ابو وليد البحيرى
2023-01-15, 11:49 AM
ظاهرة الأصل والفرع في علوم اللغة العربية
يونس بومعزة
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آل بيته الطيِّبين الطاهرين، ومن تبِعَهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد، لقد هيمنت فكرة الأصل والفرع على مجمل التفكير اللغوي العربي منذ العصر القديم وحتى العصر الحديث، والمهتمُّ بالفكر اللغوي العربي وبعلوم اللغة العربية، سيُلاحظ ودون أدنى شكٍّ اطِّراد ظاهرة الأصل والفرع في الكتب والأعمال اللغوية القديمة؛ من نحوية، وصرفية، وصوتية، وعَروضية وبلاغية...
إن ظاهرة الأصل والفرع حاضرة ومبثوثة في الدراسات اللغوية كافة بمعانٍ ومدلولات مختلفة ومتباينة، وهي من أكثر القضايا دورانًا في علوم اللغة العربية حتى صارت علمًا على بعض العلوم.
وسأحاول في هذا المقال التعريف بكلمتي "الفرع والأصل" في اللغة، وتحديد تاريخ ظهورهما في الفكر العربي، وتَتَبُّع حضور هذه الثنائية في بعض علوم اللغة العربية من قبيل النحو - الإعراب - وعلم الصرف، وعلم الأصوات، وعلم العروض مع بيان أهميتها وقيمتها ودورها في كل علم على حِدة.
1- ما هو المعنى اللغوي لكلمتي "الأصل والفرع"؟
2- ما هو تاريخ ظهور زوج "الأصل والفرع" في الفكر العربي؟
3- كيف تحضر ثنائية "الأصل والفرع" في علوم اللغة العربية؟
1-المعنى اللغوي لكلمة "الأصل" وكلمة "الفرع":
أ- المعنى اللغوي لكلمة الأصل:
لقد وردت كلمة "الأصل" في المعاجم القديمة والحديثة، وتُطلَق على معانٍ مُتعدِّدة، والملاحظ هو تقارُب هذه المعاني رغم اختلاف طبيعة المعاجم، فالخليل بن أحمد الفراهيدي (ت170هـ) يُعرِّف "الأصل" بأنه: "أسفل كل شيء، واستأصلت الشجرة؛ أي: ثبُت أصلُها، واستأصل الله فلانًا؛ أي: لم يدع له أصلًا"[1].
ومن المعاجم اللغوية التي أوردت كلمة "الأصل" (معجم مقاييس اللغة) لابن فارس (ت395هـ)، فقد جاء الأصل في (باب الهمزة والصاد وما بعدهما في الثلاثي)، قال ابن فارس: "الأصل الهمزة والصاد واللام، ثلاثة أصول متباعدة بعضها عن بعض، أحدهما: أساس الشيء، والثاني: الحَيَّة، والثالث: ما كان من النَّهار بعد العشيِّ"[2]، وورد في لسان العرب لابن منظور(ت711هـ): "الأصلُ: أسفل كل شيء، وجمعه أصول، لا يُكسَّر على غير ذلك، وهو اليأْصُول، يُقال: أصل مؤصَّل، واستعمل ابن جني الأصلية موضع التأصُّل، فقال: الألف وإن كانت في أكثر أحوالهما بدلًا أو زائدة، فإنها إذا كانت بدلًا من الأصل جرت في الأصيلة مجراه، وهذا لم تنطق به العرب؛ إنما هو شيء استعملته الأوائل في بعض كلامها"[3].
وعرَّف الشريف الجرجاني (ت816هـ) "الأصل" بأنه: "ما يبتني عليه غيرُه"[4]، أما في (المعجم الوسيط) فكلمة "الأصل" جاءت بمعنى: أصل الشيء؛ أي: "أساسه الذي يقوم عليه، ومنشؤه الذي ينبت منه، والأصل: كرم النسب، ويُقال: ما فعلته أصلًا؛ أي: قَطُّ... وفيما ينسخ: النسخة الأولى المعتمدة، ومنه أصل الحكم، وأصول الكتاب (محدثة) و(الأصلي) ما كان أصلًا في معناه، ويُقابَل بالفرعي، أو الزائد، أو الاحتياطي، أو المقلد"[5].
