القبلة وتكبيرة الإحرام والقراءة...إلى آخر ما قال (4 / 107 – 108).

قوله: «إذا قمت إلى الصلاة» أي: أردت القيام إلى الصلاة، كقوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم...} الآية، أي: إذا أردتم القيام إلى الصلاة فتوضؤوا.

قوله: «فأسبغ الوضوء» الإسباغ في اللغة الإتمام، أي توضأ وضوءا تاما لا تنقص منه شيئا.

قوله: «ثم استقبل القبلة» فيه وجوب استقبال القبلة عند الصلاة، فالأمر منه عليه الصلاة والسلام يقتضي الوجوب.

والحديث صريح في وجوب الطهارة، واستقبال القبلة، وتكبيرة الإحرام، وموضع الدلالة هنا: الأمر باستقبال القبلة فقط.

وفي القرآن الكريم وجوب استقبال البيت الحرام، قال سبحانه: {ومنْ حيثُ خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وُجوهكم شَطره} (البقرة: 150)، وشطر المسجد أي: جهته أو نحوه أو تلقاءه أو قبله، على اختلاف تفاسير السلف للشطر، فالآية تدل على أن استقبال الكعبة واجب عموما على الحاضر والبادي والمسافر، ولا تصح الصلاة بدونه، وعليه إجماع المسلمين، إلا لعاجز عنه، كالمريض والمقاتل حال القتال، والمسافر المتنفل على الدابة ونحوهم.

ومنْ كان في حال قيامه إلى الصلاة، معاينا للبيت الحرام، ولم يحل بينه وبينه حائل، فإن فرضه استقبال عين الكعبة لأنه يراها.

وأما إذا كان في بعض بيوت مكة، أو شعابها، وكان بينه وبين البيت حال القيام إلى الصلاة حائل؛ فإنه لا يجب عليه أن يصعد إلى مكان آخر يشاهد فيه البيت، بل فرضه التوجه لجهة الكعبة.

وهكذا الحال فيما يقرب منها أو ما يبعد من المصلين، ففرضه استقبال جهة الكعبة، وعليه أن يولي وجهه شطر المسجد الحرام، وليس عليه غير ذلك، ولم يأت دليل يدل على غير هذا.

وفي الحديث: «ما بين المشرق والمغرب قبلة» أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه، وأخرجه ابن ماجة، والحاكم، من حديث ابن عمر رضي الله عنه.

فالمراد من قوله: «ما بين المشرق والمغرب قبلة» أي: ما بينهما القبلة لمن كان بالمدينة النبوية وما حاذاها، فإذا توجه إلى الجهة التي بينهما، فقد فعل ما عليه من وجوب التوجه للكعبة.

وأما غيره فيمكن أن يستدل المصلي على القبلة بواسطة جهات الشمس والقمر، وكذا بعض النجوم المعروفة كالقطب، أو بسؤال من يثق به، أو بالمحاريب المنصوبة في المساجد، أو بالآلات والأجهزة الحديثة.

والله أعلم.

باب: في تحويل القِبلة عن الشّام إلى الكعبة

262 – عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا، حتى نزلت الآية التي في البقرة: {وحيثُما كُنْتم فولوا وجوهكم شَطره} (البقرة: 150) فنزلت بعد ما صلى النبي صلى الله عليه وسلم، فانطلق رجلٌ من القوم، فمرّ بناسٍ من الأنصار وهم يُصلون، فحدّثهم، فولوا وجوههم قبل البيت.

الشرح: قال المنذري رحمه الله: باب: في تحويل القِبلة عن الشّام إلى الكعبة.

والحديث رواه مسلم في الصلاة، وقال النووي: باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة.

ورواه البخاري في الصلاة (399) بنحوه، باب التوجه للقبلة حيث كان.

قوله عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: «صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس» أصل المقدس والتقديس من التطهير، وفيه لغتان مشهورتان: فتح الميم وسكون القاف، وضم الميم وفتح القاف، ويقال فيه أيضا: إيلياء، وإلياء ، وقد أوضحه النووي مع بيان لغاته، وتصريفه، واشتقاقه، في كتابه «تهذيب الأسماء».

قوله: «ستة عشر شهرا» أي: بعد هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. قوله «حتى نزلت الآية التي في البقرة {وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره} (البقرة: 150).

وقد جاء في الرواية الأخرى وفت نزولها عن ابن عمر قال: «بينما الناس في صلاة الصبح بقباء، إذ جاءهم آت فقال: إن رسول الله قد أنزل عليه الليلة، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة».

ووفي رواية البخاري «وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يوجه إلى الكعبة»، وفي رواية ابن عباس عند الطبري: لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، واليهود أكثر أهلها يستقبلون بيت المقدس، أمره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها سبعة عشر شهرا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يستقبل قبلة إبراهيم، فكان يدعو وينظر إلى السماء فنزلت.

وقد روى الإمام أحمد عنه أيضا قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بمكة نحو بيت المقدس والكعبة بين يديه».

أي: كان يستقبل بيت المقدس في مكة، لكنه يجعل الكعبة بينه وبينه.

قوله: «فنزلت بعدما صلى النبي صلى الله عليه وسلم، فانطلق رجل من القوم فمر بناس من الأنصار، وهم يصلون، فحدثهم» أي أبلغهم بتحول القبلة.

قوله «فولوا وجوههم قبل البيت».

والحديث فيه: جواز الصلاة الواحدة إلى جهتين، وهذا الصحيح؛ لأن أهل هذا المسجد استداروا في صلاتهم، واستقبلوا الكعبة، ولم يستأنفوها.

قال الشافعية: لو تغير اجتهاده أربع مرات في الصلاة الواحدة، فصلى كل ركعة منها إلى جهة، صحت صلاته على الأصح.

والحديث فيه دليل على جواز النسخ ووقوعه، وجواز نسخ السنة النبوية بالقرآن.

قال النووي (5/9): واختلف أصحابنا وغيرهم من العلماء رحمهم الله تعالى في أن استقبال بيت المقدس هل كان ثابتا بالقرآن أم باجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال القاضي عياض: الذي ذهب إليه أكثر العلماء أنه كان بسنة لا بقرآن، فعلى هذا يكون فيه دليل لقول من قال إن: القرآن ينسخ السنة، وهو قول أكثر الأصوليين المتأخرين، وهو أحد قولي الشافعي رحمه الله تعالى.

قال: واختلفوا أيضا في عكسه وهو نسخ السنة للقرآن: فجوزه الأكثرون، ومنعه الشافعي وطائفة.

وفيه: أن النسخ لا يثبت في حق المكلف، حتى يبلغه. انتهى.

والحديث فيه قبول خبر الواحد؛ لأن الصحابة الذين كانوا يصلون تجاه المسجد الأقصى بأمر منه صلى الله عليه وسلم، ثم قبلوا خبر من أخبرهم من الصحابة - وهو واحد - بتحول القبلة، وتحولوا جميعا إلى البيت الحرام. وبقبول خبر الواحد وحجيته في الاعتقاد والعمل، قال أهل السنة والجماعة، وخالف فيه المعتزلة.

وفي رواية البخاري: «فأنزل الله {قد نرى تقلب وجهك في السماء} فتوجه نحو الكعبة، وقال السفهاء من الناس – وهم اليهود – {ما وَلاّهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قُل لله المشرقُ والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقبم}».

أي: إذا كان المشرق والمغرب وغيرها من الجهات لله تعالى، ملكا له وخلقا، فلماذا يعترض المعترضون على أمره سبحانه وتعالى ؟! بل الواجب التسليم لأمره سبحانه والانقياد له، وهو يهدي من يشاء إلى صراطه المستقيم.

وقوله في حديث ابن عمر: «بينما الناس في صلاة الصبح بقباء، إذ جاءهم آت» قال الشافعي: سماها الله تعالى الفجر، وسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصبح، فلا أحب أن تسمى بغير هذين الاسمين.


قلت: وفيه المحافظة على الأسماء الشرعية فلا تغير، ولكن ورد في حديث ابن عمر: «صلاة الغداة» أيضا.

والله تعالى أعلم.

ابو وليد البحيرى
2024-08-19, 08:43 PM
شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 16 )

باب: إذا أُقيمت الصلاة فلا صلاةَ إلا المكتوبة





الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب «الصلاة» من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء.

263 – عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أُقيمتْ الصلاةُ، فلا صلاةَ إلا المكتوبة».

الشرح: قال المنذري: باب : إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة.

والحديث أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (1/493) وبوب عليه النووي (4 /221): باب كراهة الشروع في نافلة بعد شروع المؤذن في الإقامة.

وترجم به البخاري في الأذان حديث (663) وهو حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا وقد أقيمت الصلاة يصلي ركعتين، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم لاث به الناس، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصبحَ أربعاً، آلصبح أربعاً؟!».

قوله «إذا أقيمت الصلاة» أي: شرع في الصلاة.

قوله «فلا صلاة» أي: صحيحة، أو كاملة. قال الحافظ ابن حجر: والتقدير الأول أولى؛ لأنه أقرب إلى نفي الحقيقة، لكن لما لم يقطع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة المصلي، واقتصر على الإنكار – يعني في حديث ابن عباس – دلّ على أن المراد نفي الكمال.

قال: ويحتمل أن يكون النفي بمعنى النهي، أي: فلا تصلوا حينئذ.

قوله «إلا المكتوبة» أي المفروضة، ففيه منع التنفل بعد الشروع في إقامة الصلاة، سواء كانت راتبة أم غيرها.

قال النووي: فيها النهي الصريح عن افتتاح نافلة بعد إقامة الصلاة، سواء كانت راتبة أم غيرها، وهذا مذهب الشافعي والجمهور.

وقال أبو حنيفة: يصلي الصبح، ما لم يخش فوت الركعة الثانية!

وهو خطأ! مخالفٌ لحديث الباب، كما أن فيه تقديما للسنة على الفريضة، والمحافظة عليها أولى!

وفي إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على المتنفّل بقوله «آلصبح أربعا؟!» وإعادة ذلك عليه تأكيد للإنكار، والمعنى: هل تصلي الصبح أربعا؟! أي: حتى لا تلتبس صلاة الراتبة بالفريضة، أو تكون كالفريضة في الدرجة.

واستدل بعضهم بالاستمرار في الصلاة بقوله تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم}! والصحيح: أنه لا حجة فيها؛لأن الآية فيمن يبطل عمله برياء أو شرك ونحوهما من مبطلات الأعمال، أو يقطعها بلا موجب. وقال عياض: وفيه حكمة أخرى، وهي: النهي عن الاختلاف على الأئمة.

وقال ابن عبد االبر وغيره: الحجة عند التنازع السنة، فمن أدلى بها فقد أفلح، وترك التنفّل عند إقامة الصلاة، وتداركها بعد قضاء الفرض أقرب إلى اتباع السنة، ويتأيد ذلك من حيث المعنى بأن قوله في الإقامة: «حي على الصلاة» معناه: هلمّوا إلى الصلاة التي يقام لها، فأسعدُ الناس بامتثال هذا الأمر، منْ لم يتشاغل عنه بغيره، والله أعلم (الفتح).

قال العلامة صديق حسن خان نقلا عن «السيل الجرار» للشوكاني: ظاهر الحديث الصحيح عند مسلم وأحمد وأهل السنن وغيرهم: أن الخروج – أي من الصلاة - واجبٌ إذا سمع إقامة الصلاة، وهي قول المؤذن: قد قامت الصلاة، هذا هو المراد.

وإن كان المراد: القيام إلى الصلاة، كان الواجب عليه إذا عاين قيامهم إلى الصلاة، أن يخرج؛ لأن ظاهر قوله «فلا صلاة» نفي الصلاة الشرعية، فالمتنفّل عند إقامة الصلاة قد بطلت صلاته! فإذا استمر فيها فقد استمر في صلاة غير شرعية، وخالف ما جاء عن الشارع.

وإن كان المراد: المعنى المجازي في قوله: «فلا صلاة»، فقد تقرر أن نفي الصحة هو أقرب المجازين إلى الحقيقة، فيجب عليه العمل؛ لأنه يستلزم نفي صحة الصلاة.

وبهذا تعرف أنه لا وجه للتقييد بقولهم: لخشية فوتها، ولا لجعل الخروج منها مندوبا فقط. انتهى.

باب: متى يقوم الناس للصلاة إذا أقيمت؟

264- عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أقيمت الصلاة، فلا تقوموا حتى تروني».

الشرح: قال المنذري: باب: متى يقوم الناس للصلاة إذا أقيمت؟

والحديث رواه مسلم في المساجد (1/422) وبوب عليه النووي: باب متى يقوم الناس للصلاة؟

ورواه البخاري في الأذان (637) باب: متى يقوم الناس إذا رأوا الإمام عند الإقامة؟

ورواه في الباب الذي بعده (638) باب: لا يسعى إلى الصلاة مستعجلاً، وليقم بالسكينة والوقار، وفيه زيادة «وعليكم السّكينة».

قوله «إذا أقيمت الصلاة» أي: أخذ المؤذن بالإقامة.

قوله «فلا تقوموا حتى تروني» أي: لا تقوموا حتى تروا الإمام؛ لئلا يَطول عليهم القيام لأنه قد يَعرض له عارضٌ فيتأخر بسببه.

وجاء عن جابر بن سمرة: أن بلالا كان لا يُقيم حتى يخرج النبي صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم.

وقيل: يستحب ألا يقوم أحدٌ حتى يفرغ المؤذن من الإقامة.

وقال مالك في الموطأ: لم أسمع في قيام الناس حين تقام الصلاة بحدٍ محدود، إلا أني أرى ذلك على طاقة الناس؛ فإنّ منهم الثقيل والخفيف.

قال الحافظ ابن حجر: وذهب الأكثرون إلى أنهم إذا كان الإمام معهم في المسجد لم يقوموا حتى تفرغ الإقامة.

وعن أنس: أنه كان يقوم إذا قال المؤذن: قد قامت الصلاة. رواه ابن المنذر.

لكن ورد عند البخاري (639) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج وقد أقيمت الصلاة، وعدلت الصفوف حتى إذا قام في مصلاه..».

وفي رواية مسلم (1/422): «أقيمت الصلاةُ فقمنا فعدّلنا الصفوف قبل أن يخرج إلينا النبي صلى الله عليه وسلم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قام في مصلاه قبل أن يكبر، ذكر فانصرف، وقال لنا: مكانكم..».

قال الحافظ: فيجمع بينه وبين حديث أبي قتادة – حديث الباب – بأن ذلك ربما وقع لبيان الجواز، وبأن صنيعهم في حديث أبي هريرة كان سبب النّهي عن ذلك في حديث أبي قتادة، وأنهم كانوا يقومون ساعة تقام الصلاة، ولو لم يخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فنهاهم عن ذلك؛ لاحتمال أن يقع له شغلٌ يبطئ فيه عن الخروج، فيشقّ عليهم انتظاره، ولا يرد هذا حديث أنس الآتي أنه قام في مقامه طويلا في حاجة بعض القوم؛ لاحتمال أن يكون ذلك وقع نادرا، أو فعله لبيان الجواز. انتهى.

وجمهور أهل العلم من السلف والخلف: على أنه لا يكبر الإمام حتى يفرغ المؤذن من الإقامة.

والله تعالى أعلم.

باب إقامة الصلاة إذا خرج الإمام

265- عن جابر بن سمرة: كان بلالٌ يؤذن إذا دَحَضت، فلا يُقيم حتى يخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا خرج أقام الصلاة حين يراه.

الشرح: جابر بن سمرة هو ابن جنادة السُّوائي، صحابي ابن صحابي، نزل الكوفة ومات بها بعد سنة سبعين.

قال عياض: يجمع بين مختلف هذه الأحاديث: أن بلالا كان يراقب خروج النبي صلى الله عليه وسلم من حيث لا يراه غيره، أو إلا القليل، فعند أول خروجه يقيم، ولا يقوم الناس حتى يروه، ثم لا يقوم مقامه، حتى يعدلوا الصفوف.


ولعل أخذ الناس مصافهم قبل خروجه كان مرة أو مرتين ونحوها لبيان الجواز أو لعذر.
ولعل قوله صلى الله عليه وسلم: «فلا تقوموا حتى تروني» كان بعد ذلك، والله أعلم.

ابو وليد البحيرى
2024-08-30, 09:21 PM
شرح كتاب الصلاة من مختصر مسلم للمنذري (17)

باب: خروج الإمام بعد الإقامة للغسل
اعداد: الفرقان




الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب «الصلاة» من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء.

266- عن ابن شهاب قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، أنه سمع أبا هريرة يقول: أُقيمتْ الصلاة، فقُمنا فعدّلنا الصُّفوف، قبل أنْ يخرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا قام في مُصلاّه قبل أنْ يُكبر، ذَكَر فانصرف، وقال لنا: «مكانكم» فلم نَزل قياماً ننتظرُه حتى خَرَج إلينا، وقد اغتسل، ينَطِف رأسُه ماءً، فكبّر فصلى بنا».

الشرح: قال المنذري رحمه الله: باب خروج الإمام بعد الإقامة للغسل. والحديث رواه مسلم في المساجد (1/ 422) وبوب عليه النووي: باب متى يقوم الناس للصلاة.

قوله «أُقيمت الصلاة، فقمنا فعدّلنا الصُّفوف، قبل أنْ يخرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم»، فيه إشارة إلى أن هذا كان من عادتهم، أنهم يصفون قبل خروجه, وقوله «فعدّلنا الصُّفوف» قال النووي: وقد أجمع العلماء على استحباب تعديل الصفوف، والتراص فيها.

وقد كثر التنبيه منه عليه الصلاة والسلام على تسوية الصفوف وتعديلها.

قوله «حتى إذا قام في مصلاه قبل أن يكبر» صريحٌ أنه لم يكن كبّر ودخل في الصلاة، ومثله في رواية البخاري: «وانتظرنا تكبيره».

قوله: «ذَكَر فانصرف» أي تذكّر أنه كان جُنبا ولم يغتسل.

قوله: «وقال لنا: مكانكم» أي: ابقوا مكانكم، وفيه: جواز الفصل بين الإقامة والتكبيرة بزمن للحاجة، فإنهم قالوا: فلم نَزل قياماً ننتظرُه حتى خَرَج إلينا، وقد اغتسل. وظاهر الحديث: أنهم لم يجددوا الإقامة مرة أخرى.

وكذا قوله: «فكبّر فصلى بنا».

قال النووي: إن طال الزمان، فلا بد من إعادة الإقامة.

أي: إن طال كثيرا، والله أعلم.

قوله: «حتى خَرَج إلينا، وقد اغتسل، ينَطِف رأسُه ماءً» ينطف ماء، أي: يقطر، وهو يدل على قرب اغتساله.

كما يدل على سرعة فراغه من الاغتسال، وعدم تكلفه، وبعده عن الوسوسة والتكرار فيها.

باب: في تَسوية الصّفوف

267- عن عمارة بن عمير التيمي، عن أبي معمر، عن أبي مسعود، قال: كان رسولًُ الله صلى الله عليه وسلم يَمسحُ مَنَاكبنا في الصلاة، ويقول: «اسْتَوُوا، ولا تَخْتلفوا فتختلفَ قلوبُكم، ليَلني منكم أُولُو الأَحلامِ والنُّهى، ثم الذينَ يَلُونهم، ثم الذينَ يَلونهم».

قال أبو مسعود: فأنتم اليوم أشدُّ اختلافاً.

الشرح: قال المنذري رحمه الله: باب في تسوية الصفوف.

والحديث أخرجه مسلم في الصلاة (1/323) وبوب عليه النووي (4 /154): باب تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الأول فالأول منها. قوله: «كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَمسحُ مَنَاكبنا في الصلاة» يمسح مناكبنا، أي: يسوي مناكبنا في الصفوف ويعدلنا فيها.

وفي الرواية الأخرى عنده: «أَقيموا الصفَّ في الصلاة؛ فإن إقامة الصف من حسن الصلاة»، وأَقيموا الصفَّ، أي: سووه وعدلوه وتراصّوا فيه.

وفي الرواية الأخرى: «يُسوي صفوفنا كأنما يُسوي بها القداح» والقداح هي خشب السهام، ومعناه أنه يبالغ في تسويتها، حتى تصير كأنما يقوّم بها السهام لشدة استوائها واعتدالها.

قوله: «ولا تَخْتلفوا فتختلفَ قلوبُكم» فيه النهي عن الاختلاف، في الصلاة وغيرها، وأن اختلاف الظاهر يؤدي إلى اختلاف الباطن. وفي الرواية الأخرى عنده: «لتُسوُّنَّ صُفوفكم أو ليُخالفن بين وجوهكم» قيل معناه: يمسخها، والأظهر أن معناه: يُوقع بينكم العداوة والبغضاء، واختلاف القلوب، كما يقال: تغيّر وجه فلان عليّ، أي: ظَهَر لي من وجهه كراهة، وتغير قلبه عليّ؛ لأنّ مخالفتهم في الصفوف مخالفة في ظواهرهم، واختلاف الظاهر سببٌ لاختلاف البواطن، قاله النووي.

