مشاهدة النسخة كاملة : الكبائر
ابو وليد البحيرى
2022-12-22, 01:01 PM
الكبائر (1)
خطر الكبائر في الدنيا والآخرة
(موعظة الأسبوع)
كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
الغرض من الموضوع:
- التحذير من آثار الكبائر على الإنسان في الدنيا والآخرة، من خلال سلسلة أحاديث حول أبرز الكبائر.
مقدمة في التعريف بالكبائر وفضل اجتنابها:
- الذنوب منها سيئات صغائر، ومهلكات كبائر، والصغائر تكفَّر بالأعمال الصالحة، والكبائر لا تغفر إلا بتوبة مخصوصة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31) وقال -تعالى-: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ) (النجم: 32)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إلى الجُمْعَةِ، وَرَمَضَانُ إلى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ ما بيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الكَبَائِرَ) (رواه مسلم)(1).
- فالكبائر هي عظائم الذنوب وكبارها، مثل: (الشرك بالله - قتل النفس - نرك الصلاة - منع الزكاة - عقوق الوالدين - الزنا - السرقة - أكل الربا - شرب الخمر - شهادة الزور - الرشوة - الخيانة - الكبر - قطع الرحم - ...)، قال الذهبي رحمه الله: "الذي يتجه ويقوم عليه الدليل: أن مَن ارتكب شيئًا مِن هذه العظائم مما فيه حد في الدنيا، كالقتل والزنا والسرقة، أو جاء فيه وعيد في الآخرة من عذاب أو غضب أو تهديد، أو لعن فاعله على لسان نبينا محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- فإنه كبيرة" (الكبائر للذهبي).
- ولقد ضمن الله لمَن اجتنب الكبائر أن يكفر عنه الصغائر من السيئات، ويدخله الجنة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
- ومدح الله المجتنبين للكبائر والفواحش في سياق مدح المؤمنين: قال -تعالى-: (فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ . َالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) (الشورى: 37)(2).
خطر المعاصي والكبائر في الدنيا والآخرة:
أولًا: التحذير من خطرها في الدنيا:
- الكبائر والمعاصي سبب الأزمات والبلايا (فقر - غلاء- أمراض - زلازل - كوارث - ...) التي ينظر الكثير من الناس إليها من جهة مادية بحتة(3)، دون النظر إلى السبب الحقيقي (البُعد عن دين الله وانتشار المعاصي والكبائر)، قال -تعالى-: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (القمر: 49)، وقال: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) (الصافات: 77)، قال -تعالى-: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم: 41)، وقال -تعالى-: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) (الشورى: 30).
- الكبائر والذنوب سبب النقم والمصائب، وزوال الأمم والشعوب: قال -تعالى-: (وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُّكْرًا . فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا . أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا) (الطلاق: 8-10)، وقال: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (العنكبوت: 40).
- هذه سنة الله التي لا تتخلَّف؛ فليحذر العاقل: عن أم المؤمنين زينب بنت جحش -رَضِيَ اللَّهُ عنها-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دخل عليها وهو يقول: (ويْلٌ لِلْعَرَبِ مِن شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ؛ فُتِحَ اليومَ مِن رَدْمِ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ مِثْلُ هذِه) وحَلَّقَ بإصْبَعِهِ الإبْهَامِ والَّتي تَلِيهَا، قالَتْ زَيْنَبُ بنْتُ جَحْشٍ: فَقُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، أَنَهْلِكُ وفينَا الصَّالِحُونَ؟ قالَ: (نَعَمْ؛ إذَا كَثُرَ الخَبَثُ) (متفق عليه).
ثانيًا: التحذير من خطرها في الآخرة:
- الإشارة إلى أنه سيأتي في الأحاديث عاقبة كل كبيرة في الدنيا والآخرة، ولكن نقف على مثالين لبعض الذنوب التي لا يهتم بعاقبتها كثير من الناس؛ فكيف بالكبائر العظام؟!
- ترك التطهر من البول سبب لعذاب القبر!: عن ابن عباس -رَضِيَ اللَّهُ عنْهما- قال: مَرَّ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بحَائِطٍ مِن حِيطَانِ المَدِينَةِ، أوْ مَكَّةَ، فَسَمِعَ صَوْتَ إنْسَانَيْنِ يُعَذَّبَانِ في قُبُورِهِمَا، فَقالَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (يُعَذَّبَانِ، وما يُعَذَّبَانِ في كَبِيرٍ ثُمَّ قالَ: بَلَى، كانَ أحَدُهُما لا يَسْتَتِرُ مِن بَوْلِهِ، وكانَ الآخَرُ يَمْشِي بالنَّمِيمَةِ) (متفق عليه).
- غلول ثوب يحبس الشهيد عن الجنة، ويعذب المجاهد: ففي حديث أبي هريرة -رَضِيَ اللَّهُ عنْه-، يحكي قصة مقتل غلام النبي -صلى الله عليه وسلم- فَرُمِيَ بِسَهْمٍ، فَكَانَ فِيهِ حَتْفُهُ: فَقَالَ النَّاسُ: هَنِيئًا له الشَّهَادَةُ، فَقَالَ رَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (بَلْ، والذي نَفْسِي بيَدِهِ، إنَّ الشَّمْلَةَ الَّتي أصَابَهَا يَومَ خَيْبَرَ مِنَ المَغَانِمِ لَمْ تُصِبْهَا المَقَاسِمُ، لَتَشْتَعِلُ عليه نَارًا)، فَجَاءَ رَجُلٌ حِينَ سَمِعَ ذلكَ مِنَ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- بشِرَاكٍ -أوْ بشِرَاكَيْنِ- فَقَالَ: هذا شَيءٌ كُنْتُ أصَبْتُهُ، فَقَالَ رَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (شِرَاكٌ -أوْ شِرَاكَانِ- مِن نَارٍ) (متفق عليه).
خاتمة:
- إن اجتناب الكبائر والمعاصي سبب لصلاح الدنيا والآخرة: قال -تعالى-: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (الأعراف: 96)، وقال: (وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُ م مَّاءً غَدَقًا) (الجن: 16)، وقال: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) (الأنفال: 33).
فاللهم جنبنا المعاصي والذنوب، كبيرها وصغيرها، واغفر لنا ما قدَّمنا وما أخرنا، إنك أنت الغفور الرحيم.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــ
(1) "قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: إنَّ الْمَعَاصِيَ تَنْقَسِمُ إلى صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي التَّسْمِيَةِ وَالْإِطْلَاقِ لِإِجْمَاعِ الْكُلِّ عَلَى أَنَّ مِنْ الْمَعَاصِي مَا يَقْدَحُ فِي الْعَدَالَةِ، وَمِنْهَا مَا لَا يَقْدَحُ فِيهَا، وَإِنَّمَا الْأَوَّلُونَ فَرُّوا مِنْ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ فَكَرِهُوا تَسْمِيَةَ مَعْصِيَةِ اللَّهِ -تعالى- صَغِيرَةً؛ نَظَرًا إلى عَظَمَةِ اللَّهِ -تعالى- وَشِدَّةِ عِقَابِهِ، وَإِجْلَالًا لَهُ عَزَّ وَجَلَّ" (الزواجر عن اقتراف الكبائر للهيثمي).
(2) فائدة حول عدد الكبائر: تكلَّم العلماء في ذلك، فقال بعضهم: هي سبعة، بناءً على حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقاتِ...) (متفق عليه)، والحق أنها أكثر؛ لقول ابن عباس -رَضِيَ اللَّهُ عنْه-: "هي إلى سَبْعِمِائَةٍ أقْرَبُ" (البحر المحيط لأبي حيان)، قال الذهبي: "وصدق ابن عباس".
(3) الأسباب المادية الظاهرة، مثل: (الأزمة الاقتصادية العالمية - تاريخ الديون الطويل بين الدول - جشع التجار وشح الأغنياء).
ابو وليد البحيرى
2022-12-29, 06:05 AM
الكبائر (2)
الإشراك بالله
(موعظة الأسبوع)
كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
المقدمة:
- الإشارة إلى خطر الكبائر في الدنيا والآخرة، وأن تركها سبب النجاة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
الشرك أكبر الكبائر:
- الشرك بالله أكبر الكبائر، وأعظم الذنوب، وأعظم العظائم: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَلا أُخْبِرُكُمْ بأَكْبَرِ الكَبائِرِ؟) قالوا: بَلَى يا رَسولَ اللَّهِ، قالَ: (الإشْراكُ باللَّهِ، وعُقُوقُ الوالِدَيْنِ...) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم- لما سأله عبد الله بن مسعود -رَضِيَ اللَّهُ عنْه-: أيُّ الذنبِ أعظمُ؟ قال: (أَنْ تَجْعَلَ للهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ) (متفق عليه)(1).
- الشرك أكبر الكبائر؛ لأنه تشريك العباد في أعظم حق للمعبود: قال -تعالى-: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) (الإسراء: 23)، وقال -تعالى-: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) (النساء: 36)، وفي الحديث عن يحيى بن زكريا -عليهما السلام- قال: (وإنَّ مَثلَ مَنْ أَشْرَك باللهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اشْتْرَى عَبْدًا مِن خَالِصِ مَالِه بذَهَبٍ أو وَرِقٍ، فَقَالَ: هَذِه دَارِي وهَذَا عَمَلِي، فاعمَلْ وأدِّ إليَّ، فَكَانَ يَعْمَلُ ويُؤدِّي إِلَى غَيرِ سيِّدِه، فأيُّكم يَرَضْى أن يَكُونَ عَبْدُهُ كَذَلِك؟!) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)(2).
- الشرك بالله لا ينفع معه عمل (حج - عمرة - زكاة - صيام - ...)، ولقد حَذَّر الله -سبحانه- منه خير عباده، وصفوة خلقه، فقال -تعالى-: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ) (الزمر: 65، 66).
- الذنوب كلها مهما عظمت فإنها قد تُغفَر لو مات عليها الإنسان إلا الشرك: قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ) (النساء: 48)، وقال: (إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) (المائدة: 72)(3).
- ولذا تعوذ منه سادات الموحدين، وخافوه على أنفسهم وعلى غيرهم، وقامت لأجله الخصومة، ونزلت الكتب وقام سيف الجهاد: قال -تعالى- عن إبراهيم الحنيف -عليه السلام-: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ) (إبراهيم: 35)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّ أخْوَفَ ما أخافُ عليكم الشِّركُ... ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، وقال -تعالى-: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة: 33).
بداية ظهور الشرك في الأرض:
- خلق الله الناس على التوحيد: قال -تعالى-: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) (الروم: 30)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ما مِن مَوْلُودٍ إلَّا يُولَدُ علَى الفِطْرَةِ، فأبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أوْ يُنَصِّرَانِهِ، أوْ يُمَجِّسَانِهِ) (متفق عليه).
- وظل الناس على التوحيد قرونًا بعد آدم -عليه السلام-، قال الله -تعالى-: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) (البقرة: 213).
- إلى أن جاء قوم نوح الذين انتكست فطرتهم، فغيَّروا وبدَّلوا وأشركوا: قال ابن عباس -رَضِيَ اللَّهُ عنْهما- في تفسير قوله -تعالى-: (وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا) (نوح: 23)، قال: "هي أسماء رجال صالحين، لما ماتوا أوحى الشيطان إلى أتباعهم أن انصبوا إلى مجالسهم تصاوير، تذكِّركم ما كانوا عليه من العبادة، فلما مات الذين فعلوا ونسي العلم، عبدهم مَن بعدهم مع الله" (تفسير القرطبي، البداية والنهاية لابن كثير).
- ومِن يومها ظلَّت عقيدة الشرك تنتشر في الأرض على صورٍ لا تُحصَى ولا تُعَد؛ فأرسل الله إليهم الرسل ليحذروهم من ذلك: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (النحل: 36)، (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) (النساء: 36)، (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) (هود: 84).
من مظاهر الشرك المنتشرة في الأرض:
- تمهيد مختصر جدًّا حول أنواع التوحيد، وكيف أن الشرك يكون في الأنواع الثلاثة للتوحيد التي تضمنتها الآية، قال -تعالى-: (رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) (مريم: 65).
من مظاهر الشرك الأكبر في الأنواع الثلاثة:
1- تسمية غير الله ربًّا أو ابنًا لله، ونحوه: قال -تعالى-: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (التوبة: 30)، وقال -تعالى-: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) (المائدة: 72)، وقال -تعالى-: (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ) (المؤمنون: 91)، وقال -تعالى-: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ . اللَّهُ الصَّمَدُ . لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ . وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ) (الإخلاص).
2- اعتقاد ان غير الله من الأولياء والصالحين والأنبياء والملائكة يدبرون الأمر مع الله: قال -تعالى-: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ) (سبأ: 22).
3- سؤال الحاجات غير الله من الأموات وأصحاب الأضرحة: قال -تعالى-: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ . وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ) (الأحقاف: 5، 6).
4- اعتقاد البعض أن له حق الأمر والنهي والتشريع المطلق في الحكم: قال -تعالى-: (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) (الأعراف: 54)، وقال -تعالى-: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (يوسف: 40)، وقال -تعالى-: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ) (الشورى: 21)، وقال: (أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إلى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا) (النساء: 60).
5- اعتقاد بعض الناس أنه يملك نفسه، وأنه حر في قبول الشرع أو رفضه -حرية شخصية كما يقولون- فيقال لهؤلاء: من المالك الحقيقي لأعضائك: السمع والبصر، والعقل، واليد والرجل، والبطن، والفرج... بل والحياة؟! فإن قال: أنا، كان كاذبًا بالمالك -سبحانه-! فكيف له أن يقول للمَلِك المَالِك سبحانه: أنا حر؟! قال -تعالى-: (وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) (الرعد: 41)، وقال -تعالى- عن المؤمنين: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إلى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) (النور: 51)، وقال عن اليهود: (وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلً) (النساء: 46).
صور من الشرك المتداخلة بين الأكبر والأصغر بحسب الاعتقاد:
1- إتيان الكهان والعرافين وتصديقهم: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-) (رواه أحمد وأبو داود ، وصححه الألباني).
2- تعليق التمائم على البيوت والسيارات ونحوها: (تعليق الكف المقطوعة - الخرزة الزرقاء - فردة النعل - ذيل حيوان أو رأسه - ...): قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّ الرُّقى، والتَّمائمَ، والتِّوَلةَ شِركٌ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
3- التشاؤم والتفاؤل بالأيام، والأماكن، والطيور، والأشخاص، وغيرها: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الطِّيرةُ شِركٌ) (رواه أبو داود، والترمذي، وصححه الألباني).
4- الحلف بغير الله (كقول بعضهم: "وغلاوة أمي"، "ورحمة أبويا"، "والعيش والملح"، "وحياة ولادي"، "واللي أنت زرته"، "والكعبة"، "والأيام المفترجة"، ...): قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (من حلفَ بغيرِ اللهِ فقد كفرَ أو أشركَ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني)(1).
5- الألفاظ والاعتقادات الخاطئة في الأقوال والأفعال (كقول بعضهم: "ربنا افتكره"، "في عرض ربنا"، "لولا الطبيب ما نجا المريض"، "لولا بطولة الجنود لانهزمنا"، "لولا الخطط المحكمة لفشلنا"، "المنحوس منحوس ولو علقوا له فنوس"، وكقول بعض الصيادين عن السمك الكبير: "غلطة"): قال ابن عباس -رَضِيَ اللَّهُ عنْه- في قوله -تعالى-: (فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة: 22)، قال: هو أن تقول: "لولا كَلْبُهُ هَذَا لأَتَانَا اللُّصُوصُ، وَلَوْلا الْبَطُّ فِي الدَّارِ لأَتَى اللُّصُوصُ" (رواه ابن أبى حاتم، وقال ابن حجر أسناده قوي).
خاتمة:
- الواجب على المسلم أن يطهِّر توحيده من كلِّ مظاهر الشرك: قال -تعالى-: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) (الأنعام: 82).
فاللهم يا ولي الاسلام وأهله، مسكنا بالإسلام حتى نلقاك عليه، واقبضنا على التوحيد الخالص.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ
(1) لقد أمرك الله أن تحسن إلى العباد، وتؤدي إليهم حقوقهم، وتتعامل معهم بكلِّ ما فيه خيرك وخيرهم، وحذَّرك من عبادتهم، فهو حق له وحده، لكن أكثر الناس عكس الحال؛ فأساء إلى عباد الله، وهضم حقوقهم وظلمهم، ثم جاء ليصرف إلى بعضهم حق الله الأعظم، وهو: العبادة! فصرف إليهم صورًا هي التي تسمَّى: الشرك -كما سيأتي في آخر الحديث-.
(2) إن أخس الحيوانات إذا أنعمتَ عليه بنعمة، يكون طائعًا مواليًا لك؛ فانظر إلى المشرك كم هو أخس من مثل هذا الحيوان؟!
(3) لقد غفر الله لبغي بعمل صالح؛ لأنها ماتت على التوحيد، ولم يغفر لعم النبي -صلى الله عليه وسلم- مع الذي سبق بالعمل الصالح للنبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه كان على الشرك.
ابو وليد البحيرى
2023-01-04, 11:01 PM
الكبائر (3)
عقوق الوالدين
(موعظة الأسبوع)
كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
المقدمة:
- الكبائر هي الذنوب المهلكة التي ضمن الله لمَن اجتنبها في الدنيا الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (*إِنْ *تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
- عقوق الوالدين من أكبر الكبائر، حيث قرن الله بينه وبين الشرك: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟) ثَلاثًا، قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (الإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ.. .) (متفق عليه).
مكانة الوالدين:
- كما أن التوحيد أعظم حق للخالق، كان الإحسان إلى الوالدين أعظم حق للمخلوق: قال الله -تعالى-: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا) (النساء:36)، وقال: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا) (الإسراء:23). وقال الله -تعالى-: (وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا) (الأحقاف:15).
- فالأم تتحمل الصعاب والآلام من أول لحظة في وجودك: (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ) (لقمان: 14)، (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا) (الأحقاف: 15)، وجاء رجل إلى عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- فقال: "إني أحمل أمي وأطوف بها، أتراني وفيتها حقها؟ قال: لا، ولا بزفرة واحدة من زفراتها!".
- تسهر الليل على راحتك وتفزع لبكائك وتتلوث لتطهرك من النجاسة: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقال: "إن لي أمًّا بلغ الكبر منها أنها لا تقضي حاجتها إلا وظهري لها مطية، فهل أديتُ حقها؟ قال: "لا؛ لأنها كانت تصنع بك ذلك وهي تتمنى بقاءك، وأنتَ تصنعه وتتمنى فراقها!".
- وأبوك يسعى في الدنيا لأجلك، فيحرم نفسه ليعطيك، ويضعف بدنه ليقويك، ويفديك من المخاطر بنفسه ليبقيك، ويتألم أشد الألم لما يؤذيك: "كتب أحد الصالحين إلى أبيه: جعلني الله فداك، فكتب إليه الوالد: لا تكتب مثل هذا؛ فأنت على موتي أصبر مني على موتك!".
- ولذلك مهما عملنا لهم، فلن نوفيهم حقهم: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدًا؛ إِلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ) (رواه مسلم).
- ومن المفروض أنه جاء دورك في الوفاء للوالدين؛ فأنت إلى قوة واستطاعة، وهما إلى الكبر والضعف: قال الله -تعالى-: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا) (الإسراء:23)، وقال -تعالى-: (هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ) (الرحمن:60).
- لكن بعض الناس سلك مسلك الجحود والإنكار، ونسيَ أمر الله بالإحسان إليهما، ووقع في العقوق: قال الله -تعالى-: (وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ.) (الأحقاف:17).
من مظاهر العقوق(1):
1- تحزينهما وإتعابهما والتعالي عليهما: "التأفف والعبوس - الاستخفاف بهما - عيب طعام الأم - أمرها بالكنس والتنظيف وترك المعاونة - ترك الاستئذان حال الدخول عليهما - إثارة المشاكل مع إخوته أو زوجته في حضورهما - كل ما سَبَّب لهما الحزن والمشقة"، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا) (رواه مسلم). وقال عروة بن الزبير: "مَا بَرَّ وَالِدَهُ مَنْ شَدَّ الطَّرْفَ إِلَيْهِ" (السِّيَر).
2- إدخال المنكرات بيتهما بما يجعلهما في محل مسئولية عند الله: قال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ *اللهَ *سَائِلٌ *كُلَّ *رَاعٍ *عَمَّا *اسْتَرْعَاهُ، أَحَفِظَ أَمْ ضَيَّعَ، حَتَّى يَسْأَلَ الرَّجُلَ عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ) (رواه ابن حبان، وصححه الألباني).
3- وهو مِن أعظمها: التخلي عنهما وقت الحاجة والعجز أو التقتير عليهما "فأين ردُّ الجميل؟!": قال الله -تعالى-: (هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ) (الرحمن:60)، وقال -صلى الله عليه وسلم- للرجل الذي شكي والده في أخذ المال منه: (أَنْتَ وَمَالُكَ لأَبِيكَ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني). (مِن صور العقوق حول ذلك؛ تلك الصورة المكرورة لأم تموت في بيتها، ولم يعلم بها أحدٌ من أولادها إلا بعد أيام لما دخلوا البيت؛ وذلك لقلة زيارتهم لها!).
4- التسبب في شتمها أو لعنها: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مِنَ الْكَبَائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ). قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهَلْ يَشْتُمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟! قَالَ: (نَعَمْ، يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ، فَيَسُبُّ أُمَّهُ) (متفق عليه).
5- إيثار الزوجة والأولاد عليهما: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: جَاءَ رَجُلٌ إلى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: (أُمُّكَ). قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (ثُمَّ أُمُّكَ). قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (ثُمَّ أُمُّكَ). قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (ثُمَّ أَبُوكَ) (متفق عليه).
صورة من العقوق حول ذلك: جاء في كتاب: "بر الوالدين آداب وأحكام لخالد الخراز": "أن أمًّا وابنها عاشا حياتهما بكلِّ ظروفها حلوها ومرها، وشب الولد وهو في بيت أمه تنظر إليه بكلِّ شوق وسرور ولهفة، وتتمنى له الخير، وبعد أن بلغ سن الزواج أخذت الأم تبحث له عن زوجة جميلة من أسرة طيبة، ولا تدري المسكينة ما تخفي لها الأقدار، وتزوج الولد وفرحت الأم، وما هي إلا أيام حتى كشرت الزوجة عن أنيابها، وأخذت تحشو ذهن زوجها بضرورة إيداع أمه في دار المسنين بحجة أنها كبيرة مسنة، وحاول الابن جاهدًا أن يثنيها عن رأيها، ولكنها أصرت! وبقلب من حجر، وجماد من لحم، ذهب بها إلى دار رعاية المسنين، وهناك أجلسها على كرسي بجوار العيادة بحجة الكشف عن صحتها، وقال لها العاق: اجلسي هنا على هذا المقعد لتدخلي إلى الطبيب، ثم تركها هاربًا إلى زوجته الفاضلة!
ومضت الساعات والأم جالسة في انتظاره، ولكنها عبثًا تجلس، ومفقودًا تنتظر، فلقد ذهب الولد العاق دون رجعة، وبلا عودة حتى أنكر الموظف جلوسها ليقول لها: لماذا تجلسين هنا يا عمة؟ فأجابت: ابني سوف يأتي الآن ليأخذني بقلب مشبع بالأمل! قال لها الموظف: ادخلي يا أماه فقد أسدل الليل ستاره، ولأمر ما عاشت الأم في تلك الدار سنتين! وغدت كل يوم تنزل من مخدعها، وتجلس على نفس المقعد الذي تركها ولدها فيه، وتقول: سوف يأتي ولدي الآن أنا في انتظاره! أنا في انتظاره!".
عاقبة العقوق:
1- يستجلب غضب الرب -سبحانه-: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (رِضَا الرَّبِّ فِي رِضَا الْوَالِدِ، وَسَخَطُ الرَّبِّ فِي سَخَطِ الْوَالِدِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
2- يستجيب الله دعاءهما ولو كان الولد طائعًا: "ذكر الشاهد من قصة جريج العابد وأمه"؛ فكيف لو كان الولد عاصيًا؟!
3- سبب في حبوط الأعمال أو ردها على صاحبها: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ثَلاثَةٌ لا يَقْبَلُ اللَّهُ لَهُمْ صَرْفًا وَلا عَدْلا: عَاقٌّ، وَمَنَّانٌ، وَمُكَذِّبٌ بِالْقَدَرِ) (رواه الطبراني، وحسنه الألباني).
4- يمحق بركة الرزق والعمر: عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-: قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ؛ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ) (رواه البخاري ومسلم).
5- سبب في الحرمان من الجنة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنَّانٌ، ولا عَاقٌّ وَالِدَيْهِ، وَلا مُدْمِنُ خَمْرٍ) (رواه أحمد والنسائي، وصححه الألباني).
6- عقوبة معجلة في الدنيا قبل الآخرة: قال -صلى الله عليه وسلم-: (بابانِ مَعَجَّلانِ عُقُوبَتُهُما فِي الدُّنْيا: البَغْيُ والعُقُوقُ)(رواه الحاكم، وصححه الألباني).
الجزاء من جنس العمل (كما تدين تدان):
"هذه أم تجلس مع أطفالها كل يوم وهم يدرسون، وكان والد زوجها شيخًا مسنًّا كبيرًا، يعيش معهم في البيت، ولكن في غرفة منعزلة في حديقة البيت، كل يوم تذهب إليه تضع له الطعام ثم تعود إلى أولادها تلعب معهم وتقوم على تربيتهم، وفي يوم من الأيام رأت أحد أولادها الصغار يلعب في ورقة وقلم يرسم مربعات في وسط الورقة، فسألت الأم: يا بني ماذا ترسم؟ فأجاب: أرسم بيت المستقبل! فرحت الأم لجوابه، ثم قالت: ولماذا هذا المربع بعيد عن البيت؟ فقال: هذه غرفتك في المستقبل، فقالت له متعجبة: ستجعلني في غرفة وحدي؟ فقال: نعم، كما أنت تجعلين جدي في غرفة منعزلة وحده!
فكانت هذه الكلمات البريئة كالصاعقة لهذه الأم، فتأثرت لموعظة الطفل الصغير، وذهبت وغيرت أثاث البيت، وجاءت بالجد إلى داخل السكن في أفضل غرفة في البيت، وعندما عاد زوجها تعجب أن الجد داخل البيت، فقال لها: ماذا حدث؟ فقالت له ما قاله الطفل؛ فتأثر تأثرًا شديدًا، وشكرها على ذلك" (بر الوالدين آداب وأحكام لخالد الخراز).
خاتمة: علاج العقوق:
التزام البر مع الوالدين، واستحضار فضلهما على الدوام، والتيقُّن مِن أنهما سبب عظيم بعد التوحيد في نيل الجنة، والنجاة من النار: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (رَغِمَ أَنْفُهُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ) قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: (مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ، أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا، ثُمَّ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ) (رواه مسلم).
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــ
(1) قال ابن حجر العسقلاني -رحمه الله-: "والعقوق مشتق من العقِّ، وهو: القطع، والمراد به: صدور ما يتأذَّى به الوالد مِن ولده، مِن: قول، أو فعل؛ إلا في شرك أو معصية، ما لم يتعنت الوالد" (فتح الباري).
ابو وليد البحيرى
2023-01-16, 11:23 AM
الكبائر (4)
ترك الصلاة
(موعظة الأسبوع)
كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
المقدمة:
- الكبائر هي الذنوب المهلكة التي ضمن الله لمَن اجتنبها في الدنيا الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (*إِنْ *تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
- ترك الصلاة من أكبر الكبائر، وأعظم الجرائر؛ فهي فارقة بين الايمان والكفر: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (العَهْدُ *الَّذِي *بَيْنَنَا *وَبَيْنَهُمُ *الصَّلَاةُ، *فَمَنْ *تَرَكَهَا *فَقَدْ *كَفَرَ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (*بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ *تَرْكُ *الصَّلَاةِ) (رواه مسلم)، وقال عمر -رضي الله عنه-: "لا حظ في الإسلام لمَن ترك الصلاة".
1- أهمية الصلاة في الاسلام:
- الصلاة هي الشعيرة والمَعْلَم الأعظم في بناء الدِّين، وبغيرها يسقط وينهدم: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الجِهَادُ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ) (متفق عليه).
- الصلاة هي العبادة الوحيدة التي شُرِعَت في السماء يوم الإسراء: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: افْتَرَضْتُ عَلَى أُمَّتِكَ خَمْسَ صَلَوَاتٍ، وَعَهِدْتُ عِنْدِي عَهْدًا أَنَّهُ مَنْ حَافَظَ عَلَيْهِنَّ لِوَقْتِهِنَّ أَدْخَلْتُهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهِنَّ فَلا عَهْدَ لَهُ عِنْدِي) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).
- الصلاة فيها الطهارة والقداسة للمؤمن، حيث يكفر بها السيئات ويرفع بها الدرجات، وتضاعف بها الحسنات: قال -تعالى-: (*وَأَقِمِ *الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) (هود:114)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟)، قَالُوا: لا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ، قَالَ: (فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، يَمْحُو اللَّهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا) (رواه مسلم).
- الصلاة تحفظ المصلي مِن الوقوع في الفواحش والكبائر: قال -تعالى-: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ *تَنْهَى *عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) (العنكبوت: 45)
- الصلاة فيها النفحات والرحمات، والبركات والهبات التي تصل إلى العبد من ربِّ الأرض والسماوات، وهي قرة العيون، ومفزع المحزون للتخلص من الغموم والهموم: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنَّمَا *يُنَاجِي *رَبَّهُ) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (*وَجُعِلَتْ *قُرَّةُ *عَيْنِي *فِي *الصَّلَاةِ) (رواه أحمد والنسائي، وصححه الألباني)، وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا حزبه أمر يقول: (يَا *بِلَالُ أَقِمِ الصَّلَاةَ *أَرِحْنَا بِهَا) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
- الصلاة هي العبادة الوحيدة التي لا عُذْر في تركها، حيث تؤدَّى على كل حال: (في المرض والصحة - في السلم والحرب - في السفر والحضر): قال -تعالى-: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا *مَوْقُوتًا) (النساء: 103)، وقال -تعالى-: (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ *فَلْتَقُمْ *طَائِفَةٌ *مِنْهُمْ *مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ) (النساء: 102)، وقال -تعالى-: (وَإِذَا *ضَرَبْتُمْ *فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ) (النساء: 101)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- للمريض: (صَلِّ *قَائِمًا، *فَإِنْ *لَمْ *تَسْتَطِعْ *فَقَاعِدًا، *فَإِنْ *لَمْ *تَسْتَطِعْ *فَعَلَى *جَنْبٍ) (رواه البخاري)، (قصة انشغال عمر بالصلاة يوم طعن على الرغم من شدة إصابته).
وعن أبي أُمَامة -رضي الله عنه- قال: "أَقْبَلَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَهُوَ أَعْمَى، وَهُوَ الَّذِي أُنْزِلَتْ فِيهِ: (عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى) (عبس: 2)، وَكَانَ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، أَنَا كَمَا تَرَانِي قَدْ كَبِرَتْ سِنِّي، وَرَقَّ عَظْمِي، وَذَهَبَ بَصَرِي، وَلِي قَائِدٌ لَا يُلَاوِمُنِي قِيَادَةَ إِيَّايَ، فَهَلْ تَجِدُ لِي مِنْ رُخْصَةٍ أُصَلِّي فِي بَيْتِي الصَّلَوَاتِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: هَلْ تَسْمَعُ الْمُؤَذِّنَ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مَا أَجِدُ لَكَ مِنْ رُخْصَةٍ، وَلَوْ يَعْلَمُ هَذَا الْمُتَخَلِّفُ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَةِ مَا لِهَذَا الْمَاشِي إِلَيْهَا لَأَتَاهَا، *وَلَوْ *حَبْوًا *عَلَى *يَدَيْهِ *وَرِجْلَيْهِ" (أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، وضعفه الألباني)، فماذا يُقَال لتارك الصلاة بالكلية؟!
2- عاقبة ترك الصلاة في الدنيا والآخرة:
- خطر تفشي ظاهرة ترك الصلاة - بصورة كلية أو جزئية- في أهل هذا الزمان: قال -تعالى- بعد ثنائه على الأنبياء والصالحين: (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً) (مريم: 59)، وقال الزهري: "دخلت على أنس بن مالك في دمشق وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك؟ فقال: لا أعرف شيئًا مما أدركتُ على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضُيِّعَت!" (رواه البخاري).
- تارك الصلاة تكاسلًا مختلف في نسبته إلى الإسلام!(1): قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (العَهْدُ *الَّذِي *بَيْنَنَا *وَبَيْنَهُمُ *الصَّلَاةُ، *فَمَنْ *تَرَكَهَا *فَقَدْ *كَفَرَ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (*بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ *تَرْكُ *الصَّلَاةِ) (رواه مسلم)، وقال عمر -رضي الله عنه-: "لا حظ في الإسلام لمَن ترك الصلاة".
- تارك الصلاة عند الجميع، لا تقبل له شهادة، ولا يؤتمن على عرض، ولا مال، ولا شيء؛ لأنه شر من الزاني والسارق، والقاتل، وشارب الخمر، وقاذف العرض!: قال الله -تعالى- في القاذف: (*وَلَا *تَقْبَلُوا *لَهُمْ *شَهَادَةً *أَبَدًا) (النور: 4)، قال ابن الجوزي: "وتارك الصلاة لا تجوز له شهادة، ولا يحل لمسلم أن يؤاكله، ولا يدخل معه تحت سقف" (بحر الدموع).
- تارك الصلاة يحشر يوم القيامة مع أفجر الناس: عن عبد الله بن عمرو أن النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- ذَكرَ الصَّلاةَ يومًا، فقالَ: (*مَنْ *حَافَظَ *عَلَيْهَا كَانَتْ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمن لم يحافظ عَلَيْهَا لم يكن لَهُ نور وَلَا برهَان وَلَا نجاة، وَكَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ قَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ) (رواه أحمد، وصححه العلامة أحمد شاكر في تحقيقه للمسند).
- تارك الصلاة لا تنفعه أعماله الأخرى مهما كثرت: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ العَبْدُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلاتُهُ، فَإِنْ صَلُحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
- تارك الصلاة مفضوح بجرمه، مخذول بفعله يوم القيامة: قال -تعالى-: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إلى السجود فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ . خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إلى السجود وَهُمْ سَالِمُونَ) (القلم: 42- 43).
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: (يَكشِفُ رَبّنا عَنْ سَاقِهِ، فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ، وَيَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ فِي الدُّنْيَا رِيَاءً وَسُمْعَةً، فَيَذْهَبُ لِيَسْجُدَ فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقًا وَاحِدًا) (رواه البخاري).
- تارك الصلاة مصيره العذاب الأليم في أودية النار والجحيم: قال -تعالى-: (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) (مريم:59)، وقال: (*فَوَيْلٌ *لِلْمُصَلِّينَ . الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ) (الماعون: 4-5)؛ فكيف بالتاركين؟!
خاتمة: واجب المجتمع الإسلامي تجاه تاركي الصلاة:
- وجوب تفعيل أحكام الاسلام وتقنينها في التعامل مع تاركي الصلاة: (عقوبات التعزير من الحبس والضرب والتغريم المالي، وغيرها مما جاءت به الشريعة)، فالصلاة أساس بناء المجتمع الإسلامي وقوام قوته: "هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- ونزوله بقباء والبدء بالمسجد - دخوله المدينة وشروعه في بناء المسجد فورًا".
- إقامة الصلاة هي أحد صفات جيل النصر المنشود: قال الله -تعالى-: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ) (الحج:41).
- أعداء الإسلام يعلمون أن قوة المسلمين تكمن في تمسكهم بدينهم، ومِن أعظم ذلك: "الصلاة"؛ قال شاب فلسطيني لوزير الدفاع اليهودي "موشي ديان": "سنتنصر عليكم يومًا. فقال: نعم، ولكن ذلك عندما يكون عدد المصلين في صلاة الفجر مثل عددهم في صلاة الجمعة!".
- واجب على الوالدين أن يكون أمر الصلاة هو أعظم ما يؤمر به الأبناء: قال الله -تعالى-: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ) (طه:132)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مُرُوا أَوْلادَكُمْ بِالصَّلاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا، وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني) (ولكن للأسف كثير من الآباء لا يسأل ابنه: هل صلى أم لا؟! وجل اهتمام الأبوين هو المستقبل الدراسي، والمأكل والملبس؛ ولذا لا تعجب عندما تري أن أكثر تاركي الصلاة من الشباب، وكثيرًا من شباب الجامعات هم مَن يتبنَّى الإلحاد، والفساد الخلقي بكلِّ ألوانه!).
ربنا اجعلنا من المقيمي الصلاة، ومن ذرياتنا ربنا وتقبَّل دعاء.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــ
(1) وبعيدًا عن اختلاف العلماء في نوع هذا الكفر في حقِّ تارك الصلاة تكاسلًا -مع اعتقاده وجوبها-؛ فإننا نَهمِسُ في أُذُنِ تارك الصلاة: هل يُرضيك أنْ يكون انتسابُك إلى الإسلام مسألةً هي مَحَلُّ خِلافً بين العلماء: ففريق يقول: (هو كافر مشرك، ولا يجوز له أن يتزوَّج مسلمة، ولا يصلح وليًّا شرعيًّا لأولاده، ولا يرثهم ولا يرثونه، ولا يُغَسَّل ولا يُصلَّى عليه، ولا يُدفَن في مقابر المسلمين). وفريق آخر يقول: (بل هو فاسقٌ عاصٍ فاجر، يجب قتله حدًّا إنْ أصر على ترك الصلاة).
ابو وليد البحيرى
2023-01-27, 12:00 PM
الكبائر (5)
القتل
(موعظة الأسبوع)
كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
المقدمة:
- الكبائر هي الذنوب المهلكة التي ضَمِن الله لمَن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ *مُدْخَلًا *كَرِيمًا) (النساء: 31).
- قتل النفس التي حَرَّم الله من أكبر الكبائر، وأعظم الجرائم: قال -صلى الله عليه وسلم-: (الكَبَائِرُ: الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَاليَمِينُ الغَمُوسُ) (رواه البخاري).
- الحياة حق لكلِّ إنسان، ولا يحل الاعتداء على هذا الحق إلا بمقتضى الشرع(1): قال الله -تعالى-: (*وَلَا *تَقْتُلُوا *النَّفْسَ *الَّتِي *حَرَّمَ *اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) (الأنعام: 151)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يَأْتِي الْمَقْتُولُ مُتَعلٍّقًا رَأْسُهُ بِإِحْدَى يَدَيْهِ، مُتَلَبِّبًا قَاتِلَه بِيَدِهِ الأُخْرَى، تَشْجُبُ أَوْدَاجُهُ دَمًا حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ الْعَرْشَ، فَيَقُولُ الْمَقْتُولُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ: هَذَا قَتَلَنِي، فَيَقُولُ اللهُ لِلْقَاتِلِ: تَعِسْتَ، وَيُذْهَبُ بِهِ إلى النَّارِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
(1) تعظيم الشرع لحرمة الدماء:
- كل الشرائع عظَّمت من حرمة الدماء، فبعد ذكر قصة قتل أحد ابني آدم لأخيه، قال -تعالى-: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُون) (المائدة: 32).
- ولعظم حرمة الدماء، كانت هي أول ما يقضى فيه بين الناس: قال -صلى الله عليه وسلم-: (أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، في الدِّمَاءِ) (متفق عليه).
- ولأجل ذلك جعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- يعظِّم ذلك في نفوس المسلمين: قال -صلى الله عليه وسلم-: (لَنْ يَزَالَ المُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ، مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا) (رواه البخاري)، وقال: (لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ) (متفق عليه).
(2) أنواع الدماء التي حرَّم الله (الدماء المعصومة):
أولًا: دماء المسلمين:
- دماء المسلمين أعظم الدماء ولو استهان بها الكفار والفجار في كل زمان: قال -صلى الله عليه وسلم-: (الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ) (رواه أبو داود والنسائي، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع: (إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لَزَوَالُ *الدُّنْيَا *أَهْوَنُ *عَلَى *اللَّهِ *مِنْ *قَتْلِ *مُؤْمِنٍ *بِغَيْرِ *حَقٍّ) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ اشْتَرَكُوا فِي دَمِ مُؤْمِنٍ لَأَكَبَّهُمُ اللَّهُ فِي النَّارِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني). وعن نافع قال: "وَنَظَرَ ابْنُ عُمَرَ يَوْمًا إلى البَيْتِ أَوْ إلى الكَعْبَةِ، فَقَالَ: "مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ، وَالمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللَّهِ مِنْكِ" (رواه الترمذي، وقال الألباني: "حسن صحيح").
- لذا توعَّد الله مَن يقتل مسلمًا بأشد العذاب: قال الله -تعالى-: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) (النساء: 93)(2).
ثانيًا: دماء المعاهدين:
- وهي تشمل غير المسلمين من أصحاب العهد المطلق -الجائز- غير محدد المدة، والعهد المؤبَّد -الذي هو الذمة-، وعهد الأمان، أو الهدنة: قال الله -تعالى-: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا) (الإسراء: 34).
- الوعيد الشديد لمَن قتل المعاهدين؛ لوجوب الوفاء بالعهد، ولما يسببه ذلك من فتنة وفوضى، وتشويه لصورة المسلمين: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا) (رواه البخاري). وقال ابن القيم -رحمه الله-: "هذه عقوبة قاتل عدو الله إذا كان في عهده وأمانه؛ فكيف عقوبة قاتل عبده المؤمن؟!" (الجواب الكافي).
(3) الأسباب المؤدية إلى الاستهانة بحرمة الدماء(3):
أولًا: الجهل:
- الجهل يهوِّن في نفوس الناس حرمة الدماء، ولذلك هو قرين جرائم القتل في كلِّ زمان: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ لَأَيَّامًا يَنْزِلُ فِيهَا الجَهْلُ، وَيُرْفَعُ فِيهَا العِلْمُ، وَيَكْثُرُ فِيهَا الهَرْجُ) (متفق عليه). (وَالهَرْجُ): القتل.
ثانيًا: الغلو:
- أصحاب الغلو والكبر مِن العامة يقابلون الإساءة إليهم بالقتل ونحوه: قال الله -تعالى-: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) (البقرة: 194).
- أصحاب الغلو مِن المتدينين الجهلة يستهينون بالدماء بزعم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: قال أولهم للنبي -صلى الله عليه وسلم- في قسمة يقسمها: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، اعْدِلْ!" (متفق عليه)، ولما كان يوم صفين قال أصحابُه وعقبُه تكفيرًا للصحابة: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ)(4) (الأنعام: 57).
ثالثًا: انتشار العنف والجريمة في وسائل الإعلام:
- تصوير القتل والتخريب والجريمة على أن ذلك بطولة أو حرية: قال الله -تعالى-: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا) (النساء: 27). وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لَا *يُشِيرُ *أَحَدُكُمْ *عَلَى *أَخِيهِ *بِالسِّلَاحِ، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي، لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِي يَدِهِ، فَيَقَعُ فِي حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ) (متفق عليه).
رابعًا: شيوع الظلم والفساد المادي والأخلاقي:
- فلا بد أن يتولَّد من ذلك الجرائم التي تؤدي إلى القتل بين الناس: (السرقة - الزنا - الغصب - ... )، (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (آل عمران: 110).
خامسًا: عدم العقوبة الرادعة:
- كثير من القَتَلَة يفلتون من العقوبة بالثغرات القانونية؛ فضلًا عن كون كثيرٍ من القوانين مخالفة لأحكام الشريعة(5): قال الله -تعالى-: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة: 50)، وقال: (? *وَلَكُمْ *فِي *الْقِصَاصِ *حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 179)، وقال: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) (المائدة: 45)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الْعَمْدُ قَوَدٌ) (رواه الطبراني في المعجم الكبير، وصححه الألباني).
* خاتمة: عود على بدء:
- التذكير بأن قتل النفس التي حَرَّم الله من أكبر الكبائر، وأعظم الجرائم: قال -صلى الله عليه وسلم-: (الكَبَائِرُ: الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَاليَمِينُ الغَمُوسُ) (رواه البخاري)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لَنْ يَزَالَ المُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ، مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا) (رواه البخاري).
- التذكير بفضل اجتناب الكبائر: قال -تعالى-: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ *مُدْخَلًا *كَرِيمًا) (النساء: 31).
فاللهم احقن دماء المسلمين في كلِّ مكان، واحفظ أعراضهم، وآمن روعاتهم.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــ
(1) لا يمر يوم من أيام الله، إلا والآلاف من البشر يُقتَلون هنا وهناك، وبأيدي بعضهم البعض ما بين حروب وصراعات!
(2) ذهب ابن عباس -رضي الله عنهما- إلى أن القاتل قتل العمد للمؤمن لا توبة له، قال: "لا تَوبَةَ لقاتلِ المُؤْمِن عمْدًا" (رواه البخاري)، وإن كان الصحيح خلافه كما هو مذهب الجمهور. وقد قال ابن عباس بذلك؛ للآية، ولقوله -صلى الله عليه وسلم-: (كلُّ ذنبٍ عسَى اللهُ أنْ يَغفِرَهُ، إلَّا مَن مات مُشْرِكًا، أوْ مُؤْمِنٌ قَتَل مؤمِنًا مُتعمِّدًا) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
(3) الإشارة إلى أن هذه أبرز الأسباب؛ وإلا فهي أكثر مِن ذلك، ثم الإشارة إلى أن التناول سيكون بإجمال؛ وإلا فالأمر يحتاج إلى حديث منفرد، والله المستعان.
(4) وصدق الرسول -صلى الله عليه وسلم- لما قال فيهم: (يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ!) (متفق عليه)؛ وإلا فانظر كم قتل غلاة التكفير "الرافضة والخوارج" إلى يومنا هذا من المسلمين، وكم قتلوا من الكفار المشركين؟! بل انظر إلى اتفاقهم على قتل المسلمين من أهل السنة في العراق، وسوريا، وغيرهما.
(5) كثير من هؤلاء يزدادون جُرْمًا وفسادًا بعد عقوبة السجن مع القتلة والمجرمين.
ابو وليد البحيرى
2023-02-02, 07:38 PM
الكبائر (6)
السحر
(موعظة الأسبوع)
كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
المقدمة:
- الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة التي ضَمِن الله لمَن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
- السحر من أكبر الكبائر، وأشنع الجرائم؛ لما له مِن أثر عظيم في إفساد حياة الناس(1): قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقاتِ، قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ وما هُنَّ؟ قالَ: الشِّرْكُ باللَّهِ، والسِّحْرُ...) (متفق عليه).
السحر وأنواعه:
- السحر تعاون فاجر بين الساحر والشياطين على فعل المحرمات والشركيات؛ للإضرار بالمسحور: قال ابن قدامة -رحمه الله: "وهو عُقَدٌ ورُقًى، وكلامٌ يتكَلَّمُ به -الساحر- أو يكتُبُه أو يَعمَلُ شَيئًا يؤثِّرُ في بَدَنِ المسحورِ أو عَقْلِه أو قَلْبِه، من غيرِ مُباشَرةٍ؛ وله حقيقةٌ، فمِنه ما يَقتُلُ، ومنه ما يُمرِضُ، ومنه ما يأخُذُ الرَّجُلَ عن امرأتِه، ومنه ما يُفَرِّقُ بين المرءِ وزَوجتِه، ومنه ما يُبَغِّضُ أحَدَهما إلى الآخَرِ، ويحَبِّبُ بين اثنينِ" (المغني لأبن قدامة).
- السحر على نوعين في الجملة:
- الأول: سحر التخييل، وهو: الذي يؤثِّر على الأبصار ويأخذ العيون: قال -تعالى- عن سحرة فرعون: (قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوه ُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) (الأعراف: 105)، وقال -تعالى- عن نبيه موسى -عليه السلام-: (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى?) (طه: 66).
- الثاني: سحر العقد والنفث والتعاويذ، وهو: الذي يؤثر على الأبدان والعقول والقلوب(2): قال -تعالى-: (وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ) (الفلق: 4)، وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "سَحَرَ رَسولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلٌ مِن بَنِي زُرَيْقٍ، يُقَالُ له: لَبِيدُ بنُ الأعْصَمِ، حتَّى كانَ رَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُخَيَّلُ إلَيْهِ أنَّه كانَ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وما فَعَلَهُ(3)، حتَّى إذَا كانَ ذَاتَ يَومٍ -أوْ ذَاتَ لَيْلَةٍ- وهو عِندِي، لَكِنَّهُ دَعَا ودَعَا، ثُمَّ قَالَ: (يَا عَائِشَةُ، أشَعَرْتِ أنَّ اللَّهَ أفْتَانِي فِيما اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ؟ أتَانِي رَجُلَانِ، فَقَعَدَ أحَدُهُما عِنْدَ رَأْسِي، والآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَقَالَ أحَدُهُما لِصَاحِبِهِ: ما وجَعُ الرَّجُلِ؟ فَقَالَ: مَطْبُوبٌ، قَالَ: مَن طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بنُ الأعْصَمِ، قَالَ: في أيِّ شَيْءٍ؟ قَالَ: في مُشْطٍ ومُشَاطَةٍ، وجُفِّ طَلْعِ نَخْلَةٍ ذَكَرٍ، قَالَ: وأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: في بئْرِ ذَرْوَانَ)، فأتَاهَا رَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- في نَاسٍ مِن أصْحَابِهِ، فَجَاءَ فَقَالَ: (يا عَائِشَةُ، كَأنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الحِنَّاءِ، أوْ كَأنَّ رُؤُوسَ نَخْلِهَا رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ)، قُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، أفلا اسْتَخْرَجْتَهُ ؟ قَالَ: (قدْ عَافَانِي اللَّهُ، فَكَرِهْتُ أنْ أُثَوِّرَ علَى النَّاسِ فيه شَرًّا، فأمَرَ بهَا فَدُفِنَتْ) (متفق عليه).
حكم السحر والسحرة:
السحر كفر بالله، والساحر كافر(4)؛ لأنه يوهم الناس أنه قادر على النفع والضر، فهو منازع لله في ربوبيته: قال -تعالى-: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى? مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَ?كِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى? يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ) (البقرة: 102)، وقال -تعالى- عن مصير الساحر: (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ) (البقرة: 102).
- والساحر مستحق للقتل عند عامة أهل العلم؛ لا سيما إذا كان يتقرب إلى الشياطين(5): فعن بجالة بن عبدة قال: "فأتانا كتابُ عمرَ -رضيَ اللهُ عنهُ- قبلَ موتِه بِسَنةٍ: اقتلوا كلَّ ساحرٍ وساحرةٍ، فقتلنا ثلاثةَ سواحرَ" (رواه أبو داود، وأحمد، والبخاري باختلافٍ يسيرٍ).
- فليحذر المسلم من إتيان السحرة لإيذاء الناس، أو ليطلب منهم قضاء الحاجات، فهو ظلمات بعضها فوق بعض: قال -تعالى-: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا) (الأحزاب: 58)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَن أتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عن شيءٍ، لَمْ تُقْبَلْ له صَلاةٌ أرْبَعِينَ لَيْلَةً) (رواه مسلم)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أَتَى عَرَّافًا أَوْ سَاحِرًا أَوْ كَاهِنًا فَسَألَهُ فَصَدَّقَهُ بِماَ يَقُولُ؛ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ) (رواه أبو داود، وقال الألباني: "صحيح موقوف").
كيفية الوقاية من شر السحر والسحرة؟
1- حسن التوكل على الله: قال -تعالى-: (وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) (البقرة: 102)، وقال -تعالى-: (قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (التوبة: 51)، وقال -تعالى-: (وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) (يونس: 107).
2- التوبة من المعاصي والكبائر: قال -تعالى-: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) (الشورى: 30)، وقال العباس -رضيَ اللهُ عنهُ- في دعائه في الاستسقاء: "ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة" (رواه الترمذي، وأحمد، وابن عساكر في تاريخ دمشق، وهو ضعيف الإسناد).
3- المحافظة على قراءة أذكار الصباح والمساء، فهي حصن من الشياطين: ففي حديث يحيى بن زكريا: (وآمُركم أن تَذكُروا اللهَ؛ فإنَّ مَثلَ ذلك كمَثلِ رجلٍ خرَج العدوُّ في أثَرِه سِراعًا حتَّى إذا أتى على حِصنٍ حَصينٍ، فأحرَز نفسَه منهم، كذلك العبدُ لا يُحرِزُ نفسَه مِن الشَّيطانِ إلَّا بذِكْرِ اللهِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
4- الإكثار من قراءة سورة البقرة في البيوت: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقابِرَ، إنَّ الشَّيْطانَ يَنْفِرُ مِنَ البَيْتِ الذي تُقْرَأُ فيه سُورَةُ البَقَرَةِ) (رواه مسلم).
5- أكل سبع تمرات صباحًا قبل أن يأكل أو يشرب شيئًا: قال -صلى الله عليه وسلم-: (مَن تَصَبَّحَ كُلَّ يَومٍ سَبْعَ تَمَراتٍ عَجْوَةً، لَمْ يَضُرَّهُ في ذلكَ اليَومِ سُمٌّ ولا سِحْرٌ) (متفق عليه).
خاتمة:
- التحذير من المعالجين والراقين الجهلة؛ فضلًا عن الدجالين والمشعوذين الذين يعالجون بالسحر: عن جابرِ بنِ عبداللَّه -رضيَ اللهُ عنهُ- قالَ: سُئِلَ رسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عنِ النُّشرةِ(6)، فقالَ: (هوَ من عَملِ الشَّيطانِ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
فاللهم احفظ المسلمين من شرِّ السحر والسحرة، وجنِّبهم إتيان السحر والسحرة إنك أنت العزيز الحكيم.
والحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــ
(1) فكم من أرحام تقطعت وتفككت بأثر سحر وعمل ساحر، وكم من محبة حميمة انقلبت إلى عداوة وضغينة بأثر سحر وعمل ساحر، وكم من نفوس أُمرضت وعانت من المرض زمانًا طويلًا بأثر سحر وعمل ساحر، وكم من عروس أُخِذ عن عروسه ليلة زفافه وذهبت فرحته بأثر سحر وعمل ساحر، بل كم مِن نفوس أزهقت ودماء سالت بأثر سحر وعمل ساحر، وكم وكم وكم! وإنا لله وإنا إليه راجعون.
(2) ومنه: التفريق بين الأزواج، ومنع الرجل من وطء زوجته، والإصابة بالجنون والأمراض، بل ويصل إلى القتل وإزهاق النفوس!
(3) قال النووي في شرح مسلم: "وقد قيل إنه كان يتخيل إليه أنه وطئ زوجاته وليس بواطئ. وقال القاضي عياض: وقد جاءت روايات هذا الحديث مبينة أن السحر إنما تسلَّط على جسده وظواهر جوارحه، لا على عقله وقلبه واعتقاده -صلى الله عليه وسلم-".
(4) ولا يحسن التفصيل في خلاف العلماء هنا، فالمقام مقام وعظ وترهيب.
(5) ومن صور تقرِّبهم إلى الشياطين، مثل: (تلويث المصحف بالنجاسات، أو إلقاؤه في المزابل وأماكن قضاء الحاجة - أو جعل المصحف كالنعل في قدميه - وكبقائهم على الجنابة دائمًا - والإكثار من الزنا والفواحش - إلخ)؛كل ذلك تقربًا إلى الشياطين! نعوذ بالله من الكفر والضلال.
(6) النشرة: من الرقية والعلاج، يعالج به من كان يُظن أن به مسًّا من الجن أو به سحر ونحوه، فإذا كانت بالآيات القرآنية والأسماء والصفات الربانية، والدعوات النبوية المأثورة، فلا بأس بذلك؛ وأما إذا كانت مشتملة على أسماء الشياطين، أو بكلام غير مفهوم فلا يجوز ذلك، وهي مقصود النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: (هوَ من عَملِ الشَّيطانِ).
ابو وليد البحيرى
2023-02-09, 10:55 PM
الكبائر (7)
السرقة
(موعظة الأسبوع)
كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
المقدمة:
- الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة الموبقة، التي ضَمِن الله -تعالى- لمَن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
- السرقة من أكبر الكبائر، وأقبح الجرائم؛ لأنه قد جاء فيها اللعن والحد والوعيد: قال -تعالى-: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (المائدة: 38)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ، يَسْرِقُ البَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ) (متفق عليه).
تعظيم الإسلام لحرمة الأموال:
- عَظَّم الإسلامُ مِن حق التملك للمال، وأن للإنسان أن يعيش آمنًا على ماله في المجتمع، وجعل حفظه من ضروريات الحياة، وجعل الاعتداء عليه بغير حق من المخالفة المقتضية للعقوبة في الدنيا والآخرة: قال -تعالى-: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ) (البقرة: 188)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ) (متفق عليه).
- وسدَّ الإسلام ذرائع الاعتداء على أموال الناس، فحذر مِن اليسير الذي يجر إلى الكبير: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا يَحْلُبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ امْرِئٍ بغيرِ إِذْنِهِ؛ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تُؤْتَى مَشْرُبَتُهُ، فَتُكْسَرَ خِزَانَتُهُ، فيُنْتَقَلَ طَعَامُهُ؟! فإنَّما تَخْزُنُ لهمْ ضُرُوعُ مَوَاشِيهِمْ أَطْعِمَاتِهِمْ ، فلا يَحْلُبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ أَحَدٍ إِلَّا بإذْنِهِ) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لا يَحِلُّ لامْرِئ أَنْ يَأْخُذَ عَصَا أَخِيهِ بَغَيْرِ طِيبِ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ لِشِدَّةِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَالَ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).
تحريم السرقة وبيان قبحها:
- والسرقة أشد أنواع الاعتداء على الأموال بغير حق(1): فالسارق يلتمس غفلات الناس، فيكسر الحواجز، ويتجاوز السدود المنيعة، ويسوق الأموال ظلمًا وعدوانًا، ويدخِل على أصحابها الحزن والغم والهم، وربما الموت والأمراض، ويدخل بينهم الشكوك والتخوين وغيره، قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: "السَّارِقُ عِنْدَ الْعَرَبِ هُوَ مَنْ جَاءَ مُسْتَتِرًا إِلَى حِرْزٍ فَأَخَذَ مِنْهُ مَا لَيْسَ لَهُ" (تفسير القرطبي)، وجاء في القاموس: "السرقة: المجيء مستترًا، لأخذ مال الغير مِن حرز"(2).
- ولذا كان العهد بعدم السرقة من أعظم شروط النبي -صلى الله عليه وسلم- على أتباعه: ففي يوم العقبة في أحلك الظروف، قال للأنصار: (بَايِعُونِي علَى أنْ لا تُشْرِكُوا باللَّهِ شيئًا، ولَا تَسْرِقُوا، ولَا تَزْنُوا، ولَا تَقْتُلُوا أوْلَادَكُمْ، ولَا تَأْتُوا ببُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بيْنَ أيْدِيكُمْ وأَرْجُلِكُمْ...) (متفق عليه).
عقوبة السارق في الدنيا والآخرة:
أولًا: في الدنيا:
- يوشك أن تذهب السرقة بدين السارق وإيمانه: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهو مُؤْمِنٌ) (متفق عليه).