إذًا بعد قراءة بعض المعاجم تبيَّن أن لعلماء اللغة ثلاثة تعبيرات في بيان معنى كلمة الأصل لغة، وهي: أصل الشيء: أسفله، وهذا هو المعنى الشائع في معاجم القدماء، والأصل هو جذر الشيء وأساسه الذي يقوم ويبتني عليه غيرُه، بالإضافة إلى أنه هو منشأ الشيء الذي ينبت فيه.
ب-المعنى اللغوي لكلمة الفرع:
إن المتتبع لكلمة "الفرع" في اللغة يجدها تدلُّ على المعاني الآتية فهو: عند الخليل: "أعلى كل شيء، وجمعه: فروع، والفروع: صعود من الأرض، وواد مُفْرِع: أفرع أهلَه؛ أي: كفاهم فلا يحتاجون إلى نُجْعة، والفرع: المال المعدُّ، ويُقال: فرِع يفرَع فرعًا، ورجل أفرع: كثير الشعر، والفارع والفارعة والأفرع والفرعاء يُوصَف به كثرة الشَّعَر وطولُه على الرأس، ورجل مُفْرَع الكتف؛ أي: عريض، وأفرع فلان إذا طال طولًا"[6].
وذهب ابن فارس في مقاييس اللغة إلى أن "الفرع" "الفاء والراء والعين أصلٌ صحيحٌ يدلُّ على علوِّ وارتفاع وسمُوٍّ وسُبوغ، من ذلك الفرع، وهو أعلى الشيء، مصدر فرعت الشيء فرعًا: إذا علوته"[7].
وقريب من المعاني السابقة للفرع ما ساقه الراغب الأصفهاني في معجمه؛ حيث قال: "فرع الشجر: غصنه، وجمعه: فروع؛ قال الله تعالى: ﴿ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ﴾ [إبراهيم: 24]، واعتبر ذلك على وجهين: أحدهما بالطول، فقيل: فرع كذا: إذا أطال، وسمي شعر الرأس فرعًا لعلوِّه، وقيل: رجل أفرع، وامرأة فرعاء، وفرعت الجبل، وفرعت الجبل وفرعت رأسه بالسيف، وتفرَّعت في بني فلان: تزوَّجت في أعاليهم وأشرافهم، والثاني اعتبر بالعرض، فقيل: تفرَّع كذا، وفروع المسألة، وفروع الرجل: أولاده"[8]
وعرف الشريف الجرجاني "الفرع" بأنه: "خلاف الأصل، وهو اسم لشيء يُبنى على غيره"[9].
هكذا إذًا فالفرع في أصل استعماله حسِّي يُؤخَذ من الطول والعرض لما يمكن أن يُبنى عليه، ولما كان الأصل أسفل الشيء والفرع أعلاه، كانت العلاقة بينهما تكاملية، كل واحد منهما في حاجة لوجود الآخر إلى حدٍّ بعيد يستحيل معه الكلام عن الفرع في غياب الأصل.
2-تاريخ ظهور ثنائية الأصل والفرع:
إن دائرة تداول زوج الأصل والفرع شاسعة وواسعة، فهي تضمُّ النحاة والفقهاء والبلاغيين والأصوليين والمتكلِّمين؛ لكن ليس من اليسير أن نبحث في المراحل الجنينية والتكوينية لمصطلح الأصل والفرع وفي تاريخ ظهوره واستعماله لأول مرة؛ لأن المصطلحات غالبًا لا تحمل شهادات ميلادها؛ ولهذا فالبحث في تاريخ المصطلحات بحث محفوف بمزالق الخلط والخطأ، ويزداد صعوبة كلما اقتربنا من تحديد نقطة بداية المصطلح[10]؛ لكن من الضروري تحديد الإطار المعرفي والفكري والثقافي العربي الذي ظهر فيه مصطلح الأصل والفرع.