قال صديق خان: وقد صارت هذه السُّنة الصحيحة، المحكمة الصريحة، في هذا العصر، بل منذ أعصار، خالية مهجورة! كأنها شريعة منسوخة ! لا يرى لها عينٌ ولا أثر، في صلاة ولا في مسجد، ودبّ من هذا الاختلاف الظاهر، الاختلاف في بواطن المسلمين {وكان أَمرُ الله قدراً مقدورا} (الأحزاب: 38)، فإنا لله وإنا إليه راجعون. (السراج الوهاج 1/434).

وفيه: جواز الكلام والتوجيه بين الإقامة والدخول في الصلاة، سواء كان الكلام لمصلحة الصلاة أم لغيرها.

قوله: «ليَلني منكم» بكسر اللامين، «أُولُو الأَحلامِ والنُّهى» الأحلام هم العقلاء أو البالغون. والنهى: جمع نُهية بضم النون، وهي العقل، وسُميّ العقل نهية؛ لأنه ينتهي إلى ما أُمر به ولا يتجاوز. وقيل: لأنه ينهى عن القبائح.

قوله: «ثم الذينَ يَلُونهم، ثم الذينَ يَلونهم» فيه تقديم الأفضل فالأفضل إلى الإمام لأنه أولى بالإكرام، ولأنه ربما احتاج الإمام إلى استخلاف، فيكون هو الأولى.

ولأنه يتفطن لتنبيه الإمام على السهو ما لا يتفطن له غيره.

وفي عهده صلى الله عليه وسلم أراد من أولي الأحلام أن يضبطوا صفة الصلاة عنه ويحفظوها وينقلوها ويعلموها للناس، وليقتدي بأفعالهم من وراءهم؛ فإنه قد قال عليه الصلاة والسلام لهم: «صلُّوا كما رأيتُموني أُصلّي» متفق عليه.

قال العلامة صديق خان رحمه الله: ولا يختص هذا التقديم بالصلاة، بل السُّنة أن يقدم أهل الفضل في كل مجمع إلى الإمام وكبير المجلس، كمجالس العلم والقضاء والذكر والمشاورة ومواقف القتال، وإمامة الصلاة، والتدريس والإفتاء وإسماع الحديث ونحوها، ويكون الناس فيها على مراتبهم في العلم والدين والعقل والشرف والسن والكفاءة في ذلك الباب، والأحاديث الصحيحة متعاضدة على ذلك.

قال أبو مسعود: «فأنتم اليوم أشد اختلافا» يريد في زمانه، فكيف بهذا الزمان الذي عاد الإسلام فيه غريبا، وأي غريب؟! دَرَست فيه معالم السنن كلها! قاله صديق خان.

ابو وليد البحيرى
2024-09-03, 11:06 PM
شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 18 )

باب فضل الصف المقدم
اعداد: الفرقان



الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب «الصلاة» من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء.

268 – عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو يَعلمُ الناسُ ما في النّداء، والصّف الأولِ، ثم لم يَجدُوا إلا أنْ يَسْتَهمُوا عليه لاسْتهمُوا، ولو يَعلمون ما في التّهجير لاسْتبقوا إليه، ولو يَعلمون ما في العَتمََة والصُبح، لأَتوهُما ولو حَبْواً».

الشرح: قال المنذري رحمه الله: باب فضل الصّف المقدّم.

الحديث رواه مسلم في الصلاة (1/325) وبوب عليه النووي الباب السابق.

وأخرجه البخاري في الأذان (615) باب: الاستهام في الأذان، وفي باب: الصف الأول (721)، فهو متفق عليه.

قوله «ما في النّداء» هو الأذان.

قوله «إلا أنْ يَسْتَهمُوا» الاستهام هو الاقتراع، ومنه قوله تعالى: {فساهم فكان من المدحضين} (الصافات: 141).

قال الخطابي وغيره: قيل له «الاستهام»؛ لأنهم كانوا يكتبون أسماءهم على سهام إذا اختلفوا في الشيء، فمن خَرَج سهمه غلب.

قال الحافظ ابن حجر: أي لم يجدوا شيئاً من وجوه الأولوية، أما في الأذان فبأن يستووا في معرفة الوقت، وحُسن الصوت، ونحو ذلك من شرائط المؤذّن وتكملاته، وأما في الصف الأول فبأن يصلوا دفعة واحدة، ويستووا في الفضل فيُقرع بينهم، إذا لم يتراضوا فيما بينهم في الحالين.

وقال النووي: ومعناه أنهم لو علموا فضيلة الأذان وقدرها، وعظيم جزائه، ثم لم يجدوا طريقاً يُحصّلونه به، لضيق الوقت، عن أذان بعد أذان، أو كونه لا يُؤذن للمسجد إلا واحد، لاقترعوا في تحصيله.

قوله: «والصّف الأولِ»، وفي الرواية الأخرى لمسلم: «لو تعلمون – أو يعلمون – ما في الصف المقدّم، لكانت قرعة»، أي: لو يعلمون ما في الصف الأول من الفضيلة، وجاؤوا إليه دُفعة واحدة، وضاق عنهم، ثم لم يسمح بعضهم لبعض به، لاقترعوا عليه. وقوله: «عليه»، أي: على ما ذكر، فيشمل الأمرين: الأذان والصف الأول.

قوله: «التهجير»: هو التبكير إلى الصلاة، أي صلاةٍ كانت.

قال الحافظ: قال الهروي: وحمله الخليل وغيره على ظاهره فقالوا: المراد الإتيان إلى صلاة الظهر، في أول الوقت؛ لأن التهجير مشتقٌ من الهاجرة، وهي شدّة الحرّ نصف النهار، وهو أول الوقت، وإلى ذلك مال المصنف (يعني البخاري) كما سيأتي.

قال: ولا يَرد على ذلك مشروعية الإبراد لأنه أُريد به الرفق، وأما منْ ترك قائلته، وقصد إلى المسجد لينتظر الصلاة، فلا يخفى ما له من الفضل (الفتح 2/97).

قوله: «لاسْتبقوا إليه» قال ابن أبي جمرة: المراد الاستباق معنى لا حِساً، لأنّ المسابقة على الأقدام حِساً؛ تقتضي السرعة في المشي وهو ممنوع منه. انتهى.

قوله: «العتمة» هي العشاء.

قوله: «لأَتوهُما ولو حَبْواً»، الحبو: أن يمشي على يديه وركبتيه أو استه، وحبا البعير: إذا برك وزحف من الإعياء، وحبا الصبي: إذا زحف على استه. «النهاية».

قال النووي: فيه الحثُّ العظيم على على حضور جماعة هاتين الصلاتين، والفضل الكثير في ذلك؛ لما فيهما من المشقة الزائدة على النفس، من تنغيص أول نومها وآخره.

ولهذا كانتا أثقل الصلاة على المنافقين.

قال: وفي الحديث: تسمية العشاء «عَتَمة»، وقد ثبت النهي عنه، فكان بياناً للجواز، وأنّ النّهي ليس للتحريم.

باب منه

269 – عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خيرُ صُفُوفِ الرجالِ أولُها، وشرُّها آخرُها، وخيرُ صُفوف النساءِ آخرُها، وشَرُّها أَولها».

الشرح: الحديث أخرجه مسلم في الصلاة (1/326) وهو في الباب السابق.

قوله: «خيرُ صُفُوفِ الرجالِ أولُها» هذا على عمومه أبدا، وأفضلها الصف الأول وهو الذي يلي الإمام.

قال العلماء: في الحضّ على الصفّ الأول: المسارعة إلى إخلاص الذّمة، والسّبق لدخول المسجد، والقُرب من الإمام، واستماع قراءته، والتعلّم منه، والفتح عليه، والتبليغ عنه، والسلامة من اختراق المارة بين يديه، وسلامة البال من ُرؤية من يكون قدّامه، وسلامة موضع سجوده من أذيال المصلين. (الفتح 2/208).

قوله: «وخيرُ صُفوف النساءِ آخرُها، وشَرُّها أَولها»، أي: النساء اللواتي يُصلين خلف الرجال بالمسجد، وأما إذا صلين مُتميّزات (أي: بمصلى وحدهن) ليس مع الرجال، فهنّ كالرجال: خيرُ صفوفهن أولها، وشرُّها آخرها.

قوله: «وشرها آخرها»، المراد بشرّ الصّفوف فيهما: أقلُّها ثواباً وفضلاً، وأبعدها من مطلوب الشرع، وخيرها بعكس ذلك، قاله النووي.

قال: وإنما فضّل آخرَ صفوف النّساء الحاضرات مع الرجال؛ لبُعدهن منْ مُخالطة الرجال ورؤيتهم، وتعلّق القلب بهم عند رؤية حركاتهم، وسماع كلامهم، ونحو ذلك.

باب: السِّواك عند كلّ صلاة

270 – عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَولا أنْ أشقَّ على المُؤْمنين (وفي حديث زهير: على أُمتي) لأَمرتُهم بالسِّواكِ عند كلّ صلاةٍ».

الشرح: قال المنذري: باب: السِّواك عند كلّ صلاة. والحديث أخرجه مسلم في الطهارة (1/220) وبوّب عليه النووي: باب السواك. وأخرجه البخاري في الجمعة (887) بلفظ: «لأَمرتُهم بالسّواك مع كلّ صُلاةٍ».

السواك: هو العُود الذي يتسوَّك به، لتذهبَ به الرائحة عن الفم، ولتزول به الصفرة عن الأسنان.

قوله: «لَولا أنْ أشقَّ على المُؤْمنين أو على أُمتي» الشك من الراوي، قال البيضاوي: «لولا» كلمة تدل على انتفاء الشيء لثبوت غيره.

قوله: «لأمرتهم بالسواك» أي: باستعمال السواك.

قوله: «عند كلّ صلاةٍ»، وهي رواية مالك في الموطأ، وفي رواية البخاري: «مع كل صلاة»، وهذا يفيد استحبابه وتأكده عند الصلاة، وهو شامل للفرائض والنوافل.

قال الحافظ: وفيه دليل على أن الأمر للوجوب من وجهين:

- أحدهما: أنه نفى الأمر مع ثبوت الندبية، ولو كان للنّدب لما جاز النفي.

- ثانيهما: أنه جعل الأمر مشقة عليهم، وذلك إنما يتحقق إذا كان الأمر للوجوب؛ إذْ الندب لا مشقة فيه لأنه جائز الترك.

قال الشافعي: فيه دليلٌ على أن السّواك ليس بواجبٍ؛ لأنه لو كان واجباً لأمرهم، شَقّ عليهم به أو لم يشق.

والقول بعدم وجوبه هو قول أكثر أهل العلم، وقال داود: هو واجبٌ لكن ليس بشرط.

وقال المهلب: فيه أن المندوبات ترتفع إذا خُشي منها الحرج.

ورواه مالك والشافعي بلفظ: «لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء».

واستدل به النسائي على استحباب السواك للصائم بعد الزوال؛ لعموم قوله: «عند كل صلاة» (الفتح 2/ 376).

قال ابن دقيق العيد: الحكمة في استحباب السواك عند القيام إلى الصلاة كونها حالاً تقرب إلى الله، فاقتضى أن تكون حال كمال ونظافة؛ إظهاراً لشرف العبادة.

وقد ورد أن الأمر يتعلق بالمَلََك الذي يستمع القرآن من المصلي، فعن علي رضي الله عنه: أنه أمرنا بالسواك وقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنّ العبدَ إذا تسوّك ثم قام يُصلي، قام الملك خلفه فَيَستمع لقراءته فيدْنو منه - أو كلمة نحوها - حتى يَضعَ فاهُ على فيه، وما يَخرج منْ فيه شيءٌ من القرآن، إلا صارَ في جَوف الملَك، فطهّروا أفواهَكم للقُرآن». رواه البزار والبيهقي والضياء في «المختارة»، وصححه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (3 / 214).


وفي الحديث: ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الشّفقة والرحمة بأمته.

ابو وليد البحيرى
2024-09-19, 12:04 AM
شرح كتاب الصلاة من مختصر مسلم للمنذري (19)

باب فضل الذكر عند دخول الصلاة
اعداد: الفرقان


الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب «الصلاة» من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء. 271 - عن أنس رضي الله عنه: أن رجلاً جاء فدخل الصف، وقد حَفَزه النَّفس، فقال: «الحمدُ لله، حَمداً كثيراً طَيباً مُباركا فيه»، فلما قَضَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صلاته ، قال: «أيُّكم المتكلّم بالكلماتِ؟» فأرَمَّ القوم، فقال: «أيكم المتكلّم بها؟» فإنه لم يقلْ بأسا فقال رجلٌ: «جئتُ وقدْ حَفَزني النفس فقلتها»، فقال: «لقد رأيتُ اثنَي عشرَ مَلَكاً يَبْتدرونها، أيهم يَرفعها». الشرح :
قال المنذري: باب فضل الذكر عند دخول الصلاة .
والحديث رواه مسلم في المساجد (1/ 419 – 420)، وبوب عليه النووي (5/ 96 ): باب ما يقال بين تكبيرة الإحرام والقراءة.
- أي: هو من أذكار الاستفتاح في الصلاة، وهو مستحب عند الجمهور، وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم من أكثر من طريق وأكثر من صيغة للاستفتاح.
- فروى الشيخان: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر في الصلاة سكت هنيّة قبل أن يقرأ، فقلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة، ما تقول؟ قال: «أقول: اللهم باعدْ بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقّني من خطاياي كما يُنقى الثوبُ الأبيض من الدّنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد».
- وحديث عمر رضي الله عنه: «سبحانك اللهم وبحمدك ، وتبارك اسمك ، وتعالى جَدُك، ولا إله غيرك».
وغيرها من الاستفتاحات.
- قوله: «وقد حفزه النفس» بفتح حروفه وتخفيفها، أي: ضغطه لسرعته في سعيه للصلاة.
- قوله: «أيُّكم المتكلّم بالكلماتِ؟ «أي: التي سمعها منه النبي صلى الله عليه وسلم أثناء دخوله للصلاة.
- قوله: «فأرمّ القوم» أرم بفتح وتشديد الميم ، أي : سكتوا ولم يُجيبوا.
- قال عياض: ورواه بعضهم في غير صحيح مسلم: بالزاي وتخفيف الميم، من الأزم، وهو الإمساك، وهو صحيح المعنى.
- قوله: «فإنه لم يقلْ بأسا» طمأنه بذلك ليتكلم؛ لأنه لم يُجب خوفا أو حياء منه صلى الله عليه وسلم، ظنّا منه أنه قد أخطأ بما قال.
- قوله: «فقال رجلٌ: جئتُ وقدْ حَفَزني النفس فقلتها» لم ُيذكر في الحديث اسمه.
- قوله: «لقد رأيتُ اثنَي عشرَ مَلَكاً يَبْتدرونها ، أيهم يَرفعها» أي: لفضل هذه الكلمات وشرفها وبركتها عند الله تعالى.
وفيه دليل على أنَّ بعض الطاعات قد يَكتبها غيرُ الحفظة أيضا، قاله النووي.
باب رفعُ اليدين في الصلاة
272 – عن سالم بن عبد الله أن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «كان رسولُ اللهصلى الله عليه وسلم إذا قامَ للصلاة، رفعَ يديه حتى تًَكونا حَذْوَ مَنْكبيه، ثم كبّر، فإذا أرادَ أنْ يَركع فعلَ مثل ذلك، ولا يَفعله حين يَرفع رأسه منْ السجود».
الشرح:
- قال المنذري: باب رفع اليدين في الصلاة.
والحديث أخرجه مسلم في الصلاة، وبوب عليه النووي (4/ 93): باب استحباب رفع اليدين حذو المنكبين مع تكبيرة الإحرام، والركوع، وفي الرفع من الركوع، وأنه لا يفعله إلا إذا رفع من السجود.
والحديث في أفعال الصلاة، وهو رفع اليدين في هذه المواضع، وإثبات تكبيرة الإحرام.
قال النووي: أجمعت الأمة على استحباب رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام، واختلفوا فيما سواها.
فقال أحمد والشافعي وجمهور العلماء من الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم يستحب رفعهما أيضا عند الركوع وعند الرفع منه، وهو رواية عن مالك.
قال: وللشافعي قول أنه يستحب رفعهما في موضع رابع، وهو: إذا قام من التشهد الأول، وهذا القول هو الصواب، فقد صحّ فيه حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلمأنه كان يفعله، رواه البخاري (وهو حديثنا هذا) .
قال: وصح أيضا من حديث أبي حُميد الساعدي، رواه أبو داود والترمذي بأسانيد صحيحة.
وقال أبو حنيفة وأصحابه وجماعة من أهل الكوفة: لا يستحب الرفع في غير تكبيرة الإحرام؟ وهو أشهر الروايات عن مالك؟!
قلت: والحديث حجةٌ عليهم.
قوله: «كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلمإذا قام للصلاة رفعَ يديه حتى تكونا حَذْوَ مَنْكبيه»، وفي الرواية الأخرى «حتى يحاذي بهما أذنيه»، وفي ثالثة «فروع أذنيه».
فصفة الرفع لليدين: إما أن يرفع يديه حذو منكبيه، أي: تحاذي أطراف أصابعه فروع أذنيه، أي: أعلى أُذنيه، وإبهاماه شحمتي أذنيه.
وأما وقت الرفع، فقال النووي: ففي الرواية الأولى «رفع يديه ثم كبر».

وفي الثانية « كبر ثم رفع»، وفي الثالثة «إذا كبر رفع يديه» أي: مع التكبير.
وأن يكون باطن كفيه للقبلة عند الرفع، ممدودة الأصابع، مفرقة الأصابع تفريقا وسطا.
وإذا فرغ من التكبير حطّ يديه ولم يستدم الرفع ، ووضعهما على صدره.
وقوله: «إذا قام للصلاة، رفعَ يديه حتى تكونا حَذْوَ مَنْكبيه، ثم كبّر» فيه إثبات تكبيرة الإحرام، وهي ركنٌ من أركان الصلاة لا تصح الصلاة بدونها، عند كافة العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «مفتاحُ الصلاة الطهور، وتحريمها التّكبير، وتحليلها التسليم» رواه أحمد وأبوداود والترمذي وابن ماجة .
وقال: «صلّوا كما رأيتموني أُصلي» متفق عليه، من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه.
ولفظة التكبير هي قول: الله أكبر، وهو ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلمأنه كان يقوله.
والتكبير تنزيه لله تعالى وتعظيم، وأجاز أبو حنيفة كل قول فيه تعظيم الله تعالى؟! كقوله: الرحمن أكبر، أو الله أجل، أو أعظم! وخالفه جمهور العلماء من السلف والخلف فقالوا: لا يجزيء إلا: الله أكبر، أما الحكمة من رفع اليدين، ففيه أقوال.

وقال النووي جامعا ذلك: واختلفت عبارات العلماء في الحكمة في رفع اليدين، فقال الشافعي رضي الله عنه: فعلته إعظاما لله تعالى واتباعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال غيره: هو استكانة واستسلام وانقياد، وكان الأسير إذا غلب مد يديه علامة للاستسلام، وقيل: هو إشارة إلى استعظام ما دخل فيه، وقيل: إشارة إلى طرح أمور الدنيا، والإقبال بكليته على الصلاة، ومناجاة ربه سبحانه وتعالى، كما تضمن ذلك قوله: «الله أكبر» فيطابق فعله قوله.

ابو وليد البحيرى
2024-09-25, 06:26 AM
شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 20 )

باب ما يفتتح به الصلاة ويختم
اعداد: الفرقان




الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب «الصلاة» من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء.







273- عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَستفتح الصلاة، بالتكبير، والقراءة بـ: {الحمدُ لله ربّ العالمين}، وكان إذا ركع لم يُشْخِص رأسَه ولم يُصَوّبه، ولكن بين ذلك، وكان إذا رَفعَ رأسه من الركوع ، لم يَسجد حتى يستوي قائماً، وكان إذا رفع رأسه من السجدة، لم يسجد حتى يستوي جالسا، وكان يقولُ في كل ركعتين: التحيّةَ، وكان يَفْرشُ رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى، وكان ينهى عن عُقبة الشيطان، وينهى أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السَّبُع، وكان يختمُ الصلاةَ بالتسليم».

الشرح: قال المنذري : باب ما يفتتح به الصلاة ويختم .

والحديث رواه مسلم في الصلاة (1/359) وبوب عليه النووي (4/213): باب ما يجمع صفة الصلاة، وما يفتتح به ويختم به، وصفة الركوع، والاعتدال منه، والسجود والاعتدال منه، والتشهد بعد كل ركعتين من الرباعية، وصفة الجلوس بين السجدتين، وفي التشهد الأول.

قولها: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَستفتح الصلاة بالتكبير» أي: يبتدئ صلاته بتكبيرة الإحرام.

والقراءة بـ : {الحمدُ لله ربّ العالمين} أي: يبتدئ قراءة القرآن بسورة الفاتحة، لا بسورة غيرها.