- السارق عنصر فاسد في المجتمع إذا تُرِك استشرى فساده في جسم المجتمع، فلا بد من حسمه وعلاجه بالعقوبة: قال -تعالى-: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (المائدة: 38)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إِلَّا *فِي *رُبُعِ *دِينَارٍ فَصَاعِدًا) (متفق عليه)(3).
- لا ينبغي لأحدٍ أن يمنعَ العقوبةَ عن السارق؛ فهو حق لله وللمجتمع كله فلا تساهل فيه: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأسامة بن زيد -رضي الله عنهما-: (أتَشْفَعُ في حَدٍّ مِن حُدُودِ اللَّهِ؟ وايْمُ اللَّهِ لو أنَّ فَاطِمَةَ بنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا) (رواه البخاري).
ثانيًا: في الآخرة:
- السارق إن لم يتب في الدنيا بشروط التوبة في حقه(4)، فالفضيحة على الأشهاد، ثم العذاب في النار ينتظره في الآخرة: قال -صلى الله عليه وسلم-: (لا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَومَ القِيَامَةِ علَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ له رُغَاءٌ يقولُ: يا رَسولَ اللهِ، أَغِثْنِي، فأقُولُ: لا أَمْلِكُ لكَ شيئًا، قدْ أَبْلَغْتُكَ، لا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَومَ القِيَامَةِ علَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ له حَمْحَمَةٌ، فيَقولُ: يا رَسولَ اللهِ، أَغِثْنِي، فأقُولُ: لا أَمْلِكُ لكَ شيئًا، قدْ أَبْلَغْتُكَ، لا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَومَ القِيَامَةِ علَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ يقولُ: يا رَسولَ اللهِ، أَغِثْنِي، فأقُولُ: لا أَمْلِكُ لكَ شيئًا، قدْ أَبْلَغْتُكَ، لا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَومَ القِيَامَةِ علَى رَقَبَتِهِ نَفْسٌ لَهَا صِيَاحٌ، فيَقولُ: يا رَسولَ اللهِ، أَغِثْنِي، فأقُولُ: لا أَمْلِكُ لكَ شيئًا، قدْ أَبْلَغْتُكَ، لا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَومَ القِيَامَةِ علَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفِقُ، فيَقولُ: يا رَسولَ اللهِ، أَغِثْنِي، فأقُولُ: لا أَمْلِكُ لكَ شيئًا، قدْ أَبْلَغْتُكَ، لا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَومَ القِيَامَةِ علَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ، فيَقولُ: يا رَسولَ اللهِ، أَغِثْنِي، فأقُولُ: لا أَمْلِكُ لكَ شيئًا، قدْ أَبْلَغْتُكَ) (متفق عليه).
وفي حديث الكسوف قال -صلى الله عليه وسلم-: (وعُرِضَتْ عليَّ النارُ، فجعلْتُ أنْفُخُ خشيَةَ أنْ يَغشاكُمْ حَرُّها، ورأيتُ فيها سارِقَ بدَنةِ رسولِ اللهِ، ورأيتُ فيها أخَا بَنِي دَعدَعٍ سارِقَ الحَجِيجِ، فإذا فُطِنَ لهُ قال: هذا عملُ الْمِحْجَنِ) (متفق عليه).
- السارق قبل أن يساق إلى النار، تأخذ منه أموال الناس التي سرقها في الدنيا، ولكن بالحسنات والسيئات: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَتَدْرُونَ ما المُفْلِسُ؟) قالوا: المُفْلِسُ فِينا مَن لا دِرْهَمَ له ولا مَتاعَ، فقالَ: (إنَّ المُفْلِسَ مِن أُمَّتي يَأْتي يَومَ القِيامَةِ بصَلاةٍ، وصِيامٍ، وزَكاةٍ، ويَأْتي قدْ شَتَمَ هذا، وقَذَفَ هذا، وأَكَلَ مالَ هذا، وسَفَكَ دَمَ هذا، وضَرَبَ هذا، فيُعْطَى هذا مِن حَسَناتِهِ، وهذا مِن حَسَناتِهِ، فإنْ فَنِيَتْ حَسَناتُهُ قَبْلَ أنْ يُقْضَى ما عليه أُخِذَ مِن خَطاياهُمْ فَطُرِحَتْ عليه، ثُمَّ طُرِحَ في النَّارِ) (رواه مسلم).
من أسباب انتشار السرقة:
1- الجهل بعظم الجريمة وعظم أثرها في المجتمع(5): قال -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَن سَنَّ في الإسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، كانَ عليه وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَن عَمِلَ بهَا مِن بَعْدِهِ، مِن غيرِ أَنْ يَنْقُصَ مِن أَوْزَارِهِمْ شَيءٌ) (رواه مسلم).
2- عدم تطبيق العقوبة الشرعية الرادعة الحافظة: قال -تعالى-: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة: 50)، وقال عثمانَ بنِ عفانَ -رَضِيَ اللَّهُ عنْه-: "إنَّ اللهَ يزَعُ بالسلطانِ ما لا يزَعُ بالقرآنِ" (مجموع فتاوى ابن تيمية).
3- غياب التربية الإسلامية في البيوت(6): قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ البَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم- للحسن بن علي -رَضِيَ اللَّهُ عنْهما- لما أخذ تمرة من تمر الصدقة: (كِخْ كِخْ)، لِيَطْرَحَهَا، ثُمَّ قالَ: (أَمَا شَعَرْتَ أنَّا لا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ) (متفق عليه).
4- انتشار العنف والجريمة في وسائل الإعلام(7): قال -تعالى-: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا) (النساء: 27).
5- انتشار الفقر والبطالة، مع ضعف الدِّين، وقلة التكافل: قال -تعالى-: (وَلَنَبْلُوَنّ كُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (البقرة: 155)، وقال -تعالى-: (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَ?كِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأنعام: 43)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (وَاللَّهُ في عَوْنِ العَبْدِ ما كانَ العَبْدُ في عَوْنِ أَخِيهِ) (رواه مسلم).
خاتمة: نصيحة إلى السارق:
- أيها السارق... كف عدوانك، ولا تطع شيطانك؛ فحرمة أخيك المسلم كحرمة نفسك، وحرمة ماله كحرمة مالك، وحرمه داره وأهله كحرمة أهلك ودارك.
- تذكر يوم لا ينفع مال ولا بنون: قال -تعالى-: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) (آل عمران: 30).
فاللهم اهدِ عصاة المسلمين، واحفظ أموال المسلمين ودمائهم وأعراضهم، ووسِّع لهم في أرزاقهم، وأغنهم بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــ
(1) هناك أنواع كثيرة من الاعتداء على أموال الغير بغير حق، مثل: الغش والاحتيال في البيع وغيره، والرشوة، والغصب والنهب، والغلول، ولكن أقبح ذلك كله السرقة.
(2) السارق خائن ظلوم، دني جريء، غشوم، هَجُوم على مال غيره بفجور ونذالة، يعيش على آلام الناس وحزنهم.
(3) الدينار يساوي 4 جرامات وربع من الذهب الخالص عيار 24، وتقطع اليد اليمنى من مفصل الكف، فإن عاد بعدها قطعت رجله اليسرى من مفصل الكعب، ولا يجوز إعادتها بعملية جراحية بعد القطع؛ لأن الحكمة تظهر بفقده يده، ويراه الناس كذلك بعد جريمته، قال -تعالى-: (جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ) (المائدة: 38).
(4) توبة السارق لا بد فيها مِن ردِّ المال إلى صاحبه على أي صورة كانت؛ فإن تعذر الوصول إلى أصحابه، فعليه أن يتصدق به لهم، كما قال ابن مسعود -رَضِيَ اللَّهُ عنْه-.
(5) كم من العصابات المتخصصة في السرقات، تروِّج مسروقاتها علانية ويعرفهم الناس، ومع ذلك يشترون منهم المسروقات لمجرد رخص ثمنها! والكثير من السراق يسرق ليشرب المخدرات، أو ليزني، أو... فأما الصالح؛ فلا يسرق.
(6) كانت بداية الكثير من السراق: التساهل من البيوت، عندما كان يسرق الأشياء الحقيرة فلا ينكر عليه، وربما وَجَد التشجيع والإعانة (سرقة لعب الآخرين - سرقة مقابض الأبواب - ...).
(7) فكم مِن الأفلام والمسلسلات تعلِّم الجرائم والسرقة، وكم من سارق أخذ طريقة سرقته من فيلم أو مسلسل، بل بعض الأعمال الفنية تجعل المشاهد يتعاطف مع السارق، ويبغض المسروق!
ابو وليد البحيرى
2023-02-16, 11:05 PM
الكبائر
(8) الانتحار
(موعظة الأسبوع)
كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
المقدمة:
- الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضَمِن الله لمَن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
- قَتْلُ الإنسان نفسه (الانتحار)(1) من الكبائر العظام، والجرائم الجسام؛ لأنه ورد في حقه الوعيد الشديد، فهو متعدٍّ على حقِّ الله بأنه المالك الخالق المتصرف بما يشاء: قال الله -تعالى-: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا . وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا) (النساء: 29-30)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (*كَانَ *بِرَجُلٍ *جِرَاحٌ، *فَقَتَلَ *نَفْسَهُ، فَقَالَ اللَّهُ: بَدَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ) (رواه البخاري).
- الإشارة إلى أن الانتحار صار ظاهرة في هذه الأيام، والأعجب أنها تسرَّبت إلى بلاد المسلمين الموحدين، متأثرين بالنعرات الغربية، حتى وصل الأمر إلى اعتبار المنتحرين رموزًا لقضايا عظيمة القيمة! (أيقونة الثورة التونسية كما يقولون، شاب منتحر! - وغيره كثير...!).
موقف الإسلام من الانتحار:
- عَظَّم الإسلام من حرمة النفوس، وحذر من الاعتداء عليها بالإتلاف والإفساد: قال -تعالى-: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا . وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا) (النساء: 29-30).
- ورتب على ذلك العقوبة الشديدة التي قد تصل إلى الكفر والخلود في النار في بعض المنتحرين: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ *قَتَلَ *نَفْسَهُ *بِحَدِيدَةٍ *فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ شَرِبَ سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا) (رواه مسلم). وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (*مَنْ *قَتَلَ *نَفْسَهُ *بِشَيْءٍ *فِي *الدُّنْيَا، *عُذِّبَ *بِهِ *يَوْمَ *الْقِيَامَةِ) (متفق عليه).
- فالمنتحر لعظم جرمه مستحق لدخول النار ولو كان في ظاهره يحمل قضية شريفة: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: شَهِدْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ لِرَجُلٍ مِمَّنْ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ: (هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ)، فَلَمَّا حَضَرَ الْقِتَالُ قَاتَلَ الرَّجُلُ قِتَالًا شَدِيدًا فَأَصَابَتْهُ جِرَاحَةٌ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، الَّذِي قُلْتَ لَهُ: إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَإِنَّهُ قَدْ قَاتَلَ الْيَوْمَ قِتَالًا شَدِيدًا وَقَدْ مَاتَ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِلَى النَّارِ)، قَالَ: فَكَادَ بَعْضُ النَّاسِ أَنْ يَرْتَابَ، فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذْ قِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَمُتْ، وَلَكِنَّ بِهِ جِرَاحًا شَدِيدًا، فَلَمَّا كَانَ مِنَ اللَّيْلِ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى الْجِرَاحِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِذَلِكَ فَقَالَ: (اللهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنِّي عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ) ثُمَّ أَمَرَ بِلَالًا فَنَادَى بِالنَّاسِ: (إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ، وَإِنَّ اللهَ *لَيُؤَيِّدُ *هَذَا *الدِّينَ *بِالرَّجُلِ *الْفَاجِرِ) (رواه البخاري).
من أسباب ظاهرة الانتحار:
- الإحصائيات في الجملة تشير إلى أن 35% من حالات الانتحار ترجع إلى أسباب عقلية ونفسية، وأن 65% ترجع إلى أسباب اجتماعية وحياتية، وأن أسباب ذلك كثيرة متنوعة، وسنقف على أبرزها:
1- الفشل بأنواعه:
كالفشل المالي في سداد الالتزامات المالية، أو التعرض للخسائر التجارية، أو الفشل العاطفي، أو الفشل الدراسي، أو الفشل الاجتماعي الأسرى، أو الفشل المهني: كتأمين وظيفة كريمة، ونحوه.
2- المشاكل الاقتصادية:
كالفقر والبطالة، وعدم الحصول على فرصة عمل على الرغم من الحصول على الشهادات والمؤهلات، أو فقدان الوظيفة أو المسكن؛ لا سيما إذا كان مصحوبًا بقهر أو ظلم من الآخرين.
3- المشاكل الأسرية:
ككثرة النزاعات بين الوالدين، أو العيش في بيئة اجتماعية قاسية التعامل مع المنتحر: كزوج أم، أو زوجة أب قاسيين، وكحالات الزنا أو الاغتصاب، وخشية العار.
4- المشاكل الصحية الخطيرة:
كإدمان المخدرات، أو الأمراض القاتلة المؤلمة التي تشتد المعاناة معها؛ لا سيما إذا وافق ذلك فقرًا وحاجة.
5- الإعلام العصري المنفتح على العالم بكلِّ ما فيه من شرور:
تعتبر نسبة الانتحار في الغرب والبلاد المتحللة من الدِّين هي النسبة الأكبر، وبسبب الإعلام تنتقل العدوى بالتقليد إلى ضعاف الدِّين والإيمان في بلاد المسلمين.
علاج ظاهرة الانتحار:
تتلخَّص الوسائل التالية في العودة إلى تعاليم الإسلام وأحكامه، الذي جاء بسعادة البشرية لو أنها التزمتها: قال -تعالى-: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ . يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (المائدة: 6).
1- ترسيخ عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر في النفوس والقلوب: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (التوبة: 51). وعَنْ أبي هُريرةَ -رضْيَ اللهُ عنه- قالَ: قال رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: (المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى اللهِ مِنَ المؤمنِ الضَّعيفِ وفي كلٍّ خيرٌ، احْرِصْ على ما يَنفعُكَ، واسْتَعنْ باللهِ ولا تَعْجَزْ، وإنَّ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أنِّي فَعَلْتُ كَان كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قدَرُ اللهِ ومَا شَاءَ فَعَل، فإنَّ (لَوْ) تَفتحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ) (رواه مسلم).
2- الصبر على الأقدار المؤلمة، بمطالعة فضل ذلك في الدنيا والآخرة: قال -تعالى-: (وَلَنَبْلُوَنّ كُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ . الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ . أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (البقرة: 155-157).
3- حسن الظن بالله وعدم اليأس وانتظار الفرج؛ فان أشد ساعات الليل ظلمة ما تكون قبيل طلوع الفجر بالنور والإشراق: قال -تعالى-: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا . إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) (الشرح: 5-6)، وقال -تعالى-: (وَلَا تَيْأَسُوا *مِنْ *رَوْحِ *اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ *مِنْ *رَوْحِ *اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (يوسف: 87) وفي الحديث القدسي يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: (أَنَا *عِنْدَ *ظَنِّ *عَبْدِي بِي) (متفق عليه)، وفي رواية: (أَنَا *عِنْدَ *ظَنِّ *عَبْدِي بِي، فَلْيَظُنَّ بِي مَا *شَاءَ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).
وقال الشاعر:
ولـرب نازلة يضيـق بها الفتى ذرعًا وعند الله منها المخرج
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فـرجت وكان يظـنها لا تفرج
صور مشرقة في حسن الظن بالله وانتظار الفرج:
- موسى -عليه السلام- يرد على مَن ضعف ظنهم بالله: قال -تعالى-: (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ . قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) (الشعراء: 61-62).
- أيوب -عليه السلام- المثل الرائع في الصبر على كل ألوان البلاء: (المال - الصحة - موت الذرية - الفقر - هجر الناس - ...)، وانتظار الفرج سنين طوال: قال -تعالى-: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ . فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ) (الأنبياء: 83-84).
4- الإكثار من الصلاة والذكر والدعاء: قال -تعالى-: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ . الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (البقرة: 45-46) وقال: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد: 28)، وعن حذيفةَ -رضي الله عنه- قالَ: "كانَ النَّبيُّ -صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ- إذا حزبَهُ أمرٌ صلَّى) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
خاتمة:
- لقد أجمع علماء الإسلام على أن الانتحار كبيرة من أشد الكبائر، وأن صاحبه متوعد بالعذاب الطويل في النار، بل قد لا يخرج من النار أبدًا إن قتل نفسه يأسًا وقنوطًا من رحمة الله -سبحانه وتعالى-، واستحلالًا للانتحار، وعدم إيمانٍ برحمة الله؛ لأنه بذلك يكون قد كَفَرَ، وخرج من الملة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (*كَانَ *بِرَجُلٍ *جِرَاحٌ، *فَقَتَلَ *نَفْسَهُ، فَقَالَ اللَّهُ: بَدَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ).
فاللهم فرِّج هم المهمومين، وكرب المكروبين، واقضِ الدَّين عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، وردَّ عنهم كيد الشياطين.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــــــــ
(1) الانتحار: هو قتل الإنسان نفسه، أو إتلاف عضو من أعضائه يؤدي إلى موته، كالشنق أو الحرق، أو تناول السموم، أو الجرعات الكبيرة من المخدرات، أو قتل نفسه بمأكول أو مشروب يؤدي إلى الموت، لأسباب يعتقد صاحبها معها أن مماته أصبح أفضل من حياته.
ابو وليد البحيرى
2023-02-24, 10:58 AM
الكبائر
(9) قطع الأرحام
(موعظة الأسبوع)
كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
المقدمة:
- الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضمن الله لمن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
- قطع الأرحام من أكبر الكبائر، وأعظم المفاسد التي تدمِّر مجتمعات المسلمين، وقد جاء فيه الوعيد الشديد واللعن الأكيد(1): قال -تعالى-: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ . أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وأَعْمى أَبْصارَهُمْ) (محمد: 22-23)، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعُ رَحِمٍ) (رواه مسلم).
مكانة صلة الأرحام في الإسلام:
- عظَّم الإسلام من صلة الأرحام، وأقر العربَ على تعظيمهم الصلة ونبذهم القطيعة؛ فخاطبهم من خلالها بالتوحيد: قال -تعالى-: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي *تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ) (النساء: 1). "وكانت العرب تقول: أنشدك الله والرحم".
- عظم الإسلام من علاقة الأخوة بين عموم المسلمين؛ فرفع من شأن صلة الأرحام أكثر وأشد بين المؤمنين: قال -تعالى-: (*إِنَّمَا *الْمُؤْمِنُونَ *إِخْوَةٌ) (الحجرات: 10)، وقال -تعالى-: (*وَأُولُو *الْأَرْحَامِ *بَعْضُهُمْ *أَوْلَى *بِبَعْضٍ *فِي *كِتَابِ *اللَّهِ) (الأنفال: 75).
- وحرم الإسلام القطيعة بين عموم المسلمين، فعظم التحريم أكثر وأشد بين الأرحام المؤمنين: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ) (متفق عليه)، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللهَ خَلَقَ الْخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْ خَلْقِهِ، قَالَتِ الرَّحِمُ: *هَذَا *مَقَامُ *الْعَائِذِ *بِكَ *مِنَ *الْقَطِيعَةِ. قَالَ: نَعَمْ، أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ، قَالَتْ: بَلَى يَا رَبِّ، قَالَ: فَهُوَ لَكِ) (متفق عليه).
- سيأتي الحديث عن فضائل صلة الرحم في الدِّين والدنيا عند الحديث عن وسائل المحافظة على صلة الأرحام.
عقوبة قاطع الرحم في الإسلام:
- قاطع الأرحام ملعون في كتاب الله: قال علي بن الحسين لولده: "يا بني لا تصحبن قاطع رحم؛ فإني وجدته ملعونًا في كتاب الله في ثلاثة مواطن: قوله -تعالى-: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ . أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وأَعْمى أَبْصارَهُمْ) (محمد: 22-23)، وقوله -تعالى-: (والَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ ويَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ويُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ ولَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (الرعد: 25)، وقوله -تعالى-: (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (البقرة: 27)".
- قاطع الأرحام لا يُرفع له عمل ولا يقبله الله حتى يصل رحمه: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (*إِنَّ *أَعْمَالَ *بَنِي *آدَمَ *تُعْرَض *عَلَى *اللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عشيةَ كُلِّ خَمِيسٍ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، فَلَا يُقْبَلُ *عَمَلُ *قَاطِعِ *رَحِمٍ) (رواه أحمد، وحسنه الألباني لغيره).
- قاطع الأرحام معجَّل العقوبة في الدنيا قبل الآخرة: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ -تعالى- لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِثْلُ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
- قاطع الرحم لا يدخل الجنة: قال رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعُ رَحِمٍ) (رواه مسلم).
- قاطع الرحم بالجملة مقطوع الصلة بالله -عز وجل-: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: (قَالَ اللَّهُ: أَنَا الرَّحْمَنُ وَهِيَ الرَّحِمُ، شَقَقْتُ لَهَا اسْمًا مِنَ اسْمِي، *مَنْ *وَصَلَهَا *وَصَلْتُهُ، *وَمَنْ *قَطَعَهَا *بَتَتُّهُ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
من أسباب وقوع القطيعة بين الأرحام(2):
1- الجهل بعاقبة قطيعة الأرحام في الدنيا والآخرة.
2- الحسد، وبخاصة لمَن تميز مِن القرابات بعلم أو مال، أو جمال، أو جاه، أو قبول عند الناس، أو ذرية صالحة.
3- النميمة والوشاية والإصغاء إلى أصحابها.
4- العجب والكبر، ويظهر أكثر بعد الترقي في الوظائف والمراكز الدنيوية أو الدينية من ضعاف الدِّين، فيتنكر لأرحامه الفقراء والبسطاء، بل قد يصل إلى قطيعة الأبوين!
5- حالات الطلاق والنزاعات الأسرية، وكم من إساءات يندى لها الجبين، ارتكبها القرابات عند الطلاق والنزاعات، ما كان يحلم بها الشيطان الرجيم!
سبيل المحافظة على صلة الأرحام:
- يتلخَّص ذلك في أمرين:
أولًا: معرفة فضل الصلة على الدنيا والدين.
- صلة الرحم... سبب لمغفرة الذنوب، وتسهيل الحساب على الإنسان يوم القيامة: عَنْ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-: أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَصَبْتُ ذَنْبًا عَظِيمًا فَهَلْ لِي تَوْبَةٌ؟ قَالَ: (هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ؟) قَالَ: لَا، قَالَ: (هَلْ لَكَ مِنْ خَالَةٍ؟) قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (فَبِرَّهَا) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
- صلة الرحم سبب للبركة في العمر والرزق، والذكر الطيب بعد الموت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ *سَرَّهُ *أَنْ *يُبْسَطَ *لَهُ *فِي *رِزْقِهِ، وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ) (متفق عليه).
- صلة الرحم لها أثر عظيم في بثِّ المحبة بين أفراد الأسرة والمجتمع الإسلامي، ويترتب عليها فوائد كثيرة لهم (تناصر - تناصح - تكافل - قوة - رضا الرب).
ثانيًا: الصبر والعفو والصفح والتجاوز:
- الأرحام والقرابات بشر يخطؤون، وهذه طبيعة الحياة: قال الذين عاشوا في بيت نبوة: (إِنَّ أَبَانَا *لَفِي *ضَلَالٍ مُبِينٍ) (يوسف: 8)، وقالوا عن أخيهم البريء: (?اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا) (يوسف: 9)، ومع ذلك كان موقف الأب: (قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ . قَالَ *سَوْفَ *أَسْتَغْفِرُ *لَكُمْ *رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (يوسف: 97-98)، والأخ: (قَالَ *لَا *تَثْرِيبَ *عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (يوسف: 92).
- الصبر والإحسان والاحتساب هو سبيل التعامل مع أذى القرابات؛ للحفاظ على صلة الأرحام: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ، وَلَكِنْ الْوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا) (رواه البخاري). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّه، إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ؟ فَقَالَ: (لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمْ الْمَلَّ، وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنْ اللَّهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ) (رواه مسلم). وقال: (*أَفْضَلُ *الصَّدَقَةِ *عَلَى *ذِي *الرَّحِمِ *الْكَاشِحِ) (رواه أحمد والحاكم، وصححه الألباني).
خاتمة:
- قم الآن وسارع بصلة أرحامك، واعفُ عنهم وإن أساءوا: قال -تعالى-: (*وَلْيَعْفُوا *وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (النور: 22)، وقال -تعالى-: (وَسَارِعُوا *إِلَى *مَغْفِرَةٍ *مِنْ *رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ . الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران: 133-134).
فاللهم أصلح ذات بين المسلمين، وألِّف بين قلوبهم.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــ
(1) الأرحام: اسم شامل لكافة الأقارب من غير تفريق بين المحارم، أو الأرحام وغيرهم -على الراجح من الأقوال-.
(2) لقد وَصَل الأمر ببعض الناس أن يمتلئ قلبه غيظًا وحقدًا على أقاربه وذوي رحمه، فيقاطعهم ويعاديهم، ويورث ذلك في ذريته، بل ربما يعلن عليهم الحرب الشعواء في المحاكم والقضاء، ولربما كان ذلك لأتفه الأسباب، قال -تعالى-: (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا) (الإسراء: 53).
ابو وليد البحيرى
2023-03-08, 05:58 PM
الكبائر (10)
شهادة الزور
(موعظة الأسبوع)
كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
المقدمة:
- الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضمن الله لمن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
- شهادة الزور من الكبائر العظام، والجرائم الجسام؛ لما تسببه من ضياع الحقوق، وتغيير الحقائق(1): عن أبي بكرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبائِرِ ثَلاثًا)، قَالُوا: بَلى يا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: (الإِشْراكُ بِاللهِ وَعُقوقُ الْوالِدَيْنِ) وَجَلَسَ، وَكانَ مُتَّكِئًا(2)، فَقالَ: (أَلا وَقَوْلُ الزّورِ) قَالَ: فَما زَالَ يُكَرِّرُها حَتّى قُلْنا: لَيْتَهُ سَكَتَ. (متفق عليه).
- الإشارة إلى أن شهادة الزور لا تقتصِر على كونها أمام المحاكم والقضاء، بل لها صور كثيرة في حياة الناس بكل جوانبها(3).
قبح شهادة الزور، وخطورة آثارها:
- شهادة الزور من أشد أنواع الكذب افتراءً وبهتانًا: قال -تعالى-: (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ) (النحل: 105)، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (وَإيَّاكُمْ والكَذِب، فإنَّ الكذبَ يَهْدِي إِلَى الفُجُور، وإنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ) (متفق عليه).
- شاهِد الزور فاسق فاجر، مجرم آثم، يري عينه ما لم ترَ، ويُسمِع أذنه ما لم تسمع! قال -تعالى-: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) (الإسراء: 36). وقال الله -تعالى- عن عباده المتقين: (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) (الفرقان: 72).
- شاهد الزور يضلل القاضي والحكم وطالب الشهادة، ولو كان القاضي من أعدل الناس وأعلمهم: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّما أنا بَشَرٌ وإنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ، ولَعَلَّ بَعْضَكُمْ أنْ يَكونَ ألْحَنَ بحُجَّتِهِ مِن بَعْضٍ، فأقْضِي علَى نَحْوِ ما أسْمَعُ، فمَن قَضَيْتُ له مِن حَقِّ أخِيهِ شيئًا، فلا يَأْخُذْهُ فإنَّما أقْطَعُ له قِطْعَةً مِنَ النَّارِ) (متفق عليه).
- شاهد الزور يفسد المجتمع، ويضر بالأبرياء، ويناصر الفاسدين والمجرمين والظالمين: قال -تعالى-: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ) (هود: 113).
- شيوع شهادة الزور خطر شديد، وعلامة على فساد المجتمع: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ: تَسْلِيمَ الْخَاصَّةِ، وَفُشُوَّ التِّجَارَةِ، حَتَّى تُعِينَ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا عَلَى التِّجَارَةِ، وَقَطْعَ الْأَرْحَامِ، وَشَهَادَةَ الزُّورِ، *وَكِتْمَانَ *شَهَادَةِ *الْحَقِّ، وَظُهُورَ الْقَلَمِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).
- ولذلك كانت شهادة الزور من الكبائر العظام التي تقارب الشرك بالله: قال -تعالى-: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) (الحج: 30).
عقوبة شاهد الزور في الدنيا والآخرة:
- تنبيه: عقوبة شاهد الزور تتفاوت بحسب الظلم الذي تسبب فيه، وتزداد إثمًا إذا صاحبتها يمين: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امرئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ، فَقَدْ أَوْجَبَ الله لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) (رواه مسلم).
- شاهد الزور يمشي ويعيش في سخط الله حتى يتوب: قال رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، فَيَكْتُبُ اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
- شاهد الزور يمشى ويعيش في الدنيا تطارده دعوات المظلومين: قالَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (اتَّقِ دَعوةَ المظلومِ؛ فإنَّهُ ليسَ بينَها وبينَ اللَّهِ حِجَابٌ) (متفق عليه). وقالَ: (*دَعْوَةُ *الْمَظْلُومِ *تُحْمَلُ *عَلَى *الْغَمَامِ، وَتُفْتَحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاوَاتِ، وَيَقُولُ الرَّبُّ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: وَعِزَّتِي لَأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).
وعن *جابر بن سمرة قال: "شَكَا أَهْلُ الكُوفَةِ سَعْدًا إلى عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عنْه-، فَعَزَلَهُ، واسْتَعْمَلَ عليهم عَمَّارًا، فَشَكَوْا حتَّى ذَكَرُوا أنَّهُ لا يُحْسِنُ يُصَلِّي، فأرْسَلَ إلَيْهِ، فَقالَ: يا أَبَا إسْحَاقَ إنَّ هَؤُلَاءِ يَزْعُمُونَ أنَّكَ لا تُحْسِنُ تُصَلِّي، قالَ سعد: أَمَّا أَنَا واللَّهِ فإنِّي كُنْتُ أُصَلِّي بهِمْ صَلَاةَ رَسولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ - ما أَخْرِمُ عَنْهَا، أُصَلِّي صَلَاةَ العِشَاءِ، فأرْكُدُ في الأُولَيَيْنِ وأُخِفُّ في الأُخْرَيَيْنِ، قالَ: ذَاكَ الظَّنُّ بكَ يا أَبَا إسْحَاقَ، فأرْسَلَ معهُ رَجُلًا أَوْ رِجَالًا إلى الكُوفَةِ، فَسَأَلَ عنْه أَهْلَ الكُوفَةِ ولَمْ يَدَعْ مَسْجِدًا إلَّا سَأَلَ عنْه، ويُثْنُونَ مَعْرُوفًا، حتَّى دَخَلَ مَسْجِدًا لِبَنِي عَبْسٍ، فَقَامَ رَجُلٌ منهمْ يُقَالُ له أُسَامَةُ بنُ قَتَادَةَ يُكْنَى أَبَا سَعْدَةَ، قالَ: أَمَّا إذْ نَشَدْتَنَا؛ فإنَّ سَعْدًا كانَ لا يَسِيرُ بالسَّرِيَّةِ، ولَا يَقْسِمُ بالسَّوِيَّةِ، ولَا يَعْدِلُ في القَضِيَّةِ، قالَ سَعْدٌ: أَما واللَّهِ لَأَدْعُوَنَّ بثَلَاثٍ: اللَّهُمَّ إنْ كانَ عَبْدُكَ هذا كَاذِبًا، قَامَ رِيَاءً وسُمْعَةً، فأطِلْ عُمْرَهُ، وأَطِلْ فَقْرَهُ، وعَرِّضْهُ بالفِتَنِ، وكانَ بَعْدُ إذَا سُئِلَ يقولُ: شيخٌ كَبِيرٌ مَفْتُونٌ، أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعْدٍ، قالَ عبدُ المَلِكِ: فأنَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ، قدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ علَى عَيْنَيْهِ مِنَ الكِبَرِ، وإنَّه لَيَتَعَرَّضُ لِلْجَوَارِي في الطُّرُقِ يَغْمِزُهُنَّ" (رواه البخاري).
- شاهد الزور يأتي يوم القيامة مع المفلسين، وإن كان له من الأعمال الصالحة ما له: قال -تعالى-: (سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ) (الزخرف: 19)، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (أَتَدْرُونَ مَا *الْمُفْلِسُ؟) قَالُوا: *الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ، وَلَا مَتَاعَ فَقَالَ: (إِنَّ *الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، *وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ) (رواه مسلم).
- شاهد الزور يهوي في النار بشهادة زور واحدة؛ فكيف بمَن تكررت منه شهادة الزور؟!: قال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امرئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ، فَقَدْ أَوْجَبَ الله لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللّهِ؟ قَالَ: (وَإِنْ قَضِيبا مِنْ أَرَاكٍ) (رواه مسلم). وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: (إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا يَزِلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ) (رواه البخاري ومسلم).
خاتمة: هل لشاهد الزور توبة؟
- جماهير علماء المسلمين على قبول توبته: قال -تعالى-: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزمر: 53).
- توبة شاهد الزور وقبول شهادته لا بد فيها من إصلاح ما أفسد في شهادته، وأن يقر بأنه شهد زورًا، وأن يضمن ما تسبب في ضياع الحقوق من الأموال أو غيرها، أو أن يستسمح من تسبب في ظلمه، ولا يكون الحج أو العمرة سببًا في غفران ضياع حقوق الناس كما يتوهمه بعضهم، فلا بد من الاعتراف بشهادة الزور أمام الجهات المختصة، أو استسماح مَن ظلمه بشهادة الزور، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ *كَانَتْ *عِنْدَهُ *مَظْلِمَةٌ *لِأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْ هُ *مِنْهَا، *فَإِنَّهُ *لَيْسَ *ثَمَّ *دِينَارٌ *وَلَا *دِرْهَمٌ، *مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ) (رواه البخاري).
فاللهم احفظ علينا ألسنتنا من أن نقول زورًا، أو نشهد زورًا، ووفِّقنا لكلمة الحق في السر والعلانية.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــ
(1) المقصود بشهادة الزور: أن يشهد إنسان لآخر أو عليه، بغير ما علم أو سمع، فهي قلب للحقائق، وتضييع للحقوق، وإعانة للظالمين.
(2) قال الحافظ في الفتح: "وسبب الاهتمام بذلك كون قول الزور أو شهادة الزور أسهل وقوعًا على الناس، والتهاون بها أكثر، فان الإشراك ينبو عنه قلب المسلم، والعقوق يصرف عنه الطبع، وأما الزور فالحوامل كثيرة، كالعداوة والحسد".
(3) من مجالات شهادة الزور: (الكذب في الأنساب، والوصايا، والجنايات، والأموال، ونحو ذلك، وكذا تزكية إنسان أو جرحه بما ليس فيه، سواء في الزواج، أو الوظائف والإمارات، ونحوه، وكذا الكذب في التقارير التي تضر بالناس عند الحكام والمسئولين ونحوها، وهكذا... ).
ومن صورها التي يستهين بها كثير من الناس: (شهادة الأمهات للأولاد عند الوالد بالكذب - شهادات الفقر والغنى عند القاضي تهربًا من نفقة الزوجات والعكس - الشهادات الطبية الكاذبة - شهادات الخبرة الكاذبة - التقارير الإدارية الظالمة على الموظفين - التقارير الهندسية المخالفة - التقارير المعلوماتية الكاذبة - شهادات النجاح الكاذبة - مستندات السفريات والمأموريات الكاذبة للموظفين - وغير ذلك كثير في عالم الناس).
ابو وليد البحيرى
2023-03-17, 11:49 AM
الكبائر (11)
الزنا
(موعظة الأسبوع)
كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
المقدمة:
- الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضمن الله لمن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
- الزنا مِن أكبر الكبائر، وأفحش الجرائم، حتى قَرَنَه الله بالشرك والقتل، وتوعَّد صاحبه بالوعيد الشديد، والعقاب الأليم: قال -تعالى-: (*وَالَّذِينَ *لَا *يَدْعُونَ *مَعَ *اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا . يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا) (الفرقان: 68-69).
قال السعدي -رحمه الله-: "هذه الثلاثة؛ لأنها من أكبر الكبائر؛ فالشرك فيه فساد الأديان، والقتل فيه فساد الأبدان، والزنا فيه فساد الأعراض".
(1) قبح الزنا وأثره على الإيمان:
- أجمعت الشرائع السماوية على تحريم الزنا: قال -تعالى-: (وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) (الأنعام: 151)، وقال -تعالى- (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا) (الإسراء: 32).
- الزنا يعرِّض دين العبد للخطر، ويوشك أن يسقطه في هاوية الكفر(1): قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (*لَا *يَزْنِي *الزَّانِي *حِينَ *يَزْنِي *وَهُوَ *مُؤْمِنٌ) (متفق عليه). وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إذَا زَنَى الْعَبْدُ خَرَجَ مِنْهُ الْإِيمَانُ فَكَانَ فَوْقَ رَأْسِهِ كَالظُّلَّةِ فَإِذَا خَرَجَ مِنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ عَادَ إلَيْهِ الْإِيمَانُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
- الزنا يعرِّض المجتمع الذي ينتشر فيه للخراب: (اختلاط الأنساب - فساد الأخلاق - الأمراض الفتاكة - ضنك المعيشة - ظلم الحكام - ...)، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (*إِذَا *ظَهَرَ *الزِّنَا *وَالرِّبَا *فِي *قَرْيَةٍ، *فَقَدْ *أَحَلُّوا *بِأَنْفُسِهِمْ *عَذَابَ *اللَّهِ) (رواه الطبراني والحاكم، وصححه الألباني).
- ولذا توعد الله كل من يعين على انتشار الفواحش بأشد العذاب: قال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (النور: 19).
(2) أضرار الزنا وعاقبته:
أولًا: في الدنيا:
- استحقاق حد الزنا، ولحوق العار بالزاني وعشيرته والفضيحة بين الناس: عن عبادة بن الصامت أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: قال: (خُذُوا عنِّي خُذُوا عنِّي، قدْ جعل اللهُ لهنَّ سَبِيلًا، البِكرُ بالبِكرِ؛ جَلدُ مِائةٍ، ونَفْيُ سَنةٍ، والثَّيِّبُ بالثَّيِّبِ، جَلدُ مائةٍ والرَّجْمُ) (رواه مسلم)، وقال -تعالى-: (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ) (المؤمنون: 2).
ثانيًا: في الآخرة:
- توعدهم الله بأشد العذاب، فيعذب الزناة في النار عراة كما كانوا حال الزنا، ويُركَّز العذابُ على مواضع الشهوة التي مارسوا بها الزنا: قال -تعالى-: (وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا . يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا) (الفرقان: 68 -69)، وفي حديث رؤيا النبي -صلى الله عليه وسلم-: قال: (فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا عَلَى مِثْلِ التَّنُّورِ قَالَ: فَأَحْسَبُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فَإِذَا فِيهِ لَغَطٌ وَأَصْوَاتٌ، قَالَ: فَاطَّلَعْنَا فِيهِ، فَإِذَا فِيهِ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ، وَإِذَا هُمْ يَأْتِيهِمْ لَهَبٌ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ، فَإِذَا أَتَاهُمْ ذَلِكَ اللهَبُ *ضَوْضَوْا - أي: صاحوا من شدة حرِّه- فقلت: (قَالَ: قُلْتُ لَهُمَا: مَا هَؤُلَاءِ؟)... فقال جبريل: (وَأَمَّا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ الْعُرَاةُ الَّذِينَ فِي مِثْلِ بِنَاءِ التَّنُّورِ، فَإِنَّهُمُ الزُّنَاةُ وَالزَّوَانِي) (رواه البخاري).
(3) أسباب انتشار الزنا:
1- مخالفة التعاليم والتدابير الوقائية في الشريعة الإسلامية لمنع الزنا، في حياة كثيرٍ من المسلمين في البيوت والمصالح والمؤسسات (سيأتي الكلام عن ذلك مفصَّلًا).
2- دور وسائل الإعلام العصرية، ووسائل الاتصالات الحديثة في نشر الفواحش والعرى والمجون، وتسهيل الوصول لذلك: (الأفلام والأغاني الماجنة، قنوات الرقص والعري، المواقع الإباحية، السخرية من الدين والمتدينين، محاربة الفضيلة ومَن يدعو لها، وغير ذلك كثير...).
3- تعسير الزواج بالنفقات الباهظة، أو تأخير سن الزواج؛ بحجة التعليم، وغيره؛ سواء من الأولياء أو من الشباب أنفسهم.
4- عدم إقامة حد الزنا على الزناة واستبداله بالقوانين الغربية التي لا تجرِّم الزنا إلا في حدود ضيقة جدًّا جدًّا!
(4) تدابير وقائية في الشريعة الإسلامية لمنع الزنا(2):
- تمهيد: يعتبر إصلاح القلب وتطهيره وتعميره بتقوى الله ومراقبته هو أعظم رادع عن المعاصي، غير أن الشريعة المطهرة لم تكلنا إلى ذلك فقد نضعف؛ ولذا جعلت هذه التدابير.
1- فرض الحجاب على النساء، وتحريم التبرج وإظهار الزينة: قال -تعالى-: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) (الأحزاب: 33)، وقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ *قُلْ *لِأَزْوَاجِكَ *وَبَنَاتِكَ *وَنِسَاءِ *الْمُؤْمِنِينَ *يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) (الأحزاب: 59)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (المَرْأَةُ عَوْرَةٌ، فَإِذَا خَرَجَتْ اسْتَشْرَفَهَا الشَّيْطَانُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
2- الأمر بغض البصر؛ لأنه أول سهام الشيطان(3): قال -تعالى-: (قُل لِّلْمُؤْمِنِين َ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) (النور: 30)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنَ *الزِّنَا مُدْرِكٌ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، فَالْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا *النَّظَرُ...) (متفق عليه).
3- تحريم مس الأجنبية ومصافحتها: قال -صلى الله عليه وسلم-: (لَأَنْ يُطْعَنَ فِي رَأْسِ أَحَدِكُمْ بِمِخْيَطٍ مِنْ حَدِيدٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمَسَّ امْرَأَةً لا تَحِلُّ لَهُ) (رواه الطبراني والبيهقي، وصححه الألباني).
4- تحريم خروج المرأة متطيبة متعطرة: قال -صلى الله عليه وسلم-: (أَيُّمَا امْرَأَةٍ اسْتَعْطَرَتْ فَمَرَّتْ عَلَى قَوْمٍ لِيَجِدُوا رِيحَهَا فَهِيَ زَانِيَةٌ، وَكُلُّ عَيْنٍ زَانِيَةٌ) (رواه أحمد والنسائي، وحسنه الألباني).
5- تحريم الخضوع بالقول: قال -تعالى-: (فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا) (الأحزاب: 32).
6- تحريم الاختلاط: (الزيارات - الوظائف - المدارس والجامعات - العمال والخدم والصناع - ...)؛ قال -تعالى-: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنّ َ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) (الأحزاب: 53).
7- أخطر وأعظم أسباب الوقوع في الزنا: (تحريم الخلوة بالأجنبية): (الزيارات العائلية - المصاعد والعيادات ونحوها - الصناع والحرفيين - المصالح والمؤسسات - ...)؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (*أَلَا *لَا *يَخْلُوَنَّ *رَجُلٌ *بِامْرَأَةٍ *إِلَّا *كَانَ *ثَالِثَهُمَا *الشَّيْطَانُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (*إِيَّاكُمْ *وَالدُّخُولَ *عَلَى *النِّسَاءِ!) فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ؟ قَالَ: (الْحَمْوُ الْمَوْتُ) (متفق عليه).
خاتمة: هل للزاني توبة؟
- الزاني تُقبَل توبته إن صدق: قال -تعالى-: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزمر: 53).
وعن بريدة بن الحصيب الأسلمي قالَ: جَاءَتِ الغَامِدِيَّةُ، فَقالَتْ: يا رَسولَ اللهِ، إنِّي قدْ زَنَيْتُ فَطَهِّرْنِي، وإنَّه رَدَّهَا، فَلَمَّا كانَ الغَدُ، قالَتْ: يا رَسولَ اللهِ، لِمَ تَرُدُّنِي؟ لَعَلَّكَ أَنْ تَرُدَّنِي كما رَدَدْتَ مَاعِزًا، فَوَاللَّهِ إنِّي لَحُبْلَى، قالَ: (إمَّا لا، فَاذْهَبِي حتَّى تَلِدِي)، فَلَمَّا وَلَدَتْ أَتَتْهُ بالصَّبِيِّ في خِرْقَةٍ، قالَتْ: هذا قدْ وَلَدْتُهُ، قالَ: (اذْهَبِي فأرْضِعِيهِ حتَّى تَفْطِمِيهِ)، فَلَمَّا فَطَمَتْهُ أَتَتْهُ بالصَّبِيِّ في يَدِهِ كِسْرَةُ خُبْزٍ، فَقالَتْ: هذا يا نَبِيَّ اللهِ قدْ فَطَمْتُهُ، وَقَدْ أَكَلَ الطَّعَامَ، فَدَفَعَ الصَّبِيَّ إلى رَجُلٍ مِنَ المُسْلِمِينَ، ثُمَّ أَمَرَ بهَا فَحُفِرَ لَهَا إلى صَدْرِهَا، وَأَمَرَ النَّاسَ فَرَجَمُوهَا، فأقْبل خَالِدُ بنُ الوَلِيدِ بحَجَرٍ، فَرَمَى رَأْسَهَا، فَتَنَضَّحَ الدَّمُ علَى وَجْهِ خَالِدٍ، فَسَبَّهَا، فَسَمِعَ نَبِيُّ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- سَبَّهُ إيَّاهَا، فَقالَ: (مَهْلًا يا خَالِدُ؛ فَوَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ لقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لو تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ له)، ثُمَّ أَمَرَ بهَا فَصَلَّى عَلَيْهَا، وَدُفِنَتْ. (رواه مسلم).
فاللهم استر عورات المسلمين، واحفظ أعراضهم.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــــــــ
(1) ولخطورة جريمة الزنا على الإيمان، واحتمال أن يفقد الزاني إيمانه، فلا يعود إليه أبدًا، كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- يَعْرِضُ عَلَى مَمْلُوكِهِ الْزواج، وَيَقُولُ: "مَنْ أَرَادَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ زَوَّجْتُهُ، فَإِنَّهُ لَا يَزْنِي زَانٍ إِلَّا نَزَعَ اللَّهُ مِنْهُ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ شَاءَ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِ بَعْدُ رَدَّهُ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَمْنَعَهُ مَنَعَه" (رواه عبد الرزاق)، وفي رواية لابن نصر: "مَنْ أَرَادَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ زَوَّجْتُهُ، فَإِنَّهُ لَا يَزْنِي زَانٍ إِلَّا نَزَعَ اللَّهُ مِنْهُ نُورَ الْإِيمَانِ، فَإِنْ شَاءَ أَنْ يَرُدَّهُ رَدَّهُ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَمْنَعُهُ مَنَعَه".
(2) سنذكرها كعناوين دون تفصيل؛ لعدم الإطالة، وإلا فكل واحدٍ منها يحتاج إلى حديثٍ منفردٍ.
(3) مِن أعظم المفسدات في هذا الباب (وسائل الإعلام والاتصالات العصرية التي سَهَّلت ذلك إلى أسوأ درجة).
ابو وليد البحيرى
2023-04-29, 12:52 PM
الكبائر (12)
أذية الجيران
(موعظة الأسبوع)
كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
- المقدمة:
- الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضمن الله لمن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة، قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
- أذية الجيران من الكبائر العظام، والمنكرات الجسام؛ فقد ورد في ذلك التهديد الأكيد، والوعيد الشديد، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ) (رواه مسلم).
مكانة الجار في الإسلام:
- أوصى الإسلام بالجار، حتى قرن الله حق الجار بحقه -سبحانه-، فقال -تعالى-: (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالوَالِدَيْ نِ إِحْسَانًا وَبِذِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَالجَارِ ذِي القُرْبَى وَالجَارِ الجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا) (النساء: 36)(1).
- جعل الإسلام الإحسان إلى الجار من علامات الإيمان والانتماء إلى الإسلام: قال النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ) (متفق عليه). وفي رواية لمسلم: (فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ)، قال القاضي عياض -رحمه الله تعالى-: "مَن التزم شرائع الإسلام؛ لزمه إكرام جاره".
- كاد الإسلام أن يشرع توريث الجار لجاره؛ لعظم مكانته وحقه: عن عائشة -رضي الله عنها-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (مَا زَالَ يُوصِينِي جِبْرِيلُ بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لَيْسَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي *يَشْبَعُ، *وجارُه جَائِعٌ) (رواه البخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني).
- الكرام يقومون بحق الجار حتى مع الكفار(2): عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: أنه ذُبِحت له شاة في أهله، فلما جاء قال: أهديتم لجارنا اليهودي؟ أهديتم لجارنا اليهودي؟، قلنا: لا، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (*مَا *زَالَ *جِبْرِيلُ *يُوصِينِي *بِالْجَارِ، *حَتَّى *ظَنَنْتُ *أَنَّهُ *سَيُوَرِّثُهُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
بل الكرام يتمدحون بحسن الجوار في كلِّ زمان، قال الشاعر الجاهلي:
مـا ضـرَّ جـاري إذ أُجــاوِره ألا يـكـونَ لـبـيــتِـه سِــتْــرُ
أعمى إذا ما جارَتي خَرَجَـت حـتى يُوَارِي جارتي الخِدْرُ
- ولذا جعل الإسلام الجار الصالح من أسباب السعادة، وجعل جار السوء من أسباب التعاسة والبلاء والنقمة: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أَرْبَعٌ *مِنَ *السَّعَادَةِ: *الْمَرْأَةُ *الصَّالِحَةُ، *وَالْمَسْكَنُ *الْوَاسِعُ، *وَالْجَارُ *الصَّالِحُ، وَالْمَرْكَبُ الْهَنِيءُ، وَأَرْبَعٌ مِنَ الشَّقَاوَةِ: الْجَارُ السُّوءُ، وَالْمَرْأَةُ السُّوءُ، وَالْمَسْكَنُ الضِّيقُ، وَالْمَرْكَبُ السُّوءُ) (رواه ابن حبان، وصححه الألباني).
تحريم إيذاء الجار، وعاقبة الجار المؤذي:
- شدد الإسلام على حرمة الجار وتحريم إيذائه، حتى علق درجة إيمان العبد وإسلامه على ذلك، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (وَاللَّهِ لا يُؤْمِنُ، وَاللَّهُ لا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لا يُؤْمِنُ) قيل: مَن يا رسول الله؟ قال: (الذي لا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ) (رواه البخاري)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (َمنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلا يُؤْذِ جَارَهُ) (متفق عليه).
- جعل الإسلام ذنب إيذاء الجار عشرة أضعاف إيذاء غيره: عن المِقْدَاد بن الأسود -رضي الله عنه- قال: سَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أصحابه عن الزِّنَى؟ قَالُوا: حرامٌ؛ حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. فَقَالَ: (لِأَنْ يَزْنِيَ الرَّجُلُ بِعَشْرِ نِسْوَةٍ، أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَزْنِيَ بِامْرَأَةِ جَارِهِ)، وَسَأَلَهُمْ عَنِ السرقة؟ قالوا: حرام؛ حرمه اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- وَرَسُولُهُ. فَقَالَ: (لِأَنْ يَسْرِقَ مِنْ عَشَرَةِ أَهْلِ أبياتٍ، أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ *أَنْ *يَسْرِقَ *مِنْ *بَيْتِ *جَارِهِ) (رواه البخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني).
- جعل الإسلام ذنب إيذاء الجار محبطًا للأعمال، وسببًا في دخول النار: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قِيلَ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ فُلاَنَةً تَقُومُ اللَّيْلَ وَتَصُومُ النَّهَارَ، وَتَفْعَلُ، وَتَصَّدَّقُ، وَتُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (لاَ خَيْرَ فِيهَا، هِيَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ)، قَالُوا: وَفُلاَنَةٌ تُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ، وَتَصَّدَّقُ بِأَثْوَارٍ، وَلاَ تُؤْذِي أَحَدًا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (هِيَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ) (رواه البخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني).
وقفة مهمة: أشرُّ الجيران مَن اضطر جاره إلى هجرة بيته:
- فاعل ذلك مستحق للعن الناس ودعائهم، فضلًا عما تقدَّم من العقوبة في الإسلام: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- يَشْكُو جَارَهُ، فَقَالَ: (اذْهَبْ فَاصْبِرْ) فَأَتَاهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَقَالَ: (اذْهَبْ فَاطْرَحْ مَتَاعَكَ فِي الطَّرِيقِ)، فَطَرَحَ مَتَاعَهُ فِي الطَّرِيقِ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَسْأَلُونَهُ فَيُخْبِرُهُمْ خَبَرَهُ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَلْعَنُونَهُ: فَعَلَ اللَّهُ بِهِ، وَفَعَلَ، وَفَعَلَ، فَجَاءَ إِلَيْهِ جَارُهُ فَقَالَ لَهُ: ارْجِعْ، لَا تَرَى مِنِّي شَيْئًا تَكْرَهُهُ. (رواه أبو داود، وقال الألباني: "حسن صحيح"). وقَالَ ثَوْبَانُ -رضي الله عنه-: "مَا مِنْ جَارٍ يَظْلِمُ جَارَهُ وَيَقْهَرُهُ، حَتَّى يَحْمِلَهُ ذَلِكَ عَلَى أَنْ يَخْرُجَ مِنْ مَنْزِلِهِ، إِلَّا هَلَكَ" (رواه البخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني).
- ولأجل ذلك، كانت الخصومة بين الجيران مِن أول ما يُقضَى فيه يوم القيامة: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (أَوَّلُ خَصْمَيْنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَارَانِ) (رواه أحمد، وحسنه الألباني).
وسائل تقوية حسن الجوار:
- بداية... اشكر الله على الجار الصالح: قال الله -تعالى-: (*وَأَمَّا *بِنِعْمَةِ *رَبِّكَ *فَحَدِّثْ) (الضحى: 11).
- اصبر على أذى الجار، وأحسن إليه لعله ينصلح أو يرحل: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ثَلَاثَةٌ يُحِبُّهُمُ اللهُ...)، ثم ذكر منهم: (... وَالرَّجُلُ يَكُونُ لَهُ الْجَارُ يُؤْذِيهِ جِوَارُهُ، فَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُ حَتَّى يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا مَوْتٌ أَوْ ظَعْنٌ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).
من صور الإحسان وتقوية حسن الجوار:
1- الإهداء إليه، والسؤال عنه، فإنه سبيل للمحبة والألفة: عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يَا أَبَا ذَرٍّ *إِذَا *طَبَخْتَ *مَرَقَةً *فَأَكْثِرْ *مَاءَهَا، وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ) (رواه مسلم)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (*تَهادُوا *تَحابُوا) (رواه البخاري في الأدب المفرد، وحسنه الألباني).
2- تنصره ظالمًا ومظلومًا: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (انْصُرْ *أَخَاكَ *ظَالِمًا *أَوْ *مَظْلُومًا) فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا، أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ؟ قَالَ: (تَحْجُزُهُ أَوْ تَمْنَعُهُ مِنَ الظُّلْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ) (متفق عليه).
3- التصدق عليه إن كان فقيرًا؛ فهو أولى مِن البعيد: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ أَنْ تُدْخِلَ عَلَى أَخِيكَ الْمُسْلِمِ سُرُورًا، أَوْ تَقْضِيَ عَنْهُ دَيْنًا، *أَوْ *تُطْعِمَهُ *خُبْزًا) (رواه البيهقي، وحسنه الألباني).
4- التنازل عن بعض الحقوق النافعة له: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَا يَمْنَعْ أَحَدُكُمْ جَارَهُ *أَنْ *يَغْرِزَ *خَشَبَةً *فِي *جِدَارِهِ) (متفق عليه).
5- دعوته إلى الخير، ونصحه للدين: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا *يُؤْمِنُ *عَبْدٌ *حَتَّى *يُحِبَّ *لِجَارِهِ -أَوْ قَالَ: لِأَخِيهِ- مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ) (رواه مسلم).
خاتمة: تربية أهل البيت على الإحسان إلى الجار:
- يجب تربية أهل البيت من زوجة وولد على تعظيم حق الجار، فإن الأذية قد لا تصدر من الرجل لجاره، ولكن من زوجه أو ولده: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ) (رواه مسلم).
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــــ
(1) الجيران ثلاثة: جار له حق واحد، وهو أدنى الجيران حقًّا، وجار له حقان، وجار له ثلاثة حقوق؛ فأما الذي له حق واحد: فجار مشرك لا رَحِم له، فله حق الجوار. وأما الذي له حقان: فجار مسلم له حق الإسلام، وحق الجوار. وأما الذي له ثلاثة حقوق: فجار مسلم ذو رحم، له حق الإسلام وحق الجوار، وحق الرحم. وكلما كان الجار أقرب بابًا كان آكد حقًّا؛ لحديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي جَارَيْنِ فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي؟ قَالَ: (إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا) (رواه البخاري). والحكمة في ذلك: أن الأقرب بابًا يرى ما يدخل بيت جاره من هدية وغيرها، فيتشوف إليها، بخلاف الأبعد.
(2) فائدة مهمة لمَن أراد الزيادة: كيف تُعامل جارك إذا كان عاصيًا لله؟
قال الذهبي في (حق الجار، ص 46 - 49): "وإذا كان الجار صاحب كبيرة، فلا يخلو:
- إما أن يكون متستِّرًا بها، ويغلق بابه عليه، فليعرض عنه ويتغافل عنه، وإن أمكن أن ينصحه في السر ويعظه، فحسَنٌ.
- وإن كان متظاهرًا بفِسقه؛ مثل: مكَّاس -وهو جابي الضرائب- أو مُرابٍ، فتَهجره هجرًا جميلًا.
- وإن كان تاركًا للصلاة في كثير من الأوقات، فمُره بالمعروف، وانْهَه عن المنكر مرة بعد مرة، وإلا فاهجره في الله، ولعله أن يرعوي ويحصل له انتفاع بالهجرة، من غير أن تقطع عنه كلامك وسلامك وهديتك.
- فإن رأيته متمردًا عاتيًا بعيدًا عن الخير، فأعرِض عنه واجتهد أن تتحول من جواره، فقد تقدَّم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- تعوذ من جار السوء في دار الإقامة.
- فإن كان جارك دَيُّوثًا، أو قليل الغَيرة، أو حريمه على غير الطريق المستقيم؛ فتحوَّل عنه، أو فاجتهد ألا يُؤذوا زوجتك؛ فإن في ذلك فسادًا كثيرًا، وخَف على نفسك المسكينة، ولا تدخل منزله، واقطع الود بكل ممكن.
- فإن كان جارك رافضيًّا أو صاحب بدعة كبيرة، فإن قدرتَ على تعليمه وهدايته، فاجتهد، وإن عجزت، فانجمع عنه ولا تواده ولا تصافه، ولا تكن له مصادقًا ولا معاشرًا، والتحول عنه أَوْلى.
- فإن كان جارك يهوديًّا أو نصرانيًّا في الدار أو السوق أو البستان، فجاوره بالمعروف ولا تؤذه.