3- حضور ثنائية "الأصل والفرع" في علوم اللغة العربية:
تتجلَّى فكرة الأصل والفرع في مختلف علوم اللغة العربية منذ العصور الأولى للتنظير اللغوي العربي، بدءًا بعلم النحو وعلم الصرف إلى علم الأصوات وعلم العروض.
أ- علم النحو/ الإعراب:
لقد رافقت فكرة "الأصل والفرع" النحو العربي، ورسَّخَتْ جذورها في هذا النحو ووجَّهته منذ إرهاصاته الأولى، وعني النحاةُ بها عنايةً كبيرةً، وأثَّرت في قواعد النحو وأحكامه.
إن مصطلح "الأصل" و"الفرع"، استعمل في أعمال اللُّغويين الأوائل؛ فالروايات تنقل أن أبا الأسود الدؤلي هو أول من أصَّل العربية، ووضع لها القياس، وأن الناس قد تعلَّمُوا منه العربية، ففرَّع لهم أصولها..."[11].
وجاء في روايات أخرى أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أصَّل النحو، ووضَع أصوله في صحيفة ألقاها إلى أبي الأسود الدؤلي، فجاء النحويُّون فنقلوا الأصول والفروع.
إن فكرة الأصل تمتدُّ في جميع أبواب النحو العربي ومستوياته كلها، فتردُّ كل ظاهرة نحوية متجانسة إلى أصل واحد غالبًا، فللعمل النحوي أصل واحد، وللإعراب أصل واحد، وللبناء أصل واحد، ولكل باب من أبواب النحو قاعدة عامة، يمكن أن تُسمَّى أصل القاعدة[12].
والمقام لا يسع للبحث في كل مسائل وأبواب النحو العربي، إذ سأقتصر على إظهار حضور ثنائية الأصل والفرع في قضية العمل النحوي وقضية الإعراب والبناء الأولى؛ لأنها الركيزة النظرية في النحو العربي وحجر الزاوية فيه، والثانية؛ لأن الإعراب والبناء من أهم خواصِّ النحو العربي.
الأصل في العمل:
يتَّفق جمهور نحاة العربية - بصريون وكوفيون، قدامى ومحدثون - على فكرة واحدة، وهي أن الأصل في العمل والتأثير للفعل، فالحرف، فالاسم؛ قال ابن يعيش: "أصل العمل إنما هو الأفعال، وإذا عُلِم ذلك فليعلم أن الفروع أبدًا تنحطُّ عن درجات الأصول، فلمَّا كانت أسماء الفاعلين فروعًا على الأفعال، كانت أضعف منها في العمل، والذي يُؤيِّد ذلك أنك تقول: زيد ضاربٌ عمرًا، وزيد ضاربٌ لعمرٍو، فتكون مُخيرًا بين أن تُعدِّيه بنفسه، وبين أن تُعدِّيه بحرف الجر لضَعفه، ولا يجوز مثل ذلك في الفعل، فلا تقول: ضربت لزيد"[13].
إذًا فأصل العمل لم يُسند إلَّا إلى شيء واحد هو الفعل؛ لأنه أقوى العوامل؛ لذلك يعمل عملين يرفع الفاعل وينصب المفعول[14]، أما العوامل الفروع فهي عوامل غير أصيلة جاءها الإعمال لصلة لها بالفعل.
ووَفْق هذا الاعتبار الذي يلحق العوامل التابعة بالأفعال، قد مضى العمل بترتيب المشتقات، فقدَّم النحاة اسم الفاعل ومعه صيغ المبالغة، ثم اسم المفعول، ثم الصفة المشبهة، ثم اسم التفضيل ثم المصدر، ثم الاسم المضاف، ثم الاسم المبهم، ثم معنى الفعل[15].