- وقد استدل بهذا : على أنه صلى الله عليه وسلم لا يجهر بـ:{بسم الله الرحمن الرحيم} سواء قلنا إنها آية من سورة الفاتحة، أم ليست منها على الراجح من أقوال أهل العلم.

- قولها: «وكان إذا ركع لم يُشْخِص رأسَه ولم يُصَوّبه» لم يشخص أي لم يرفع رأسه، ولم يصوبه أي: لم يخفضه خفضا بليغا «ولكن بين ذلك» بين الإشخاص والتصويب.

- قولها: «وكان إذا رَفعَ رأسه من الركوع، لم يَسجد حتى يستوي قائماً» فيه: وجوب الاعتدال والطمأنينة فيه، إذا رفع رأسه من الركوع، وهو من أركان الصلاة التي لا تصح دونه.

- قولها: «وكان إذا رفع رأسه من السجدة، لم يسجد حتى يستوي جالسا» فيه وجوب الجلوس بين السجدتين، والطمأنينة فيه.

- قولها: «وكان يقولُ في كل ركعتين: التحيّة» فيه حجةٌ للإمام أحمد ومن وافقه من الفقهاء والمحدثين، أن التشهد الأول والأخير واجبان.

- وقال مالك وأبو حنيفة : هما سنتان!

- وقال الشافعي: الأول سنة! والثاني واجب.

واحتج أحمد بهذا الحديث، مع قوله صلى الله عليه وسلم : «صلوا كما رأيتموني أصلي» وبقوله: «كان يُعلّمنا التشهد كما يُعلمنا السورة من القرآن» وبقوله: «إذا صلى أحدُكم فليقل: التحياتُ لله..» الحديث، والأمر للوجوب ، ولم تفرق الأحاديث بين التشهد الأول والأخير .

وإذا نسيه المصلي جبره بسجود السهو.

- قولها: «وكان يَفْرشُ رجله اليسرى، وينصب رجله اليمنى» أي: يجلس مفترشا، بأن يبسط قدمه اليسرى ويجلس عليها ، وينصب قدمه اليمنى. وكان ينهى عن عُقبة الشيطان، وينهى أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السَّبُع، وكان يختمُ الصلاةَ بالتسليم.

- قال الشافعي: السنة أن يجلس كل الجلسات مفترشا، إلا التي يعقبها السلام.

واحتج بحديث أبي حميد الساعدي في البخاري، وفيه تصريح بالافتراش في الجلوس الأول، والتورك في آخر الصلاة، قاله النووي. وقال: وجلوس المرأة كجلوس الرجل، وصلاة النفل كصلاة الفرض في الجلوس.

- هذا مذهب الشافعي ومالك والجمهور، وحكى عياض عن بعض السلف: أن سُنّة المرأة التربّع ، والصواب الأول.

- قولها: «وكان ينهى عن عُقبة الشيطان» وفي رواية: «وكان يَنهى عنْ عَقِبِ الشيطان» والعقب: هو مؤخر القدم.

- وفسره أبو عبيدة وغيره: بالإقعاء، وهو أن يلصق إليتيه بالأرض، وينصب ساقيه، ويضع يديه على الأرض كما يفرش الكلب وغيره من السباع .

- والحكمة في النهي عنه: أنه يشعر بالتهاون بالصلاة ، وقلة الاعتناء بها. وهو غير الإقعاء ذكره الإمام مسلم بعد هذا الحديث، في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وهو أن يجعل إليتيه على عقبيه بين السجدتين ، وقال عنه: هو سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم .

- قولها: «وينهى أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السَّبُع» والافتراش أن تجعل الذراع كاملا على الأرض، والصحيح: أن ترفع مؤخر الذراع - وهو المرفق - عن الأرض، وتضع الكفين فقط؛ لأن التصاق الذراع بالأرض هي صفة السباع، وقد نهي المصلي عن ذلك، كما نهي عن أن يتشبه في صلاته بالحيوانات، فنهي عن افتراش السبع، وإقعاء الكلب، ونقر الديك والغراب، والتفات الثعلب، كما ورد في الأحاديث الصحيحة .

- وكان يختمُ الصلاةَ بالتسليم فيه دليل على وجوب التسليم، مع قوله صلى الله عليه وسلم : «صلوا كما رأيتموني أصلي» وقوله: «وتحليلها التسليم».

- وقد قال جمهور العلماء من السلف والخلف: بأن السلام فرضٌ، ولا تصح الصلاة إلا به.

- وقال أبوحنيفة والثوري والأوزاعي: هو سنة؟! وما سبق من الأحاديث ترد قولهم.

- ثم المشروع عند جمهور العلماء: تسليمتان، كما دلت عليه الأحاديث الكثيرة، يقول فيهما: السلام عليكم ورحمة الله .

- ففي حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه عند النسائي (3/63) قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكبّر كل خفضٍ ورفع وقيام وقعود، ويُسلّم عن يمينه وعن شماله: السلام عليكم ورحمة الله، حتى يُرى بياض خديه، ورأيت أبا بكر وعمر رضي الله عنهما يفعلان ذلك. ورواه الترمذي .

- وفي صحيح مسلم: عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: كنت أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم عن يمينه وعن يساره، حتى أرى بياض خده. وورد عنه صلى الله عليه وسلم : أنه كان أحيانا يسلم تسليمة واحدة في النفل وصلاة الجنازة.

- فروى الترمذي (2/90) وابن ماجة وصححه ابن حبان : من حديث عائشة رضي الله عنها: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُسلّم في الصلاة تسليمةً واحدة تلقاء وجهه، يميل إلى الشق الأيمن شيئا».

- وجاء في مسند أحمد وابن حبان: أن ذلك كان في صلاة الليل .

وقد ضعفه غير واحد كالعقيلي والنووي وابن القيم، ورجحوا أحاديث التسليمتين، في حين حسنه جماعة من المحدثين كابن حبان والحاكم، ومن المعاصرين العلامتان أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي، والألباني في «صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم » رحم الله الجميع.

- وقال العلامة أحمد شاكر: والذي أراه أن حديث عائشة حديث صحيح، وأن التسليمة الواحدة كانت منه في بعض الأحيان في صلاة الليل، وأن الذين رووا عنه التسليمين إنما يحكون التسليم الذي رأوه في صلاة المسجد وفي الجماعة، وبهذا نجمع بين الروايتين. (سنن الترمذي 2/92) .

وقد ورد ما يدل على أن من مقصود التسليم: أن يكون على من عن يمينه وشماله من إخوانه المصلين: فروى مسلم: عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: كنا إذا صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، وأشار بيده إلى الجانبين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «علام تؤمنون بأيديكم كأنها أذناب خيلٍ شُمس، إنما يكفي أحدكم أنْ يضعَ يده على فخذه، ثم يُسلم على أخيه من على يمينه وشماله».

- وفي الحديث هذا: النهي عن رفع اليد عند التسليم من الصلاة.

وورد في سنن أبي داود زيادة «وبركاته» في التسليمتين، وقد ضعفها كثير من العلماء، كالنووي.


وصحح بعضهم ثبوتها قي التسليمة الأولى لا الثانية، وهو الصواب، ويكون الإتيان بها أحيانا.
والله تعالى أعلم.

ابو وليد البحيرى
2024-09-30, 06:50 AM
شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 21 )

بــاب التكــبير فــي الصــلاة
اعداد: الفرقان




الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب «الصلاة» من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء.

274- عن أبي بكر بن عبد الرحمن، أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يُكبّر حين يقوم، ثم يُكبر حين يركع، ثم يقول: «سَمِع اللهُ لمنْ حَمِده» حين يرفع صُلْبه منْ الركوع، ثم يقول وهو قائمٌ: «ربّنا ولك الحمد» ثم يُكبر حين يَهوي ساجداً، ثم يُكبّر حين يرفع رأسه، ثم يكبر حين يسجد، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يفعل مثل ذلك في الصلاة كلها حتى يَقضيها، ويُكبر حين يقوم من المثنى بعد الجلوس. ثم يقول أبو هريرة: إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم».

الشرح:

قال المنذري: باب التكبير في الصلاة. والحديث رواه مسلم في الصلاة (1/ 293 - 294) وبوب النووي: باب إثبات التكبير في كل خفض ورفع في الصلاة، إلا رفعه من الركوع فيقول فيه: سمع الله لمن حمده.

قوله «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يُكبّر حين يقوم، ثم يُكبر حين يركع... ثم يفعل ذلك في الصلاة كلها حتى يقضيها» فيه إثبات التكبير في كل خفض ورفع إلا في رفعه من الركوع فإنه يقول: سمع لمن حمده.

قال النووي: وهذا مجمع عليه اليوم ومن الأعصار المتقدمة، وقد كان فيه خلاف في زمن أبي هريرة رضي الله عنه، وكان بعضهم لا يرى التكبير إلا للإحرام، وبعضهم يزيد عليه بعض ما جاء في حديث أبي هريرة.

قال: وكأنّ هؤلاء لم يَبلغهم فعلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا كان أبو هريرة يقول: إني لأشبهكم صلاةً برسول الله صلى الله عليه وسلم، واستقرّ العمل على ما في حديث أبي هريرة هذا. انتهى.

وقد ذهب الإمام أحمد ومن وافقه إلى أن هذه التكبيرات واجبة؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: «صلوا كما رأيتموني أصلي».

وذهب الجمهور إلى أنها سنةٌ مستحبة! فلو تركها صحت صلاته، لكن فاتته الفضيلة، وأن الواجب تكبيرة الإحرام فقط! واحتجوا بحديث الأعرابي حين علمه الصلاة ولم يذكر منها هذا.

وعلى هذا: ففي كل ركعة خمس تكبيرات، وتسمى عند الفقهاء بتكبيرات الانتقال.

قوله «يكبر حين يهوي ساجدا، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يكبر حين يسجد، ثم يكبر حين يرفع رأسه» هذا دليل على مقارنة التكبير لهذه الحركات، ويجوز أن يكون التكبير قبلها أو بعدها، وسبق الحديث عن ذلك.

ونقل النووي عن الشافعية وكثير من الفقهاء قولهم: يمد التكبير ويبسطه حين يشرع في الانتقال من الركن، حتى يصل للركن الذي يليه، فيبدأ مثلاً بالتكبير حين يشرع في الهوي إلى السجود، ويمدّه حتى يضع جبهته على الأرض!

ولكن تعقبه الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» بقوله: «ودلالة هذا اللفظ على البسط الذي ذكره غير ظاهرة» انتهى.

وقال الصنعاني رحمه الله: «وظاهر قوله: (يكبر حين كذا وحين كذا) أن التكبير يقارن هذه الحركات فيشرع في التكبير عند ابتدائه للركن. وأما القول بأنه يمد التكبير حتى يتم الحركة، فلا وجه له، بل يأتي باللفظ من غير زيادة على أدائه ولا نقصان منه». انتهى. «سبل السلام» (1/367).

وقد روى الترمذي (297) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «حَذْفُ السّلام سُنّةٌ». ورواه أبوداود وأحمد (2/522).

قال ابن المبارك: يعني ألّا يمدَّه مدّاً. قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسن صحيح، وهو الذي استحبّه أهلُ العلم. قال: وروي عن إبراهيم النخعي أنه قال: التكبير جَزْمٌ، والسلام جزمٌ.

قوله «ثم يقول: سَمِع اللهُ لمنْ حَمِده، حين يرفع صُلْبه منْ الركوع، ثم يقول وهو قائمٌ: ربّنا ولك الحمد» دليلٌ لمذهب الشافعي وطائفة: أنه يُستحب لكلّ مصلٍّ من إمامٍ ومأمومٍ ومنفرد، أنْ يجمع بين قوله «سمع الله لمن حمده» و«ربنا ولك الحمد» فيقول: «سمع الله لمن حمده» في حال رفعه من الركوع، و«ربنا ولك الحمد» عند استوائه وانتصابه؛ لثبوت فعلهما عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال أحمد: إن المأموم يكتفي بقوله «ربنا ولك الحمد»؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبّر فكبّروا، وإذا رفعَ فارفعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد...» متفق عليه.

والراجح قول الشافعي – والله أعلم - لأننا إذا قلنا: إنّ المأموم لا يقول: سمع الله لمن حمده، صار رفعه من الركوع، خالياً من الذكر!

قوله «ويُكبر حين يقوم من المثنى بعد الجلوس» أي: يكبر حين قيامه من التشهد الأول، وبه قال الجمهور.

وقال مالك: لا يكبر حتى يستوي قائما.

قال الشيخ الألباني رحمه الله في تلخيص صفة الصلاة: ثم يكبر وجوباً، والسّنة أن يكبر وهو جالس، ويرفع يديه أحيانا.

وفي الصحيحة (604): «كان إذا أراد أن يسجد كبر ثم يسجد، وإذا قام من القعدة كبر ثم قام».

أخرجه أبو يعلى في «مسنده» (284 / 2).

قال: والحديث نص صريحٌ في أن السّنة التكبير ثم السجود، وأنه يكبر وهو قاعدٌ ثم ينهض.

وفي معناه ما أخرجه البخاري (825): «صلى لنا أبو سعيد فجهر بالتكبير حين رفع رأسه من السجود، وحين سجد، وحين قام من الركعتين، وقال: هكذا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم».

فقوله «وحين قام من الركعتين» أي: عند ابتداء القيام، وبه فسّره الحافظ.

وقد قال الحافظ (2 / 304): «فالمشهور عن أبي هريرة أنه كان يكبر حين يقوم، ولا يؤخره حتى يستوي قائما كما تقدم عن «الموطأ»، وأما ما تقدم من حديثه بلفظ: «وإذا قام من السجدتين قال: الله أكبر»، فيحمل على أن المعنى: إذا شرع في القيام».

ابو وليد البحيرى
2024-10-07, 06:09 AM
شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 22 )

باب النهي عن مبادرة الإمام بالتكبير وغيره


اعداد: الفرقان


الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب «الصلاة» من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء.

275 – عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا: يقول: «لا تُبادِروا الإمامَ، إذا كبّر فكبروا، وإذا قال: ولا الضالين، فقولوا: آمين، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سَمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد».

الشرح:قال المنذري: باب النهي عن مبادرة الإمام بالتكبير وغيره.

والحديث رواه مسلم في الصلاة (1/310) وبوب عليه النووي : باب ائتمام المأموم بالإمام.

قوله: «لا تُبادِروا الإمامَ» تبادروا من البِدار والمبادرة وهو الاستعجال، أي: لا تسابقوه في الأفعال، بل اقتدوا به وتابعوه.

قوله: «إذا كبّر فكبروا» أي: يكون تكبيركم بعد تكبيره من غير مسابقة، فهو دليل على وجوب متابعته في التكبير وغيره، ولقوله في الحديث الآتي: «وإذا سجد فاسجدوا، وإذا رفع فارفعوا..» وأنه يفعلها بعد الإمام.

وكذا قوله صلى الله عليه وسلم: «فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالقعود ولا بالانصراف».

وتكبيرة الإحرام إن فعلها قبل الإمام لم تنعقد صلاته عند الأكثر، وإن قارنه فقد أساء ولا تبطل. وهكذا الركوع والرفع منه والسجود والرفع منه، يكون بعد الإمام، فإن قارنه فقد أساء.

وأما إن سبقه فقال كثير من الفقهاء ببطلان صلاته، ومنع من ذلك بعضهم لعدم الدليل القاضي بالبطلان.

قوله: «وإذا قال: ولا الضالين، فقولوا: آمين» يدل على تأخر تأمين المأموم عن تأمين الإمام؛ لأنه رتّب عليه بالفاء.

وأجاز بعض الفقهاء المقارنة للإمام فيه، واستدلوا بقوله عليه الصلاة والسلام: إذا قال الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فقولوا: آمين».

قال ابن الملقِّن: فظاهره الأمر بوقوع الجميع في حالة واحدة. اهـ.

لكن قد ثبت قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أمّنَ الإمام فأمّنوا» كما يأتي، وهو يدل على المتابعة للإمام.

واستُدل أيضا بقوله «إذا قال الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فقولوا: آمين» على أن الإمام لا يُؤمّن! وهذا غير صحيح، فقد ثبت من حديث أبي هريرة في البخاري (780): قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أمّنَ الإمام فأمّنوا؛ فإنه مَنْ وافق تأمينه تأمين الملائكة، غُفر له ما تقدم من ذنبه»، وهو ظاهرٌ في أن الإمام يؤمن جهرا، وأن تأمين المأموم يكون بعده.

وبوب عليه الإمام البخاري: باب جهر الإمام بالتأمين، قال: وقال عطاء: آمين دعاء. أمَّنَ ابن الزبير ومن وراءه حتى إن للمسجد لَلَجَّـة. وكان أبو هريرة يُنادي الإمام: لا تَفُتْنِي بـ «آمين». وقال نافع: كان ابن عمر لا يَدَعَـه، ويحضهم، وسمعت منه في ذلك خيراً. اهـ.

وقد روى أبو داود بإسناده: عن وائل بن حجر رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ: {وَلا الضَّالِّينَ} قال: آمين، ورفع بها صوته. وصححه الألباني.

ويدل على الجهر من الإمام في التأمين، كما قال الزين بن المنير – كما في شرح الحافظ على حديث أبي هريرة السابق -: مناسبة الحديث للترجمة من جهة أن في الحديث الأمر بقول: آمين، والقول «إذا وقع به الخطاب مطلقا، ُحمل على الجهر، ومتى أريد به الإسرار أو حديث النفس قيد بذلك».

وقال ابن رشيد: تؤخذ المناسبة منه من جهات:

منها أنه قال: «إذا قال الإمام فقولوا» فقابل القول بالقول، والإمام إنما قال ذلك جهرا فكان الظاهر الاتفاق في الصفة.

ومنها أنه قال: «فقولوا» ولم يقيده بجهر ولا غيره، وهو مطلق في سياق الإثبات، وقد عمل به في الجهر بدليل ما تقدم، يعني في مسألة الإمام، والمطلق إذا عمل به في صورة لم يكن حجة في غيرها باتفاق.

ومنها أنه تقدم أن المأموم مأمور بالاقتداء بالإمام، وقد تقدم أن الإمام يجهر فلزم جهره بجهره. اهـ.

وقد روى البيهقي: عن عطاء قال: «أدركت مائتين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المسجد، إذا قال الإمام {ولا الضالين} سمعت لهم رجة بآمين».

والجهر للمأموم ذهب إليه الشافعي في القديم وعليه الفتوى، وقال الرافعي: قال الأكثر: في المسألة قولان أصحهما أنه يجهر.

قوله: «وإذا قال: سَمع الله لمن حمده، فقولوا: «اللهم ربنا لك الحمد».سبق الكلام عليه في الحديث السابق.

وفيه زيادة «اللهم» قبل قوله: «ربنا لك الحمد» .

باب ائتمام المأموم بالإمام

276 - عن الزهري قال: سمعت أنس بن مالك يقول: سقط النبي صلى الله عليه وسلم عن فرس فجحش شقه الأيمن، فدخلنا عليه نعوده، فحضرت الصلاة فصلى بنا قاعدا، فصلينا وراءه قعودا، فما قضى الصلاة قال: «إنما جعل الإمام ليؤتم به؛ فإذا كبر فكبروا، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا أجمعين».

الشرح: قال المنذري: باب ائتمام المأموم بالإمام.

والحديث أخرجه مسلم في الصلاة وهو في الباب السابق.

وأخرجه البخاري في الأذان (689) باب: إنما جعل الإمام ليؤتم به.

قوله: «سقط النبي صلى الله عليه وسلم عن فرس» وفي رواية له: «خرّ» وفي أخرى «صُرع»، «فجُحش ساقه» جحش أي: خُدش.

قوله: «فدخلنا عليه نعوده فحضرت الصلاة فصلّى بنا قاعداً فصلينا وراءه قعودا» ظاهره أنه صلى بهم صلاة مكتوبة قاعداً، فصلوا خلفه قاعدين.

ففيه الائتمام بالإمام والمتابعة له في الأفعال الظاهرة.

يؤيده قوله لهم هاهنا: «وإذا صلى قاعدا، فصلوا قعودا أجمعين»، قال به أحمد والأوزاعي. وقال مالك: لا يجوز صلاة القادر على القيام خلف القاعد، لا قائما ولا قاعدا!

وقال أبو حنيفة والشافعي وكثيرون: لا يجوز للقادر على القيام أن يصلي خلف القاعد إلا قائما، واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في مرض وفاته بعد هذا قاعدا، وأبو بكر رضي الله عنه والناس خلفه قياما.

وعقد له النووي بابا قال في ترجمته: من صلى خلف إمام جالس لعجزه عن القيام، لزمه القيام إذا قدر عليه. وذهبوا إلى نسخ ما كان سابقا.

وإنْ كان بعض العلماء زعم أن أبا بكر رضي الله عنه كان هو الإمام والنبي صلى الله عليه وسلم مقتد به!