" فيجوز زيارته في مرضه، أما عند الموت فلا يُعزي فيه؛ لحديث علي -رضي الله عنه- لما مات أبو طالب، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (*اذْهَبْ *فَوَارِهِ) (رواه أحمد والنسائي، وصححه الألباني)، فلم يعزه.
- فأما مَن جعَل إجابة دعوتهم دَيْدنه، وعاشرهم وباسطهم، ومِن ذلك زيارتهم في الأعياد وتهنئتهم بها، فلا يجوز؛ لأن فيها إقرارًا ضمنيًّا على ما أصاب دينهم من تحريف وأعيادهم -كما لا يخفى-، فمَن فعَل ذلك فإن إيمانه يرقُّ، وقد قال -تعالى-: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) (المجادلة: 22).
- فإن انضاف إلى جواره كونه مِن قرابتك أو ذا رحمك؛ فهذا حقه آكَدُ.
- وكذا إن كان أحد أبويك ذميًّا، فإن للأبوين وللرحم حقًّا فوق حقوق الجوار؛ فأعطِ كلَّ ذي حق حقَّه.
- وكذا رد السلام، فلا تبدأ أحدًا من هؤلاء -اليهود والنصارى- بالسلام أصلًا، وإذا سلَّم أحدٌ منهم عليك، فقل: وعليكم، أما كيف أصبحت؟ وكيف أمسيت؟ فهذا لا بأس به، وأن تقول بغير إسراف ولا مبالغة في الرد؛ قال -تعالى-: (فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) (المائدة: 54).
فالمؤمن يتواضع للمؤمنين ويتذلَّل لهم، ويتعزز على الكافرين ولا يتضاءل لهم؛ تعظيمًا لحُرمة الإسلام وإعزازًا للدِّين، من غير أن يؤذيهم ولا يودهم كما يود المسلم".
ابو وليد البحيرى
2023-05-04, 10:44 PM
الكبائر (13)
الربا
(موعظة الأسبوع)
كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
- المقدمة:
- الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة التي ضمن الله لمَن اجتنبها في الدنيا الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
- الربا من أكبر الكبائر وأشنع الجرائم؛ لما له مِن أثر عظيم في إفساد حياة الناس، وقد جاء النص على كونه من الكبائر: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ) قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا هُنَّ؟ فذكر منها: (وَأَكْلُ الرِّبَا) (متفق عليه)(1)، وسيأتي زيادة بيان حول ذلك.
(1) حكم الربا:
- جاءت شريعة الإسلام بالمقاصد العظيمة لحفظ حياة الناس، ومنها (المال): قال -تعالى-: (*وَلَا *تَأْكُلُوا *أَمْوَالَكُمْ *بَيْنَكُمْ *بِالْبَاطِلِ) (البقرة: 188).
- ومِن تشريعات منع أكل الأموال بالباطل، منع المعاملات المالية الربوية: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ) قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا هُنَّ؟ فذكر منها: (وَأَكْلُ الرِّبَا).
- وقد كان تحريم الربا مِن الأحكام المبكرة حيث نزل التنفير منه في العهد المكي: قال الله -تعالى-: (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) (الروم: 39).
- وفي العهد المدني كان التحريم صراحة للقليل والكثير منه: قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (آل عمران: 130)، وقال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) (البقرة: 278-279)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الرِّبا ثَلاَثَةٌ وَسَبْعُونَ بَاباً أَيْسَرُها مِثْلُ أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ أُمَّهُ، وَإِنَّ أَرْبَى الرِّبا عِرْضُ الرَّجُلِ المُسْلِمِ) (رواه الحاكم في المستدرك، وصححه الألباني).
- ومع كمال الشريعة وإتمام النعمة، كان التأكيد على تحريمه في ختام حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في خطبة الوداع: (وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا: رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؛ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ) (رواه مسلم).
(2) حكمة تحريم الربا:
- الإسلام يدعو إلى التعاون والتراحم والإيثار والاحتساب بيْن المؤمنين: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ) (رواه مسلم).
- المعاملات الربوية تفسد العلاقات بيْن أفراد المجتمع، ولا سيما الجانب المالي.
وذلك مِن وجوه:
1- الربا يؤدي إلى التباغض والعداوة بين أفراد المجتمع حيث استغلال جهة لجهة.
2- الربا يؤدي إلى خلق طبقة مترفة لا تعمل شيئًا؛ لأنها تنمو على حساب المحتاجين.
3- الربا يسبب الاضطراب في التجارة والأسواق، حيث تتفاوت النسب الربوية بين المتعاملين، بما يؤدي إلى عدم الاستقرار.
4- الربا طريقة خبيثة لتدمير الشعوب والبلاد: "يهود يثرب، ويهود فلسطين وإغراقهم أهل الديار بالديون ثم الاستعمار والاحتلال".
(3) عاقبة المتعاملين بالربا في الدنيا والآخرة:
أولًا: في الدنيا:
- المتعامل بالربا ملعون هو وكل مَن سَهَّل له طريق الربا: عن جابر -رضي الله عنه- قال: لَعَنَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- آكِلَ الرِّبَا، وَمُؤْكِلَهُ، وَكَاتِبَهُ، وَشَاهِدَيْهِ"، وَقَالَ: (هُمْ سَوَاءٌ) (رواه مسلم).
- المتعامل بالربا لا يُستجاب دعاؤه؛ لأن كسبه مِن حرام: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا، إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (المؤمنون: 51)، وَقَالَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) (البقرة: 172)، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟) (رواه مسلم).
- المتعامل بالربا متوعد بذهاب بركة المال، وحلول الخراب والوبال؛ فهو في حرب مع مَن له جنود السماوات والأرض، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) (البقرة: 278-279)، وقال الله -تعالى-: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) (البقرة: 276)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الرِّبَا وَإِنْ كَثُرَ، فَإِنَّ عَاقِبَتَهُ تَصِيرُ إِلَى قُلٍّ) (رواه أحمد، وصححه الألباني). (اسألوا عنابر السجون الممتلئة بمَن عجزوا عن سداد الديون الربوية أو استدانوا بسببها، ثم عجزوا عن السداد).
ثانيًا: في الآخرة:
- المتعامل بالربا متوعد بالنار: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (كُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ، فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ) (رواه الطبراني، وصححه الألباني).
- المتعامل بالربا معذَّب في قبره إلى يوم القيامة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّهُ أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتِيَانِ، وَإِنَّهُمَا ابْتَعَثَانِي، وَإِنَّهُمَا قَالاَ لِي انْطَلِقْ، وَإِنِّي انْطَلَقْتُ مَعَهُمَا... فَانْطَلَقْنَا، فَأَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ -حَسِبْتُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ- أَحْمَرَ مِثْلِ الدَّمِ، وَإِذَا فِي النَّهَرِ رَجُلٌ سَابِحٌ يَسْبَحُ، وَإِذَا عَلَى شَطِّ النَّهَرِ رَجُلٌ قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ حِجَارَةً كَثِيرَةً، وَإِذَا ذَلِكَ السَّابِحُ يَسْبَحُ مَا يَسْبَحُ، ثُمَّ يَأْتِي ذَلِكَ الَّذِي قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ الحِجَارَةَ، فَيَفْغَرُ لَهُ فَاهُ فَيُلْقِمُهُ حَجَرًا فَيَنْطَلِقُ يَسْبَحُ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِ كُلَّمَا رَجَعَ إِلَيْهِ فَغَرَ لَهُ فَاهُ فَأَلْقَمَهُ حَجَرًا، قَالَ: قُلْتُ لَهُمَا: مَا هَذَانِ؟ قَالَ: قَالاَ لِي: انْطَلِقِ انْطَلِقْ...) إلى أن قال: (قُلْتُ لَهُمَا: فَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ مُنْذُ اللَّيْلَةِ عَجَبًا، فَمَا هَذَا الَّذِي رَأَيْتُ؟ قَالَ: قَالاَ لِي: أَمَا إِنَّا سَنُخْبِرُكَ... وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يَسْبَحُ فِي النَّهَرِ وَيُلْقَمُ الحَجَرَ، فَإِنَّهُ آكِلُ الرِّبَا) (رواه البخاري).
خاتمة:
- أيها المسلم، احذر الدعوات الزائفة لترويج الربا تحت مسميات كاذبة: "فائدة - أرباح - استثمار - عائد - ونحوها"؛ فإنك مسئول عن كلِّ مليم أخذته أو أعطيته، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ... وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
- أيها المسلم... احذر الفتاوى الفاسدة لعلماء السوء؛ فأنتَ المسئول وحدك يوم القيامة: قال الله -تعالى-: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) (المدثر: 38)، وقال: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ) (عبس: 34).
فاللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمَّن سواك.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــ
(1) الإشارة إلى إقدام كثيرٍ مِن الناس على المعاملات الربوية كحلول للخروج مِن الأزمة الاقتصادية عند الآخذ، وكاستغلال للأزمة عند المعطي: "صور مِن ذلك: القروض الربوية - تمويل جهات للمشروعات الصغيرة أو الكبيرة بمعاملة ربوية - حبس كثير مِن الأغنياء أموالهم في البنوك الربوية بحجة الأمان والضمان - مضاربات وهمية بيْن الأفراد - قلب الدَّين على المعسر (فائدة على التأخير - وغير ذلك)".
ابو وليد البحيرى
2024-04-25, 07:21 PM
الكبائر (14)
الرشوة
(موعظة الأسبوع)
كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
المقدمة:
- الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضَمِن الله لمَن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
- الرشوة من الكبائر العظام، والمنكرات الجسام؛ لما لها من أثر عظيم في إفساد حياة الناس، وقد جاء النص على كونها من الكبائر: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- *الرَّاشِيَ *وَالمُرْتَشِيَ"(1) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
تحريم الرشوة، وبيان أثرها:
- جاء الإسلام بعقيدة وشريعة تدل على أن الأرزاق مقدَّرة، وأن على الإنسان أن يسعى في الأسباب المشروعة للكسب الحلال: قال -تعالى-: (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَه َا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) (هود: 6)، وقال -تعالى-: (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) (الزخرف: 32)، وقال: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُور) (15: الملك)، وقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) (البقرة: 168).
- وحرَّم الإسلام الكسب الحرام على أي صورة كانت، ورتَّب على ذلك العقوبة الشديدة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا يدخُلُ الجنَّةَ لَحمٌ نبَت مِن سُحْتٍ، وكلُّ لَحمٍ نبَت مِن سُحتٍ فالنَّارُ أَوْلَى بِهِ) (رواه الترمذي وابن حبان، وصححه الألباني). قال القاري في المرقاة: "السحت: الحرام الشامل للربا والرشوة وغيره"(2).
- لقد حرم الإسلام هدايا العمال، واعتبرها من الرشوة المقنعة؛ فكيف بالرشوة الفاجرة الصريحة؟! عن أبي حميد الساعدي قال: اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَجُلًا مِنَ الْأَسْدِ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ، عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا لِي، أُهْدِيَ لِي، قَالَ: فَقَامَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الْمِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: (مَا بَالُ عَامِلٍ أَبْعَثُهُ فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي، أَفَلَا قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ فِي بَيْتِ أُمِّهِ حَتَّى يَنْظُرَ أَيُهْدَى إِلَيْهِ أَمْ لَا، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَنَالُ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْهَا شَيْئًا، إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ: بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ، *أَوْ *بَقَرَةٌ *لَهَا *خُوَارٌ، أَوْ شَاةٌ تَيْعَرُ. ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَيْ إِبْطَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ) مَرَّتَيْنِ. (متفق عليه).
وعن عدي بن عميرة قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنِ اسْتَعْمَلْنَاه ُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ *فَكَتَمَنَا *مِخْيَطًا *فَمَا *فَوْقَهُ، كَانَ غُلُولًا يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). قَالَ: فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ أَسْوَدُ مِنَ الْأَنْصَارِ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، اقْبَلْ عَنِّي عَمَلَكَ، قَالَ: (وَمَا لَكَ؟)، قَالَ: سَمِعْتُكَ تَقُولُ: كَذَا وَكَذَا، قَالَ: (وَأَنَا أَقُولُهُ الْآنَ، مَنِ اسْتَعْمَلْنَاه ُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَلْيَجِئْ بِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، فَمَا أُوتِيَ مِنْهُ أَخَذَ، وَمَا نُهِيَ عَنْهُ انْتَهَى) (رواه مسلم)(3).
- ولقد شاعت الرشوة الصريحة في هذا الزمان، وسمَّاها الناس بأسماء تروجها: (إكرامية - هدية - حلاوة - أتعاب -...)، وتنافسوا في طرقها ووسائلها دون مبالاة بآثارها وعواقبها! قال -تعالى-: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِين َ أَعْمَالًا . الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) (الكهف: 103- 104)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَيَأْتِيَنَّ علَى النَّاسِ زَمانٌ، لا يُبالِي المَرْءُ بما أخَذَ المالَ، أمِنْ حَلالٍ أمْ مِن حَرامٍ) (رواه البخاري).
- إشارة إلى بعض الآثار السيئة لشيوع الرشوة على بعض الجوانب: (المشروعات الإنتاجية الفاسدة - تهريب المخدرات والسلاح وتهديد أمن البلاد - دخول الأدوية والأغذية الفاسدة - تهميش الكفاءات وصعود الراشين - شيوع الحقد والكراهية بسب الظلم الناتج عن الرشوة -....).
- عاقبة المتعاملين بالرشوة في الدنيا والآخرة:
أولًا: في الدنيا:
- المتعامل بالرشوة ملعون، بعيد عن رحمة الله(4): عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- *الرَّاشِيَ *وَالمُرْتَشِيَ فِي *الحُكْمِ" (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
- المتعامل بالرشوة ممحوق بركة المال والحال، كما هو حال كل آكل للحرام: قال -تعالى-: (*يَمْحَقُ *اللَّهُ *الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) (البقرة: 276)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الْحَلِفُ مَنْفَقَةٌ لِلسِّلْعَةِ، مَمْحَقَةٌ لِلْبَرَكَةِ) (متفق عليه).
- المتعامل بالرشوة مقطوع الصلة بربه؛ لأنه محروم من استجابة دعائه: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أَيُّها النَّاسُ، إنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلَّا طَيِّبًا) ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أشْعَثَ أغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السَّماءِ: يا رَبِّ، يا رَبِّ، ومَطْعَمُهُ حَرامٌ، ومَشْرَبُهُ حَرامٌ، ومَلْبَسُهُ حَرامٌ، وغُذِيَ بالحَرامِ، فأنَّى يُسْتَجابُ لذلكَ؟! (رواه مسلم). وروي في الحديث: "يا سعدُ، أَطِبْ مَطْعَمَكَ تَكُنْ مُستَجابَ الدَّعوةِ" (رواه الطبراني). وعن وهب بن مُنبِّه قال: "مَن سرَّه أنْ يستجيب الله دعوته، فليُطِب طُعمته" (جامع العلوم والحكم).
ثانيا: في الآخرة:
- المتعامل بالرشوة ملعون، بعيد عن رحمة الله في الدنيا؛ فكيف بحاله في الآخرة؟! قال -تعالى-: (وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرً) (النساء: 52).
- المتعامل بالرشوة مفضوح يوم القيامة بكل رشوة أخذها: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ *حَتَّى *يُسْأَلَ *عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ؟) (رواه الترمذي، وصححه الألباني). وقال -عليه الصلاة والسلام-: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَنَالُ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْهَا شَيْئًا، إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ: بَعِيرٌ لَهُ *رُغَاءٌ، *أَوْ *بَقَرَةٌ *لَهَا *خُوَارٌ، أَوْ شَاةٌ تَيْعَرُ) (متفق عليه).
- المتعامل بالرشوة مستحق لعذاب جهنم: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا يدخُلُ الجنَّةَ لَحمٌ نبَت مِن سُحْتٍ وكلُّ لَحمٍ نبَت مِن سُحتٍ فالنَّارُ أَوْلَى بِهِ) (رواه الترمذي وابن حبان، وصححه الألباني).
- خاتمة: هل للمتعامل بالرشوة توبة؟
- الله -عز وجل- يتوب على كلِّ عاصٍ إذا تاب توبة صادقة صحيحة: قال الله -تعالى-: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزمر: 53).
- توبة المتعامل بالرشوة لا بد فيها من إصلاح ما أفسد، وأن يخرج من المال الحرام الذي أخذه برده في مصالح المسلمين: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ *كَانَتْ *عِنْدَهُ *مَظْلِمَةٌ *لِأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْ هُ مِنْهَا، *فَإِنَّهُ *لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ) (رواه البخاري).
- إشارة في الختام مرة أخرى إلى أن الأرزاق قد كتبت وقسمت، وأنك لن تأخذ إلا ما قسمه الله لك؛ فاحرص على أخذه بالحلال، وارضَ بما قسم الله لك: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اتَّقوا اللهَ، وأجمِلُوا في الطَّلَبِ، ولا يَحمِلَنَّ أحدَكم استبطاءُ الرِّزقِ أن يطلُبَه بمَعصيةِ اللهِ، فإنَّ اللهَ -تعالى- لا يُنالُ ما عندَه إلَّا بِطاعَتِهِ) (رواه ابن ماجه والحاكم، وصححه الألباني)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاس) (رواه أحمد والترمذي، وحسنه الألباني).
فاللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمَّن سواك.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــــ
(1) الرشوة: هي ما يُعطى لإبطال حق، أو لإحقاق باطل. والراشي هو دافع الرشوة، والمرتشي هو آخذها وقابضها، والرائش الوسيط بين الراشي والمرتشي. قال العلماء -رحمهم الله-: "وإنما تلحق اللعنة الراشي إذا قصد بها أذية مسلم أو ينال بها ما لا يستحق، أما إذا أعطى ليتوصل إلى حقٍّ له، ويدفع عن نفسه ظلمًا؛ فإنه غير داخل في اللعنة، وأما الحاكم فالرشوة عليه حرام أبطل بها حقًّا أو دفع بها ظلمًا" (الكبائر للذهبي).
(2) يأتي هنا السؤال: لماذا كان أكل الحرام له كل هذا التأثير؟ والجواب: أن الإنسان إذا كان كسبه من حرام، فَسَد كلُّ حاله؛ فطعامه وشرابه سيكون من الحرام، ونكاحه سيكون من الحرام، وحجه، إلخ.
(3) من أسباب انتشار الرشوة: شبهة بعض الموظفين أن الراتب الوظيفي ضعيف لا يكفي! ولا يدري أن العقد الوظيفي ملزم، وإلا طالب بالزيادة الحلال أو الفراق.
(4) المرتشي خصوصًا يكون في حالة من الذل والحقارة ما يجعله يتوارى ويخفي فعله بكل الوسائل، ولا يحب أن يقال له: "فلان المرتشي".
ابو وليد البحيرى
2024-04-25, 07:24 PM
الكبائر (15)
الرياء
(موعظة الأسبوع)
كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
المقدمة:
- الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة التي ضَمِن الله لمَن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
- الرياء من كبائر الأعمال، والمنكرات الجسام، وقبيح الخصال، وقد ورد فى حقه شديد العقاب والوبال: عن محمود بن لبيد -رضي الله عنه-: أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إِنَّ *أَخْوَفَ *مَا *أَخَافُ *عَلَيْكُمُ *الشِّرْكُ *الْأَصْغَرُ) قَالُوا: وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: (الرِّيَاءُ، يَقُولُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِذَا جُزِيَ النَّاسُ بِأَعْمَالِهِمْ : اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ فِي الدُّنْيَا فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً؟)، وفي لفظ: (أَيُّهَا النَّاسُ، إِيَّاكُمْ *وَشِرْكَ *السَّرَائِرِ) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا شِرْكُ السَّرَائِرِ؟ قَالَ: (يَقُومُ الرَّجُلُ فَيُصَلِّي، فَيُزَيِّنُ صَلَاتَهُ جَاهِدًا لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ النَّاسِ إِلَيْهِ؛ فَذَلِكَ شِرْكُ السَّرَائِرِ) (رواه ابن جزيمة، وحسنه الألباني).
- والرِّياء هو: إظهار العبادة بقصد رؤية الناس لها؛ ليحمدوا صاحبها ويثنوا عليه: قال القرطبي -رحمه الله-: "وحقيقة الرِّياء طلب ما في الدنيا بالعبادة، وأصله: طلب المنزلة في قلوب الناس".
(1) أثر الرياء على العبد في الدنيا والآخرة:
- الرياء من الكبائر التي ورد فيها الوعيد الشديد لصاحبها: قال الله -سبحانه-: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ . الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ . الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ . وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) (الماعون: 4 - 7).
- الرياء جهل بقدر وقدرة الجليل العظيم حيث يطلب المرائي على عمله نظر المخلوقين: قال -تعالى-: (*وَمَا *قَدَرُوا *اللَّهَ *حَقَّ *قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) (الزمر: 67). قال قتادة: "إذا راءى العبد، قال الله: انظروا إلى عبدي كيف يستهزئ بي؟!" (الكبائر للذهبي).
- المرائي معذَّب القلب والبال، بانتظاره ثناء المخلوقين: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: («*مَنْ *سَمَّعَ *سَمَّعَ *اللَّهُ *بِهِ *وَمَنْ *يُرَائِي *يُرَائِي *اللَّهُ *بِهِ) (متفق عليه).
قال الخطابي -رحمه الله-: "معناه: مَن عمل عملًا على غير إخلاص، وإنما يريد أن يراه النّاس ويَسْمَعُوه، جُوزيَ على ذلك بأن يُشهّرَه الله ويَفضَحَه ويُظهِرَ ما كان يُبْطِنه".
- المرائي عمله باطل بلا أجر ولا ثواب(1): (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) (البقرة: 264)، عن أبي هُريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: *أَنَا *أَغْنَى *الشُّرَكَاءِ *عَنِ *الشِّرْكِ، *مَنْ *عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ) (رواه مسلم).
وخرَّج النسائي بإسنادٍ جيدٍ عن أبي أُمَامة الباهلي قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلًا غَزَا يَلْتَمِسُ الْأَجْرَ وَالذِّكْرَ مَا لَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (لَا شَيْءَ لَهُ) فَأَعَادَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (لَا شَيْءَ لَهُ)، ثُمَّ قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ) (رواه النسائي، وحسنه الألباني).
- لذا كان الرياء من أعظم وسائل الشيطان لإفساد أعمال كثير من العباد، وإهلاكهم يوم القيامة: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (*إِنَّ *أَوَّلَ *النَّاسِ *يُقْضَى *يَوْمَ *الْقِيَامَةِ *عَلَيْهِ: رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ جَرِيءٌ فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ. وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ. وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ) (رواه مسلم).
إنكار السلف على مَن ظهرت منهم علامات الرياء:
- قال الذهبي -رحمه الله-: "وروي أن عمر بن الخطاب نظر إلى رجل وهو يطاطئ رقبته، فقال: يا صاحب الرقبة ارفع رقبتك، ليس الخشوع فى الرقاب، إنما الخشوع فى القلوب. وقيل: إن أبا أمامة الباهلي أتى على رجل في المسجد وهو ساجد يبكي في سجوده ويدعو، فقال له: أنت، أنت! لو كان هذا فى بيتك؟! وقال محمد بن المبارك الصوري: أظهر السمت بالليل؛ فإنه أشرف من إظهاره بالنهار؛ لأن السمت بالنهار للمخلوقين، والسمت بالليل لرب العالمين" (الكبائر).
- بل قد حدَّدوا للمرائي علامات وتصرفات: قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "للمرائي ثلاث علامات: يكسل إذا كان وحده، وينشط إذا كان فى الناس، ويزيد في العمل إذا أُثنِي عليه، وينقص إذا ذُم به".
(2) الإخلاص دواء الرياء:
- أوجب الله الإخلاص شرطًا لقبول الأعمال الصالحة: قال الله -تعالى-: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) (الكهف: 110). قال الطبَري -رحمه الله-: (فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا) يقول: فلْيُخلص له العبادة، وليُفرد له الربوبية، (وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) يقول: ولا يجعل له شريكًا في عبادته إياه؛ وإنما يكون جاعلًا له شريكًا بعبادته إذا راءى بعمَله الذي ظاهره أنه لله، وهو مُريدٌ به غيرَه".
- عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يَحْرِصَ عَلَى إِخْفَاءِ الْعَمَلِ، وَمُدَافَعَةِ الرياء، و طلب الأجر من الله وحده: قال الله -تعالى-: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين) (الأنعام: 162). وقال العز بن عبد السلام: "الإخلاص أن يفعل المكلف الطاعة خالصة لله وحده، لا يريد بها تعظيمًا من الناس، ولا توقيرًا، ولا جلب نفع ديني، ولا دفع ضرر دنيوي". وقال يعقوب المكفوف: "المخلص: مَن يكتم حسناتِه كما يكتم سيئاتِه". وسُئل التستري: "أي شيء أشد على النفس؟! قال: الإخلاص؛ لأنه ليس لها فيه نصيب". وقال سفيان الثوري: "ما عالجتُ شيئًا أشد عليَّ من نيتي؛ إنها تتقلبُ عليّ".
- جزاء الإخلاص الخلاص من الكربات في الدنيا والآخرة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (*سَبْعَةٌ *يُظِلُّهُمُ *اللهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَدْلٌ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ، فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ) (متفق عليه).
(3) خاتمة: تساؤلات مهمة:
هل الفرح بثناء الناس من الرياء؟
الجواب: إن كان ذلك من غير سعي وتكلف؛ فليس من الرياء، بل هو من الخير. فعن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ مِنَ الْخَيْرِ وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: (*تِلْكَ *عَاجِلُ *بُشْرَى *الْمُؤْمِنِ) (رواه مسلم). وسأل رجلٌ سعيدَ بن المسيّب -رحمه الله- فقال: "إنَّ أحدَنا يصطنع المعروفَ يُحِب أن يُحمَد ويؤجَر، فقال له: أتحبُّ أن تُمقت؟ قال: لا، قال: فإذا عملتَ لله عملاً فأخْلِصْه".
هل هناك ما نتعوذ به من الرياء بعد التوبة والإخلاص؟
الجواب: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الشِّرْكُ فِيكُمْ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ، وَسَأَدُلُّكَ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتَهُ أَذْهَبَ اللَّهُ عَنْكَ صِغَارَ الشِّرْكِ وَكِبَارَهُ؛ تَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُك َ لِمَا لَا أَعْلَمُ) (أخرجه الحكيم الترمذي، وحسنه الألباني).
فاللهم طهِّر قلوبنا من الرياء وحب السُّمعة، واجعل أعمالنا وأقوالنا ونياتنا خالصة لوجهك الكريم.
وصلِّ اللهم وسلِّم وبارك على نببنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــ ــــــ
(1) فائدة:
الرياء والعمل لغير الله أقسام:
1- فتارة يكون الرياء محضًا، بحيث لا يراد به سوى مراءاة المخلوقين لغرض دنيوي، كحال المنافقين في صلاتهم، كما قال الله -عز وجل-: (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا) (النساء:142)، وهذا الرياء المحض لا يكاد يصدر من مؤمن في فرض الصلاة والصيام، وقد يصدر في الصدقة الواجبة أو الحج، وغيرهما من الأعمال الظاهرة أو التي يتعدى نفعها، فإن الإخلاص فيها عزيز، وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابط، وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة.
2- وتارة يكون العمل لله، ولكن يشاركه الرياء: فإن شاركه في أصله، فالنصوص الصحيحة تدل على بطلانه وحبوطه أيضًا كما في الأحاديث السابقة، كقوله -صلى الله عليه وسلم-: (*أَنَا *أَغْنَى *الشُّرَكَاءِ *عَنِ *الشِّرْكِ)، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ).
3- وأما إن كان أصل العمل لله، ثم طرأت عليه نية الرياء؛ فإن كان خاطرًا فدفعه، فلا يضره بغير خلاف، وإن استرسل معه، فمحل تفصيل بين العلماء: هل يحبط به عمله أم لا يضره ذلك، ويُجازَى على أصل نيته؟
ابو وليد البحيرى
2024-04-25, 07:24 PM
الكبائر (16)
التبرج
(موعظة الأسبوع)
كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
- المقدمة:
- الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضَمِن الله لمَن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
- التبرج(1) من الكبائر العظام، والمنكرات الجسام، وقد جاء فيه الوعيد الشديد: قال النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (*صِنْفَانِ *مِنْ *أَهْلِ *النَّارِ *لَمْ *أَرَهُمَا: قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ(2)، مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ، رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ، لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا) (رواه مسلم).
خطر التبرج في الدنيا والآخرة:
- التبرج كبيرة ومن أخلاق الجاهلية: ففي حديث أميمة بنت رُقَيْقَةَ -رضي الله عنها- حينما جاءت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تبايعه على الإسلام فقال: (أُبَايِعُكِ عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكِي بِاللهِ شَيْئًا، وَلَا تَسْرِقِي وَلَا تَزْنِي، وَلَا تَقْتُلِي وَلَدَكِ، وَلَا تَأْتِي بِبُهْتَانٍ تَفْتَرِينَهُ بَيْنَ يَدَيْكِ وَرِجْلَيْكِ، وَلَا تَنُوحِي، وَلَا تَبَرَّجِي تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) (رواه أحمد، وحسنه الألباني).
- التبرج نفاق، ومخالفة لصدق الانتماء لدين الإسلام: عن أبي أذينة الصدفي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (*خَيْرُ *نِسَائِكُمُ *الْوَدُودُ *الْوَلُودُ، *الْمُوَاتِيَةُ *الْمُوَاسِيَةُ إِذَا اتَّقَيْنَ اللهَ، وَشَرُّ نِسَائِكُمُ الْمُتَبَرِّجَا تُ الْمُتَخَيِّلَا تُ، وَهُنَّ الْمُنَافِقَاتُ ، لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْهُنَّ إِلَّا مِثْلُ الْغُرَابِ الْأَعْصَمِ)(3) (أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، وصححه الألباني).
- التبرج يستجلب اللعن على صاحبته، فتمشي في سخط الله ولعنته: فقد روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (سَيَكُونُ *فِي *آخِرِ *أُمَّتِي *رِجَالٌ *يَرْكَبُونَ *عَلَى *سُرُوجٍ، *كَأَشْبَاهِ *الرِّجَالِ *يَنْزِلُونَ *عَلَى *أَبْوَابِ *الْمَسَاجِدِ؛ نِسَاؤُهُمْ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ، عَلَى رُءُوسِهِمْ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْعِجَافِ، الْعَنُوهُنَّ فَإِنَّهُنَّ مَلْعُونَاتٌ، لَوْ كَانَتْ وَرَاءَكُمْ أُمَّةٌ مِنَ الأُمَمِ لَخَدَمْنَ نِسَاؤُكُمْ نِسَاءَهُمْ كَمَا يَخْدُمْنَكُمْ نِسَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمْ) (رواه أحمد وابن حبان، وحسنه الألباني).
- التبرج سبب في انتشار الفواحش، وذهاب الحياء، وتفشي الجرائم والدياثة، وإثارة الغرائز، وغير ذلك من المنكرات (حادثة فتاة العتبة في شهر رمضان - حوادث التحرش التي لا تُحصَى - ... ): خطب علي بن أبي طالب في الناس يومًا، فقال: "ألا تستحيون؟ ألا تغارون؟ يترك أحدكم امرأته بين الرجال تنظر إليهم، وينظرون إليها"، وفي رواية: "إنه لا خير فيمن لا يغار".
- التبرج سبب في نزول البلاء والكوارث والعقوبات: عن زينب أم المؤمنين: أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ عَلَيْهَا فَزِعًا، يقولُ: (لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ! ويْلٌ لِلْعَرَبِ مِن شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ؛ فُتِحَ اليومَ مِن رَدْمِ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ مِثْلُ هذِه). وحَلَّقَ بإصْبَعِهِ الإبْهَامِ والَّتي تَلِيهَا، قالَتْ زَيْنَبُ بنْتُ جَحْشٍ: فَقُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، أَنَهْلِكُ وفينَا الصَّالِحُونَ؟ قالَ: (نَعَمْ؛ إذَا كَثُرَ الخَبَثُ) (متفق عليه)، وقال -تعالى-: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) (الأنفال: 25).
الحجاب في مواجهة التبرج:
- جاء الإسلام بالعفة والستر، فحذَّر من فتنة النساء أشد التحذير: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ) (آل عمران: 14)، عن أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَا *تَرَكْتُ *بَعْدِي *فِتْنَةً *هِيَ *أَضَرُّ *عَلَى *الرِّجَالِ *مِنَ *النِّسَاءِ) (متفق عليه)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (*إِنَّ *الدُّنْيَا *حُلْوَةٌ *خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللهَ مُسْتَخْلِفُكُم ْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا، وَاتَّقُوا النِّسَاءَ فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ) (رواه مسلم)(4).
- وجعل الإسلام التدابير الكثيرة لسدِّ فتنة المرأة، ومنها: فرض الحجاب، وتحريم التبرج: قال -تعالى- لخير النساء: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا . وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (الأحزاب: 32- 33)، وقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ) (الأحزاب: 59).
وعن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: "لَمَّا نَزَلَتْ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ، خَرَجَ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِهِنَّ الْغِرْبَانَ مِنْ الْأَكْسِيَةِ" (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
صورة مشرقة في العفة والتصون:
- غيرة الزبير -رضي الله عنه-: ذكر أبو عمر في التمهيد: أن عمر -رضي الله عنه- لما خطب عاتكة بنت زيد، شرطت عليه ألا يضربها، ولا يمنعها من الحق، ولا من الصلاة في المسجد النبوي، ثم شرطت ذلك على الزبير، فتحيل عليها أن كَمَن لها لما خرجت إلى صلاه العشاء، فلما مَرَّت به ضرب على عجيزتها، فلما رجعت قالت: "إنا لله! فَسَد الناس، فلم تخرج بعد" (نقلًا عن عودة الحجاب).
- غيرة رجل صالح، ذكر ابن كثير -رحمه الله- في حوادث سنة 286 هـ قال: "من عجائب ما وقع من الحوادث في هذه السنة: أن امرأة تقدمت إلى قاضي الري، فادعت على زوجها بصداقها خمسمائة دينار، فأنكره، فجاءت ببينة تشهد لها به، فقال القاضي: نريد أن تسفر لنا عن وجهها حتى نعلم أنها الزوجة أم لا؟ فلما صمموا على ذلك قال الزوج: لا تفعلوا، هي صادقة فيما تدعيه. فأقر بما ادَّعت ليصون زوجته عن النظر إلى وجهها، فقالت المرأة حين عرفت ذلك منه -وأنه إنما أقر ليصون وجهها عن النظر-: هو في حلٍّ من صداقي عليه في الدنيا والآخرة. وزاد الحافظ السمعاني في الأنساب: "فقال القاضي وقد أعجب بغيرتهما: يكتب هذا في مكارم الأخلاق" (البداية والنهاية).
خاتمة:
- أيتها المسلمة... احذري التبرج، وكذا الحجاب المقنع.
- أولياء النساء... أنتم مسئولون كذلك؛ إن دافع الغيرة وحده عندكم كفيل بحفظ النساء وأمرهن بالحجاب الشرعي؛ فكيف إذا انضاف إليه الأمر الشرعي من رب العالمين، قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ *يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) (الأحزاب: 59)، وقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ *وَأَهْلِيكُمْ *نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) (التحريم: 6)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (كُلُّكُمْ *رَاعٍ، *وَكُلُّكُمْ *مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ *اللهَ *سَائِلٌ *كُلَّ *رَاعٍ *عَمَّا *اسْتَرْعَاهُ، أَحَفِظَ ذَلِكَ أَمْ ضَيَّعَ؟ حَتَّى يُسْأَلَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ) (رواه ابن حبان، وحسنه الألباني).
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــ ـــــــــ
(1) التبرج: هو أن تُظهر المرأة للرجال الأجانب -الذين ليسوا من محارمها- ما يوجب عليها الشرع أن تستره من زينتها ومحاسنها، وهذا مجمل ما شرح به هذه الكلمة أكابر علماء اللغة والتفسير؛ قال مجاهد، وقتادة، وابن أبي نجيح: "التبرج هو المشي بتبختر، وتكسر، وتغنج". وقال مقاتل: "هو أن تُلقي المرأة خمارها على رأسها، ولا تشده فيواري قلائدها، وقرطها، وعنقها"، وفسَّره المبرد بقوله: "أن تُبدي من محاسنها ما يجب عليها ستره"، وفسره أبو عبيدة بقوله: "أن تُخرج من محاسنها ما تستدعي به شهوة الرجال".
(2) قال النووي في المراد من ذلك: "أما (الكَاسِيَاتٌ العَارِيَاتٌ): فمَعْنَاهُ: تَكْشِف شَيْئًا مِنْ بَدَنهَا إِظْهَارًا لِجَمَالِهَا، فَهُنَّ كَاسِيَات عَارِيَات. وقيل: يَلْبَسْنَ ثِيَابًا رِقَاقًا تَصِف مَا تَحْتهَا، كَاسِيَات عَارِيَات فِي الْمَعْنَى. وَأَمَّا (مَائِلَاتٌ مُمِيلَاتٌ): فَقِيلَ: زَائِغَات عَنْ طَاعَة اللَّه -تعالى-، وَمَا يَلْزَمهُنَّ مِنْ حِفْظ الْفُرُوج وَغَيْرهَا، وَمُمِيلَات يُعَلِّمْنَ غَيْرهنَّ مِثْل فِعْلهنَّ. وَقِيلَ: مَائِلَات مُتَبَخْتِرَات فِي مِشْيَتهنَّ، مُمِيلات أَكْتَافهنَّ. وَقِيلَ: مَائِلات إِلَى الرِّجَال مُمِيلات لَهُمْ بِمَا يُبْدِينَ مِنْ زِينَتهنَّ وَغَيْرهَا. وَأَمَّا (رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ) فَمَعْنَاهُ: يُعَظِّمْنَ رُءُوسهنَّ بِالْخُمُرِ وَالْعَمَائِم، وَغَيْرهَا مِمَّا يُلَفّ عَلَى الرَّأْس، حَتَّى تُشْبِه أَسْنِمَة الإِبِل الْبُخْت، هَذَا هُوَ الْمَشْهُور فِي تَفْسِيره. قَالَ الْمَازِرِيّ: وَيَجُوز أَنْ يَكُون مَعْنَاهُ: يَطْمَحْنَ إِلَى الرِّجَال وَلا يَغْضُضْنَ عَنْهُمْ، وَلا يُنَكِّسْنَ رُءُوسهنَّ...) (شرح النووي على صحيح مسلم).
(3) الغُرَاب الأَعْصَم: الأبيض الجناحين أو الرجلين، أَرَادَ قلَّة من يدْخل الْجنَّة مِنْهُنَّ؛ لَأن هَذَا النَّعْت فِي الْغرْبَان عَزِيز.
(4) للحجاب شروط، وضعها العلماء من خلال النصوص القرآنية والسنن النبوية، وهي كالتالي:
الأول: ستر جميع بدن المرأة على الراجح.
الثاني: أن لا يكون الحجاب زينة في نفسه، بحيث لا يلفت أنظار الرجال إلى مَن تلبسه.
الثالث: أن يكون ثخينًا لا يشف حتى يستر المرأة، فالشفاف يزيد المرأة فتنة للرجال.
الرابع: أن يكون فضفاضًا واسعًا غير ضيق؛ لأن الضيق يصف حجم الجسم أو بعضه، ويزينه في أعين الناظر إليه.
الخامس: أن لا يكون مُبَخَّرًا أو مُطيَّبًا.
السادس: أن لا يشبه ملابس الكافرات؛ لحرمة التشبه بهم.
السابع: أن لا يشبه ملابس الرجال.
الثامن: أن لا يُقصد به الشهرة بين الناس.
ابو وليد البحيرى
2024-04-26, 09:57 PM
الكبائر (17)
تشبُّه الرجال بالنساء والعكس
(موعظة الأسبوع)
كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
المقدمة:
- الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضمن الله لمَن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
- تشبه الرجال بالنساء والعكس من الكبائر العظام، والمنكرات الجسام، وقد جاء فيه الوعيد الشديد: فَعَنِ ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المُتَشَبِّهِين َ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، وَالمُتَشَبِّهَ اتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ" (رواه البخاري).
- الإشارة إلى أن التشبه بين النوعين صار ظاهرة في هذا الزمان: قال -تعالى-: (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ) (سبأ: 20).
طبيعة خلق الإنسان:
- خلق الله الإنسان في أحسن صورة، وميَّزه وكرَّمه وفضَّله على كثيرٍ من المخلوقات: قال -تعالى-: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (التين: 4)، وقال: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُم ْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) (الإسراء: 70).
- خلق الله الرجل والمرأة، وميَّز كلًّا منهما بصفاتٍ تناسب تكوينه وفطرته (الشكل - الكلام - الأفعال - اللباس - الوظائف - ...)(1): قال -تعالى-: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) (النساء: 34)، وقال -تعالى-: (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَى) (آل عمران: 36)، وقال -تعالى- عن طبيعة النساء: (أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ) (الزخرف: 18). قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "هُنَّ النِّسَاءُ؛ فَرَّقَ بَيْنَ زِيِّهِنَّ وَزِيِّ الرِّجَالِ".
- وجعل سبحانه بين صفات النوعين حواجز؛ حتى لا يبغى أحدهما على الآخر، وكان مَن تشبَّه بالآخر مغيَّرًا لخلق الله، متبعًا لدعوة إبليس: قال -تعالى-: (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) (النساء: 32)، وقال عن دعوة إبليس: (وَلَأُضِلَّنَّ ُمْ وَلَأُمَنِّيَنّ َهُمْ وَلَآمُرَنَّهُم ْ فَلَيُبَتِّكُنّ َ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُم ْ فَلَيُغَيِّرُنّ َ خَلْقَ اللَّهِ) (النساء: 119).
- حرمة التشبه بين النوعين(2):
- بناءً على ما سبق حَرَّم الإسلام التشبه بين النوعين؛ لما فيه مِن انتكاس الفِطَر السليمة، وتغيُّر الطباع القويمة، واعتبره من الذنوب الكبيرة: قال -تعالى-: (فِطْرَتَ اللَّهِ *الَّتِي *فَطَرَ *النَّاسَ *عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) (الروم: 30)، وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المُتَشَبِّهِين َ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، وَالمُتَشَبِّهَ اتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ" (رواه البخاري).
وعنه -أيضًا- قال: "لَعَنَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المُخَنَّثِينَ مِنَ الرِّجَالِ، وَالمُتَرَجِّلا َتِ مِنَ النِّسَاءِ، وَقال: أَخْرِجُوهُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ" (رواه البخاري)، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الرَّجُلَ يَلْبَسُ لِبْسَةَ الْمَرْأَةِ، وَالْمَرْأَةَ تَلْبَسُ لِبْسَةَ الرَّجُلِ" (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
- ورتَّب الإسلام على ذلك العقوبة في الدنيا والآخرة: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أُتِيَ *بِمُخَنَّثٍ *قَدْ *خَضَبَ *يَدَيْهِ *وَرِجْلَيْهِ *بِالْحِنَّاءِ، فَقال النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: مَا بَالُ هَذَا؟ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، يَتَشَبَّهُ بِالنِّسَاءِ. فَأَمَرَ بِهِ فَنُفِيَ إِلَى النَّقِيعِ" (رواه أبو داود، وصححه الألباني). وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "لَعَنَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المُخَنَّثِينَ مِنَ الرِّجَالِ، وَالمُتَرَجِّلا َتِ مِنَ النِّسَاءِ، وَقال: أَخْرِجُوهُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ. وَأَخْرَجَ فُلاَنًا، وَأَخْرَجَ عُمَرُ فُلاَنًا" (رواه البخاري).
وقال ابن تيمية -رحمه الله-: "فَالَّذِي يُعَظِّمُ الْمُخَنَّثِينَ مِنَ الرِّجَالِ، وَيَجْعَلُ لَهُمْ مِنَ الرِّيَاسَةِ وَالْأَمْرِ عَلَى الْأَمْرِ الْمُحَرَّمِ مَا يَجْعَلُ، هُوَ أَحَقُّ بِلَعْنَةِ اللهِ وَغَضَبِهِ". وقال النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (ثَلَاثٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَلَا يَنْظُرُ اللهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْعَاقُّ بِوَالِدَيْهِ، وَالْمَرْأَةُ الْمُتَرَجِّلَة ُ، الْمُتَشَبِّهَة ُ *بِالرِّجَالِ، وَالدَّيُّوثُ...) (رواه أحمد والنسائي وصححه أحمد شاكر).
أسباب الوقوع في التشبه:
1- ضَعْفُ الْإِيمَانِ، وَغِيَابُ الْوَازِعِ الدِّينِيِّ.
2- َسُوءُ التَّرْبِيَةِ من الآباء لِلْأَبْنَاءِ.
3- حُبُّ الظُّهُورِ وَالشُّهْرَةِ.
4- َسُوءُ فَهْمِ الْحُرِّيَّةِ الشَّخْصِيَّةِ.
5- َالْبُعْدُ عَنْ صُحْبَةِ أَهْلِ الشِّيَمِ وَالْمُرُوءَاتِ ، وَمُخَالَطَةُ أصحاب السوء.
ما ينبغي أن يتنافس عليه:
- لقد شرع الله المنافسة بين الناس عمومًا (ذكورًا وإناثًا) في أعمال الخير والبر، بل ورغَّب في ذلك: قال -تعالى-: (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ) (النحل: 97)، وقال: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُو نَ) (المطففين: 26).
- أين هؤلاء المتشبهين من النوعين مِن سلفنا الصالح؟! (إشارة الى قصة إسلام مصعب بن عمير وهجرته ووفاته، وتركه مباهج الدنيا وهو ابن الطبقة الراقية! - وقصة استشهاد أم حرام بنت ملحان بعد تمنيها الشهادة مع الرجال غزاة البحر الذين بشَّر بهم النبي -صلى الله عليه وسلم-).
علاج ظاهرة التشبه:
- النَّظَرِ إِلَى أَسْبَابِ انْتِشَارِهَا، فَمَعْرِفَةُ السَّبَبِ نِصْفُ الْعِلَاجِ، ثُمَّ يَشْتَرِكُ فِي هَذَا الْعِلَاجِ، الْمُجْتَمَعُ بِكُلِّ أَطْيَافِهِ.
- فعلى الْأُسْرَةِ: اتباع سُبُلَ التَّرْبِيَةِ الصَّحِيحَةِ، وَالتَّنْشِئَةِ الصَّالِحَةِ؛ فَإِنَّ عَلَى الْوَالِدَيْنِ دَوْرًا عَظِيمًا فِي الْقَضَاءِ عَلَى هَذِهِ الظَّاهِرَةِ.
- وعَلَى الدُّعَاةِ وَأَصْحَابِ التَّأْثِيرِ: نَشْرُ الْوَعْيِ الدِّينِيِّ فِي الْمُجْتَمَعِ، وَرَبْطُ الشَّبَابِ بِرَبِّهِمْ، وَتَذْكِيرُهُمْ بِتَقْوَاهُ وَمَخَافَتِهِ، وَإِشَاعَةُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ.
- وَعَلَى الشَّبَابِ: أَنْ يَبْتَعِدُوا عَنْ قُرَنَاءِ السُّوءِ، وَمَوَاطِنِ الِاخْتِلَاطِ، وَأَنْ يَعْتَزُّوا بِرُجُولَتِهِمُ الَّتِي فَضَّلَهُمُ اللهُ بِهَا.
- وَعَلَى الدَّوْلَةِ الْمُسْلِمَةِ ِأَنْ تَضَعَ الْأَنْظِمَةَ وَالْعُقُوبَاتِ لْمُكَافَحَةِ هَذَا السُّلُوكِ الْقَبِيحِ، مَعَ التَّرْكِيزِ عَلَى بَرَامِجِ التَّثْقِيفِ وَالتَّوْعِيَةِ فِي وَسَائِلِ الْإِعْلَامِ الْمُخْتَلِفَةِ .
اللهم احفظ شباب المسلمين، واهدهم إلى ما تحب وترضى.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــ ـــــــ
(1) للرجل صفات تميِّزه مثل: قوة البدن والعضلات، وانتشار الشعر في الجسد والوجه، وخشونة الصوت والجرأة، والشجاعة، ونحو ذلك مما يناسب وظيفته في الحياة؛ فهو الذي يبني السدود ويحفر الآبار، ويكتشف المناجم ويقاوم الأعداء، ويحرس الثغور في حر الشمس وشدة البرد، وخشن العيش، وهكذا.
وأما المرأة فلها كذلك صفات تميزها، فهي: على عكس الرجل في كلِّ ما تقدَّم؛ بالإضافة إلى جمال الوجه والهيئة، وعوامل الفتنة، وطريقة المشية، وهيئة الثياب، والزينة بأنواعها: كالتحلي بالذهب والحرير، والتعطر، وغير ذلك.
(2) من مظاهر التشبه من الرجال بالنساء: لبس الذهب والحرير بصورٍ مختلفة، مثل: الأساور، والقلائد، وقص الشعور وجمعها على طريقة النساء، وارتداء الملابس المشابهة للنساء في هيئتها وألوانها، وصبغ الوجوه بالدهانات والزينات التي تشبه زينة النساء، والتحدث والممشى بطريقة تشبه النساء، وغير ذلك.
ومن مظاهر تشبه النساء بالرجال: ارتداء الملابس المشابهة للرجال في هيئتها وألوانها، وحلق الشعر بطريقة تشبه الرجال مع كشفه، ولبس الثياب التي تشبه ثياب الرجال، والتحدث بطريقة تشبه الرجال، وممارسة ألعاب رياضية لا تناسب المرأة، مثل: (كرة القدم، وحمل الأثقال، والملاكمة ونحوه)، وغير ذلك. ومن أقبح ذلك في حقِّ النوعين: محاولات التحول بعمليات التجميل من أنثى الى ذكر، والعكس!
قال الشاعر:
وَمَا عَجَبٌ أَنَّ النِّسَاءَ تَرَجَّلَتْ وَلَكِنَّ تَأْنِيثَ الرِّجَالِ عـَجِـيـبُ
ابو وليد البحيرى
2024-04-26, 10:04 PM
الكبائر (18)
المَنُّ بالمعروف
(موعظة الأسبوع)
كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
المقدمة:
- الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضمن الله لمَن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
- المَنُّ بالمعروف من الكبائر الجسام، ومنكرات الأعمال، وقبيح الخصال، وقد وَرَد في حقِّه شديد العقاب والوبال: قَالَ النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْمَنَّانُ الَّذِي لَا يُعْطِي شَيْئًا إِلَّا مَنَّهُ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْفَاجِرِ، وَالْمُسْبِلُ إِزَارَهُ) (رواه مسلم).
- المقصود بالمن بالمعروف: قال العلماء: "هُوَ: أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِ بِعَطَائِهِ، فَيَقُولَ: أَعْطَيْتُكَ كَذَا، وَيَعُدُّ نِعَمَهُ عَلَيْهِ فَيُكَدِّرُهَا. وَالْأَذَى: أَنْ يُعَيِّرَهُ فَيَقُولَ: إِلَى كَمْ تَسْأَلُ وَكَمْ تُؤْذِينِي؟ وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَذْكُرَ إِنْفَاقَهُ عَلَيْهِ عِنْدَ مَنْ لَا يُحِبُّ وُقُوفَهُ عَلَيْهِ. أَوْ أَنْ يَقُولَ: قَدْ أَعْطَيْتُكَ، وَأَعْطَيْتُ فَمَا شَكَرْتَ"(1).
(1) حاجة الناس بعضهم إلى بعض في الدنيا:
- رَفَعَ الله مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ، فَجَعَلَ حَاجَاتِ النَّاسِ إِلَيْهِمْ، فحَثّهمَ عَلَى بَذْلِ الْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْخَلْقِ: قال -تعالى-: (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ ) (الأنعام: 165)، وقال: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا) (الزخرف: 32). وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَحَبَّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ -تعالى- أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تقْضِي عَنْهُ دَيْنًا) (رواه الطبراني، وحسنه الألباني)، وقال -تعالى-: (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) (البقرة: 215)، وقال -تعالى-: (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا) (المزمل: 20)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ) (متفق عليه).
- إلا أن هناك مُبْطِلَاتٍ لِلْمَعْرُوفِ بَعْدَ بَذْلِهِ يَقَعُ فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَلَا يَشْعُرُونَ أَنَّهَا تَذْهَبُ بِمَعْرُوفِهِمْ أَدْرَاجَ الرِّيَاحِ، وَتُحِيلُ حَلَاوَتَهُ إِلَى مَرَارَةٍ، وَتَقْلِبُهُ مِنْ مَعْرُوفٍ إِلَى مُنْكَرٍ، وَذَلِكُمْ هُوَ الْمَنُّ وَالْأَذَى فِيِ مَا يَبْذُلُهُ الْعَبْدُ مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ.
(2) حرمة المن بالمعروف وعاقبته في الدنيا والآخرة:
- المن بالمعروف سبب في بطلانه، وضياع ثوابه: قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى) (البقرة: 264). وَسَمِعَ ابْنُ سِيرِينَ رَجُلًا يَقُولُ لِرَجُلٍ: "فَعَلْتُ إِلَيْكَ وَفَعَلْتُ. فَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: اسْكُتْ فَلَا خَيْرَ فِي الْمَعْرُوفِ إِذَا أُحْصِيَ" (الكبائر للذهبي). وَقَالَوا: "الْمَنُّ مَفْسَدَةُ الصَّنِيعَةِ".
- الكلام الطيب والاعتذار للسائل، أفضل من معروف يعقبه مَنٌّ وأذى: قال -تعالى-: (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ) (البقرة: 263).
- ومِن عواقب المن والأذى السيئة في الدنيا: أن فِعْلَ الْخَيْرِ لِلْغَيْرِ يَبْقَى أَثَرُهُ بِذِكْرِ صَاحِبِ الْمَعْرُوفِ بِالْخَيْرِ وَشُكْرِهِ، فَإِذَا أَتْبَعَ مَعْرُوفَهُ بِالْمَنِّ أَوْ بِالْأَذَى قَطَعَ ذِكْرَهُ بِالْخَيْرِ: قَالَ بَعْضُهُمْ: "مَنْ مَنَّ بِمَعْرُوفِهِ أَسْقَطَ شُكْرَهُ" (الكبائر للذهبي).
- وَشَبَّهَ اللَّهُ -تعالى- مَا يَفْعَلُهُ مِنْ مَنٍّ وَأَذًى بِفِعْلِ الْمُنَافِقِ: قال الله -سبحانه-: (كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) (البقرة: 264)، قال العلماء: "أَيْ: أَنْتُمْ وَإِنْ قَصَدْتُمْ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ -تعالى- فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ؛ فَإِنَّ الْمِنَّةَ وَالْأَذَى مُبْطِلَانِ لِأَعْمَالِكُمْ ، فَتَصِيرُ أَعْمَالُكُمْ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي يَعْمَلُ لِمُرَاءَةِ النَّاسِ وَلَا يُرِيدُ بِهِ اللَّهَ -تعالى- وَالدَّارَ الْآخِرَةَ".
- وبعد كل هذا... فالْمَنَّانَ متوعد بالإبعاد والغضب يوم القيامة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْمَنَّانُ الَّذِي لَا يُعْطِي شَيْئًا إِلَّا مَنَّهُ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْفَاجِرِ، وَالْمُسْبِلُ إِزَارَهُ) (رواه مسلم).
(3) فضل الاحتساب للأجر عند الله:
- أهل الإخلاص والاحتساب يرجون الأجر من الخالق، ولا ينتظرون شيئا من المخلوقين: قال -تعالى-: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا . إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا) (الإنسان: 8- 9). وقال -سبحانه وتعالى- عن موسى -عليه السلام-: (فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) (القصص: 24). قال العلماء: "مَعَ أَنَّهُ كَانَ مُحْتَاجًا لِطَعَامٍ يُخَفِّفُ جُوعَهُ، وَمَأْوًى يُكِنُّهُ فِي لَيْلِهِ، فلم يسأل مَن أدَّى إليهما المعروف، وَإِنَّمَا سأل رَبَّهُ".
- أهل الإخلاص والاحتساب يسترون معروفهم، ويحقِّرون أعمالهم، ولا يؤذون مَن شمله معروفهم: قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: "إِذَا اصْطَنَعْتَ الْمَعْرُوفَ فَاسْتُرْهُ، وَإِذَا صُنِعَ إِلَيْكَ فَانْشُرْهُ"، وقال العباس -رضي الله عنه-: "لَا يَتِمُّ الْمَعْرُوفُ إِلَّا بِثَلَاثِ خِصَالٍ: تَعْجِيلُهُ وَتَصْغِيرُهُ وَسَتْرُهُ، فَإِذَا عَجَّلْتَهُ هَنَّأْتَهُ، وَإِذَا صَغَّرْتَهُ عَظَّمْتَهُ، وَإِذَا سَتَرْتَهُ أَتْمَمْتَهُ". وقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: "كَانَ أَبِي يَقُولُ: إِذَا أَعْطَيْتَ رَجُلًا شَيْئًا وَرَأَيْتَ أَنَّ سَلَامَكَ يَثْقُلُ عَلَيْهِ، فَكُفَّ سَلَامَكَ عَنْهُ".
(4) متى يُرَخَّصُ فِي ذِكْرِ َالْمَعْرُوفِ؟
- بَعْضُ النَّاسِ تُحْسِنُ إِلَيْهِ، ثم إذا اختلفت معه يَنَالُ مِنْ عِرْضِكَ، وَيُنْكِرُ مَعْرُوفَكَ، وَيُشَهِّرُ بِكَ عِنْدَ النَّاسِ، فعند ذلك يجوز لك أن َتَذُبّ عَنْ نَفْسِكَ بِذِكْرِ مَعْرُوفِكَ عَلَيْهِ كَيْ تُخْرِسَهُ وَتُلْزِمَهُ: قالِ -تعالى- لنبيه لما آذاه الأعراب: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (الحجرات: 17)، (وفَعَلَ ذَلِكَ عُثْمَانُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- حِينَ رَمَاهُ الْخَوَارِجُ بِالتُّهَمِ الْبَاطِلَةِ، فَرَدَّ تُهَمَهُمْ بِصَنَائِعِ مَعْرُوفِهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-)؛ ولذلك قِيلَ: "إِذَا كُفِرَتِ النِّعْمَةُ حَسُنَتِ الْمِنَّةُ".
- خاتمة: نماذج في فعل المعروف واحتساب الأجر من الله -تعالى-:
تنبيه: قلَّ ذكر نماذج المحتسبين سرًّا في كتب أهل العلم؛ لأن هذا مقتضى حالهم، ولكن بعضهم عرف من آثاره.
- زين العابدين بن الحسين: قال محمد بن إسحاق: "كان ناس من أهل المدينة يعيشون لا يدرون من أين كان معاشهم، فلما مات علي بن الحسين فقدوا ما كانوا يؤتون به في الليل".
- عبد الله بن المبارك يقضي دين شاب من تلامذته من غير علمه: قال يعقوب بن إسحاق: حدثني محمد بن عيسى قال: كان ابن المبارك كثير الاختلاف إلى طرطوس، وكان ينزل الرقة في الخان - وهو بمثابة الفندق حديثًا-، فكان شاب يختلف إليه، ويقوم بحوائجه، ويسمع منه الحديث، فقدم عبد الله مرة فلم يجده، فخرج إلى النظر متعجلًا، فلما رجع سأل عن الشاب، فقالوا: محبوس على عشرة آلاف درهم دين عليه، فاستدل على الغريم فوزن له عشرة آلاف درهم، وحلَّفه ألا يخبر أحدًا، ما عاش فأُخرج الرجلُ بعد سداد الدين الذي على الشاب للغريم.
