أحمد إدريس الطعان
2008-09-15, 12:47 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
العلاقة بين العلمانية والغنوصية
د . أحمد إدريس الطعان ( [1])
كلية الشريعة – جامعة دمشق
بريد إلكتروني : Ahmad_altan@maktoob.com
مقدمة
الحمد لله رب العالمين الملك الحق المبين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأمي الصادق الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :
في الظلام تكثر الخفافيش ..
وفي الظلام تغيب الحقائق، وتختلط معالم الأشياء، ويستوي الأعمى والبصير ..
وفي الظلام ينشط الشطار والسراق يبحثون تحت جنح الظلام عن صيودهم وغاياتهم ومكاسبهم .. وفي الظلام يتعالى صفير هؤلاء وتصفيقهم وضوضاؤهم يصمون الآذان، ويقلقون الأذهان .
إذا كان ذلك ما يحصل في ظلام الحس والمشاهدة فكذلك هو ما يحصل في ظلام الأفكار والمبادئ، فيحرص المغرضون على اختلاط المفاهيم، واندراس الحدود، والتباس التعاريف، ويضيق هؤلاء بالوضوح والبيان، ويتبرمون من التدقيق والإتقان .
وفي هذا العالم المختلط من الفوضى يتكلم الرويبضات، ويتقدم الأراذل، ويتصدر الأصاغر، ويؤم القوم أجهلهم، ويقودهم أحمقهم . غير أن الأدهى من كل ذلك أن تصبح الفوضى هي الأساس، والعبث هو القانون، والغموض هو الإبداع، والهوى هو الميزان، وهو ما يحصل اليوم في عالم النصوص وقراءتها وتأويلها، وفي عالم الأفكار وصناعتها وتدويلها .
فالذين يبحثون عن الحقيقة يحرصون على اكتشاف معالم النص وحدوده وأبعاده، وهو ما لا يعني أبداً تجاهل أعماقه وآفاقه الواسعة، ولكنهم يريدون الحقيقة التي يحث عليها النص سواء كانت حقيقة نظرية اعتقادية أم عملية سلوكية، وفي هذه الحالة يمثل هذا الصنف دور المحكوم الذي يبحث في النص عن مقاصد الحاكم ومراميه، ويوظف لفهم النص كل وسائل الإضاءة والإنارة، وهو متشوف إلى اكتناه الحقيقة والتشبث بها .
غير أن صنفاً آخر من الناس لا يعتقدون بوجود حقيقة أصلاً وراء عالم الأهواء والأغراض الذي يتمرغون فيه، فكل حقيقة يمكن أن تنغص عليهم وهْمَ المتعة الذي يعيشونه هي حقيقة زائفة، وكل نص يعكر عليهم نشوة السكرة التي ينعمون بها هو نص استبدادي لا بد من مقاومته بكل وسائل التشويش والتعكير والتنفير .
ومن هنا فإن الخطاب العلماني/الغنوصي يرفض حكومة النص المُحْكم، لأنه بنظرهم نص إمبريالي يريد أن يفرض سلطانه على قرائه، بمعنى آخر لأنه نص مستنير واضح ليس فيه ظلام، ولا يسمح بحرية اللعب، في حين يكون النص المتشابه – بنظر الخطاب المدروس- هو النص المحبوب والمقرب لأنه يفسح المجال لإطفاء الأنوار، وإسدال الظلام، والألعاب الحرة .
في هذا اللعب الحر، وفي هذا الظلام النصي، وفي هذه الغشاوة التأويلية، تلتقي كل من العلمانية والغنوصية لقاء الأحباب في تأويل أو تقويل النص القرآني، والتحلل من حكومته ..
إذاً : تلتقي العلمانية مع الغنوصيات القديمة المتمثلة في الهرمسية([2]) والأفلوطينية([3]) والباطنية ومع الغنوصية الجديدة المتمثلة في الهرمينوطيقا الغربية في قضية التأويل أو القراءة للنصوص، وإن كان الاتفاق بينهما لا يعني أكثر من الاتفاق على عدم الاتفاق، أي أن الإنسان القارئ للنص له الحق أن يفهم من النص ما يحقق له أغراضه وإراداته دون اعتبار لما يقوله النص، إن القارئ هو الذي يقول ، والنص عليه فقط أن يكون جهاز استقبال وتبرير لإملاءات القارئ، دون أن يُسمح له بالإرسال أو القول .
ونحن نقول هنا : بأنه ليس هناك ما يمنع أن يكون النص المقروء محرضاً على الإبداع أو حافزاً للفكر على التجديد أو الاستنباط، ولكن الفهم الجديد قد يرتبط بالنص القديم ببعض الوشائج اللغوية والأصولية والقرائنية التي تسمح له أن يكون تفسيراً وشرحاً للنص القديم، وقد يكون هذا الفهم هو مجرد تداعيات أو إيحاءات سببتها قراءة النص ولكنها منبتة الصلة به لغوياً وأصولياً وقرائنياً، ومع ذلك تصرُّ القراءات الغنوصية / العلمانية على اعتبارها فهوم مشروعة بالنص، ومؤسَّسة عليه .
وقد اعتمدت في هذا البحث على المصادر الأساسية والمباشرة للخطاب العلماني والغنوصي، وحرصت على أن أترك النصوص هي التي تتكلم ، وأن يكون منهجي هو المنهج الوصفي الكشفي التركيبي حتى لا أُتَّهم بالتجني والتحامل .
وها هنا ملاحظتان منهجيتين أود أن ألفت النظر إليهما لعل ذلك يجنبني الكثير من النقد وسوء الفهم الأولى : أنني في هذه الدراسة لم أتعامل مع الخطاب العلماني كأشخاص وأفراد متمايزين مختلفين، وإنما تعاملت معه كمنظومة فلسفية تنتهي إلى جذور واحدة وتستند على أسس متقاربة، ولذلك تجنبت ذكر الأسماء غالباً في متن الدراسة، وأحلت إليها في الهوامش، ولذلك أيضاً كنت أنتقل من نص إلى نص دون اعتبار لقائله ما دام يتكامل مع غيره في داخل السياج الأيديولوجي العلماني .
لقد أراد البحث إذن أن يكشف عن الوحدة المتخفية وراء التنوع والاختلاف في المنظومة العلمانية، وأن يصل إلى الجذور الكامنة وراء الأغصان والفروع، فالتيارات والمدارس العلمانية الليبرالية والماركسية والحداثية والعدمية على الرغم من اختلافها إلا أنها تتفق إلى حد كبير كلما حاولنا الحفر في الأعماق للوصول إلى الجذور المادية والدنيوية التي تغذيها، ويكون الاتفاق أكثر وضوحاً حين يتعلق الأمر بالدراسات الإسلامية عموماً، وذلك بسبب التضاد المطلق بين هدف الرسالة الإسلامية وهدف العلمانية الغربية في التعامل مع أسئلة الإنسان الكبرى وقضاياه المصيرية .
والثانية : أنني اعتمدت على المصادر المترجمة التي تمكنت من الوصول إليها للباحثين الغربيين الذين احتاجت لهم هذه الدراسة . كما توجد في البحث بعض المصادر الثانوية لم يكن اعتمادي عليها كمصادر جوهرية وإنما كمكملات نفلية على مبدأ أن النافلة إن لم تنفع فلا تضر بعد أداء الفريضة .
وأحب أن أشير إلى أنني لا أعرف من كتب في هذا الموضوع بشكل مستقل ، ولم يقع تحت يدي أي بحث يسلط الضوء على هذه العلاقة بين العلمانية والغنوصية .
وقد جاء هذا البحث في مقدمة ومبحثين وخاتمة :
المقدمة : وفيها الإشارة إلى إشكالية البحث ومنهجيته وخطته .
المبحث الأول : وشائج التواصل بين العلمانية والغنوصية الهرمسية .
المبحث الثاني : متاهة القراءة العلمانية " مراجعة نقدية " .
الخاتمة : وفيها الخلاصة والنتائج .
المبحث الأول
وشائج التواصل بين العلمانية والغنوصية ([4])الهرمسية
المطلب الأول – العلاقة بين الهرمينوطيقا والغنوصية :
"" الهرمينوطيقا هي فن كشف الخطاب في الأثر الأدبي ""([5]). كما "" تعني تقليدياً فن تأويل النصوص المقدسة الإلهية أو النصوص الدنيوية البشرية، وهي كذلك مساوية للتفسير أو للفلولوجيا بما هي تفسير حر في أو نحوي وصرفي لغوي لبيان معاني الألفاظ والجمل والنصوص، وهذا ما يعرف بالتفسير اللفظي "" ([6]) .
وهـو مصطلح مستخدم في دوائر الدراسات اللاهـوتية ليشير إلى مجموعة القواعد والمعايير التي يجب أن يتبعها المفسر لفهم النص الديني ( [7]) .
هذا هو المعنى التقليدي للهرمينوطيقا، ولكن مع تطور نظرية النسبية أصبحت الهرمينوطيقا تُعنى بفن الفهم، وهذا المعنى " فن الفهم " هو الذي سيؤسس له شلاير ماخر 1768 – 1834 م([8]) الذي يُعد أبو التأويلية الحديثة ، وأصبح فن الفهم أو فن التأويل يتناول ليس النصوص المقـدسة فقـط بل تعـدى ذلك إلى النصوص البشرية ذات المضمون الطبيعي اليومي ([9]) .
ومعنى كونها تجاوزت الكتب المقدسة إلى الكلام البشري اليومي أنها أصبحت تُخضع كل شيء للتأويل، وتعتبر التأويل هو الأصل في الكلام، وبذلك تكون الهرمينوطيقا نمطاً من أنمـاط القراءة والتأويل للنصوص والتراثات الفكرية عموماً وهو ما سمي الهرمينوطيقا العامة ( [10]) .
في مقابل الهرمينوطيقا العامة التي اهتمت بتفسير الوجود تقوم هرمينوطيقا خاصة تركز بالذات على تفسير النصوص، ومن أبرز ممثليها بول ريكور ([11]) [ ولد سنة " 1913م ] الذي يُعوِّل كثيراً على التفسير الرمزي، وهو ما سيُعتَبر أساساً تقوم عليه الهرمينوطيقا، إذ يَعتبر ريكور الرمز وسيطاً شفافاً ينم عما وراءه من معنى، ومعنى ذلك أن يقول القائل شيئاً وهو يعني شيئاً آخر في آن واحد، وبغير أن تتعطل الدلالة الأولى وهو ما يسمى" بالوظيفة الأليغورية " للغة بالمعنى الحرفي للكلمة ([12]) . وهذه الطريقة لجأ إليها بولتمان( [13]) في تحطيمه للأسطورة الدينية في العهد القديم، والكشف عن المعاني العقلية التي تكشف عنها هذه الأساطير ([14]).