لكن الصواب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان هو الإمام، وقد ذكره مسلم بعد هذا الباب صريحا أو كالصريح، فروى بإسناده: عن عائشة رضي الله عنها قالت: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس عن يسار أبي بكر، وكان يصلي بالناس جالسا وأبو بكر قائما، يقتدي أبو بكر بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر. (النووي 4/ 133 - 134). وحديث عائشة أخرجه البخاري أيضا (687) باب: إنما جعل الإمام ليؤتم به.

وروى مسلم في الباب من حديث جابر رضي الله عنه نحوه.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وقد أنكر أحمد نسخ الأمر المذكور، وجمع بين الحديثين بتنزيلهما على حالتين:

- إحداهما: إذا ابتدأ الإمام الراتب الصلاة قاعدا لمرض يرجى برؤه، فحينئذ يصلون خلفه قعودا.

- ثانيهما: إذا ابتدأ الإمام الراتب قائما لزم المأمومين أن يصلوا خلفه قياما، سواء طرأ عليه ما يقتضي صلاة إمامهم قاعدا أو لا، كما في الأحاديث التي في مرض موت النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنّ تقريره لهم على القيام، دلّ على أنه لا يلزمهم الجلوس في تلك الحالة؛ لأن أبا بكر ابتدأ الصلاة بهم قائماً وصلوا معه قياما، بخلاف الحالة الأولى فإنه صلى الله عليه وسلم ابتدأ الصلاة جالسا، فلما صلوا خلفه قياما، أنكر عليهم.

قال: ويقوي هذا الجمع: أن الأصل عدم الجمع.. (الفتح 2/ 176) ويمكن مراجعته للاستزادة.

ابو وليد البحيرى
2024-10-17, 10:10 PM
شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 23 )

وضع اليدين إحداهما على الأخرى في الصلاة

اعداد الفرقان



الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب «الصلاة» من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء.
279- عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ رضي الله عنه: «أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَفَعَ يَدَيْهِ حِينَ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ، كَبَّرَ - وَصَفَ هَمَّامٌ حِيَالَ أُذُنَيْهِ - ثُمَّ الْتَحَفَ بِثَوْبِهِ، ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ أَخْرَجَ يَدَيْهِ مِنْ الثَّوْبِ، ثُمَّ رَفَعَهُمَا، ثُمَّ كَبَّرَ فَرَكَعَ، فَلَمَّا قَالَ: «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» رَفَعَ يَدَيْهِ، فَلَمَّا سَجَدَ، سَجَدَ بَيْنَ كَفَّيْهِ».
الشرح: قال المنذري: باب: وضع اليدين إحداهما على الأخرى في الصلاة.
والحديث أخرجه مسلم في الصلاة (1/301) وبوب عليه النووي (4/114): باب وضع يده اليمنى على اليسرى بعد تكبيرة الإحرام تحت صدره فوق سرته، ووضعهما في السجود على الأرض حذو منكبيه. قوله: «أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَفَعَ يَدَيْهِ حِينَ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ، كَبَّر» أي: عند تكبيرة الإحرام.
- قوله: «وَصَفَ هَمَّامٌ حِيَالَ أُذُنَيْهِ» حيال أذنيه، أي قبالتهما، وقد سبق بيانه. قوله: «ثُمَّ الْتَحَفَ بِثَوْبِهِ» فيه: أن العمل القليل في الصلاة لا يبطلها، خاصة إن كان لحاجة .
- قوله: «ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى» فيه الدليل على وضع اليد اليمنى على اليسرى بعد تكبيرة الإحرام، وبه قال عامة أهل العلم. وعن مالك روايتان: إحداهما: يضعهما تحت صدره، والثانية: يرسلهما ولا يضع إحداهما على الأخرى.
أما القول بإرسال اليدين في الصلاة فقولٌ ضعيف، تردّه الأدلة الكثيرة من السنة النبوية، وهاهي باختصار:
1- عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّاسُ يُؤْمَرُونَ: أَنْ يَضَعَ الرَّجُلُ الْيَدَ الْيُمْنَى عَلَى ذِرَاعِهِ الْيُسْرَى فِي الصَّلاة.
رواه البخاري في بَاب: وضْعِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى فِي الصَّلاة، ورواه مالك في الموطأ (426)، ورواه أحمد في مسنده. ورواية مالك رحمه الله له في الموطأ، تدل على اختياره له وأخذه به؛ لأنه كتابه الذي يتضمن اختياراته وفقهه ومذهبه.
قال الإمام مالك في الموطأ: في كتاب الصلاة: (49) - باب وضع اليدين إحداهما على الأخرى في الصلاة: عن عبد الكريم بن أبي المخارق البصري أنه قال: من كلام النبوة: إذا لم تستح فاصنع ما شئت، ووضع اليدين إحداهما على الأخرى في الصلاة...(وقد جاء مرفوعا صحيحا).
ثم روى عن أبي حازم بن دينار عن سهل بن سعد أنه قال: «كان الناس يُؤمرون أنْ يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة». قال أبو حازم: لا أعلمه إلا أنه يُنمي ذلك (أي يرفعه) إلى النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى.
فوضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة، هو مذهب الإمام مالك الصحيح عنه، وما شاع عند كثير من الناس أن مذهب مالك هو السدل! فليس بصحيح، بل لا أصل له في السنة النبوية، ولا عن الإمام مالك، وقد تفرد بهذا القول عنه فقط ابن القاسم من تلاميذه في المدونة، والحقيقة أنه سوء فهم لكلام الإمام مالك.
ومن المعروف في علم الحديث: أنه إذا تفرد راو واحد برواية وخالف من هو أوثق منه وأكثر، فإنّ هذه الرواية تكون شاذة وضعيفة، وبالتالي يؤخذ برواية الأكثر؛ لأنهم أحفظ من الواحد، فكيف لو اجتمع هذا مع مخالفة السنة الصحيحة؟!
- قال ابن عبد البر: «وروى ابن نافع وعبد الملك ومطرف عن مالك أنه قال: «توضع اليمنى على اليسرى في الصلاة في الفريضة والنافلة، قال: لا بأس بذلك» قال أبو عمر: هو قول المدنيين من أصحابه. (الاستذكار2/291). وقال أشهب:سألت مالك عن وضع الرجل إحدى يديه على الأخرى في الصلاة المكتوبة ؟ فقال: «لا أرى بذلك بأسا في المكتوبة والنافلة». البيان والتحصيل (1/394).
فهذا قول المشاهير من أصحاب الإمام مالك رحم الله الجميع.
وقال العلامة الشوكاني رحمه الله في «نيل الأوطار»: والحديث يصلح للاستدلال به على وجوب وضع اليد على اليد؛ للتصريح من سهل بن سعد بأن الناس كانوا «يؤمرون...».
- وقال: ومع هذا، فطول ملازمته صلى الله عليه وآله وسلم لهذه السنة، معلوم لكل ناقل، وهو بمجرده كاف في إثبات الوجوب عند بعض أهل الأصول، فالقول بالوجوب هو المتعين. اهـ باختصار.
2- وعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فَوَضَعَ يَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى الْيُمْنَى، فَرَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى.
- رواه أبو داود في سننه: باب وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة، ورواه النسائي في سننه: باب في الإمام إذا رأى الرجل قد وضع شماله على يمينه، ورواه ابن ماجة في سننه: باب وضع اليمين على الشمال في الصلاة، والحديث حسنه العلامة الألباني.
3- وعَنْ قَبِيصَةَ بْنِ هُلْبٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَمَ يَؤُمُّنَا، فَيَأْخُذُ شِمَالَهُ بِيَمِينِهِ.
- رواه الترمذي في باب: ما جاء في وضع اليمين على الشمال في الصلاة، وقَالَ: حَدِيثُ هُلْبٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، يَرَوْنَ أَنْ يَضَعَ الرَّجُلُ يَمِينَهُ عَلَى شِمَالِهِ فِي الصَّلَاةِ، وَرَأَى بَعْضُهُمْ أَنْ يَضَعَهُمَا فَوْقَ السُّرَّةِ، وَرَأَى بَعْضُهُمْ أَنْ يَضَعَهُمَا تَحْتَ السُّرَّةِ، وَكُلُّ ذَلكَ وَاسِعٌ عِنْدَهُمْ. ورواه ابن ماجة وأحمد في مسنده، وقال العلامة الألباني: حسن صحيح.
4- وعنِ ابْنِ عَباسٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِى صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّا مَعْشَرَ الأَنْبِيَاءِ أُمِرْنَا بِتَعْجِيلِ فِطْرنَا، وَتَأْخِيرِ سحورِنَا، وَأَنْ نَضَعَ أَيمَانَنا عَلَى شَمَائِلِنَا فِى الصَّلاَةِ». رواه الطيالسي في مسنده وعبد بن حميد والطبراني في الكبير، وصححه ابن حبان والعلامة الألباني في (صفة الصلاة ص 87).
ولم يثبت عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه أرسل يديه في الصلاة قط، لا في الفرض ولا في النفل، على كثرة من روى عنه صفة صلاته من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، ومن ادّعى غير ذلك فعليه البرهان والدليل، ولن يجد إلى ذلك سبيلا!
وعلى المؤمن أن يتقي الله عز وجل في دينه وعبادته، ويتابع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأعماله في صلاته وغيرها من عباداته.
ولا يحل للمؤمن الحق أن يقدم أقوال الرجال واجتهاداتهم وآراءهم، على قول وهدي محمد صلى الله عليه وسلم، بل ليكن كما قال القائل:

دَعُوا كلَّ قولٍ عند قول محمد

فما آمنٌ في دينه كمُخاطر
- أما موضع اليدين: فالصحيح أنه يضعهما على الصدر، فقد روى الصحابي وائل بن حجر رضي الله عنه قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره. رواه ابن خزيمة في صحيحة (479) ورواه أحمد وغيره، وهو صحيح بطرقه.
وذكره النووي في شرحه (4/115) وقال: وأما حديث علي رضي الله عنه أنه قال: من السُنة في الصلاة وضع الأكف على الأكف تحت السُّرَّة، فضعيف متفق على تضعيفه، رواه الدارقطني والبيهقي من رواية أبي شيبة عبدالرحمن بن إسحاق الواسطي وهو ضعيف باتفاق العلماء , قال: قال العلماء: والحكمة في وضع إحداهما على الأخرى، أنه أقرب إلى الخشوع، ومنعهما من العبث، والله أعلم.
- قوله: «فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ أَخْرَجَ يَدَيْهِ مِنْ الثَّوْبِ، ثُمَّ رَفَعَهُمَا، ثُمَّ كَبَّرَ فَرَكَعَ» وفيه: استحباب كشف اليدين عند الرفع.
- قوله «فَلَمَّا قَالَ: «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» رَفَعَ يَدَيْهِ، فَلَمَّا سَجَدَ، سَجَدَ بَيْنَ كَفَّيْهِ» فيه: رفع اليدين عند الرفع من الركوع، وقول: «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» عند الرفع منه، وقد سبق.
- وفيه: وضع اليدين في السجود على الأرض حذو منكبيه.
والله أعلم.

ابو وليد البحيرى
2024-10-23, 09:37 PM
شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 24 )

باب: ما يقال بين التكبير والقراءة
اعداد الفرقان

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب «الصلاة» من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء.

280- عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ قَالَ: « وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَه وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ، وَأَنَا منْ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَنْتَ رَبِّي، وَأَنَا عَبْدُكَ، ظَلَمْتُ نَفْسِي وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنتَ، وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا، لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ، لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ، أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ « وَإِذَا رَكَعَ قَالَ: « اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَك أَسْلَمْتُ، خَشَعَ لَكَ سَمْعِي وَبَصَرِي وَمُخِّي وَعَظْمِي وَعَصَبِي « وَإِذَا رَفَعَ قَالَ: « اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، مِلْءَ السَّمَاوَاتِ، وَمِلْءَ الْأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا بَيْنَهُمَا، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ « وَإِذَا سَجَدَ قَالَ: « اللَّهُمَّ لَكَ سَجَدْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ، وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ، تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ « ثُمَّ يَكُونُ مِنْ آخِرِ مَا يَقُولُ بَيْنَ التَّشَهُّدِ وَالتَّسْلِيمِ: « اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَسْرَفْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ» .

وفي رواية: « كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اسْتَفْتَحَ الصَّلَاةَ كَبَّرَ ثُمَّ قَالَ: وَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَى آخِره «.

الشرح :قال المنذري باب: ما يقال بين التكبير والقراءة .

الحديث رواه مسلم في صلاة المسافرين ( 1/534 – 536 ) وبوب عليه النووي ( 6/ 57 -60 ) باب :» صلاة النبي صَلَّى اللَّه عَلَيه وسَلَّم ودعائه بالليل .

قوله « كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ « أي من الليل، وهو من أدعية الاستفتاح فيها. قوله « قَالَ: « وَجَّهْتُ وَجْهِيَ « أي: قصدت بعبادتي « لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ» فطرها: أي ابتدأ خلقها .

قوله « حَنِيفًا « معناه: مائلا إلى الدين الحق وهو الإسلام، وأصل الحنف الميل. وقال أبو عبيد: الحنيف عند العرب منْ كان على دين إبراهيم صَلَّى اللَّه عَلَيه وسَلَّم، ونصب « حنيفا « على الحال .

قوله « وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ « هو بيان للحنيف وإيضاح لمعناه، والمشرك: يطلق على كل كافر، من عابد وثن وصنم، ويهودي ونصراني ومجوسي ومرتد وزنديق وغيرهم، قاله النووي .

وفيه تفصيل: فإن لفظ الكافر مشتق من الكفر، وهو الجحود لبعض ما يجب الإيمان به من أركان الإيمان وغيرها، وأما المشرك فمأخوذ من الشرك، وهو جعل شريك مع الله تعالى، وقد يطلقان بمعنى واحد، وقد يفرق بينهما، فيختص الشرك بعبدة الأوثان وغيرها من المخلوقات، مع اعترافهم بالله تعالى، ككفار قريش فيكون الكفر أعم من الشرك . قوله « إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي « النسك هو العبادة، والنسيكة كل ما يتقرب به إلى الله تعالى، وتطلق على الذبيحة التي يتقرب بها لله تعالى .

قوله « وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي « أي: حياتي وموتي « لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَه وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ « أي: خاصة لله تعالى، أو ملكا له سبحانه، فاللام لام الإضافة .

قوله « رَبِّ الْعَالَمِينَ « الرب فيه أربعة معان: المالك والسيد والمدبر والمربي، ولا يطلق على غير الله تعالى إلا بالإضافة، فيقال: رب المال ورب الدار ونحو ذلك. والعالمون جمع عالم، وهم كل ما سوى الله تعالى، من عالم الملائكة والجن والإنس وغيرهم من المخلوقات.

قيل: مشتق من العلامة فهم علامة على وجود الخالق، وقيل: من العلم فيختص بالعقلاء, قوله «اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ» الملك الحقيقي لجميع المخلوقات لله سبحانه .

قوله « لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَنْتَ رَبِّي، وَأَنَا عَبْدُكَ «أي: أنا مقرٌ ومعترف بأنك مالكي وسيدي، ومدبر أمري، وحكمك نافذٌ فيّ .

قوله «ظَلَمْتُ نَفْسِي وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنتَ» فيه: اعتراف بالتقصير، وقدمه على طلب المغفرة تأدبا، كما قال آدم وحواء عليها السلام ( ربنا ظلمنا أنفسنا وإنْ لم تغفرْ لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين )

قوله « واهدني لأحسن الأخلاق « أي أرشدني لأحسنها وأفضلها، ووفقني للتخلق بها . قوله « واصرف عني سيئها « أي: ابعد عني قبيحها . قوله « لبيك وسعديك « لبيك من لب بالمكان لبا وألب، أي: أقام به، فمعناه: أنا مقيم على طاعتك، إقامة بعد إقامة .

« وسعديك « من المساعدة، قال الأزهري: معناه: مساعدة لأمرك بعد مساعدة، ومتابعة لدينك بعد متابعة .

قوله « وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ « كقول الله تعالى ( بيدك الخير ) آل عمران: 26 .

قوله « وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ « أي: لا ينسب الشر إليك، قال الخطابي: فيه الإرشاد إلى الأدب في الثناء على الله تعالى، ومدحه بأن يضاف إليه محاسن الأمور دون مساويها على جهة الأدب، كما قال تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام ( الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين ) فأضاف الخير إلى ربه ثم قال ( وإذا مرضت فهو يشفين ) الشعراء. فأضاف المرض إلى نفسه، مع أنه بتقدير الله.

وفالت الجن ( وأنّا لا ندري أشرٌ أُريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا ) الجن.

وقال النووي: وأما قوله « والشر ليس إليك « فمما يجب تأويله، لأن مذهب أهل الحق: أنّ كل المحدثات فعل الله تعالى وخلقه سواء خيرها وشرها، وحينئذ يجب تأويله، وفيه خمسة أقوال :

- أحدها: معناه لا يتقرّب به إليك، قاله الخليل بن أحمد والنضر بن شميل وابن راهويه وابن معين وابن خزيمة والأزهري وغيرهم .

- الثاني: لا يضاف إليك على انفراده، فلا يقال: يا خالق القردة والخنازير، ويا رب الشر ونحو هذا، وإن كان هو خالق كل شيء، ورب كل شيء، بل يدخل الشر في العموم، قاله المزني وغيره .

- الثالث: معناه الشر لا يصعد إليك، إنما يصعد إليه الكلم الطيب والعمل الصالح، كما قال سبحانه .

- الرابع: معناه: والشر ليس شرا بالنسبة إليك، فإنك خلقته بحكمة بالغة، وإنما هو شر بالنسبة للمخلوقين .

- الخامس: أنه كقولك: فلان إلى بني فلان، إذا كان عداده فيهم، أو صفوه إليهم. (انتهى مختصرا ) قوله: أنَا بِكَ وَإِلَيْكَ «أي: التجائي وانتمائي إليك، وتوفيقي بك. وهو تبرأٌ من الحول والقوة» . قوله « تَبَارَكْتَ « من البركة وهي ثبوت الخير، أو استحقاق الثناء. قوله « وَتَعَالَيْتَ» من العلو، وكل أنواع العلو ثابتة له: علو الذات، وعلو القدر والصفات، وعلو القهر للعباد .

- قوله: وَإِذَا رَكَعَ قَالَ: «اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَك أَسْلَمْتُ، خَشَعَ لَكَ سَمْعِي وَبَصَرِي، وَمُخِّي وَعَظْمِي وَعَصَبِي» فهو من أذكار الركوع في صلاة الليل .

- قوله: لَكَ الْحَمْدُ، مِلْءَ السَّمَاوَاتِ، وَمِلْءَ الْأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا بَيْنَهُمَا، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ « ملء بكسر الميم ونصب الهمزة بعد اللام، ومعناه: حمدا لو كان أجساما لملأ السموات والأرض لعظمته.

- قوله: « وَإِذَا سَجَدَ قَالَ: « اللَّهُمَّ لَكَ سَجَدْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ، وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ، تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ» فهو من أذكار السجود في صلاة الليل .

قوله « ثُمَّ يَكُونُ مِنْ آخِرِ مَا يَقُولُ بَيْنَ التَّشَهُّدِ وَالتَّسْلِيمِ: « اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَسْرَفْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ» يقول هذا الدعاء بعد التشهد وقبل التسليم.

- وفيه: أن المقدم والمؤخر من أسماء الله تعالى، قال الخطابي: المقدم هو المنزل للأشياء منازلها، يقدم ما شاء منها، ويؤخر ما شاء، قدم المقادير، وقدم من أحب من أوليائه على غيرهم من عبيدة.

ورفع الخلق بعضهم فوق بعض درجات، وقدم من شاء بالتوفيق إلى مقامات السابقين، وأخّر من شاء عن مراتبهم وثبطهم عنها .


وأخر الشيء عن حين توقعه، لعلمه بما في عواقبه من الحكمة .

لا مقدم لما أخر، ولا مؤخر لما قدم .

قال: والجمع بين هذين الاسمين أحسن من التفرقة. ( الأسماء للبيهقي ص 86).

ابو وليد البحيرى
2024-10-31, 05:16 AM
شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 25 )

باب: ترك الجهر بـ{بسم الله الرحمن الرحيم}
اعداد الفرقان



الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب «الصلاة» من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء.

281- عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَقْرَأُ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ).

الشرح: قال المنذري: باب: ترك الجهر بـ(بسم الله الرحمن الرحيم)

والحديث رواه مسلم في الصلاة (1/299) وبوب عليه النووي (4/110) باب: حُجة من قال: لا يجهر بالبسملة.

- قوله: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَقْرَأُ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) أي: كانوا لا يجهرون بالبسملة في القراءة في الصلاة الجهرية.

- وفي الرواية الأخرى قال: «صَلَّيْتُ خلف رَسُولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، فكانوا يستفتحون بـ(الحمد رب العالمين)، لا يذكرون (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) في أول قراءةٍ ولا في آخرها».

وأخرجه البخاري في الأذان (743).

أي: في الصلوات الجهرية؛ لأن السرية لا يجهر فيها لا بالبسملة ولا غيرها.