وسري ابن المبارك من ليلته، فلحق الفتى على مرحلتين في الرّقة، فقال له: يا فتى أين كنت؟ لم أرك، قال: يا أبا عبد الرحمن كنت محبوساً بدين، قال: كيف خلصت؟ قال: جاء رجل فقضى ديني، ولم أدرِ، قال: فاحمد الله... ولم يعلم الرجل إلا بعد موت ابن المبارك، أنه هو الذي قضى دينه".
- عكرمة الفياض "جابر عثرات الكرام": "ذكر له في مجلسه أمر رجل صالح يقال له: خزيمة بن بشر"، وما آل إليه حاله من الفقر والشدة حتى أغلق عليه بابه ينتظر الموت. فقام فحمل أربعة آلاف دينار في كيس واحد، ثم أمر بإسراج دابته، وخرج سرًّا من أهله، حتى نزل بيت خزيمة فأعطاه، فلما ألح عليه خزيمة أن يعرفه قال: "جابر عثرات الكرام". قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "صاحب المعروف لا يقع، فإن وقع وجد متّكأ" (عيون الأخبار)(2).
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــــــ
(1) من صور المَنِّ والأذية بالمعروف: إذا شفع لطالبٍ في دراسةٍ صار في كلِّ مرَّةٍ يسأل عن مستواه الدراسي، وهو لا يهمه إلّا أنه يريد تذكيره أو تذكير أبيه أنه هو الذي شفع له. وإذا شفع له في وظيفةٍ صار يسأله في كلِّ مناسبةٍ عن ترقيته وعن مديره، ولا يريد بذلك إلا تذكيره، وهكذا على هذا المنوال في كل معروف يعمله.
(2) ومن جميل وعجيب ما ذكر حول هذه القصة لمَن أراد الزيادة، ما ذكره ابن حجة الحموي في كتابه: "ثمرات الأوراق" (ص 151-153)، وذكره أيضًا التنوخي في "المستجاد من فعلات الأجواد" (ص6-8)، وقد ذكره أيضًا أبو الحسن بن هذيل في كتاب: "عين الأدب والسياسة وزين الحسب والسياسة" (ص 199)، مع اختلاف في الشخصيات.
فذكروا جميعًا ما خلاصته:
أنه كان في أيام سليمان بن عبد الملك رجل من بني أسد يُقَال له: "خزيمة بن بشر"، وكان مشهورًا بالمروءة والكرم والمواساة، وكانت نعمته وافرة، فلم يزل على تلك الحالة حتى احتاج إلى إخوانه الذين كان يواسيهم ويتفضَّل عليهم، فواسوه حينًا ثم ملوه، فلما لاح له تغيرهم أتى امرأته -وكانت ابنة عمه- فقال لها: يا بنت العم! قد رأيت من إخواني تغيُّرا، وقد عزمت على لزوم بيتي إلى أن يأتيني الموت، ثم أغلق بابه عليه، وأقام يتقوت بما عنده حتى نفد، وبقي حائرًا في حاله.
وكان عكرمة الفياض (سُمِّي بذلك لفرط كرمه) واليًا على الجزيرة، فبينما هو في مجلسه، إذ جرى ذكر خزيمة بن بشر، فقال عكرمة: ما حاله؟ فقالوا: صار في أسوأ الأحوال، وقد أغلق بابه، ولزم بيته. فقال عكرمة الفياض: فما وجد خزيمة بن بشر مواسيًا ولا مكافئًا؟ فلما كان الليل عمد إلى أربعة آلاف دينار فجعلها في كيس واحد، ثم أمر بإسراج دابته، وخرج سرًّا من أهله، فركب ومعه غلام واحد يحمل المال، ثم سار حتى وقف بباب خزيمة، فأخذ الكيس من الغلام، ثم أبعده عنه، وتقدم إلى الباب فطرقه بنفسه، فخرج خزيمة فقال له: أصلح بهذا شأنك، فتناوله فرآه ثقيلًا، فوضعه وقبض على لجام الدابة وقال له: مَن أنت جُعلت فداك؟ قال له: ما جئت في هذا الوقت وأنا أريد أن تعرفني، قال خزيمة: فما أقبله أو تخبرني من أنت؟ قال: أنا جابر عثرات الكرام، قال: زدني، قال: لا، ثم مضى.
ودخل خزيمة بالكيس إلى امرأته فقال لها: أبشري فقد أتى الله بالفرج، قومي فاسرجي، قالت: لا سبيل إلى السراج، فبات يلمس الكيس فيجد تحت يده خشونة الدنانير. ورجع عكرمة إلى منزله فوجد امرأته قد افتقدته، وسألت عنه، فأُخبرت بركوبه منفردًا، فارتابت، فلما رآها تلك الحالة قال لها: ما دهاك يا ابنة العم؟ قالت: سوء فعلك بابنة عمك، أمير الجزيرة لا يخرج بعد هدأة من الليل منفردًا عن غلمانه في سرٍّ من أهله إلا إلى زوجة أو سرية؟
فقال: لقد علم الله ما خرجتُ لواحدة منهما، قالت: لا بد أن تُعلمني، قال: فاكتميه إذًا، قالت: أفعل، فأخبرها بالقصة على وجهها. ثم أصبح خزيمة فصالح غرماءه، وأصلح من حاله، ثم تجهز يريد سليمان بن عبد الملك بفلسطين، فلما وقف ببابه دخل الحاجب فأخبره بمكانه، وكان مشهورًا لمروءته، وكان الخليفة به عارفًا، فأذن له، فلما دخل عليه وسلم بالخلافة قال: يا خزيمة! ما أبطأك عنا؟ فقال: سوء الحال يا أمير المؤمنين، قال: فما منعك من النهضة إلينا؟ قال: ضعفي. قال: فمَن أنهضك؟ قال: لم أشعر يا أمير المؤمنين بعد هدأة من الليل إلا ورجل يطرق بابي، وكان منه كيت وكيت، وأخبره بقصته من أولها إلى آخرها، فقال: هل عرفته؟ قال: لا والله لأنه كان متنكرًا، وما سمعت منه إلا "جابر عثرات الكرام".
قال: فتلهف سليمان بن عبد الملك على معرفته، وقال: لو عرفناه لأعنَّاه على مروءته، ثم قال علّي بقناة، فأتي بها فعقد لخزيمة الولاية على الجزيرة، وعلى عمل عكرمة الفياض، وأجزل عطاياه، وأمره بالتوجه إلى الجزيرة؛ فخرج خزيمة متوجهًا إلى الجزيرة، فلما قرب منها خرج عكرمة وأهل البلد للقائه فسلَّم عليه، ثم سارا جميعًا إلى أن دخلا البلد، فنزل خزيمة في دار الإمارة، وأمر أن يؤخذ عكرمة، وأن يحاسَب وما يدري أنه صاحبه، فحوسب، ففضل عليه مال كثير، فطلبه خزيمة بالمال، فقال: ما لي إلى شيء منه سبيل، فأمر بحبسه، ثم بعث يطالبه، فأرسل إليه: إني لست ممَّن يصون ماله لغرضه (أي: لا يبقي منه شيئًا ولا يدخر).
فأمر به فكُبل بالحديد وضُيِّق عليه، وأقام على ذلك شهرًا، فأضناه ثقل الحديد، وأضر به، وبلغ ذلك ابنة عمه، فجزعت عليه واغتمت، ثم دعت مولاة لها ذات عقل وقالت: امضي الساعة إلى باب هذا الأمير، فقولي: عندي نصيحة، فإذا طُلبت منك قولي: ولا أقولها إلا للأمير خزيمة، فإذا دخلتِ عليه سليه الخلوة، فإذا فعل قولي له: ما كان هذا جزاء جابر عثرات الكرام منك في مكافأتك له بالضيق والحبس والحديد؟ قال: ففعلتْ ذلك، فلما سمع خزيمة قولها قال: واسوأتاه! جابر عثرات الكرام غريمي؟!، قالت: نعم.
فأمر من وقته بدابته فأُسرجت، وركب إلى وجوه أهل البلد فجمعهم، وسار بهم إلى باب الحبس ففُتح، ودخل فرأى عكرمة الفياض في قاع الحبس متغيرًا قد أضناه الضر، فلما نظر عكرمة إلى خزيمة وإلى الناس أحشمه ذلك، فنكس رأسه، فأقبل خزيمة حتى انكب على رأسه فقبله، فرفع رأسه إليه وقال: ما أعقب هذا منك؟! قال: كريم فعلك وسوء مكافأتي، قال يغفر الله لنا ولك، ثم أمر بفك قيوده، وأن توضع في رجليه، فقال عكرمة: تريد ماذا؟
قال: أريد أن ينالني من الضر مثل ما نالك، فقال: أقسم عليك بالله أن لا تفعل، فخرجا جميعًا إلى أن وصلا إلى دار خزيمة، فأكرمه وحسن هيئته، واعتذر من زوجته، ثم سأله أن يسير معه إلى أمير المؤمنين، وهو يومئذٍ مقيم بالرملة، فأنعم له بذلك، فسارا جميعًا حتى قدما على سليمان بن عبد الملك، فدخل الحاجب، فأخبره بقدوم خزيمة بن بشر، فراعه ذلك وقال: والي الجزيرة يقدم علينا بغير أمرنا مع قرب العهد به؟! ما هذا إلا لحادث عظيم! فلما دخل عليه قال قبل أن يسلِّم: ما وراءك يا خزيمة؟ قال: خير يا أمير المؤمنين، قال: فما أقدمك؟ قال: ظفرت بـ"جابر عثرات الكرام"، فأحببت أن أسرك لما رأيت من شوقك إلى رؤيته، قال: ومَن هو؟ قال: عكرمة الفياض. فأذن له في الدخول، فدخل فسلم عليه بالخلافة، فرحب به، وأدناه من مجلسه، وقال: يا عكرمة كان خيرك له وبالًا عليك، ثم قال له: اكتب حوائجك وما تختاره في رقعة، فكتبها، وقضيت على الفور، ثم أمر له بعشرة آلاف دينار، مع ما أضيف إليها من التحف والظرف، ثم دعا بقناة وعقد له على الجزيرة وأرمينية وأذربيجان، وقال له: أمرُ خزيمة إليك؛ إن شئت أبقيته، وإن شئت عزلته، قال: بل رده إلى عمله يا أمير المؤمنين، ثم انصرفا جميعًا، ولم يزالا عاملين لسليمان بن عبد الملك مدة خلافته (من مقالة على موقع: إسلام ويب، بعنوان: جابر عثرات الكرام).
ابو وليد البحيرى
2024-04-26, 10:06 PM
الكبائر (19)
الكبر
(موعظة الأسبوع)
كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
المقدمة:
- الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضَمِن الله لمَن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
- الكبر من الكبائر الجسام، ومنكرات الأعمال، وقبيح الخصال، وقد وَرَد في حقِّه شديد العقاب والوبال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا *يَدْخُلُ *الْجَنَّةَ *مَنْ *كَانَ *فِي *قَلْبِهِ *مِثْقَالُ *ذَرَّةٍ *مِنْ *كِبْرٍ) (رواه مسلم).
- معنى الكِبْر: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (*الْكِبْرُ *بَطَرُ *الْحَقِّ *وَغَمْطُ *النَّاسِ) (رواه مسلم)(1)، وقال الزَّبيدي: "الكِبْر: حالةٌ يتخصَّص بها الإنسان من إعجابه بنفسه، وأن يرى نفسَه أَكْبَر من غيره". وقيل الكِبْر هو: "استعظام الإنسان نفسه، واستحسان ما فيه من الفضائل، والاستهانة بالناس، واستصغارهم، والترفع على مَن يجب التواضع له" (تهذيب الأخلاق للجاحظ).
(1) ذم الكبر والتنفير منه:
- الكِبْر أوَّل الذنوب التي عُصي الله -تبارك وتعالى- بها في هذا العالم: قال الله -تعالى-: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) (البقرة: 34).
- والكِبْر سبب رئيس في هلاك الأمم السابقة: قال -تعالى- على لسان نبيِّه نوح -عليه السلام-: (وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا) (نوح: 7)، وقال -تعالى- عن قوم عاد: (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ) (فصلت: 15)، وقال -تعالى- في قوم ثمود: (قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ . قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا بِالَّذِيَ آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ) (الأعراف: 75-76)، وقال الله -تعالى- عن قوم نبي الله شعيب -عليه السلام-: (قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ) (الأعراف: 88)، وقال -تعالى- عن فرعون وجنده: (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) (القصص: 39).
- الكبر سبب للصرف عن دين الله: قال -تعالى-: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ) (الأعراف: 146)(2).
- الكبر سبب لدخول النَّار والعذاب فيها: قال الله -تعالى-: (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُ م بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ) (الأحقاف: 20)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (*أَلَا *أُخْبِرُكُمْ *بِأَهْلِ *النَّارِ: *كُلُّ *عُتُلٍّ، *جَوَّاظٍ، *مُسْتَكْبِرٍ) (متفق عليه).
وقال: (تَحَاجَّتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَقَالَتِ النَّارُ: أُوثِرْتُ بِالْمُتَكَبِّر ِينَ وَالْمُتَجَبِّر ِينَ، وَقَالَتِ الْجَنَّةُ: فَمَا لِي لَا يَدْخُلُنِي إِلَّا ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ وَغِرَّتُهُمْ؟ قَالَ اللهُ لِلْجَنَّةِ: إِنَّمَا أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَقَالَ لِلنَّارِ: إِنَّمَا أَنْتِ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا) (رواه مسلم).
- وذلك لأن الكبر صفة الرب، وليست صفة العبد الضعيف: قال ابن تيمية -رحمه الله-: "الكبر ينافي حقيقة العبوديَّة، كما ثبت في الصَّحيح، عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: يقول الله: العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدًا منهما عذَّبته، فالعظمة والكبرياء من خصائص الرُّبوبيَّة". وقال مطرف بن عبد الله لرجل مستكبر لما قال له: "ألا تعرفني؟! قال: بلى أعرفك، فأولك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت بين ذلك تحمل العذرة!".
- وأخبر النبي أنه كلما ضعف داعي الكبر عند الإنسان، اشتد عذابه وعقابه اذا فعله وباشره: قال -صلى الله عليه وسلم-: (ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: شَيْخٌ زَانٍ، *وَمَلِكٌ *كَذَّابٌ، *وَعَائِلٌ *مُسْتَكْبِرٌ) (رواه مسلم).
(2) فضل التواضع:
- كفى بهذا الخُلُق شرفًا أن صدرت به صفات عباد الرحمن: قال -تعالى-: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا) (الفرقان: 63).
- أمر به أعلى الناس منزلة وأحسنهم خلقًا أن يضع مِن قدره، ليسهل على إخوانه التعامل معه: قال -تعالى-: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ) (الحجر: 88).
- هو سبب لمحبة الخلق وإيثار القلوب في الدنيا، ونيل الجزاء الأعلى في الآخرة: قال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ تَوَاضَعَ للهِ رَفَعَهُ اللهُ) (رواه البيهقي، وصححه الألباني).
- هو سبب للتوفيق والسداد في الرأي: قال -صلى الله عليه وسلم-: (مَا مِنْ آدَمِيٍّ إِلَّا فِي رَأسِهِ حَكَمَةٌ بِيَدِ مَلَكٍ، فَإِذَا تَوَاضَعَ، قِيلَ لِلْمَلَكِ: ارْفَعْ حَكَمَتَهُ، وَإِذَا تَكَبَّرَ قِيلَ لِلْمَلَكِ: ضَعْ حَكَمَتَهُ) (رواه الطبراني، وقال الألباني: حسن لغيره).
(3) نماذج من المتواضعين:
- سيد المتواضعين: عن أبي مسعود -رضي الله عنه- قال: أَتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلٌ، فَكَلَّمَهُ، فَجَعَلَ تُرْعَدُ فَرَائِصُهُ، فَقَالَ لَهُ: (هَوِّنْ عَلَيْكَ، فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني)، ويخبر أنه كان راعيًا للغنم فيقول: (كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهْلِ مَكَّةَ) (رواه البخاري)، بخلاف حال المتكبرين الذين يظنون أن ذلك يحقر مِن قدرهم؛ لا سيما الذين أعطوا مِن متاع الدنيا ما يعينهم على العلو وترك التواضع.
- السَّلَف الصالحون: عن عروة بن الزبير قال: "رأيت عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- على عاتقه قربة ماء، فقلت: يا أمير المؤمنين! لا ينبغي لك هذا. فقال: لما أتاني الوفود سامعين مطيعين دَخَلَت نفسي نخوة، فأردت أن أكسرها" (تاريخ دمشق لابن عساكر). وكان أبو هريرة -رضي الله عنه- يحمل الحزمة من الحطب على ظهره، وهو أمير الناس في المدينة، ويقول: "طرقوا للأمير، طرقوا للأمير" (تنبيه الغافلين للسمرقندي)، وقال رجاء بن حيوة: "قام عمر بن عبد العزيز ليلة فأصلح السراج، فقلت: يا أمير المؤمنين: لمَ لمْ تأمرني بذلك؟ أو دعوت مَن يصلحه؟ فقال: قمتُ وأنا عمر، ورجعت وأنا عمر" (الطبقات الكبرى)، وقال الأصمعي: "كتب محمد بن كعب نسبه محمد بن كعب القرظي. فقيل له: قل الأنصاري. فقال: أكره أن أمن على الله ما لم أفعل" (قوت القلوب)، وعن مالك بن مغول قال: "قَالَ لِي إِبْرَاهِيمُ: يَا أَبَا حَمْزَةَ، وَاللَّهِ لَقَدْ تَكَلَّمْتُ، وَلَوْ وَجَدْتُ بُدًّا مَا تَكَلَّمْتُ، وَإِنَّ زَمَانًا أَكُونُ فِيهِ فَقِيهَ أَهْلِ الْكُوفَةِ زَمَانُ سُوءٍ!" (سنن الدارمي).
(4) أمور تعين على التواضع:
1- شهود ضعف النفس وعيوبها: قال الله -تعالى-: (فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ. خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ. يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ . إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ) (الطارق: 5-8)، وقال: (وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا) (النساء: 28)، وقال الحسن البصري -رحمه الله-: "عجبًا لابن آدم، يغسل الخرء بيده في اليوم مرة أو مرتين ثم يعارض جبار السماوات والأرض!" (التواضع والخمول).
2- تذكر عاقبة الكبر: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يُحْشَرُ المُتَكَبِّرُون َ يَوْمَ القِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ يَغْشَاهُمُ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، فَيُسَاقُونَ إِلَى سِجْنٍ فِي جَهَنَّمَ يُسَمَّى بُولَسَ تَعْلُوهُمْ نَارُ الأَنْيَارِ يُسْقَوْنَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ طِينَةَ الخَبَالِ) (رواه أحمد والترمذي، وحسنه الألباني).
3- الإذعان للحق وقبوله مِن كل مَن جاء به: سُئِل الفضيل عن التواضع؟ فقال: "يخضع للحق وينقاد له، ويقبله ممَّن قاله" (مدارج السالكين لابن قيم الجوزية). وقال ابن القيم -رحمه الله-: "لَا تَصِحُّ لَكَ دَرَجَةُ التَّوَاضُعِ حَتَّى تَقْبَلَ الْحَقَّ مِمَّنْ تُحِبُّ وَمِمَّنْ تُبْغِضُ" (مدارج السالكين).
4- مجالسة المساكين والفقراء الصالحين وزيارتهم، ولا سيما لمَن كان كثير المجالسة للكبراء والوجهاء: قال -تعالى- للنبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) (الكهف: 28). "مَرَّ الحسن على صبيان معهم كسر خبزٍ فاستضافوه، فنزل فأكل معهم، ثُمَّ حملهم إلى منزله فأطعمهم وكساهم، وقال: البدء لهم" (شذرات الذهب).
5- ترك نفيس الطعام والثياب: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ تَرَكَ اللِّبَاسَ تَوَاضُعًا لِلَّهِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، دَعَاهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أَيِّ حُلَلِ الإِيمَانِ شَاءَ يَلْبَسُهَا) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ الْبَذَاذَةَ مِنْ الْإِيمَانِ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــ ــــــــ
(1) قال ابن القيم -رحمه الله-: "فَسَّر النَّبي الكِبْر بضده فقال: (*الْكِبْرُ *بَطَرُ *الْحَقِّ، *وَغَمْطُ *النَّاسِ) (رواه مسلم)، فبطر الحق: رده وجحده، والدفع في صدره، كدفع الصائل. وَغَمْصُ الناس: احتقارهم، وازدراؤهم. ومتى احتقرهم وازدراهم: دفع حقوقهم وجحدها واستهان بها".
(2) مما يذكر في ذلك تنفيرًا؛ ما ذكره أصحاب السِّيَر: "أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه - لما بلغه إسلام جبلة بن الأيهم -آخر ملوك غسان- فَرِح بإسلامه، ثم بعث يستدعيه ليراه بالمدينة. وقيل: بل استأذنه جبلة في القدوم عليه، فأَذِن له، فركب في خلقٍ كثيرٍ مِن قومه، قيل: مائة وخمسون راكبًا. وقيل: خمسمائة. وتلقته هدايا عمر ونزله قبْل أن يصل إلى المدينة بمراحل، وكان يوم دخوله يومًا مشهودًا، دخلها وقد ألبس خيوله قلائد الذهب والفضة، ولبس هو تاجًا على رأسه، مرصعًا باللآلئ والجواهر، وخرج أهل المدينة رجالهم ونساؤهم ينظرون إليه، فلما سَلَّم على عمر رحَّب به عمر وأدنى مجلسه، وشهد الحج مع عمر في هذه السَّنَة.
فبينما هو يطوف بالكعبة إذ وَطِئَ إزاره رجل من بني فزارة فانحل، فرفع جبلة يده فهشم أنف ذلك الرجل، ومِن الناس مَن يقول: إنه قلع عينه، فاستعدى عليه الفزاري عمر، ومعه خلق كثير من بني فزارة، فاستحضره عمر، فاعترف جبلة فقال له عمر: أقده. فقال جبلة: كيف وأنا ملك وهو سوقة؟ فقال: إن الإسلام جمعك وإياه، فلست تفضله إلا بالتقوى. فقال جبلة قد كنت أظن أن أكون في الإسلام أعز مني في الجاهلية. فقال عمر: دع ذا عنك، فإنك إن لم ترضِ الرجل أقدته منك. فقال: إذًا أتنصر. فقال: إن تنصرت ضربت عنقك.
فلما رأى الجد، قال: سأنظر في أمري هذه الليلة. فانصرف مِن عند عمر، فلما ادلهم الليل ركب في قومه ومَن أطاعه، فسار إلى الشام، ثم دخل بلاد الروم، ودخل على هرقل في مدينة القسطنطينية، فرحب به هرقل وأقطعه بلادًا كثيرة، وأجرى عليه أرزاقًا جزيلة" (السير للذهبي، البداية والنهاية حوادث سنة 53).
ابو وليد البحيرى
2024-05-02, 11:51 AM
الكبائر (20)
الكذب
(موعظة الأسبوع)
كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
المقدمة:
- الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضَمِن الله لمَن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
- الكذب من الكبائر العظام، والجرائم الجسام، لما يسببه من ضياع الحقوق، وتغيير الحقائق: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (*عَلَيْكُمْ *بِالصِّدْقِ *فَإِنَّ *الصِّدْقَ *يَهْدِي *إِلَى *الْبِرِّ، *وَإِنَّ *الْبِرَّ *يَهْدِي *إِلَى *الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا) (متفق عليه).
- الإشارة إلى استهانة كثيرٍ مِن الناس بالكذب بكلِّ أنواعه؛ فضلًا عن جرأة البعض الآخر على الكذب؛ سواء في وسائل الإعلام، أو وسائل الاتصالات الحديثة، وغير ذلك.
(1) أنْوَاعُ الْكَذِبِ:
1- الْكَذِبُ عَلَى اللهِ -تعالى-: وهو أقبح أنواع الكذب على الإطلاق، قال الله -تعالى-: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (الأنعام: 21).
2- الْكَذِبُ عَلَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (لَا تَكْذِبُوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَلِجِ النَّار) (رواه البخاري)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ، مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّار) (متفق عليه)، وكلاهما يؤدي إلى تبديل دين الله -تعالى-، وتغيير الشرع، وهو علامة على سوء معتقد فاعله.
3- الْكَذِبُ عَلَى الْنَّاسِ(1): قال النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: (أَرْبَعٌ *مَنْ *كُنَّ *فِيهِ *كَانَ *مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَلَّةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَلَّةٌ مِنْ نِفَاقٍ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ) (متفق عليه).
(2) الكَذِبُ مستقبحٌ عقلًا وشرعًا:
- الكذب مذموم في سائر الشرائع: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (*عَلَيْكُمْ *بِالصِّدْقِ *فَإِنَّ *الصِّدْقَ *يَهْدِي *إِلَى *الْبِرِّ، *وَإِنَّ *الْبِرَّ *يَهْدِي *إِلَى *الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا) (متفق عليه).
- الكذب مستقبح عند كل صاحب عقل، ويستنكف منه البر والفاجر، والمؤمن والكافر: فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-: "أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ -رضي الله عنه- أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَكَانُوا تِجَارًا بِالشَّأْمِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَادَّ فِيهَا أَبَا سُفْيَانَ وَكُفَّارَ قُرَيْشٍ فَأَتَوْهُ وَهُمْ بِإِيلِيَاءَ فَدَعَاهُمْ فِي مَجْلِسِهِ وَحَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ ثُمَّ دَعَاهُمْ وَدَعَا بِتَرْجُمَانِهِ فَقَالَ: أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ؟ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَقُلْتُ: أَنَا أَقْرَبُهُمْ نَسَبًا. فَقَالَ: أَدْنُوهُ مِنِّي وَقَرِّبُوا أَصْحَابَهُ فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ، ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ : قُلْ لَهُمْ: إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ، فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ، فَوَاللَّهِ لَوْلَا الْحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَيَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ... " (رواه البخاري).
- والكذب كله مذموم؛ في الجد والهزل، وليس فيه أبيض -كما يظن بعض الناس!-: روى الترمذي في سُننه مِن حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جدِّه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (*وَيْلٌ *لِلَّذِي *يُحَدِّثُ *بِالحَدِيثِ *لِيُضْحِكَ *بِهِ *القَوْمَ *فَيَكْذِبُ، وَيْلٌ لَهُ وَيْلٌ لَهُ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني)، وقال الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله-: "الكذب لا يَصلُح منه جدٌّ ولا هزل" (الآداب الشرعية لابن مفلح)(2).
- بل ولا يجوز الكذب على الأطفال للترويض: عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: دَعَتْنِي أُمِّي يَوْمًا وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَاعِدٌ فِي بَيْتِنَا، فَقَالَتْ: هَا تَعَالَ أُعْطِيكَ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَا أَرَدْتِ أَنْ تُعْطِيهِ؟)، قَالَتْ: أُعْطِيهِ تَمْرًا، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (أَمَا إِنَّكِ لَوْ لَمْ تُعْطِهِ شَيْئًا *كُتِبَتْ *عَلَيْكِ *كِذْبَةٌ) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).
(3) من آثار الكذب:
- الْكَذِبُ سَبَبُ مَحْقُ البَرَكَةِ: عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا) (متفق عليه).
- الْكَذِبُ رِيبَةٌ واضطراب: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ؛ فَإِنَّ الصِّدْقَ طمأنينة، وَإِنَّ الْكَذِبَ رِيبَة) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)، وسبب الريبة: أن آفة الكذاب نسيان كذبه؛ لذلك يظل متخوفًا من أن يفتضح أمره، ويطلع الناس على كذبه، وسوء فعله.
- الكذاب يُعذَّب في قبره قبل يوم القيامة: ففي حديث الرؤيا الطويل: (فَانْطَلَقْنَا *فَأَتَيْنَا *عَلَى *رَجُلٍ *مُسْتَلْقٍ *لِقَفَاهُ، وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِكَلُّوبٍ مِنْ حَدِيدٍ، وَإِذَا هُوَ يَأْتِي أَحَدَ شِقَّيْ وَجْهِهِ فَيُشَرْشِرُ شِدْقَهُ إِلَى قَفَاهُ، وَمَنْخِرَهُ إِلَى قَفَاهُ، وَعَيْنَهُ إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ يَتَحَوَّلُ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بِالْجَانِبِ الْأَوَّلِ، فَمَا يَفْرُغُ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ حَتَّى يَصِحَّ ذَلِكَ الْجَانِبُ كَمَا كَانَ، ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلَ الْمَرَّةَ الْأُولَى) فسأل عنه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- فقيل له: (إِنَّهُ الرَّجُلُ يَغْدُو مِنْ بَيْتِهِ، فَيَكْذِبُ *الْكَذِبَةَ *تَبْلُغُ *الْآفَاقَ) (رواه البخاري)(3) .
(3) فضل الصدق وترك الكذب:
- الصِّدق منجاة للعبد في الدنيا والآخرة: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (*عَلَيْكُمْ *بِالصِّدْقِ، *فَإِنَّ *الصِّدْقَ *يَهْدِي *إِلَى *الْبِرِّ، *وَإِنَّ *الْبِرَّ *يَهْدِي *إِلَى *الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا) (متفق عليه)، وفي الصحيحين في قصة توبة كعب بن مالك -رضي الله عنه-، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بشَّره بذلك، قال: "يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ اللهَ إِنَّمَا أَنْجَانِي بِالصِّدْقِ، وَإِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ لَا أُحَدِّثَ إِلَّا صِدْقًا مَا بَقِيتُ، قَالَ: فَوَاللهِ *مَا *عَلِمْتُ *أَنَّ *أَحَدًا *مِنَ *الْمُسْلِمِينَ *أَبْلَاهُ *اللهُ *فِي *صِدْقِ *الْحَدِيثِ *مُنْذُ *ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى يَوْمِي هَذَا أَحْسَنَ مِمَّا أَبْلَانِي اللهُ بِهِ، وَاللهِ مَا تَعَمَّدْتُ كَذِبَةً مُنْذُ قُلْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى يَوْمِي هَذَا، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَحْفَظَنِي اللهُ فِيمَا بَقِيَ، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللهُ -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة: 119) (رواه مسلم)".
- موقف شجاع في بيان قبح الكذب: روى ابن عساكر: "أن سليمان بن يسار دخل على هشام بن عبد الملك، فقال له: يا سليمان، الذي تولى كبره مَن هو؟ قال: عبد الله بن أُبَيِّ، قال: كذبت هو علي! قال: أمير المؤمنين أعلم بما يقول، فدخل الزهري فقال: يا ابن شهاب، مَن الذي تولى كبره؟ فقال: ابن أُبَيِّ. قال: كذبت هو علي، قال: أنا أكذب؟ لا أبا لك، والله لو نادى منادٍ من السماء: أن الله قد أحل الكذب ما كذبت، حدثني عروة وسعيد وعبد الله وعلقمة عن عائشة: أن الذي تولى كبره: عبد الله بن أُبَي" (تاريخ دمشق لابن عساكر).
فاللهم ارزقنا الصدق في الأقوال والأعمال، والحمدُ لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــ ــــــــ
(1) ومع أنه أقل أنواع الكذب خطرًا، وأخفها على صاحبه أثرًا؛ إلا أنه من الكبائر، ومنافٍ للإيمان، وسبب محق البركة، وعلامة من علامات النفاق، وأقرب الطرق للنار، وسبب الريبة والاضطراب، ومَن اتصف به كان أبعدَ الناس عن الهداية، وأقرَبَهم إلى الغواية.
(2) متى يجوز الكذب؟
الجواب: استثنى العلماء -رحمهم الله- الكَذِبَ إذا كان لإصلاحٍ بين متخاصمَين، والكذب في الحرب، والكذب إذا كان لدفع الظلم، فإذا اختفَى مسلم مِن ظالم يريد قتْلَه أو أخْذَ ماله، وأخفى ماله وسُئل إنسان عنه، وجب الكذب بإخفائه، وكذا لو كان عنده وديعة وأراد ظالم أخْذها فإنه يكذب لإخفائها، والأحوط أن يوَرِّي، ومعنى التورية: أن يقصد بعبارته مقصودًا صحيحًا ليس هو كاذبًا بالنسبة إليه، وإنْ كان كاذبًا في ظاهر اللفظ، وبالنسبة إلى ما يفهمه المخاطَب.
وقد استدلَّ العلماء على جواز الكذب في هذا الحال، بما رواه البخاري ومسلم من حديث أم كلثوم رضي الله عنها؛ أنها سمعَت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (لَيْسَ *الْكَذَّابُ *الَّذِي *يُصْلِحُ *بَيْنَ *النَّاسِ، *فَيَنْمِي *خَيْرًا *أَوْ *يَقُولُ *خَيْرًا)، زاد مسلم: قال ابن شهاب -رحمه الله-: "وَلَمْ *أَسْمَعْ *يُرَخِّصُ *فِي *شَيْءٍ *مِمَّا *يَقُولُ *النَّاسُ *كَذِبٌ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ: الْحَرْبُ، وَالْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَحَدِيثُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَحَدِيثُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا".
(3) ومِن هؤلاء في زماننا: الكَذَّابون في وسائل الإعلام، ومروجو الأكاذيب على النت، ونحوه.
ابو وليد البحيرى
2024-05-02, 11:52 AM
الكبائر (21)
لبس الحرير والذهب للرجال
(موعظة الأسبوع)
كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
المقدمة:
- الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضَمِن الله لمَن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
- ومن الكبائر المهلكة (لبس الحرير والذهب للرجال): قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَن لبسَ الحريرَ في الدُّنيا، لم يلبَسهُ في الآخِرةِ) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (*حُرِّمَ *لِبَاسُ *الحَرِيرِ *وَالذَّهَبِ *عَلَى *ذُكُورِ *أُمَّتِي *وَأُحِلَّ *لِإِنَاثِهِمْ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
(1) أدلة تحريم الحرير والذهب على الرجال:
- عن حذيفة -رَضِيَ اللَّهُ عنْه- قال: "نَهَانَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ نَشْرَبَ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَأَنْ نَأْكُلَ فِيهَا *وَعَنْ *لُبْسِ *الْحَرِيرِ *وَالدِّيبَاجِ، وَأَنْ نَجْلِسَ عَلَيْهِ" (متفق عليه)، قال الحافظ الذهبي في كتاب الكبائر: "مَن استحل لبس الحرير من الرجال فهو كافر".
- ولما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- في يد رجل خاتمًا مِن ذهب فنزعه، وقال: (يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ إلى جَمْرَةٍ مِن نَارٍ فَيَجْعَلُهَا في يَدِهِ) (رواه مسلم).
- صور من الاستعمال المحرم: (الخواتم والحلق - الساعات - الأنسيال - القلائد - ...).
(2) حكمة تحريم الحرير والذهب على الرجال:
- بداية المسلم مستسلم لأمر ربه ونهيه؛ سواء ظهرت له الحكمة أو لم تظهر(1): (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) (النور: 51)، وقال -تعالى-: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (الأحزاب: 36).
- أما حكمه التحريم، فأقرب الأقوال في ذلك: "بِأَنَّهُ خُلِقَ فِي الْأَصْلِ لِلنِّسَاءِ كَالْحِلْيَةِ بِالذَّهَبِ، فَحَرُمَ عَلَى الرِّجَالِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَفْسَدَةِ تَشَبُّهِ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: حَرُمَ لِمَا يُورِثُهُ مِنَ الْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ وَالْعُجْبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: حَرُمَ لِمَا يُورِثُهُ بِمُلَامَسَتِهِ لِلْبَدَنِ مِنَ الْأُنُوثَةِ وَالتَّخَنُّثِ، وَضِدُّ الشَّهَامَةِ وَالرُّجُولَةِ) (زاد المعاد).
فوائد في مسائل:
- من عظيم محاسن الشريعة، أنها جعلت تيسيرًا في الأحكام عند الأعذار: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: 78)، (مَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) (البقرة: 137).
- يجوز استعمال الذهب بديلًا عن السن والأنف إذا دعت الضرورة: عن عبد الرحمن بن طرفة أنَّ جده عرفجةَ بنَ أسعدَ، "أنَّه قُطِع أنفُه يومَ الكلابِ فاتَّخذ أنفًا من ورِقٍ، فأنتن عليه، فأمره النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم-، فاتَّخذ أنفًا من ذهبٍ" (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).
- كذا يجوز لبس الفضة للرجال بشرط عدم الإسراف أو التشبه بالنساء: عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "اتخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- خاتمًا من فضة، وجعل فصه مما يلي كفه، ونقش فيه: محمد رسول الله" (رواه البخاري)، وقال -تعالى-: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ) (الأعراف: 32)، ولم يرد شيء بتحريم الفضة على الرجال.
- ويجوز لبس الحرير للمريض بالحكة ونحوه، وعند لقاء العدو: عن أنس -رَضِيَ اللَّهُ عنْه-: "رَخَّصَ رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، أَوْ رُخِّصَ لِلزُّبَيْرِ بنِ العَوَّامِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ في لُبْسِ الحَرِيرِ لِحِكَّةٍ كَانَتْ بهِمَا" (متفق عليه).
- يحرم تزين الصبيان بالذهب؛ لأنهم داخلون في ذكور الأمة، ولضرره عليهم في التعود على لبسه.
- يجوز لبس ما يسمى بالحرير الصناعي؛ لأنه ليس حريرًا، والأورع تركه؛ لما فيه من التشابه الشديد بالحرير: قال -صلى الله عليه وسلم-: (فمنِ اتَّقى الشُّبُهاتِ استبرأ لدِينِه وعِرضِه) (متفق عليه).
(3) خاتمة: الذهب والحرير زينة أهل الجنة:
- مَن أطاع الله في الدنيا بامتثال أوامره، عوَّضه الله في الجنة من جنس عمله، مع الفارق بين الدارين: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (*مَنْ *لَبِسَ *الْحَرِيرَ *فِي *الدُّنْيَا *لَمْ *يَلْبَسْهُ *فِي *الْآخِرَةِ) (متفق عليه).
- لما امتنعوا عن المحرمات في الدنيا، جعل الله لهم في الجنة من جنسها أفضلها وأعظمها: قال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا . أُولَ?ئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا) (الكهف: 30-31)، وقال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ) (الحج: 23)، وقال -تعالى-: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَ?لِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ . جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ) (فاطر: 32-33)، وقال -تعالى-: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ . فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ . يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ ) (الدخان: 51-53)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أهل الجنة: (آنِيَتُهُمُ الذَّهَبُ والفِضَّةُ، وأَمْشَاطُهُمُ الذَّهَبُ...) (متفق عليه)، وعن انس -رَضِيَ اللَّهُ عنْه- قال: أُهْدِيَ للنبيِّ -صلى الله عليه وسلم- جُبَّةُ سُنْدُسٍ -الرقيق من الحرير-، وكانَ يَنْهَى عَنِ الحَرِيرِ، فَعَجِبَ النَّاسُ منها، فَقالَ: (والذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ، لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بنِ مُعَاذٍ في الجَنَّةِ أحْسَنُ مِن هَذَا) (متفق عليه).
- شبهة: كيف حرمه الله على الرجال في الدنيا، ثم يحله لهم في الآخرة؟
- الجواب: ليس هناك تلازم بين المحرمات في الدنيا وإباحتها في الآخرة، ولا الواجبات في الدنيا على عدم وجوبها في الآخرة، فلا تقاس أحكام الدنيا على الآخرة، قال -تعالى-: (*مَثَلُ *الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ) (محمد: 15)، وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (يَدْخُلُ أَهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ جُرْدًا مُرْدًا مُكَحَّلِينَ أَبْنَاءَ ثَلاَثِينَ أَوْ ثَلاَثٍ وَثَلاَثِينَ سَنَةً) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).
فاللهم إنا نسألك الجنة وما يقرِّب منها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما يقرب منها من قول وعمل.
والحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــ
(1) عموم العبادات لا تظهر لها حكمة ظاهرة، وإنما هي من باب الامتثال والطاعة لله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، مثل: (عدد الركعات في الصلاة - الوضوء - إلخ).
ابو وليد البحيرى
2024-05-02, 11:53 AM
الكبائر (22)
اليأس والقنوط
(موعظة الأسبوع)
كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
المقدمة:
- الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضَمِن الله لمَن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
- اليأس من كبائر الأعمال، والمنكرات الجسام، وقبيح الخصال، وقد وَرَد في حقِّه شديد العقاب والوبال: قال -تعالى-: (وَلَا تَيْأَسُوا *مِنْ *رَوْحِ *اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ *مِنْ *رَوْحِ *اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (يوسف: 87)، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أن رجلًا قال يَا رَسُولَ اللهِ، مَا الْكَبَائِرُ؟ قَالَ: (الشِّرْكُ بِاللهِ، وَالْإِيَاسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ، وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ الله) (رواه البزار في مسنده، وحسنه الألباني).
- المقصود باليأس والقنوط: اليأس هو شعور يصيب الإنسان كدليل على فقدان الأمل في تحقيق أمر ما، وقد يؤدي اليأس اٍلى تحريك مشاعر وعواطف أخرى، مثل: الاكتئاب والإحباط، والقنوط هو أشد اليأس.
(1) صور لليأس والقنوط:
- اليأس والقنوط من مغفرة الله الذنوب: قال -تعالى-: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزمر: 53).
- اليأس والقنوط من زوال الشدائد وتفريج الكروب: قال -تعالى-: (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا *مِنْ *رَوْحِ *اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ *مِنْ *رَوْحِ *اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (يوسف: 87).
- اليأس والقنوط من توبة الفاسقين، وتبدل الحال للأفضل، بما يكون فيه منعٌ للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: قال -تعالى-: (وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُون) (الأعراف: 164).
- القنوط من نصر الدِّين، والتمكين للمؤمنين: عن خباب بن الأرت قال: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَقُلْنَا: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا، أَلَا تَدْعُو لَنَا؟ فَقَالَ: (قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ، يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهَا، فَيُجَاءُ *بِالْمِنْشَارِ *فَيُوضَعُ *عَلَى *رَأْسِهِ *فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرُ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لَا يَخَافُ إِلَّا اللهَ، وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ ) (رواه البخاري).
(2) ذم اليأس والقنوط:
- أطلق الغفور الرحيم -سبحانه- الدعوة لجميع العُصاة من الكفرَة وغيرهم إلى التوبة والإنابة، ونهاهم عن اليأس والقنوط، وأخبر بأنه -تعالى- يغفر الذنوب جميعًا لمَن تاب منها ورجع عنها، وإن كانت مهما كانت، قال -تعالى-: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزمر: 53).
- وعاب -سبحانه وتعالى- على الجاهلين بحكمته وقدرته، بحيث يفرحون بالنعم، وييأسون ويقنطون من زوال المحن والشدائد إذا أصابتهم: قال -تعالى-: (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ) (الروم: 36)، وقال -تعالى-: (إِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا) (الإسراء: 83).
- ووصف -سبحانه- اليائسين القانطين المستبعدين للفرج بوصف الكافرين: قال -تعالى-: (*وَلَا *تَيْأَسُوا *مِنْ *رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (يوسف: 87).
- وبيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- عظيم رحمة الله للمؤمن والكافر إذا لم ييأس ويقنط: قال: (*إِنَّ *اللهَ *خَلَقَ *الرَّحْمَةَ *يَوْمَ *خَلَقَهَا *مِائَةَ *رَحْمَةٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، وَأَرْسَلَ فِي خَلْقِهِ كُلِّهِمْ رَحْمَةً وَاحِدَةً، فَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللهِ مِنَ الرَّحْمَةِ، لَمْ يَيْئَسْ مِنَ الْجَنَّةِ) (رواه البخاري).
- وحذَّر النبي المسلم من اليأس والقنوط من تغيُّر الأحوال، وحرض على مواصلة الدعاء والسؤال والسعي في الأسباب: قال: (لَا *يَزَالُ *يُسْتَجَابُ *لِلْعَبْدِ *مَا *لَمْ *يَدْعُ *بِإِثْمٍ، *أَوْ *قَطِيعَةِ *رَحِمٍ، مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ) قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا الِاسْتِعْجَالُ ؟ قَالَ: (يَقُولُ: قَدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ، فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لِي فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ، وَيَدَعُ الدُّعَاءَ) (متفق عليه).
(3) أعظم أسباب اليأس والقنوط:
- الجهل بالله وصفاته وعظيم رحمته(1): قال -تعالى- في الحديث القدسي: (يَا ابْنَ آدَمَ: إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ: لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِ ي غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ: إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).
وقال -تعالى-: (قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) (الحجر: 56)، وقال -تعالى-: (*وَلَا *تَيْأَسُوا *مِنْ *رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (يوسف: 87).
- العجلة وعدم التأني: قال النَّبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا *يَزَالُ *يُسْتَجَابُ *لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ، أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ) قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا الِاسْتِعْجَالُ ؟ قَالَ: (يَقُولُ: قَدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ، فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لِي فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ، وَيَدَعُ الدُّعَاءَ) (متفق عليه).
(4) علاج اليأس والقنوط:
1- حسن الظن بالله والتعبد له بأسمائه وصفاته: قال -تعالى-: (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا *مِنْ *رَوْحِ *اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ *مِنْ *رَوْحِ *اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (يوسف: 87)، وقال -تعالى-: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ) (الأعراف: 156)، وقال -تعالى-: (*سَيَجْعَلُ *اللَّهُ *بَعْدَ *عُسْرٍ *يُسْرًا) (الطلاق: 7)، وقال: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا . إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) (الشرح: 5-6).
2- معرفة حقيقة الدنيا والزهد فيها: فيعلم المؤمن أن هذه هي الدنيا، فما فيها مِن لذة إلا مكدرة، وأنها لا تصفو لأحدٍ، وأنه لن يستريح إلا في جنة الله في الآخرة، قال -تعالى- عن أهل الجنة ساعة دخولها: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ . الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ) (فاطر: 34-35)؛ ولذا لما سُئِل الإمام أحمد: "متى الراحة؟ قال: عندما تضع أول قدميك في الجنة" (المقصد الأرشد).
3- الإكثار من الدعاء، فالله هو القادر على رفع البلاء: قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَا أَصَابَ أَحَدًا قَطُّ هَمٌّ وَلَا حَزَنٌ، فَقَالَ: اللهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ، ابْنُ عَبْدِكَ، ابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجِلَاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي، إِلَّا *أَذْهَبَ *اللهُ *هَمَّهُ وَحُزْنَهُ، وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَحًا)، قَالَ: فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا نَتَعَلَّمُهَا؟ فَقَالَ: (بَلَى، يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهَا أَنْ يَتَعَلَّمَهَا) (رواه أحمد، وصححه الألباني).
4- الإكثار من الذكر والصلاة: قال -تعالى-: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) (البقرة: 45)، وعن حذيفة -رضي الله عنه- قال: "كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا *حَزَبَهُ *أَمْرٌ، صَلَّى" (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).
خاتمة:
- مهما عظم المصاب فلا تيأس: قال الله -تعالى-: (وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ) (الحجر: 56) (1).
- يعقوب -عليه السلام- بعد طول السنين ينتظر الروح والفرج، ويبعث أولاده بالأمل في الله: (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا *مِنْ *رَوْحِ *اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ *مِنْ *رَوْحِ *اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (يوسف: 87).
- النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه في الغار والكفار بأسلحتهم فوق رأسيهما: (يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا) (متفق عليه)، (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) (التوبة: 40).
اللهم اشرح صدورنا، وفرِّج كروبنا، ويسِّر عسرنا.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــــــــ
(1) فمَن عَلِم أن الله هو الرزاق لم ييأس إذا أصابه الفقر، ومَن علم أن الله هو الشافي لم ييأس إذا أصابه المرض، ومَن علم أن الله هو القوي القهار لم ييأس إذا قهره ظالم، وهكذا في سائر الأقدار والأحوال.
ابو وليد البحيرى
2024-05-15, 12:32 AM
الكبائر (23)
الغيبة
(موعظة الأسبوع)
كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
المقدمة:
- الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضَمِن الله لمَن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
- الغيبة من الكبائر الخطيرة، والمنكرات المفسدة، والأخلاقيات القبيحة؛ لما لها من أثر عظيم في الإفساد بين الناس، وقد جاء الدليل على كونها من الكبائر: قال -تعالى-: (وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ) (الحجرات: 12).
- الإشارة إلى أن الغيبة من أكثر الذنوب انتشارًا بين الناس: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أَتَدْرُونَ *مَا *الْغِيبَةُ؟)، قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: (ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ)، قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: (إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ) (رواه مسلم).
- تفسيرات العلماء لمعنى الغيبة من خلال حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: قال ابن التين -رحمه الله-: "الغِيبة ذكر المرء بما يكرهه بظهر الغيب" (فتح الباري لابن حجر).
وعرَّفها الجوهري بقوله: "أنْ يتكلَّم خلف إنسانٍ مستور بما يَغُمُّه لو سمعه، فإن كان صدقًا سُمِّيَ غِيبَةً، وإن كان كذبًا سمِّي بُهتانًا" (الصحاح في اللغة)، وقال المناوي -رحمه الله-: "هي ذكر العيب بظهر الغيب بلفظٍ، أو إشارةٍ، أو محاكاةٍ" (فيض القدير).
- الفرق بين الغِيبة والنَّمِيمَة: الغيبةُ: ذكر الإنسان بما يكره لما فيها من مفسدة الأعراض. والنَّمِيمَة: أن ينقل إليه عن غيره أنه يتعرَّض لأذاه؛ لما فيها من مفسدة إلقاء البغضاء بين الناس. وسيأتي التفصيل في حديث منفرد عن النميمة.
(1) ذم الغِيبة والنهي عنها:
- الغيبة من الذنوب التي نَفَّر القرآن منها بما تستقذره نفوس الناس جميعًا: قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ) (الحجرات: 12).
قال الشوكاني -رحمه الله-: "فهذا نهي قرآني عن الغِيبة، مع إيراد مثل لذلك، يزيده شدَّةً وتغليظًا، ويوقع في النفوس من الكراهة والاستقذار لما فيه ما لا يقادر قدره، فإنَّ أكل لحم الإنسان من أعظم ما يستقذره بنو آدم جبلةً وطبعًا، ولو كان كافرًا أو عدوًّا مكافحًا؛ فكيف إذا كان أخًا في النسب، أو في الدين؟! فإنَّ الكراهة تتضاعف بذلك، ويزداد الاستقذار؛ فكيف إذا كان ميِّتًا؟! فإن لحم ما يستطاب ويحل أكله يصير مستقذرًا بالموت، لا يشتهيه الطبع، ولا تقبله النفس، وبهذا يعرف ما في هذه الآية من المبالغة في تحريم الغِيبة، بعد النهي الصريح عن ذلك" (الفتح الرباني).
- وعَظَّم النبي -صلى الله عليه وسلم- من شأن الأعراض، والتي تنتهكها الغيبة وتعتدى عليها: فعن أبي بكرة -رضي الله عنه-: أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال يوم النحر بمنى: (فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، *كَحُرْمَةِ *يَوْمِكُمْ *هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، إِلَى يَوْمِ تَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (*إِنَّ *مِنْ *أَرْبَى *الرِّبَا الِاسْتِطَالَةَ *فِي *عِرْضِ *الْمُسْلِمِ *بِغَيْرِ *حَقٍّ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
- وحَذَّر النبي -صلى الله عليه وسلم- من المفهوم الخاطئ عند كثيرٍ من الناس لمعنى الغيبة: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أَتَدْرُونَ *مَا *الْغِيبَةُ؟)، قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: (ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ)، قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: (إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ) (رواه مسلم)(1).
- وحَذَّر النبي -صلى الله عليه وسلم- مما يتساهل فيه أكثر الناس من الغيبة: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قلت للنَّبي -صلى الله عليه وسلم-: *حَسْبُكَ *مِنْ *صَفِيَّةَ كَذَا وَكَذَا -تَعْنِي قَصِيرَةً-، فَقَالَ: (لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ). قَالَتْ: وَحَكَيْتُ لَهُ إِنْسَانًا، فَقَالَ: (مَا أُحِبُّ أَنِّي حَكَيْتُ إِنْسَانًا وَأَنَّ لِي كَذَا وَكَذَا) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
قال النووي -رحمه الله-: "هذا الحديث من أعظم الزواجر عن الغِيبة أو أعظمها، وما أعلم شيئًا من الأحاديث بلغ في ذمها هذا المبلغ؛ فإذا كانت هذه الكلمة بهذه المثابة، في مزج البحر، الذي هو من أعظم المخلوقات؛ فما بالك بغيبة أقوى منها؟!" (فيض القدير).
(2) عقوبة المغتاب في الدنيا والآخرة:
- يتتبع الله عورة المغتاب ويفضحه ولو في جوف بيته: عن أبي برزة الأسلمي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يَا *مَعْشَرَ *مَنْ *آمَنَ *بِلِسَانِهِ، *وَلَمْ *يَدْخُلِ *الْإِيمَانُ *قَلْبَهُ، لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنِ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعُ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني).
- المغتاب يعطي حسناته لمَن اغتابه: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أَتَدْرُونَ مَا *الْمُفْلِسُ؟)، قَالُوا: *الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ، وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: (إِنَّ *الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ) (رواه مسلم).
قال الغزالي: "الغِيبة هي الصاعقة المهلكة للطاعات، ومَثَل مَن يغتاب كمَن ينصب منجنيقًا، فهو يرمي به حسناته شرقًا وغربًا، ويمينًا، وشمالًا!". وقال ابن المبارك: "لو كنت مغتابًا أحدًا لاغتبت والديَّ؛ لأنَّهما أحق بحسناتي" (شرح صحيح البخاري لابن بطال)، وعن الحسن البصري أنَّ رجلًا قال له: "إنك تغتابني، فقال: ما بلغ قدرك عندي أن أُحكمك في حسناتي" (الأذكار النووية).
- المغتابون في الآخرة يعذَّبون بتعذيب أنفسهم: عن أنس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمِشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلاَءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلاَءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ، وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني).
خاتمة: كفارة الغيبة:
- الغيبة من الكبائر، وكفارتها التوبة والندم، والاعتذار لمَن حدثت في حقه الغيبة إن كانت الغيبة قد بلغت الرجل: قال ابن تيمية -رحمه الله-: "ومَن ظلم إنسانًا فقذفه أو اغتابه أو شتمه ثم تاب قبِل الله توبته، لكن إن عرف المظلومُ مكَّنه مِن أخذ حقه، وإن قذفه أو اغتابه ولم يبلغه ففيه قولان للعلماء هما روايتان عن أحمد، أصحهما: أنه لا يعلمه أني اغتبتك. وقد قيل: بل يحسن إليه في غيبته كما أساء إليه في غيبته، كما قال الحسن البصري: كفارة الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته".
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــ ــــــــ
(1) بَيَّن العلماء مفهوم الحديث، وأنه مشتمل على كلِّ ما يستعمل في عيب أخيه الغائب: (قال الغزالي: اعلم أن الذكر باللسان إنما حُرِّم؛ لأن فيه تفهيم الغير نقصان أخيك، وتعريفه بما يكرهه، فالتعريض به كالتصريح، والفعل فيه: كالقول والإشارة، والإيماء والغمز، والهمز، والكتابة، والحركة، وكل ما يفهم المقصود؛ فهو داخل في الغيبة وهو حرام" (إحياء علوم الدين).
ما لا يُعد من الغيبة: قال النووي -رحمه الله-: "اعلم أنَّ الغِيبة تباح لغرض صحيح شرعي لا يمكن الوصول إليه إلا بها، وهو ستة أبواب:
الأول: التظلم، فيجوز للمظلوم أن يتظلم إلى السلطان والقاضي وغيرهما مما له ولاية أو قدرة على إنصافه من ظالمه، فيقول: ظلمني فلان كذا.
الثاني: الاستعانة على تغيير المنكر، ورد المعاصي إلى الصواب، فيقول لمن يرجو قدرته على إزالة المنكر: فلان يعمل كذا، فازجره عنه.
الثالث: الاستفتاء، فيقول للمفتي: ظلمني أبي، أو أخي، أو زوجي، أو فلان بكذا.
الرابع: تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم.
الخامس: أن يكون مجاهرًا بفسقه أو بدعته، كالمجاهر بشرب الخمر، وأخذ المكس، وغيره.
السادس: التعريف، فإذا كان الإنسان معروفًا بلقب الأعمش، والأعرج، والأصم، والأعمى، والأحول، وغيره؛ جاز تعريفه بذلك.
وجمعها الأمير الصنعاني في بيتين:
الـذَّمُّ لـيس بغـِـيـبةٍ فـي سِـتَّـةٍ مـُتَـظَـلِّمٍ ومُـعَرِّفٍ ومُــحَــذِّرِ
ولمُظْهِرٍ فِسْقًا ومُسْتَفْتٍ ومَنْ طَلَبَ الإعانة في إزالة مُنْكَرِ
ابو وليد البحيرى
2024-05-15, 12:35 AM
الكبائر (24)
النميمة
(موعظة الأسبوع)
كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
المقدمة:
- الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضَمِن الله لمَن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
- النميمة من الكبائر الخطيرة، والمنكرات المفسدة، والأخلاقيات القبيحة؛ لما لها من أثر عظيم في الإفساد بين الناس، وقد جاء الدليل على كونها من الكبائر: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (*لَا *يَدْخُلُ *الْجَنَّةَ *نَمَّامٌ) (متفق عليه)، وفي رواية: (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ *قَتَّاتٌ) (متفق عليه).
- النَّمِيمَة هي: نَقْلُ الحديث من قومٍ إلى قوم على جهة الإفْسادِ والشَّرِّ. وقيل هي: التحريش بين النَّاس والسعي بينهم بالإفساد.
- الفرق بين الغيبة والنَّمِيمَة؟: قال ابن حجر -رحمه الله-: "النَّمِيمَة نقل حال شخص لغيره على جهة الإفساد بغير رضاه؛ سواء كان بعلمه أم بغير علمه. والغيبة ذكره في غيبته بما لا يرضيه، فامتازت النَّمِيمَة بقصد الإفساد، ولا يشترط ذلك في الغيبة. وامتازت الغيبة بكونها في غيبة المقول فيه، واشتركتا فيما عدا ذلك".
(1) ذم النَّمِيمَة والترهيب منها:
- النمام يمشي بين الناس، ويحرِّش بينهم ويفسد ذات البَيْن: قال -تعالى-: (*وَلَا *تُطِعْ *كُلَّ *حَلَّافٍ *مَهِينٍ . هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ . مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ . عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ) (القلم:10-13).
- النمام يوقع الخصومة والقطيعة بين الناس: عن عبد اللّه بن مسعود -رضي الله عنه- قال: إنَّ محمدًا -صلى الله عليه وسلم- قال: (*أَلَا *أُنَبِّئُكُمْ *مَا *الْعَضْهُ؟ هِيَ النَّمِيمَةُ الْقَالَةُ بَيْنَ النَّاسِ) (رواه مسلم)، قال المناوي: (الْقَالَةُ بَيْنَ النَّاسِ). أي: كثرة القول، وإيقاع الخصومة بينهما، فيما يحكي للبعض عن البعض. (فيض القدير).