وهناك طريقة أخرى يمثلها كل من فرويد ([15]) وماركس ([16]) ونيتشة ([17]) كما يبين ريكورنفسه، وهي التعامل مع الرمز باعتباره حقيقة زائفة لا يجب الوثوق به، بل يجب إزالتها وصولاً إلى المعنى المختبئ وراءها، فالرمز في هذه الحالة لا يشف عن المعنى بل يخفيه ويطرح بدلاً منه معنى زائفاً، ومهمة التفسير هي إزالة المعنى الزائف السطحي وصولاً إلى المعنى الباطني الصحيح . لقد شكك فرويد في الوعي باعتباره مستوى سطحياً يخفي وراءه اللاوعي، وفسر كلٌّ من ماركس ونيتشة الحقيقة الظاهرة باعتبارها زائفة، ووضعا نسقاً من الفكـر يقضي عليها ويكشف عن زيفها([18]).
والرمزية الريكورية تقوم على الكشف والإبلاغ عندما تساعد في تفجير دلالات اللغة عوضاً عن انكفائها على ذاتها([19]). وتعتمد على مفهوم العلامة عند سوسير باعتبارها ذات صلة وعلاقة مع غيرها من العلامات ([20])، وباعتبارها ذات إمكانات استدعائية عجيبة، وذات قدرة فريدة على تأويل بعضها البعض ([21])، وبكون العلامة قادرة على التعبير عن شيء دون أن تتعطل عن التعبير عن شيء آخر ([22]). وبذلك يعتبر ريكور رمزيته ظاهرة ملموسة للمعنى على مستوى الخطاب، موثقة على أرضية العمليات الأولية للعلامات، وبذلك تكتسب رمزيته - بنظره - قيَماً وظيفية فلم يعد الاشتراك اللفظي ظاهرة انحراف في ذاته، ولا الرمزية زينة في اللغة ( [23]) .
ويصل ريكور إلى أن القيمة الفلسفية للرمزية تكمن في كونها تعبر عن غموض الكينونة من خلال تعدد إشارية علاماتنا ([24]) .
هذه الرمزية تنتهي بريكور إلى تقرير النتائج التي يتفق عليها أغلب الهرمينوطيقيين فالنص بمجرد أن يُدوَّن كتابة يصبح مستقلاً عن قصد الكاتب، وتنفتح عندئذ إمكانيات التأويل المتعددة ([25]) المفتوحة التي لا تختزلها أية رؤية ([26])، وتكون مهمة الهرمينوطيقا هي الكشف عن "" شئ النص غير المحدود "" لا عن نفسية المؤلف ([27])، لأن دلالة النص العميقة ليست هي ما أراد الكاتب قوله ، بل ما يقوم عليه النص بما فيه إحالاته غير المعلنة ( [28]) . ولذلك يعلن ريكور : "" أحياناً يطيب لي أن أقول : إن قراءة كتاب ما هي النظر إلى مؤلفه كأنه قد مات … وبالفعل تصبح العلاقة مع الكتاب تامة وثابتة بشكل ما عندما يموت الكاتب "" ([29]) .
وهكذا نجد في الهرمينوطيقا تعتبر العلامات والرموز هي الأساس الذي تتكون منه اللغة، ولا عبرة بأي قواعد أو أنظمة يتعارف عليها الناس للخطاب، فهي إذن تتمرد على النظام الاجتماعي والمعرفي السائد بين الناس والذي يشكل أساس التواصل بين الناس .
كذلك فإن الهرمسية التي ظهرت في القرن الثاني الميلادي فإنها تمردت على القوانين العقليـة التي كانت سائدة لدى اليونان مثل مبدأ الهوية ([30])، ومبدأ عدم التناقض([31])، ومبدأ الثالث المرفوع ([32]) فكان هرمس كائناً متقلباً وغامضاً فهو أبٌ لكل الفنون، ورب لكل اللصوص، وكان شاباً وشيخاً في نفس الوقت ([33]) ، وبناء على هذا فإن الحقيقة كامنة في كل شيء، فكل شيء يقول الحقيقة ولا يقولها، وليس في ذلك تناقض – في المنظور الهرمسي – لأن كل كلمة هي في الأصل إيحاء أو مجاز، إنها تقول شيئاً آخر غير ما يبدو في الظاهر، والوصول إلى الباطن يحتاج إلى كشف إلهي أو رؤية أو حلم ([34]). لأن الحقيقة هي ما لم يُقل، أو هي ما قيل بطريقة غامضة، إن الآلهة تتكلم عبر إرساليات مليئة بالألغاز([35]). والشيء الصحيح أساساً هو ذاك الذي لا يمكن شرحه ([36])."" وهكذا فاللغة بالنسبة للفكر الهرمسي الغنوصي بقدر ما تكون غامضة ومتعددة بقدر ما تكون غنية بالرموز والاستعارات، وهو ما يجعلها قادرة على تعيين الله الذي يحتضن داخله كل المتناقضات "" ([37]) . وخلاصة ذلك أن "" التأويل في الفكر الغنوصي غير محدود، إن محاولة الوصول إلى دلالة نهائية ومنيعة سيؤدي إلى فتح متاهات وانزلاقات دلالية لا حصر لها "" ( [38]) .
ويعدد إمبرتو إيكو ( [39]) أسس القراءة الهرمسية للنصوص، والقارئ قد يحسب أنه يعدد أسس القراءة الهرمينوطيقية فهي تقوم على أن :
· النص كون مفتوح بإمكان المؤول أن يكتشف داخله سلسلة من الروابط اللانهائية .
· إن اللغة عاجزة عن الإمساك بدلالة وحيدة، ومعطاة بشكل سابق .
· إن اللغة تعكس لا تلاؤم الفكر، إن وجودنا في الكون عاجز عن الكشف عن دلالة متعالية.
· إن كل نص يدعي إثبات شيء ما هو كون مُجهَض، أي نتاج كائن يشكو من اختلال ذهني، لأن النص يُنتج سلسلة لا متناهية من الإحالات ( [40]) .
بناء على هذه الأسس فإن الفكرة التي عبر عنها بول فاليري بقوله : "" لا وجود لمعنى حقيقي للنص "" هي فكرة هرمسية خالصة ([41]) .
إذاً : تستند الهرمسية على مبدأ المماثلة والتناظر وإذا كانت المماثلة في القياس الأصولي تستند على العلة أو القرينة فإنها في المماثلة الغنوصية والهرمسية تتحرر من هذا القيد فالجواز من اللفظ إلى المعنى أو من الظاهر إلى الباطن في التأويل الغنوصي يتم بدون جسر، وبدون واسطة، فهو قياس ولكنه عشوائي وبدون جامع أو ضابط ([42]) .
إن الشيئين قد يتشابها أحياناً من حيث السلوك، وأحياناً من حيث الشكل، وأحياناً من حيث الزمن، فالأساس في هذه المماثلة الغنوصية هو شكل القرابة وليس المقياس الدال عليها ( [43]) . فالغنوصية الهرمسية تتجاهل المقاييس ما دام وُجد أي شكل من أشكال التناظر، فتنتقل من مدلول إلى آخر، ومن تشابه أو ترابط إلى آخر دون ضابط أو رقيب، فالنص يُنتِج انزلاقات دلالية لا تتوقف لأن مدلول كل كلمة ليس سوى مدلول كلمة أخرى، وبإمكان كل شيء أن يحيل إلى أي شيء ( [44]).
إنها حالة توالد إيحائي ([45]) يستند على أي حالة من حالات التناظر أو التماثل، وإذا علمنا أن أي شيء يمكن أن تكون له من زاوية ما علاقات تناظر أو تجاور أو مماثلة مع أي شيء آخر ([46]) أدركنا أن التوالد لا نهاية له، وأن الإيحاءات تنتشر بشكل سرطاني بحيث إننا كلما انتقلنا إلى مستوى أعلى تم نسيان مضمون العلاقة السابقة أو تم محوها دون توقف ( [47]) .
أظن أنني هنا أحتاج فقط إلى التأكيد على أنني كنت في الفقرة الآنفة أتحدث عن الغنوصية الهرمسية وليس عن الهرمينوطيقا .
المطلب الثاني - العلاقة بين العلمانية العربية والغنوصية :
1 – التواصل المنهجي التنظيري :
برغم أن الغنوصية تقوم على العرفان والكشف بزعم أهلها، وأن العلمانية تقوم على العقل بزعم أهلها أيضاً إلا أن اللقاء بين الطائفتين يكاد يكون تاماً على مستوى الوسائل والغايات والمسالك والنهايات، ومع أن هذا الموضوع يستحق الإفاضة طويلاً، ويحتـاج إلى دراسة مستقلة، إلا أنني سأحاول أن أختصر هذه الفقرة على أمل أن يكون ذلك نواة لبحث أوسع .
إن الطائفة الوريثة للغنوصيات القديمة في التاريخ الإسلامي هي الباطنية ومن خلالها سنحاول أن نكشف عن عناصر التواصل بين العلمانية والغنوصية .
يعتبر العلمانيون أنفسهم دعاة التنوير والتجديد كما هو معلوم، وكذلك يعتبر الباطنيون أنفسهم، فهذا واحد من ممثليهم يقول بأن الباطنية هي طريق التنوير والإرشاد ([48]) . والعلمانيون يعتبرون أنفسهم دعاة العقلانية، وكذلك الباطنيون أيضاً فهم يعتمدون – بزعمهم - على مصدر ثقة هو العقل الكلي فهم إذن " العقليون " أو " أهل العقل " ( [49]).
والعلمانيون يعوِّلون على التأويل ويفضلونه على التفسير( [50])، وكذلك الباطنيون يعتبرون التفسير يؤدي إلى الاختلاف، أما التأويل الباطني فهو نظام ثابت عقلي عملي يوافق المجتمع ( [51]).
بل إن التفرقة العلمانية التي رأيناها بين التنزيل والتأويل، وبين القرآن ككتاب تنزيل، وتحوله إلى كتاب تأويل خاضع لكل المقاييس البشرية هي في أساسها تفرقة غنوصية باطنية جاءت من التفرقة الباطنية المنتشرة في مؤلفاتهم الفلسفية والفقهية بين التنزيل والتأويل، أو المَثَل والممثول، أو العلم والعمل ([52]) .
لقد أول الباطنيون كل " دعائم الإسلام " وأركانه وشعائره عن طريق فكرة الظاهر والباطن وذلك عندما اعتبروا أن الظاهر بمنزلة القشر والباطن بمنزلة اللب، وأنه لا يستقيم الباطن إلا بالظاهر الذي هو جثته الهامدة - كما يؤكد العلمانيون دائماً - ولكنه دليل عليه، لأنه لا يصلح جسم إلا بروح ولا روح إلا بجسم ([53]) .