والعامل الفرع قد يكون فرعًا لأصله، وأصلًا لغيره، فكما أن بعض العوامل عامل فرع عن فعل، فإن لبعضها هي أيضًا فروعًا تنبثق عنها، وتلحق بها، فـ"ما، ولا، ولات، وأن، المشبهات بليس"، محمولة على ليس، وملحقة بها، ولها في كتب النحو حيِّزٌ خاصٌّ يرِدُ عقب باب "كان"، مما يُشعِر بتبعيَّتِها لها ولحوقها بها.
ولا النافية للجنس ملحقة بأن في العمل، ولها معها حكم اللحق، وصيغ المبالغة والصفة المشبهة ملحقات باسم فاعل متفرعة عنه[16].
الأصل في البناء والإعراب:
إن في هذه المسألة خلافًا واضحًا بين نحاة مدرسة البصرة ونحاة مدرسة الكوفة، ومذهب البصريين أن الإعراب أصلٌ في الأسماء، فرعٌ في الأفعال، فالأصل في الفعل البناء عندهم؛ قال الخليل وسيبويه وجميع البصريين: "المستحق للإعراب من الكلام الأسماء، والمستحق للبناء الأفعال والحروف، هذا هو الأصل"[17]، فكل اسم رأيته معربًا، فهو على أصله لا سؤال فيه، وكل اسم رأيته مبنيًّا، فهو خارج عن أصله، لعِلَّة لحقته فأزالته عن أصله، فسبيلك أن تسأل عن تلك العِلَّة حتى تعرفها، وكل فعل رأيته معربًا، فقد خرج عن أصله؛ لعِلَّة لحقته، فسبيلك أن تسأل عن تلك العِلَّة حتى تعرفها"[18].
إن الأفعال أوجب لها الإعراب فأعربت؛ وذلك لعلة وهي مضارعتُها للأسماء، وبعض الأسماء منعتها عِلَّةٌ من الإعراب فبُنيت؛ وذلك لعلة وهي مشابهتها للحرف.
يتبع
يونس بومعزة
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آل بيته الطيِّبين الطاهرين، ومن تبِعَهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد، لقد هيمنت فكرة الأصل والفرع على مجمل التفكير اللغوي العربي منذ العصر القديم وحتى العصر الحديث، والمهتمُّ بالفكر اللغوي العربي وبعلوم اللغة العربية، سيُلاحظ ودون أدنى شكٍّ اطِّراد ظاهرة الأصل والفرع في الكتب والأعمال اللغوية القديمة؛ من نحوية، وصرفية، وصوتية، وعَروضية وبلاغية...
إن ظاهرة الأصل والفرع حاضرة ومبثوثة في الدراسات اللغوية كافة بمعانٍ ومدلولات مختلفة ومتباينة، وهي من أكثر القضايا دورانًا في علوم اللغة العربية حتى صارت علمًا على بعض العلوم.
وسأحاول في هذا المقال التعريف بكلمتي "الفرع والأصل" في اللغة، وتحديد تاريخ ظهورهما في الفكر العربي، وتَتَبُّع حضور هذه الثنائية في بعض علوم اللغة العربية من قبيل النحو - الإعراب - وعلم الصرف، وعلم الأصوات، وعلم العروض مع بيان أهميتها وقيمتها ودورها في كل علم على حِدة.
1- ما هو المعنى اللغوي لكلمتي "الأصل والفرع"؟
2- ما هو تاريخ ظهور زوج "الأصل والفرع" في الفكر العربي؟
3- كيف تحضر ثنائية "الأصل والفرع" في علوم اللغة العربية؟
1-المعنى اللغوي لكلمة "الأصل" وكلمة "الفرع":
أ- المعنى اللغوي لكلمة الأصل:
لقد وردت كلمة "الأصل" في المعاجم القديمة والحديثة، وتُطلَق على معانٍ مُتعدِّدة، والملاحظ هو تقارُب هذه المعاني رغم اختلاف طبيعة المعاجم، فالخليل بن أحمد الفراهيدي (ت170هـ) يُعرِّف "الأصل" بأنه: "أسفل كل شيء، واستأصلت الشجرة؛ أي: ثبُت أصلُها، واستأصل الله فلانًا؛ أي: لم يدع له أصلًا"[1].