- النمام يفسد أشد من الساحر: ذكر ابن عبد البر عن يحيي بن أبي كثير قال: "يفسد النمام والكذاب في ساعة، ما لا يفسد الساحر في سنة" (فتح المجيد شرح كتاب التوحيد)، وروي: "كادت النميمة أن تكون سحرًا" (إسناده ضعيف). ومن عجيب التصنيف ولطيفه: إيراد الشيخ محمد بن عبد الوهاب هذا الحديث في باب ما جاء في شيء من السحر، في كتاب التوحيد.
- النَّمِيمَة تفسد الدِّين: قال النَّبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ)، قَالُوا: بَلَى، قَالَ: (صَلَاحُ ذَاتِ البَيْنِ، فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ البَيْنِ هِيَ الحَالِقَةُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
حكاية في أثر النميمة في الإفساد بين الناس:
قال حماد بن سلمة: "باع رجل عبدًا، وقال للمشتري: ما فيه عيب إلا النَّمِيمَة. قال: رضيت، فاشتراه، فمكث الغلام أيَّامًا، ثم قال لزوجة مولاه: إنَّ سيدي لا يحبك، وهو يريد أن يتسرى عليك، فخذي الموسى واحلقي من شعر قفاه عند نومه شعرات، حتى أسحره عليها فيحبَّك، ثم قال للزَّوج: إنَّ امرأتك اتخذت خليلًا، وتريد أن تقتلك، فتناوم لها حتى تعرف ذلك، فتناوم لها، فجاءت المرأة بالموسى، فظن أنَّها تريد قتله، فقام إليها فقتلها، فجاء أهل المرأة فقتلوا الزَّوج، ووقع القتال بين القبيلتين" (إحياء علوم الدين للغزالي).
(2) عاقبة النمام في الدنيا والآخرة:
- النميمة من أعظم أسباب عذاب القبر: عن ابن عبَّاس -رضي الله عنهما- قال: مَرَّ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِقَبْرَيْنِ، فَقَالَ: (إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنَ الْبَوْلِ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ. ثُمَّ أَخَذَ جَرِيدَةً رَطْبَةً، فَشَقَّهَا نِصْفَيْنِ، فَغَرَزَ فِي كُلِّ قَبْرٍ وَاحِدَةً. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، لِمَ فَعَلْتَ هَذَا؟ قَالَ: *لَعَلَّهُ *يُخَفَّفُ *عَنْهُمَا *مَا *لَمْ *يَيْبَسَا) (متفق عليه)(1).
- النمام متوعد بعدم دخول الجنة: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (*لَا *يَدْخُلُ *الْجَنَّةَ *نَمَّامٌ) (متفق عليه)، وفي رواية: (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ *قَتَّاتٌ) (متفق عليه).
- النمام متوعد بالويل والعذاب يوم القيامة: قال -تعالى-: (وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ) (الهمزة: 1)، قيل: اللُّمزة: النَّمَّام. عن أبي الجوزاء، قال: "قلتُ لابن عباس: مَن هؤلاء؟ هم الذين بدأهم الله بالويل؟ قال: هم المشاءون بالنَّمِيمَة، المفرِّقون بين الأحبَّة، الباغون أكبر العيب" (جامع البيان للطبري).
(3) ما يتوجب على المسلم عند سماع النميمة؟:
- تمهيد: كم من بيوت خربت، وكم من أوصال وأرحام قطعت، وكم من دماء سفكت، وكم من حقوق ضيعت؟! كل ذلك وغيره بسبب قبول سماع النميمة!
1- عليه نصح النمام وزجره: قال النَّبي -صلى الله عليه وسلم-: (*مَنْ *رَأَى *مِنْكُمْ *مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ *بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ) (رواه مسلم)، وقال الحسن: "مَن نَمَّ إليك نمَّ عليك" (من أقوال الشافعي).
2- التحقق من مقولته: قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات: 6).
3- ألا يتسرع بإبغاض المنقول عنه، أو الانتقام منه، بل يظن به خيرًا ما استطاع: قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ) (الحجرات: 12).
خاتمة: ما يجوز من النميمة؟
1- نميمة واجبة: وهي التي تكون للتحذير من شرٍّ واقع على إنسان ما، فيُخبر بذلك الشر ليحذره: قال ابن الملقن: "أمَّا إذا كان فعلها نصيحة في ترك مفسدة أو دفع ضرر، وإيصال خير يتعلق بالغير لم تكن محرمة ولا مكروهة، بل قد تكون واجبة أو مستحبة" (الإعلام بفوائد عمدة الأحكام)، وقال النووي: "وهذا كله إذا لم يكن في النقل مصلحة شرعية، وإلا فهي مستحبة، أو واجبة، كمَن اطلع مِن شخص أنه يريد أن يؤذي شخصًا ظلمًا فحذَّره منه" (فتح الباري لابن حجر).
2- نميمة مباحة: إذا كانت لحاجة تقتضيها مصلحة المسلمين عامة، كالإيقاع بين الأعداء بعضهم بعضًا، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (*الْحَرْبُ *خَدْعَةٌ) (متفق عليه)، كما فعل نعيم بن مسعود في تفريقه بين كلمة الأحزاب وبين بني قريظة، فقد جاء إلى هؤلاء فنمى إليهم عن هؤلاء كلامًا، ونقل من هؤلاء إلى أولئك شيئًا آخر، ثم لأم بين ذلك، فتناكرت النفوس وافترقت.
- وكالإصلاح ذات بين الناس: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، *فَيَنْمِي *خَيْرًا أَوْ يَقُولُ خَيْرًا) (متفق عليه).
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ
(1) قال السيوطي: (قد ذكر بعضهم السرَّ في تخصيص البول، والنَّمِيمَة، والغيبة بعذاب القبر، وهو: أنَّ القبر أول منازل الآخرة، وفيه أنموذج ما يقع في يوم القيامة من العقاب والثواب، والمعاصي التي يعاقب عليها يوم القيامة نوعان: حقٌّ لله، وحقٌّ لعباده، وأوَّل ما يقضى فيه يوم القيامة من حقوق الله: الصلاة، ومن حقوق العباد: الدِّماء، وأمَّا البرزخ فيقضى فيه في مقدمات هذين الحقين ووسائلهما، فمقدمة الصَّلاة: الطهَّارة من الحدث والخبث، ومقدمة الدَّماء: النَّمِيمَة والوقيعة في الأعراض، وهما أيسر أنواع الأذى، فيبدأ في البرزخ بالمحاسبة والعقاب عليهما).
ابو وليد البحيرى
2024-05-15, 12:36 AM
الكبائر (25)
الحسد
(موعظة الأسبوع)
كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
المقدمة:
- الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضَمِن الله لمَن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
- الحسد من الكبائر الخطيرة، والصفات الذميمة، وهو مِن الأمراض القلبية التي تصيب بعض الناس بسبب الغيرة، وعدم الرضا بالقضاء، وقد جاء الدليل على كونه من الكبائر: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ: *الْإِيمَانُ *وَالْحَسَدُ) (رواه النسائي، وصححه الألباني).
تعريف الحسد:
- هو كره النعمة عند الغير وتمني زوالها، وقد روي في بعض الآثار الإلهية: "الحاسد عدو نعمتي، متسخط لفعلي، غير راضٍ بقسمتي التي قسمت لعبادي" (كتاب مختصر منهاج القاصدين).
- بخلاف الغبطة -فهي حسد محمود-، وهي: أن يتمنى الإنسان أن يكون له مثل الذي عند الغير، دون تمني زوال تلك النعمة عن الغير، فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (*لَا *حَسَدَ *إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ) (متفق عليه).
أنواع الحسد:
1- حسد الكفار للمسلمين:
الكفار يحسدون المسلمين على نعمة الهداية، ومِنَّة التوفيق: قال -تعالى-: (*وَدَّ *كَثِيرٌ *مِنْ *أَهْلِ *الْكِتَابِ *لَوْ *يَرُدُّونَكُمْ *مِنْ *بَعْدِ *إِيمَانِكُمْ *كُفَّارًا *حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة: 109).
2- حسد الأقران بينهم (المتشابهون في الأحوال والأعمال):
"قيل لأحدهم: ما بال فلان يبغضك؟ قال: لأنه شقيقي في النَّسَب، وجاري في البلد، وشريكي في الصناعة"، فذكر جميع دواعي الحسد(1).
- هذا النوع شاع وانتشر في الدنيا، وبسببه تقطعت كثيرٌ من الأواصر بين الناس، وبسببه حصلت الكراهية والبغضاء بين الأقارب والأنساب، وتنافر الناس عن بعضهم: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمْ: الحَسَدُ وَالبَغْضَاءُ، هِيَ الحَالِقَةُ، لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ وَلَكِنْ *تَحْلِقُ *الدِّينَ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني)، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (*لَا *يَزَالُ *النَّاسُ *بِخَيْرٍ *مَا *لَمْ *يَتَحَاسَدُوا) (رواه الطبراني في المعجم الكبير، وحسنه الألباني).
ذم الحسد والتنفير منه:
- الحسد أول ذنب وقع في السماء: قال -تعالى-: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا . قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا) (الإسراء: 61-62).
- الحسد أول ذنب وقع في الأرض، وذلك عندما حَسَد أحد ابني آدم أخاه فقتله، فأصبح من النادمين الخاسرين: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (*لَا *تُقْتَلُ *نَفْسٌ *ظُلْمًا *إِلَّا *كَانَ *عَلَى *ابْنِ *آدَمَ *الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ) (متفق عليه).
- الحسد يورث البغضاء بين الناس؛ لأن الحاسد يبغض المحسود، وهذا يتنافى مع واجب الأخوة بين المؤمنين: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَجَسَّسُوا، وَلَا تَحَسَّسُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا وَكُونُوا *عِبَادَ *اللهِ *إِخْوَانًا) (متفق عليه).
آثار الحسد وخطورته:
للحسد خطورة على صاحبه؛ فهو يورده المهالك -والعياذ بالله-، ومن ذلك:
1- الحاسد معترض على قضاء الله -تعالى- وقَدَرِه، ويعارض أمر الله -تعالى-: قال -تعالى-: (*أَهُمْ *يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (الزخرف: 32)، وقيل: "الحسود غضبان على القدر" (كتاب المستطرف في كل فن مستطرف).
وقال الشاعر:
أيـا حـاسـدًا لـي عـلى نعمتي أتدري على مَن أسأتَ الأدب
أسـأت عـلـى الله فـي حـكـمه لأنك لـم تـرض لي ما وهـب
فــأخـزاك ربـي بـأن زادنــي وسـدَّ عـليـك وجـوه الطـلـب
2- الحاسد يصاب بالعجب والكبر؛ لأنه لا يحب أن يعلو عليه أحدٌ، بل يحب أن يكون شأنه الشأن الأعلى؛ كل ذلك طمعًا في الدنيا، وحب الظهور فيها: قال -تعالى-: (*تِلْكَ *الدَّارُ *الْآخِرَةُ *نَجْعَلُهَا *لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص: 83).
3- الحاسد يصاب بالحقد والعداوة والبغضاء لأصحاب النعم؛ لأنها أمراض مقترنة بالحسد: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمْ: الحَسَدُ وَالبَغْضَاءُ، هِيَ الحَالِقَةُ، لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ وَلَكِنْ *تَحْلِقُ *الدِّينَ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).
4- الحاسد لا يهنأ له عيش: قال عمر -رضي الله عنه-: " يكفيك من الحاسد، أنه يغتم وقت سرورك" (كتاب أدب الدنيا والدين).
وقال أبو الليث السمرقندي -رحمه الله-: "يصل إلى الحاسد خمس عقوبات قبل أن يصل حسده إلى المحسود: أولاها: غم لا ينقطع. والثانية مصيبة لا يؤجر عليها. والثالثة: مذمة لا يُحمَد عليها. والرابعة: سخط الرب. والخامسة: يغلق عنه باب التوفيق" (المستطرف للأبشيهي).
علاج الحسد:
1- أن يتذكر الحاسد ويعلم أن ما أصابه مِن خير فمَن الله، وما أصابه مِن شرٍّ فمِن نفسه، وأن قضاء الله واقع لا محالة، فالله يؤتي ملكه مَن يشاء، وينزعه ممَّن يشاء، ويعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، فربما كان عطاؤه استدراجًا؛ فليرضَ بما قَسَم الله، فالله -تعالى- حكم عدل، لا يظلم مثقال ذرة، يعطي ويمنع، فمَن أعطي عليه أن يشكر، ومن مُنع عليه أن يصبر، والصبر منزلة عظيمة لا يؤتاها أي إنسان، بل هو سبيل إلى الجنة، ورضا الرحمن -جل جلاله-.
2- أن يستحضر الأدلة الواردة في التنفير من هذه الصفة الذميمة.
3- أن يستشعر مدى الهم والغم الذى يلحق بالحاسد، وما يصيبه من أمراض عضوية، وآلام نفسية من جراء الحسد، قال أعرابي: "قاتل الله الحسد ما أعدله، بدأ بصاحبه فقتله"(2).
4- أن يعلم أن ذلك ينافي الإيمان، ويفسد علاقته بالأحبة والإخوان: (*لَا *يُؤْمِنُ *أَحَدُكُمْ *حَتَّى *يُحِبَّ *لِأَخِيهِ *مَا *يُحِبُّ *لِنَفْسِهِ) (متفق عليه).
5- أن يكثر الدعاء بأن يطهِّرَ الله قلبه من الحسد على غيره.
نسأل الله أن يطهِّرَ قلوبنا من الحسد والحقد والغل، وأن يجعلنا إخوة متحابين متعاونين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وأًصحابه أجمعين.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــ ـــــ
(1) فحسد الأقران نراه اليوم واضحًا جليًّا بين الأئمة والمعلِّمين، والخطباء، والبارزين في أعمالهم، ونراه بين الطلاب أنفسهم صغارًا وكبارًا، فيكثر الحسد أيام الاختبارات، وأثناء الحفلات والزيارات وغير ذلك. فحسد الأقران اليوم هو ما تعانيه الأمة الإسلامية قاطبة؛ يحسدون شخصًا؛ لأن الله مَنَّ عليه بالعلم الوافر، ويحسدون آخر؛ لأن الله -عز وجل- مَنَّ عليه بالخُلُق الجَمِّ، ويحسدون آخر؛ لمكانته العلمية أو لمكانته في المجتمع، أو لمنصبه الذي حباه الله إياه، أو لما أغدق الله عليه من الخيرات والأموال، أو لكثرة أولاده أو زوجاته، أو يحسدون المرأة لجمالها أو لحسن أدبها، وتربيتها وإجادة طبخها، وغير ذلك كثير؛ قال -تعالى-: (أمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ) (النساء: 54).
(2) حكاية وعظية في الترهيب من الحسد: "حكي أن رجلًا من العرب دخل على المعتصم فقربه وأدناه وجعله نديمه، وصار يدخل عليه من غير استئذان، وكان له وزير حاسد، فغار من البدوي وحسده، وقال في نفسه: إن لم أحتل على هذا البدوي في قتله، أخذ بقلب أمير المؤمنين وأبعدني منه، فصار يتلطف بالبدوي حتى أتى به إلى منزله، فطبخ له طعامًا وأكثر فيه من الثوم، فلما أكل البدوي منه قال له: احذر أن تقترب من أمير المؤمنين فيشم منك فيتأذى من ذلك، فإنه يكره رائحته، ثم ذهب الوزير إلى أمير المؤمنين فخلا به وقال: يا أمير المؤمنين! إن البدوي يقول عنك للناس: إن أمير المؤمنين أبخر، وهلكت مِن رائحة فمه، فلما دخل البدوي على أمير المؤمنين، جعل كمه على فمه مخافة أن يشم منه رائحة الثوم، فلما رآه أمير المؤمنين وهو يستر فمه بكمه قال: إن الذي قاله الوزير عن هذا البدوي صحيح، فكتب أمير المؤمنين كتابًا إلى بعض عماله يقول فيه: إذا وصل إليك كتابي هذا فاضرب رقبة حامله، ثم دعا البدوي ودفع إليه الكتاب، وقال له: امضِ به إلى فلان، وائتني بالجواب، فامتثل البدوي ما رسم به أمير المؤمنين، وأخذ الكتاب وخرج به من عنده، فبينما هو بالباب إذ لقيه الوزير فقال: أين تريد؟ قال: أتوجه بكتاب أمير المؤمنين إلى عامله فلان، فقال الوزير في نفسه: إن هذا البدوي يحصل له من هذا التقليد مال جزيل، فقال له: يا بدوي ما تقول فيمن يريحك من هذا التعب الذي يلحقك في سفرك، ويعطيك ألفي دينار، فقال: أنت الكبير، وأنت الحاكم، ومهما رأيته من الرأي أفعل، قال: أعطني الكتاب فدفعه إليه، فأعطاه الوزير ألفي دينار، وسار بالكتاب إلى المكان الذي هو قاصده، فلما قرأ العامل الكتاب أمر بضرب رقبة الوزير، فبعد أيام تذكر الخليفة في أمر البدوي، وسأل عن الوزير، فأخبر بأن له أيامًا ما ظهر، وأن البدوي بالمدينة مقيم، فتعجب من ذلك، وأمر بإحضار البدوي فحضر، فسأله عن حاله، فأخبره بالقصة التي اتفقت له مع الوزير من أولها إلى آخرها، فقال له: أنت قلت عني للناس إني أبخر؟ فقال: معاذ الله يا أمير المؤمنين أن أتحدث بما ليس لي به علم، وإنما كان ذلك مكرًا منه وحسدًا، وأعلمه كيف دخل به إلى بيته وأطعمه الثوم وما جرى له معه، فقال أمير المؤمنين: قاتل الله الحسد ما أعدله، بدأ بصاحبه فقتله، ثم خلع على البدوي، واتخذه وزيرًا، وراح الوزير بحسده" (موسوعة قصص ونوادر العرب لإبراهيم شمس الدين).
ابو وليد البحيرى
2024-05-18, 10:05 PM
الكبائر (26)
الإسراف والتبذير
(موعظة الأسبوع)
كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
المقدمة:
- الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضَمِن الله لمَن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
- الإسراف والتبذير من الذنوب المفسدة للدنيا والدين، وهو من كفران نعمة رب العالمين، ومن الكبائر الموبقات: قال الله -تعالى-: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف: 31)، وقال -تعالى-: (وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا . إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) (الإسراء: 26-27).
المقصود بالإسراف والتبذير:
- قال الراغبُ الأصفهاني: "السَّرَفُ: تَجاوزُ الحدِّ في كلِّ فِعْلٍ يَفْعَلُهُ الإنسانُ، وإنْ كان ذلكَ في الإنفاقِ أشهر"، وقال الشافعيُّ: "التبذيرُ: إنفاقُ الْمَالِ في غيرِ حَقِّه"، والفرقُ بينهما كما قال الجرجاني: "الإسرافُ: *صرفُ *الشيءِ *فيما *ينبغي زائدًا على ما ينبغي؛ بخلاف التبذير؛ فإنه صرفُ الشيءِ فيما لا ينبغي".
- من صور الإسراف: أن يقوم الشخص بملء طبقه من مائدة الطعام حتى لو لم يكن محتاجًا لذلك، فهذا يعني أنه أسرف في شيء مباح -أي: الطعام-؛ لأنه قد يأكل فقط نصف هذا الطبق والباقي سيرميه - الإسراف في الماء والكهرباء، والولائم وتجهيزات الزواج وحفلاته - استبدال الهواتف والأثاثات والسيارات دون حاجة - مواقع إلكترونية للأرقام المميزة للهواتف، والسيارات، ونحوها بمبالغ خيالية!
- من صور التبذير: مَن يشتري شيئًا مِن المحرمات (السجائر - شراء الكلاب والطيور بمبالغ كبيرة - صفقات لاعبي الكرة بأرقام قياسية - حفلة الكريسماس في دولة خليجية تعدل ميزانية دولة إفريقية!). "ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا".
- في نفس الوقت... كم من الفقراء يموتون من الجوع! وكم من المشاريع الخيرية والدعوية وغيرها تعطلت؛ لعدم مَن ينفق عليها! وكم... وكم...!: قال -تعالى-: (أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ . لِيَوْمٍ عَظِيمٍ . يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (المطففين: 4-6)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
حكم الإسراف والتبذير:
- حرَّم الله الإسراف؛ لما له مِن أضرار على الإنسان في الدنيا والآخرة: قال -تعالى-: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف: 31)، وقال -تعالى-: (وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا) (الإسراء: 29)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ) (متفق عليه).
- وشَبَّه الله المسرفين بالشياطين تنفيرًا من فعلهم: قال - -تعالى-: (وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا . إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) (الإسراء: 26-27)، قال ابن كثير: "أي: في التبذير والسفه، وترك طاعة الله".
- وجعل المسرفين المبذرين من أبغض الناس إليه: قال -تعالى-: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف: 31).
- وجعل عليهم في الدنيا أحكامًا استثنائية بسبب إسرافهم -الحجر-: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا) (النساء: 5).
الآثار والعواقب السيئة للإسراف:
1- الإسراف وحده سبب للإبعاد عن الله؛ لعدم محبة الله لصاحبه: قال -تعالى-: (إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأنعام: 141).
2- الإسراف في الأكل يضرُّ بصحة الإنسان، ويجعله كسولًا وربما عاجزًا عن استدراك عمره في الأعمال الصالحة، وفيما ينفعه ويرفعه: قال -تعالى-: (وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ) (الأعراف: 31).
3- الإسراف في الإنفاق في غير وجوه الخير، يعرض الإنسان للمساءلة والعتاب أو العقاب يوم القيامة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
4- قد يكون الإسراف والتبذير طريقًا ينتهي بصاحبه إلى تطاول يده للمال الحرام، حتى يلبي لنفسه ما اعتادت عليه من الترف والرفاهية والإسراف في الإنفاق: قال ابن عاشور -رحمه الله-: "والإسراف إذا اعتاده المرء حمله على التوسع في تحصيل المرغوبات، فيرتكب لذلك مذمَّات كثيرة، وينتقل من ملذَّة إلى ملذَّة، فلا يقف عند حدٍّ" (التحرير والتنوير).
5- يؤدي الإسراف والتبذير إلى الكبر والعجب والتفاخر والغرور، وهي من باطن الإثم الذي أمر الله باجتنابه وتركه: قال -تعالى-: )وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ) (الأنعام: 120).
أسبابُ الإسراف والتبذير:
1- الجهل بأحكام الشريعة، وما جاء من الوعيد على ذلك.
2- التأثُّر بالبيئة، من باب المحاكاة والتشبه؛ لئلا يظهر أنه أقل منهم.
3- الغِنَى بعد الفقرِ -إلا من رحم الله-، وكأنه ناقم على زمان الفقر بالإسراف والتبذير.
4- الغفلة عن الآخرةِ بنسيان نعيمها، فيريد التنعم بكثرة التبذير والإسراف.
5- مُصاحبة المسرفينَ والْمُبذِّرين، فيسايرهم في أحوالهم.
الفرق بين الإسراف والسخاء؟
شبهة: كثيرٌ من المسرفين المبذرين، يخلطون بين السخاء والإسراف، ويجهلون أن السخاء يكون في الحق، والإسراف والتبذير يكون في غير الحق: قال مجاهد: "لو أنفق إنسان ماله كله في الحق لم يكن مبذرًا، ولو أنفق مدًّا في غير حق كان مبذرًا" (تفسير ابن كثير)، (مثال: اشترى مسكنًا واسعًا بدلًا من الضيق - اشترى سيجارة).
- والشرع لا يمنعك من الاستمتاع بمالك بحقه: لما قال -تعالى-: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) (الأعراف: 32)، نبَّه قبلها: (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف: 31)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (كُلُوا وَاشْرَبُوا، وَالْبَسُوا وَتَصَدَّقُوا، فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا مَخِيلَةٍ) (رواه النسائي، وابن ماجه واللفظ له، وحسنه الألباني).
- السلف خير مثال في النفقة والاعتدال: قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لابنه عاصم: "يا بني كُل في نصف بطنك، ولا تطرح ثوبًا حتى تستخلقه، ولا تكن مِن قوم يجعلون ما رزقهم الله في بطونهم وعلى ظهورهم" (تفسير القرطبي)، وقال لجابر بن عبد الله وقد لقيه يحمل بيده لفافة: "ما هذا؟ قال: لحم اشتهيته فاشتريته، فقال: أَوَكلما اشتهيتَ اشتريت؟! ألا تخشى أن تكون من أهل هذه الآية: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُ مْ بِهَا) (الأحقاف: 20)" (تفسير القرطبي).
قالوا في التحذير من الإسراف:
(أصلحوا أموالكم لنَبْوة الزمان، وجفوة السلطان - مَن أصلح ماله فقد صان الأكرمين: الدِّين، والعِرْض - ما عالَ مقتصدٌ - لا عيلة على مصلحٍ، ولا مال لأخرق - لا جود مع تبذير، ولا بخل مع اقتصادٍ - التدبير يثمر اليسير، والتبذير يبدد الكثير - حسن التدبير مع الكفاف أكفى من الكثير مع الإسراف - إنَّ في إصلاح مالك جمال وجهك، وبقاء عزِّك، وصون عرضك، وسلامة دينك).
خاتمة:
- الإسراف والتبذير من الذنوب المفسدة للدنيا والدِّين، وهو من كفران نعمة رب العالمين، ومن الكبائر الموبقات: قال -تعالى-: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف: 31)، وقال -تعالى-: (وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا . إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) (الإسراء: 26-27).
- خير الأمور الوسط: قال -تعالى-: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) (الفرقان: 67)، قال ابنُ كثير: "أيْ: *ليسُوا *بمبذِّرِينَ في إنفاقِهِم، فيصرِفُونَ فوقَ الحاجةِ، ولا بُخَلاءَ على أهليهِم فيُقَصِّرُونَ في حقِّهِم فلا يَكْفُونَهُم، بلْ عَدْلًا خِيارًا، وخيرُ الأُمُورِ أوْسَطُها" (تفسير القرآن الكريم لابن كثير).
فاللهم اهدنا إلى أحسن الأخلاق، إنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت.
ابو وليد البحيرى
2024-05-18, 10:06 PM
الكبائر (27)
نشوز الزوجة
(موعظة الأسبوع)
كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
المقدمة:
- الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضمن الله لمن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
- نشوز الزوجة من الذنوب المفسدة للدنيا والدِّين، وهو من كفران نعمة رب العالمين، وهو من الكبائر الموبقات يوم الدين: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ فَأَبَتْ فَبَاتَ غَضْبَانَ عَلَيْهَا، لَعَنَتْهَا المَلاَئِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ) (متفق عليه).
- المقصود بالنشوز: النُّشوز لغة معناه: الارتفاع والعلو، ومنه: "سمِّيَت المرأة ناشزًا، إذا علَت وارتفعت وتكبَّرَت على زوجها" (تفسير المنار)، والنشوز في اصطلاح الشرع: هو امتِناع المرأة من أداء حقِّ الزوج، أو عصيانه، أو إساءة العشرة معه، فكلُّ امرأة صدر منها هذا السلوك، أو تخلَّقَت به، فهي امرأة ناشز، ما لم تقلع عن ذلك، أو تصلح خلقها، قال ابن قدامة: "معنى النشوز: معصية الزوج فيما فَرَض الله عليها من طاعته" (المغني).
وجوب طاعة المرأة زوجها بالمعروف:
- عَظَّم الإسلام من شأن الحياة الزوجية، والمحافظة على بقائها، والترهيب من نقضها وهدمها: قال -تعالى-: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَ?لِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم: 21)، وقال: (وَعَاشِرُوهُنّ بِالْمَعْرُوفِ) (النساء: 19)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّ إبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ علَى الماءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَراياهُ، فأدْناهُمْ منه مَنْزِلَةً أعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أحَدُهُمْ فيَقولُ: فَعَلْتُ كَذا وكَذا، فيَقولُ: ما صَنَعْتَ شيئًا، قالَ ثُمَّ يَجِيءُ أحَدُهُمْ فيَقولُ: ما تَرَكْتُهُ حتَّى فَرَّقْتُ بيْنَهُ وبيْنَ امْرَأَتِهِ، قالَ: فيُدْنِيهِ منه ويقولُ: نِعْمَ أنْتَ).
- وأوجب الإسلام على المرأة طاعة زوجها بالمعروف؛ لتتحقَّق لهما المصالح المقصودة من عقد الزواج، ولما لهذه الطاعة من أهميَّة في الحفاظ على الأسرة واستقرارها وسعادتها: قال -تعالى-: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ) (النساء: 34). قال ابن كثير: "(قَانِتَاتٌ): قال ابن عباس وغير واحد: يعني مطيعات لأزواجهنَّ. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم: (إِذَا صَلَّتِ الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا، وَصَامَتْ شَهْرَهَا، وَحَفِظَتْ فَرْجَهَا، وَأَطَاعَتْ زَوْجَهَا، قِيلَ لَهَا: ادخلي الجنة من أي الأبواب شِئْتِ) (رواه أحمد وابن حبان، وصححه الألباني).
- وبيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن طاعة الزوج بالمعروف علامة على صلاح المرأة، وسبيل للنجاة من النار، والفوز بالجنة: فعن الحصين بن محصن أن عمَّة له أتَت النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- في حاجةٍ، ففرغَت من حاجتها، فقال لها النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَذَاتُ زَوْجٍ أَنْتِ؟) قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: (كَيْفَ أَنْتِ لَهُ؟) قَالَتْ: *مَا *آلُوهُ *إِلَّا *مَا *عَجَزْتُ *عَنْهُ. قَالَ: (فَانْظُرِي أَيْنَ أَنْتِ مِنْهُ، فَإِنَّمَا هُوَ جَنَّتُكِ وَنَارُكِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، وسُئِلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: أَيُّ النِّسَاءِ خَيْرٌ؟ قَالَ: (*الَّتِي *تَسُرُّهُ *إِذَا *نَظَرَ *إِلَيْهَا، *وَتُطِيعُهُ *إِذَا *أَمَرَ، وَلَا تُخَالِفُهُ فِيمَا يَكْرَهُ فِي نَفْسِهَا، وَلَا فِي مَالِهِ) (رواه أحمد والنسائي، وحسنه الألباني).
- وعظَّم النبي -صلى الله عليه وسلم- من حق الزوج، وعدم مخالفته ولو كان ذلك في طاعة مستحبة تتعارض مع حقوقه؛ فكيف بالمباح؟: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (*لَا *يَحِلُّ *لِلْمَرْأَةِ *أَنْ *تَصُومَ *وَزَوْجُهَا *شَاهِدٌ *إِلَّا *بِإِذْنِهِ، *وَلَا *تَأْذَنَ *فِي *بَيْتِهِ *إِلَّا *بِإِذْنِهِ) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (*إِذَا *الرَّجُلُ *دَعَا *زَوْجَتَهُ *لِحَاجَتِهِ فَلْتَأْتِهِ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى التَّنُّورِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
لماذا يعد النشوز من الكبائر؟
- لأنَّ النشوز بكفران العشير والإحسان سبب لدخول النار: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أُرِيتُ النَّارَ فَإِذَا أَكْثَرُ أَهْلِهَا النِّسَاءُ؛ يَكْفُرْنَ)، قِيلَ: أَيَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟ قَالَ: (يَكْفُرْنَ العَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الإِحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ، ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ) (متفق عليه). قال النووي -رحمه الله-: "فيه: أنَّ كفرانَ العَشِيرِ والإحسانِ من الكبائرِ؛ فإنَّ التَّوَعُّدَ بالنَّارِ من علامةِ كونِ المعصيةِ كبيرةً" (شرح النووي على صحيح مسلم).
- لأنَّ النشوز بالامتناع عن الفراش سبب في لعن الملائكة: قَالَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ فَأَبَتْ فَبَاتَ غَضْبَانَ عَلَيْهَا، لَعَنَتْهَا المَلاَئِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ) (متفق عليه).
- لأنَّ مَن باتَتْ وزوجُها سَاخطٌ عليها متوعَّدةٌ بألا تُقْبَلَ صلاتُها: عن أبي أُمَامَةَ -رضي الله عنه- قال: قَالَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ثَلَاثَةٌ لَا تُجَاوِزُ صَلَاتُهُمْ آذَانَهُمْ: الْعَبْدُ الْآبِقُ حَتَّى يَرْجِعَ، وَامْرَأَةٌ بَاتَتْ وَزَوْجُهَا عَلَيْهَا سَاخِطٌ، وَإِمَامُ قَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني). وقال الشوكاني في نيل الأوطار: "فيه: أنَّ إغضَابَ المرأةِ لزوجِها حتَّى يبيتَ سَاخِطًا عليها من الكبائرِ، وهذا إذا كانَ غضَبُه عليها بِحَقٍّ" (نيل الأوطار).
- لأنَّ الله -تعالى- لا ينظرُ لامرأةٍ لا تشكرُ زوجَها: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رضي الله عنهما-: أَنَ ّرَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (لا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى امْرَأَةٍ لا تَشْكَرُ لِزَوْجِهَا، وَهِيَ لا تَسْتَغْنِي عَنْهُ) (رواه النسائي والحاكم، وصححه الألباني).
- رتَّب الشرع أحكامًا عقابية للمرأة إذا نشزت تدل على عظيم جرمها: قال ابن قدامة -رحمه الله-: "فمتى امتنعَت من فراشه، أو خرجَت من منزله بغير إذنه، أو امتنعت من الانتقال معه إلى مسكن مثلها، أو مِن السَّفر معه؛ فلا نَفقة لها ولا سكنى، في قول عامَّة أهل العلم" (المغني).
علاج نشوز المرأة:
- الواجب على الزوج أن يَسلك في معالجته لنشوز زوجته العقوبات الثلاثة الواردة في الشرع بتلك الطريقة الحكيمة التي تبدأ بالعقوبة الخفيفة، ثم تتدرَّج إلى العقوبة الشديدة، ثم إلى الأكثر شدة؛ قال الله -تعالى-: (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا) (النساء: 34)(1).
- الضرب وسيلة مباحة؛ إلا أن الأفضل للمسلم تركه، والترفع عنه، إلا إذا اضطر إليه: قالت عائشة - رضي الله عنها-: "ما ضَرَبَ رَسولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ- شيئًا قَطُّ بيَدِهِ، وَلَا امْرَأَةً، وَلَا خَادِمًا؛ إلَّا أَنْ يُجَاهِدَ في سَبيلِ اللهِ، وَما نِيلَ منه شَيءٌ قَطُّ، فَيَنْتَقِمَ مِن صَاحِبِهِ؛ إلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيءٌ مِن مَحَارِمِ اللهِ، فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-" (رواه مسلم)، عن عبد الله بن زمعة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (*لَا *يَجْلِدُ *أَحَدُكُمُ *امْرَأَتَهُ *جَلْدَ *الْعَبْدِ *ثُمَّ *يُجَامِعُهَا *فِي *آخِرِ *الْيَوْمِ) (متفق عليه).
خاتمة: نصيحة إلى الزوجات:
- تأملي كيف عظم الله من حق الزوج الصالح: عن عبد الله بن أبي أوفى قال: لَمَّا قَدِمَ مُعَاذٌ مِنَ الشَّامِ سَجَدَ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: (مَا هَذَا يَا مُعَاذُ؟) قَالَ: أَتَيْتُ الشَّامَ فَوَافَقْتُهُمْ يَسْجُدُونَ لِأَسَاقِفَتِهِ مْ وَبَطَارِقَتِهِ مْ، فَوَدِدْتُ فِي نَفْسِي أَنْ نَفْعَلَ ذَلِكَ بِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (فَلَا تَفْعَلُوا، فَإِنِّي لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِغَيْرِ اللَّهِ، لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، *لَا *تُؤَدِّي *الْمَرْأَةُ *حَقَّ *رَبِّهَا *حَتَّى *تُؤَدِّيَ *حَقَّ *زَوْجِهَا، وَلَوْ سَأَلَهَا نَفْسَهَا وَهِيَ عَلَى قَتَبٍ لَمْ تَمْنَعْهُ) (رواه أحمد وابن ماجه، وقال الألباني: "حسن صحيح").
- تأملي كيف خرجت الناشز من وصف الصلاح، وأُخِّرت عن الصالحات(2)، فضلًا عما سبق من الوعيد في حقها: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا) (النساء: 34).
- العاقلة التي تحافظ على بيتها وزوجها: قال النبي -صلى الله عليه وسلم: (َألَاْ أُخبِرُكُم بِنِسَائِكُم فِي الجَنَّةِ؟! كُلُّ وَدُودٍ وَلُودٍ، إِذَا غَضِبَت أَو أُسِيءَ إِلَيهَا أَو غَضِبَ زَوجُهَا، قَالَت: هَذِه يَدِي فِي يَدِكَ، لَاْ أَكْتَحِلُ بِغُمضٍ َحتَّى تَرضَى) (رواه النسائي في الكبرى، وقال الألباني في السلسلة الصحيحة: "للحديث شواهد يتقوى بها").
فاللهم أصلح بيوت المسلمين، وألِّف بينهم، واهدهم إلى ما تحب وترضى.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــ ـ
(1) (فَعِظُوهُنَّ) أي: ببيان حُكم الله في طاعة الزوج ومعصيته، فمِن النِّساء مَن يَكفيها التذكير بعِقاب الله وغضبه، ومنهنَّ مَن يؤثِّر في أنفسهن التهديد والتحذير مِن سوء العاقِبة في الدنيا: كشَماتة الأعداء، ومنعها بعض رغباتها: كالثياب والحلي ونحو ذلك، وفي الجملة فاللبيب لا تَخفى عليه العِظات التي لها المحل الأرفع في قلب امرأته، ثم قال -تعالى-: (وَاهْجُرُوهُنّ فِي الْمَضَاجِعِ): يهجرها الزَّوج في المضجع، بأن لا يضاجعها، ولا يجامعها، بمقدار ما يَحصل به المقصود. ثم قال -تعالى- بعد ذلك: (وَاضْرِبُوهُنّ ): يضربها ضربًا غير مبرح، فإن حصل المقصود بواحد من هذه الأمور، وأطعنكم (فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا) أي: فقد حصل لكم ما تحبون، فاتركوا معاتبتها على الأمور الماضية، والتنقيب عن العيوب التي يضر ذكرها، ويحدث بسببه الشر. (تفسير السعدي - تيسير الكريم الرحمن).
(2) النساء نوعان: الأول: (فَالصَّالِحَات قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ) أي: فالصالحات من النساء من صفاتهن أنهن قانتات، أي: مطيعات لله -تعالى-، ولأزواجهن عن طيب نفس واطمئنان قلب، ومن صفاتهن كذلك أنهن حافظات، للغيب بما حفظ الله. أما القسم الثاني: (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ)، والمراد بقوله: (نُشُوزَهُنَّ) عصيانهن وخروجهن عما توجبه الحياة الزوجية من طاعة الزوجة لزوجها.
ابو وليد البحيرى
2024-05-24, 11:32 AM
الكبائر (28)
ترك صلاة الجمعة
(موعظة الأسبوع)
كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
المقدمة:
- الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضمن الله لمن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
- ترك صلاة الجمعة كبيرة من الكبائر ومن أعظم المنكرات وأشد السيئات وله أثر سيئ على دين المؤمن: قال النبي -صلى الله عليه وسلم: (لَيَنْتَهِيَنّ *أَقْوَامٌ *عَنْ *وَدْعِهِمُ *الْجُمُعَاتِ، أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ. ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنَ الْغَافِلِينَ) (رواه مسلم).
- الإشارة إلى شيوع هذه الظاهرة في بعض الناس لا سيما الشباب.
مكانة صلاة الجمعة من الدِّين:
- شُرعت صلاة الجمعة لجمع المكلفين القادرين على تحمل المسئوليات، أول كل أسبوع في مكان واحد، ليسمعوا فيه الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، ما يحملهم على النهوض بواجباتهم الدينية والدنيوية: قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (الجمعة: 9).
- منع المسلم ساعتها من التصرفات الدنيوية، وأمره بالتفرغ لها: (فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ . فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الجمعة: 9، 10)، وقال عطاء: "إذا نودي بالأذان حرم اللهو والبيع والصناعات كلها والرقاد، وأن يأتي الرجل أهله، وأن يكتب كتابًا" (فتح الباري).
- ولذا حكمها في الدين الوجوب والإلزام: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الجُمُعة حقٌّ واجبٌ على كلِّ مُسلمٍ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
- شرعت لها آداب وأحكام تدل على عظيم قدرها:
- خطبة الجمعة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم: (*مَنْ *تَوَضَّأَ *فَأَحْسَنَ *الْوُضُوءَ. *ثُمَّ *أَتَى *الْجُمُعَةَ *فَاسْتَمَعَ *وَأَنْصَتَ. غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ. وَزِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ) (رواه مسلم)، وقال -صلى الله عليه وسلم- في التحذير من الانشغال عن الخطبة: (مَنْ مَسَّ الْحَصَى فَقَدْ لَغَا) (رواه مسلم).
- الاغتسال والتطيب والتسوك ولبس أحسن الثياب: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ *اغْتَسَلَ *يَوْمَ *الْجُمُعَةِ *وَلَبِسَ *مِنْ *أَحْسَنِ *ثِيَابِهِ، وَمَسَّ مِنْ طِيبٍ إِنْ كَانَ عِنْدَهُ، ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ فَلَمْ يَتَخَطَّ أَعْنَاقَ النَّاسِ، ثُمَّ صَلَّى مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ، ثُمَّ أَنْصَتَ إِذَا خَرَجَ إِمَامُهُ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ صَلَاتِهِ كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ جُمُعَتِهِ الَّتِي قَبْلَهَا) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).
- التبكير إليها: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْأُولَى فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً، فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ حَضَرَتْ الْمَلَائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ) (متفق عليه).
وقال ابن القيم -رحمه الله-: "لما كان في الأسبوع كالعيد في العام، وكان العيد مشتملًا على صلاة وقربان، وكان يوم الجمعة يوم صلاة، جعل الله -سبحانه- التعجيلَ فيه إلى المسجد بدلًا مِن القربان، وقائمًا مقامه، فيجتمع للرائح فيه إلى المسجد الصلاةُ، والقربان" (زاد المعاد في هَدْي خير العباد).
عاقبة ترك صلاة الجمعة من غير عذر:
- أوجب الإسلام الجمعة -كما سبق-، ولم يستثنِ إلا أصحاب الأعذار: عن طارق بن شهاب -رَضِيَ اللهُ عنه- أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: (الجُمُعة حقٌّ واجبٌ على كلِّ مُسلمٍ فِي جَمَاعَةٍ، إلَّا أَرْبَعَةً: عبْدٌ مملوكٌ، أو امرأةٌ، أو صَبيٌّ، أو مَرِيضٌ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
- ولذا رتب الشرع الوعيد الشديد في ترك الجمعات لغير المعذورين: قال -تعالى-: (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ? فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) (مريم: 59)، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: )مَنْ تَرَكَ *ثَلَاثَ *جُمَعٍ *تَهَاوُنًا بِهَا، طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ) (رواه أبو داود، وقال الألباني: "حسن صحيح")، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لَيَنْتَهِيَنّ *أَقْوَامٌ *عَنْ *وَدْعِهِمُ *الْجُمُعَاتِ، أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ. ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنَ الْغَافِلِينَ) (رواه مسلم). وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "من ترك الجمعة ثلاث جمع متواليات فقد نبذ الإسلام وراء ظهره" (الترغيب والترهيب للمنذري، وأبو يعلى في مسنده). وقال ابن عبد البر -رحمه الله-: "مَن طبع على قلبه وختم عليه لم يعرف معروفًا ولم ينكر منكرًا" (الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار لابن عبد البر)، وقال العلماء: "على وليِّ الأمر أن يعاقب المتخلفين عن صلاة الجمعة بلا عذر، بما يكون رادعًا لهم عن جريمتهم".
- وإن لترك الجمع أسبابًا كثيرة من أخطرها: موت القلب، وضعف الإيمان، وقلة البصيرة وصحبة الفاسقين، وحب الدنيا وطول الأمل والغفلة عن حكمة الخلق، وهناك سبب مباشر لتركها يكثر وقوعه، وهو السهر على معصية الله والاستغراق في النوم من غير اتخاذ الأسباب المعينة على الاستيقاظ للصلاة.
حال الصالحين مع صلاة الجمعة:
- يستعدون لها من بعد صلاة الفجر: قال النيسابوري في تفسيره: "وكانت الطرقات في أيام السلف وقت السحر وبعد الفجر غاصة بالمبكرين إلى الجمعة يمشون بالسرج!".
- يحتسبون الخُطَا إلى المساجد يومها جهادًا في سبيل الله: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ *غَسَّلَ *يَوْمَ *الْجُمُعَةِ *وَاغْتَسَلَ، *ثُمَّ *بَكَّرَ *وَابْتَكَرَ، *وَمَشَى *وَلَمْ *يَرْكَبْ، *وَدَنَا *مِنَ *الْإِمَامِ *فَاسْتَمَعَ *وَلَمْ *يَلْغُ *كَانَ *لَهُ *بِكُلِّ *خُطْوَةٍ *عَمَلُ *سَنَةٍ *أَجْرُ *صِيَامِهَا *وَقِيَامِهَا) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
ورَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مُعَمَّرٍ عَنْ ثَابِتٍ قَالَ: "كَانَ أَنَسُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَكُونُ فِي أَرْضِهِ وَبَينَهُ وَبَينَ البَصْرَةِ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ فَيَشْهَدُ الجُمُعَةَ بِالبَصْرَةِ" (فتح الباري).
وعن عباية بن رفاعة قال: "أدركني أبو عبس بن جبر -رضي الله عنه- وأنا ذاهب إلى الجمعة، فقال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (مَنِ *اغْبَرَّتْ *قَدَمَاهُ *فِي *سَبِيلِ *اللهِ *حَرَّمَهُ *اللهُ *عَلَى *النَّارِ) (رواه البخاري).
- يبكرون بالحضور، ويفوزون بأعمال تجلب عليهم الثواب والأجور: قال عقبة بن علقمة: "دخل الأوزاعي المسجد يوم الجمعة، فأحصيت عليه قبل خروج الإمام صلاته أربعًا وثلاثين ركعة، كان قيامه وركوعه وسجوده حسنًا كله!" (الجرح والتعديل لابن أبي حاتم).
- بل كانوا ينكرون على مَن جاء متأخرًا: عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: "بَيْنَا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يَخْطُبُ النَّاسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فَنَادَاهُ عُمَرُ: أَيَّةُ سَاعَةٍ هَذِهِ؟ فَقَالَ: إِنِّي شُغِلْتُ الْيَوْمَ، فَلَمْ أَنْقَلِبْ إِلَى أَهْلِي حَتَّى سَمِعْتُ النِّدَاءَ، فَلَمْ أَزِدْ عَلَى أَنْ تَوَضَّأْتُ، قَالَ عُمَرُ: وَالْوُضُوءَ أَيْضًا، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَأْمُرُ بِالْغُسْلِ؟!" (متفق عليه).
- وفي الجملة... كان الصالحون ينتظرون يوم الجمعة ويفرحون به؛ ففيه يزيد إيمانهم، ويتقربون فيه إلى ربهم، وتنير فيه وجوهم، وتشرح صدورهم، وتغسل فيه قلوبهم من ذنوب أسبوعهم، ويجددون فيه العهد مع ربهم، ويشعرون بهويتهم وانتمائهم لدينهم، فهو يوم عيدهم: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ) (رواه مسلم)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ هَذَا يَوْمُ عِيدٍ جَعَلَهُ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ ، فَمَنْ جَاءَ إِلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ) (رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني).
خاتمة:
- إنَّ حِرْصَ المُسْلِمِ عَلَى صَلَاَةِ الجُمُعَةِ دَلِيلٌ عَلَى صحة إِيمَانِهِ، وَبُعْدِهِ عَنِ الغَفْلَةِ، وَحِرْصِهِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَإِجَابَتِهِ لِنِدَاءِ الشَّرِيعَةِ الربانية: قَالَ -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) (الجمعة: 9).
- وإنَّ التَّهَاوُنُ فِي تَرْكِ صَلَاةِ الجُمُعَةِ كبَيِرَةٌ مِنَ الكَبَائِرِ، وَمُنْكَرٌ مِنْ أَعْظَمِ المُنْكَرَاتِ، وَسَيِّئَةٌ مِنْ أَقْبَحِ السَّيِّئَاتِ: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَيَنْتَهِيَنّ *أَقْوَامٌ *عَنْ *وَدْعِهِمُ *الْجُمُعَاتِ، أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ. ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنَ الْغَافِلِينَ) (رواه مسلم).
نسأل الله أن يهدي ضال المسلمين، وأن يعين الشباب على المحافظة على أداء الجمع، وإقامة أركان الدِّين.
ابو وليد البحيرى
2024-05-24, 11:33 AM
الكبائر (29)
إتيان العرافين والمنجمين
(موعظة الأسبوع)
كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
المقدمة:
- الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضَمِن الله لمَن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
- إتيان العرافين والمنجمين من الكبائر العظام، والذنوب الجسام؛ لما له من أثر سيئ على عقيدة المسلم وإسلامه: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) (رواه مسلم)(1).
تعريف العراف والمنجم والكاهن:
- الكاهن هو: الذي يتكهن بما في المستقبل.
- وأما العراف فهو: الذي يدعي معرفة الماضي.
- وأما المنجم فهو: مَن يستدل بالنجوم على أمور الغيب، ومعلوم أن الدَّجَل يشمل ذلك كلَّه، قال البغوي -رحمه الله-: "العراف: الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة، ونحو ذلك" (شرح السنة). وقيل: هو الكاهن، والكاهن هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل. وقيل: الذي يخبر عما في الضمير.
وقال ابن تيمية -رحمه الله-: "العراف اسم للكاهن والمنجم والرَّمَّال، ونحوهم ممَّن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق" (مجموع الفتاوى لابن تيمية).
- الإشارة إلى شيوع ذلك فيما يسمونهم بالطبقة الراقية، بعد أن كان محصورًا في طبقة الفقراء، وغير المثقفين، وهذا يدل على أن الشعوذة والدجل لا تحارب بالتقدم العلمي والتكنولوجي، بل إنها تحارب بنشر العقيدة الصحيحة.
الترهيب من إتيان العرافين والكهان :
- الكهان والعرافون يدعون علم الغيب، وذلك من خصائص الرب -سبحانه-: قال -تعالى-: (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) (النمل: 65)، وقال -تعالى-: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا) (الجن: 26 ،27)، وقال -تعالى-: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ) (الأنعام: 59)، وقال -تعالى- لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ) (الأنعام: 50)، فإذا كان خير الناس محمد -صلى الله عليه وسلم- لا يعلم الغيب؛ فكيف بمَن هم دونه مرتبة وشرفًا ومكانة؟!
- الكاهن لا يصل إلى حقيقة عمله إلا باستخدام الجن والتقرب إليهم بالتقربات الشركية(2)، فتستمتع الجن به من جهة ما صرف لها من العبادة، ويستمتع هو بالجن من جهة ما يخبره به الجن من الأمور المغيبة: قال -تعالى- في عاقبتهم في الآخرة: (*وَيَوْمَ *يَحْشُرُهُمْ *جَمِيعًا *يَا مَعْشَرَ *الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام:128) .
وعَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- نَاسٌ عَنِ الْكُهَّانِ، فَقَالَ: (لَيْسَ بِشَيْءٍ)، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَا أَحْيَانًا بِشَيْءٍ فَيَكُونُ حَقًّا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنَ الْحَقِّ، يَخْطَفُهَا مِنَ الْجِنِّيِّ، فَيَقُرُّهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ، فَيَخْلِطُونَ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ) (متفق عليه).
- الكهنة والعرافون على طريقة السحرة المجرمين: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (مَنِ اقْتَبَسَ عِلْمًا مِنَ النُّجُومِ، اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ السِّحْرِ زَادَ مَا زَادَ) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).
- مَن جاءهم وتعامل معهم، فهو على غير طريقة المسلمين، ودينه وعقيدته على خطر عظيم: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَطَيَّرَ أَوْ تُطُيِّرَ لَهُ، أَوْ تَكَهَّنَ أَوْ تُكُهِّنَ لَهُ، *أَوْ *سَحَرَ *أَوْ *سُحِرَ *لَهُ) (رواه البزار، وقال الألباني: صحيح لغيره)، وقَالَ النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) (رواه مسلم)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ) (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني).
أحوال مَن يأتون العرافين والمشعوذين:
مَن جاء إلى كاهن أو عراف أو منجم أو دجال، يسأله عن أمر غيبي؛ فلا يخلو حاله مما يلي:
1- أن يسأله ولا يصدقه، فهذا لا تقبل صلاته أربعين يومًا: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) (رواه مسلم).
2- أن يسأله ويصدِّقه، وهذا كفر بالله: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ) (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني).
3- أن يأتيه ليسمعه فقط، وهذا فسق: قال -تعالى-: (*وَقَدْ *نَزَّلَ *عَلَيْكُمْ *فِي *الْكِتَابِ *أَنْ *إِذَا *سَمِعْتُمْ *آيَاتِ *اللَّهِ *يُكْفَرُ *بِهَا *وَيُسْتَهْزَأُ *بِهَا *فَلَا *تَقْعُدُوا *مَعَهُمْ *حَتَّى *يَخُوضُوا *فِي *حَدِيثٍ *غَيْرِهِ *إِنَّكُمْ *إِذًا *مِثْلُهُمْ *إِنَّ *اللَّهَ *جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي *جَهَنَّمَ *جَمِيعًا) (النساء: 140)، فإذا كانت هذه حال السائل في الصور المتقدمة؛ فكيف بحال المسئول؟!
4- أن يسأله بقصد فضح أمره، ولبيان عجزه للناس(3)، وهذا مستحب لمَن قدر عليه: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن صيَّاد -أحد دجالي اليهود-: (إِنِّي قَدْ خَبَأْتُ لَكَ خَبِيئًا!) فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ: هُوَ الدُّخُّ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (اخْسَأْ فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ) (متفق عليه).
ما يغني عن إتيان الكهان والدجالين؟
1- حسن التوكل على الله: قال -تعالى-: (وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) (البقرة: 102)، وقال -تعالى-: (قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (التوبة: 51)، وقال -تعالى-: (وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) (يونس: 107).
2- التوبة من المعاصي والكبائر: قال -تعالى-: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) (الشورى: 30)، وقال العباس -رضيَ اللهُ عنهُ- في دعائه في الاستسقاء: "ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة".
3- المحافظة على قراءة أذكار الصباح والمساء، فهي حصن من الشياطين: ففي حديث يحيى بن زكريا -عليهما السلام-: (وَآمُرُكُمْ *أَنْ *تَذْكُرُوا *اللَّهَ *فَإِنَّ *مَثَلَ *ذَلِكَ *كَمَثَلِ *رَجُلٍ *خَرَجَ *العَدُوُّ *فِي *أَثَرِهِ *سِرَاعًا *حَتَّى *إِذَا *أَتَى *عَلَى *حِصْنٍ *حَصِينٍ *فَأَحْرَزَ *نَفْسَهُ *مِنْهُمْ، *كَذَلِكَ *العَبْدُ *لَا *يُحْرِزُ *نَفْسَهُ *مِنَ *الشَّيْطَانِ *إِلَّا *بِذِكْرِ *اللَّهِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
4- الإكثار من قراءة سورة البقرة في البيوت: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقابِرَ، إنَّ الشَّيْطانَ يَنْفِرُ مِنَ البَيْتِ الذي تُقْرَأُ فيه سُورَةُ البَقَرَةِ) (رواه مسلم).
5- أكل سبع تمرات صباحًا قبل أن يأكل أو يشرب شيئًا: قال -صلى الله عليه وسلم-: (مَن تَصَبَّحَ كُلَّ يَومٍ سَبْعَ تَمَراتٍ عَجْوَةً، لَمْ يَضُرَّهُ في ذلكَ اليَومِ سُمٌّ ولا سِحْرٌ) (متفق عليه).
خاتمة:
- كثيرون هم الذين فقدوا الثقة بالله، فما أن يصيبهم سحر أو مرض، أو عين، أو لم يرزق بأولاد، حتى يفزعوا إلى الدجالين والكهان: قال -تعالى-: (أَمَّن يُجِيبُ ?لْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ?لسُّوء وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَاء ?لأرْضِ أَءلَـهٌ مَّعَ ?للَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ) (النمل:62)، وقال: (*وَعَلَى *اللَّهِ *فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (المائدة: 23).
- إن الركون إلى هؤلاء يعرِّض عقيدة المسلم للخطر العظيم: قال -تعالى-: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ *فَقَدْ *ضَلَّ *ضَلَالًا *بَعِيدًا) (النساء: 116).
- فليحذر المسلم من إتيان الكهان والعرافين لإيذاء الناس، أو ليطلب منهم قضاء الحاجات؛ فهو ظلمات بعضها فوق بعض: قال -تعالى-: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا) (الأحزاب: 58)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) (رواه مسلم)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ) (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني).
فاللهم مسكنا بالإسلام حتى نلقاك، وألحقنا بالصالحين في جنات النعيم.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــ ـــــ
(1) قوله: (مَنْ أَتَى): الإتيان له صور عديدة، منها: أن يكون بالذهاب إليه، أو بالجلوس إلى قارئة الكف، أو الفنجان، أو صاحبة الودع، أو بفتح المندل، أو بمطالعة أبراج الحظ، أو بمشاهدة بعض الفضائيات التي تبث كلامهم؛ لمعرفة المستقبل، والحظ، وطلب الزواج، والنجاح في الامتحان، ومعرفة السارق، وغير ذلك من الأمور التي اختص الله -سبحانه وتعالى- بعلمها، بل إن بعض الناس يتخذون القرارات في قضايا مهمة في حياتهم: كالزواج، والطلاق، أو السفر أو التجارة بناءً على ما قاله المنجم!
وهناك مَن يتقدم للزواج فتسأله المخطوبة: ما برجك؟ فإذا كان برجه لا يوافق برجها كما قال العراف فيها فإنها ترفض الزواج منه! بل إن هناك مَن يحدد مواعيد الزواج باليوم والشهر بعد التشاور مع المنجم أو العراف! بل ذُكِر أن رئيس دولة كبرى كانت توضع له البرامج التي تتعلق بحياته الشخصية والعلمية بعد استشارة العرافين والكهنة!
(2) من صور تقربهم إلى الشياطين: (تلويث المصحف بالنجاسات أو إلقاؤه في المزابل وأماكن قضاء الحاجة - أو جعل المصحف كالنعل في قدميه - وكبقائهم على الجنابة دائمًا - والإكثار من الزنا والفواحش - كل ذلك تقربًا إلى الشياطين)، بل ربما طلبوا من المريدين أعمالًا شركية، كنحو: "اذبحوا كبشًا صفته كذا، بدون اسم الله، أو ذكر اسم غير الله، أواذبحوا ديكًا، أو نحو ذلك، ثم نخبركم بمرضه وعلاجه... "، نعوذ بالله من الكفر والضلال.