ومن هنا ذهبوا إلى تأويل كثير من الآيات لتخدم غرضهم هذا في التمييز بين العلم الظاهري والعلم الباطني فقوله تعالى: ]يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ العِلْمِ[ ([54]) . يعني العلم الباطني الروحاني ، هكذا جزافاً وبدون دليل ( [55]) . وقـوله تعالى: ]حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ[ ([56]) . يعني جاء علم الباطن وتكلم به الأساس ([57]) . وقـوله تعالى: ]قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ المَاءِ[ ([58]) يعني سآوي إلى أحد علماء الظاهر ([59]) . وقوله عز وجل: ]وَحَالَ بَيْنَهُمَا المَوْجُ[ ([60]) . أي حال بينهما علماء الضلال ، أي علماء الظاهر ([61]) . ]وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ[ ([62]) . " أي أمر الأساس أن يصان العلم الباطني عن غير أهله " وغيض الماء " أي غامض العلم الباطني ( [63])
والنعمان بن حيوة ( [64]) يصرح بأنه لا ينفي علم الظاهر، وإنما الباطن علم إضافي، وأنه هو وطائفته يؤمنون بالظاهر والباطن ([65]) . ولكن هذا غير صحيح وإنما هو لون من المراوغة والخداع - كما يفعل ورثته العلمانيون - لأنه عند قوله تعالى : ]فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً[ ([66]) . ينفي أن يكون الإنسان معمراً كل هذه المدة لأن أبدان البشر لا تطيق ذلك، والمعنى مدة دوره ولُبْث شريعته ([67])، ولأنه يعتبر الباطن هو العلم والحكمة التي يجب أن يرقى إليها الطلاب ( [68])، ويعتبـر البـاطن بمثابة الروح والظاهر بمثابة الجسد ([69]).
لا يختلف الظاهر والباطن في مفهوم الباطنية عن المعنى والمغزى في المفهوم العلماني، فكلاهما يقفز إلى التأويل الذي يرتضيه منهجه متجاوزاً القرينة والدليل والسياق وبالإضافة إلى تجاوزه للإجماع وما هو معلوم من الدين بالضرورة .
فالمعنى عند نصر حامد أبو زيد ([70]) هو الظاهر عند الباطنية، والمغزى هو الباطن والنتيجة واحدة هي رفض الفهم السلفي الذي أجمعت عليه الأمة . ففي قضية الميراث المعنى هو إعطاء الذكر مثل حظ الأنثيين، أما المغزى فهو أن نطوِّر ذلك في عصر التطور إلى المساواة بين الذكر والأنثى . ولكن أين العلامة والقرينة التي نبهنا الباري عز وجل بها إلى هذه النتيجة البوزيدية ؟ لا وجود لها، فالباري عز وجل فصّل المواريث ووقف عند حدود معينة، وأمرنا أن لا نتجاوز حدوده، ولكن الخطاب العلماني يهدم حدود الله ليرتع في حماه .
ولا يختلف الظاهر والباطن في مفهوم الباطنية عن مفهوم القراءة كما رأيناه في الهرمينوطيقا الغربية ونسختها العربية، فالنص كما رأينا ليس نصاً على المراد، وليس نصاً على الحقيقة "" وإذا كان النص لا يقول الحقيقة، بل يخلق حقيقته، فلا ينبغي التعامل مع النصوص بما تقوله وتنص عليه، أو بما تعلنه وتصرح به، بل بما تسكت عنه ولا تقوله، بل بما تخفيه وتستبعده "" ([71]) .
إن هذا الذي يتحدث عنه الخطاب العلماني ويسميه ما بين السطور، وما يخفيه النص هو الباطن الذي يتحدث عنه الباطنية "" إنه لا بد لكل محسوس من ظاهر وباطن، فظاهره ما تقع عليه الحواس، وباطنه ما يحويه ، ويحيط العلـم به ، فالجسد هو الظاهر والروح هو الباطن "" ( [72]).
وهكذا لا نميز بين ما يتفوه به العلمانيون اليوم وما قاله الباطنيون بالأمس، يقول الخطاب العلماني : "" وذو اللب لا يقف عند الظاهر المنطوق به، بل يطلب الغائر أو المطمور أو المستتر أي يطلب معنى المعنى، ومعنى المعنى ليس سوى الظاهر أو السطح أو الشكل أو التشكيل أو الدال وقد حجب نفسه وتحول إلى عمق أو لامرئي أو محتوى أو باطن "" ( [73]) . وهكذا يقرر أهل الباطن "" إعلم يا أخي أن لكل شيء من الموجودات في هذا العالم ظاهراً وباطناً فظواهر الأمور قشور عظام، وبواطنها لب ومخ … يستخلصها ذوو البصائر والأبصار، فيبين الله فضل المجتهدين على المقصرين، والمجاهدين على القاعدين "" ( [74]) .
فالجوهر عند الباطنية هو الباطن، هذا الباطن ليس سوى المغزى عند نصر حامد أبو زيد، ومعنى المعنى عند علي حرب، والجوهر عند العشماوي، والمقاصد عند الجابري، والحداثة عند أركون، والضمير عند عبد المجيد الشرفي، وهلم جرا .
ويقرر أهل الباطن "" إعلم أن للكتب الإلهية تنزيلات ظاهرة وهي الألفاظ المقروءة المسموعة، ولها تأويلات خفية باطنة وهي المعاني المفهومة المعقولة "" ([75]) وأيضاً : "" إن للقرآن معاني سوى ما تتداوله ألسنة العامة، مما يستنبطونه بحولهم وقوتهم من دون الرُّجعى إلى أهل الاستنباط ممن قال الله فيهم : } وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَه ُ مِنْهُمْ[ ([76]) "" ([77]) .
ويجيب الصدى العلماني : "" فالقراءات المهمة للقرآن ليست هي التي تقول لنا ما أراد النص قوله، وإنما تكشف عما يسكت عنه النص أو يستبعده أو يتناساه، أي هي لا تفسر المراد بقدر ما تكشف عن إرادة الحجب في الكلام "" ([78]) .
2 – التواصل العملي التطبيقي :
وهكذا فقط أسقط الباطنيون كل عقائد الإسلام فوجود الله عز وجل عندهم أقرب إلى العدم إن لم يكن هو العدم ، فهو - سبحانه وتعالى - عندهم لا يوصف بأي صفة من الصفات حتى بالوجود، لأنه بائن عن خلقه سبحانه وتعالى في كل ذلك ولذلك "" فالأسماء والصفات منفية عنه تعالى وتكبر "" ([79]) . "" و كان متسبحاُ متعالياً أن يقع عليه إشارة مشير، أو يتجاسر نحوه خاطر بتوهم أو تفكير "" ([80]) .
وهم في نفيهم لوجوده سبحانه وتعالى ينكرون أنهم ينفون وجوده، وإنما يفعلون ذلك لقطع أي صلة تشابه بينه وبين المخلوقات وهم يقولون المبدع بدلاً من الموجود "" إنما قولنا المبدع تقريراً وتثبيتاً لوجود عالم الإبداع عن موجد لهم غير مدرَك ولا محسوس ولا متوهَّم ولا متفكَّر، بل هو موجود من جهة آثاره في إبداعه، وما ظهر من فعله في اختراعه "" ([81]) "" فالباري عز وجل بائن عن ذلك كله من أحوال خلقه غير موصوف بشيء منها، لا موجود غير عدم، ولا عدم غير موجود "" ([82]) .
وكل ما وصف به سبحانه وتعالى نفسه إنما هو للتقريب إلى الأذهان، لا أنها أوصاف حقيقية لله تعالى ([83]) "" فلا يقال عليه حي ولا قادر ولا عالم ولا عاقل ولا كامل ولا تام ولا فاعل، لأنه مبدع الحي القـادر العالم التام الكامل الفاعل، ولا يقال له ذات، لأن كل ذات حاملة للصفات "" ([84]) .
من الواضح هنا أن نفي وجود الله عز وجل يُسلك إليه طريق معقول ومقبول لدى كل مسلم هو التنزيه المطلق، والتنزيه المطلق هو غاية كل مسلم، ولكنه لا يتحقق بتخرصات العقل، وتأملاته وإنما يتحقق ذلك بالشكل الذي نزَّه الله عز وجل به نفسه، والله عز وجل وصف نفسه بصفات، من كمال التنزيه إثباتها بلا زيادة، ونفى عن نفسه أوصافاً من الواجب نفيها بلا زيادة، وكل طريق آخر يتم سلوكه يكون سالكه متألهاً على الله عز وجل، ومدعياً للعلم أكثر منه سبحانه وتعالى .
إن الخطاب العلماني يسير على خطا أسلافه الباطنية في هذه المسألة فالله عز وجل مفهوم بلا ما صدق ([85]) . ولا يمكن لأحد أن يتحدث عن الله، ولا يحق لأحد أن يتحدث باسمه، فإذا كان الله عز وجل عند الباطنية هو العقـل الكلي ( [86]) فهوعند العلمانيين المطلق "" الذي يتعذر على المنال، الله يتعالى على كل شيء، ولا يحق لأحد أن يتحدث باسمه، ولا يمكن للبشر أن يصلوا إليه بشكل مباشر، وإنما يقدمون عنه تصورات مختلفة بحسب العصور""( [87]) "" الأمل بالخلود، الأمل بالحرية، الأمل بالعدالة، الأمل بتصالح الإنسان مع ذاته، وهذا هو الله بالنسبة للعالم الحديث والتصور الحديث، وهذه هي صورته في مجتمع أوربي متقدم "" ( [88]) .
هكذا يجب علينا أن نتصور الله أسوة بالمجتمع الأوربي المتقدم، فلكي نكون متقدمين يجب أن نصوغ معتقدنا في الله بحسب " الموضة " وبناءً على آخر ما وصلت إليه الحداثة الأوربية، أما التصور السائد في المجتمع الإسلامي عن الله عز وجل فهو بنظر الخطاب العلماني تصور معين عن الله، وليس الله ذاته، إنه تصور "" مُشكَّل من شيئين : خطاب علماء الدين التقليديين + التركيبة السياسية القمعية "" ( [89]). أما ما يريده أركون عن الله فهو تصور مشكَّل من الخطاب الأركوني + التركيبة الحداثية الأوربية .
"" هكذا تجد أن تصورنا لله يختلف باختلاف المجتمعات والعصور، فإذا كان المجتمع منفتحاً متقدماً مزدهراً كان تصوره لله هادئاً سمحاً وديعاً، وإذا كان المجتمع يعاني من الفقر والجهل وهيمنة الأب القاسي أو الحاكم الجائر المستبد، فإن تصوره لله سوف يكون بالضرورة ضيقاً عنيفاً، قمعياً "" ([90]) الله هو التقدم، والحرية، والعدالة، والخبز، والتنمية، والرغيف، والحب كما يقول حسن حنفي ([91]) . وبذلك يصبح الإنسان هو الذي يصنع تصوره لله بحسب مستواه العقلي ومدركاته الذهنية، أما أن يكون للقرآن الكريم توجيه في هذا الشأن، وتعليم بهذا الخصوص، وهداية للإنسان إلى المعتقد السليم فيما يتعلق بالذات الإلهية وصفاتها فهو أمر لا يدخل مطلقاً في حسابات الخطاب العلماني .