وقد استدل بهذا منْ لا يرى البسملة من الفاتحة، ومن يراها منها ويقول: لا يجهر، وهو الأصح.

قال النووي: ومذهب الشافعي رحمه الله تعالى وطوائف من السلف والخلف: أن البسملة آيةٌ من الفاتحة، وأنها يُجهر بها بالفاتحة حيث يجهر بالفاتحة !

- قال: واعتمد أصحابنا ومن قال إنها آية من الفاتحة: أنها كتبت في المصحف بخط المصحف، وكان هذا باتفاق الصحابة وإجماعهم على ألا يثبتوا فيه بخط القرآن غير القرآن، وأجمع بعدهم المسلمون كلهم في كل الأعصار إلى يومنا أنها ليست في أول (براءة)، وأنها لا تكتب فيها وهذا يؤكد ما قلناه. انتهى.

- وقد استدل من قال: إنها ليست من الفاتحة، بحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: «قال الله تعالى: قسمتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: الحمد لله رب العالمين، قال الله: حمدني عبدي...» الحديث، أخرجه مسلم في الصلاة (395) فلم يذكر البسملة.

أما معنى قولنا: باسم الله، أي: باسم الله أقرأ، أو ابتدأ قراءتي باسم الله.

والله: عَلَمٌ على الرب عز وجل، وأصله: إله بمعنى مألوه، والمألوه هو المعبود.

والرحمن الرحيم: اسمان دالان على الرحمة الواسعة للخلائق، والرحمن أشد مبالغة من الرحيم، وهو خاص بالله تعالى فلا يطلق على غير الله سبحانه.

باب: في بسم الله الرحمن الرحيم

282- عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ بَيْنَ أَظْهُرِنَا، إِذْ أَغْفَى إِغْفَاءَةً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مُتَبَسِّمًا، فَقُلْنَا: مَا أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آنِفًا سُورَةٌ، فَقَرَأَ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} ثُمَّ قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ؟» فَقُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ! قَالَ: «فَإِنَّهُ نَهْرٌ وَعَدَنِيهِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ، عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، هُوَ حَوْضٌ تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، آنِيَتُهُ عَدَدُ النُّجُومِ، فَيُخْتَلَجُ الْعَبْدُ مِنْهُمْ، فَأَقُولُ: رَبِّ إِنَّهُ مِنْ أُمَّتِي؟! فَيَقُولُ: مَا تَدْرِي مَا أَحْدَثَتْ بَعْدَكَ؟!».

الشرح: قال المنذري: باب: في بسم الله الرحمن الرحيم.

والحديث أخرجه مسلم في الصلاة (1/ 300)

وبوب عليه النووي: باب حجة من قال: البسملة آية من أول كل سورة سوى براءة.

قوله «بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ بَيْنَ أَظْهُرِنَا» أي: بيننا «إِذْ أَغْفَى إِغْفَاءَةً» أغفى إغفاءه، أي: نام.

قوله «أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آنِفًا سُورَةٌ» آنفا، أي: قريبا.

قوله: فَقَرَأَ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) فيه: أن البسملة في أوائل السور من القرآن، وهو مقصود الإمام مسلم بذكر الحديث هاهنا.

ولا منافاة بين هذا الحديث وبين الحديث السابق، فالقراءة للسورة من أولها خارج الصلاة، يجهر فيها بـ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، وأما في الصلاة فلا يجهر؛ اتباعا لهدي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صلاته، وهدي الخلفاء الراشدين من بعده.

قوله {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} الكوثر هو الخير الكثير، وقد فسره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: «فَإِنَّهُ نَهْرٌ وَعَدَنِيهِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ، عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، هُوَ حَوْضٌ تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، آنِيَتُهُ عَدَدُ النُّجُومِ» وهو حوض عظيم، طوله شهر، وعرضه شهر، ماؤه أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، وأبرد من الثلج، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا، تشرب منه أمته في عرصات القيامة قبل دخولهم الجنة، والإيمان به واجب، وهو من معتقدات أهل السنة والجماعة الثابتة.

قوله «فَيُخْتَلَجُ الْعَبْدُ مِنْهُمْ» يختلج أي: يقتطع ويؤخذ، فيمنع من الشرب من الحوض والورود عليه، والذي يفعل به ذلك هم الملائكة كما ثبت.

قوله «فَأَقُولُ: رَبِّ إِنَّهُ مِنْ أُمَّتِي؟! فَيَقُولُ: مَا تَدْرِي مَا أَحْدَثَتْ بَعْدَكَ؟!»

وفيه: وقوع إحداث الأمة بعده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو علامة من علامات النبوة.

الإحداث يكون في الدين، بالبدع والزيادات التي لم يشرعها الله تعالى على لسان رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهؤلاء يطردون عن الحوض يوم القيامة.

قال العلامة صديق حسن: وقد أحدثت أمته بعد نبيها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما أحدثت مما يطول ذكره ويعسر ضبطه، حتى أفضى بهم ذلك الإحداث إلى الإشراك بالله، وعبادة الأولياء، وفساد العقائد والأعمال والنيات.

وأخرجهم عدوهم إبليس إلى أنواع من الضلالة والبدعة، ورفض الكتاب والسنة، وتقديم أقوال الأحبار والرهبان على محكمات الحديث والقرآن، وتأثيرها على واضحات الإيمان، وظاهرات الإحسان، وبينات الإسلام {وكان أمر الله قدرا مقدورا} (الأحزاب: 38). انتهى.

ومن الإحداث أيضا: الجرائم من الزنى والسرقة وشرب الخمر ونحوها.

قوله {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} خصّ هاتين العبادتين بالذكر؛ لأنهما أشرف وأفضل العبادات، فالصلاة تتضمن الخضوع والخشوع في القلب واللسان والجوارح.

والذبح والنحر لله تعالى من أفضل العبادات المالية التي يتقرب بها إليه.

قوله {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} الشانئ هو المبغض والذام والمنتقص، والأبتر: هو المقطوع من كل خير.

وكان المشركون يقولون: إن محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس له عقب فهو منقطع الذكر؟!


فرد الله عز وجل عليهم بأن محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الذي له الكمال الممكن للمخلوق، وهو الذي جعل الله تعالى له رفع الذكر، ولسان الصدق والثناء الحسن، على مر الزمان، مع كثرة الأتباع والأنصار الذين يحبونه ويتابعونه وينصرونه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم.
والله تعالى أعلم

ابو وليد البحيرى
2024-11-04, 07:01 PM
شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 26 )

باب: وجوب القراءة بأم القرآن في الصلاة
ااعداد الفرقان



الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب «الصلاة» من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء.

283.عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ، فَهِيَ خِدَاجٌ ثَلَاثًا غَيْرُ تَمَامٍ» فَقِيلَ: لِأَبِي هُرَيْرَةَ، إِنَّا نَكُونُ وَرَاءَ الْإِمَامِ؟ فَقَالَ: اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِكَ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْد:ُ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، وَقَالَ مَرَّةً: فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي، فَإِذَا قَالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ».

الشرح: قال المنذري: باب: وجوب القراءة بأم القرآن في الصلاة.

والحديث رواه مسلم في الصلاة (1/ 296) وبوب عليه النووي: باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة وأنه إذا لم يحسن الفاتحة ولا أمكنه تعلمها، قرأ ما تيسر له من غيرها.

قوله «خداج» الخداج بكسر الخاء هو النقصان، يقال: خدجت الناقة إذا ألقت ولدها قبل أوان النتاج (الولادة) وإن كان تام الخلق، وأخدجته إذا ولدته ناقصا وإن كان لتمام الولادة، ومنه قيل لذي اليدية: مخدج اليد، أي ناقصها.

فقوله صلى الله عليه وسلم : «خداج» أي: ذات خداج أي نقص.

وقوله: «بأم القرآن» أي: الفاتحة، وهو من أسمائها، وسميت أم القرآن لأنها فاتحته، كما سميت «مكة» أم القرى لأنها أصلها.

وفيه دليل على وجوب قراءة الفاتحة في كل صلاة، وقد بوب البخاري رحمه الله في صحيحه (2/ 293) باب: «وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها في الحضر والسفر، وما يُجهر فيها وما يُخافت».

ولم يذكر المنفرد لأن حكمه حكم الإمام، وذكر السفر لئلا يتخيل أنه يترخص فيه بترك القراءة كما رخص فيه بحذف بعض الركعات، قاله الحافظ.

وقوله: «وما يجهر فيها وما يخافت» أي أن الوجوب لا يختص بالسرية دون الجهرية، خلافا لمن فرّق في المأموم، ويشهد له قول أبي هريرة رضي الله عنه الآتي.

ثم أورد الحديث (756): عن عبادة بن الصامت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا صلاةَ لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب».

وللإمام البخاري جزءٌ مفرد في هذه المسألة، باسم: جزء القراءة خلف الإمام، وهو مطبوع.

قوله: «فَقِيلَ: لِأَبِي هُرَيْرَةَ، إِنَّا نَكُونُ وَرَاءَ الْإِمَامِ؟ فَقَالَ: اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِكَ».

وهل المقصود بقوله «لا صلاة» نفي ذات الصلاة، أم نفي الكمال؟

والجواب: أن المراد نفي الذات والإجزاء، وهو عُرف الشرع، والسابق إلى الفهم.

يؤيده ما رواه الإسماعلي في مستخرجه على البخاري بإسناده بلفظ: «لا تجزيء صلاةٌ لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب» (الفتح 2/299).

وله شاهد عند ابن خزيمة وابن حبان.

وقد قال بوجوب القراءة جمهور العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم، ومنهم ومالك والشافعي.

وقال أبوحنيفة وطائفة قليلة: لا تجب؟!

وأن الواجب آية من القرآن، لقوله صلى الله عليه وسلم : «ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن».

والصحيح: أنه محمول على الفاتحة، كما بينته الأحاديث الكثيرة.

واستدل على وجوب القراءة في الركعات كلها، بقوله صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته: «ثم افعل ذلك في صلاتك كلها» بعد أن أمره بالقراءة.

واستدل من قال بسقوط الفاتحة عن المأموم مطلقا وهم الحنفية بحديث: «من كان له إمامٌ، فقراءة الإمام له قراءة» لكنه حديث ضعيف عند الحفاظ، كما قال الحافظ ابن حجر.

واستدل من قال بسقوط الفاتحة عن المأموم في الجهرية كالمالكية، بحديث: «وإذا قرأ فأنصتوا» رواه مسلم.

قال الحافظ: ولا دلالة فيه، لإمكان الجمع بين الأمرين: فينصت فيما عدا الفاتحة، أو ينصت إذا قرأ الإمام ويقرأ إذا سكت.

وعلى هذا فيتعين على الإمام السكوت في الجهرية ليقرأ المأموم، لئلا يوقعه في ارتكاب النهي، حيث لا ينصت إذا قرأ الإمام.

وقد ثبت الإذن بقراءة المأموم الفاتحة في الجهرية بغير قيد، وذلك فيما أخرجه البخاري في «جزء القراءة» والترمذي وابن حبان: عن عبادة أن النبي صلى الله عليه وسلم ثقلت عليه القراءة في الفجر، فلما فرغ قال: لعلكم تقرؤن خلف إمامكم؟ قلنا: نعم، قال: «فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها».

وروى عبدالرزاق: عن سعيد بن جبير قال: لا بد من أم القرآن، ولكن من مضى كان الإمام يسكت ساعة، قدر ما يقرأ المأموم بأم القرآن.

قوله «فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ» أي هو حديث قدسي، من كلام الله عز وجل، والمراد بـ «الصلاة» الفاتحة، وهو من باب إطلاق الكل وإرادة الجزء تعظيما.

ولأنها لا تصح الصلاة إلا بها، كقوله صلى الله عليه وسلم : «الحج عرفة».

والمراد بقسمتها: قسمتها من حيث المعنى؛ لأن نصفها الأول تحميد لله تعالى وتمجيد، وثناء وتفويض إليه، والنصف الثاني سؤال وطلب وافتقار.

قوله: «فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَال:َ {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، وَقَالَ مَرَّةً: فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي» فهذا كله ثناء بين يدي السؤال والطلب، وهو من تعليم الله لعباده، أن يقدموا ذلك بين يدي طلبهم وسؤالهم، وله أمثال في القرآن.

فَإِذَا قَالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، أي: نخصك بالعبادة والاستعانة، وتقديم المعمول يفيد الحصر، فكأنه يقول: لا أعبد إلا إياك، ولا أستعين إلا بك.

فَإِذَا قَالَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} اهدنا أي أرشدنا ودلنا ووفقنا للصراط المستقيم، وثبتنا عليه.

والصراط المستقيم هو لزوم دين الإسلام، وترك ما سواه من الأديان. قوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} وهم الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون، كما قال الله: {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا} (النساء: 69).

قوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} وهم اليهود ومن شابههم {وَلَا الضَّالِّينَ} وهم النصارى ومن شابههم، كما صح به الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، فاليهود عرفوا الحق وتركوه وأعرضوا عنه، والنصارى تركوا الحق على جهل وضلال.


قَالَ: «هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ» وهو وعد من الله تعالى باستجابة دعاء من دعاه بها مخلصا صادقا، حاضر القلب، متضرعا مفتقرا إليه.

وهذه السورة قد تضمنت ما لم تتضمنه أي سورة من القرآن من أنواع التوحيد الثلاثة، وإخلاص الدين، وإثبات النبوة، وإثبات الجزاء، والرد على جميع فرق البدع والأهواء.
والله تعالى أعلم.

ابو وليد البحيرى
2024-11-14, 01:25 PM
شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 27 )
باب: القراءة مما تيسر
ااعداد الفرقان



الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب «الصلاة» من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء.

284. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَدَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّلَامَ ثُمَّ قَالَ: «ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ» فَرَجَعَ الرَّجُلُ فَصَلَّى كَمَا كَانَ صَلَّى، ثُمَّ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَعَلَيْكَ السَّلَامُ» ثُمَّ قَالَ: «ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ» حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ الرَّجُلُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، مَا أُحْسِنُ غَيْرَ هَذَا، عَلِّمْنِي، قَالَ: «إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِن الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا».

الشرح: قال المنذري: باب: القراءة مما تيسر. والحديث رواه مسلم في الصلاة (1/ 298) وبوب عليه النووي الباب السابق.

قال النووي: هذا الحديث مشتمل على فوائد كثيرة وليعلم أولا: أنه محمول على بيان الواجبات دون السنن.

فإنْ قيل: لم يذكر فيه كل الواجبات، فقد بقي واجبات مجمع عليها ومختلف فيها، فمن المجمع عليه: النية، والقعود في التشهد الأخير، وترتيب أركان الصلاة.

ومن المختلف فيه: التشهد الأخير، والصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه، والسلام، وهذه الثلاثة واجبة عند الشافعي رحمه الله.

وقال بوجوب السلام الجمهور، وأوجب التشهد كثيرون، وأوجب الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع الشافعي: الشعبي وأحمد وأصحابهما.

وأوجب جماعة من أصحاب الشافعي: نية الحروج من الصلاة!

وأوجب أحمد رحمه الله تعالى التشهد الأول. وكذلك التسبيح وتكبيرات الانتقالات.

قال: فالجواب: أن الواجبات الثلاثة المجمع عليها، كانت معلومةً عند السائل، فلم يحتج إلى بيانها، وكذا المختلف فيه عند من يوجبه، يحمله على أنه كان معلوما عنده. وأيضا: فإن الحديث روي من طرق وبألفاظ كثيرة جمعت جملة الواجبات.

وهذا الحديث: حجة في وجوب الطهارة، واستقبال القبلة، وتكبيرة الإحرام، والقراءة، ووجوب الاعتدال من الركوع، والجلوس بين السجدتين، ووجوب الطمأنينة في الركوع والسجود، والجلوس بين السجدتين.

وخالف الحنفية في كثير من هذه الأركان، والحديث حجة عليهم. وفيه: وجوب القراءة للقرآن في الركعات كلها، والمقصود بالقراءة للقرآن هاهنا: الفاتحة، كما دلّت عليه الأحاديث في الباب السابق.

وفيه: أن التعوذ ودعاء الاستفتاح، ليسا بواجبين. وفيه: دليل على أن إقامة الصلاة ليست واجبة. وفيه: أنّ من أخل ببعض أركان الصلاة لم تصح صلاته، بل تبطل، ولا يُسمى مصلياً، بل يقال له: إنك لم تصل، كما في نص الحديث.

وهذا من أخطر ما يكون على المسلم!

وقد صح في الحديث قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تُجزئُ صلاةٌ لا يُقيم الرجل فيها صلبهُ في الركوع والسجود» رواه أحمد والنسائي وابن ماجة من حديث أبي مسعود البدري رضي الله عنه.

وفي لفظ: «حتى يقيم ظهره في الركوع والسجود».

وهو من أسوأ الناس سرقة، كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أسوأُ الناس سرقة، الذي يسرق من صلاته» قالوا: يا رسول الله، كيف يسرق من صلاته ؟ قال: «لا يتم ركوعها ولا سجودها، أو قال: لا يقيم صلبه في الركوع والسجود» رواه أحمد والطبراني وصححه ابن خزيمة والألباني في الترغيب (524).

وعن أبي عبد الله الأشعري: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى رجلا لا يتم ركوعه، وينقر في سجوده، وهو يصلي، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لو ماتَ هذا على حاله هذه، مات على غير ملة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ».

ثم قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مثَلُ الذي لا يتم ركوعه، وينقر في سجوده، مثل الجائع، يأكل التمرة والتمرتين، لا يغنيان عنه شيئا» رواه الطبراني وأبو يعلى وصححه ابن خزيمة.

والله تعالى يعرض عن أمثال هذا، فقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا ينظر الله إلى عبد لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده» رواه أحمد.

وفي الحديث: «إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عشر صلاته، تسعها، ثمنها، سبعها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها» رواه أبوداود (796) في الصلاة، باب ما جاء في نقصان الصلاة، وأحمد (4/321) .

قال الشوكاني في السيل الجرار (1/ 216): ولأهل الرأي في عدم إيجاب الطمأنينة، كلامٌ يَعرف فساده من يعرف الاستدلال ويدري بكيفيته، وقد أفضى ذلك إلى أنْ يصلي غالب عامتهم، وبعض خاصتهم، صلاة لا ينظر الله إلى صاحبها، ولا تجزئه، كما نطق بذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

قال: فكانت هذه الرزية النازلة بهم، هي ثمرتهم المستفادة من تقليدهم. انتهى.

وفي الحديث: أن المفتي إذا سئل عن شيء، وكان هناك شيء آخر يحتاج إليه السائل ولم يسأله عنه، يستحب له أن يذكره له، ويكون هذا من النصيحة لا من الكلام فيما لا يعني، وذلك أن الرجل قال: «علمني يا رسول الله» أي: علّمني الصلاة، فعلّمه الصلاة واستقبال القبلة والوضوء، وليسا من الصلاة، لكنهما شرطان لها.

وفيه: الرفق بالمتعلم والجاهل، وملاطفته، وإيضاح المسألة له، وتلخيص المقاصد له، والاقتصار في حقه على المهم من المسائل، دون الأمور التي لا يحتملها حفظه وفهمه. وفي الحديث: استحباب السلام عند اللقاء، ووجوب ردّه، وأنه يستحب تكراره إذا تكرر اللقاء وإنْ قرُب العهد.

وأنه يجب ردّه في كل مرة.

وأن صيغة رد السلام تكون بـ: وعليكم، أو: وعليك، كما في هذا الحديث، ويجوز بحذف الواو، كما قال تعالى: {قالوا سلاما قال سلام} (هود: 69). وقد استدرك الدارقطني على إسناد حديث الباب.

وتعقبه النووي وقال: فحصل أن الحديث صحيح، لا علة فيه، ولو كان الصحيح ما رواه الأكثرون لم يضر في صحة المتن، وقد سبق بيان مثل هذا مرات في أول الكتاب، ومقصودي بذكر هذا ألا يغتر بذكر الدارقطني أو غيره له في الاستدراكات، والله عز وجل أعلم.

ابو وليد البحيرى
2024-11-21, 12:12 PM
شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 29 )

باب: في القراءة في الظهر والعصر


اعداد الفرقان

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب «الصلاة» من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء.

288. عن أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ، وَيُسْمِعُنَا الْآيَةَ أَحْيَانًا، وَيَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ».

الشرح: قال المنذري: باب في القراءة في الظهر والعصر، وأورد فيه حديثين: الأول حديث أبي قتادة رضي الله عنه، والحديث رواه مسلم في الصلاة (1/ 333) وبوب عليه النووي (4 / 171) تبويب المنذري نفسه.

ورواه البخاري في الأذان (762) فهو من المتفق عليه.

قوله: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ» وهذا ثابتٌ عنه، لا يكاد يختلف فيه أحد، أنه كان يقرأ في كل ركعة من الركعتين الأوليين الفاتحة وسورة، وذكر الشوكاني فيه الإجماع.