(3) مِن أقوالهم وأحوالهم الخداعة: يقولون: "خبر سار يصلك من إنسان تحبه!" ومَن الذي يوصل إليك الأخبار السارة إلا الذي يحبك؟! وفي مرة أخرى يقولون: "تواجهك بعض المشاكل المادية" ومَن الذي لا يواجه المشاكل المادية في هذا العصر؟! إلخ. وقد يخاطبون الناس بأسلوب الناصحين، كأن يقول أحدهم: "انتبه وكن حذرًا، فصحتك أغلى ما تملكه"، أو يقولون: "احذر مِن أصدقاء السوء"، وهكذا.
ابو وليد البحيرى
2024-05-24, 11:35 AM
الكبائر (30)
مَنْعُ الزكاة
(موعظة الأسبوع)
كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
المقدمة:
- الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضَمِن الله لمَن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
- مَنْعُ الزكاة من كبائر الذنوب التي توعَّد أهلها بألوان الوعيد، وتهدَّدهم بأنواع العذاب الشديد في الحياة وبعد الممات: قال -تعالى-: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ . يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ) (التوبة: 34-35).
(1) نظرة الإسلام إلى المال:
- المال مِلك لله، وأنه وسيلة لا غاية، وأن مقياس الناس أعمالهم وليس أموالهم: قال -تعالى-: (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِين َ فِيهِ) (الحديد: 7)، وقال: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات: 13).
- فاوت الله بين أرزاق الخلق، فمنهم غني ومنهم فقير لحكمة بالغة؛ ليتكامل الكون ويتعايش الناس، ويخدم بعضهم بعضًا: قال -تعالى-: (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) (النحل: 71)، وقال: (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا) (الزخرف: 32).
- مع تفاوت الناس في الأرزاق، وفي الغنى والفقر، فإن منفعة المال الذي هو بأيدي الأغنياء منفعة عامة للجميع، حيث جعل الله في هذا المال حق معلوم للفقير: قال -تعالى-: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ . لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (المعارج: 24-25)، قال قتادة وغيره: الحقّ المعلوم: الزكاة. وقال -تعالى-: (وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) (النور: 33).
- إذًا... الزكاة حق للفقير، وليست مِنَّة ولا تفضلًا من الغني، بل هي حق للفقراء واجب على الأغنياء، فقد جعل الإسلام المجتمع كالأسرة الواحدة يكفل بعضهم بعضًا: قال -تعالى-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات: 10)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مثلُ المؤمنين في تَوادِّهم، وتَرَاحُمِهِم، وتعاطُفِهِمْ، مثلُ الجسَدِ إذا اشتكَى منْهُ عضوٌ تدَاعَى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى) (متفق عليه)(1).
(2) مكانة الزكاة في الإسلام:
- الزكاة ركن من أركان الدين والإيمان في الإسلام: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ) (متفق عليه).
- جعل الإسلام الزكاة مع التوبة من الشرك وإقامة الصلاة، عنوانًا على الإسلام، واستحقاق مؤديها أخوة المسلمين: قال -تعالى-: (فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) (التوبة: 11).
- وأعلن الإسلام أن في الزكاة تنمية للمال، وحفظًا له من الزوال، بخلاف ما يتصور البخلاء: قال -تعالى-: (وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (سبأ: 39)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ما نَقَصَتْ صَدَقةٌ مِن مالٍ... ) (رواه مسلم)(2).
- بغير أداء الزكاة لا يكون المسلم في عداد المؤمنين الذين كتب الله لهم الفلاح وأعطاهم الفردوس الأعلى: قال -تعالى-: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ . إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ . فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِم ْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ . أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ . الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (المؤمنون: 1-11).
(3) عقوبة مانعي الزكاة في الدنيا والآخرة:
- البُخل بالزكاة من أَمَارات النِّفاق وموجِبَاته: قال -تعالى- في وصْف المنافقين: (وَلَا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ) (التوبة: 54)، وقال -تعالى-: (الْمُنَافِقُون وَالْمُنَافِقَا تُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (التوبة: 67).
- البُخل بالزكاة سبب في نزول البلايا والنقم بالمجتمعات (الفقر - الغلاء - الأمراض - ... ): قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (*وَلَمْ *يَمْنَعُوا *زَكَاةَ *أَمْوَالِهِمْ، *إِلَّا *مُنِعُوا *الْقَطْرَ *مِنَ *السَّمَاءِ، وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا) (رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني).
- البُخل بالزكاة سبب في مَحْقُ بركة المال وذَهابه بأنواع موجِبات الهلاك وأسباب التَّلَف: قال -تعالى-: (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَ ا مُصْبِحِينَ . وَلَا يَسْتَثْنُونَ . فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ . فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ . فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ . أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ . فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ . أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ . وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ . فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ . بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) (القلم: 17-33). ورُوِي: "مَا *خَالَطَتِ *الزَّكَاةُ *مَالًا *قَطُّ *إِلَّا *أَهْلَكَتْهُ" (أخرجه الهيثمي في مَجمع الزوائد، وضعفه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (*إِذَا *أَدَّيْتَ *زَكَاةَ *مَالِكَ *فَقَدْ *أَذَهَبْتَ *عَنْكَ *شَرَّهُ) (رواه ابن خزيمة، وحسنه الألباني).
- البُخل بالزكاة يعرض صاحبه لعقوبة دنيوية شرعية يتولاها الحكام في المجتمع الإسلامي: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أَعْطَاهَا مُؤْتَجِرًا فَلَهُ أَجْرُهَا، وَمَنْ مَنَعَهَا فَإِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ مَالِهِ، *عَزْمَةً *مِنْ *عَزَمَاتِ *رَبِّنَا -عَزَّ وَجَلَّ-، لَيْسَ لِآلِ مُحَمَّدٍ مِنْهَا شَيْءٌ) (رواه أحمد والنسائي، وحسنه الألباني)، وقال أبو بكر -رضي الله عنه-: "وَاللهِ *لَأُقَاتِلَنَّ *مَنْ *فَرَّقَ *بَيْنَ *الصَّلَاةِ *وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ، وَاللهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا" (متفق عليه).
-* البُخل بالزكاة سبب للتعرُّض للعقوبة في الآخرة: قال -تعالى-: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُم بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (آل عمران: 180)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَن آتَاهُ اللَّهُ مَالًا، فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ له مَالُهُ يَومَ القِيَامَةِ شُجَاعًا أقْرَعَ له زَبِيبَتَانِ يُطَوَّقُهُ يَومَ القِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُ بلِهْزِمَتَيْهِ -يَعْنِي بشِدْقَيْهِ- ثُمَّ يقولُ أنَا مَالُكَ أنَا كَنْزُكَ، ثم تلا هذه الآية: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) (رواه البخاري)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَا مِن صَاحبِ كَنزٍ لا يؤدِّي حقَّهُ إلَّا جَعلَهُ اللَّهُ يَومَ القيامةِ يُحمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فتُكْوَى بِها جَبْهَتُهُ وجنبُهُ وظَهْرُهُ حتَّى يَقضيَ اللَّهُ -تَعَالَى- بَيْنَ عبادِهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ ألفَ سَنَةٍ) (رواه مسلم)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (*مَا *مِنْ *صَاحِبِ *إِبِلٍ، *وَلَا *بَقَرٍ، *وَلَا *غَنَمٍ، *لَا *يُؤَدِّي *زَكَاتَهَا، إِلَّا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْظَمَ مَا كَانَتْ وَأَسْمَنَهُ، تَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا، وَتَطَؤُهُ بِأَظْلَافِهَا، كُلَّمَا نَفِدَتْ أُخْرَاهَا، عَادَتْ عَلَيْهِ أُولَاهَا، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ) (متفق عليه).
خاتمة:
- لقد غفل أكثر أصحاب الأموال، عن قول ذي العزة والجلال: (وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) (النور: 33)، وعن قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يَقُولُ *الْعَبْدُ: *مَالِي *مَالِي، إِنَّمَا لَهُ مِنْ مَالِهِ ثَلَاثٌ: مَا أَكَلَ فَأَفْنَى، أَوْ لَبِسَ فَأَبْلَى، أَوْ أَعْطَى فَاقْتَنَى، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ ذَاهِبٌ وَتَارِكُهُ لِلنَّاسِ) (رواه مسلم).
- يا أصحاب الأموال... أعطوا الفقراء حقهم، وستجدون الخلف من الله: قال -تعالى-: (وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (سبأ: 39)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (*مَا *نَقَصَتْ *صَدَقَةٌ *مِنْ *مَالٍ) (رواه مسلم).
- يا أصحاب الأموال... تعرضوا لنفحات المولى -جل وعلا-، ولدعاء الملائكة الأطهار في العلا، ولدعاء الفقراء واليتامى، والأرامل والثكالى: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ما مِن يَومٍ يُصْبِحُ العِبادُ فِيهِ، إلَّا مَلَكانِ يَنْزِلانِ، فيَقولُ أحَدُهُما: اللَّهُمَّ أعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، ويقولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا) (متفق عليه).
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأعمال والأقوال، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها، لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، برحمتك يا أرحم الراحمين.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـ
(1) على هذه النظرة الإسلامية للمال، في ملكيته ومنفعته؛ تتأصل عبادة الله في المال، وهي الزكاة التي تتراوح بين 2.5%، و10% على اختلاف نوع الأموال؛ إذ إن الزكاة واجبة في جميع الأموال الثابتة والمنقولة، في الزراعة والتجارة والصناعة، وفي الأموال المدخرة والمكتنزة، وفيما ظهر على وجه الأرض أو خرج من باطنها في الجملة.
(2) البخيل إذا كانت عنده مثلًا (مائة ألف) فيها زكاة (ألفان وخمسمائة)، فهو ينظر إلى الزكاة فيراها كثيرة جدًّا! ولا يرى (سبعة وتسعين ألفًا ونصف) كثيرة، فعند ذلك يمسك ويمنع الزكاة! ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ابو وليد البحيرى
2024-05-31, 05:11 AM
الكبائر (31)
اللواط
(موعظة الأسبوع)
كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
المقدمة:
- الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضَمِن الله لمَن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
- اللواط كبيرة من أعظم الذنوب، تغضب الرب على المربوب، ويحل بها البلاء ومدلهمات الخطوب: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (*لَعَنَ *اللهُ *مَنْ *عَمِلَ *عَمَلَ *قَوْمِ *لُوطٍ، *لَعَنَ *اللهُ *مَنْ *عَمِلَ *عَمَلَ *قَوْمِ *لُوطٍ) وكررها ثلاث مرات. (رواه أحمد وابن حبان، وقال الألباني: "حسن صحيح")، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
- اللواط... ذلكم الداء الذي عَذَّب الله به قوم لوط أشد العقوبة؛ لقبحه وعظيم خطره (ذكر مواضع من القرآن تلخص القصة): (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ) (الأعراف: 8)، (أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ . وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم) (الشعراء: 165، 166)، (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) (النمل: 56)، (قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ) (العنكبوت: 30)، (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ . مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) (هود: 82-83).
- اللواط مخالفة للفطرة: قال الوليد بن عبد الملك: "لولا أن الله -عز وجل- قص علينا قصة قوم لوط في القرآن ما ظننتُ أن ذكرًا يعلو ذكرًا" (البداية والنهاية لابن كثير).
(1) خطر اللواط صحيًّا واجتماعيًّا وشرعيًّا:
- يتسبب اللواط في الإصابة بأمراض خطيرة: (مرض الإيدز - فساد أعضاء التناسل - التأثير على المخ - الرغبة عن النساء - التأثير على الأعصاب - مرض السويداء - الاضطراب النفسي - التيفود والدوسنتاريا - وغيرها).
- اللواط أوسع أسباب انتشار مرض الإيدز: أول اكتشاف لمرض الإيدز كان عام 1979م في مدينة نيويورك، كان في رجل يمارس اللواط، ونسبة المصابين بالإيدز بسبب الشذوذ الجنسي في العالم تزيد على 73 %.
- اللواط سبب في نزول النقم والبلايا في مجتمعات المسلمين: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يَا مَعْشَرَ المهاجرينَ، خِصالٌ خَمْسٌ إذا ابتُلِيتُمْ بهِنَّ، وأعوذُ باللهِ أن تُدْرِكُوهُنَّ: لم تَظْهَرِ الفاحشةُ في قومٍ قَطُّ؛ حتى يُعْلِنُوا بها إلا فَشَا فيهِمُ الطاعونُ والأوجاعُ التي لم تَكُنْ مَضَتْ في أسلافِهِم الذين مَضَوْا…) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).
- اللواط سبب في نزول العقوبة الشرعية التي تقيمها الدولة المسلمة بصاحبه: (القتل على التفصيل الآتي).
(2) عقوبة مَن عمل اللواط، أو السحاق، أو أتى امرأة في دبرها:
حكم اللواط:
- اختلف العلماء في صفة قتله بعد الاتفاق على أنه يقتل: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني)، وأجمع الصحابة -رضي الله عنهم- على قتله.
- ذهب الشافعي وأحمد وطائفة إلى أنه يرجم بالحجارة حتى الموت؛ لأنه زنا وفجور.
- وذهب بعضهم إلى أنه يقتل بإلقائه من شاهق، ثم يُتبع بالحجارة؛ كما هي عقوبة قوم لوط.
حكم السحاق:
- قال ابن قدامة -رحمه الله-: "إذا تدالكت امرأتان فهما زانيتان ملعونتان؛ لما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: إِذَا أَتَتِ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ؛ فَهُمَا زَانِيَتَانِ) (رواه البيهقي في السنن الكبرى، وضعفه الألباني)... وعليهما التعزير" .
حكم إتيان امرأة في دبرها:
- ملعون في الدنيا، مطرود في الآخرة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَلْعُونٌ مَنْ أَتَى امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى رَجُلٍ أَتَى رَجُلاً أَوِ امْرَأَةً فِي الدُّبُرِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني). وقال فِي الَّذِي يَأْتِي امْرَأَتَهُ فِي دُبُرِهَا: (هِيَ اللُّوطِيَّةُ الصُّغْرَى) (رواه أحمد، وحسنه الألباني).
- وقال أصحاب أبي حنيفة: "إنه عندنا ولائط الذكر سواء في الحكم" (تفسير القرطبي).
خاتمة: هل لمن عمل هذه الفواحش توبة؟
- التوبة مقبولة من الكافر؛ فهي أولى في حق مرتكب اللواط: (قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ) (الأنفال: 38)، وفي الحديث القدسي: (قَالَ اللَّهُ -تبارك وتعالى-: يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِ ي غَفَرْتُ لَكَ، وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ *بِي *شَيْئًا *لَأَتَيْتُكَ *بِقُرَابِهَا *مَغْفِرَةً) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
- ابتعد أيها التائب عن أماكن المعصية السابقة وأسبابها: قال العالم لقاتل المائة نفس: (انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا؛ فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ، فَاعْبُدِ اللَّهَ مَعَهُمْ، وَلا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ؛ فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ) (رواه البخاري ومسلم واللفظ له).
- أكثِر من زيارة القبور وتذكر الموتى، وتخيل نفسك وأنت في عدادهم، وقد فارقت الدنيا، وتركت لذاتها وشهواتها، وفني كل ذلك وبقي الإثم والعار: قال -تعالى-: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى? وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ) (يس: 12).
- الدعاء والالتجاء إلى الله -تعالى-، والانكسار أمام الخالق، وتذكر يوم الحساب، فإن في تذكر يوم الحساب، وتذكر الوقوف بين يدي الخالق الجبار رادع عن المعصية: قال -تعالى-: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) (آل عمران: 30).
فاللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، وأحسن خاتمتنا في الأمور كلها.
ابو وليد البحيرى
2024-05-31, 05:11 AM
الكبائر (32)
سب الصحابة
(موعظة الأسبوع)
كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
المقدمة:
- الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضَمِن الله لمَن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
- سب الصحابة منكر عظيم، وجرم خطير، وكبيرة من الكبائر المهلكة في الدنيا والآخرة: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَنْ *سَبَّ *أَصْحَابِي *فَعَلَيْهِ *لَعْنَةُ *اللهِ وَالْمَلَائِكَة ِ *وَالنَّاسِ *أَجْمَعِينَ) (رواه الطبراني، وحسنه الألباني)، وفي رواية ابن عمر -رضي الله عنهما-: (*لَعَنَ *الله *مَنْ *سَبَّ *أَصْحَابِي) (رواه الطبراني، وحسنه الألباني).
- الإشارة إلى أن هناك طائفة مارقة (الشيعة الرافضة) تتعبد بسبِّ الصحابة: قال الخميني -رأس الدولة الشيعة المعاصرة- في كتابه: "إن مثل هؤلاء الأفراد الحمقى والأفاقون والجائرون غير جديرين بأن يكونوا في موضع الإمامة، وأن يكونوا ضمن أولي الأمر!" "نقلًا عن الفوائد البديعة (ص 107-108)، وكشف الأسرار (ص 108)".
- الإشارة إلى أن هناك جهات إعلامية مأجورة تتخذ من أعراض الصحابة مادة إعلامية للطعن وتشويه صورة الإسلام: قال -تعالى- في إخوانهم المنافقين: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ) (البقرة: 14).
(1) تمهيد تاريخي مهم جدًّا بين يدي الحديث:
- ولادة النبي -صلى الله عليه وسلم- في عام الفيل مِنَّة على البشرية وهداية لها.
- لما بلغ الأربعين بعثه الله مبشرًا ونذيرًا، فعاداه وآذاه كبراء قومه.
- تبعه أقوام باعوا الدنيا واشتروا الآخرة، وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، وتحملوا معه الأذى.
- ولما أُمِروا بالهجرة هاجروا وتركوا الديار والأموال والأهل: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ? أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (الحشر: 8).
- ولما وَصَل النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة آواه أهلها ونصروه وعزروه، وآووا أصحابه المهاجرين بالمال والدور، بل والزوجات: قال -تعالى-: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر: 9).
- استمر النبي -صلى الله عليه وسلم- يجاهد ويجاهد معه الصادقون والمفلحون، والقرآن ينزل بالثناء عليهم: قال الله -تعالى-: (*مُحَمَّدٌ *رَسُولُ *اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) (الفتح: 29).
- وبعد ثلاث وعشرين سنة من الدعوة والجهاد مع نبيهم -صلى الله عليه وسلم- جاء أمر الله برحيل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الدنيا: قال -تعالى-: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) (المائدة: 3).
- شدة أمر الوفاة، ولكن استمرت الراية مرفوعة: قول أبي بكر -رضي الله عنه-: "أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّهُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لا يَمُوتُ، ثُمَّ تَلا هَذِهِ الآيَةَ: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) (آل عمران: 144)" (رواه البخاري)، وهكذا انتقلت هذه النسمة إلى بارئها وبقي دين الله يحمله أصحابه.
خلاصة: مما سبق تبيَّن لنا أن عوامل نجاح الدعوة الإسلامية ثلاثة:
- الأول: المنهج الرباني الكامل (شرعًا)، كما قال الله -تعالى-: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) (المائدة: 3)، ونصر الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين (كَوْنًا).
- والثاني: شخصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القائد وتفانيه في الدعوة إلى وفاته: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ . قُمْ فَأَنذِرْ) (المدثر: 1، 2).
- والثالث: الصحابة الذين نقلوا الدين ونشروه في العالم: قال الله -تعالى-: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُ مُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (البقرة: 137).
- الإشارة إلى أن أعداء الدين من المبتدعة والمنافقين والكفرة يحاولون هدم الدعوة الإسلامية من خلال هدم هذه الأصول الثلاثة بطرق مختلفة بحسب عقيدة كل طائفة منهم؛ فالشيعة والمنافقون يسعون لهدم الإسلام بالطعن على الأصل الثالث مخالفين لأهل السنة والجماعة؛ وبهذا يكونون مخالفين في الأصلين الأولين أيضًا.
(2) مكانة الصحابة عند أهل السنة:
- يزكونهم بتزكية الله ورسوله لهم: قال -تعالى-: (*مُحَمَّدٌ *رَسُولُ *اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) (الفتح: 29)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ) (متفق عليه).
- يعتقدون براءة أهل بدر وبيعة الرضوان والسابقين الأولين من الكفر والشرك: قال -صلى الله عليه وسلم-: (لا يدخُلَ النَّارَ رَجُلٌ شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَ ةَ) (رواه أحمد وابن حبان، وصححه الألباني)، ولمسلم: (لَا يَدْخُلُ النَّارَ، إِنْ شَاءَ اللهُ، مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ أَحَدٌ، الَّذِينَ بَايَعُوا تَحْتَهَا).
- يعتقدون سبقهم وسابقتهم على سائر الناس: قال الله -تعالى-: (وَالسَّابِقُون الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة: 100)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لا تَسُبُّوا أصْحابِي، لا تَسُبُّوا أصْحابِي، فَوالذي نَفْسِي بيَدِهِ لو أنَّ أحَدَكُمْ أنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، ما أدْرَكَ مُدَّ أحَدِهِمْ، ولا نَصِيفَهُ) (متفق عليه).
- يعتقدون وجوب الإمساك عن ذكرهم بسوء: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا ذُكِرَ أَصْحَابِي فَأَمْسِكُوا...) (رواه الطبراني، وصححه الألباني)، وقال: (مَنْ سَبَّ أَصْحَابِي فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلا عَدْلاً) (رواه الطبراني، وحسنه الألباني).
- يدعون لهم ويستغفرون: قال الله -تعالى-: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَ ا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ) (الحشر: 10).
(3) صورة من سبق الصحابة لغيرهم:
- لقد سبقوا العالمين في كلِّ باب (الاستجابة - المحبة والاتباع - التضحية بالنفس - التضحية بالأهل والوطن -... ).
- صورة من سبقهم في الاستجابة: قال أصحاب موسى لموسى -عليه السلام-: (فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) (المائدة: 24)، وقال أصحاب عيسى لعيسى -عليه السلام-: (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (المائدة: 112)، وأما أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (البقرة: 285)، وقال سعد بن معاذ -رضي الله عنه- يوم بدر: "فَقَدْ آمَنَّا بِكَ وَصَدَّقْنَاكَ، وَشَهِدْنَا أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ، وَأَعْطَيْنَاكَ عَلَى ذَلِكَ عُهُودَنَا وَمَوَاثِيقَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَامْضِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَا أَرَدْتَ فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْتَهُ لَخُضْنَاهُ مَعَكَ مَا تَخَلَّفَ مِنَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوَّنَا غَدًا، إِنَّا لَصُبُرٌ عِنْدَ الْحَرْبِ، صُدْقٌ عِنْدَ اللِّقَاءِ، لَعَلَّ اللَّهَ يُرِيكَ مِنَّا مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُكَ، فَسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ، فَسُرَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-" (السيرة النبوية لابن هشام).
(4) حكم الطعن على الصحابة:
- قال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-: "قال الجلال البُلقيني: مَن سَبَّ الصحابة -رضي الله عنهم- أتى كبيرةً بلا نزاعٍ" (الزواجر). وقال السَّفَّاريني -رحمه الله-: "وكون سَبِّ الصحابة كبيرةٌ هذا بلا خلافٍ، وإنما اختلفوا: هل يكفر مَن سبّهم أم لا؟" (شرح منظومة الكبائر). وقال القاضي عياض -رحمه الله-: "سَبُّ أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وتنقُّصهم أو أحدٍ منهم مِن الكبائر المُحرَّمة" (إكمال المعلم).
- وسَبُّ أحدٍ مِن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أو بُغضه كبيرةٌ؛ لما يأتي:
- لن يصل أحد إلى شرف الصحبة التي نالوها، وإن تفاوتت درجاتهم: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا تَسُبُّوا أصْحابِي؛ فلوْ أنَّ أحَدَكُمْ أنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، ما بَلَغَ مُدَّ أحَدِهِمْ ولا نَصِيفَهُ) (متفق عليه).
اختارهم الله من دون غيرهم ليكونوا الأصحاب والنصراء والخلفاء: روي عَنْ عُوَيْمِ بْنِ سَاعِدَةَ أَنّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: "إن اللَّهَ -تَبَارَكَ وَتعالى- اخْتَارَنِي وَاخْتَارَ بِي أَصْحَابًا، فَجَعَلَ لِي مِنْهُمْ وُزَرَاءَ وَأَنْصَارًا وَأَصْهَارًا، فَمَنْ سَبَّهُمْ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لا يُقْبَلُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفٌ وَلاعَدْلٌ" (رواه الطبراني والحاكم).
- استقر القول بين المسلمين على فساد طوية مَن يسبهم: قال أبو زرعة الرازي -رحمه الله تعالى-: "إذا رأيت الرجل ينتقص أحدًا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فاعلم أنه زنديق؛ وذلك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حق، والقرآن حق، وما جاء به حق، وإنما أدى إلينا ذلك كله الصحابةُ، وهؤلاء يريدون أن يجرحوا شهودنا؛ ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة" (الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي).
خاتمة: مِن واجبنا نحو الصحابة:
- محبتهم والتعرف عليهم ومطالعة سيرتهم العطرة؛ فاتباعهم سبب الرضا: (وَالسَّابِقُون الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) (التوبة: 100).
- نشر فضائلهم والتعريف بمكارمهم، فهم القدوة بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-: قال -تعالى- في حقهم: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا) (البقرة: 137).
- الذود عن أعراضهم والدفاع عنهم بكل مستطاع: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ رَدَّ اللَّهُ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)، "مِن وسائل الدفاع عنهم: الرد على الطاعنين، والتشنيع بهم وفضحهم، والمطالبة بمعاقبتهم ومقاطعتهم، وتفعيل كل الوسائل المتاحة مِن: مخاطبة الجهات الرسمية - الحملات الإلكترونية - النشرات - المحاضرات - الخطب -..." .
- الدعاء لهم والترضي عليهم: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَ ا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ) (الحشر: 10).
فاللهم ارضَ عن الصحابة، واجمعنا بهم في جنات النعيم.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــ
فائدة لمَن أراد الزيادة: لماذا كل هذا الحقد والافتراء...؟! الجواب بذكر أسباب تاريخية في نقاط توضِّح ذلك:
- اتساع الفتوحات الإسلامية بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في عهد الخلفاء الراشدين.
- انتصار المسلمين في معركة القادسية سنة 14هـ على الفرس، ثم سقوط دولة الفرس سنة 16هـ.
- كثرة الحاقدين الكائدين للدين في شخص حامليه وحماته ورموزه، ومن أبرز الحاقدين: اليهود، والفرس.
- سنة 23هـ قام المجوسي أبو لؤلؤة المجوسي بقتل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في المحراب (يوم العيد الأكبر عند الشيعة).
- ظهور عبد الله بن سبأ اليهودي في أواخر عهد عثمان بن عفان -رضي الله عنه- من يهود اليمن مدعيًا الإسلام وزاعمًا محبة آل البيت، وسعى ومَن معه في تأليب الناس على عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، وغالى في علي -رضي الله عنه-، وادَّعى له الوصية بالخلافة!
- ومن هنا كانت بداية التشيع الذي تطور مع مرور الزمن إلى أن صار دينًا يخالف دين المسلمين حيث تجاوزوا مِن الطعن على الصحابة إلى عقائد وتشريعات ليست من دين الله.
على سبيل المثال لا للحصر: (الغلو في آل البيت بصورة شركية - سب أمهات المؤمنين - التقرب والتعبد بلعن الصحابة - اعتقاد بعضهم تحريف القرآن - التعبد عند القبور وسؤال أصحاب القبور حتى جعلوا الطواف ببعضها أفضل من الطواف بالكعبة - نشر الفاحشة بما يسمى بزواج المتعة - وغير ذلك من الخرافات والبدع التي غيروا بها دين الله).
ابو وليد البحيرى
2024-05-31, 05:12 AM
الكبائر (33)
الظلم
(موعظة الأسبوع)
كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
المقدمة:
- الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة التي ضمن الله لمَن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
- الظلم من الكبائر العظام، والقبائح الجسام، فهو إثم عظيم، وذنب مرتعُه وخيم: قال الله -تعالى- في الحديث القدسي: (يَا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ علَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فلا تَظَالَمُوا...) (رواه مسلم).
- تعريف الظلم: هو وضع الشيء في غير محله.
(1) ذم الظلم والنهي عنه:
- الله -سبحانه وتعالى- عَدْل ويأمر بالعدل، وينهى عن الظلم: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل: 90)، (وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ) (غافر: 31).
- أرسل الله الرسل وأنزل الكتب لمنع الظلم بأنواعه من الأرض: قال -تعالى-: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحديد: 25).
- بيَّن -سبحانه وتعالى- أن الظلم سببٌ للبلاء والهلاك في الدنيا قبل الآخرة: قال -تعالى-: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) (يونس: 13)، وقال: (فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ) (الحج: 45)، وقال: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ ? إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (هود: 102).
- وبين -سبحانه وتعالى- أن من عواقب شيوع الظلم في الدنيا، تعميم العقوبة إذا رضي الناس به، مع قدرتهم على منعه: قال -تعالى-: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الأنفال: 25)، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (*إِنَّ *النَّاسَ *إِذَا *رَأَوْا *الظَّالِمَ *فَلَمْ *يَأْخُذُوا *عَلَى *يَدَيْهِ *أَوْشَكَ *أَنْ *يَعُمَّهُمُ *اللَّهُ *بِعِقَابٍ مِنْهُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)(1).
(2) أنواع الظلم:
الظلمُ نوعان: أحدهما ظلمُ النَّفْس، وهو على قسمين:
- الأول: الشِّرْكُ بالله -تعالى-، فإنَّ المُشْرِكَ جَعَلَ المخلوقَ في مَنزِلةِ الخالق، فعَبَدَهُ وتألَّهَه، قال -سبحانه-: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (لقمان: 13).
- الثاني: ظُلم النَّفسِ بالمعاصي على اخْتِلاف أجناسِها من كبائر وصغائر، فكُلُّ معصيةٍ يرْتكبُها العبدُ إنما هي ظُلمٌ لنفسه التي أمره الله بحفظها: قال -تعالى-: (وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) (الطلاق: 1)، وقال: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (يونس: 44).
والنوع الثاني من الظلم:
- ظُلمُ العبدِ لغيره من الناس، وهو المقصودُ بالترهيب والتحريم في أكثر النصوص التي تربي المؤمنين: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اتَّقُوا الظُّلْمَ، فإنَّ الظُّلْمَ ظُلُماتٌ يَومَ القِيامَةِ...) (رواه مسلم)، وقال: (المُسْلِمُ أخُو المُسْلِمِ لا يَظْلِمُهُ ولَا يُسْلِمُهُ...) (متفق عليه)، وقال: (انْصُرْ أخاكَ ظالِمًا أوْ مَظْلُومًا) فقالَ رَجُلٌ: يا رَسولَ اللَّهِ، أنْصُرُهُ إذا كانَ مَظْلُومًا، أفَرَأَيْتَ إذا كانَ ظالِمًا، كيفَ أنْصُرُهُ؟ قالَ: (تَحْجُزُهُ -أوْ تَمْنَعُهُ- مِنَ الظُّلْمِ؛ فإنَّ ذلكَ نَصْرُهُ) (رواه البخاري).
(3) صور من الظلم:
- التطاوُلُ على أموالِ اليتامى والضعفاء: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) (النساء: 10).
- التَّسْويفُ والتأخيرُ في قضاء الدين مع القدرة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَطْلُ الغَنِيِّ ظُلْمٌ) (متفق عليه).
- حِرمانُ المرأةِ من حقِّها في الميراث من أبيها أو زوجِها أو مُوَرِّثِها أيًّا كان، أو المماطلةُ في ذلك: قال -تعالى-: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ) وقال في آخرها: (آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا) (النساء: 11).
- ظلمُ الأُجَرَاء والمُستَخدَمين من عُمَّالٍ ونحوِهم ببخسِهِم حُقوقَهم، أو تأخيرِها عن أوقاتها، أو تغييرِ الاتفاقِ المُبْرَمِ معَهُم، أو إِهانَتِهم بقولٍ أو فِعْل: قال النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-: (قالَ اللَّهُ: ثَلاثَةٌ أنا خَصْمُهُمْ يَومَ القِيامَةِ: ... ورَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أجِيرًا فاسْتَوْفَى منه ولم يُعطِه أَجْرَهُ) (رواه البخاري).
- الأذى الجَسَدي أو اللفظي، أو النَّفْسي للغير: قال النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّ اللهَ يُعذِّبُ الذين يُعذِّبون الناسَ في الدنيا) (رواه مسلم).
- ظلم الزوجة بالتَّقْتيرِ عليها، أو سُوءِ مُعامَلتِها أو إهانَتِها أو هَجْرِها أو تَهْديدِها أو عَدَمِ حُسْنِ الخُلُقِ مَعَها: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (خَيْرُكُمْ *خَيْرُكُمْ *لِأَهْلِهِ، *وَأَنَا *خَيْرُكُمْ *لِأَهْلِي) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
- ظلم الجيران بالاعتداء على حقوقهم وحرمتهم: قال النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ فلا يُؤْذِ جَارَهُ) (متفق عليه).
- الغش والتدليس ونحوه في البيع والشراء: قال النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-: (مَن غَشَّ فليسَ مِنِّي) (رواه مسلم).
- ومِن أظلم الظلم: التحاكم الى غير الله (حكامًا ومحكومين): قال -تعالى-: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (المائدة: 45).
- (مدخل للعنصر التالي) لَا يَظُنَّنَّ أحَدٌ أَنَّ ظُلْمَهُ لِلْعِبَادِ سَيَضِيعُ وَيَذْهَبُ دُونَ حِسَابٍ وَلَا عِقَابٍ: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ) (إبراهيم: 42)، بل قد يجعل الله له من العقوبة العاجلة في الدنيا ما يردعه، أو يكون به عبرة للظالمين(2).
(4) عاقبة الظلم والظالمين في الدنيا والآخرة:
أولًا: في الدنيا:
- الظالم لا يحبُّه الله -تعالى-؛ وهو مصروف عن الهداية محروم من الفلاح: (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (آل عمران: 57)، (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (المائدة: 51)، (إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (الأنعام: 21).
- الظالم تطارده دعوات المظلومين الموعودة بالإجابة، ليلًا ونهارًا: قال -صلى الله عليه وسلم-: (واتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ؛ فإنَّه ليسَ بيْنَهُ وبيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ...) (متفق عليه)، وقال: (*دَعْوَةُ *الْمَظْلُومِ *مُسْتَجَابَةٌ، *وَإِنْ *كَانَ *فَاجِرًا *فَفُجُورُهُ *عَلَى *نَفْسِهِ) (رواه أحمد، وقال الألباني: "حسن لغيره")، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (اتَّقوا دعوةَ *المظلومِ؛ فإنها تُحملُ على الغَمامِ، يقولُ الله: وعِزَّتي وجَلالي لأَنْصُرَنَّك *ولوْ *بَعْدَ *حينٍ) (رواه الطبراني، وقال الألباني: "حسن لغيره")، وقال معاوية -رضي الله عنه-: "إني لأستحيي أن أظلم مَن لا يجد عليَّ ناصرًا إلا الله" (العقد الفريد لابن عبد ربه).
لا تـظـلـمـن إذا كــنـتَ مـقـتـدرًا فـالـظــلـم آخـره يـأتـيك بالـنـدم
تــنـام عيــــنك والمظلوم منتـبه يدعو عليك وعيــــن الله لم تنمِ
- صور لمَن استعملوا سلاح الدعاء في مواجهة الظلمة: سعيد بن زيد -رضي الله عنه- يدعو على امرأة ظلمته بادعائها لجزءٍ من أرضه، ففوض الأمر إلى الله -تعالى-، وقال: دَعُوهَا وَإِيَّاهَا، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، يَقُولُ: (مَن أَخَذَ شِبْرًا مِنَ الأرْضِ بغيرِ حَقِّهِ، طُوِّقَهُ في سَبْعِ أَرَضِينَ يَومَ القِيَامَةِ) اللَّهُمَّ، إنْ كَانَتْ كَاذِبَةً فأعْمِ بَصَرَهَا، وَاجْعَلْ قَبْرَهَا في دَارِهَا. قالَ: فَرَأَيْتُهَا عَمْيَاءَ تَلْتَمِسُ الجُدُرَ تَقُولُ: أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعِيدِ بنِ زَيْدٍ، فَبيْنَما هي تَمْشِي في الدَّارِ مَرَّتْ علَى بئْرٍ في الدَّارِ، فَوَقَعَتْ فِيهَا، فَكَانَتْ قَبْرَهَا. (رواه مسلم).
وسعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- دعا على أبي سعدة الكوفي لما افترى عليه: "اللَّهُمَّ إنْ كانَ عَبْدُكَ هذا كَاذِبًا، قَامَ رِيَاءً وسُمْعَةً، فأطِلْ عُمْرَهُ، وأَطِلْ فَقْرَهُ، وعَرِّضْهُ بالفِتَنِ. وكانَ بَعْدُ إذَا سُئِلَ يقولُ: شيخٌ كَبِيرٌ مَفْتُونٌ، أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعْدٍ، قالَ عبدُ المَلِكِ: فأنَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ، قدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ علَى عَيْنَيْهِ مِنَ الكِبَرِ، وإنَّه لَيَتَعَرَّضُ لِلْجَوَارِي في الطُّرُقِ يَغْمِزُهُنَّ" (متفق عليه)(3).
- بل الأشد أن يتركه الله يزداد في ظلمه دون عقوبة زمنًا طويلًا يغتر فيه بعمله، ثم فجأة تنزل فوق رأسه المصائب والبلايا غير المتوقعة، فضلًا عما ينتظره في الآخرة: قال -تعالى-: (سَنَسْتَدْرِجُ ُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ) (الأعراف: 182)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظّالِمِ، حتَّى إذا أخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ) ثم قرأ: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (هود: 102). (متفق عليه).
ثانيًا: في الآخرة:
- بيَّن الحق -تعالى- أن الحقوق إن ضاعت في الدنيا، فإنها لا تضيع في الآخرة، وإن كانت كمثقال الذر: قال -تعالى-: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) (الأنبياء: 47).
- وصف الله -تعالى- أحوال الظالمين عند الموت: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَة ُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ) (الأنعام: 93).
- تهدَّدهم الكبير المتعال مِن قَبْل بسوء العاقبة، وطردهم من رحمته: قال -تعالى-: (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ) (الشعراء: 227)، وقال: (فَبُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (المؤمنون: 41).
- يخرج الظالمون من قبورهم في رعب وهلع شديد، قد نسوا كل نعيم في الدنيا، لا يذكرون إلا مشاهد ظلمهم للعباد، وما ينتظرون من العقاب: قال -تعالى-: (مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ ? وَأَفْئِدَتُهُم ْ هَوَاءٌ) (إبراهيم: 43).
- وفي عرصات القيامة، هم في فضيحة بما ظلموا، مطردون من رحمة الله بما عملوا: (يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (غافر: 52)، (وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ ? أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (هود: 18)، (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (الأعراف: 44).
- ثم يساقون الى أشد ألوان العذاب: قال -تعالى-: (فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ) (الزخرف: 65).
- وأما تفاصيل العذاب؛ فقد جاء في الكتاب والسنة في كلِّ ظلم عقوبته؛ إما صراحة أو ضمنًا، فراجع عواقب الكبائر والمعاصي.
خاتمة:
- أيها الظالم تُبْ قبل فوات الأوان: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَن كانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لأخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْ هُ مِنْها، فإنَّه ليسَ ثَمَّ دِينارٌ ولا دِرْهَمٌ، مِن قَبْلِ أنْ يُؤْخَذَ لأخِيهِ مِن حَسَناتِهِ، مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْ هُ مِنْهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ، *فَإِنْ *لَمْ *يَكُنْ *لَهُ *حَسَنَاتٌ *أُخِذَ *مِنْ *سَيِّئَاتِ *أَخِيهِ *فَطُرِحَتْ *عَلَيْهِ) (رواه البخاري). وقال سفيان الثوري: "إن لقيتَ اللهَ -تعالى- بسَبعينَ ذَنبًا فيما بَينَك وبَينَ اللهِ -تعالى-، أهونُ عليك مِن أن تَلقاه بذَنبٍ واحِدٍ فيما بَينَك وبَينَ العِبادِ" (تنبيه الغافلين للسمرقندي).
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــ ــــــ
(1) حكى الطرطوشي -رحمه الله-: "أنه كان بمصر نخلة تحمل تمرًا عظيمًا، ولم تكن نخلة تحمل نصف حملها، فغصبها أحدهم فلم تحمل تمرة واحدة في ذلك العام! قال: وشهدت السمك في الإسكندرية يغلي -يفور- به الماء لكثرته ويصيده الأطفال بالخرق، فحجر عليه أحدهم، ومنع الناس من صيده، فذهب السمك منه حتى لا يكاد يوجد فيه إلا الواحدة "
(2) قال ابن القيم -رحمه الله-: "سبحان الله! كم بكت في تنعم الظالم عين أرملة، واحترقت كبد يتيم، وجرت دمعة مسكين (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُم مُّجْرِمُونَ) (المرسلات: 46)، (وَلَتَعْلَمُنّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) (ص: 88)، ما ابيضَّ لون رغيفهم حتى اسود لون ضعيفهم، وما سمنت أجسامهم حتى انتحلت أجسام ما استأثروا عليه! لا تحتقر دعاء المظلوم، فشرر قلبه محمول بعجيج صوته إلى سقف بيتك... ويحك نبال أدعيته مصيبة، وإن تأخر الوقت، قوسه قلبه المقروح، ووتره سواد الليل، وأستاذه صاحب: (لأَنْصُرَنَّك *ولوْ *بَعْدَ *حينٍ)، وقد رأيت ولكن لست تعتبر.
احذر عداوة مَن ينام وطرفه باكٍ، يقلِّب وجهه في السماء، يرمي سهامًا ما لها غرض سوى الأحشاء منك، فربما ولعلها إذا كانت راحة اللذة تثمر ثمرة العقوبة لم يحسن تناولها، ما تساوي لذة سنة غمَّ ساعة؛ فكيف والأمر بالعكس؟! كم في يمِّ الغرور من تمساح، فاحذر يا غائص، ستعلم أيها الغريم قصتك عند علق الغرماء بك" (بدائع الفوائد).
(3) وقد حكت كتب التاريخ: عن وزير ظلم امرأة بأخذ مزرعتها وبيتها، فشكته إلى الله فأوصاها مستهترًا، وقال: عليك بالدعاء في الثلث الأخير من الليل، فأخذت تدعو عليه شهرًا، فابتلاه الله بمَن قطع يده وعزله وأهانه، فمرت عليه وهو يُجلَد فشكرته قائلة:
إذا حـــاف الــــوزيــر وكــــاتـبــاه وقاضي الأرض أجحف في القضاء
فــــويــل ثــــم ويـــل ثــــم ويــــل لقاضي الأرض مـن قـاضي السماء
ابو وليد البحيرى
2024-06-07, 11:16 AM
الكبائر (34)
قذف المحصنات
(موعظة الأسبوع)
كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
المقدمة:
- الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة التي ضَمِن الله لمَن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى- : (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
- قَذْفُ المُحْصَنَاتِ من أكبر الكبائر، وأعظم الجرائم؛ لما له من أثر سيئ على مجتمعات المسلمين: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقاتِ)، قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، وما هُنَّ؟ قالَ: (الشِّرْكُ باللَّهِ، والسِّحْرُ، وقَتْلُ النَّفْسِ الَّتي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بالحَقِّ، وأَكْلُ الرِّبا، وأَكْلُ مالِ اليَتِيمِ، والتَّوَلِّي يَومَ الزَّحْفِ، وقَذْفُ المُحْصَناتِ المُؤْمِناتِ الغافِلاتِ) (متفق عليه).
- المقصود بقذف المحصنات الغافلات: القذف الرمي البعيد، استعير للشتم والعيب والبهتان كما استعير للرمي، والمحصنات جمع محصنة، بفتح الصاد، اسم مفعول، أي: التي أحصنها الله -تعالى- وحفظها من الزنا، وبكسرها، اسم فاعل أي: التي حفظت فرجها من الزنا. والغافلات: كناية عن البريئات؛ لأن البريء غافل عما بهت به من الزنا. (عمدة القاري).
وقال الذهبي -رحمه الله-: "والقذف أن يقول لامرأة أجنبية حرة عفيفة مسلمة: يا زانية، أو يا باغية. أو يقول لزوجها: يا زوج الزانية... وما إلى ذلك من عبارات" (الكبائر للذهبي).
- الإشارة إلى استهانة كثير من الناس بالقذف بكل أشكاله وألوانه وتنوع ألفاظه، مما امتلأت به حياة الناس عند التعاملات والاختلافات، بل عند التمازح، بل في وسائل الإعلام وسائل الاتصالات الحديثة، وغير ذلك.
(1) خطورة قذف المحصنات:
- قَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ يتسبب في فساد المجتمع وشيوع الفاحشة: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ? وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (النور: 19).
- قَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ يوجب الطرد من رحمة الله: قال الله -تعالى- : (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ . يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) (النور: 23-25).
- قَذْفُ الْمُحْصَنَةِ أَقْبَحُ مِنَ الرِّبَا وَمِنَ الزِّنَا: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (الرِّبَا ثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ بَابًا، أَيْسَرُهَا مِثْلُ أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ أُمَّهُ، *وَإِنَّ *أَرْبَى *الرِّبَا *عِرْضُ *الرَّجُلِ *الْمُسْلِمِ) (رواه ابن ماجه والحاكم واللفظ له، وصححه الألباني).
- قَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ يصل في بعض الأحيان إلى الكفر بالله -تعالى-: الشيعة الرافضة -المنتسبين إلى الإسلام زورًا وبهتانًا-، يحملهم الحقد وعداوة هذا الدِّين على رمي أمِّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- بالفاحشة، وهذا كفر؛ لأنه تكذيب لصريح القرآن: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (النور: 23).
وقال ابن كثير -رحمه الله-: "فَأُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ أَوْلَى بِالدُّخُولِ فِي هَذَا مِنْ كُلِّ مُحَصَّنَةٍ، وَلَا سِيَّمَا الَّتِي كَانَتْ سَبَبَ النُّزُولِ، وَهِيَ عَائِشَةُ بِنْتُ الصَّدِّيقِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ، قَاطِبَةً عَلَى أَنَّ مَنْ سَبَّها بَعْدَ هَذَا وَرَمَاهَا بِمَا رَمَاهَا بِهِ بَعْدَ هذا الَّذِي ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّهُ كَافِرٌ؛ لِأَنَّهُ مُعَانِدٌ لِلْقُرْآنِ" (تفسير ابن كثير)، وسيأتي حديث رمي المنافقين للصِّدِّيقة -رضي الله عنها-.
- ترتب العقوبة الشرعية على القاذف في الدنيا؛ إذا لم يأتِ بأربعة شهداء فإنه يجلد ثمانين جلدة، وترد شهادته أبدًا، ويصبح فاسقًا عند الله وعند الناس: قال -تعالى-: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَ?ئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور: 4).
(2) وقفة مهمة حول ضوابط ثبوت الزنا:
- صعوبة تحقق ذلك في الواقع (إحضار أربع شهود متفقين من غير اختلاف)، لا تبيح للقاذف القذف لغيره: فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ)، قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَهُوَ سَيِّدُ الأَنْصَارِ: أَهَكَذَا أُنْزِلَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (أَلا تَسْمَعُونَ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ إِلَى مَا يَقُولُ سَيِّدُكُمْ؟) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّهُ رَجُلٌ غَيُورٌ، وَاللَّهِ مَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً قَطُّ إِلا بِكْرًا، وَمَا طَلَّقَ امْرَأَةً قَطُّ، فَاجْتَرَأَ رَجُلٌ مِنَّا عَلَى أَنْ يَتَزَوَّجَهَا مِنْ شِدَّةِ غَيْرَتِهِ؟ فَقَالَ سَعْدٌ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لأَعْلَمُ أَنَّهَا حَقٌّ، وَأَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَلَكِنْ قَدْ تَعَجَّبْتُ أَنْ لَوْ وَجَدْتُ لَكَاعًا قَدْ تَفَخَّذَهَا رَجُلٌ لَمْ يَكُنْ لِي أَنْ أُهِيجَهُ وَلا أُحَرِّكَهُ حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ! فَوَاللَّهِ إِنِّي لا آتِي بِهِمْ حَتَّى يَقْضِي حَاجَتَهُ!
فَمَا لَبِثُوا إِلا يَسِيرًا حَتَّى جَاءَ هِلالُ بْنُ أُمَيَّةَ مِنْ أَرْضِهِ عَشِيَّةً، فَوَجَدَ عِنْدَ أَهْلِهِ رَجُلًا، فَرَأَى بِعَيْنِهِ، وَسَمِعَ بِأُذُنِهِ، فَلَمْ يُهِجْهُ حَتَّى أَصْبَحَ، فَغَدا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي جِئْتُ أَهْلِي عَشِيًّا فَوَجَدْتُ عِنْدَهَا رَجُلًا فَرَأَيْتُ بِعَيْنِي، وَسَمِعْتُ بِأُذُنِي؟ فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَا جَاءَ بِهِ وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: الآنَ يَضْرِبُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- هِلالَ بْنَ أُمَيَّةَ، وَيُبْطِلُ شَهَادَتَهُ فِي الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ هِلالٌ: وَاللَّهِ إِنِّي لأَرْجُو أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِي مِنْهَا مَخْرَجًا، فَقَالَ هِلالٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي قَدْ أَرَى مَا قَدِ اشْتَدَّ عَلَيْكَ مِمَّا جِئْتُكَ بِهِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنِّي لَصَادِقٌ، فَوَاللَّهِ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُرِيدُ أَنْ يَأْمُرَ بِضَرْبِهِ إِذْ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، وَكَانَ إِذَا نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ عَرَفُوا ذَلِكَ فِي تَرَبُّدِ جِلْدِهِ، فَأَمْسَكُوا عَنْهُ حَتَّى فَرَغَ مِنَ الْوَحْيِ، فَنَزَلَتْ: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ . وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ . وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ . وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (النور: 6-9)، فَسُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: (أَبْشِرْ يَا هِلالُ، فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا)، فَقَالَ هِلالٌ: قَدْ كُنْتُ أَرْجُو ذَاكَ مِنْ رَبِّي، ثم أمرا بأن يتلاعنا، فذكَّر النبي -صلى الله عليه وسلم- هلال بن أمية بالله والنار والعذاب، فلما أصر على قوله أمره أن يشهد بالله أربع مرات إنه لمن الصادقين، وفي الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم ذكَّر النبي -صلى الله عليه وسلم- زوجته بالله وبالنار والعذاب، فتلكأت قليلًا، ثم أصرت على تكذيبها لزوجها، فأمرها النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تشهد بالله أربع مرات إنه لمن الكاذبين، والخامسة أن تقول أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، فلما فرغا من اللعان فرَّق النبي -صلى الله عليه وسلم- بينهما، فلا تحل له أبدًا. (رواه أحمد بسندٍ حسنٍ).
(3) أعظم جريمة قذف في التاريخ:
- رمى المنافقين الصديقة بنت الصديق بالفاحشة: عن عَائِشَةَ قَالَتْ: كانَ رَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إذَا أرَادَ أنْ يَخْرُجَ أقْرَعَ بيْنَ أزْوَاجِهِ، فأيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بهَا رَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- معهُ، قالَتْ عَائِشَةُ: فأقْرَعَ بيْنَنَا في غَزْوَةٍ غَزَاهَا فَخَرَجَ سَهْمِي، فَخَرَجْتُ مع رَسولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بَعْدَ ما نَزَلَ الحِجَابُ، فأنَا أُحْمَلُ في هَوْدَجِي، وأُنْزَلُ فِيهِ، فَسِرْنَا حتَّى إذَا فَرَغَ رَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِن غَزْوَتِهِ تِلكَ وقَفَلَ، ودَنَوْنَا مِنَ المَدِينَةِ قَافِلِينَ، آذَنَ لَيْلَةً بالرَّحِيلِ، فَقُمْتُ حِينَ آذَنُوا بالرَّحِيلِ فَمَشيتُ حتَّى جَاوَزْتُ الجَيْشَ، فَلَمَّا قَضَيْتُ شَأْنِي أقْبَلْتُ إلى رَحْلِي، فَإِذَا عِقْدٌ لي مِن جَزْعِ ظَفَارِ قَدِ انْقَطَعَ، فَالْتَمَسْتُ عِقْدِي وحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ، وأَقْبَلَ الرَّهْطُ الَّذِينَ كَانُوا يَرْحَلُونَ لِي، فَاحْتَمَلُوا هَوْدَجِي فَرَحَلُوهُ علَى بَعِيرِي الذي كُنْتُ رَكِبْتُ، وهُمْ يَحْسِبُونَ أنِّي فِيهِ، وكانَ النِّسَاءُ إذْ ذَاكَ خِفَافًا، لَمْ يُثْقِلْهُنَّ اللَّحْمُ، إنَّما تَأْكُلُ العُلْقَةَ مِنَ الطَّعَامِ، فَلَمْ يَسْتَنْكِرِ القَوْمُ خِفَّةَ الهَوْدَجِ حِينَ رَفَعُوهُ، وكُنْتُ جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ فَبَعَثُوا الجَمَلَ وسَارُوا، فَوَجَدْتُ عِقْدِي بَعْدَ ما اسْتَمَرَّ الجَيْشُ فَجِئْتُ مَنَازِلَهُمْ وليسَ بهَا دَاعٍ، ولَا مُجِيبٌ فأمَمْتُ مَنْزِلِي الذي كُنْتُ به، وظَنَنْتُ أنَّهُمْ سَيَفْقِدُونِي فَيَرْجِعُونَ إلَيَّ.
فَبيْنَا أنَا جَالِسَةٌ في مَنْزِلِي غَلَبَتْنِي عَيْنِي فَنِمْتُ، وكانَ صَفْوَانُ بنُ المُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ مِن ورَاءِ الجَيْشِ، فأدْلَجَ فأصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي، فَرَأَى سَوَادَ إنْسَانٍ نَائِمٍ، فأتَانِي فَعَرَفَنِي حِينَ رَآنِي، وكانَ رَآنِي قَبْلَ الحِجَابِ، فَاسْتَيْقَظْتُ باسْتِرْجَاعِهِ حِينَ عَرَفَنِي فَخَمَّرْتُ وجْهِي بجِلْبَابِي، ووَاللَّهِ ما كَلَّمَنِي كَلِمَةً ولَا سَمِعْتُ منه كَلِمَةً غيرَ اسْتِرْجَاعِهِ، حتَّى أنَاخَ رَاحِلَتَهُ فَوَطِئَ علَى يَدَيْهَا فَرَكِبْتُهَا، فَانْطَلَقَ يَقُودُ بي الرَّاحِلَةَ، حتَّى أتَيْنَا الجَيْشَ بَعْدَما نَزَلُوا مُوغِرِينَ في نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، فَهَلَكَ مَن هَلَكَ، وكانَ الذي تَوَلَّى الإفْكَ عَبْدَ اللَّهِ بنَ أُبَيٍّ ابْنَ سَلُولَ، فَقَدِمْنَا المَدِينَةَ، فَاشْتَكَيْتُ حِينَ قَدِمْتُ شَهْرًا، والنَّاسُ يُفِيضُونَ في قَوْلِ أصْحَابِ الإفْكِ، لا أشْعُرُ بشيءٍ مِن ذلكَ وهو يَرِيبُنِي في وجَعِي، أنِّي لا أعْرِفُ مِن رَسولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- اللَّطَفَ الذي كُنْتُ أرَى منه حِينَ أشْتَكِي، إنَّما يَدْخُلُ عَلَيَّ رَسولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- فيُسَلِّمُ ثُمَّ يقولُ: (كيفَ تِيكُمْ؟) ثُمَّ يَنْصَرِفُ، فَذَاكَ الذي يَرِيبُنِي، ولَا أشْعُرُ بالشَّرِّ حتَّى خَرَجْتُ بَعْدَ ما نَقَهْتُ، فَخَرَجَتْ مَعِي أُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ المَنَاصِعِ وهو مُتَبَرَّزُنَا، وكُنَّا لا نَخْرُجُ إلَّا لَيْلًا إلى لَيْلٍ، وذلكَ قَبْلَ أنْ نَتَّخِذَ الكُنُفَ قَرِيبًا مِن بُيُوتِنَا، وأَمْرُنَا أمْرُ العَرَبِ الأُوَلِ في التَّبَرُّزِ قِبَلَ الغَائِطِ، فَكُنَّا نَتَأَذَّى بالكُنُفِ أنْ نَتَّخِذَهَا عِنْدَ بُيُوتِنَا، فَانْطَلَقْتُ أنَا وأُمُّ مِسْطَحٍ وهي ابْنَةُ أبِي رُهْمِ بنِ عبدِ مَنَافٍ، وأُمُّهَا بنْتُ صَخْرِ بنِ عَامِرٍ خَالَةُ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وابنُهَا مِسْطَحُ بنُ أُثَاثَةَ، فأقْبَلْتُ أنَا وأُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ بَيْتِي، وقدْ فَرَغْنَا مِن شَأْنِنَا، فَعَثَرَتْ أُمُّ مِسْطَحٍ في مِرْطِهَا، فَقالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحٌ، فَقُلتُ لَهَا: بئْسَ ما قُلْتِ، أتَسُبِّينَ رَجُلًا شَهِدَ بَدْرًا؟ قالَتْ: أيْ هَنْتَاهْ أوَلَمْ تَسْمَعِي ما قالَ؟ قالَتْ: قُلتُ: وما قالَ؟ فأخْبَرَتْنِي بقَوْلِ أهْلِ الإفْكِ، فَازْدَدْتُ مَرَضًا علَى مَرَضِي.
فَلَمَّا رَجَعْتُ إلى بَيْتِي، ودَخَلَ عَلَيَّ رَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- تَعْنِي سَلَّمَ، ثُمَّ قالَ: (كيفَ تِيكُمْ؟)، فَقُلتُ: أتَأْذَنُ لي أنْ آتِيَ أبَوَيَّ، قالَتْ: وأَنَا حِينَئِذٍ أُرِيدُ أنْ أسْتَيْقِنَ الخَبَرَ مِن قِبَلِهِمَا، قالَتْ: فأذِنَ لي رَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ، فَجِئْتُ أبَوَيَّ فَقُلتُ لِأُمِّي: يا أُمَّتَاهْ ما يَتَحَدَّثُ النَّاسُ؟ قالَتْ: يا بُنَيَّةُ هَوِّنِي عَلَيْكِ، فَوَاللَّهِ لَقَلَّما كَانَتِ امْرَأَةٌ قَطُّ وضِيئَةٌ عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا، ولَهَا ضَرَائِرُ إلَّا كَثَّرْنَ عَلَيْهَا، قالَتْ: فَقُلتُ: سُبْحَانَ اللَّهِ! أوَلقَدْ تَحَدَّثَ النَّاسُ بهذا؟! قالَتْ: فَبَكَيْتُ تِلكَ اللَّيْلَةَ حتَّى أصْبَحْتُ لا يَرْقَأُ لي دَمْعٌ، ولَا أكْتَحِلُ بنَوْمٍ، حتَّى أصْبَحْتُ أبْكِي، فَدَعَا رَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلِيَّ بنَ أبِي طَالِبٍ وأُسَامَةَ بنَ زَيْدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عنْهما- حِينَ اسْتَلْبَثَ الوَحْيُ، يَسْتَأْمِرُهُم ا في فِرَاقِ أهْلِهِ، قالَتْ: فأمَّا أُسَامَةُ بنُ زَيْدٍ فأشَارَ علَى رَسولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بالَّذِي يَعْلَمُ مِن بَرَاءَةِ أهْلِهِ، وبِالَّذِي يَعْلَمُ لهمْ في نَفْسِهِ مِنَ الوُدِّ، فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، أهْلَكَ ولَا نَعْلَمُ إلَّا خَيْرًا، وأَمَّا عَلِيُّ بنُ أبِي طَالِبٍ فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ لَمْ يُضَيِّقِ اللَّهُ عَلَيْكَ، والنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ، وإنْ تَسْأَلِ الجَارِيَةَ تَصْدُقْكَ.