هذا هو التأويل العلماني الغنوصي لعقيدة الألوهية، فماذا عن اليوم الآخر والغيبيات ؟ إنها نفس النتائج، بل ونفس العبارات لدى الطائفتين، فالغنوصيون يقولون بأن "" الثواب والعقاب في حق ماهيتهما من طريق الإعراب عنه ومعرفته سبيل منسد غير ممكن سلوكه إلا على المؤيدين، والمستطاع الممكن في ذلك كما قال موالينا عليهم السلام هو تشبيه الأمور المحسوسة بالمعايَن المعلوم … كما وصف الله تعالى نفسه في كتابه أولاً بالعلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والرضى والسخط والغضب والرحمة وغير ذلك من الأمور المعلومة عندنا، ووصف الملائكة بالدعاء والتسبيح والتهليل، والقيام بما يُؤمرون، ووصف الموجودات في الجنة بالظل والمياه والأنهار والأشجار والثمار والرمان والأعناب والولدان … ووصف موجودات الجحيم بالنار والعذاب والآلام ... ومثل ذلك كله محسوس لا أن تلك الأمور المخَبر عنها كالمخَبر به، أو المخبَر به يدانيها بحال من الأحوال، بل هو تقريب على الأنفس وتعليم لها لتتقوى بمعرفة الأمثلة "" ([92]) . ويقول السجستاني "" لما كان قصارى الثواب إنما هي اللذة، وكانت اللذة الحسية منقطعة زائلة، وجب أن تكون التي ينالها المثاب أزلية غير فانية، باقية غير منقطعة، وليست لذة بسيطة باقية على حالاتها غير لذة العلم، فكان من هذا القول وجوب لذة العلم للمثاب في دارالبقاء"" ([93]). ويقول علي بن محمد الوليد "" ودار الثواب لا تغير فيها، فلا يمكن أن تكون لذاتهـا حسية لأن ما هو حسي متغير فاسد "" ([94]) .
أما النفخ في الصور في نظر الباطنية فهو إشارة إلى صاحب الدور السابع الذي يحصل في الوجود آخر دور ([95]) . وأما الساعة فإشارة إلى قائم القيامة وهو السابع من أئمتهم ([96]). وأما خلق عيسى من غير أب فهو التأييد والترقية إلى مقام النبوة من غير توسط أحد من البشر( [97]). وأما طوفان نوح عليه السلام وتفجير الأرض عيوناً، فهو تفجير العلم من الأئمة ([98]). وعقر الناقة هو مدافعة الحجج بالباطل ([99]). وإحياء عيسى عليه السلام للموتى بإذن الله هو إعادة الكفار إلى الإيمان ([100]) .
والسؤال هنا : هل تختلف هذه الهواجس الباطنية عن الهواجس العلمانية ؟
لقد اتجه الفريقان إلى تأويل العقائد الإسلامية، والمعجزات، والغيبيات، والقصص القرآني تأويلاً يلغي حقائقها، وينفي وقائعها وأصبح القرآن الكريم كتاباً آخر، بلغة أخرى يفهمها فقط أهل الباطن وأهل العلمنة .
هل يختلف قول الباطنية عن الغيبيات والعالم الآخر والمعجزات بأنها أمثال محسوسة لتقريب الصور المعقولة إلى الأذهان بالأمثلة حتى تطيق هذه المعاني وتستوعبها عن قول الخطاب العلماني بأنها تصوير فني وإبداع أدبي لا يراعي الحقيقة ولا يقصدها ( [101]). لا يختلف ذلك عن قول خلف الله ( [102]) بأن القرآن نزل على المعهود الذهني للعرب، والمستوى الثقافي لهم وإن لم تكن معتقداتهم حقيقية واقعية ([103]). ولا يختلف عن قول أركون([104]) بأن الجنة والنار من نتاج الخيال الشاعري لدى البدو ([105]). ولا يختلف عن قول أبي زيد بأن العقائد تصورات مرتهنة بمستوى الوعي أي أنها يجب أن تتناسب مع نمو العقل في كل طور من أطوار التاريخ فلذلك بنظره فإن صورة الله عز وجل في القرآن كملِك له عرش وكرسي وجنود هي صورة أسطورية ليست أكثر من شاهد تاريخي، يشهد على مستوى المعرفة والوعي آنذاك ([106]) .
أما حسن حنفي فإن وجود الله عز وجل بنظره يعني وجود الإنسان، والصفات الإلهية هي صفات إنسانية، والغيبيات وأمور الآخرة كلها تمثيلات فنية، وصياغات أدبية ( [107]) وهو ما اعتبره أبو زيد فهماً تنويرياً للعقائد ([108]) .
حتى ولادة عيسى عليه السلام من غير أب والتي أكد عليها القرآن، ودفع عنها شبهات المنكرين والجاحدين ]إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ [ ([109]) والتي نفى الباطنيون ظاهرها -كما رأينا - لم ينس العلمانيون أن يتابعوهم عليها فقالوا بأنه لا يمكن لمريم عليها السلام أن تـنجب بدون رجل يأتيها كما تعتقد بعض المجتمعات المتخلفة شبه البدائية، وكما تعتقد بعض الأديان الكبرى القائمة إلى الآن ([110]).
هذا على مستوى العقائد والغيبيات، وأما على مستوى أركان الإسلام وفرائضه فقد تحلل الفريقان أيضاً من ذلك فقال الباطنيون بأن "" الحلال هو الواجب إظهاره وإعلانه، والحرام الواجب ستره وكتمانه، وأما الصلاة فهي صلة الداعي إلى دار السلام بصلة الأبوة في الأديان إلى الأمام، والزكاة إيصال الحكمة إلى المستحق، والصوم الإمساك عن كشف الحقائق لغير أهلها، والحج القصد إلى صحبة الأئمة، والإحرام الخروج من مذهب الأضداد، وأما الزنا فهو اتصال من غير شاهد "" ([111]) . أما الفرائض بالصورة التي يعرفها المسلمون فهي وضعت لتشغل الناس عن خلافاتهم وتبعدهم عن الفساد ([112]) . لا يختلف هذا التأويل الباطني عن التأويل العلماني فهما من مشناة واحدة، فالصلاة كما رأينا في الخطاب العلماني مسألة شخصية، مهمتها أنها تؤدي وظيفة الدمج الاجتماعي ( [113]) وتعوِّد العربي على الطاعة للقائد ([114])، وتغني عنها رياضة اليوغا ([115]). أما الزكاة فليست واجبة، وعلى كل حال فهي ليست كافية وإنما هي مرحلة أولى في طريق الانتقال إلى الشيوعية الشاملة ( [116]). والحج يغني عنه الحج العقلي أو الروحي([117]) .
وهكذا يمكن أن نؤكد الآن أن الغنوصية والعلمانية العربية بالإضافة إلى الهرمينوطيقا الغربية تتحالف جميعاً لكسر معنى الخطاب وتمييعه عن طريق فكرة الرمزية والعلامة التي تحدث عنها امبرتو إيكو كما أسلفنا، ويغدو النص والكلام عموماً فضاءً للإسقاط، وذريعة للأهواء، وتبريراً للآراء، وهو مستوى عبثي لا يحتاج إلى تعليق اللهم إلا التذكير بعبارة الإمام الغزالي رحمه الله التي علق بها على التأويلات التي تُخرج ذات الله وصفاته عن الوجود الحقيقي فقال : "" إن من ينكر نصاً متواتراً ويزعم انه مؤول ولكن ذِكْر تأويله لا انقداح له أصلاً في اللسان [ اللغة ] لا على بعد ولا على قرب، فذلك كفر وصاحبه مُكذِّب ، وإن كان يزعم أنه مؤول، مثاله ما رأيته في كلام بعض الباطنية أن الله تعالى واحدٌ بمعنى أنه يعطي الوحدة ويخلقها ، وعالم بمعنى أنه يعطي العلم لغيره ويخلقه، وموجود بمعنى أنه يوجد غيره ، وأما أن يكون واحداً في نفسه وموجوداً وعالماً على معنى اتصافه فلا . وهذا كفر صراح، لأن حمل الوحدة على إيجاد الوجدة ليس من التأويل في شيء، ولا تحتمله لغة العرب أصلاً ، ولو كان خالق الوحدة يسمّى واحداً لخلقه الوحدة لسُمّي ثلاثاً وأربعاً لأنه خلق الأعداد أيضاً ، فأمثلة هذه المقالات تكذيبات عُبر عنها بالتأويلات "" ([118]) إذن فما يسمونه تأويلاً هو في الحقيقة تكذيب يتلبس لبوس التأويل ولذلك "" لا يجوز التوقف في تكفير من يعتقد شيئاً من ذلك، لأنه تكذيب صريح لصاحب الشرع، ولجميع كلمات القرآن من أولها إلى آخرها ، فوصف الجنة والنار لم يتفق ذكره مرة واحدة أو مرتين ، ولا جرى بطريق كناية أو توسع وتجوّز، بل بألفاظ صريحة لا يُتمارى فيها ولا يُستراب ، وأن صاحب الشرع أراد بها المفهوم من ظاهرها، فالمصير إلى ما أشار إليه هذا القائل تكذيب وليس بتأويل فهو كفر صريح لا يُتوقف فيه أصلاً "" ([119]) .
3 – التواصل الشعوري التضامني :
إن هذا التواصل بين الغنوصية والعلمانية كما هو قائم على مستوى التنظير والتطبيق -كما رأينا - كذلك هو قائم على أشده على مستوى الشعور والتضامن، فنجد أن الخطاب العلماني يتبنى الاتجاهات الغنوصية في التاريخ الإسلامي ويرتمي في أحضانها، فالحلاج وابن عربيوالسهروردي وابن سبعين والشيرازي والتوحيدي كل واحد من هؤلاء نجد له متيَّماً في الخطاب العلماني يتبناه، ويتخذه مثلاً يحتذي به ويشيد بالاتجاه الغنوصي في فلسفته ( [120])، بل ويبرزه على أنه الفيلسوف التنويـري المضطَهد، المنـاهض للسلطة، والذي تتكـاتف السلطة وعلماؤها للتنكيل به وتصفيته ([121]). وتبرز الباطنية والغنوصية على أنها الفئة المستنيرة المجددة العقلانية "" المتحررة الليبرالية "" ([122]) ، " والمضطهدين نفسياً وأخلاقياً واقتصادياً من قبل السلطة والعلماء الرسميين ([123]) . أما أهل السنة الاتباعيين فيتحولون بنظر هذا الخطاب إلى مؤبِلسين " زنادقة " لأنهم يتهمـون الآخـرين بالزندقة فارتدت عليهم، وهم مندمجون غالباً في بوتقة الإسلام الرسمي السلطوي ([124]) .
هذه الثلة الباطنية الغنوصية – بنظر ورثتهم العلمانيين- كانت تمثل الثورة الثقافية في الإسلام لأنها تقوم على أن العقل قبل النقل، والحقيقة قبل الشريعة، والإبداع قبل الاتباع( [125]). وتُقدم الباطن على الظاهر لأن الحقيقة كامنة فيه ولأنه الأصل، فالعلاقة بين الظاهر والباطن "" لا تعني أن أحدهما هو عين الآخر، وإنما تعني أن الباطن هو الأصل، وأن الظاهر صورته، وكما أن الأصل لا يُفسر بالفرع، والسبب لا يُفسر بالنتيجة، فإن الباطن لا يُفسر بالظاهر، بل الظاهر هو الذي يُفسر بالباطن"" ([126]). ثم تطورت هذه الثورة الباطنية إلى نفي للنبوة الإسلامية، وإقامة نبوة على أنقاضها تتمثل بدين العقل([127]).
وبذلك تلتقي الغنوصية والعلمانية أخيراً عند محطة العقل، ولكنه العقل الغريزي( [128]).