وفي حديث سعد رضي الله عنه في هذا الباب لمسلم قال: «إني لأركدُ بهم في الأوليين، وأحذف في الأخريين». وفي لفظ «فأمدّ في الأوليين».

وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه الآخر في الباب نفسه قال: «لقد كانت صلاة الظهر تقام، فيذهبُ الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته، ثم يتوضأ، ثم يأتي ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى، مما يُطوّلها».

قوله: «بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ»، وفي الرواية الأخرى: «بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَتين» قال النووي: فيه دليلٌ لما قاله أصحابنا: أن قراءة سورة قصيرة بكمالها، أفضل من قراءة قدرها من طويلة: لأن المستحب للقارئ أن يبتدئ من أول الكلام المرتبط، ويقف عند انتهاء المرتبط، وقد يخفى الارتباط على أكثر الناس أو كثير، فندب منهم إلى إكمال السورة، ليحترز عن الوقوف دون الارتباط. انتهى.

وسيأتي بيان السور التي كان يقرأ بها صلى الله عليه وسلم في الظهر والعصر. قوله: «وَيُسْمِعُنَا الْآيَةَ أَحْيَانًا» فيه جواز إسماع الآية أحيانا، برفع الصوت بها في الصلاة السرية.

قال النووي: هذا محمولٌ على أنه أراد به بيان جواز الجهر بالقراءة السرية ! وأن الإسرار ليس بشرط لصحة الصلاة، بل هو سُنة.

قال: ويحتمل أن الجهر بالآية كان يحصل بسبق اللسان؛ للاستغراق في التدبر، والله أعلم. قلت: أما الجهر بالسرية فلم يعرف عنه قط، والله أعلم.

قوله: «وَيَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» وهذا يدل على تخفيف الركعتين الأخيرتين من الظهر والعصر.

وورد أنه كان يقرأ فيهما بِفَاتِحَةِ الْكِتَاب وسورة أحيانا، وهو يدل على مشروعية ذلك وسنيّته، بحسب الأحوال من التخفيف والتطويل. قال العلماء: السنة أن يقرأ في الصبح والظهر بطوال المفصل، وتكون الصبح أطول، وفي العشاء والعصر بأوساطه، وفي المغرب بقصاره.

قالوا: والحكمة في إطالة الصبح والظهر: أنهما في وقت غفلة بالنوم آخر الليل وفي القائلة، فيطولهما ليدركهما المتأخر بغفلة ونحوها، والعصر ليست كذلك، بل تفعل في وقت تعب أهل الأعمال فخففت عن ذلك، والمغرب ضيقة الوقت فاحتيج إلى تخفيفها لذلك، ولحاجة الناس إلى عشاء صائمهم وضيفهم، والعشاء في وقت غلبة النوم والنعاس، ولكن وقتها واسع فأشبهت العصر، والله أعلم، نقله النووي.

والحديث الثاني:

289. عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قَدْرَ ثَلَاثِينَ آيَةً، وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ قَدْرَ خَمْسَ عَشْرَةَ آيَةً، أَوْ قَالَ: نِصْفَ ذَلِكَ،

وَفِي الْعَصْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قَدْرَ قِرَاءَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ آيَةً، وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ قَدْرَ نِصْفِ ذَلِكَ.

الشرح: والحديث في الموضع السابق من صحيح مسلم، وفي الباب نفسه.

قوله: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قَدْرَ ثَلَاثِينَ آيَةً »، وهذا بالتقدير، كما في الرواية الأخرى عنه: «كنا نَحْزُرُ قيام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الظهر والعصر، فحَزَرنا قيامه في الركعتين الأوليين من الظهر والعصر، قدر قراءة (آلم) تنزيل السجدة، وحَزَرنا قيامه في الأخريين قدر النصف من ذلك، وحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من العصر، على قدر قيامه في الأُخريين من الظهر، وفي الأخريين من العصر، على النصف من ذلك» فقوله «نحزر» أي: نخمن ونقدر. وهذا فيه أيضا: أن القراءة في الأوليين، أطول منها في الأخريين.

وقال بعض الفقهاء: إنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يطول الأولى، وأن السبب في الطول: وجود دعاء الافتتاح والتعوذ، أو لسماع دخول داخل إلى الصلاة ونحوه، لا في القراءة!

وهو قولٌ ضعيفٌ، يرده ظاهر السنة النبوية. والحديث فيه: أن صلاة العصر أخف من صلاة الظهر.

وروى مسلم أيضا: عن جابر بن سمرة رضي الله عنه: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقرأ في الظهر بـ (سبّح اسم ربك الأعلى) وفي الصبح بأطول من ذلك.

وروى أيضا عنه قال: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في الظهر بـ (الليل إذا يغشى) وفي العصر نحو ذلك، وفي الصُبْح أطول من ذلك.

91- باب: في القراءة في صلاة المغرب

290.عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: إِنَّ أُمَّ الْفَضْلِ بِنْتَ الْحَارِثِ سَمِعَتْهُ وَهُوَ يَقْرَأُ وَالْمُرْسَلَات ِ عُرْفًا) فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ، لَقَدْ ذَكَّرْتَنِي بِقِرَاءَتِكَ هَذِهِ السُّورَةَ، إِنَّهَا لَآخِرُ مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِهَا فِي الْمَغْرِبِ.

الشرح: قال المنذري: باب في القراءة في صلاة المغرب.

والحديث رواه مسلم في الصلاة، وبوب عليه النووي (4/180): باب القراءة في الصبح.

والحديث رواه البخاري في الأذان (763).

قولها: «يا بُنَيَّ، لَقَدْ ذَكَّرْتَنِي» أي: إنها كانت قد نسيت ذلك.

قولها: «إِنَّهَا لَآخِرُ مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِهَا فِي الْمَغْرِبِ» وفي رواية البخاري أنها آخر صلوات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فروى في باب وفاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت: «ثم ما صلى لنا بعدها حتى قبضه الله».

والحديث يدل على جواز القراءة في المغرب بغير قصار المفصل. ويدل عليه أيضا: حديث جبير بن مطعم قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ في المغرب بالطور. رواه البخاري (765) ومسلم.

وكذا حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه: أنه قال لمروان بن الحكم: ما لك تقرأ في المغرب بقصار المفصّل، وقد سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ بطُولى الطوليين». رواه البخاري (764).

وطولى الطوليين: أي بأطول السورتين، وهي الأعراف.

لكن ثبت أن تقصير المغرب هو الأكثر؛ لحديث سليمان بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: «ما رأيت أحدا أشبه صلاة برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من فلان» قال سليمان: فكان يقرأ في الصبح بطوال المفصل، وفي المغرب بقصار المفصل، وفي العشاء بأواسط المفصل» رواه النسائي وصححه ابن خزيمة وغيره.

قال الحافظ ابن حجر في الفتح (2/ 308): وهذا يشعر بالمواظبة على ذلك.

وكذا حديث أبي رافع رضي الله عنه: أنهم كانوا ينتضلون – أي يرمون بالسهام – بعد صلاة المغرب. رواه البخاري.

وقال الحافظ: وطريق الجمع بين هذه الأحاديث أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يطيل القراءة أحيانا في المغرب إما لبيان الجواز، وإما لعلمه بعدم المشقة على المأمومين، وليس في حديث جبير بن مطعم دليل على أن ذلك تكرر منه، وأما حديث زيد بن ثابت ففيه إشعارٌ بذلك لكونه أنكر على مروان المواظبة على القراءة بقصار المفصل. انتهى باختصار يسير.


فائدة: المفصّل من القرآن: أوله سورة (ق) على الصحيح وآخره آخر القرآن، كما في حديث أوس بن حذيفة رضي الله عنه في تحزيب الصحابة للقرآن، أخرجه أحمد وأبو داود.
والله أعلم.

ابو وليد البحيرى
2024-11-26, 12:37 PM
شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 30 )

باب: القراءة في العشاء الآخرة
اعداد الفرقان




الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب «الصلاة» من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء.

291. عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ مُعَاذٌ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَأْتِي فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ، فَصَلَّى لَيْلَةً مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِشَاءَ، ثُمَّ أَتَى قَوْمَهُ فَأَمَّهُمْ، فَافْتَتَحَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَانْحَرَفَ رَجُلٌ فَسَلَّمَ ثُمَّ صَلَّى وَحْدَهُ وَانْصَرَفَ، فَقَالُوا لَهُ: أَنَافَقْتَ يَا فُلَانُ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ، وَلَآتِيَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَأُخْبِرَنَّ هُ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا أَصْحَابُ نَوَاضِحَ نَعْمَلُ بِالنَّهَارِ، وَإِنَّ مُعَاذًا صَلَّى مَعَكَ الْعِشَاءَ، ثُمَّ أَتَى فَافْتَتَحَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُعَاذٍ فَقَالَ: يَا مُعَاذُ، أَفَتَّانٌ أَنْتَ؟! اقْرَأْ بِكَذَا وَاقْرَأْ بِكَذَا. قَالَ سُفْيَانُ: فَقُلْتُ لِعَمْرٍو: إِنَّ أَبَا الزُّبَيْرِ حَدَّثَنَا عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ: «اقْرَأْ (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا) و(َالضُّحَى) و(اللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى) وَ(سَبِّح اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى)». فَقَالَ عَمْرٌو: نَحْوَ هَذَا.

الشرح: قال المنذري: باب القراءة في العشاء الآخرة.

والحديث أخرجه مسلم في الصلاة (1/ 339) وبوب عليه النووي: باب القراءة في العشاء.

وأخرجه البخاري في الأذان (700 – 701) باب: إذا طول الإمام وكان للرجل حاجة فخرج فصلى.

قوله «كَانَ مُعَاذٌ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَأْتِي فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ» فيه جواز صلاة المفترض خلف المتنفل؛ لأن معاذا كان يصلي الفربضة مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم يذهب إلى قومه فيصلي بهم العشاء مرة ثانية متنفلا، فهي له تطوع ولهم فريضة، وقد جاء هكذا مصرحا به في رواية غير مسلم.

قال النووي: وهذا جائز عند الشافعي رحمه الله تعالى، ولم يجزه ربيعة ومالك وأبو حنيفة رضي الله عنهم، وتأولوا حديث معاذ رضي الله عنه على أنه كان يصلي مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تنفلا! ومنهم من تأوله على أنه لم يعلم به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! ومنهم من قال: حديث معاذ كان في أول الأمر ثم نسخ!

ثم قال: وكل هذه التأويلات دعاوى لا أصل لها، فلا يترك ظاهر الحديث بها. انتهى.

وقال صديق حسن: تصريحه هو وغيره أن التي صلاها مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي الفريضة، والتي صلاها بقومه نافلة له، دليل واضح، وحجة نيرة في هذا الباب، يدفع كل برهان داحض، ويقطع عرق كل تعليلٍ عليل، ويدفع كل خيال مختل، وما أجيب به عن ذلك، من أنه قول صحابي لا حجة فيه، فتعسف شديد؛ فإن الصحابي أخبرنا بذلك، وهو أجل قدرا من أن يروي بمجرد الظن والتخمين، وقد وقع هذا في عصره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والقرآن ينزل، فلو كان غير جائز، لما وقع التقرير عليه.

وأيضا الأصل صحة ذلك، والدليل على من منع منه، وأما الاستدلال بحديث «تختلفوا على أئمتكم» فوضع الدليل في غير موضعه؛ فإن النهي على فرض شموله لغير ما هو مذكور بعده من التفصيل، لا يتناول إلا ما كان له ظاهر في المخالفة من الأركان والأذكار، وفعل القلب لا يدخل في ذلك؛ لعدم ظهور أثر المخالفة فيه.

ولو قدرنا دخوله، لكان مخصوصا بدليل الجواز. انتهى.

قوله «فَافْتَتَحَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ» فيه: جواز قول «سورة البقرة» و«سورة آل عمران» و«سورة النساء» وهكذا، ومن منع منه، فهذا الحديث وغيره حجة عليه.

قوله «فَانْحَرَفَ رَجُلٌ فَسَلَّمَ ثُمَّ صَلَّى وَحْدَهُ وَانْصَرَفَ» استدل به على أنه يجوز للمأموم أن يقطع صلاته مع الإمام، ويصلي منفردا، للعذر والحاجة الطارئة، على أصح الأقوال.

والعذر: هو ما تسقط به الجماعة ابتداء، ويعذر في التخلف عنها بسببه.

وقال الحافظ: وأما قوله في الترجمة «فخرج» فيحتمل أنه خرج من القدوة، أو من الصلاة رأسا، أو من المسجد. قال ابن رشيد: الظاهر أن المراد: خرج إلى منزله فصلى فيه، وهو ظاهر قوله في الحديث «فانصرف الرجل». فتعقبه الحافظ بقوله: قلت: وليس الواقع كذلك؛ فإن في رواية النسائي «فانصرف الرجل فصلى في ناحية المسجد».

وأعلّ البيهقي قوله «ثم سلم» وقال الحافظ: وسائر الروايات تدل على أنه قطع القدوة فقط، ولم يخرج من الصلاة، بل استمر فيها منفردا (الفتح: 2/194).

قوله «فقالوا لَهُ: أَنَافَقْتَ يَا فُلَانُ؟» فيه: الإنكار من أهل المسجد على من ارتكب منكرا وخطأ من المصلين. وفيه: أن التخلف عن الجماعة، من صفة المنافق عند الصحابة ر ضي الله عنهم.

قوله «قَالَ: لَا وَاللَّهِ، وَلَآتِيَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَأُخْبِرَنَّ هُ» أي: ما نافقت، ولكن فعلت ذلك بسبب التعب الشديد، كما سيأتي.

قوله «فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا أَصْحَابُ نَوَاضِحَ نَعْمَلُ بِالنَّهَارِ» النواضح هي الإبل التي يسقى عليها، جمع ناضح، ومعنى قوله: أننا أصحاب عمل وتعب؛ فلا نستطيع تطويل الصلاة.

قوله «وَإِنَّ مُعَاذًا صَلَّى مَعَكَ الْعِشَاءَ، ثُمَّ أَتَى فَافْتَتَحَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ» فيه: علم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بصلاة معاذ رضي الله عنه معه، ثم ذهابه لقومه للصلاة بهم بعده.

قوله «فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُعَاذٍ فَقَالَ: يَا مُعَاذُ، أَفَتَّانٌ أَنْتَ؟! اقْرَأْ بِكَذَا وَاقْرَأْ بِكَذَا» فأنكر عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعله هذا، وهو التطويل في الصلاة بهم، وقوله «أفتان» وفي رواية البخاري «فتانٌ فتان فتان» أي: منفرٌ عن الدين وصادٌ عنه، والتكرار للتأكيد؛ لأن التطويل قد يكون سببا لكراهة الصلاة جماعة.

ففيه: الحث على التخفيف مراعاة لحال المأمومين، إذا كانوا لا يطيقون التطويل، أو لا يرضون بالتطويل. وروى البيهقي في «الشعب» بإسناد صحيح: عن عمر قال: «لا تبغّضوا الله إلى عباده، يكون أحدكم إماما فيطوّل على القوم حتى يبغّض إليهم ما هم فيه».

وقال الداودي: يحتمل أن يريد بقوله «فتان» أي: معذبٌ؛ لأنه عذبهم بالتطويل، ومنه قوله تعالى: {إن الذين فتنوا المؤمنين} قيل: معناه عذبوهم (الفتح 2/195).

وفيه: التعزير بالقول والاكتفاء به.

قَالَ سُفْيَانُ: فَقُلْتُ لِعَمْرٍو: إِنَّ أَبَا الزُّبَيْرِ حَدَّثَنَا عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ: «اقْرَأْ (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا) و(َالضُّحَى) و(اللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى) وَ(سَبِّح اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى)». فَقَالَ عَمْرٌو: نَحْوَ هَذَا. ظاهر هذا أنه موقوف على جابر رضي الله عنه، لكن هو قد ثبت مرفوعا إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وفي الحديث: جواز صلاة المنفرد في المسجد الذي يصلى فيه بالجماعة إذا كان لعذر.

ابو وليد البحيرى
2024-12-03, 06:53 AM
شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 31 )

باب: النهي عن سبق الإمام بالركوع والسجود
اعداد الفرقان



الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب «الصلاة» من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء.

292.عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي إِمَامُكُمْ، فَلَا تَسْبِقُونِي بِالرُّكُوعِ، وَلَا بِالسُّجُودِ، وَلَا بِالْقِيَامِ، وَلَا بِالِانْصِرَافِ ، فَإِنِّي أَرَاكُمْ أَمَامِي وَمِنْ خَلْفِي» ثُمَّ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ رَأَيْتُمْ مَا رَأَيْتُ، لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا» قَالُوا: وَمَا رَأَيْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «رَأَيْتُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ».

الشرح: قال المنذري: باب النهي عن سبق الإمام بالركوع والسجود.

والحديث أحرجه مسلم في الصلاة (1/320) وبوب عليه النووي (4/150): باب تحريم سبق الإمام بركوع أو سجود ونحوهما.

قوله «فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ» فيه: أن من السنة الإقبال على المصلين، والالتفات إليهم بالوجه بعد انقضاء الصلاة، وقد ثبتت فيه أحاديث كثيرة.

قوله «فَلَا تَسْبِقُونِي بِالرُّكُوعِ، وَلَا بِالسُّجُودِ، وَلَا بِالْقِيَامِ، وَلَا بِالِانْصِرَافِ » فيه تحريم هذه الأفعال، وما في معناها، فيحرم مسابقة الإمام فيها، وقد تقدم الكلام عليها.

والانصراف: هو السلام.

قوله «فَإِنِّي أَرَاكُمْ أَمَامِي وَمِنْ خلفي» وفي رواية له (1/319): «أَقيموا الركوعَ والسجودَ، فوالله إني لأراكم منْ بعدي – وربما قال: من بعد ظهري – إذا ركعتم وسجدتم».

وفي رواية أبي هريرة رضي الله عنه (1/319) قال: «إني والله لأُبصرُ من ورائي، كما أبصرُ من بين يدي».

قال الإمام أحمد وجمهور العلماء: هذه الرؤية رؤيةٌ بالعين حقيقية.

وقال النووي (4/149): قال العلماء: معناه أن الله تعالى خلق له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إدراكاً في قفاه يُبصر من ورائه، وقد انخرقت العادة له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأكثر من هذا، وليس يمنع من هذا عقلٌ ولا شرع، بل ورد الشرع بظاهره، فوجب القول به. انتهى.

وقال عياض: وحمله بعضهم على بعد الوفاة! وهو بعيد عن سياق الحديث.

وقوله «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ» فيه جواز الحلف بالله تعالى لتأكيد أمر وتفخيمه، والمبالغة في تحقيقه، وقد كثر في الأحاديث، «لَوْ رَأَيْتُمْ مَا رَأَيْتُ، لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا».

وقوله «رَأَيْتُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ» فيه دليل أن الجنة والنار مخلوقتان، موجودتان الآن، وهو مذهب أهل السنة والجماعة ، والأدلة عليه كثيرة، كقوله تعالى عن الجنة {أعدت للمتقين} وقوله عن النار {أعدت للكافرين}.

94- باب: النهي عن رفع الرأس قبل الإمام

293.عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «مَا يَأْمَنُ الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ فِي صَلَاتِهِ قَبْلَ الْإِمَامِ، أَنْ يُحَوِّلَ اللَّهُ صُورَتَهُ فِي صُورَةِ حِمَارٍ».

الشرح: قال المنذري: باب النهي عن رفع الرأس قبل الإمام.

والحديث أخرجه مسلم في الصلاة (1/321) في الباب السابق.

وأخرجه البخاري في الأذان (691) باب: إثم من رفع رأسه قبل الإمام.

قوله «مَا يَأْمَنُ الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ فِي صَلَاتِهِ قَبْلَ الْإِمَامِ» أي: من السجود، ويلتحق به الركوع لأنه في معناه، قال الحافظ ابن حجر: ويمكن أن يفرق بينهما بأن السجود له مزيد مزية؛ لأن العبد أقرب ما يكون فيه من ربه؛ لأنه في غاية الخضوع المطلوب، فلذلك خص بالتنصيص عليه، ويحتمل أن يكون من باب الاكتفاء، وهو ذكر أحد الشيئين المشتركين في الحكم، إذا كان للمذكور مزية.

قال: وأما التقدم على الإمام في الخفض في الركوع والسجود، فقيل: يلتحق به من باب الأولى (انظر الفتح 2/183).

قوله «أَنْ يُحَوِّلَ اللَّهُ صُورَتَهُ فِي صُورَةِ حِمَارٍ».

وفي الرواية الأخرى له: «أما يَخشى الذي يَرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار».

وفي رواية له ثالثة «أن يجعل الله وجهه وجه حمار»، قال عياض: هذه الروايات متفقة؛ لأن الوجه في الرأس، ومعظم الصورة فيه.

والحديث فيه تحريم مسابقة الإمام، ووجوب متابعته.

قال النووي: هذا كله بيان لغلظ تحريم ذلك، والله أعلم.