قالَتْ: فَدَعَا رَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بَرِيرَةَ، فَقالَ: (أيْ بَرِيرَةُ، هلْ رَأَيْتِ مِن شيءٍ يَرِيبُكِ؟) قالَتْ بَرِيرَةُ: لا والذي بَعَثَكَ بالحَقِّ، إنْ رَأَيْتُ عَلَيْهَا أمْرًا أغْمِصُهُ عَلَيْهَا، أكْثَرَ مِن أنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ، تَنَامُ عن عَجِينِ أهْلِهَا، فَتَأْتي الدَّاجِنُ فَتَأْكُلُهُ، فَقَامَ رَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ، فَاسْتَعْذَرَ يَومَئذٍ مِن عبدِ اللَّهِ بنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ، قالَتْ: فَقالَ رَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وهو علَى المِنْبَرِ: (يا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ مَن يَعْذِرُنِي مِن رَجُلٍ قدْ بَلَغَنِي أذَاهُ في أهْلِ بَيْتِي، فَوَاللَّهِ ما عَلِمْتُ علَى أهْلِي إلَّا خَيْرًا، ولقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا ما عَلِمْتُ عليه إلَّا خَيْرًا، وما كانَ يَدْخُلُ علَى أهْلِي إلَّا مَعِي) فَقَامَ سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ الأنْصَارِيُّ، فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ أنَا أعْذِرُكَ منه، إنْ كانَ مِنَ الأوْسِ ضَرَبْتُ عُنُقَهُ، وإنْ كانَ مِن إخْوَانِنَا مِنَ الخَزْرَجِ أمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا أمْرَكَ، قالَتْ: فَقَامَ سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ وهو سَيِّدُ الخَزْرَجِ، وكانَ قَبْلَ ذلكَ رَجُلًا صَالِحًا، ولَكِنِ احْتَمَلَتْهُ الحَمِيَّةُ، فَقالَ لِسَعْدٍ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ لا تَقْتُلُهُ، ولَا تَقْدِرُ علَى قَتْلِهِ، فَقَامَ أُسَيْدُ بنُ حُضَيْرٍ وهو ابنُ عَمِّ سَعْدِ بنِ مُعَاذٍ، فَقالَ لِسَعْدِ بنِ عُبَادَةَ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ ، فإنَّكَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنِ المُنَافِقِينَ.
فَتَثَاوَرَ الحَيَّانِ الأوْسُ والخَزْرَجُ حتَّى هَمُّوا أنْ يَقْتَتِلُوا، ورَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَائِمٌ علَى المِنْبَرِ، فَلَمْ يَزَلْ رَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُخَفِّضُهُمْ حتَّى سَكَتُوا، وسَكَتَ، قالَتْ: فَبَكَيْتُ يَومِي ذلكَ لا يَرْقَأُ لي دَمْعٌ ولَا أكْتَحِلُ بنَوْمٍ، قالَتْ: فأصْبَحَ أبَوَايَ عِندِي وقدْ بَكَيْتُ لَيْلَتَيْنِ ويَوْمًا لا أكْتَحِلُ بنَوْمٍ، ولَا يَرْقَأُ لي دَمْعٌ، يَظُنَّانِ أنَّ البُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي، قالَتْ: فَبيْنَما هُما جَالِسَانِ عِندِي، وأَنَا أبْكِي فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ مِنَ الأنْصَارِ، فأذِنْتُ لَهَا فَجَلَسَتْ تَبْكِي مَعِي، قالَتْ: فَبيْنَا نَحْنُ علَى ذلكَ، دَخَلَ عَلَيْنَا رَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ، قالَتْ: ولَمْ يَجْلِسْ عِندِي مُنْذُ قيلَ ما قيلَ قَبْلَهَا، وقدْ لَبِثَ شَهْرًا لا يُوحَى إلَيْهِ في شَأْنِي، قالَتْ: فَتَشَهَّدَ رَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ جَلَسَ، ثُمَّ قالَ: (أمَّا بَعْدُ يا عَائِشَةُ، فإنَّه قدْ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وكَذَا، فإنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ، وإنْ كُنْتِ ألْمَمْتِ بذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وتُوبِي إلَيْهِ، فإنَّ العَبْدَ إذَا اعْتَرَفَ بذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ إِلَى اللَّهِ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ).
قالَتْ: فَلَمَّا قَضَى رَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَقالَتَهُ قَلَصَ دَمْعِي حتَّى ما أُحِسُّ منه قَطْرَةً، فَقُلتُ لأبِي: أجِبْ رَسولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِيما قالَ، قالَ: واللَّهِ ما أدْرِي ما أقُولُ لِرَسولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقُلتُ لِأُمِّي: أجِيبِي رَسولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، قالَتْ: ما أدْرِي ما أقُولُ لِرَسولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، قالَتْ: فَقُلتُ وأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ لا أقْرَأُ كَثِيرًا مِنَ القُرْآنِ: إنِّي واللَّهِ لقَدْ عَلِمْتُ، لقَدْ سَمِعْتُمْ هذا الحَدِيثَ حتَّى اسْتَقَرَّ في أنْفُسِكُمْ وصَدَّقْتُمْ به؛ فَلَئِنْ، قُلتُ لَكُمْ: إنِّي بَرِيئَةٌ، واللَّهُ يَعْلَمُ أنِّي بَرِيئَةٌ لا تُصَدِّقُونِي بذلكَ، ولَئِنِ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بأَمْرٍ واللَّهُ يَعْلَمُ أنِّي منه بَرِيئَةٌ لَتُصَدِّقُنِّي ، واللَّهِ ما أجِدُ لَكُمْ مَثَلًا إلَّا قَوْلَ أبِي يُوسُفَ، قالَ: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ واللَّهُ المُسْتَعَانُ علَى ما تَصِفُونَ) (يوسف: 18).
قالَتْ: ثُمَّ تَحَوَّلْتُ فَاضْطَجَعْتُ علَى فِرَاشِي، قالَتْ: وأَنَا حِينَئِذٍ أعْلَمُ أنِّي بَرِيئَةٌ، وأنَّ اللَّهَ مُبَرِّئِي ببَرَاءَتِي، ولَكِنْ واللَّهِ ما كُنْتُ أظُنُّ أنَّ اللَّهَ مُنْزِلٌ في شَأْنِي وحْيًا يُتْلَى، ولَشَأْنِي في نَفْسِي كانَ أحْقَرَ مِن أنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِيَّ بأَمْرٍ يُتْلَى، ولَكِنْ كُنْتُ أرْجُو أنْ يَرَى رَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- في النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ بهَا، قالَتْ: فَوَاللَّهِ ما رَامَ رَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، ولَا خَرَجَ أحَدٌ مِن أهْلِ البَيْتِ حتَّى أُنْزِلَ عليه، فأخَذَهُ ما كانَ يَأْخُذُهُ مِنَ البُرَحَاءِ، حتَّى إنَّه لَيَتَحَدَّرُ منه مِثْلُ الجُمَانِ مِنَ العَرَقِ، وهو في يَومٍ شَاتٍ، مِن ثِقَلِ القَوْلِ الذي يُنْزَلُ عليه، قالَتْ: فَلَمَّا سُرِّيَ عن رَسولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- سُرِّيَ عنْه وهو يَضْحَكُ، فَكَانَتْ أوَّلُ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بهَا: (يا عَائِشَةُ، أمَّا اللَّهُ -عزَّ وجلَّ- فقَدْ بَرَّأَكِ) فَقالَتْ أُمِّي: قُومِي إلَيْهِ، قالَتْ: فَقُلتُ: لا واللَّهِ لا أقُومُ إلَيْهِ، ولَا أحْمَدُ إلَّا اللَّهَ -عزَّ وجلَّ-، فأنْزَلَ اللَّهُ -عزَّ وجلَّ-: (*إِنَّ *الَّذِينَ *جَاءُوا *بِالْإِفْكِ *عُصْبَةٌ *مِنْكُمْ *لَا *تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (النور: 11) الآيَاتِ. (متفق عليه).
خاتمة:
- قذف المحصنات مسألة خطيرة جدًّا قد يتعرَّض لها أحدٌ مِن المسلمين فيهلك بسببها، وقد يتكلم بها عند أحد من الناس أو في جمع من الخلق أو عند أهله، أو يكتبها في الإنترنت، أو في قناة من القنوات الإعلامية، وهو يعلم أو لا يعلم ما يترتب على قوله من الهلاك -والعياذ بالله-؛ فالحذر الحذر، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (اجْتَنِبُوا *السَّبْعَ *الْمُوبِقَاتِ) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: (الشِّرْكُ بِاللهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلَاتِ) (متفق عليه).
فاللهم استر عوراتنا، وآمِن روعاتنا، واحفظ أعراض المسلمين أجمعين.
ابو وليد البحيرى
2024-06-07, 11:18 AM
الكبائر (35)
شرب الخمر والمخدرات
(موعظة الأسبوع)
كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
المقدمة:
- الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضمن الله لمن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال تعالى: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
- شرب الخمر والمخدرات من كبائر الذنوب، وشنائع السلوك؛ لما لها من مفاسد على عقل الإنسان وسلوكه: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لُعِنتِ الخمرُ على عشرةِ أوجُهٍ: بعينِها، وعاصرِها، ومعتَصرِها، وبائعِها، ومُبتاعِها، وحاملِها، والمحمولةِ إليهِ، وآكِلِ ثمنِها، وشاربِها، وساقيها) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني).
- المخدِّر في التعريف العلمي: مادة تسبب في الإنسان والحيوان فقدان الوعي بدرجات متفاوتة كالحشيش والأفيون. (المعجم الوسيط)، يعني: كل مادة طبيعية أو كيماوية إذا استخدمت تؤدي إلى فقدان كلي أو جزئي للإدراك بصفة مؤقتة، على حسب نوع المخدر والكمية المستخدمة.
- إذًا فكل ما يؤثـِّر على العقل سلبًا -وإن سماه الناس بأسماء ترغيبية- فهو خمر: عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ رَجُلاً قَدِمَ مِنْ جَيْشَانَ -وَجَيْشَانُ مِنْ الْيَمَنِ- فَسَأَلَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ شَرَابٍ يَشْرَبُونَهُ بِأَرْضِهِمْ مِنْ الذُّرَةِ يُقَالُ لَهُ: الْمِزْرُ فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (أَوَمُسْكِرٌ هُوَ؟)، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، إِنَّ عَلَى اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- عَهْدًا لِمَنْ يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ)، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ؟! قَالَ: (عَرَقُ أَهْلِ النَّارِ أَوْ عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ) (رواه مسلم)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ؛ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ) (رواه أحمد والنسائي، وقال الألباني: "حسن صحيح")(1).
(1) عاقبة المخدرات في الدنيا والآخرة:
- متناول المخدرات ملعون هو ومَن يشاركه بأي درجة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لُعِنتِ الخمرُ على عشرةِ أوجُهٍ: بعينِها، وعاصرِها، ومعتَصرِها، وبائعِها، ومُبتاعِها، وحاملِها، والمحمولةِ إليهِ، وآكِلِ ثمنِها، وشاربِها، وساقيها) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني).
- متناول المخدرات متوعد في الدنيا بالجلد والإهانة، وهو على غير سبيل المسلمين: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَن شربَ الخمرَ فاجلِدوهُ) (رواه أحمد، وصححه الشيخ أحمد شاكر)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وهو مُؤْمِنٌ، ولا يَشْرَبُ الخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وهو مُؤْمِنٌ، ولا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وهو مُؤْمِنٌ) (متفق عليه).
- متناول المخدرات متوعد في الآخرة بشرب طينة الخبال في النار: قال -صلى الله عليه وسلم-: (كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، إِنَّ عَلَى اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- عَهْدًا لِمَنْ يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ)، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ؟! قَالَ: (عَرَقُ أَهْلِ النَّارِ أَوْ عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ) (رواه مسلم).
(2) أضرار المخدرات على الفرد:
- المخدرات محاربة للمقاصد العظيمة التي جاءت الشريعة الإسلامية بالمحافظة عليها: (الضروريات: النفس - المال - العقل - العرض - الدين)، والمخدرات تفسد كل ذلك.
- فالمخدرات قتل للنفس عاجلًا أو آجلًا: (الالتهاب الرئوي - الصرع - الإيدز - الكبد الوبائي - الوفاة بجرعة زائدة)، قال -تعالى-: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) (النساء:29).
- والمخدرات إفساد للعقل: (اضطراب خلايا المخ - تغيرات سلوكية وأخلاقية - ...)، وغير ذلك مما يجرئ على ارتكاب المعاصي، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّ ملِكًا من بنِي إسرائِيلَ أخذَ رجُلًا فخَيَّرَهُ بين أنْ يَشرَبَ الخمْرَ، أوْ يَقتُلَ صبِيًّا، أوْ يزْنِيَ، أو يأكلَ لحمَ خِنزيرٍ، أو يَقتلُوهُ إنْ أبَى، فاختارَ أنْ يَشربَ الخمْرَ، وإنَّهُ لَمَّا شرِبَها لمْ يمتنعْ من شيءٍ أرادُوهُ مِنهُ) (رواه الطبراني في المعجم الأوسط، وصححه الألباني).
- والمخدرات إتلاف للمال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَا فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَا أَبْلاَهُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني). ومتناول المخدرات غالبًا لا يعمل، وعلى ذلك يسعى لجلب المال للتعاطي بأي صورة (سرقة - تفريط في عرض - إلخ).
- المخدرات تضييع للأعراض: (لا غيرة ولا رجولة؛ لأنه أسير شهوته)(2).
- المخدرات تضييع للدين، فالعبادة لها روحانية خاصة لا تناسب حالة المدمن المضطربة: قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) (النساء:43).
(3) أضرار المخدرات على المجتمع:
- تهدد بانهيار البنية البشرية للمجتمع وخصوصًا الشباب: ففي الحديث قيل: يَا رَسُولَ اللهِ *أَنَهْلِكُ *وَفِينَا *الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: (نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ) (متفق عليه).
- إفساد لاقتصاد الأمة (الأموال المهدرة على المخدرات تقيم جيشًا على أحدث نظام، وأرباب المخدرات لا ينتجون، بل يزيدون الأعباء الاقتصادية): (سجون - شرطة وحراسة - قضاة - محاكم - مستشفيات - ...).
- هزيمة عسكرية: (انهزم الصينيون هزيمة نكراء من اليابان؛ لأن الأفيون كان منتشرًا بين صفوف الجيش الصيني).
(4) أسباب انتشار المخدرات:
- ضعف الدين، وتضييع معنى المراقبة لله، والجزاء من جنس العمل: قال -سبحانه وتعالى-: (مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا) (الكهف:17).
- سوء التربية أو فسادها في كثير من البيوت: قال -تعالى-: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا) (الأعراف:58).
- أصحاب السوء: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
- وسائل الإعلام الفاسدة المفسدة: (البطل عندهم إما سارق أو فاسق أو مدخن، إلخ)، قال -تعالى-: (أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (البقرة:221).
- تعاطي بعض الأدوية بطريق الخطأ أو مظنة الخير: (المنشطات الجنسية - المثبطات الكثيرة ونحوها...).
- الظروف السياسية بين الدول: مما يجعلها تستهدف خصمها بالإفساد لأفراده.
(5) ما العلاج؟!:
- التوبة والعودة إلى الله، فهي أعظم سبيل للنجاة والعلاج: قال -تعالى-: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا) (الطلاق:2)، (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) (الطلاق:4)، (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا . يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا . وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا) (نوح:10-12).
- مراقبة الله واستحضار العاقبة في الدنيا والآخرة: قال -صلى الله عليه وسلم-: (... أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ، فإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فإنَّه يَرَاكَ) (متفق عليه).
- الإقبال على المساجد ومجالس العلم، ومصاحبة الصالحين: قال -تعالى-: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) (الكهف:28)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ والجَلِيسِ السَّوْءِ، كَمَثَلِ صاحِبِ المِسْكِ وكِيرِ الحَدَّادِ، لا يَعْدَمُكَ مِن صاحِبِ المِسْكِ إمَّا تَشْتَرِيهِ أوْ تَجِدُ رِيحَهُ، وكِيرُ الحَدَّادِ يُحْرِقُ بَدَنَكَ أوْ ثَوْبَكَ، أوْ تَجِدُ منه رِيحًا خَبِيثَةً) (متفق عليه).
فاللهم اصلح شباب المسلمين، واحفظهم من كيد الكفرة والمفسدين.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــــ
(1) قال الإمام الهيتمي بعد ذكره أنواعًا من المخدرات في زمانه: "وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ كُلَّهَا مُسْكِرَةٌ أَوْ مُخَدِّرَةٌ فَاسْتِعْمَالُه َا كَبِيرَةٌ وَفِسْقٌ كَالْخَمْرِ، فَكُلُّ مَا جَاءَ فِي وَعِيدِ شَارِبِهَا يَأْتِي فِي مُسْتَعْمِلِ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ لِاشْتِرَاكِهِم َا فِي إزَالَةِ الْعَقْلِ الْمَقْصُودِ لِلشَّارِعِ بَقَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ الْآلَةُ لِلْفَهْمِ عَنْ اللَّهِ -تَعَالَى- وَعَنْ رَسُولِهِ وَالْمُتَمَيِّز ُ بِهِ الْإِنْسَانُ عَنْ الْحَيَوَانِ، وَالْوَسِيلَةُ إلَى إيثَارِ الْكَمَالَاتِ عَنْ النَّقَائِصِ، فَكَانَ فِي تَعَاطِي مَا يُزِيلُهُ وَعِيدُ الْخَمْرِ الْآتِي فِي بَابهَا" (الزواجر عن اقتراف الكبائر للهيتمي).
(2) يحسن أن يذكر الخطيب بعض القصص التي فيها عبرة، مثل: تحدث أحد رجال مكافحة المخدرات عن شاب من هؤلاء الذين أصبحوا أسرى للمخدرات، الذي يسرق أموال أمه وأخته، ثم بدأ يبيع أثاث البيت حتى لم يبقَ شيء يبيعه... أتدرون -عياذًا بالله- ماذا فعل؟! أوقع أخته في الإدمان من غير علمها، ثم أخذ يتاجر بعرضها وشرفها من أجل المال الذي يدمن به المخدرات، ولم يقف عن هذا الحد، بل سولت له نفسه، فكرر ذلك بأمه ليزيد من دخله المالي لأجل الإدمان! وإنا لله وإنا إليه راجعون. (قصة مأساة - إبراهيم الدويش).
ابو وليد البحيرى
2024-06-21, 11:55 PM
الكبائر (36)
أكل مال اليتيم ظلمًا
(موعظة الأسبوع)
كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
المقدمة:
- الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة التي ضمن الله لمن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
- أكل مال اليتيم ظلمًا من الكبائر العظام، والجرائم الجسام؛ جاء الوعيد الشديد، والعذاب الأكيد لفاعله: قال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) (النساء: 10)، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقاتِ)، قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، وما هُنَّ؟ قالَ: (الشِّرْكُ باللَّهِ، والسِّحْرُ، وقَتْلُ النَّفْسِ الَّتي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بالحَقِّ، وأَكْلُ الرِّبا، وأَكْلُ مالِ اليَتِيمِ، والتَّوَلِّي يَومَ الزَّحْفِ، وقَذْفُ المُحْصَناتِ المُؤْمِناتِ الغافِلاتِ) (متفق عليه).
- اليتيم في الشرع: هو مَن مات أبوه وهو دون البلوغ، وبعد البلوغ لا يسمى يتيمًا؛ فعن حنظلة المالكي، قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَا يُتْمَ بَعْدَ احْتِلَامٍ، وَلَا يُتْمَ عَلَى جَارِيَةٍ إِذَا هِيَ حَاضَتْ) (رواه الطبراني في المعجم الكبير، وصححه الألباني).
- الإشارة إلى استهانة كثير من الناس بأكل أموال الأيتام، بتأويلات مختلفة، بل البعض يكون فاجرًا غير متأول(1).
(1) مكانة اليتيم في الإسلام:
- فقد الأب في الصغر يكسر قلب الصغير، ويضعفه بين الناس؛ ولذا نبه الإسلام إلى مكانة اليتيم، وعظم من أجر رعايته، وذلك من خلال جوانب متعددة من الترغيب.
- مواساة اليتامى بكون أعظم إنسان عرفته البشرية؛ محمد -صلى الله عليه وسلم- كان من الأيتام: قال -تعالى-: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى . وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى . وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى) (الضحى: 6-8).
- بيان أن هذا أمر الله للأمم كلها (الإحسان إليه): قال -تعالى-: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ ) (البقرة: 83).
- جعل الإسلام لليتيم نصيبًا وحظًّا في كل أنواع الأموال تقريبًا: قال -تعالى- في الزكاة والصدقة: (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ ) (البقرة: 177)، وفي الميراث قال -تعالى-: (إِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا) (النساء: 8)، وقال -تعالى- عند تقسيم الغنائم: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى) (الأنفال: 41).
- توصية الرسول -صلى الله عليه وسلم- المتكررة باليتيم والإحسان إليه: قال -صلى الله عليه وسلم-: (اللَّهمَّ إنِّي أحرِّجُ حقَّ الضَّعيفينِ: اليتيمِ والمرأَةِ) (رواه ابن ماجه والنسائي في السنن الكبرى، وحسنه الألباني).
- التحذير من إهانة اليتيم وأذاه بأي نوع من الإهانة والأذى: قال -تعالى-: (كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ . وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) (الفجر: 17، 18)، وقال: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ) (الضحى: 9)، وقال في صفات الكافرين: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ. فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ . وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) (الماعون: 1-3)
(2) فضل الإحسان إلى اليتيم:
- الإحسان إلى اليتيم من أسباب مرافقة النبي في الجنة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أنا وكافِلُ اليَتِيمِ في الجَنَّةِ هَكَذا) وأَشارَ بالسَّبَّابَةِ والوُسْطَى، وفَرَّجَ بيْنَهُما شيئًا. (رواه البخاري ومسلم)، وقال: (أَنَا أَوَّلُ مَنْ يَفْتَحُ بَابَ الجنَّةِ، إلا أنَّ امرأةٌ تُبادِرُني، فَأَقُولُ لَهَا: مَا لَكِ! وَمَن أَنْتَ؟ فَتَقُولُ: أَنَا امْرَأةٌ قعدتُ عَلَى أَيْتَامٍ لِي) (رواه أبو يعلى، وقال الإمام المنذري في الترغيب والترهيب: رواه أبو يعلى وإسناده حسن إن شاء الله).
- الإحسان إلى اليتيم مصدر من مصادر سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة: روي في الحديث: "مَنْ مَسَحَ رَأْسَ يَتِيمٍ لَمْ يَمْسَحْهُ إلا لِلَّه، كَانَ لَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ مَرَّتْ عَلَيْهَا يَدُهُ حَسَنَاتٌ" (رواه أحمد في مسنده، وإسناده ضعيف).
- الإحسان إلى اليتيم دواء لعلاج قسوة القلب: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا شَكَا إلى رَسُولِ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- قَسْوَةَ قَلْبِهِ فَقَالَ لَه: (إِنْ أَرَدْتَ تَلْيِينَ قَلْبِكَ فَأَطْعِمْ الْمِسْكِينَ وَامْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيم) (رواه أحمد، وحسنه الألباني).
(3) عاقبة أكل مال اليتيم ظلمًا:
- أرشد الحق -تبارك وتعالى- الذين لهم وصاية على اليتيم، أو لهم علاقة بمال اليتيم إلى سبيل الحق والعدل: قال -تعالى-: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِف ْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا) (النساء: 6)، قال البغوي: "نزلت في ثابت بن رفاعة وفي عمه، وذلك أن رفاعة توفي وترك ابنه ثابتًا وهو صغير، فجاء عمه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: إن ابن أخي يتيم في حجري، فما يحل لي من ماله ومتى أدفع إليه ماله؟ فأنزل الله -تعالى- هذه الآية"(2).
- ولذا توعد الحق تبارك و-تعالى- الذين يخالفون في ذلك بالاعتداء على أموال اليتامى ظلمًا بالوعيد الشديد في الدنيا والآخرة: قال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) (النساء: 10).
- انظروا.. ماذا فعل الصالحون لما سمعوا آيات الوعيد: عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: لما أنزل الله -عز وجل-: (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (الأنعام: 152)، و(إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا) الآية.. انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه، فجعل يفضل من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأنزل الله -عز وجل-: (وَيَسْأَلُونَك عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة: 220)؛ فخلطوا طعامهم بطعامه وشرابهم بشرابه" (رواه أبو داود، والنسائي، وضعفه الألباني).
- أين الذين يأكلون أموال اليتامى من هؤلاء -رضي الله عنهم-؟!: (قصة للاعتبار: العم الذى أخذ أموال ابن أخيه اليتيم، ولما جاء ابن أخيه يطلبها بعد كبره، جحد العم المال ورفض تسليمه لابن أخيه، فجعل يخوفه بالله فلم يكترث لذلك وتجبر، فرجع الولد حزينًا، ولكنه قال له: لن أشكوك للقضاء فلربما تهرب من قاضي الأرض، ولكني سأشكوك إلى قاضي الأرض والسماء! وبعد شهور قليلة سافر هذا العم واصطحب زوجته وأولاده جميعًا، ولما كان على الطريق حدث لهم حادث مروع ماتوا فيه جميعًا، ولم يكن للرجل ورثة غير ابن أخيه! فآلت أمواله وأموال أخيه المتوفى لابن أخيه؛ اليتيم الذى أكل ماله يومًا)، وصدق الحق: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) (إبراهيم: 42).
خاتمة:
اليتيم يحتاج إلى مواساة وحب وعطف وحنان، لا إلى ظلم وقهر، فهو مكسور خاطره، مكلوم فؤاده، فانظر له بعين مشفقة حانية:
انظرْ إلى وجـه اليتيم وهَبْ له عَـطْـفًا يعيش به الحياةَ كريما
وافـتحْ له كَـنـْزَ الحـنـانِ فإنما يرعى الحنانُ فؤادَه المكلوما
فالله الله في حقوق اليتامى وأكل أموالهم، انتبهوا واحذروا، فإنما هي نار في بطون آكليها: قال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) (النساء: 10)، وقال: (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا) (الإسراء: 34).
فاللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــ ـــــــــــــــ
(1) من صور ذلك: حبس الوصي لميراث اليتامى، وعدم تقسيم وإعطاء الأيتام حقهم، فقد يكون الأيتام في حاجة ولديهم إرث حبسه عنهم الأخ الأكبر أو العم، أو أي أحد من الأوصياء؛ لأنه ينتفع منه، مثل: أرض زراعيه يزرع فيها ويؤجر بعضها طوال السنين، ويستمتع بها دون بقية الورثة وخاصة الأيتام، وقد يموت بعض الورثة ولم يذق حلاوة نصيبه من الميراث مع حاجته الماسة إليه.
(2) التفسير الميسر: "واختبروا مَن تحت أيديكم من اليتامى لمعرفة قدرتهم على حسن التصرف في أموالهم، حتى إذا وصلوا إلى سن البلوغ، وعَلمتم منهم صلاحًا في دينهم، وقدرة على حفظ أموالهم، فسلِّموها لهم، ولا تعتدوا عليها بإنفاقها في غير موضعها إسرافًا ومبادرة لأكلها قبل أن يأخذوها منكم، ومَن كان صاحب مال منكم فليستعفف بغناه، ولا يأخذ من مال اليتيم شيئًا، ومن كان فقيرًا فليأخذ بقدر حاجته عند الضرورة، فإذا علمتم أنهم قادرون على حفظ أموالهم بعد بلوغهم الحُلُم وسلمتموها إليهم، فأَشْهِدوا عليهم؛ ضمانًا لوصول حقهم كاملًا إليهم؛ لئلا ينكروا ذلك، ويكفيكم أن الله شاهد عليكم، ومحاسب لكم على ما فعلتم".
ابو وليد البحيرى
2024-06-28, 11:39 PM
الكبائر (37)
التولي يوم الزَّحْف
(موعظة الأسبوع)
كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
المقدمة:
- الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة التي ضمن الله لمن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
- التولي يوم الزحف من الكبائر العظام، والمهلكات الجسام في الدنيا والآخرة: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقاتِ)، قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ وما هُنَّ؟ قالَ: (الشِّرْكُ باللَّهِ، والسِّحْرُ، وقَتْلُ النَّفْسِ الَّتي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بالحَقِّ، وأَكْلُ الرِّبا، وأَكْلُ مالِ اليَتِيمِ، والتَّوَلِّي يَومَ الزَّحْفِ، وقَذْفُ المُحْصَناتِ المُؤْمِناتِ الغافِلاتِ) (متفق عليه).
- المقصود بالتولي يوم الزحف: هو الفرار من ميدان المعركة أو الحرب، قال الشيخ العثيمين: "التولي: بمعنى الإدبار والإعراض. ويوم الزحف: يعني يوم تلاحم الصفين في القتال مع الكفار، وسمي يوم الزحف؛ لأن الجموع إذا تقابلت تجد أن بعضها يزحف إلى بعض كالذي يمشي زحفًا". (القول المفيد شرح كتاب التوحيد).
- الإشارة إلى حاجتنا لنشر فقه الجهاد ومواجهة الأعداء في صفوف الجيوش الإسلامية، ليثبت أبناؤنا ويحتسبوا الأجر عند المواجهة.
(1) منظور الحرب في الإسلام:
- جاء الإسلام ينظم حياة البشر لا الملائكة، والبشر فيهم الخير والشر، ولم يكن الإسلام داعيًا إلى الاستسلام للظلم والظالمين، ولم يكن داعيًا إلى الظلم والوحشية والانتقام، واعترف الإسلام بالحرب؛ لأن طبيعة البشر فيها التنازع، ولا بد من المدافعة، قال -تعالى-: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة: 251).
- الحرب في الإسلام لا تكون إلا لأجل الغاية العظيمة النبيلة: قال الله -تعالى-: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) (الأنفال: 39)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أُمِرْتُ أنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حتَّى يَشْهَدُوا أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللَّهِ، ويُقِيمُوا الصَّلَاةَ، ويُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذلكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وأَمْوَالَهُمْ إلَّا بحَقِّ الإسْلَامِ، وحِسَابُهُمْ علَى اللَّهِ) (رواه البخاري ومسلم).
- الحرب في الإسلام وسيلة لا غاية: قال الله -تعالى-: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل: 125)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (انْفُذْ علَى رِسْلِكَ حتَّى تَنْزِلَ بسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إلى الإسْلَامِ، وأَخْبِرْهُمْ بما يَجِبُ عليهم مِن حَقِّ اللَّهِ فِيهِ؛ فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بكَ رَجُلًا واحِدًا، خَيْرٌ لكَ مِن أنْ يَكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَمِ) (رواه البخاري ومسلم).
- الحرب في الإسلام عدل ورحمة وسماحة: قال الله -تعالى-: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُم ْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (البقرة: 190). كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول لقواده: (اغْزُوا باسْمِ اللهِ في سَبيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَن كَفَرَ باللَّهِ، اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا..) (رواه مسلم). (أمثلة معاملة المسلمين للأسرى: صلاح الدين الأيوبي يفتح بيت المقدس، فيحسن في مائة ألف أسير ويترك أكثر، ويمن بالمال على الثكالى - محمد الفاتح يحسن إلى أهل القسطنطينية بعد فتحها، وينتخب لهم بط-ريقًا يحكم في شئونهم).
- أعداء الإسلام والحرب القذرة: قال -تعالى-: (كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ) (التوبة: 8). (أمثلة: الصليبيون يقتلون مائة ألف مسلم في معرة النعمان في الشام بعد تأمينهم بالعهد، ومثلهم في المسجد الأقصى بعد ما أعطوا العهد - الجنود الروس يلقون بملابس النساء الأفغانيات من الطائرات على رؤوس المسلمين - الحرب الصليبية القذرة في البوسنة - اليهود يدفنون آلاف الأسرى المصريين أحياءً في صحراء سيناء - اليهود يرتكبون المجازر المتتالية ضد المسلمين في فلسطين، ولبنان، وغير ذلك).
(2) وجوب الثبات عند لقاء الأعداء:
- ومما سبق يتبين أن الحرب والقتال في الإسلام إنما هو وسيلة من وسائل نشر الدين والعدل والدفاع عن أعراض المسلمين، ولهذا وجب على المسلمين عندئذ الصبر والثبات وعدم التولي، وإظهار الشجاعة والإقدام في ميادين الحرب والقتال، فالثبات برهان الصدق مع الله -تبارك وتعالى-: قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ . وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (الأنفال: 15، 16).
- والفرار والتولي جبن وخور، وإيذاء للمسلمين وخيانة لهم، فإنه يحدث في الصفوف الفرقة، ويفت في العزائم ويضعف الهمم، ويشجع العدو على الإغارة على من ثبت من المسلمين: قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال: 45، 46).
- لقد أثنى الله على هؤلاء الذين كانوا لا يهابون العدو في أشرس مواطن القتال طلبًا للنصر والشهادة وإرضاء لله عز وجل: قال -تعالى-: (مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا . لِّيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ) (الأحزاب: 23، 24)، وقال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة: 111).
- مثال على الثبات في أشد الظروف: عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "غَابَ عَمِّي أَنَسُ بنُ النَّضْرِ عن قِتَالِ بَدْرٍ، فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، غِبْتُ عن أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلْتَ المُشْرِكِينَ، لَئِنِ اللَّهُ أَشْهَدَنِي قِتَالَ المُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ ما أَصْنَعُ، فَلَمَّا كانَ يَوْمُ أُحُدٍ وانْكَشَفَ المُسْلِمُونَ، قالَ: اللَّهُمَّ إنِّي أَعْتَذِرُ إلَيْكَ ممَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ -يَعْنِي أَصْحَابَهُ- وأَبْرَأُ إلَيْكَ ممَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ -يَعْنِي المُشْرِكِينَ-، ثُمَّ تَقَدَّمَ، فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ، فَقالَ: يا سَعْدُ بنَ مُعَاذٍ، الجَنَّةَ ورَبِّ النَّضْرِ، إنِّي أَجِدُ رِيحَهَا مِن دُونِ أُحُدٍ، قالَ سَعْدٌ: فَما اسْتَطَعْتُ يا رَسولَ اللَّهِ ما صَنَعَ، قالَ أَنَسٌ: فَوَجَدْنَا به بِضْعًا وثَمَانِينَ ضَرْبَةً بالسَّيْفِ، أَوْ طَعْنَةً برُمْحٍ، أَوْ رَمْيَةً بسَهْمٍ، ووَجَدْنَاهُ قدْ قُتِلَ وقدْ مَثَّلَ به المُشْرِكُونَ، فَما عَرَفَهُ أَحَدٌ إلَّا أُخْتُهُ ببَنَانِهِ، قالَ أَنَسٌ: كُنَّا نُرَى -أَوْ نَظُنُّ- أنَّ هذِه الآيَةَ نَزَلَتْ فيه وفي أَشْبَاهِهِ: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) (الأحزاب: 23)" (متفق عليه).
(3) متى يجوز التولي؟
أ*- إذا زاد العدو على الضعف فيجوز الثبات، ويباح الفرار: قوله -تعالى-: (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال: 66).
ب*- يجوز التولي إذا كان خدعة أو مناورة، أو لاتخاذ موقع جديد، أو غير ذلك من أجل مصلحة قتالية أو غاية حربية تقتضيها ظروف المعركة: قال -تعالى-: (وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (الأنفال: 16).
- مثال على التولي المشروع (انسحاب خالد بن الوليد بالمسلمين يوم مؤتة): عند وصول جيش المسلمين إلى مؤتة، وجد المسلمون أنفسهم أمام جيش من مائتي ألف مقاتل -نصفهم من الروم والنصف الآخر من الغساسنة-؛ فوجئ المسلمون بالموقف وأقاموا لليلتين في (معان) يتشاورون أمرهم. أشار البعض بأن يرسلوا للرسول ليشرحوا له الموقف، وينتظروا إما المدد أو الأوامر الجديدة.
عارض عبد الله بن رواحة ذلك وأقنع المسلمين بالقتال، وبدأت المعركة وواجه المسلمون موقفًا عصيبًا، حيث قتل القادة الثلاثة على التوالي، عندئذٍ اختار المسلمون خالدًا ليقودهم في المعركة، وصمد الجيش بقية اليوم، وفي الليل نقل خالد ميمنة جيشه إلى الميسرة، والميسرة إلى الميمنة، وجعل مقدمته موضع الساقة، والساقة موضع المقدمة، ثم أمر طائفة بأن تثير الغبار ويكثرون الجلبة خلف الجيش حتى الصباح.
وفي الصباح فوجئ جيش الروم والغساسنة بتغيّر الوجوه والأعلام عن تلك التي واجهوها بالأمس؛ إضافة إلى الجلبة، فظنوا أن مددًا قد جاء للمسلمين؛ عندئذٍ أمر خالد بالانسحاب وخشي الروم أن يلاحقوهم، خوفًا من أن يكون الانسحاب مكيدة، وبذلك نجح خالد في أن يحفظ الجيش من إبادة شاملة.
(4) أمور من الآية تعين على الثبات عند لقاء الأعداء:
قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ . وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (الأنفال: 15، 16).
أ*- الإكثار من ذكر الله؛ فإن الذكر يعينهم على القتال ويدفعهم إلى طلب الشهادة في سبيل الله، ويزجرهم عن الفرار: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الأنفال: 45).
ب*- طاعة الله -عز وجل-، واجتناب المعاصي والذنوب فهي من أعظم أسباب الهزيمة: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) (الأنفال: 1)، وكتب عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-: "أما بعد: فإني آمرك، ومن معك من الأجناد، بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدّة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب، وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراسًا من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينتصر المسلمون بمعصية عدوهم لله؛ ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة؛ لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدّتنا كعدّتهم، فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وإلا لم ننصر عليهم بفضلنا، ولم نغلبهم بقوتنا" (بدائع السلك في طبائع الملك للأصبحي الأندلسي).
ت*- الاتحاد وعدم التنازع؛ فإن الاتحاد قوة والتفرق ضعف وخذلان: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) (الأنفال: 46).
ث*- الصبر في مواطن القتال.. فإنه يعين على الثبات والاستمرار في المعارك حتى نهايتها من غير تبرم أو جزع: (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال: 46).
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــ
(1) قال القرطبي -رحمه الله-: "فإذا لقيت فئةٌ من المؤمنين فئةً هي ضعف المؤمنين من المشركين، فالفرض ألا يفروا أمامهم؛ فمن فر من اثنين فهو فار من الزحف، ومن فر من ثلاثة فليس بفار من الزحف، ولا يتوجه إليه الوعيد، والصبر أحسن. وقد وقف جيش مؤتة وهم ثلاثة آلاف في مقابلة مائتي ألف.. وقد وقع في تاريخ الأندلس أن طارقًا مولى موسى بن نصير سار في ألف وسبعمائة رجل إلى الأندلس، فالتقى وملك الأندلس لزريق، وكان في سبعين ألف عنان فزحف إليه طارق وصبر له، فهزم الله الطاغية لزريق وكان الفتح" (تفسير القرطبي).
إن المسلمين لم ينتصروا في غزواتهم ولا في حروبهم بكثرة عدد ولا عدة، ولكن الله -تعالى- نصرهم بإيمانهم وثباتهم مع قلة عددهم وعتادهم؛ قال -تعالى- (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ).
(2) وقال القرطبي: "فالمنحرف من جانب إلى جانب لمكايد الحرب غير منهزم، وكذلك المتحيز إذا نوى التحيز إلى فئة من المسلمين ليستعين بهم فيرجع إلى القتال غير منهزم أيضًا، أما المغامرة وهي اقتحام الواحد للعشرة أو أكثر، فإن كان لكسر شوكة المشركين وإضعاف نفوسهم فقد جوزه البعض" (تفسير القرطبي).
(3) ملخص خطة خالد بن الوليد العسكرية في هذه الغزوة بالنقاط الآتية:
أ*- تغيير موقع الجند: قام خالد بن الوليد -رضي الله عنه- بتغيير مواقع الجند في أركان الجيش، فجعل الجند الذين يقاتلون في الميمنة في الميسرة، والذين يقاتلون في الميسرة في الميمنة، والذين في المؤخرة في المقدمة والذين في المقدمة في المؤخرة؛ وذلك حتى تتغير على الأعداء الوجوه فيظنون أن مددًا قد وصل للمسلمين.
ب*- إحداث الضوضاء: أمر الجند في الليل حيث تحاجز الجيشين بإحداث أكبر ضوضاء وجلبة ممكنة بقرع الطبول، والطرق على الأواني وغير ذلك؛ حتى يظن الأعداء أن هذه الجلبة مصدرها مدد وصل في الليل، وهي أيضا شكلٌ من أشكال الحرب النفسية التي استخدمها خالد -رضي الله عنه- ضد أعدائه.
ت*- إثارة الغبار وإيهام العدو: أمر مجموعة من الفرسان وعددهم بحدود الخمسين فارسًا أن يلتفوا من خلف جبل وراء المسلمين مرارًا، ثم يعودون إلى الجيش من خلفه محدثين أكبر قدر من إثارة الغبار موهمين الأعداء باستمرار تدفق المدد الذي بدأ في الليل بحسب ظنهم.
ث*- الانسحاب شيئًا فشيئًا، وحفظ أرواح المسلمين؛ في اليوم التالي استمر بإحداث الضوضاء والجلبة ليلًا، ثم سحب الجيش إلى الوراء وقام بتفريقهم مما يوهم العدو أن عددهم قد زاد، وأخذ ينسحب بهم شيئا فشيئا، فأوقع ذلك في نفوس الروم الشك والريبة والخوف من أن يتم سحبهم إلى فخ أو إلى الصحراء التي يعرفونها العرب ويحسنون فيها القتال؛ فلم يتجرأوا على ملاحقة جيش المسلمين، فاستمر خالد -رضي الله عنه- بالانسحاب حتى وصل المدينة. ونجحت خطة خالد بن الوليد -رضي الله عنه- في الانسحاب التكتيكي ليُجنِبَ المسلمين هلاكًا محققًا، فقد كان انسحابًا ناجحًا ضمن سلامة المسلمين. ولما قدم المسلمون بقيادة خالد بن الوليد -رضي الله عنه- المدينة وصفهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنهم الكُرَّار، ولم يعدَّهم من الفُرَّار كما وصفهم عامة الناس.
ابو وليد البحيرى
2024-07-08, 10:08 AM
الكبائر (38)
اتخاذ الأصنام والتماثيل
(موعظة الأسبوع)
كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
المقدمة:
- الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة التي ضمن الله لمن اجتنبها في الدنيا الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
- الإشارة إلى خطورة انتشار نصب الأصنام والتماثيل في هذا الزمان على نطاق الشوارع والميادين والبيوت، والقاعات والملاهي والجامعات، وعموم أماكن التجمعات: عن أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى تَضْطَرِبَ ألَياتُ نِساءِ دَوْسٍ علَى ذِي الخَلَصَةِ)، وَذُو الخَلَصَةِ: طَاغِيَةُ دَوْسٍ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَ فِي الجَاهِلِيَّةِ. (متفق عليه). قال العلماء: في هذا الحديث إشارة إلى ما سيحدث من الردة والرجوع إلى عبادة الأصنام في آخر الزمان.
- اتخاذ الأصنام والتماثيل كبيرة من أكبر الكبائر؛ لما لها من أثر سيئ على عقيدة التوحيد، وقد جاء فيها الوعيد الشديد والعذاب الأكيد: عن عبد الله بن مسعود قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إنَّ أشدَّ النَّاسِ عذابًا عندَ اللَّهِ المصَوِّرونَ) (متفق عليه)، وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إنَّ الَّذينَ يصنَعونَ هذهِ الصُّوَرَ يُعذَّبونَ يومَ القيامةِ فيُقالُ لَهُم: أحيوا ما خَلَقتُمْ) (متفق عليه).
(1) معنى الصورة في اللغة وكلام العلماء:
- قال في لسان العرب: "والتمثال: الصورة، والجمع التماثيل، وظلُّ كلِّ شيء تمثالُه، والتمثال: اسم للشيء المصنوع مشبهًا بخلق من خلق الله، وأصله: من مثَّلت الشيء بالشيء إذا قدَّرته على قدره، ويكون تمثيل الشيء بالشيء تشبيهًا به" (لسان العرب لابن منظور بتصرف يسير).
- وأما في كلام العلماء فإنهم يتناولون في بحثهم لمعنى الصور وما يندرج تحتها ثلاثة أنواع مختلفة:
الأول: الصور المجسمة التي لها ظلٌ (وهو محل اتفاق على التحريم)(1).
الثاني: الرسم باليَد (محل خلاف).
الثالث: التصوير الفوتوغرافي المعاصر (محل خلاف).
- والنوع الأول -وهي الصور المجسمة أو التي لها ظل كما يطلق عليها السلف- هو غرضنا من الحديث؛ لبيان موقف الإسلام منها.
(2) من الأدلة على تحريم التماثيل والأصنام:
- عن أبي جحيفة -رضي الله عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ولَعَنَ آكِلَ الرِّبا ومُوكِلَهُ، والواشِمَةَ والمُسْتَوْشِمَ ةَ والمُصَوِّرَ) (رواه البخاري)، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (لَا تَدْخُلُ المَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيْهِ تَمَاثِيلُ أَوْ تَصَاوِيرُ) (رواه مسلم)، وعن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- قال: سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (كلُّ مُصوِّرٍ في النَّارِ، يُجْعَلُ له بكلِّ صورةٍ صوَّرها نفسٌ فتُعذِّبُه في جهنَّمَ) (متفق عليه)، وعن أبي الهيَّاج الأسديِّ قال: قال لي عليُّ بن أبي طالبٍ -رضي الله عنه-: "أَلَا أَبْعَثُكَ علَى ما بَعَثَنِي عليه رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-؛ أَنْ لا تَدَعَ تِمْثَالًا إلَّا طَمَسْتَهُ، وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إلَّا سَوَّيْتَهُ" (رواه مسلم)، وفي لفظٍ له: (ولا صورةً إلا طمستَها).
وعن عائشة -رضي الله عنها-: أنَّها اشْتَرَتْ نُمْرُقَةً فيها تَصاوِيرُ، فَقامَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بالبابِ فَلَمْ يَدْخُلْ، فَقُلتُ: أتُوبُ إلى اللَّهِ ممَّا أذْنَبْتُ، قالَ: (ما هذِه النُّمْرُقَةُ؟) قُلتُ: لِتَجْلِسَ عليها وتَوَسَّدَها، قالَ: (إنَّ أصْحابَ هذِه الصُّوَرِ يُعَذَّبُونَ يَومَ القِيامَةِ، يُقالُ لهمْ: أحْيُوا ما خَلَقْتُمْ، وإنَّ المَلائِكَةَ لا تَدْخُلُ بَيْتًا فيه الصُّورَةُ) (رواه البخاري)، وعَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إِنِّي رَجُلٌ أُصَوِّرُ هَذِهِ الصُّوَرَ فَأَفْتِنِي فِيهَا، فَقَالَ لَهُ: ادْنُ مِنِّي، فَدَنَا مِنْهُ ثُمَّ قَالَ: ادْنُ مِنِّي، فَدَنَا حَتَّى وَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ، قَالَ: أُنَبِّئُكَ بِمَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: (كُلُّ مُصَوِّرٍ فِي النَّارِ، يَجْعَلُ لَهُ بِكُلِّ صُورَةٍ صَوَّرَهَا نَفْسًا فَتُعَذِّبُهُ فِي جَهَنَّمَ)، وَقَالَ -أي: ابن عباس-: "إِنْ كُنْتَ لاَ بُدَّ فَاعِلًا فَاصْنَعِ الشَّجَرَ وَمَا لا نَفْسَ لَهُ" (متفق عليه).
(3) الحكمة من تحريم التماثيل:
تدل النصوص على عدة حِكَمٍ يتعلق بها تحريم التماثيل، أهمها أمران:
الأول: مضاهاة خلق الله: وهذا مذكور صراحة في الأحاديث؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: (قَالَ اللَّهُ -عزَّ وجلَّ-: ومَن أظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي، فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً أوْ لِيَخْلُقُوا حَبَّةً أوْ شَعِيرَةً) (متفق عليه).
- والثاني: سد ذريعة الشرك: قال ابن عباس -رضي الله عنهما- في أسماء معبودات قوم نوح: "أسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِن قَوْمِ نُوحٍ، فَلَمَّا هَلَكُوا أوْحَى الشَّيْطَانُ إلى قَوْمِهِمْ: أنِ انْصِبُوا إلى مَجَالِسِهِمُ الَّتي كَانُوا يَجْلِسُونَ أنْصَابًا، وسَمُّوهَا بأَسْمَائِهِمْ، فَفَعَلُوا، فَلَمْ تُعْبَدْ، حتَّى إذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وتَنَسَّخَ العِلْمُ عُبِدَتْ" (رواه البخاري).
(4) شبهات يحتجُّ بها من يجوِّز نصب التماثيل:
- الشبهة الأولى: اتِّخاذ سليمان -عليه السلام- للتماثيل لقوله -تعالى-: (يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) (سبأ: 13).
والجواب من وجوه:
أولًا: أن هذا باطل؛ لمخالفته الإجماع.
ثانيًا: "أنه لو كانت التماثيل لذوات الأرواح فإنها لا تدل على إباحتها؛ فإن شرع من قبلنا ليس شرعًا لنا إذا ورد شرعنا بخلافه، وهذا محل اتفاق بين العلماء" (أضواء البيان).
ثالثًا: أنه يحتمل أن يكون تماثيل للجمادات وغير ذوات الأرواح، وهذا جائز في شريعتنا أيضًا، فلا يكون إشكال، وهذا أقرب؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذمَّ من قبلنا لاتِّخاذهم الصور، كما جاء في قوله لأم سلمة: (أُولَئِكِ إذَا مَاتَ منهمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا علَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، ثُمَّ صَوَّرُوا فيه تِلكَ الصُّورَةَ أُولَئِكِ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ) (رواه البخاري)، فدلَّ ذلك على أن اتخاذ الصور محدَث أحدثه عُبّاد الأوثان. (فتح الباري).
- الشبهة الثانية: عدم كسر الصحابة للأوثان في البلاد المفتوحة:
والجواب من وجوه:
أولًا: أنه لكي يستدلَّ بمثل هذا لا بد من إثبات أنَ الصحابة رأوا هذه التماثيل، وقدروا على إزالتها ولم يفعلوا، وأنى يمكن إثباتُ ذلك؟! فاحتمال أنهم لم يروها وارد جدًّا، فلم يثبت رؤيتهم لشيء من ذلك في مصر أو الشام أو العراق.
ثانيًا: أنه قد ذكر بعض المؤرخين أن هذه التماثيل كانت مطمورة في التراب؛ خاصة أنه لم يكن يهتم بها الناس أصلًا لزمن قريب جدًّا، وكانوا يهملونها غاية الإهمال، وربما جعلوها مكَبًّا لنفاياتهم ونحو ذلك؛ حتى عظَّمها الغرب في نفوسهم من أجل تعزيز الانتماء للقوميات المنافية للإسلام.
ثالثًا: لو فرضنا أنهم رأوها، يبقى احتمال عدم قدرتهم على إزالتها؛ فإن تكسيرها ليس بالسهل، وقد ذكر ابن خلدون أن المأمون حاول هدم بعضها فلم يقدر. (مقدمة ابن خلدون). فمثل هذه الوقائع لا تقاوم النصوص والإجماعات القطعية التي سبق بيانها.
- الشبهة الثالثة: إن تحريم التصوير كان في بداية الإسلام بسبب تعلق القلوب بعبادة الأصنام، وهذه المفسدة قد زالت من قلوب الناس، وصارت هناك مصلحة في إقامتها، وهي ربط الناس برموزهم الدينية والوطنية.
والجواب من وجوه:
أولًا: ليست علَّة تحريم التصوير منحصرةً فقط في ذلك، بل هناك علل أخرى أشرنا لبعضها.
ثانيًا: مَن قال: إن الناس الآن لا يُخَاف عليهم الشرك؟! ومن يأمن على نفسه البلاء إلا جاهل بالشرك أو بنفسه أو بربِّه؟! وإذا كان الخليل -عليه السلام- يدعو ربه قائلًا: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ) (إبراهيم: 35)، فمن يأمن البلاء بعد إمام الحنفاء؟! ومن يتأمل واقع الناس اليوم في المشارق والمغارب يجد افتتانهم بالصور في معابدهم، وتعلّقهم بصور كبرائهم ومعظَّميهم ومتبوعيهم، بل كثير من المتصوفة يعلّقون صور شيوخهم ويتبرَّكون بها ويخاطبونها، كما يفعل النصارى مع صورة مريم والمسيح -المزعومتين-؛ فكيف يقال: إن الناس الآن لا يخاف عليهم من الشرك والافتتان بالصور؟!
ثالثًا: لو فرضنا أن الأكثر الآن لا يُخاف عليهم من ذلك؛ فقد تأتي أجيال بعد ذلك، مع فشو الجهل أكثر، ونسيان العلم أكثر، فتقع في المحظور كما حدث لقوم نوح.
رابعًا: إن مصلحة الدين مقدمة على سائر المصالح، فإذا قدَّرنا أن في نصب التماثيل المجسمة مصلحة، ففيها مفسدة أعظم تتعلَّق بالدين وهي ذريعة الشرك ومخالفة الشريعة، ودرء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح؛ فكيف إذا كانت هذه المصلحة يمكن تحصيلها بطرق كثيرة أخرى؟! فربط الشباب برموزهم الصالحة ليس موقوفًا على إقامة المجسمات في الميادين، وإلا فأين تماثيل الصحابة والتابعين، والأئمة الأربعة، وأئمة الفقه والحديث، وأبطال الإسلام، وغيرهم من المصلحين؛ حكامًا وعلماء ودعاة؟!(2).
خاتمة:
- كيف لمسلم بعد كل ذلك أن يتلبس بهذه الشبهات الواهية التي تعارض أعظم مقاصد البعثة النبوية؟ قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لعمرو بن عبسة حين سأله: وَبِأَيِّ شَيءٍ أَرْسَلَكَ؟ قالَ: (أَرْسَلَنِي بصِلَةِ الأرْحَامِ، وَكَسْرِ الأوْثَانِ، وَأَنْ يُوَحَّدَ اللَّهُ لا يُشْرَكُ به شَيءٌ... ) (رواه مسلم).
وقال -تعالى-: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) (الأحزاب: 21)، وقال: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الحشر: 7).
- والله -سبحانه وتعالى- لن يسأل الناس عن استجابتهم لأحد يوم القيامة غير الرسول -صلى الله عليه وسلم-: فيقول -سبحانه-: (مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) (القصص: 65).
فاللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــ ــ
(1) قال النووي -رحمه الله-: "وأجمعوا على منع ما كان له ظلٌّ ووجوب تغييره. قال القاضي: إلا ما ورد في اللعب بالبنات لصغار البنات، والرخصة في ذلك) (شرح صحيح مسلم). وقال ابن العربي المالكي -رحمه الله-: "فإنها -أي: الصور- محرمةٌ إذا كانت أجسادًا بالإجماع" (المسالك في شرح موطأ مالك). وقد نقل ابن حجر -رحمه الله- هذا الإجماع، وأقره عليه (فتح الباري). وقال خليل المالكي: "التماثيل إن كان بغير حيوان كالشجر جاز، وإن كان بحيوان مما له ظل قائم فهو حرام بإجماع" (التوضيح شرح مختصر ابن الحاجب). والنقول في ذلك كثيرة، فليس بين العلماء اختلاف في تحريم صور الحيوان المجسمة.
(2) من بحث على موقع (سلف للبحوث والدراسات - إشراف د/ محمد بن إبراهيم السعيدي بعنوان: تحريم التماثيل صيانة لجناب التوحيد - للأستاذ شريف طه).
ابو وليد البحيرى
2024-07-08, 10:09 AM
الكبائر (39)
ترك الحج
(موعظة الأسبوع)
كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
المقدمة:
- الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضَمِن الله لمَن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
- ترك الحج من أكبر الكبائر، وأعظم الجرائر، فهو فارق بين الإيمان والكفر: قال الله -تعالى-: (وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ) (آل عمران: 97). قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "من مات ولم يحج وهو قادر، فليمت إن شاء يهوديًّا أو نصرانيًّا" (قال ابن كثير: "وإسناده صحيح إلى عمر -رضي الله عنه-").
(1) مكانة الحج من الدين:
- الحج عبادة من أجل العبادات في دين الأنبياء -عليهم السلام- منذ فجر التاريخ: قال -تعالى- لأبي الأنبياء: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ . لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ) (الحج: 27، 28).
- الحج ركن من أركان الدين والإيمان في الإسلام: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ) (متفق عليه).
- كانت شرائع الإسلام تنزل شيئًا فشيئًا، ونزل الفرض بالحج في أواخر الشرائع، فصار مسك الختام، وكمال الدين وتمام النعمة والإيمان؛ ولهذا لما حج النبي -صلى الله عليه وسلم- أنزل الله قول -تعالى-: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا) (المائدة: 3).
- ولا عذر في ترك الحج أو تأخيره لمن ملك الاستطاعة ولو كان مريضًا: ففي الصحيحين عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قال: فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ تَسْتَفْتِيهِ.. قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِى شَيْخًا كَبِيرًا لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: (نَعَمْ)، وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاع" (متفق عليه).
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ خَثْعَمَ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبِى أَدْرَكَ الإِسْلاَمَ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لاَ يَسْتَطِيعُ رُكُوبَ الرَّحْلِ وَالْحَجُّ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: (أَنْتَ أَكْبَرُ وَلَدِهِ)، قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: (أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دِينٌ فَقَضَيْتَهُ أَكَانَ ذَلِكَ يُجْزِئُ)، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (فَاحْجُجْ عَنْهُ) (رواه البيهقي، وصححه الألباني).