العلاقة بين العلمانية والغنوصية
د . أحمد إدريس الطعان ( [1])
كلية الشريعة – جامعة دمشق
بريد إلكتروني : Ahmad_altan@maktoob.com
مقدمة
الحمد لله رب العالمين الملك الحق المبين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأمي الصادق الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :
في الظلام تكثر الخفافيش ..
وفي الظلام تغيب الحقائق، وتختلط معالم الأشياء، ويستوي الأعمى والبصير ..
وفي الظلام ينشط الشطار والسراق يبحثون تحت جنح الظلام عن صيودهم وغاياتهم ومكاسبهم .. وفي الظلام يتعالى صفير هؤلاء وتصفيقهم وضوضاؤهم يصمون الآذان، ويقلقون الأذهان .
إذا كان ذلك ما يحصل في ظلام الحس والمشاهدة فكذلك هو ما يحصل في ظلام الأفكار والمبادئ، فيحرص المغرضون على اختلاط المفاهيم، واندراس الحدود، والتباس التعاريف، ويضيق هؤلاء بالوضوح والبيان، ويتبرمون من التدقيق والإتقان .
وفي هذا العالم المختلط من الفوضى يتكلم الرويبضات، ويتقدم الأراذل، ويتصدر الأصاغر، ويؤم القوم أجهلهم، ويقودهم أحمقهم . غير أن الأدهى من كل ذلك أن تصبح الفوضى هي الأساس، والعبث هو القانون، والغموض هو الإبداع، والهوى هو الميزان، وهو ما يحصل اليوم في عالم النصوص وقراءتها وتأويلها، وفي عالم الأفكار وصناعتها وتدويلها .
فالذين يبحثون عن الحقيقة يحرصون على اكتشاف معالم النص وحدوده وأبعاده، وهو ما لا يعني أبداً تجاهل أعماقه وآفاقه الواسعة، ولكنهم يريدون الحقيقة التي يحث عليها النص سواء كانت حقيقة نظرية اعتقادية أم عملية سلوكية، وفي هذه الحالة يمثل هذا الصنف دور المحكوم الذي يبحث في النص عن مقاصد الحاكم ومراميه، ويوظف لفهم النص كل وسائل الإضاءة والإنارة، وهو متشوف إلى اكتناه الحقيقة والتشبث بها .
غير أن صنفاً آخر من الناس لا يعتقدون بوجود حقيقة أصلاً وراء عالم الأهواء والأغراض الذي يتمرغون فيه، فكل حقيقة يمكن أن تنغص عليهم وهْمَ المتعة الذي يعيشونه هي حقيقة زائفة، وكل نص يعكر عليهم نشوة السكرة التي ينعمون بها هو نص استبدادي لا بد من مقاومته بكل وسائل التشويش والتعكير والتنفير .
ومن هنا فإن الخطاب العلماني/الغنوصي يرفض حكومة النص المُحْكم، لأنه بنظرهم نص إمبريالي يريد أن يفرض سلطانه على قرائه، بمعنى آخر لأنه نص مستنير واضح ليس فيه ظلام، ولا يسمح بحرية اللعب، في حين يكون النص المتشابه – بنظر الخطاب المدروس- هو النص المحبوب والمقرب لأنه يفسح المجال لإطفاء الأنوار، وإسدال الظلام، والألعاب الحرة .
في هذا اللعب الحر، وفي هذا الظلام النصي، وفي هذه الغشاوة التأويلية، تلتقي كل من العلمانية والغنوصية لقاء الأحباب في تأويل أو تقويل النص القرآني، والتحلل من حكومته ..
إذاً : تلتقي العلمانية مع الغنوصيات القديمة المتمثلة في الهرمسية([2]) والأفلوطينية([3]) والباطنية ومع الغنوصية الجديدة المتمثلة في الهرمينوطيقا الغربية في قضية التأويل أو القراءة للنصوص، وإن كان الاتفاق بينهما لا يعني أكثر من الاتفاق على عدم الاتفاق، أي أن الإنسان القارئ للنص له الحق أن يفهم من النص ما يحقق له أغراضه وإراداته دون اعتبار لما يقوله النص، إن القارئ هو الذي يقول ، والنص عليه فقط أن يكون جهاز استقبال وتبرير لإملاءات القارئ، دون أن يُسمح له بالإرسال أو القول .
ونحن نقول هنا : بأنه ليس هناك ما يمنع أن يكون النص المقروء محرضاً على الإبداع أو حافزاً للفكر على التجديد أو الاستنباط، ولكن الفهم الجديد قد يرتبط بالنص القديم ببعض الوشائج اللغوية والأصولية والقرائنية التي تسمح له أن يكون تفسيراً وشرحاً للنص القديم، وقد يكون هذا الفهم هو مجرد تداعيات أو إيحاءات سببتها قراءة النص ولكنها منبتة الصلة به لغوياً وأصولياً وقرائنياً، ومع ذلك تصرُّ القراءات الغنوصية / العلمانية على اعتبارها فهوم مشروعة بالنص، ومؤسَّسة عليه .
وقد اعتمدت في هذا البحث على المصادر الأساسية والمباشرة للخطاب العلماني والغنوصي، وحرصت على أن أترك النصوص هي التي تتكلم ، وأن يكون منهجي هو المنهج الوصفي الكشفي التركيبي حتى لا أُتَّهم بالتجني والتحامل .
وها هنا ملاحظتان منهجيتين أود أن ألفت النظر إليهما لعل ذلك يجنبني الكثير من النقد وسوء الفهم الأولى : أنني في هذه الدراسة لم أتعامل مع الخطاب العلماني كأشخاص وأفراد متمايزين مختلفين، وإنما تعاملت معه كمنظومة فلسفية تنتهي إلى جذور واحدة وتستند على أسس متقاربة، ولذلك تجنبت ذكر الأسماء غالباً في متن الدراسة، وأحلت إليها في الهوامش، ولذلك أيضاً كنت أنتقل من نص إلى نص دون اعتبار لقائله ما دام يتكامل مع غيره في داخل السياج الأيديولوجي العلماني .
لقد أراد البحث إذن أن يكشف عن الوحدة المتخفية وراء التنوع والاختلاف في المنظومة العلمانية، وأن يصل إلى الجذور الكامنة وراء الأغصان والفروع، فالتيارات والمدارس العلمانية الليبرالية والماركسية والحداثية والعدمية على الرغم من اختلافها إلا أنها تتفق إلى حد كبير كلما حاولنا الحفر في الأعماق للوصول إلى الجذور المادية والدنيوية التي تغذيها، ويكون الاتفاق أكثر وضوحاً حين يتعلق الأمر بالدراسات الإسلامية عموماً، وذلك بسبب التضاد المطلق بين هدف الرسالة الإسلامية وهدف العلمانية الغربية في التعامل مع أسئلة الإنسان الكبرى وقضاياه المصيرية .
والثانية : أنني اعتمدت على المصادر المترجمة التي تمكنت من الوصول إليها للباحثين الغربيين الذين احتاجت لهم هذه الدراسة . كما توجد في البحث بعض المصادر الثانوية لم يكن اعتمادي عليها كمصادر جوهرية وإنما كمكملات نفلية على مبدأ أن النافلة إن لم تنفع فلا تضر بعد أداء الفريضة .
وأحب أن أشير إلى أنني لا أعرف من كتب في هذا الموضوع بشكل مستقل ، ولم يقع تحت يدي أي بحث يسلط الضوء على هذه العلاقة بين العلمانية والغنوصية .
وقد جاء هذا البحث في مقدمة ومبحثين وخاتمة :
المقدمة : وفيها الإشارة إلى إشكالية البحث ومنهجيته وخطته .
المبحث الأول : وشائج التواصل بين العلمانية والغنوصية الهرمسية .
المبحث الثاني : متاهة القراءة العلمانية " مراجعة نقدية " .
الخاتمة : وفيها الخلاصة والنتائج .
المبحث الأول
وشائج التواصل بين العلمانية والغنوصية ([4])الهرمسية
المطلب الأول – العلاقة بين الهرمينوطيقا والغنوصية :
"" الهرمينوطيقا هي فن كشف الخطاب في الأثر الأدبي ""([5]). كما "" تعني تقليدياً فن تأويل النصوص المقدسة الإلهية أو النصوص الدنيوية البشرية، وهي كذلك مساوية للتفسير أو للفلولوجيا بما هي تفسير حر في أو نحوي وصرفي لغوي لبيان معاني الألفاظ والجمل والنصوص، وهذا ما يعرف بالتفسير اللفظي "" ([6]) .
وهـو مصطلح مستخدم في دوائر الدراسات اللاهـوتية ليشير إلى مجموعة القواعد والمعايير التي يجب أن يتبعها المفسر لفهم النص الديني ( [7]) .
هذا هو المعنى التقليدي للهرمينوطيقا، ولكن مع تطور نظرية النسبية أصبحت الهرمينوطيقا تُعنى بفن الفهم، وهذا المعنى " فن الفهم " هو الذي سيؤسس له شلاير ماخر 1768 – 1834 م([8]) الذي يُعد أبو التأويلية الحديثة ، وأصبح فن الفهم أو فن التأويل يتناول ليس النصوص المقـدسة فقـط بل تعـدى ذلك إلى النصوص البشرية ذات المضمون الطبيعي اليومي ([9]) .
ومعنى كونها تجاوزت الكتب المقدسة إلى الكلام البشري اليومي أنها أصبحت تُخضع كل شيء للتأويل، وتعتبر التأويل هو الأصل في الكلام، وبذلك تكون الهرمينوطيقا نمطاً من أنمـاط القراءة والتأويل للنصوص والتراثات الفكرية عموماً وهو ما سمي الهرمينوطيقا العامة ( [10]) .
في مقابل الهرمينوطيقا العامة التي اهتمت بتفسير الوجود تقوم هرمينوطيقا خاصة تركز بالذات على تفسير النصوص، ومن أبرز ممثليها بول ريكور ([11]) [ ولد سنة " 1913م ] الذي يُعوِّل كثيراً على التفسير الرمزي، وهو ما سيُعتَبر أساساً تقوم عليه الهرمينوطيقا، إذ يَعتبر ريكور الرمز وسيطاً شفافاً ينم عما وراءه من معنى، ومعنى ذلك أن يقول القائل شيئاً وهو يعني شيئاً آخر في آن واحد، وبغير أن تتعطل الدلالة الأولى وهو ما يسمى" بالوظيفة الأليغورية " للغة بالمعنى الحرفي للكلمة ([12]) . وهذه الطريقة لجأ إليها بولتمان( [13]) في تحطيمه للأسطورة الدينية في العهد القديم، والكشف عن المعاني العقلية التي تكشف عنها هذه الأساطير ([14]).