وذلك لتهديده بالمسخ وهو من أشد العقوبات.

واختلف في هذا المسخ: هل هو معنوي، أم حسي؟!

فقيل: يحتمل أن يرجع لأمر معنوي، فإن الحمار موصوف بالبلادة، فاستعير هذا المعنى للجاهل بما يجب عليه من فرض الصلاة، ومتابعة الإمام، ويرجح هذا: أن التحويل لم يقع مع كثرة الفاعلين.

وأجيب عنه: بأن كون فاعله متعرضا لذلك، لا يلزم أن يقع ذلك الوعيد عليه، قاله ابن دقيق العيد.

وحمله آخرون على ظاهره؛ إذْ لا مانع من جواز وقوع ذلك، كما جاء في حديث مستحلّي الزنى والحرير والخمر والمعازف في البخاري وغيره، وقوع مسخهم إلى قردة وخنازير.

وقال ابن الجوزي في الرواية التي عبّر فيها بالصورة: هذه اللفظة تمنع تأويل من قال المراد: رأس حمار في البلادة.

وقال الحافظ: ومما يبعده أيضا: إيراد الوعيد بالأمر المستقبل، وباللفظ الدال على تغيير الهيئة الحاصلة، ولو أريد تشبيهه بالحمار لأجل البلادة، لقال مثلا: فرأسه رأس حمار، وإنما قلت ذلك؛ لأن الصفة المذكورة – وهي البلادة – حاصلةٌ في فاعل ذلك عند فعله المذكور، فلا يحسن أن يقال له: يُخشى إذا فعلت ذلك أن تصير بليدا، مع أن فعله المذكور إنما نشأ عن البلادة. انتهى. ويمكن أن يراد به الأمران معا: الحسي والمعنوي، والله أعلم (انظر الفتح 2/183-184).


وفي الحديث: كمال شفقة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورحمته بأمته، وبيانه لهم الأحكام، وما يترتّب عليها من الثواب والعقاب.
لطيفة: قال صاحب «القبس في شرح موطأ مالك بن أنس» أبو بكر بن العربي رحمه الله: ليس للتقدم قبل الإمام سببٌ إلا طلب الاستعجال، ودواؤه أن يستحضر أنه لن يسلّم قبل الإمام، فلا يستعجل في هذه الأفعال.

ابو وليد البحيرى
2024-12-14, 05:30 AM
شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 32 )

بـاب: التّطْـبيـق فـي الركــوع
اعداد الفرقان



الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب «الصلاة» من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء.

294.عَنْ الْأَسْوَدِ وَعَلْقَمَةَ قَالَا: أَتَيْنَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه فِي دَارِهِ، فَقَالَ: أَصَلَّى هَؤُلَاءِ خَلْفَكُمْ؟ فَقُلْنَا: لَا، قَالَ: فَقُومُوا فَصَلُّوا، فَلَمْ يَأْمُرْنَا بِأَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ، قَالَ: وَذَهَبْنَا لِنَقُومَ خَلْفَهُ، فَأَخَذَ بِأَيْدِينَا، فَجَعَلَ أَحَدَنَا عَنْ يَمِينِهِ وَالْآخَرَ عَنْ شِمَالِهِ، قَالَ: فَلَمَّا رَكَعَ وَضَعْنَا أَيْدِيَنَا عَلَى رُكَبِنَا، قَالَ: فَضَرَبَ أَيْدِيَنَا وَطَبَّقَ بَيْنَ كَفَّيْهِ، ثُمَّ أَدْخَلَهُمَا بَيْنَ فَخِذَيْهِ، قَالَ: فَلَمَّا صَلَّى قَالَ: إِنَّهُ سَتَكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ مِيقَاتِهَا، وَيَخْنُقُونَهَ ا إِلَى شَرَقِ الْمَوْتَى، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمْ قَدْ فَعَلُوا ذَلِكَ، فَصَلُّوا الصَّلَاةَ لِمِيقَاتِهَا، وَاجْعَلُوا صَلَاتَكُمْ مَعَهُمْ سُبْحَةً، وَإِذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً فَصَلُّوا جَمِيعًا، وَإِذَا كُنْتُمْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَلْيَؤُمَّكُمْ أَحَدُكُمْ، وَإِذَا رَكَعَ أَحَدُكُمْ فَلْيفْرِشْ ذِرَاعَيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، وَلْيَجْنَأْ وَلْيُطَبِّقْ بَيْنَ كَفَّيْهِ، فَلَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى اخْتِلَافِ أَصَابِعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَرَاهُمْ.

الشرح: قال المنذري: باب التطبيق في الركوع.

والحديث أخرجه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة (1/378) وبوب النووي عليه باب: الندب إلى وضع الأيدي على الرُّكب في الركوع ونسخ التطبيق.

الأسود هو ابن يزيد بن قيس النّخعي، مخضرم ثقة، فقيه مكثر، مات سنة 74 أو 75 هـ، روى له الستة.

وعلقمة هو ابن قيس أبو شبيل النخعي، تابعي ثقة ثبت فقيه عابد، مات بعد الستين، وقيل: غير ذلك، روى له الستة.

قوله «أَصَلَّى هَؤُلَاءِ خَلْفَكُمْ؟» يعني الأمير وأتباعه.

قوله «قَالَ: فَقُومُوا فَصَلُّوا، فَلَمْ يَأْمُرْنَا بِأَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ» استدل به على عدم وجوب الأذان والإقامة لمن صلى وحده بالبلد الذي يؤذن فيه ويقام لصلاة الجماعة، بل يكفي أذانهم وإقامتهم، وهو مذهب ابن مسعود رضي الله عنه ومن وافقه. وذهب الجمهور من السلف والخلف إلى أن الإقامة سُنةٌ في حقّه. واختلفوا في الأذان، والصحيح أنه يشرع للمنفرد ويستحب، كما سبق بيانه في الأذان.

قوله «قَالَ: وَذَهَبْنَا لِنَقُومَ خَلْفَهُ، فَأَخَذَ بِأَيْدِينَا، فَجَعَلَ أَحَدَنَا عَنْ يَمِينِهِ وَالْآخَرَ عَنْ شِمَالِهِ» وهذا مذهبه رضي الله عنه وصاحبيه، أنه يصلي بينهما، وقد فعله النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرة.

وذهب عامة أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم فقالوا: إذا كان مع الإمام رجلان وقفا وراءه صفا؛ لحديث جابر وجبار بن صخر الذي رواه مسلم وقد سبق.

وأجمعوا على أنهم إذا كانوا ثلاثة: أنهم يقفون خلفه. وأما الواحد: فيقف عن يمين الإمام عند كافة أهل العلم؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما.

قوله «فَلَمَّا رَكَعَ وَضَعْنَا أَيْدِيَنَا عَلَى رُكَبِنَا، قَالَ: فَضَرَبَ أَيْدِيَنَا وَطَبَّقَ بَيْنَ كَفَّيْهِ، ثُمَّ أَدْخَلَهُمَا بَيْنَ فَخِذَيْهِ» طبق: أي ألصق باطني كفيه في الركوع، وهذا يدل على أن ابن مسعود رضي الله عنه يرى أن التطبيق سنة، ولعله لم يبلغه الناسخ، وهو حديث سعد رضي الله عنه الآتي، وهو مذهب العلماء كافة، أن السنة: وضع اليدين على الركبتين وكراهة التطبيق؛ لثبوت النسخ الصريح للتطبيق.

قَولَه «فَلَمَّا صَلَّى قَالَ: إِنَّهُ سَتَكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ مِيقَاتِهَا، وَيَخْنُقُونَهَ ا إِلَى شَرَقِ الْمَوْتَى» أي يتعمدون تأخير الصلاة المكتوبة عن أول وقتها المؤقت لها، لا عن جميع وقتها.

وهو من المرفوع من أشراط الساعة التي أخبر بها النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال كما في مسلم (648) أيضا أنه قال لأبي ذر رضي الله عنه: «كَيْف أَنْتَ إِذَا كَانَتْ عَلَيْك أُمَرَاء يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاة عَنْ وَقْتهَا، أَوْ يُمِيتُونَ الصَّلاة عَنْ وَقْتهَا؟ قَالَ: قُلْت: فَمَا تَأْمُرنِي؟ قَالَ: صَلِّ الصَّلاة لِوَقْتِهَا، فَإِنْ أَدْرَكْتهَا مَعَهُمْ فَصَلِّ فَإِنَّهَا لَك نَافِلَة».

ومَعْنَى «يُمِيتُونَ الصَّلَاة» أي: يُؤَخِّرُونَهَا ، فَيَجْعَلُونَهَ ا كَالْمَيِّتِ الَّذِي خَرَجَتْ رُوحه، وَالْمُرَاد بِتَأْخِيرِهَا عَنْ وَقْتهَا، أَيْ عَنْ وَقْتهَا الْمُخْتَار لا عَنْ جَمِيع وَقْتهَا، فَإِنَّ الْمَنْقُول عَنْ الأُمَرَاء الْمُتَقَدِّمِي نَ وَالْمُتَأَخِّر ِينَ إِنَّمَا هُوَ تَأْخِيرهَا عَنْ وَقْتهَا الْمُخْتَار، وَلَمْ يُؤَخِّرهَا أَحَد مِنْهُمْ عَنْ جَمِيع وَقْتهَا، فَوَجَبَ حَمْل هَذِهِ الأَخْبَار عَلَى مَا هُوَ الْوَاقِع. اهـ. (شرح صحيح مسلم 5 / 147 وما بعدها).

وقوله «وَيَخْنُقُونَه َا» أي: يجعلونها في خناق، أي: في ضيق، والمختنق: المضيق.

وقوله «وَيَخْنُقُونَه َا إِلَى شَرَقِ الْمَوْتَى» قال ابن الأعرابي: فيه معنيان: أحدهما: أن الشمس في ذلك الوقت – وهو آخر النهار – تبقى ساعة ثم تغيب. والثاني: أنه من قولهم: شرق الميت بريقه، إذا لم يبق بعده إلا يسيرا ثم يموت.

قوله «فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمْ قَدْ فَعَلُوا ذَلِكَ، فَصَلُّوا الصَّلَاةَ لِمِيقَاتِهَا، وَاجْعَلُوا صَلَاتَكُمْ مَعَهُمْ سُبْحَةً» أي: صلوا الصلاة في أول الوقت لتدركوا الفرض بوقته، ثم صلوا معهم لئلا تقع فتنة بسبب التخلف عن الصلاة مع الإمام، وتختلف كلمة المسلمين، فتدركوا فضيلة أول الوقت، وفضيلة الجماعة.

وفيه دليل على جواز الصلاة مرتين: الأولى بنية الفرض، والثانية تطوعا. وفي الحديث أيضا: جواز صلاة المكتوبة في البيوت، إذا كان الأئمة يؤخرونها عن وقتها.

قوله «وَإِذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً فَصَلُّوا جَمِيعًا، وَإِذَا كُنْتُمْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَلْيَؤُمَّكُمْ أَحَدُكُمْ، وَإِذَا رَكَعَ أَحَدُكُمْ فَلْيفْرِشْ ذِرَاعَيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، وَلْيَجْنَأْ وَلْيُطَبِّقْ بَيْنَ كَفَّيْهِ، فَلَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى اخْتِلَافِ أَصَابِعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَرَاهُمْ» سبق بيان ذلك آنفا، وأن التطبيق منسوخ. وفي الحديث: إنكار الصحابي ابن مسعود رضي الله عنه على من يؤخر الصلاة عن وقتها. وفيه: أن المكلف يعمل بالنص من الآية والحديث، إلى أن يبلغه الناسخ.

وأن الصحابي الجليل ابن مسعود رضي الله عنه على علمه وفضله، لم يبلغه الناسخ، وقد وقع نحو هذا لكثير من الصحابة وعلماء السلف، رضي الله عنهم ورحمهم الله.

96- باب: وضع اليدين على الركب ونسخ التطبيق

295.عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: صَلَّيْتُ إِلَى جَنْبِ أَبِي، قَالَ: وَجَعَلْتُ يَدَيَّ بَيْنَ رُكْبَتَيَّ، فَقَالَ لِي أَبِي: اضْرِبْ بِكَفَّيْكَ عَلَى رُكْبَتَيْكَ، قَالَ: ثُمَّ فَعَلْتُ ذَلِكَ مَرَّةً أُخْرَى، فَضَرَبَ يَدَيَّ، وَقَالَ: إِنَّا نُهِينَا عَنْ هَذَا، وَأُمِرْنَا أَنْ نَضْرِبَ بِالْأَكُفِّ عَلَى الرُّكَبِ.

الشرح: قال المنذري: باب وضع اليدين على الركب ونسخ التطبيق. والحديث أخرجه مسلم في الموضع السابق.

وأخرجه البخاري في الأذان (790) باب: وضع الأكف على الركب في الركوع.

مصعب بن سعد هو ابن أبي وقاص، أبو زرارة، تابعي ثقة، روى عن أبيه وعلي وطلحة رضي الله عنهم، توفي سنة 103 هـ، روى له الستة. قوله «صَلَّيْتُ إِلَى جَنْبِ أَبِي، قَالَ: وَجَعَلْتُ يَدَيَّ بَيْنَ رُكْبَتَيَّ» أي: إنه طبق بين كفيه في الركوع. قوله «فَقَالَ لِي أَبِي: اضْرِبْ بِكَفَّيْكَ عَلَى رُكْبَتَيْكَ» أي: كل كف على ركبة.

قوله «قَالَ: ثُمَّ فَعَلْتُ ذَلِكَ مَرَّةً أُخْرَى، فَضَرَبَ يَدَيَّ، وَقَالَ: إِنَّا نُهِينَا عَنْ هَذَا، وَأُمِرْنَا أَنْ نَضْرِبَ بِالْأَكُفِّ عَلَى الرُّكَبِ» وهذا تصريح بنسخ التطبيق، والأمر بوضع الأكف على الركب في حال الركوع.

قال الترمذي: التطبيق منسوخٌ عند أهل العلم، لا خلاف بين العلماء في ذلك، إلا ما روي عن ابن مسعود وبعض أصحابه، أنهم كانوا يطبقون. انتهى.

وروى الإمام ابن خزيمة: عن علقمة عن ابن مسعود قال: «علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أراد أن يركع طبق يديه بين ركبتيه فركع، فبلغ ذلك سعدا فقال: صدق أخي، كنا نفعل هذا ثم أمرنا بهذا».


وقوله «إِنَّا نُهِينَا عَنْ هَذَا، وَأُمِرْنَا أَنْ نَضْرِبَ بِالْأَكُفِّ عَلَى الرُّكَبِ» استدل به على نسخ التطبيق؛ بناء على أن المراد بالآمر والناهي في ذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الراجح عند أهل العلم، وأن حكمه الرفع.
وبه استدل به ابن خزيمة على أن التطبيق غير جائز (الفتح:2/ 338). والله أعلم.

ابو وليد البحيرى
2024-12-19, 05:46 AM
شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 33 )

باب: ما يُقال في الركوع والسجود
اعداد الفرقان



الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب «الصلاة» من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء.

عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي» يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ.

الشرح: قال المنذري: باب ما يقال في الركوع والسجود.

والحديث أخرجه مسلم في الصلاة ( 1/350 ) وبوب عليه النووي بمثل عنوان المنذري.

قولها: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ» أي هو من أذكار الركوع والسجود.

وفي الرواية الأخرى: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ قبل أن يموت».

قولها: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي» وفي الرواية الأخرى: «سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ، أستغفرك وأتوبُ إليك».

وفي الرواية الثالثة: قالت: ما رأيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منذ نزل عليه {إذا جاءَ نصرُ الله والفتح...} يصلي صلاةً إلا دعا، أو قال فيها: «سبحانك ربي وبحمدك، اللهم اغفرْ لي».

وفي الرواية الرابعة: قالت: فقلت: يا رسول الله، أراك تُكثر من قول «سُبْحَانَ اللَّهُ وَبِحَمْدِه، أستغْفِرُ الله وأتوب إليه»؟ فقال: «خبرني ربي أني سأرى علامةً في أمتي، فإذا رأيتها أكثرت من قول: سُبْحَانَ اللَّهُ وَبِحَمْدِه، أستغْفِرُ الله وأتوب إليه، فقد رأيتها {إذا جاءَ نصرُ الله والفتح...} فتح مكة، {ورأيتَ الناسَ يدخلون في دينِ الله أفواجا فسبّحْ بحمدِ ربّك واسْتغفره إنه كان توابا} النصر: (1- 3)».

وفي الرواية الخامسة: قالت: افتقدتُ النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فظننتُ أنه ذهب إلى بعض نسائه، فتحسّست، فإذا هو راكع أو ساجد، يقول: «سبحانك وبحمدك، لا إله إلا أنت» فقلت: بأبي أنت وأمي، إني لفي شأن، وإنك لفي آخر».

قولها: «يتأول القرآن» أي: يقول متأوّلاً القرآن، أي يفعل ما أُمر به فيه، مبينا المراد من قوله في الآية، أي: في قوله عز وجل: {فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً} (النصر: 3).

فكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول هذا الكلام البديع في الجزالة، المستوفي ما أمر به في الآية، وكان يأتي به في الركوع والسجود؛ لأن حالة الصلاة أفضل من غيرها، قاله صديق حسن.

ومعنى: «سبحانك» أي: من التسبيح وهو التنزيه، أي: أنزهك وأبرئك من كل عيبٍ ونقص. «وبحمدك» أي: سبحتك بتوفيقك لي، وهدايتك وفضلك علي، لا بحولي وقوتي. وفيه شكر الله تعالى على هذه النّعمة، والاعتراف بها، والتفويض إلى الله تعالى، وأنّ كل الأفعال له.

وأما استغفاره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: «اللهم اغفر لي»، مع أنه مغفور له، فهو من باب العبودية لله تعالى والإذعان له، والافتقار إليه.

والتسبيح في الركوع والسجود سنة متواترة من فعله صلى الله عليه وسلم. والأصل فيه: قول: سبحان ربي العظيم، في الركوع، وسبحان ربي الأعلى، في السجود.

قال صديق حسن: وأقل ما يفعله المصلي من ذلك: ثلاث تسبيحات في الركوع، وثلاث تسبيحات في السجود، ويختمه بقوله: «سبحانك اللهم... إلخ».

والأدعية في الركوع والسجود كثيرة، تراجع في مظانها من كتب السنة النبوية والأذكار، وقد جمع جملة منها العلامة الألباني رحمه الله في كتابه «صفة الصلاة».

98- باب: النهي عن القراءة في الركوع والسجود

297.عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَشَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السِّتَارَةَ وَالنَّاسُ صُفُوفٌ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إِلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ، يَرَاهَا الْمُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ، أَلَا وَإِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا، فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ؛ فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ».

الشرح: قال المنذري: باب النهي عن القراءة في الركوع والسجود.

والحديث أخرجه مسلم في الصلاة (479) وبوب عليه النووي: باب النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود.

قوله: «كَشَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السِّتَارَةَ»، الستارة هي الستر الذي يكون على باب البيت. وفي رواية «ورأسه معصوبٌ في مرضه الذي مات فيه».

قوله: «وَالنَّاسُ صُفُوفٌ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ»، هل قاله بعد إحرام الناس بالصلاة، أم قبل دخولهم الصلاة؟ قال النووي: الأظهر أنه قاله بعد إحرامهم، والغالب أنّ سماعهم له إنما يكون مع إصغاء، ففيه حجةٌ لما أجازه في المدونة من الإنصات لسماع خبرٍ يسير.

قوله «إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إِلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ، يَرَاهَا الْمُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ»، يريد انقطاع النبوة بموته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبقاء الرؤيا الصالحة بعده.

قال المهلب: المراد غالب رؤيا الصالحين، وإلا فالصالحون قد يرون الأضغاث ولكنه نادر؛ لقلة تمكن الشيطان منهم، بخلاف عكسهم فإن الصدق فيهم نادر لغلبة تسلط الشيطان.

وقال القرطبي: المسلم الصادق الصالح هو الذي يناسب حاله حال الأنبياء، فأكرم بنوع مما أكرم به الأنبياء وهو الاطلاع على الغيب، وأما الكافر والفاسق والمخلّط فلا، ولو صدقت رؤياهم أحيانا فذاك كما يصدق الكذوب، وليس كل من حدّث عن غيب يكون خبره من أجزاء النبوة كالكاهن والمنجم. (الفتح 12/362).

وقد استشكل كون الرؤيا جزءاً من النبوة، مع أن النبوة انقطعت بموت النبي صلى الله عليه وسلم؟!

فقيل في الجواب: إنه لم يُردْ أنها نبوة باقية، وإنما أراد أنها أشبهت النبوة من جهة الاطلاع على بعض الغيب؛ ولذا فلا ينبغي التكلم في تأويلها بغير علم، وقد قال مالك رحمه لما سئل: أيعبر الرؤيا كل أحد؟ فقال: أبالنبوة يُلعب؟! ثم قال: الرؤيا جزء من النبوة فلا يلعب بالنبوة، حكاه عنه ابن عبد البر (الفتح 12/363).