ومن المعاجم اللغوية التي أوردت كلمة "الأصل" (معجم مقاييس اللغة) لابن فارس (ت395هـ)، فقد جاء الأصل في (باب الهمزة والصاد وما بعدهما في الثلاثي)، قال ابن فارس: "الأصل الهمزة والصاد واللام، ثلاثة أصول متباعدة بعضها عن بعض، أحدهما: أساس الشيء، والثاني: الحَيَّة، والثالث: ما كان من النَّهار بعد العشيِّ"[2]، وورد في لسان العرب لابن منظور(ت711هـ): "الأصلُ: أسفل كل شيء، وجمعه أصول، لا يُكسَّر على غير ذلك، وهو اليأْصُول، يُقال: أصل مؤصَّل، واستعمل ابن جني الأصلية موضع التأصُّل، فقال: الألف وإن كانت في أكثر أحوالهما بدلًا أو زائدة، فإنها إذا كانت بدلًا من الأصل جرت في الأصيلة مجراه، وهذا لم تنطق به العرب؛ إنما هو شيء استعملته الأوائل في بعض كلامها"[3].
وعرَّف الشريف الجرجاني (ت816هـ) "الأصل" بأنه: "ما يبتني عليه غيرُه"[4]، أما في (المعجم الوسيط) فكلمة "الأصل" جاءت بمعنى: أصل الشيء؛ أي: "أساسه الذي يقوم عليه، ومنشؤه الذي ينبت منه، والأصل: كرم النسب، ويُقال: ما فعلته أصلًا؛ أي: قَطُّ... وفيما ينسخ: النسخة الأولى المعتمدة، ومنه أصل الحكم، وأصول الكتاب (محدثة) و(الأصلي) ما كان أصلًا في معناه، ويُقابَل بالفرعي، أو الزائد، أو الاحتياطي، أو المقلد"[5].
إذًا بعد قراءة بعض المعاجم تبيَّن أن لعلماء اللغة ثلاثة تعبيرات في بيان معنى كلمة الأصل لغة، وهي: أصل الشيء: أسفله، وهذا هو المعنى الشائع في معاجم القدماء، والأصل هو جذر الشيء وأساسه الذي يقوم ويبتني عليه غيرُه، بالإضافة إلى أنه هو منشأ الشيء الذي ينبت فيه.
ب-المعنى اللغوي لكلمة الفرع:
إن المتتبع لكلمة "الفرع" في اللغة يجدها تدلُّ على المعاني الآتية فهو: عند الخليل: "أعلى كل شيء، وجمعه: فروع، والفروع: صعود من الأرض، وواد مُفْرِع: أفرع أهلَه؛ أي: كفاهم فلا يحتاجون إلى نُجْعة، والفرع: المال المعدُّ، ويُقال: فرِع يفرَع فرعًا، ورجل أفرع: كثير الشعر، والفارع والفارعة والأفرع والفرعاء يُوصَف به كثرة الشَّعَر وطولُه على الرأس، ورجل مُفْرَع الكتف؛ أي: عريض، وأفرع فلان إذا طال طولًا"[6].
وذهب ابن فارس في مقاييس اللغة إلى أن "الفرع" "الفاء والراء والعين أصلٌ صحيحٌ يدلُّ على علوِّ وارتفاع وسمُوٍّ وسُبوغ، من ذلك الفرع، وهو أعلى الشيء، مصدر فرعت الشيء فرعًا: إذا علوته"[7].