وهناك طريقة أخرى يمثلها كل من فرويد ([15]) وماركس ([16]) ونيتشة ([17]) كما يبين ريكورنفسه، وهي التعامل مع الرمز باعتباره حقيقة زائفة لا يجب الوثوق به، بل يجب إزالتها وصولاً إلى المعنى المختبئ وراءها، فالرمز في هذه الحالة لا يشف عن المعنى بل يخفيه ويطرح بدلاً منه معنى زائفاً، ومهمة التفسير هي إزالة المعنى الزائف السطحي وصولاً إلى المعنى الباطني الصحيح . لقد شكك فرويد في الوعي باعتباره مستوى سطحياً يخفي وراءه اللاوعي، وفسر كلٌّ من ماركس ونيتشة الحقيقة الظاهرة باعتبارها زائفة، ووضعا نسقاً من الفكـر يقضي عليها ويكشف عن زيفها([18]).
والرمزية الريكورية تقوم على الكشف والإبلاغ عندما تساعد في تفجير دلالات اللغة عوضاً عن انكفائها على ذاتها([19]). وتعتمد على مفهوم العلامة عند سوسير باعتبارها ذات صلة وعلاقة مع غيرها من العلامات ([20])، وباعتبارها ذات إمكانات استدعائية عجيبة، وذات قدرة فريدة على تأويل بعضها البعض ([21])، وبكون العلامة قادرة على التعبير عن شيء دون أن تتعطل عن التعبير عن شيء آخر ([22]). وبذلك يعتبر ريكور رمزيته ظاهرة ملموسة للمعنى على مستوى الخطاب، موثقة على أرضية العمليات الأولية للعلامات، وبذلك تكتسب رمزيته - بنظره - قيَماً وظيفية فلم يعد الاشتراك اللفظي ظاهرة انحراف في ذاته، ولا الرمزية زينة في اللغة ( [23]) .
ويصل ريكور إلى أن القيمة الفلسفية للرمزية تكمن في كونها تعبر عن غموض الكينونة من خلال تعدد إشارية علاماتنا ([24]) .
هذه الرمزية تنتهي بريكور إلى تقرير النتائج التي يتفق عليها أغلب الهرمينوطيقيين فالنص بمجرد أن يُدوَّن كتابة يصبح مستقلاً عن قصد الكاتب، وتنفتح عندئذ إمكانيات التأويل المتعددة ([25]) المفتوحة التي لا تختزلها أية رؤية ([26])، وتكون مهمة الهرمينوطيقا هي الكشف عن "" شئ النص غير المحدود "" لا عن نفسية المؤلف ([27])، لأن دلالة النص العميقة ليست هي ما أراد الكاتب قوله ، بل ما يقوم عليه النص بما فيه إحالاته غير المعلنة ( [28]) . ولذلك يعلن ريكور : "" أحياناً يطيب لي أن أقول : إن قراءة كتاب ما هي النظر إلى مؤلفه كأنه قد مات … وبالفعل تصبح العلاقة مع الكتاب تامة وثابتة بشكل ما عندما يموت الكاتب "" ([29]) .
وهكذا نجد في الهرمينوطيقا تعتبر العلامات والرموز هي الأساس الذي تتكون منه اللغة، ولا عبرة بأي قواعد أو أنظمة يتعارف عليها الناس للخطاب، فهي إذن تتمرد على النظام الاجتماعي والمعرفي السائد بين الناس والذي يشكل أساس التواصل بين الناس .
كذلك فإن الهرمسية التي ظهرت في القرن الثاني الميلادي فإنها تمردت على القوانين العقليـة التي كانت سائدة لدى اليونان مثل مبدأ الهوية ([30])، ومبدأ عدم التناقض([31])، ومبدأ الثالث المرفوع ([32]) فكان هرمس كائناً متقلباً وغامضاً فهو أبٌ لكل الفنون، ورب لكل اللصوص، وكان شاباً وشيخاً في نفس الوقت ([33]) ، وبناء على هذا فإن الحقيقة كامنة في كل شيء، فكل شيء يقول الحقيقة ولا يقولها، وليس في ذلك تناقض – في المنظور الهرمسي – لأن كل كلمة هي في الأصل إيحاء أو مجاز، إنها تقول شيئاً آخر غير ما يبدو في الظاهر، والوصول إلى الباطن يحتاج إلى كشف إلهي أو رؤية أو حلم ([34]). لأن الحقيقة هي ما لم يُقل، أو هي ما قيل بطريقة غامضة، إن الآلهة تتكلم عبر إرساليات مليئة بالألغاز([35]). والشيء الصحيح أساساً هو ذاك الذي لا يمكن شرحه ([36])."" وهكذا فاللغة بالنسبة للفكر الهرمسي الغنوصي بقدر ما تكون غامضة ومتعددة بقدر ما تكون غنية بالرموز والاستعارات، وهو ما يجعلها قادرة على تعيين الله الذي يحتضن داخله كل المتناقضات "" ([37]) . وخلاصة ذلك أن "" التأويل في الفكر الغنوصي غير محدود، إن محاولة الوصول إلى دلالة نهائية ومنيعة سيؤدي إلى فتح متاهات وانزلاقات دلالية لا حصر لها "" ( [38]) .
ويعدد إمبرتو إيكو ( [39]) أسس القراءة الهرمسية للنصوص، والقارئ قد يحسب أنه يعدد أسس القراءة الهرمينوطيقية فهي تقوم على أن :
· النص كون مفتوح بإمكان المؤول أن يكتشف داخله سلسلة من الروابط اللانهائية .
· إن اللغة عاجزة عن الإمساك بدلالة وحيدة، ومعطاة بشكل سابق .
· إن اللغة تعكس لا تلاؤم الفكر، إن وجودنا في الكون عاجز عن الكشف عن دلالة متعالية.
· إن كل نص يدعي إثبات شيء ما هو كون مُجهَض، أي نتاج كائن يشكو من اختلال ذهني، لأن النص يُنتج سلسلة لا متناهية من الإحالات ( [40]) .
بناء على هذه الأسس فإن الفكرة التي عبر عنها بول فاليري بقوله : "" لا وجود لمعنى حقيقي للنص "" هي فكرة هرمسية خالصة ([41]) .
إذاً : تستند الهرمسية على مبدأ المماثلة والتناظر وإذا كانت المماثلة في القياس الأصولي تستند على العلة أو القرينة فإنها في المماثلة الغنوصية والهرمسية تتحرر من هذا القيد فالجواز من اللفظ إلى المعنى أو من الظاهر إلى الباطن في التأويل الغنوصي يتم بدون جسر، وبدون واسطة، فهو قياس ولكنه عشوائي وبدون جامع أو ضابط ([42]) .
إن الشيئين قد يتشابها أحياناً من حيث السلوك، وأحياناً من حيث الشكل، وأحياناً من حيث الزمن، فالأساس في هذه المماثلة الغنوصية هو شكل القرابة وليس المقياس الدال عليها ( [43]) . فالغنوصية الهرمسية تتجاهل المقاييس ما دام وُجد أي شكل من أشكال التناظر، فتنتقل من مدلول إلى آخر، ومن تشابه أو ترابط إلى آخر دون ضابط أو رقيب، فالنص يُنتِج انزلاقات دلالية لا تتوقف لأن مدلول كل كلمة ليس سوى مدلول كلمة أخرى، وبإمكان كل شيء أن يحيل إلى أي شيء ( [44]).
إنها حالة توالد إيحائي ([45]) يستند على أي حالة من حالات التناظر أو التماثل، وإذا علمنا أن أي شيء يمكن أن تكون له من زاوية ما علاقات تناظر أو تجاور أو مماثلة مع أي شيء آخر ([46]) أدركنا أن التوالد لا نهاية له، وأن الإيحاءات تنتشر بشكل سرطاني بحيث إننا كلما انتقلنا إلى مستوى أعلى تم نسيان مضمون العلاقة السابقة أو تم محوها دون توقف ( [47]) .
أظن أنني هنا أحتاج فقط إلى التأكيد على أنني كنت في الفقرة الآنفة أتحدث عن الغنوصية الهرمسية وليس عن الهرمينوطيقا .
المطلب الثاني - العلاقة بين العلمانية العربية والغنوصية :
1 – التواصل المنهجي التنظيري :
برغم أن الغنوصية تقوم على العرفان والكشف بزعم أهلها، وأن العلمانية تقوم على العقل بزعم أهلها أيضاً إلا أن اللقاء بين الطائفتين يكاد يكون تاماً على مستوى الوسائل والغايات والمسالك والنهايات، ومع أن هذا الموضوع يستحق الإفاضة طويلاً، ويحتـاج إلى دراسة مستقلة، إلا أنني سأحاول أن أختصر هذه الفقرة على أمل أن يكون ذلك نواة لبحث أوسع .
إن الطائفة الوريثة للغنوصيات القديمة في التاريخ الإسلامي هي الباطنية ومن خلالها سنحاول أن نكشف عن عناصر التواصل بين العلمانية والغنوصية .
يعتبر العلمانيون أنفسهم دعاة التنوير والتجديد كما هو معلوم، وكذلك يعتبر الباطنيون أنفسهم، فهذا واحد من ممثليهم يقول بأن الباطنية هي طريق التنوير والإرشاد ([48]) . والعلمانيون يعتبرون أنفسهم دعاة العقلانية، وكذلك الباطنيون أيضاً فهم يعتمدون – بزعمهم - على مصدر ثقة هو العقل الكلي فهم إذن " العقليون " أو " أهل العقل " ( [49]).
والعلمانيون يعوِّلون على التأويل ويفضلونه على التفسير( [50])، وكذلك الباطنيون يعتبرون التفسير يؤدي إلى الاختلاف، أما التأويل الباطني فهو نظام ثابت عقلي عملي يوافق المجتمع ( [51]).
بل إن التفرقة العلمانية التي رأيناها بين التنزيل والتأويل، وبين القرآن ككتاب تنزيل، وتحوله إلى كتاب تأويل خاضع لكل المقاييس البشرية هي في أساسها تفرقة غنوصية باطنية جاءت من التفرقة الباطنية المنتشرة في مؤلفاتهم الفلسفية والفقهية بين التنزيل والتأويل، أو المَثَل والممثول، أو العلم والعمل ([52]) .
لقد أول الباطنيون كل " دعائم الإسلام " وأركانه وشعائره عن طريق فكرة الظاهر والباطن وذلك عندما اعتبروا أن الظاهر بمنزلة القشر والباطن بمنزلة اللب، وأنه لا يستقيم الباطن إلا بالظاهر الذي هو جثته الهامدة - كما يؤكد العلمانيون دائماً - ولكنه دليل عليه، لأنه لا يصلح جسم إلا بروح ولا روح إلا بجسم ([53]) .