فالنبي صلى الله عليه وسلم أكد في آخر حياته فضل الرؤيا الصالحة الصادقة وعلو منزلتها في دين الإسلام، وقد كان صلى الله عليه وسلم يوصي في مرض موته بالصلاة والمماليك والجار والنساء، فكأن الرؤيا تحتل من الدين رتبة تلك الوصايا.

قوله: «أَلَا وَإِنِّي نُهيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا»، نهيت: الخطاب له صلى الله عليه وسلم يشمل الأمة حتى يقوم دليل على قصره عليه، ويدل عليه أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي».

ويدل عليه أيضا قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قراءة القرآن وأنا راكع أو ساجد. رواه مسلم ( 480)؛ ولذا قال جمهور العلماء بحرمة القراءة في الموضعين، وقال بعضهم ببطلان الصلاة لأنه زاد ركنا. وقيل في الحكمة في المنع من القراءة: أن الركوع والسجود حالتا ذلٍ، فكره قراءة كلام الله العزيز جل وعلا فيهما.

قوله: «فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ عَزَّ وَجَلَّ» أي: عظموه بالتسبيح ونزهوه فهو وظيفة الركوع. ولذا كره الجمهور الدعاء في الركوع. قوله: «وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ» أي: وظيفة السجود الاجتهاد في الدعاء، مع التسبيح كما سبق.

وهذا يشمل بعمومه الدعاء بخيري الدنيا والآخرة، والتخير من الدعاء النبوي أكمل وأشمل وأفضل.

قوله: «فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ» قمن: أي حقيقٌ وجدير، ويقال: قمين.


وفي الحديث عَن أَبِي هُريْرة رَضِيَ الله عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ؛ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ». أخرجه مسلم (1/350 ).
والله تعالى أعلم.

ابو وليد البحيرى
2024-12-25, 06:13 AM
شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 34 ) باب: ما يُقال إذا رفع من الركوع





الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب «الصلاة» من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء.

298.عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ، قَالَ: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، مِلْء السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَمِلْء مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ، أَحَقّ مَا قَالَ الْعَبْدُ، وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ، اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ».

الشرح: قال المنذري: باب ما يقال إذا رفع من الركوع.

والحديث رواه مسلم في الصلاة (1/347) وبوب عليه النووي: باب ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع.

ورواه من حديث عبدالله بن أبي أوفى رضي الله عنه، ومن حديث أبي عبيدة في باب: اعتدال أركان الصلاة.

قوله «رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، مِلْء السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ» الأشهر في «ملء» النصب على الحاليّة.

قال الخطابي: وهو تمثيل لكثرة عدد الحمد، أي حمداً لو كان جسما، لملأ عدده ما بين السماء والأرض. وقيل المراد: ثوابها. وقيل: يراد بذلك عظم الكلمة.

قوله «وَمِلْء مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ» قيل: إنه اعترافٌ بالعجز عن أداء حق الحمد بعد إفراغ الوسع؛ فإنّ حمده ملء السموات هو نهاية حمد القائم به، ثم ارتفع فأحال الأمر فيه على المشيئة، وليس وراء ذلك للحمد منتهى، فإنّ حمد الله تعالى أعزّ من أنْ يعتوره الحسبان، أو يكتنفه الزمان والمكان، ولم ينته أحدٌ من الخلق في الحمد منتهاه، وبهذه الرتبة استحق صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يسمى أحمد.

قوله «أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ» أهل: الأشهر فيه أنه منصوب على النداء، أي يأهل الثناء، أو نصب على المدح، ويجوز الرفع على الخبر، أي: أنت أهل الثناء، والثناء هو: الذكر الجميل، والحمد أعم من الثناء المجرد؛ فإن الحمد: هو الثناء على المحمود بما له من صفات الكمال.

والمجد هو نهاية الشرف.

قوله «أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ» يحتمل أن يكون خبرا عما قبله من الحمد الكثير، أي: الحمد المذكور أحق ما قال العبد. وحرف «ما» يحتمل أن تكون موصولة أو نكرة موصوفة، أي: أحق شيء قاله العبد. والتعريف في العبد يحتمل الجنس فيكون لجميع العباد، ويحتمل أنه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للعهد.

وقوله «أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ» دليل على فضيلة هذا الدعاء وشرفه، فقد أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى: أن هذا أحق ما قال العبد، فينبغي أن نحافظ عليه ولا نهمله، كما نبه عليه العلماء.

و«كلنا لك عبد» تأكيد، وشهادة من لا ينطق عن الهوى، تؤكد أن يديم الإنسان هذا الذكر.

قوله «اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ» وهذا من انفراده تبارك وتعالى بالملك والتدبير والتصرف، والعطاء والمنع، كما قال تعالى: {ما يفتح الله للناس من رحمةٍ فلا مُمسك لها وما يُمسك فلا مرسلَ له من بعده وهو العزيز الحكيم} (فاطر: 2).

وهذا مما يوجب التعلق بالله تعالى، والافتقار إليه من جميع الوجوه، وألا يدعى إلا هو، ولا يخاف ولا يرجى إلا هو، وهو العزيز الذي قهر كل شيء، الحكيم في عطائه ومنعه.

قوله «وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ» الأكثر على أن الجد بفتح الجيم، وفسّر بالحظ، أي: الحظ منك في الدنيا في المال والولد، لا ينفع في الآخرة، وإنما ينفع فيها الإيمان العمل الصالح.

كما قال تعالى: {المالُ والبنون زينةُ الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خيرٌ عند ربك ثوابا وخيرٌ أملا} (الكهف: 46).

وقيل: الجد: الغِنى، وقيل: العظمة والسلطان، ومنه قوله تعالى: {وأنه تعالى جد ربنا} (الجن: 3).

أي: لا ينفع ذا الحظ في الدنيا بالمال والولد والسلطان؛ وذلك إنما ينفعه إيمانه وعمله الصالح.

وحكى الشيباني فيه الكسر، أي: ولا ينفع ذا الاجتهاد اجتهاده، إلا أن تكون له سابقة خير؛ فإن العمل لا ينجي بنفسه، وإنما ينجي فضل الله عز وجل، كما قال صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة أحدٌ منكم بعمله» متفق عليه.

وقد يكون المراد: الاجتهاد في كسب الدنيا، والتحفظ عن المكاره، أي لا يكتسب أحد إلا ما قضي له، ولا يسلم إلا مما وقي، وهذا أشبه بظاهر الحديث وهو أصل في التسليم وإثبات القدر؛ ولذا ترجم عليه البخاري وأدخله في باب القدر.

وقوله «منك» على الفتح بمعنى «بدل»، أي: لا ينفع منك ذا الحظ حظه بدل طاعته، كقوله تعالى: {لجعلنا منكم ملائكة} (الزخرف: 60) أي بدلكم. وقيل: هي بمعنى «عند» أي: لا ينفع ذا الحظ حظه عندك، وقيل: المراد بالجد العظمة، أي لا ينفع ذا العظمة عظمته. (انظر شرح النووي وإكمال المعلم للأبي 2/ 368).

100- باب: فضل السجود والترغيب في الإكثار منه

299. حَدَّثَنِي مَعْدَانُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ الْيَعْمَرِيُّ قَالَ: لَقِيتُ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ أَعْمَلُهُ يُدْخِلُنِي اللَّهُ بِهِ الْجَنَّةَ، أَوْ قَالَ: قُلْتُ: بِأَحَبِّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ؟ فَسَكَتَ، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَسَكَتَ، ثُمَّ سَأَلْتُهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: سَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ لِلَّهِ؛ فَإِنَّكَ لَا تَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً، إِلَّا رَفَعَكَ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً» قَالَ مَعْدَانُ: ثُمَّ لَقِيتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ لِي مِثْلَ مَا قَالَ لِي ثَوْبَانُ.

الشرح: قال المنذري: باب فضل السجود والترغيب في الإكثار منه. والحديث أخرجه مسلم (488) وبوب عليه النووي: باب فضل السجود والحثّ عليه. ومعدان بن أبي طلحة اليعمري، شامي تابعي ثقة , روى له الستة.

وثوبان الهاشمي مولى رسول الله عليه الصلاة والسلام, صحب رسول الله ولازمه , ونزل بعده الشام، ومات بحمص سنة أربع وخمسين، وروى له مسلم والأربعة. قوله «فسكت» يحتمل أنه تفكّر في الجواب، أو تنشيطا لسماع المزيد من السائل.

قوله «عليك بكثرة السجود لله» يعني كثرة الصلاة؛ لأنه يكون فيها، سواء كانت فرضاً أو نفلاً , جماعة أو فرداً لأن السجود لا يشرع غالباً إلا في الصلاة , كما حمله على ذلك جماعة من أهل العلم منهم الحافظ ابن حجر.

ويدخل فيه: سجود التلاوة وكذلك سجود الشكر.

وذهب الشوكاني في «الفتح الرباني» إلى أن السجود وحده من غير انضمامه إلى صلاة ودخوله فيها عبادة مستقلة! يأجر الله عبده عليها، ووافقه عليه صديق حسن، واستدلوا لذلك بعموم النصوص الواردة في فضل السجود، والأول أرجح، والله أعلم.

وسبب الحث عليه: أن السجود من أشرف العبادات، وأن العبد أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد، كما صح في الحديث، وهو موافق لقول الله تعالى: {واسجد واقترب} (العلق:19). ولأن السجود غاية التواضع والعبودية لله تعالى؛ لأنه تمكينٌ لأعز أعضاء الإنسان وأعلاها وهو وجهه من التراب والأرض التي تداس وتمتهن.

قوله «فَإِنَّكَ لَا تَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً، إِلَّا رَفَعَكَ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً» زاد ابن ماجة في أوله: «إلا كتب لك بها حسنة» وقال: «فاستكثروا من السجود».


قوله «قَالَ مَعْدَانُ: ثُمَّ لَقِيتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ لِي مِثْلَ مَا قَالَ لِي ثَوْبَانُ» أي تعزز الحديث بروايته عن أبي الدرداء رضي الله عنه أيضا.

ابو وليد البحيرى
2024-12-31, 10:56 AM
شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 35 ) بـاب: الدعـــاء فـــي السـجـــود

الفرقان

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب «الصلاة» من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء.

300.عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رضي الله عنه:َ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ؛ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ».

الشرح: قال المنذري: باب الدعاء في السجود.

والحديث أخرجه مسلم في الصلاة (1/ 350) وبوب عليه النووي: باب ما يقال في الركوع والسجود.

قوله: «أَقْرَبُ» على وزن أفعل، وهو مبتدأ حذف خبره وجوبا لسد الحال مسدّه، وهو قوله: «وهو ساجد»، فهو مثل قولهم: أخطب ما يكون الأمير قائما.

وقوله: «أقرب مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ» قال النووي: معناه: أقرب ما يكون من رحمة ربه وفضله. انتهى.

وهو كما قال الله تعالى: {فاسجد واقترب} (العلق: 19).

ففيها: أن السجود من العبادات العظيمة، والطاعات الكريمة، التي تقرب من الله عز وجل، وتدني من رحمته وإحسانه.

وفي الحديث: أن السجود من أفضل من القيام، وسائر أركان الصلاة.

وقد اختلف العلماء: أيها أفضل: تطويل السجود، أم تطويل القيام؟ على ثلاثة أقوال:

الأول: تطويل السجود أفضل، حكاه الترمذي والبغوي عن جماعة.

الثاني: أن تطويل القيام أفضل، وهو مذهب الشافعي وجماعة؛ لحديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أفضل الصلاة طول القنوت» رواه مسلم. والمراد بالقنوت: القيام.

قالوا: ولأن ذكر القيام: قراءة القرآن، وذكر السجود: التسبيح، وقراءة القرآن أفضل.

ولأن المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يطول القيام أكثر من تطويل السجود.

الثالث: أنهما سواء.

وقال الإمام إسحق بن راهويه: أما في النهار: فتكثير الركوع والسجود أفضل، وأما في الليل: فتطويل القيام.

قال الترمذي: إنما قال إسحق هذا؛ لأنهم وصفوا صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل بطول القيام، ولم يُوصف من تطويله بالنهار ما وُصف بالليل. انتهى.

قوله «فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ» حثٌ على الإكثار من الدعوات في هذه الحال التي يقرب فيها العبد من ربه.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ربه تعالى بأنواع الأدعية، التي نقلها عنه أصحابه وأزواجه، وهي جامعة لخيري الدنيا والآخرة، فينبغي للمسلم والمسلمة حفظها، ودعاء الله تعالى بها؛ فإنها من أنفع ما يكون له ولأهله وذريته وأمته.

وقد سبق ذكر حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: «... وأما السجودُ فاجتهدوا في الدعاء، فقمنٌ أنْ يُستجاب لكم» أي: حقيق وجدير أن يستجاب لكم.

ومن الأخطاء الشائعة عند بعض المصلين: تأخير الدعاء حتى الخروج من الصلاة! فترى كثيرا من الناس يغفل عن الدعاء في سجوده، فإذا انتهى من الصلاة رفع يديه ودعا!

فيترك ما ورد الحث عليه بالأحاديث النبوية قولا وفعلا، ويفعل شيئا لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله!

هذا وقد ورد قرب الله تعالى في مواضع أخرى من الكتاب والسنة النبوية، و«القريب» من أسمائه الحسنى، قال تعالى: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريبٌ أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون} (البقرة:186).

ومن معاني القريب: أنه قريب بإجابة الدعاء، وهو مشروط بالاستجابة له، فمن الناس من يستجيب لله فيزيدهم من فضله: {ويستجيب الذين آمنوا وعلموا الصالحات ويزيدهم من فضله} (الشورى:26) فهو سبحانه الذي يُقابِل السؤالَ والدُّعاء، بالقَبُول والعَطاء.

وهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه، ويغيث الملهوف إذا ناداه، ويكشف السوء عن عباده، ويرفع البلاء عن أحبائه، وكل الخلائق مفتقرة إليه، قال تعالى: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} (الرحمن: 29)، فجميع الخلائق تصمد إليه، وتعتمد عليه.

وهو الذي ينصرهم على عدوهم ويؤيدهم، كما قال سبحانه: {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} (البقرة:214).

وهو القريب من العابدين والداعين والذاكرين، يؤنسهم ويحفظهم وينصرهم، ويثبت قلوبهم وأقدامهم، ويجيب دعاءهم، قال سبحانه كما في الحديث القدسي: «أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني».

وفى الحديث الآخر: «أقربُ ما يكون الرب من عبده، فى جوف الليل الآخر» رواه الترمذي (3579) وهو حديث صحيح.

وذلك حين ينزل تبارك وتعالى في الثلث الأخير من الليل، فيقول: «هل من سائل فأعطيه، هل من داع فأستجيب له، هل من مستغفر فأغفر له».

وهو سبحانه القريب من التائبين يجيب دعاءهم، ويذيقهم من حلاوة القرب منه ما يعوضهم فقد ما فقدوه، قال سبحانه: {يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُ مْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوه ُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} (هود:61)، ومن معاني القريب: أنه الذي يرى ويسمع كل شيء، ولا يخفى عليه شيء، وهو قريب من جميع عباده بعلمه وسمعه وبصره المحيط بكل شيء.


والله أعلم.

ابو وليد البحيرى
2025-01-04, 12:37 PM
شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 36 )

باب: على كم يسجد؟
الفرقان





الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب «الصلاة» من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء.

301.عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ: الْجَبْهَةِ - وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى أَنْفِهِ - وَالْيَدَيْنِ، وَالرِّجْلَيْنِ ، وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ، وَلَا نَكْفِتَ الثِّيَابَ، وَلَا الشَّعرَ».

الشرح:قال المنذري: باب على كم يسجد؟

والحديث رواه مسلم في الصلاة (1/354) وبوب عليه النووي (4/206): باب أعضاء السجود والنهي عن كف الشعر والثوب وعقص الرأس في الصلاة.

قوله «أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ..» وفي الرواية الأخرى له: «أُمرَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنْ يسجدَ على سبعٍ، ونُهي أن يكفت الشعر والثياب».

قوله «أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ..» فيه: أن أعضاء السجود سبعة، وأنه ينبغي للساجد أن يسجد عليها كلها.

قوله «سَبْعَةِ أَعْظُمٍ» سمى كل عضو عظما، وإنْ كان فيه عظام كثيرة.

وهي كما فصلها في الحديث «الْجَبْهَةِ - وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى أَنْفِهِ - وَالْيَدَيْنِ، وَالرِّجْلَيْنِ ، وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ» هذا تفصيل أعضاء السجود.

فأولها: الجبهة ومعها الأنف، فيجب وضعهما على الأرض جميعا، فهما كعضو واحد، وهو قول أحمد وابن حبيب من أصحاب مالك.

وقال مالك والشافعي: يكفي وضع بعض الجبهة والأنف مستحب؟!

وقولهما مرجوح؛ لمخالفته ظاهر الحديث، فلا يكمل السجود إلا بهما.

وقد ثبت في حديث المسيء صلاته: أنه صلى الله عليه وسلم أمره بأن يمكن جبهته من الأرض.

وأخرج الترمذي (270): عن أبي حميد الساعدي: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد أمكن أنفه وجبهته من الأرض، ونحّى يديه عن جنبيه...» وصححه ابن حبان (5/189).

وقال الترمذي: والعمل عليه عند أهل العلم: أن يسجد الرجل على جبهته وأنفه.

ثاني الأعضاء وثالثها: اليدان، أي: الكفان، وهو المراد عند الإطلاق، كما في قوله تعالى: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} (المائدة: 6)، ولأن المصلي ممنوعٌ من بسط ذراعه على الأرض، كما مضى معنا في الحديث. ورابعها وخامسها: الرجلان، وهما الرُّكبتان، كما في الرواية الأخرى.

وسادسها وسابعها: أطراف القدمين، وهي الأصابع، وبعض المصلين قد يرفع إحدى قدميه وهو ساجد، وهذا خطأ !

وهكذا لو أخلّ بعضوٍ من هذه الأعضاء، لم تصح صلاته.

وإذا عجز عن السجود على بعض أعضاء السجود، سقط عنه؛ للقاعدة الشرعية: لا واجب مع العجز؛ لقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} (التغابن: 16).

فمن لم يستطع السجود لعذر، أَومأَ برأسه قدر إمكانه.

وهل يجب أن تكون هذه الأعضاء مكشوفة عند السجود؟

فقال الشافعي بوجوب كشف الجبهة واليدين.

والراجح: عدم وجوب ذلك، وإنما يستحب السجود على الأرض دون حائل.

وقد قسم العلماء السّجود على حائل إلى قسمين:

الأول: حائل متصل بالمصلي، كالعمامة والثوب، فهذا يُكره أنْ يسجد عليه إلا من حاجة، كحر أو برد؛ لحديث أنس رضي الله عنه قال: كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم في شدّة الحر، فإذا لم يستطعْ أحدُنا أن يمكّن جبهته من الأرض، بَسَط ثوبه فسجد عليه. أخرجه البخاري (385) ومسلم (620).

الثاني: إذا كان الحائلُ منفصلاً، كالسجادة والحصير ونحوها، فهذا لا بأس به ما دام طاهراً، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على الخمرة (وهي السجادة الصغيرة) رواه البخاري (333) ومسلم (613) من حديث ميمونة رضي الله عنها.

قوله «وَلَا نَكْفِتَ الثِّيَابَ» لا نكفت بفتح النون وكسر الفاء، وهو الجمعُ والضّم، أي: لا نضمها ولا نجمعها، ومنه قوله تعالى {ألم نجعل الأرض كفاتا} (المرسلات: 25). أي: تجمع الناس في حياتهم وموتهم.

فنهى المصلي عن الصلاة وثوبه مشمّر، أو كمه ونحوه مكفوت.

قوله «وَلَا الشَّعرَ» أي: لا نجمع الشعر، أي تحت العمامة ونحوها، وفي رواية لمسلم: عن ابن عباس: أنه رأى عبد الله بن الحارث يصلي ورأسه معقوصٌ من ورائه، فقام خلفه فجعل يحلُه، فلما انصرف أقبل إلى ابن عباس فقال: ما لك ورأسي؟ فقال: إني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما مَثَلُ هذا، مثلً الذي يُصلي وهو مكتوفٌ».

قال العلماء: والحكمة في ذلك أن يسجد الشعر والثوب معه على الأرض، ولهذا مثله في حديث ابن عباس: بالذي يصلي وهو مكتوف.

وإذا خالف وصلى كذلك فقد أساء وأثم لمخالفته النهي النبوي، ولكن صلاته صحيحة، قال النووي: باتفاق العلماء.


ومما ورد في فضل أعضاء السجود: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ اللهَ حرّمَ على النارِ، أن تأكلَ أعضاءَ السُّجود» رواه البخاري في الأذان (806) ومسلم في الإيمان (182).
أي إنّ عُصاة الموحدين لو دخلوا النار، فإنّ النار لا تأكل أعضاء السجود منهم، بل توقرها وتحترمها ولا تؤثر فيها، فسبحان الله!