وقريب من المعاني السابقة للفرع ما ساقه الراغب الأصفهاني في معجمه؛ حيث قال: "فرع الشجر: غصنه، وجمعه: فروع؛ قال الله تعالى: ﴿ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ﴾ [إبراهيم: 24]، واعتبر ذلك على وجهين: أحدهما بالطول، فقيل: فرع كذا: إذا أطال، وسمي شعر الرأس فرعًا لعلوِّه، وقيل: رجل أفرع، وامرأة فرعاء، وفرعت الجبل، وفرعت الجبل وفرعت رأسه بالسيف، وتفرَّعت في بني فلان: تزوَّجت في أعاليهم وأشرافهم، والثاني اعتبر بالعرض، فقيل: تفرَّع كذا، وفروع المسألة، وفروع الرجل: أولاده"[8]
وعرف الشريف الجرجاني "الفرع" بأنه: "خلاف الأصل، وهو اسم لشيء يُبنى على غيره"[9].
هكذا إذًا فالفرع في أصل استعماله حسِّي يُؤخَذ من الطول والعرض لما يمكن أن يُبنى عليه، ولما كان الأصل أسفل الشيء والفرع أعلاه، كانت العلاقة بينهما تكاملية، كل واحد منهما في حاجة لوجود الآخر إلى حدٍّ بعيد يستحيل معه الكلام عن الفرع في غياب الأصل.
2-تاريخ ظهور ثنائية الأصل والفرع:
إن دائرة تداول زوج الأصل والفرع شاسعة وواسعة، فهي تضمُّ النحاة والفقهاء والبلاغيين والأصوليين والمتكلِّمين؛ لكن ليس من اليسير أن نبحث في المراحل الجنينية والتكوينية لمصطلح الأصل والفرع وفي تاريخ ظهوره واستعماله لأول مرة؛ لأن المصطلحات غالبًا لا تحمل شهادات ميلادها؛ ولهذا فالبحث في تاريخ المصطلحات بحث محفوف بمزالق الخلط والخطأ، ويزداد صعوبة كلما اقتربنا من تحديد نقطة بداية المصطلح[10]؛ لكن من الضروري تحديد الإطار المعرفي والفكري والثقافي العربي الذي ظهر فيه مصطلح الأصل والفرع.
3- حضور ثنائية "الأصل والفرع" في علوم اللغة العربية:
تتجلَّى فكرة الأصل والفرع في مختلف علوم اللغة العربية منذ العصور الأولى للتنظير اللغوي العربي، بدءًا بعلم النحو وعلم الصرف إلى علم الأصوات وعلم العروض.
أ- علم النحو/ الإعراب:
لقد رافقت فكرة "الأصل والفرع" النحو العربي، ورسَّخَتْ جذورها في هذا النحو ووجَّهته منذ إرهاصاته الأولى، وعني النحاةُ بها عنايةً كبيرةً، وأثَّرت في قواعد النحو وأحكامه.
إن مصطلح "الأصل" و"الفرع"، استعمل في أعمال اللُّغويين الأوائل؛ فالروايات تنقل أن أبا الأسود الدؤلي هو أول من أصَّل العربية، ووضع لها القياس، وأن الناس قد تعلَّمُوا منه العربية، ففرَّع لهم أصولها..."[11].
وجاء في روايات أخرى أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أصَّل النحو، ووضَع أصوله في صحيفة ألقاها إلى أبي الأسود الدؤلي، فجاء النحويُّون فنقلوا الأصول والفروع.
إن فكرة الأصل تمتدُّ في جميع أبواب النحو العربي ومستوياته كلها، فتردُّ كل ظاهرة نحوية متجانسة إلى أصل واحد غالبًا، فللعمل النحوي أصل واحد، وللإعراب أصل واحد، وللبناء أصل واحد، ولكل باب من أبواب النحو قاعدة عامة، يمكن أن تُسمَّى أصل القاعدة[12].