ومن هنا ذهبوا إلى تأويل كثير من الآيات لتخدم غرضهم هذا في التمييز بين العلم الظاهري والعلم الباطني فقوله تعالى: ]يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ العِلْمِ[ ([54]) . يعني العلم الباطني الروحاني ، هكذا جزافاً وبدون دليل ( [55]) . وقـوله تعالى: ]حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ[ ([56]) . يعني جاء علم الباطن وتكلم به الأساس ([57]) . وقـوله تعالى: ]قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ المَاءِ[ ([58]) يعني سآوي إلى أحد علماء الظاهر ([59]) . وقوله عز وجل: ]وَحَالَ بَيْنَهُمَا المَوْجُ[ ([60]) . أي حال بينهما علماء الضلال ، أي علماء الظاهر ([61]) . ]وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ[ ([62]) . " أي أمر الأساس أن يصان العلم الباطني عن غير أهله " وغيض الماء " أي غامض العلم الباطني ( [63])
والنعمان بن حيوة ( [64]) يصرح بأنه لا ينفي علم الظاهر، وإنما الباطن علم إضافي، وأنه هو وطائفته يؤمنون بالظاهر والباطن ([65]) . ولكن هذا غير صحيح وإنما هو لون من المراوغة والخداع - كما يفعل ورثته العلمانيون - لأنه عند قوله تعالى : ]فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً[ ([66]) . ينفي أن يكون الإنسان معمراً كل هذه المدة لأن أبدان البشر لا تطيق ذلك، والمعنى مدة دوره ولُبْث شريعته ([67])، ولأنه يعتبر الباطن هو العلم والحكمة التي يجب أن يرقى إليها الطلاب ( [68])، ويعتبـر البـاطن بمثابة الروح والظاهر بمثابة الجسد ([69]).
لا يختلف الظاهر والباطن في مفهوم الباطنية عن المعنى والمغزى في المفهوم العلماني، فكلاهما يقفز إلى التأويل الذي يرتضيه منهجه متجاوزاً القرينة والدليل والسياق وبالإضافة إلى تجاوزه للإجماع وما هو معلوم من الدين بالضرورة .
فالمعنى عند نصر حامد أبو زيد ([70]) هو الظاهر عند الباطنية، والمغزى هو الباطن والنتيجة واحدة هي رفض الفهم السلفي الذي أجمعت عليه الأمة . ففي قضية الميراث المعنى هو إعطاء الذكر مثل حظ الأنثيين، أما المغزى فهو أن نطوِّر ذلك في عصر التطور إلى المساواة بين الذكر والأنثى . ولكن أين العلامة والقرينة التي نبهنا الباري عز وجل بها إلى هذه النتيجة البوزيدية ؟ لا وجود لها، فالباري عز وجل فصّل المواريث ووقف عند حدود معينة، وأمرنا أن لا نتجاوز حدوده، ولكن الخطاب العلماني يهدم حدود الله ليرتع في حماه .
ولا يختلف الظاهر والباطن في مفهوم الباطنية عن مفهوم القراءة كما رأيناه في الهرمينوطيقا الغربية ونسختها العربية، فالنص كما رأينا ليس نصاً على المراد، وليس نصاً على الحقيقة "" وإذا كان النص لا يقول الحقيقة، بل يخلق حقيقته، فلا ينبغي التعامل مع النصوص بما تقوله وتنص عليه، أو بما تعلنه وتصرح به، بل بما تسكت عنه ولا تقوله، بل بما تخفيه وتستبعده "" ([71]) .
إن هذا الذي يتحدث عنه الخطاب العلماني ويسميه ما بين السطور، وما يخفيه النص هو الباطن الذي يتحدث عنه الباطنية "" إنه لا بد لكل محسوس من ظاهر وباطن، فظاهره ما تقع عليه الحواس، وباطنه ما يحويه ، ويحيط العلـم به ، فالجسد هو الظاهر والروح هو الباطن "" ( [72]).
وهكذا لا نميز بين ما يتفوه به العلمانيون اليوم وما قاله الباطنيون بالأمس، يقول الخطاب العلماني : "" وذو اللب لا يقف عند الظاهر المنطوق به، بل يطلب الغائر أو المطمور أو المستتر أي يطلب معنى المعنى، ومعنى المعنى ليس سوى الظاهر أو السطح أو الشكل أو التشكيل أو الدال وقد حجب نفسه وتحول إلى عمق أو لامرئي أو محتوى أو باطن "" ( [73]) . وهكذا يقرر أهل الباطن "" إعلم يا أخي أن لكل شيء من الموجودات في هذا العالم ظاهراً وباطناً فظواهر الأمور قشور عظام، وبواطنها لب ومخ … يستخلصها ذوو البصائر والأبصار، فيبين الله فضل المجتهدين على المقصرين، والمجاهدين على القاعدين "" ( [74]) .
فالجوهر عند الباطنية هو الباطن، هذا الباطن ليس سوى المغزى عند نصر حامد أبو زيد، ومعنى المعنى عند علي حرب، والجوهر عند العشماوي، والمقاصد عند الجابري، والحداثة عند أركون، والضمير عند عبد المجيد الشرفي، وهلم جرا .
ويقرر أهل الباطن "" إعلم أن للكتب الإلهية تنزيلات ظاهرة وهي الألفاظ المقروءة المسموعة، ولها تأويلات خفية باطنة وهي المعاني المفهومة المعقولة "" ([75]) وأيضاً : "" إن للقرآن معاني سوى ما تتداوله ألسنة العامة، مما يستنبطونه بحولهم وقوتهم من دون الرُّجعى إلى أهل الاستنباط ممن قال الله فيهم : } وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَه ُ مِنْهُمْ[ ([76]) "" ([77]) .
ويجيب الصدى العلماني : "" فالقراءات المهمة للقرآن ليست هي التي تقول لنا ما أراد النص قوله، وإنما تكشف عما يسكت عنه النص أو يستبعده أو يتناساه، أي هي لا تفسر المراد بقدر ما تكشف عن إرادة الحجب في الكلام "" ([78]) .
2 – التواصل العملي التطبيقي :
وهكذا فقط أسقط الباطنيون كل عقائد الإسلام فوجود الله عز وجل عندهم أقرب إلى العدم إن لم يكن هو العدم ، فهو - سبحانه وتعالى - عندهم لا يوصف بأي صفة من الصفات حتى بالوجود، لأنه بائن عن خلقه سبحانه وتعالى في كل ذلك ولذلك "" فالأسماء والصفات منفية عنه تعالى وتكبر "" ([79]) . "" و كان متسبحاُ متعالياً أن يقع عليه إشارة مشير، أو يتجاسر نحوه خاطر بتوهم أو تفكير "" ([80]) .
وهم في نفيهم لوجوده سبحانه وتعالى ينكرون أنهم ينفون وجوده، وإنما يفعلون ذلك لقطع أي صلة تشابه بينه وبين المخلوقات وهم يقولون المبدع بدلاً من الموجود "" إنما قولنا المبدع تقريراً وتثبيتاً لوجود عالم الإبداع عن موجد لهم غير مدرَك ولا محسوس ولا متوهَّم ولا متفكَّر، بل هو موجود من جهة آثاره في إبداعه، وما ظهر من فعله في اختراعه "" ([81]) "" فالباري عز وجل بائن عن ذلك كله من أحوال خلقه غير موصوف بشيء منها، لا موجود غير عدم، ولا عدم غير موجود "" ([82]) .
وكل ما وصف به سبحانه وتعالى نفسه إنما هو للتقريب إلى الأذهان، لا أنها أوصاف حقيقية لله تعالى ([83]) "" فلا يقال عليه حي ولا قادر ولا عالم ولا عاقل ولا كامل ولا تام ولا فاعل، لأنه مبدع الحي القـادر العالم التام الكامل الفاعل، ولا يقال له ذات، لأن كل ذات حاملة للصفات "" ([84]) .
من الواضح هنا أن نفي وجود الله عز وجل يُسلك إليه طريق معقول ومقبول لدى كل مسلم هو التنزيه المطلق، والتنزيه المطلق هو غاية كل مسلم، ولكنه لا يتحقق بتخرصات العقل، وتأملاته وإنما يتحقق ذلك بالشكل الذي نزَّه الله عز وجل به نفسه، والله عز وجل وصف نفسه بصفات، من كمال التنزيه إثباتها بلا زيادة، ونفى عن نفسه أوصافاً من الواجب نفيها بلا زيادة، وكل طريق آخر يتم سلوكه يكون سالكه متألهاً على الله عز وجل، ومدعياً للعلم أكثر منه سبحانه وتعالى .
إن الخطاب العلماني يسير على خطا أسلافه الباطنية في هذه المسألة فالله عز وجل مفهوم بلا ما صدق ([85]) . ولا يمكن لأحد أن يتحدث عن الله، ولا يحق لأحد أن يتحدث باسمه، فإذا كان الله عز وجل عند الباطنية هو العقـل الكلي ( [86]) فهوعند العلمانيين المطلق "" الذي يتعذر على المنال، الله يتعالى على كل شيء، ولا يحق لأحد أن يتحدث باسمه، ولا يمكن للبشر أن يصلوا إليه بشكل مباشر، وإنما يقدمون عنه تصورات مختلفة بحسب العصور""( [87]) "" الأمل بالخلود، الأمل بالحرية، الأمل بالعدالة، الأمل بتصالح الإنسان مع ذاته، وهذا هو الله بالنسبة للعالم الحديث والتصور الحديث، وهذه هي صورته في مجتمع أوربي متقدم "" ( [88]) .
هكذا يجب علينا أن نتصور الله أسوة بالمجتمع الأوربي المتقدم، فلكي نكون متقدمين يجب أن نصوغ معتقدنا في الله بحسب " الموضة " وبناءً على آخر ما وصلت إليه الحداثة الأوربية، أما التصور السائد في المجتمع الإسلامي عن الله عز وجل فهو بنظر الخطاب العلماني تصور معين عن الله، وليس الله ذاته، إنه تصور "" مُشكَّل من شيئين : خطاب علماء الدين التقليديين + التركيبة السياسية القمعية "" ( [89]). أما ما يريده أركون عن الله فهو تصور مشكَّل من الخطاب الأركوني + التركيبة الحداثية الأوربية .
"" هكذا تجد أن تصورنا لله يختلف باختلاف المجتمعات والعصور، فإذا كان المجتمع منفتحاً متقدماً مزدهراً كان تصوره لله هادئاً سمحاً وديعاً، وإذا كان المجتمع يعاني من الفقر والجهل وهيمنة الأب القاسي أو الحاكم الجائر المستبد، فإن تصوره لله سوف يكون بالضرورة ضيقاً عنيفاً، قمعياً "" ([90]) الله هو التقدم، والحرية، والعدالة، والخبز، والتنمية، والرغيف، والحب كما يقول حسن حنفي ([91]) . وبذلك يصبح الإنسان هو الذي يصنع تصوره لله بحسب مستواه العقلي ومدركاته الذهنية، أما أن يكون للقرآن الكريم توجيه في هذا الشأن، وتعليم بهذا الخصوص، وهداية للإنسان إلى المعتقد السليم فيما يتعلق بالذات الإلهية وصفاتها فهو أمر لا يدخل مطلقاً في حسابات الخطاب العلماني .
هذا هو التأويل العلماني الغنوصي لعقيدة الألوهية، فماذا عن اليوم الآخر والغيبيات ؟ إنها نفس النتائج، بل ونفس العبارات لدى الطائفتين، فالغنوصيون يقولون بأن "" الثواب والعقاب في حق ماهيتهما من طريق الإعراب عنه ومعرفته سبيل منسد غير ممكن سلوكه إلا على المؤيدين، والمستطاع الممكن في ذلك كما قال موالينا عليهم السلام هو تشبيه الأمور المحسوسة بالمعايَن المعلوم … كما وصف الله تعالى نفسه في كتابه أولاً بالعلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والرضى والسخط والغضب والرحمة وغير ذلك من الأمور المعلومة عندنا، ووصف الملائكة بالدعاء والتسبيح والتهليل، والقيام بما يُؤمرون، ووصف الموجودات في الجنة بالظل والمياه والأنهار والأشجار والثمار والرمان والأعناب والولدان … ووصف موجودات الجحيم بالنار والعذاب والآلام ... ومثل ذلك كله محسوس لا أن تلك الأمور المخَبر عنها كالمخَبر به، أو المخبَر به يدانيها بحال من الأحوال، بل هو تقريب على الأنفس وتعليم لها لتتقوى بمعرفة الأمثلة "" ([92]) . ويقول السجستاني "" لما كان قصارى الثواب إنما هي اللذة، وكانت اللذة الحسية منقطعة زائلة، وجب أن تكون التي ينالها المثاب أزلية غير فانية، باقية غير منقطعة، وليست لذة بسيطة باقية على حالاتها غير لذة العلم، فكان من هذا القول وجوب لذة العلم للمثاب في دارالبقاء"" ([93]). ويقول علي بن محمد الوليد "" ودار الثواب لا تغير فيها، فلا يمكن أن تكون لذاتهـا حسية لأن ما هو حسي متغير فاسد "" ([94]) .
أما النفخ في الصور في نظر الباطنية فهو إشارة إلى صاحب الدور السابع الذي يحصل في الوجود آخر دور ([95]) . وأما الساعة فإشارة إلى قائم القيامة وهو السابع من أئمتهم ([96]). وأما خلق عيسى من غير أب فهو التأييد والترقية إلى مقام النبوة من غير توسط أحد من البشر( [97]). وأما طوفان نوح عليه السلام وتفجير الأرض عيوناً، فهو تفجير العلم من الأئمة ([98]). وعقر الناقة هو مدافعة الحجج بالباطل ([99]). وإحياء عيسى عليه السلام للموتى بإذن الله هو إعادة الكفار إلى الإيمان ([100]) .
والسؤال هنا : هل تختلف هذه الهواجس الباطنية عن الهواجس العلمانية ؟
لقد اتجه الفريقان إلى تأويل العقائد الإسلامية، والمعجزات، والغيبيات، والقصص القرآني تأويلاً يلغي حقائقها، وينفي وقائعها وأصبح القرآن الكريم كتاباً آخر، بلغة أخرى يفهمها فقط أهل الباطن وأهل العلمنة .
هل يختلف قول الباطنية عن الغيبيات والعالم الآخر والمعجزات بأنها أمثال محسوسة لتقريب الصور المعقولة إلى الأذهان بالأمثلة حتى تطيق هذه المعاني وتستوعبها عن قول الخطاب العلماني بأنها تصوير فني وإبداع أدبي لا يراعي الحقيقة ولا يقصدها ( [101]). لا يختلف ذلك عن قول خلف الله ( [102]) بأن القرآن نزل على المعهود الذهني للعرب، والمستوى الثقافي لهم وإن لم تكن معتقداتهم حقيقية واقعية ([103]). ولا يختلف عن قول أركون([104]) بأن الجنة والنار من نتاج الخيال الشاعري لدى البدو ([105]). ولا يختلف عن قول أبي زيد بأن العقائد تصورات مرتهنة بمستوى الوعي أي أنها يجب أن تتناسب مع نمو العقل في كل طور من أطوار التاريخ فلذلك بنظره فإن صورة الله عز وجل في القرآن كملِك له عرش وكرسي وجنود هي صورة أسطورية ليست أكثر من شاهد تاريخي، يشهد على مستوى المعرفة والوعي آنذاك ([106]) .
أما حسن حنفي فإن وجود الله عز وجل بنظره يعني وجود الإنسان، والصفات الإلهية هي صفات إنسانية، والغيبيات وأمور الآخرة كلها تمثيلات فنية، وصياغات أدبية ( [107]) وهو ما اعتبره أبو زيد فهماً تنويرياً للعقائد ([108]) .
حتى ولادة عيسى عليه السلام من غير أب والتي أكد عليها القرآن، ودفع عنها شبهات المنكرين والجاحدين ]إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ [ ([109]) والتي نفى الباطنيون ظاهرها -كما رأينا - لم ينس العلمانيون أن يتابعوهم عليها فقالوا بأنه لا يمكن لمريم عليها السلام أن تـنجب بدون رجل يأتيها كما تعتقد بعض المجتمعات المتخلفة شبه البدائية، وكما تعتقد بعض الأديان الكبرى القائمة إلى الآن ([110]).
هذا على مستوى العقائد والغيبيات، وأما على مستوى أركان الإسلام وفرائضه فقد تحلل الفريقان أيضاً من ذلك فقال الباطنيون بأن "" الحلال هو الواجب إظهاره وإعلانه، والحرام الواجب ستره وكتمانه، وأما الصلاة فهي صلة الداعي إلى دار السلام بصلة الأبوة في الأديان إلى الأمام، والزكاة إيصال الحكمة إلى المستحق، والصوم الإمساك عن كشف الحقائق لغير أهلها، والحج القصد إلى صحبة الأئمة، والإحرام الخروج من مذهب الأضداد، وأما الزنا فهو اتصال من غير شاهد "" ([111]) . أما الفرائض بالصورة التي يعرفها المسلمون فهي وضعت لتشغل الناس عن خلافاتهم وتبعدهم عن الفساد ([112]) . لا يختلف هذا التأويل الباطني عن التأويل العلماني فهما من مشناة واحدة، فالصلاة كما رأينا في الخطاب العلماني مسألة شخصية، مهمتها أنها تؤدي وظيفة الدمج الاجتماعي ( [113]) وتعوِّد العربي على الطاعة للقائد ([114])، وتغني عنها رياضة اليوغا ([115]). أما الزكاة فليست واجبة، وعلى كل حال فهي ليست كافية وإنما هي مرحلة أولى في طريق الانتقال إلى الشيوعية الشاملة ( [116]). والحج يغني عنه الحج العقلي أو الروحي([117]) .
وهكذا يمكن أن نؤكد الآن أن الغنوصية والعلمانية العربية بالإضافة إلى الهرمينوطيقا الغربية تتحالف جميعاً لكسر معنى الخطاب وتمييعه عن طريق فكرة الرمزية والعلامة التي تحدث عنها امبرتو إيكو كما أسلفنا، ويغدو النص والكلام عموماً فضاءً للإسقاط، وذريعة للأهواء، وتبريراً للآراء، وهو مستوى عبثي لا يحتاج إلى تعليق اللهم إلا التذكير بعبارة الإمام الغزالي رحمه الله التي علق بها على التأويلات التي تُخرج ذات الله وصفاته عن الوجود الحقيقي فقال : "" إن من ينكر نصاً متواتراً ويزعم انه مؤول ولكن ذِكْر تأويله لا انقداح له أصلاً في اللسان [ اللغة ] لا على بعد ولا على قرب، فذلك كفر وصاحبه مُكذِّب ، وإن كان يزعم أنه مؤول، مثاله ما رأيته في كلام بعض الباطنية أن الله تعالى واحدٌ بمعنى أنه يعطي الوحدة ويخلقها ، وعالم بمعنى أنه يعطي العلم لغيره ويخلقه، وموجود بمعنى أنه يوجد غيره ، وأما أن يكون واحداً في نفسه وموجوداً وعالماً على معنى اتصافه فلا . وهذا كفر صراح، لأن حمل الوحدة على إيجاد الوجدة ليس من التأويل في شيء، ولا تحتمله لغة العرب أصلاً ، ولو كان خالق الوحدة يسمّى واحداً لخلقه الوحدة لسُمّي ثلاثاً وأربعاً لأنه خلق الأعداد أيضاً ، فأمثلة هذه المقالات تكذيبات عُبر عنها بالتأويلات "" ([118]) إذن فما يسمونه تأويلاً هو في الحقيقة تكذيب يتلبس لبوس التأويل ولذلك "" لا يجوز التوقف في تكفير من يعتقد شيئاً من ذلك، لأنه تكذيب صريح لصاحب الشرع، ولجميع كلمات القرآن من أولها إلى آخرها ، فوصف الجنة والنار لم يتفق ذكره مرة واحدة أو مرتين ، ولا جرى بطريق كناية أو توسع وتجوّز، بل بألفاظ صريحة لا يُتمارى فيها ولا يُستراب ، وأن صاحب الشرع أراد بها المفهوم من ظاهرها، فالمصير إلى ما أشار إليه هذا القائل تكذيب وليس بتأويل فهو كفر صريح لا يُتوقف فيه أصلاً "" ([119]) .
3 – التواصل الشعوري التضامني :
إن هذا التواصل بين الغنوصية والعلمانية كما هو قائم على مستوى التنظير والتطبيق -كما رأينا - كذلك هو قائم على أشده على مستوى الشعور والتضامن، فنجد أن الخطاب العلماني يتبنى الاتجاهات الغنوصية في التاريخ الإسلامي ويرتمي في أحضانها، فالحلاج وابن عربيوالسهروردي وابن سبعين والشيرازي والتوحيدي كل واحد من هؤلاء نجد له متيَّماً في الخطاب العلماني يتبناه، ويتخذه مثلاً يحتذي به ويشيد بالاتجاه الغنوصي في فلسفته ( [120])، بل ويبرزه على أنه الفيلسوف التنويـري المضطَهد، المنـاهض للسلطة، والذي تتكـاتف السلطة وعلماؤها للتنكيل به وتصفيته ([121]). وتبرز الباطنية والغنوصية على أنها الفئة المستنيرة المجددة العقلانية "" المتحررة الليبرالية "" ([122]) ، " والمضطهدين نفسياً وأخلاقياً واقتصادياً من قبل السلطة والعلماء الرسميين ([123]) . أما أهل السنة الاتباعيين فيتحولون بنظر هذا الخطاب إلى مؤبِلسين " زنادقة " لأنهم يتهمـون الآخـرين بالزندقة فارتدت عليهم، وهم مندمجون غالباً في بوتقة الإسلام الرسمي السلطوي ([124]) .
هذه الثلة الباطنية الغنوصية – بنظر ورثتهم العلمانيين- كانت تمثل الثورة الثقافية في الإسلام لأنها تقوم على أن العقل قبل النقل، والحقيقة قبل الشريعة، والإبداع قبل الاتباع( [125]). وتُقدم الباطن على الظاهر لأن الحقيقة كامنة فيه ولأنه الأصل، فالعلاقة بين الظاهر والباطن "" لا تعني أن أحدهما هو عين الآخر، وإنما تعني أن الباطن هو الأصل، وأن الظاهر صورته، وكما أن الأصل لا يُفسر بالفرع، والسبب لا يُفسر بالنتيجة، فإن الباطن لا يُفسر بالظاهر، بل الظاهر هو الذي يُفسر بالباطن"" ([126]). ثم تطورت هذه الثورة الباطنية إلى نفي للنبوة الإسلامية، وإقامة نبوة على أنقاضها تتمثل بدين العقل([127]).
وبذلك تلتقي الغنوصية والعلمانية أخيراً عند محطة العقل، ولكنه العقل الغريزي( [128]).