والمقام لا يسع للبحث في كل مسائل وأبواب النحو العربي، إذ سأقتصر على إظهار حضور ثنائية الأصل والفرع في قضية العمل النحوي وقضية الإعراب والبناء الأولى؛ لأنها الركيزة النظرية في النحو العربي وحجر الزاوية فيه، والثانية؛ لأن الإعراب والبناء من أهم خواصِّ النحو العربي.
الأصل في العمل:
يتَّفق جمهور نحاة العربية - بصريون وكوفيون، قدامى ومحدثون - على فكرة واحدة، وهي أن الأصل في العمل والتأثير للفعل، فالحرف، فالاسم؛ قال ابن يعيش: "أصل العمل إنما هو الأفعال، وإذا عُلِم ذلك فليعلم أن الفروع أبدًا تنحطُّ عن درجات الأصول، فلمَّا كانت أسماء الفاعلين فروعًا على الأفعال، كانت أضعف منها في العمل، والذي يُؤيِّد ذلك أنك تقول: زيد ضاربٌ عمرًا، وزيد ضاربٌ لعمرٍو، فتكون مُخيرًا بين أن تُعدِّيه بنفسه، وبين أن تُعدِّيه بحرف الجر لضَعفه، ولا يجوز مثل ذلك في الفعل، فلا تقول: ضربت لزيد"[13].
إذًا فأصل العمل لم يُسند إلَّا إلى شيء واحد هو الفعل؛ لأنه أقوى العوامل؛ لذلك يعمل عملين يرفع الفاعل وينصب المفعول[14]، أما العوامل الفروع فهي عوامل غير أصيلة جاءها الإعمال لصلة لها بالفعل.
ووَفْق هذا الاعتبار الذي يلحق العوامل التابعة بالأفعال، قد مضى العمل بترتيب المشتقات، فقدَّم النحاة اسم الفاعل ومعه صيغ المبالغة، ثم اسم المفعول، ثم الصفة المشبهة، ثم اسم التفضيل ثم المصدر، ثم الاسم المضاف، ثم الاسم المبهم، ثم معنى الفعل[15].
والعامل الفرع قد يكون فرعًا لأصله، وأصلًا لغيره، فكما أن بعض العوامل عامل فرع عن فعل، فإن لبعضها هي أيضًا فروعًا تنبثق عنها، وتلحق بها، فـ"ما، ولا، ولات، وأن، المشبهات بليس"، محمولة على ليس، وملحقة بها، ولها في كتب النحو حيِّزٌ خاصٌّ يرِدُ عقب باب "كان"، مما يُشعِر بتبعيَّتِها لها ولحوقها بها.
ولا النافية للجنس ملحقة بأن في العمل، ولها معها حكم اللحق، وصيغ المبالغة والصفة المشبهة ملحقات باسم فاعل متفرعة عنه[16].
الأصل في البناء والإعراب:
إن في هذه المسألة خلافًا واضحًا بين نحاة مدرسة البصرة ونحاة مدرسة الكوفة، ومذهب البصريين أن الإعراب أصلٌ في الأسماء، فرعٌ في الأفعال، فالأصل في الفعل البناء عندهم؛ قال الخليل وسيبويه وجميع البصريين: "المستحق للإعراب من الكلام الأسماء، والمستحق للبناء الأفعال والحروف، هذا هو الأصل"[17]، فكل اسم رأيته معربًا، فهو على أصله لا سؤال فيه، وكل اسم رأيته مبنيًّا، فهو خارج عن أصله، لعِلَّة لحقته فأزالته عن أصله، فسبيلك أن تسأل عن تلك العِلَّة حتى تعرفها، وكل فعل رأيته معربًا، فقد خرج عن أصله؛ لعِلَّة لحقته، فسبيلك أن تسأل عن تلك العِلَّة حتى تعرفها"[18].
إن الأفعال أوجب لها الإعراب فأعربت؛ وذلك لعلة وهي مضارعتُها للأسماء، وبعض الأسماء منعتها عِلَّةٌ من الإعراب فبُنيت؛ وذلك لعلة وهي مشابهتها للحرف.
يتبع