- وجاءت نصوص الوعيد فيمن ترك الحج مع استطاعته، أو مات ولم يحج: قال -تعالى-: (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (آل عمران: 97). قال ابن عباس ومجاهد -رضي الله عنهما- في هذه الآية: "مَن لم يرَ حجه بِرًّا، ولا تركه إثمًا، كفر" (سنن البيهقي)، وقال السدى: "من وجد ما يحج به ثم لا يحج، فهو كافر" (تفسير ابن جرير)، وقال عمر -رضي الله عنه-: "لقد هممت أن أبعث رجالًا إلى هذه الأمصار فينظروا كل من كان له جدة -يعني سعة من المال- ولم يحج ليضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين" (صححه ابن حجر في تلخيص الحبير)، وقال سعيد بن جبير: "لو كان لي جار موسر ثم مات ولم يحج لم أصلِّ عليه" (مصنف ابن أبي شيبه)، وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله-: "ومن استطاع السبيل فلم يحج فإسلامه وإيمانه ودينه في اختلال، وهو أعظم جرمًا من الزاني والسارق وشارب الخمر" (خطب الشيخ السعدي في مجموع مؤلفاته).
(2) فضل رحلة الحج والعمرة:
- إنها الرحلة إلى الله تلبية لأمره، مع هجر الأوطان وبذل الأموال وتحمل المشاق، طلبا للمغفرة: قال -تعالى-: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ . لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ) (الحج: 27، 28)، وفى الحديث القدسي: (عِبادِي جَاءُونِي شُعْثًا غُبْرًا مِنْ كُلِّ فَجَ عَمِيقٍ *يَرْجُونَ *رَحْمَتِي *ويَخَافُونَ *عَذَابِي) (رواه الطبراني، وحسنه الألباني).
- إنها رحلة التكفير عن الذنوب، والبركة في الأموال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَن حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ، ولَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَومِ ولَدَتْهُ أُمُّهُ) (متفق عليه)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (*الْعُمْرَةُ *إِلَى *الْعُمْرَةِ *كَفَّارَةٌ *لِمَا *بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الجَنَّةُ) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (تَابِعُوا *بَيْنَ *الحَجِّ *وَالعُمْرَةِ، *فَإِنَّهُمَا *يَنْفِيَانِ *الفَقْرَ *وَالذُّنُوبَ *كَمَا *يَنْفِي *الكِيرُ *خَبَثَ *الحَدِيدِ) (رواه الترمذي والنسائي، وقال الألباني: "حسن صحيح").
- إنها رحلة النزول في ضيافة أكرم الأكرمين -سبحانه وتعالى-: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَفْدُ اللهِ ثَلَاثَةٌ: *الْغَازِي، *وَالْحَاجُّ، وَالْمُعْتَمِرُ ) (رواه النسائي، وصححه الألباني)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الحُجَّاجُ *والعُمَّارُ *وَفْدُ *الله، دَعاهُمْ فأجابُوهُ وَسَأَلُوهُ فَأَعْطاهُمْ( (رواه البزار، وحسنه الألباني).
(3) أعذار واهية عند التاركين:
- الأعذار تختلف وتتنوع بين التاركين، ولكن جملتها وأشهرها أمور: (البخل بالمال - الخوف من المشقة - صغر السن).
- كيف يبخل بالمال على نفسِه في أداء هذه الفريضة، وهو ينفق الكثيرَ من ماله فيما تهواه نفسُه؟! وكيف يوفِّر نفسَه عن التعب في الحجِّ وهو يُرهِق نفسَه في التعب في أمور دنياه؟! وكيف يتثاقل فريضةَ الحج وهو لا يَجِب في العمر سوى مرَّة واحدة؟! وكيف يتراخَى ويؤخِّر أداءه وهو لا يَدري لعلَّه لا يستطيع الوصول إليه بعد عامه؟!
- سارع وعجِّل، فالدنيا لا تدوم على حال: أن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أَرَادَ الحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ ، فَإِنَّهُ قَدْ يَمْرَضُ المَرِيضُ وَتَضِلُّ الضَّالَّةُ وَتَعْرُضُ الحَاجَة) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني)، وعند الإمام البيهقي بلفظ: (عجِّلوا الْخُروجَ إلى مَكَّةَ، فإنَّ أحدَكُم لا يدري ما يعرِضُ لهُ من مرضٍ أو حاجةٍ) (رواه البيهقي، وحسنه الألباني)، وقال -تعالى-: (وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ) (المنافقون: 10).
خاتمة: أين أنت من هؤلاء؟
- مشتاقة إلى البيت تموت عند رؤيته لأول مرة: "قال عَبْدُ الْمَجِيدِ بْنُ أَبِي رَوَّادٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: خَرَجْنَا مِنْ خُرَاسَانَ وَمَعَنَا امْرَأَةٌ، فَلَمَّا دَخَلَتِ الْحَرَمَ جَعَلَتْ تَقُولُ: أَيْنَ بَيْتُ رَبِّي؟ أَيْنَ بَيْتُ رَبِّي؟ فَقِيلَ لَهَا: الْآنَ تَأْتِينَ بَيْتَ رَبِّكِ، فَلَمَّا دَخَلَتِ الْمَسْجِدَ قِيلَ لَهَا: هَذَا بَيْتُ رَبِّكِ، قَالَ: فَاسْتَنَدَتْ إِلَى الْبَيْتِ فَوَضَعَتْ خَدَّهَا عَلَى الْبَيْتِ، فَمَا زَالَتْ تَبْكِي حَتَّى مَاتَتْ!" (أخبار مكة للفاكهي).
- وأخرى خائفة طامعة في مغفرة ثقيل الذنوب، فتأوي إلى بيت ربها: "قَالَ وَهَيْبُ بْنُ الْوَرْدِ: بَيْنَمَا امْرَأَةٌ فِي الطَّوَافِ ذَاتَ يَوْمٍ وَهَي تَقُولُ: يَا رَبِّ ذَهَبَتِ اللَّذَّاتُ وَبَقِيَتِ التَّبِعَاتُ، يَا رَبِّ سُبْحَانَكَ وَعِزَّتِكَ إِنَّكَ لَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ؛ يَا رَبِّ مَا لَكَ عُقُوبَةٌ إِلَّا النَّارُ؟ أما في عفوك ما يَسَعُني؟، فَقَالَتْ صَاحِبَةٌ لَهَا كَانَتْ مَعَهَا: يَا أُخَيَّةُ دَخَلْتِ بَيْتَ رَبِّكِ الْيَوْمَ، قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا أَرَى هَاتَيْنِ الْقَدَمَيْنِ وَأَشَارَتْ إِلَى قَدَمَيْهَا أَهْلًا لِلطَّوَافِ حَوْلَ بَيْتِ رَبِّي فَكَيْفَ أَرَاهُمَا أَهْلًا أَطَأُ بِهِمَا بَيْتَ رَبِّي؟ وَقَدْ عَلِمْتُ حَيْثُ مَشَتَا وَإِلَى أَيْنَ مَشَتَا؟" (محاسبة النفس لابن أبي الدنيا).
- فقير مشتاق إلى البيت: "يحكي بعض إخواننا العاملين في مجال المقاولات: كان معنا رجل من العاملين كلما جلسنا ساعة الغداء أثناء العمل نتحدث، فإذا جاء الحديث عن الحج والعمرة في أي وقت، فإذا بالرجل يبكي شوقًا إلى زيارة بيت الله على أي درجة (حجًّا أو عمرة)، ولكن الفقر كان حائلًا بينه وبين ذلك... حتى كان يوم ونحن أثناء الغداء، وقد أثار بعض الجلوس الحديث عن فلان الذي ذهب إلى العمرة، فإذا بصاحبنا المشتاق ينفجر بكاءً وتأثرًا! وفى نفس الوقت مرَّ بنا المقاول صاحب العمل، فلما رأى الرجل يبكي، سأل عن سبب ذلك؟ فقلنا له قصته، وشوقه وتأثره كلما ذكر البيت والزيارة! فتأثر الرجل المقاول لذلك، ثم طلب منا أن نحضر أوراق الرجل، وقام باستخراج جواز سفر له، وحجز له رحلة عمرة في شركة سياحة! فسبحان الذي قال: (وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ بشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ ذِراعًا، وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِراعًا تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ باعًا، وإنْ أتانِي يَمْشِي أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً) (متفق عليه).
خاتمة:
- فيا مَن شغلته الدنيا عن فريضة الحج، وأكلتْ سوف من عمره عشر سنوات أو عشرين أو ثلاثين أو خمسين...! كيف تمر في تلاوتك للقرآن على قول الله -تعالى-: (وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ) (آل عمران: 97).
- كيف تهنأ بنومك ولما تقضِ فرضك ولا عذر لك؟! فبمَ تجيب الله -تعالى- حين أخرت فرضه، وقدمت عليه غيره؟! قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ ? وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ . وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ . وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المنافقون: 9-11).
فاللهم اهدنا فيمن هديت، وتولنا فيمن توليت، وارزقنا زيارة بيتك حاجين أو معتمرين.
ابو وليد البحيرى
2024-07-18, 07:46 PM
الكبائر (40)
النياحة على الميت ولطم الخدود وشق الجيوب عند المصائب
(موعظة الأسبوع)
كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
المقدمة:
- الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة التي ضمن الله لمن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
- النياحة على الميت ولطم الخدود وشق الجيوب عند المصائب من الكبائر؛ لما لها من أثر سيئ على عقيدة المسلم: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ليسَ مِنَّا مَن لَطَمَ الخُدُودَ، وشَقَّ الجُيُوبَ، ودَعَا بدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ) (متفق عليه).
- المقصود بالنياحة: النِّيَاحَة أمر زائدٌ على البكاء، فيُرَفع الصوت بتعديد شمائل الميت، ومَحاسن أفعاله، وربما صاحبه كلمات تدل على التسخط والجزع.
(1) تحريم النياحة على الميت ولطم الخدود وشق الجيوب عند المصائب:
- أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- محذرا بأن النياحة ونحوها من عادات الجاهلية: قال: (أَرْبَعٌ في أُمَّتي مِن أمْرِ الجاهِلِيَّةِ لا يَتْرُكُونَهُنّ َ: الفَخْرُ في الأحْسابِ، والطَّعْنُ في الأنْسابِ، والاسْتِسْقاءُ بالنُّجُومِ، والنِّياحَةُ) (رواه مسلم).
- ولأجل شيوع ذلك في النساء، كان يأخذ عليهن البيعة بذلك: عن أم عطية -رضي الله عنها- قالت: "أَخَذَ عَلَيْنَا النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- عِنْدَ البَيْعَةِ أَنْ لا نَنُوحَ..." (متفق عليه)، وفي الصحيحين: "وَجِعَ أَبُو مُوسَى وجَعًا شَدِيدًا، فَغُشِيَ عليه ورَأْسُهُ في حَجْرِ امْرَأَةٍ مِن أَهْلِهِ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهَا شيئًا، فَلَمَّا أَفَاقَ، قالَ: أَنَا بَرِيءٌ مِمَّنْ بَرِئَ منه رَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، إنَّ رَسولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: بَرِئَ مِنَ الصَّالِقَةِ والحَالِقَةِ والشَّاقَّةِ" (متفق عليه)(1).
- وقد جاء الوعيد الشديد في حق النَّائِحة التي ماتت ولم تتب من هذا الأمر: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (النَّائِحَةُ إذا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِها، تُقامُ يَومَ القِيامَةِ وعليها سِرْبالٌ مِن قَطِرانٍ، ودِرْعٌ مِن جَرَبٍ) (متفق عليه)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وإِنَّ النائحةَ إذا لم تَتُبْ قبلَ أنْ تموتَ، فإِنَّها تُبْعَثُ يومَ القيامَةِ عليْها سرابيلُ مِنْ قطِرانٍ، ثُمَّ يُغْلَى عليها بدروعٍ مِنْ لهبِ النارِ) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).
(2) الدنيا دار محنة وبلاء:
- على المؤمن أن يعلم أن المصائب والمحن في هذه الحياة الدنيا سنة كونية كالهواء والماء... هكذا الدنيا: قال -تعالى-: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) (البلد: 4)، وقال -تعالى-: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) (الكهف: 7)، وقال: (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) (الأنبياء: 35)، وقال: (فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ) (المائدة: 106).
- موت الأحبة من أعظم ما يبتلى به الإنسان في الدنيا، والأحبة يتنوعون بين الآباء والأمهات، والأبناء والأشقاء، والأزواج والأصحاب، وغيرهم: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الوالِدُ أوسطُ أبوابِ الجنَّةِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم- عن الأم: (فَالزَمْهَا فإنَّ الجنَّةَ تحتَ رِجلَيها) (رواه النسائي، وقال الألباني: "حسن صحيح")، وقال -صلى الله عليه وسلم- عن الولد: (يقولُ اللَّهُ -تَعَالَى-: مَا لِعَبْدِي المُؤْمِنِ عِندِي جَزاءٌ، إذا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِن أهْلِ الدُّنْيا ثُمَّ احْتَسَبَهُ، إلَّا الجَنَّةُ) (رواه البخاري)، وقال -صلى الله عليه وسلم- عن الزوجة الصالحة: (الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا المَرْأَةُ الصَّالِحَةُ) (رواه مسلم).
وقال عمر بن الخطاب -رَضِيَ اللَّهُ عنْه- عن شقيقه الصالح الذي استشهد يوم اليمامة: "ما هبّت ريحُ الصَّبا، إلا وجدتُ منها ريح زيد" (سير أعلام النبلاء للذهبي)، وقال -صلى الله عليه وسلم- عن الصديق الصالح -في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله-: (ورَجُلَانِ تَحَابَّا في اللَّهِ، اجْتَمعا عليه وتَفَرَّقَا عليه) (متفق عليه).
(3) ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن عند موت الأحبة:
- الإيمانُ بقَضاءِ اللهِ وقَدَرِه يَجعَلُ المؤمِنَ في رِضًا كامِلٍ على كُلِّ أَحوالِه، بخِلافِ غَيرِ المُؤمِنِ الَّذي يَكونُ في سَخَطٍ دائِمٍ عندَ وُقوعِ ضَررٍ عليه: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له) (رواه مسلم).
- من أعظم ما يصبِّر الإنسان على فقدان الأحبة، أن يستحضر جزاء الصبر والاحتساب عند الله: (وَلَنَبْلُوَنّ كُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ . الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ . أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (البقرة: 155-157)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لمن شقَّ عليه موتُ ابنه: (أيُّما كانَ أحبُّ إليكَ أن تُمتَّعَ بِهِ عمُرَكَ، أو لا تأتي غدًا إلى بابٍ من أبوابِ الجنَّةِ إلَّا وجدتَهُ قَد سبقَكَ إليهِ يفتَحُهُ لَكَ)، قالَ: يا نبيَّ اللَّهِ، بل يَسبقُني إلى بابِ الجنَّةِ فيَفتحُها لي لَهوَ أحبُّ إليَّ، قالَ: (فذاكَ لَكَ) (رواه النسائي، وصححه الألباني).
- وأن يتذكر في مصيبته مصيبة موت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويتعزى بها: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إذا أُصيبَ أحدكم بمصيبةٍ فليذكُرْ مصيبَتَهُ بي فإنَّها أعظمُ المصائبِ) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).
وقال الشاعر -أبو العتاهية-:
اِصـبــِر لِـكُــلِّ مُـصـيـبَـةٍ وَتَجَـلَّـدِ وَاِعـلَـم بِـأَنَّ المَرءَ غَيـرُ مُـخَـلَّــدِ
أَوَما تَرى أَنَّ المَـصـائِـبَ جَـمـَّـةٌ وَتَـرى الـمَنِيـَّةَ لِلعِـبـادِ بـِـمـَرصَـدِ
مَن لَم يُصِب مِمَّن تَرى بِمُصيـبَةٍ هَـذا سَبـيـلٌ لَـسـتَ فـيـهِ بِــأَوحَــدِ
وَإِذا ذَكَـرتَ مُـحَــمَّـدًا وَمَـصـابَـهُ فَــاِذكُـر مُصابَـكَ بِالـنَـبـِيِّ مُـحَـمَّـدِ
- ومن أعظم ما يصبر الإنسان على فقدان الأحبة: أن يلتزم الشرع، ويقتدي بالصالحين؛ لما جاء نعي أبي سفيان -رضي الله عنه- من الشام دعت ابنته أم حبيبة -رضي الله عنها- في اليوم الثالث بطيب، فمسحت خديها وذراعيها، وقالت: ما لي بالطيب من حاجة لولا أني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (لا يَحِلُّ لامرأةٍ تُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ أن تُحِدَّ على ميِّتٍ فَوقَ ثلاثِ ليالٍ، إلَّا على زَوجٍ أربعةَ أشهُرٍ وعشرًا) (متفق عليه).
* وقفة مع امرأة من التاريخ مرت بالحالين عند المصيبة (الجزع والنياحة - والصبر والاحتساب):
- تلك المرأة العربية التي سُمِّيت بالخنساء، واسمها: تماضر بنت عمرو، ونسبها ينتهي إلى مضر؛ مرَّت بحالتين متشابهتين، لكن تصرفها تجاه كل حالة كان مختلفًا مع سابقتها أشد الاختلاف، متنافرًا أكبر التنافر، أولاهما: في الجاهلية، وثانيهما: في الإسلام.
- أما الحالة الأولى: فقد كانت في الجاهلية، يوم سمعت نبأ مقتل أخيها صخر، فوقع الخبر على قلبها كالصاعقة في الهشيم، فلبت النار به، وتوقدت جمرات قلبها حزنًا عليه، ونطق لسانها بمرثيات له بلغت عشرات القصائد، وكان مما فعلته حزنًا على أخويها "صخر ومعاوية" ما روي عن عمر "أنه شاهدها تطوف حول البيت وهي محلوقة الرأس، تلطم خديها، وقد علقت نعل صخر في خمارها!".
- وأما الحالة الثانية: فيوم نادى المنادي: أن هبي جيوش الإسلام للدفاع عن الدين والعقيدة ونشر الإسلام، فجمعت أولادها الأربعة وحثتهم على القتال والجهاد في سبيل الله، لكن الغريب في الأمر يوم بلغها نبأ استشهادهم، فما نطق لسانها برثائهم وهم فلذات كبدها، ولا لطمت الخدود ولا شقت الجيوب، وإنما قالت برباطة جأش وعزيمة وثقة: "الحمد لله الذي شرفني باستشهادهم، وإني أسأل الله أن يجمعني معهم في مستقر رحمته!" (الاستيعاب لابن عبد البر، أسد الغابة لأبن أثير).
خاتمة: البكاء لا ينافى الصبر:
- قد بكى النبي -صلى الله عليه وسلم- على ولده وغيره: أخرَج الشيخانِ: أنه -صلى الله عليه وسلم- عاد سعدَ بن عبادة ومعه جماعة، فَبَكَى رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَلَمَّا رَأَى القَوْمُ بُكَاءَ رَسولِ -صلى الله عليه وسلم- بَكَوْا، فَقالَ: (أَلَا تَسْمَعُونَ؟ إنَّ اللَّهَ لا يُعَذِّبُ بدَمْعِ العَيْنِ، وَلَا بحُزْنِ القَلْبِ، وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بهذا، وَأَشَارَ إلى لِسَانِهِ، أَوْ يَرْحَمُ) (متفق عليه)، وأخرَجَا أيضًا: فَدُفِعَ الصَّبِيُّ إلَيْهِ ونَفْسُهُ تَقَعْقَعُ كَأنَّهَا في شَنٍّ، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، فَقالَ له سَعْدٌ: يا رَسولَ اللَّهِ، ما هذا؟ قالَ: (هذِه رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ في قُلُوبِ عِبَادِهِ، وإنَّما يَرْحَمُ اللَّهُ مِن عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ) (متفق عليه).
وروى البخاري: دَخَلْنَا عليه بَعْدَ ذلكَ وإبْرَاهِيمُ يَجُودُ بنَفْسِهِ، فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- تَذْرِفَانِ، فَقالَ له عبدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ -رَضِيَ اللَّهُ عنْه-: وأَنْتَ يا رَسولَ اللَّهِ؟ فَقالَ: (يَا ابْنَ عَوْفٍ إنَّهَا رَحْمَةٌ) *ثُمَّ *أَتْبَعَهَا *بِأُخْرَى، فَقالَ -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، والقَلْبَ يَحْزَنُ، ولَا نَقُولُ إلَّا ما يَرْضَى رَبُّنَا، وإنَّا بفِرَاقِكَ يا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ) (متفق عليه).
- وقد علمنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما نقوله حين المصيبة: قال -صلى الله عليه وسلم-: (ما مِن مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ، فيَقولُ ما أمَرَهُ اللَّهُ: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللَّهُمَّ أْجُرْنِي في مُصِيبَتِي، وأَخْلِفْ لي خَيْرًا مِنْها، إلَّا أخْلَفَ اللَّهُ له خَيْرًا مِنْها) (رواه مسلم).
جعلنا الله وإياكم من الصابرين المحتسبين.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــ
(1) الصالقة: هي التي ترفع صوتها بالنياحة عند الفجيعة بالموت، أو عند نزول المصيبة. والحالقة: هي التي تحلق رأسها عند المصيبة. والشاقة: هي التي تشق ثوبها عند المصيبة.
ابو وليد البحيرى
2024-07-18, 07:47 PM
الكبائر (41)
التشبه بالكفار
(موعظة الأسبوع)
كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
المقدمة:
- الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة التي ضمن الله لمن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
- التشبه بالكفار من الكبائر العظام، والمنكرات الجسام، وقد جاء فيه الوعيد الشديد: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني)، وقال: (لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني)، قال الطيبي -رحمه الله-: "هذا عام في الخَلق والخُلُق والشعار" (مرقاة المفاتيح)(1).
- المقصود بالتشبه: قال المناوي والعلقمي: "أَيْ: تَزَيَّى فِي ظَاهِره بِزِيِّهِمْ، وَسَارَ بِسِيرَتِهِمْ وَهَدْيهمْ فِي مَلْبَسهمْ وَبَعْض أَفْعَالهمْ".
- والتشبه بالكفار على قسمين:
- القسم الأول: التشبه المحرَّم: وهو فعل ما هو من خصائص دين الكفار مع علمه بذلك، ولم يرد في شرعنا.. فهذا محرّم، وقد يكون من الكبائر، بل إن بعضه يصير كفرًا بحسب الأدلة؛ سواء فعله الشخص موافقة للكفار، أو لشهوة، أو شبهة تخيل إليه أن فعله نافع في الدنيا والآخرة.
- القسم الثاني: التشبه الجائز: وهو فعل عمل ليس مأخوذًا عن الكفار في الأصل، لكن الكفار يفعلونه أيضًا؛ فهذا ليس فيه محذور المشابهة، لكن قد تفوت فيه منفعة المخالفة.
- وَقَدْ أَخْبَرَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ أَنَّ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ مَنْ سَيَتَشَبَّهُ بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْأَعَاجِمِ، وَيَحْذُونَ حَذْوَهُمْ: قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: (لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَن قَبْلَكُمْ شِبْرًا بشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بذِرَاعٍ، حتَّى لو سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ )، قُلْنَا: يا رَسُولَ اللَّهِ، اليَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قالَ: (فَمَنْ؟) (متفق عليه)(2).
(1) وجوه النهي عن التشبه بالكفار:
أولًا: لأن التشبه بغير المسلمين قد يفضي إلى مصيرهم في الدنيا والآخرة: قال الله -تعالى-: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ) (هود: 113)، وفي حديث أبي واقد الليثي -رضي الله عنه- قال: إنَّ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- لمَّا خرَجَ إلى حنين، مَرَّ بشجرةٍ للمشركينَ يُقالُ لها: ذاتُ أَنْواطٍ، يُعلِّقونَ عليها أسلحتَهم، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، اجعَلْ لنا ذاتَ أَنْواطٍ كما لهم ذاتُ أَنْواطٍ، فقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (سُبحانَ اللهِ! هذا كما قال قَومُ موسى: (اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ) (الأعراف: 138)، والذي نَفْسي بيدِه، لَتَرْكَبُنَّ سُنَّةَ مَن كان قَبلَكم) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
ثانيًا: التشبه بهم ترك لآثار المهتدين "الأنبياء": قال -تعالى-: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) (الأنعام: 90).
ثالثًا: التشبه الظاهري قد يفضي إلى التوافق الباطني "القلبي": قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "اعْتَبِرُوا النَّاسَ بِأَخْدانهم -أي: إخوانهم-".
وقديمًا قيل:
عَنِ الْمَرْءِ لَا تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ فـَـكُـلُّ قـَرِيـنٍ بِـالـمُـقَـارِ نِ يَـقـْـتَـدِي
رابعًا: المحافظة على الهوية الإسلامية والشخصية المتميزة: قال العلماء: ولو اتبع كل جيش من الصحابة -رضي الله عنهم- عادات أهل البلاد التي فتحوها وأزياءهم لذابت الشخصية المسلمة، لكن كان المسلمون على قلتهم يجذبون الأمم إلى اتباعهم حتى انتشر الإسلام ولغته سريعًا.
(2) المقصود بالهوية الإسلامية:
- الهوية الإسلامية هي: كل ما يميز المسلمين عن غيرهم من الأمم الأخرى، وقوام هويتهم هو (الإسلام وعقيدته وشريعته، وآدابه ولغته، وتاريخه وحضارته).
- لقد جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- بالإسلام دينًا كاملًا: قال الله -تعالى-: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) (المائدة: 3).
- وأمر الله أهل الإسلام ألا يحيدوا عن طريقته، وأن يسألوا لزوم طريقته، وإلا ضلوا: قال -تعالى-: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتقيم . صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) (الفاتحة: 6، 7).
- وأمرهم أن يتميزوا عن الأمم الأخرى بمنهجهم وهويتهم الوسطية: قال الله -تعالى-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) (البقرة: 143).
(3) محافظة النبي -صلى الله عليه وسلم- على الهوية الإسلامية:
- رفضه العروض القرشية لجعل قضية الدين خليط بين الإسلام والوثنية: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ . لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ . وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ . وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ . وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ . لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (سورة الكافرون).
- رفضه -صلى الله عليه وسلم- فصل الدين عن الحياة: (العروض القرشية بأن يتعبد ويصوم في بيته، ولا يتعرض لحياتهم بتعاليم الإسلام).
- هجرته -صلى الله عليه وسلم- لإقامة المجتمع والشخصية ذات الهوية المتميزة: قال الله -تعالى-: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) (العنكبوت: 56).
- بناؤه -صلى الله عليه وسلم- الشخصية المسلمة المتبرئة من الشرك وأهله وأحوالهم، والتحذير من مشابهتهم: قال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني)، وقال: (لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).
- إمعانه -صلى الله عليه وسلم- في مخالفة الكفار والمشركين: فقد خالفهم -صلى الله عليه وسلم- في كل شيء يفضي إلى مشابهتهم حتى قالوا: "ما يُرِيدُ هذا الرَّجُلُ أنْ يَدَعَ مِن أمْرِنَا شيئًا إلَّا خَالَفَنَا فِيهِ" (رواه مسلم).
(4) صور من إمعانه في مخالفة الكفار:
- في العبادات: عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- اسْتَشَارَ النَّاسَ لِمَا يُهِمُّهُمْ إِلَى الصَّلَاةِ، فَذَكَرُوا الْبُوقَ، فَكَرِهَهُ مِنْ أَجْلِ الْيَهُودِ، ثُمَّ ذَكَرُوا النَّاقُوسَ، *فَكَرِهَهُ *مِنْ *أَجْلِ *النَّصَارَى، فَأُرِيَ النِّدَاءَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَطَرَقَ الْأَنْصَارِيُّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَيْلًا، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِلَالًا بِهِ، فَأَذَّنَ" (رواه ابن ماجه، وقال الألباني: "ضعيف وبعضه صحيح")، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (خَالِفُوا *الْيَهُودَ *فَإِنَّهُمْ *لَا *يُصَلُّونَ *فِي *نِعَالِهِمْ، *وَلَا *خِفَافِهِمْ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
- في السلوك والمظاهر الاجتماعية: عن ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا تَشَبَّهُوا بِاليَهُودِ وَلا بِالنَّصَارَى، فَإِنَّ تَسْلِيمَ اليَهُودِ الإِشَارَةُ بِالأَصَابِعِ، وَتَسْلِيمَ النَّصَارَى الإِشَارَةُ بِالأَكُفِّ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني)، وكان -صلى الله عليه وسلم- يؤاكل ويشارب ويباشر زوجته وهى حائض، خلافًا لليهود.
- في الهيئة والصورة: قال -صلى الله عليه وسلم-: (غَيِّروا الشَّيبَ ولا تَشبَّهوا باليَهودِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وقال: (خَالِفُوا المُشْرِكِينَ؛ وَفِّرُوا اللِّحَى، وَأَحْفُوا الشَّوَارِبَ) (متفق عليه)، وقال: (البَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمُ البَيَاضَ) (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني).
(5) محافظة السلف على الهوية الإسلامية والبراءة من مظاهر التشبه بغير المسلمين:
- في الزي واللباس: عن أبي عثمان قال: "كَتَبَ إِلَيْنَا عُمَرُ وَنَحْنُ بِأَذْرَبِيجَان َ: يَا عُتْبَةُ بْنَ فَرْقَدٍ... َأَشْبِعِ الْمُسْلِمِينَ فِي رِحَالِهِمْ مِمَّا تَشْبَعُ مِنْهُ فِي رَحْلِكَ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّنَعُّمَ، وَزِيَّ أَهْلِ الشِّرْكِ" (رواه مسلم).
- في قص شعورهم: دخل ناس على أنس بن مالك ومعهم غلام له قرنان أو قصتان، فمسح برأسه وبرَّك عليه، وقال: "*احْلِقُوا *هَذَيْنِ *أَوْ *قُصُّوهُمَا، *فَإِنَّ *هَذَا *زِيُّ *الْيَهُودِ" (رواه أبو داود، وضعفه الألباني).
- في المشاركة في حفلاتهم وأعيادهم: قال عمر -رضي الله عنه-: "لا تَدْخُلُوا عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي كَنَائِسِهِمْ يَوْمَ عِيدِهِمْ فَإِنَّ السَّخْطَةَ تَنْزِلُ عَلَيْهِمْ" (رواه البيهقي بإسنادٍ صحيحٍ).
- في لغتهم وكلامهم، والمحافظة على لغة القرآن: قال عمر -رضي الله عنه-: "لا تَعَلَّمُوا رَطَانَةَ الأَعَاجِمِ" (رواه البيهقي بإسناد صحيح)(3).
خاتمة:
- يا أبناء الإسلام.. مَن أراد التشبه فدونه نماذج مشرقةً من أهل الإسلام في كلِّ المجالات، ومن أراد الاقتداء؛ فلديه تاريخ مليء بالقدوات، وشرع اللّه خير من تتبُّع الموضات، والتشعب في اختيار القدوات، وإرضاء اللّه أولى من إرضاء النّفس والخلق: قال الله -تعالى-: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) (المائدة: 3)، وقال -سبحانه-: (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) (الأحزاب: 21).
- كيف يليق بالمؤمنين الذين أعزَّهم الله بهذا الإسلام، ورفعهم به فوق الأنام، أن يقلدوا الكفار ويتشبهوا بهم؟ كيف يتشبَّه العالي بالسافل؟! كيف يتشبه الصاعد بالنازل؟!: قال -تعالى-: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ) (هود: 113)، وقال -تعالى-: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (الحشر: 19)، وقال -تعالى-: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (طـه: 131).
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واخذ أعداءك أعداء الدين.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــ
(1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الصراط المستقيم: "وقد احتج الإمام أحمد وغيره بهذا الحديث، وهذا الحديث أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم، كما في قوله: (وَمَنْ *يَتَوَلَّهُمْ *مِنْكُمْ *فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) (المائدة: 51)، وهو نظير قول عبد اللّه بن عمرو أنه قال: من بنى بأرض المشركين وصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبَّه بهم حتى يموت حشر معهم يوم القيامة، فقد يحمل هذا على التشبه المطلق فإنه يوجب الكفر، ويقتضي تحريم أبعاض ذلك، وقد يحمل على أنه منهم في القدر المشترك الذي يشابههم فيه، فإن كان كفرًا أو معصية أو شعارًا لها كان حكمه كذلك" (انتهى).
(2) الإشارة إلى بطلان تلك الدعوات التي يتبناها العالمانيون وأضرابهم ممن يتسمون بأسماء المسلمين، بأن التقدم والتطور لن يكون إلا بأخذ كل ما عليه غير المسلمين، في الدين والسلوك، والتاريخ والأدب، وغيره. وهناك بعض الصور التي يكثر التشبه بهم فيها في أوساط المسلمين:
منها: التشبه بهم في أعيادهم ومناسباتهم الدينية والدنيوية، وهي ممّا تساهل فيها كثير من أبناء الإسلام، فترى كثيرًا منهم يسارعون في الاحتفال معهم، وتهنئتهم، وحضور محافلهم، بل انتقلت هذه المناسبات والأعياد الوطنية والقومية إلى بلدان المسلمين، وأصبحت تضاهي الأعياد الشرعية وتفوقها فرحًا وإعدادًا.
ومنها: التشبه بهم في المظهر والزينة، وهذا ما عمَّت بلواه حتى فاحت منه رائحة أزكمت أنوف الغيورين على دينهم وأمتهم، فوصل نتنها إلى بيوت المسلمين، واستهدف به شباب وشابات الإسلام، وإذا أردت معرفة هذه البلوى فانظر في أسواقنا ومجتمعاتنا؛ سترى شبابًا عليهم ملابس ضيقة، أو شفَّافة، وأخرى مشقَّقة، ثم ارجع البصر كرتين في ملامحهم فسترى أصابع تختَّمت بالذهب، وأعناقًا تزيَّنت بالسلاسل والقلائد، ومعاصم أحاطت بها أساور متنوعة، ولحًى أصبحت خطوطًا وطرائق قددًا، ورؤوسًا تعلوها قصّات شعر غريبة، وتسريحات عجيبة.
ثم أكمل طريق نظرك فستلاقي آخرين امتلأت بهم الطّرقات؛ أصواتهم صاخبة، وأيديهم فيها سلاسل مربوطة بأعناق كلاب قد اصطحبوها، تنام معهم حيث ينامون، وتأكل معهم مما يأكلون! ثم التفت في زاوية أخرى فسترى رجالًا نافسوا النّساء، فلم تعد تجد فوارق بينهم؛ تشابهت سماتهم، وتقاربت ملامحهم، وامتزجت ملابسهم، وهذا أمر تجده في أغلب مجتمعاتنا العربية المسلمة!
ومن صور التشبه: ما ابتليت به كثيرات من بنات الإسلام من التشبه بالكافرات، فيضاهين ملابسهن وزيهن، حيث لبسن إلى نصف الساق، وظهرت منهن أذرع ونحور، وبانت وجوه وصدور. وإذا لبسن فملابس ضيقة، للجسم واصفة، وأخرى شفافة، للمفاتن كاشفة. يمشين في الأسواق برؤوس كأسنمة البخت، وعيون كسهام صيد، وروائح تملأ أرجاء الطريق، ومشية متكسرة تكاد تخطف الأبصار. كلُّ هذه الأمور وأشد منها إنما وصلتنا بتقليدنا للكافرين، واقتفاء خطاهم حذو القذّة بالقذّة، فرموا إلينا مخلّفات حضارتهم فتشربناها، وتركنا الاستفادة من العلم والتكنولوجيا التي سبقونا بها ويا للأسف!
(3) المقصود بذلك اعتياد الخطاب بغير العربية حتى يصير ذلك عادة للبلد وأهله.
ابو وليد البحيرى
2024-07-29, 11:40 AM
الكبائر (43)
النمص والوصل والوشم
(موعظة الأسبوع)
كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
المقدمة:
- الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة التي ضمن الله لمن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
- والنمص والوشم والوصل والتفليج، من الكبائر التي ورد في حقها تهديد ولعن؛ لما فيها من الغش والتدليس، والاعتراض على القدر بالتغيير للخلق: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "لَعَنَ اللَّهُ الوَاشِمَاتِ والمُوتَشِمَاتِ ، والمُتَنَمِّصَا تِ، والمُتَفَلِّجَا تِ لِلْحُسْنِ، المُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ. فَبَلَغَ ذلكَ امْرَأَةً مِن بَنِي أسَدٍ يُقَالُ لَهَا: أُمُّ يَعْقُوبَ، فَجَاءَتْ فَقالَتْ: إنَّه بَلَغَنِي عَنْكَ أنَّكَ لَعَنْتَ كَيْتَ وكَيْتَ، فَقالَ: وما لي لا ألْعَنُ مَن لَعَنَ رَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، ومَن هو في كِتَابِ اللَّهِ؟ فَقالَتْ: لقَدْ قَرَأْتُ ما بيْنَ اللَّوْحَيْنِ، فَما وجَدْتُ فيه ما تَقُولُ، قالَ: لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لقَدْ وجَدْتِيهِ، أَمَا قَرَأْتِ: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (الحشر: 7)؟ قالَتْ: بَلَى، قالَ: فإنَّه قدْ نَهَى عنْه، قالَتْ: فإنِّي أرَى أهْلَكَ يَفْعَلُونَهُ، قالَ: فَاذْهَبِي فَانْظُرِي، فَذَهَبَتْ فَنَظَرَتْ، فَلَمْ تَرَ مِن حَاجَتِهَا شيئًا، فَقالَ: لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ مَا جَامَعَتْنَا" (متفق عليه)، وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: "لُعِنَتِ الْوَاصِلَةُ وَالْمُسْتَوْصِ لَةُ" (رواه أبو داود، وصححه الألباني)، قال القرطبي -رحمه الله-: "وهذه الأمور كلها قد شهدت الأحاديث بلعن فاعلها، وأنها من الكبائر" (تفسير القرطبي).
- الإشارة إلى انتشار هذه المنهيات في زماننا، وتهاون النساء بشأنها، بل انتقلت إلى الذكور المتخنثين، والمشاهير من الفنانين، ولاعبي الكرة، ونحوهم.
(1) المقصود بالنمص والوصل والوشم والتفليج:
- النمص هو: ترقيق الحواجب وتدقيقها طلباً لتحسينها، والنامصة التي تصنع ذلك بالمرأة، والمتنمصة التي تأمر من يفعل ذلك بها، والمنماص المنقاش.
- الوصل: الْوَاصِلَةِ: الَّتِي تَصِلُ الشَّعْرَ بِشَعْرِ النِّسَاءِ، وَالْمُسْتَوْصِ لَةُ: الْمَعْمُولُ بِهَا.
- الوشم: وَهِي أَن تغرز الواشمة إبرة وَنَحْوهَا فِي شَيْء من بدن الْمَرْأَة حَتَّى يسيل الدَّم، ثمَّ تحشو ذَلِك الْموضع بكحل فيخضر، والمستوشمة هِيَ الَّتِي تطلب فعل ذَلِك بهَا، ومن الناس من ينقش على صدره امرأةً عاريةً، أو صليبًا، أو معبودَ كفار، أو عبارةً شركية، أو اسمَ محبوبته، ونحو ذلك.
- التفليج: وهو بَردُ الأسنان بالمِبْرد للتفريق بينها للحُسْن.
(2) حكم النمص والوصل والوشم والتفليج:
- دل حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- على تحريمها جميعًا؛ لما اقتضته من جلب اللعن لفاعلها، وإليك بعض كلام العلماء في ذلك:
أولًا: حكم النمص:
قال الطبري: "لا يجوز للمرأة تغيير شيء من خلقتها التي خلقها الله عليها، بزيادة أو نقص، التماس الحسن؛ لا للزوج ولا لغيره؛ كمن تكون مقرونة الحاجبين فتزيل ما بينهما، توهم البلج، وعكسه" (نقله الحافظ في الفتح)، أما إن كان لها شارب ولحية على غير المعهود فإنهم يقولون: لا بأس أن تزيل ذلك، بل بعضهم يقول: يستحب؛ كالنووي رحمه الله. (انظر: شرح النووي على مسلم 14/ 106).
- فأين الرجال الذين يزيلون شعور وجوههم من ذلك؟ بل منهم مَن يتنمص كالنساء! فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَال:" لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- المُتَشَبِّهِين َ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، وَالمُتَشَبِّهَ اتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ" (رواه البخاري)(1).
ثانيًا: حكم الوشم:
- قال النووي: "هوَ حَرَامٌ عَلَى الْفَاعِلَةِ وَالْمَفْعُولِ بِهَا بِاخْتِيَارِهَا وَالطَّالِبَةِ لَهُ وَقَدْ يُفْعَلُ بِالْبِنْتِ وَهِيَ طِفْلَةٌ، فَتَأْثَمُ الفاعلة ولا تأثم الْبِنْتُ؛ لِعَدَمِ تَكْلِيفِهَا حِينَئِذٍ" (شرح النووي على مسلم).
- ماذا يفعل إذا تاب إلى الله من ذلك؟ قال العلماء: تجب إزالته إن أمكنه؛ إلا إن خاف منه تلفًا أو فواتَ منفعةَ عضو، فيجوزُ تركه، وتكفي التوبةُ في سقوط الإثم، ويستوي في هذا الرجل والمرأة، ويستره عن الناس ما أمكنه.
ثالثًا: حكم الوصل:
- الوصل (الباروكة ونحوها) لا تجوز للعروس المقبلة على الزواج؛ فغيرها أولى: عن أَسْمَاءَ -رضى الله عنها- قَالَتْ: سَأَلَتِ امْرَأَةٌ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فقالَتْ: يا رَسولَ اللَّهِ، إنَّ ابْنَتي أصابَتْها الحَصْبَةُ، فامَّرَقَ شَعَرُها، وإنِّي زَوَّجْتُها؛ أفَأَصِلُ فِيهِ؟ فقالَ: (لَعَنَ اللَّهُ الواصِلَةَ والمَوْصُولَةَ) (متفق عليه)؛ فكيف برجال يفعلون ذلك متشبهين كذلك بالنساء؟!
- وأين هؤلاء من أهل الورع؟! جاء رجل إلى ابن سيرين فسأله فقال: "إن أمي كانت تمشط النساء، أترى لي أن آكل من مالها وأرثه عنها؟ فقال: إن كانت لا تصل؛ فلا بأس" (التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد لابن عبد البر).
رابعًا: حكم التفليج:
- قال النووي -رحمه الله-: "وأما قوله: (المُتَفلجات لِلْحُسْنِ) فمعناه: يفعلن ذلك طلبًا للحسن. وفيه إشارة إلى أن الحرام هو المفعول لطلب الحسن، أما لو احتاجت إليه لعلاج أو عيب في السن ونحوه فلا بأس. والله أعلم" (شرح صحيح مسلم).
- وأما عمليات تقويم الأسنان فغاية ما فيها إعادة الأسنان إلى وضعها الطبيعي، وإزالة ضرر يمنع من نطق بعض الحروف، أو استواء نطقها، أو تسبب بوضعها الحالي تحشي الأوساخ وبقايا الطعام في الأسنان، وتسبب أذى نفسياًّ للبعض من هجوم الفك إلى الإمام، ونحوه.
(3) حكمة تحريم النمص والوشم والوصل والتفليج:
- بداية.. المسلم مستسلم لأمر ربه ونهيه؛ سواء ظهرت له الحكمة أو لم تظهر: قال الله -تعالى-: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) (النور: 51).
- قال القرطبي: "اختلف في المعنى الذي نهي لأجلها؛ فقيل: لأنها من باب التدليس. وقيل: من باب تغيير خلق الله -تعالى-، كما قال ابن مسعود، وهو أصح، وهو يتضمن المعنى الأول. ثم قيل: هذا المنهي عنه إنما هو فيما يكون باقيًا؛ لأنه من باب تغيير خلق الله -تعالى-، فأما ما لا يكون باقيًا: كالكحل، وما تتزين به النساء؛ فقد أجاز العلماء ذلك" (تفسير القرطبي).
(4) عقوبة فاعل هذه المنهيات؟
- هو مذموم، مخالف لما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم-: قال الله -عز وجل-: (وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (الحشر: 7).
- هو ملعون من الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ يمشي في الدنيا تطارده لعنة الله وغضبه عليه، ثم يكون عقاب لازم اللعن في الآخرة أشد؛ فكيف إذا جمع الفاعل بين أكثر من منهي من هذه المنهيات؟ بل إذا الفاعل رجلًا؟! قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "لَعَنَ اللَّهُ الوَاشِمَاتِ والمُوتَشِمَاتِ ، والمُتَنَمِّصَا تِ، والمُتَفَلِّجَا تِ لِلْحُسْنِ، المُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ".
(5) ملخص كلام العلماء في حكم عمليات التجميل:
- عمليات التجميل التي تعمل لإزالة عيب أو تشوه ما؛ الأصل فيها الجواز والإباحة، وذلك من يسر الشريعة وتخفيفها على الناس(2): فعن عرفجة بن أسعد -رضي الله عنه- قال: "أُصيبَ أنفي يومَ الكِلابِ في الجاهليَّةِ، فاتَّخَذتُ أنفًا من ورِقٍ فأنتنَ عليَّ، فأمرَني رسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أن أتَّخِذَ أنفًا من ذَهَبٍ" (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).
- وأما التجميل الزائد، وهو ليس من أجل إزالة العيب، بل لزيادة الحسن، فهو محرم لا يجوز(3)؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "لعن النامصة والمتنمصة والواشمة والمستوشمة والواصلة والمستوصلة"؛ " ولما في ذلك من إحداث التجميل الكمالي، وليس لإزالة العيب" (انظر كلام الشيخ ابن عثيمين - فتاوى علماء البلد الحرام).
خاتمة:
- أباح الإسلام للمرأة أن تتزين لزوجها بكل ما تستطيعه من أنواع الزينة المباحة التي لم يرد نص بمنعها وتحريمها؛ روى الإمام أحمد في المسند عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: كَانَتْ امْرَأَةُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ تَخْتَضِبُ وَتَطَّيَّبُ، فَتَرَكَتْهُ، فَدَخَلَتْ عَلَيَّ، فَقُلْتُ لَهَا: *أَمُشْهِدٌ *أَمْ *مُغِيْبٌ؟ فَقَالَتْ: مُشْهِدٌ كَمُغِيْبٍ، قُلْتُ لَهَا: مَا لَكِ؟ قَالَتْ: عُثْمَانُ لَا يُرِيدُ الدُّنْيَا وَلَا يُرِيدُ النِّسَاءَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ، فَلَقِيَ عُثْمَانَ فَقَالَ: (يَا عُثْمَانُ، أَتُؤْمِنُ بِمَا نُؤْمِنُ بِهِ؟)، قَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: (فَأُسْوَةٌ مَا لَكَ بِنَا) (رواه أحمد، وقال محققو المسند: صحيح لغيره).
- فليتق الله كل مسلم ومسلمة، ولا يعرض نفسه للعن الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وغضب الله وعقابه، وعنده الحلال المباح، الموافق للفطرة السليمة: قال الله -تعالى-: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ *لَا *يُحِبُّ *الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف: 31)، وقال -تعالى-: (*قُلْ *مَنْ *حَرَّمَ *زِينَةَ *اللَّهِ *الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (الأعراف: 32).
فاللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـ
(1) هل يجوز النمص تزينًا للزوج؟
- ذهب بعض الشافعية إلى جواز النمص بقصد التزين للزوج؛ وذلك لكمال الإحصان، واحتجوا بأثر عن امرأة أبي إسحاق أنها دخلت على عائشة -رضي الله عنها-، وكانت شابة يعجبها الجمال، فقالت: المرأة تحف جبينها لزوجها؟ فقالت: "أميطي عنك الأذى ما استطعت" (ضعيف جدًّا؛ أخرجه عبد الرزاق في المصنف، وقال الدارقطني عن العالية -امرأة أبي إسحاق-: مجهولة، لا يُحتَجُّ بها). والصحيح مذهب جماهير العلماء من تحريمه على الإطلاق؛ لحديث ابن مسعود المرفوع المتقدم، وقد أطلق النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه التحريم ولم يقيده بالزوج، ولا غيره، وحديث عائشة -رضي الله عنها- لو صح؛ فهو محمول على شعر الجبين والخدين إذا ظهر للمرأة.
(2) كإزالةُ آثار الحروق والتشوهاتِ الناتجةِ عن الحوادث، وتتميمِ الأذن الناقصة، وإزالةِ البُقع المشوهةِ في الوجه، وكذا آثار البرص؛ فهذا كلُه لا بأس به؛ لأنه ليس تغييرًا للخلقة الطبيعية التي يريد صاحبها من خلالها التجملَ والتحسين، وإنما يريد إزالةَ ضرر وعيب قد يمنعه من النكاح، وقد يمنعها من الخطاب، ومن الرحمة في الشريعة بالبشرية: أنه لا ضرر فيها، بل إنها تحث على ما فيه منفعة للإنسان في دنياه وآخرته.
(3) كتصغير ثدي أو تكبيره أو رفع للأنف أو شد للوجنتين أو تضخيم للشفتين، ونحو ذلك! ويلحق بهذه الأشياء من الحرمة ما استحدث من رموش صناعية، وأنواع الطلاء التي صنعت لمثل ذلك، ومنها شد جلد الوجه بإجراء عملية جراحية أو بمواد كيميائية تؤدي إلى ظهور المرأة بأنها أصغر سنًّا وأكثر شبابًا، وهذا أيضًا نوع من التزوير والخداع والغش، وعدم الرضا بما خلق الله الخلق عليه وفطره عليه.
ابو وليد البحيرى
2024-08-09, 11:25 PM
الكبائر (44)
اليمين الغموس
(موعظة الأسبوع)
كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
المقدمة:
- الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضمن الله لمن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال الله -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
- ومن الكبائر المهلكة لصاحبها في الدنيا والآخرة "اليمين الغموس": روى البخاري في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا الْكَبَائِرُ؟ قَالَ: (الْإِشْرَاكُ بِاللهِ). قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: (ثُمَّ عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ). قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: (الْيَمِينُ الْغَمُوسُ)، قُلْتُ: وَمَا الْيَمِينُ الْغَمُوسُ؟ قَالَ: (*الَّذِي *يَقْتَطِعُ *مَالَ *امْرِئٍ *مُسْلِمٍ *هُوَ *فِيهَا *كَاذِبٌ).
- الإشارة إلى تساهل كثير من الناس بأيمانهم: فأصبح البعض يحلف بالله في كثير من أحاديثه وأقواله، وفي بيعه وشرائه، وفي كل أمر يعِدُ به غيره؛ لحاجة أو لغير حاجة! حتى وقع كثير منهم في اليمين الكاذبة (اليمين الغموس) -والعياذ بالله-؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى الكبرى: "ولهذا إذا كانت اليمين غموسًا، كانت من الكبائر الموجبة للنار، كما قال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (آل عمران: 77)، وذكرها النبي -صلى الله عليه وسلم- في عدِّ الكبائر، وذلك أنه إذا تعمد أن يعقد بالله ما ليس منعقدًا به فقد نقص الصلة التي بينه وبين ربه، بمنزلة مَن أخبر عن الله بما هو منزَّه عنه أو تبرأ من الله.
أنواع اليمين:
- اليمين ثلاثة أقسام: يمين لغو، ويمين منعقدة، ويمين غموس.
- فأما يمين اللغو: فهي الحلف من غير قصد اليمين، كقول الرجل حينما يسأل عن حاله: أنا والله بخير؛ فهو لا يقصد الحلف؛ ولذلك لا يؤاخذ عليه، ولا كفارة فيه: قال -تعالى-: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (البقرة: 225).
- وأما اليمين المنعقدة: فهي اليمين التي يقصدها الحالف، وتكون على أمر مستقبل أن يُفعل أو يُترك، ويؤكد ويصر عليها؛ فهي يمين متعمدة مقصودة وليست لغوًا يجري على اللسان: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الْأَيْمَانَ) (المائدة: 89).
- وهذه اليمين فيها الكفارة إذا حنث: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا؛ فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ وَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْر) (رواه أبو داود والنسائي، وصححه الألباني)، وقال -تعالى-: (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) (المائدة: 89).
- وأما اليمين الغموس: فهي تلك اليمين التي يحلفها الرجل، وهو يعلم أنه كاذب فيها، وإثمها يشتد وجرمها يعظم إذا اقترنت بأخذ مال امرئ مسلم بغير حق. قال المنذري: "سميت غموسًا؛ لأنها تغمس صاحبها في الإثم في الدنيا وفي النار في الآخرة"، وهذه اليمين الغموس لا كفارة فيها عند جمهور الفقهاء.
الترهيب من اليمين الكاذبة:
- لقد عظم الإسلام شأن اليمين، وحذر من التساهل بها؛ لأنها عهد وميثاق يجب أن يُعطى حقه: قال الله -تعالى-: (وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ) (المائدة: 89). قال القرطبي: "المعنى: أقلوا الأيمان؛ لما فيه من البر والتقوى؛ فإن الإكثار يكون معه الحنث، وقلة رعي لحق الله -تعالى-".
- صاحب الأيمان الكاذبة قدوته في ذلك إبليس: فهو أول من سن اليمين الكاذبة يوم أن حلف لآدم وحواء أنه لهما لمن الناصحين؛ قال -تعالى-: (وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ) (الأعراف: 21).
- الأيمان الكاذبة شعار أهل النفاق: قال -تعالى-: (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ) (التوبة: 74)، وقال عنهم: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (المجادلة: 14).
- وقد أنزل الله في أصحاب اليمين الغموس قرآنًا يتلى إلى يوم القيامة يبيِّن عقوبتهم في الآخرة: فعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، هُوَ عَلَيْهَا فَاجِرٌ، لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ)، فأنزل الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (آل عمران: 77). فَجَاءَ الْأَشْعَثُ فَقَالَ: مَا حَدَّثَكُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ فِيَّ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، *كَانَتْ *لِي *بِئْرٌ *فِي *أَرْضِ *ابْنِ *عَمٍّ *لِي، *فَقَالَ *لِي: *شُهُودَكَ، قُلْتُ: مَا لِي شُهُودٌ، قَالَ: فَيَمِينُهُ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِذًا يَحْلِفَ، فَذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هَذَا الْحَدِيثَ، فَأَنْزَلَ اللهُ ذَلِكَ تَصْدِيقًا لَهُ. (متفق عليه).
- قصة من واقع الحياة: أحدهم كان بينه وبين من يدعي عليه بمبلغ مالي كبير مجلس قضائي، وقد أنكر المدعى عليه المبلغ كليًّا، فطلب منه القاضي اليمين في تلك اللحظة لعدم توفر البينة لدى المدعي، فقام المدعى عليه وردد اليمين كاذبًا خلف القاضي، وخرج مزهوًّا بنفسه وبنصره، والآخر يدعو عليه. وما هي إلا لحظات ويصاب بعدها حالف اليمين بحادث مروري مروع، أصيب فيه بعدة إصابات خطيرة أدخل على إثرها للعناية المركزة؛ فسارع وهو في العناية المركزة وطلب من أقاربه إعادة المبلغ لصاحبه حيث اعترف أنه حلف يمينًا كاذبة.
- هناك مِن الناس مَن يتورع عن الأمور الكبيرة والأموال الطائلة، لكنه قد يقع في أمور يظن أنها من المحقرات، ولا يدري المسكين خطورة ذلك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ، فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ)، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإِنْ كَان شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللِه؟ قَالَ: (وإنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ) (رواه مسلم).
- ومن أكثر ما يكون من صور ذلك خطورة: تلك الأيمان الكاذبة في البيع والشراء؛ فعن أبي ذرٍّ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (*ثَلَاثَةٌ *لَا *يُكَلِّمُهُمُ *اللهُ *يَوْمَ *الْقِيَامَةِ، *وَلَا *يَنْظُرُ *إِلَيْهِمْ، *وَلَا *يُزَكِّيهِمْ، *وَلَهُمْ *عَذَابٌ *أَلِيمٌ). *قَالَ: *فَقَرَأَهَا *رَسُولُ *اللهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَ مِرَارٍ. قَالَ أَبُو ذَرٍّ: خَابُوا وَخَسِرُوا، مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: (الْمُسْبِلُ، وَالْمَنَّانُ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ) (رواه مسلم).
- ما يلزم مَن حلف اليمين الغموس؟ قال العلماء: تلزمه التوبة الصحيحة بشروطها، مع رد الحقوق لأصحابها، واختلفوا في لزوم الكفارة عليه؛ فجماهير السلف والخلف على عدم الكفارة؛ لأن ذنبه أعظم من ذلك؛ قال ابن مسعود: "كُنَّا نَعُدُّ الذَّنْبَ الَّذِي لَا كَفَّارَةَ لَهُ الْيَمِين الْغَمُوس". وعن سعيد بن المسيب قال: "هي من الكبائر وهي أعظم من أن تكفر" (نقله ابن قدامة في المغني).
- تنبيهات مهمة: قد يتحايل بعض الناس على اليمين الغموس، فيحلف فيكذب إذا استحلف، يظنه من التعريض الجائز، ولا يدري أن اليمين على نية المُسْتَحْلِفِ وليس على نية الحالف، ولا يجوز التورية فيه؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (*الْيَمِينُ *عَلَى *نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ ) (رواه مسلم). وفي رواية: (يَمِينُكَ عَلَى مَا يُصَدِّقُكَ عَلَيْهِ صَاحِبُكَ) (رواه مسلم). قال النووي: "إِذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ حَقًّا فَحَلَّفَهُ الْقَاضِي فَحَلَفَ وَوَرَّى فَنَوَى غَيْرَ مَا نَوَى الْقَاضِي؛ اِنْعَقَدَتْ يَمِينُهُ عَلَى مَا نَوَاهُ الْقَاضِي وَلَا تَنْفَعُهُ التَّوْرِيَةُ".
- ولا يجوز الحلف بغير الله -عز وجل-، وهو من الشرك: (والأمانة، وشرفي، والذمة، والنعمة، ورأس أبي، وحق هذا الطعام، ونحو ذلك): قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ أَوْ أَشْرَكَ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ حَلَفَ بِالأَمَانَةِ فَلَيْسَ مِنَّا) (رواه أبو داود، وصححه الألباني). وقال عبد الله بن مسعود: "لأن أحلف بالله كاذبًا أحب إليَّ من أن أحلف بغيره صادقًا". قال ابن تيمية -رحمه الله تعالى- معلقًا على كلام ابن مسعود: "لأن حسنة التوحيد أعظم من حسنة الصدق، وسيئة الكذب أسهل من سيئة الشرك".
خاتمة: إن شأن اليمين عند الله عظيم، والتساهل بها أمر جسيم؛ فليست اليمين مجرد كلمة تمر على اللسان، ولكنها عهد وميثاق سيسأل عنه العبد يوم القيامة، فينبغي للمؤمن أن يعظم اليمين، خاصة في باب الأموال والحقوق، ولو كانت يسيرة، ويوقر الله، ويكون صادقًا، ولا يحلف إلا على حق ثابت كالشمس. وقد كان كثير من أهل الورع يتوقون الحلف في الخصومة عند الحاكم، ولو أفضى ذلك بهم إلى التنازل عن حقهم؛ خشية الوقوع في الوعيد.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها، لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.
ابو وليد البحيرى
2024-08-24, 10:02 AM
الكبائر (42)
تكفير المسلمين بغير حق
(موعظة الأسبوع)
كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
المقدمة:
- الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة التي ضمن الله لمن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
- تكفير المسلمين بغير حق من أكبر الكبائر، وأشر الجرائم، لما يترتب على ذلك من مفاسد عقدية واجتماعية، وتفريق لجماعة المسلمين، وانتهاك للحرمات من سفك الدماء والاعتداء على الأموال والأعراض: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَيُّما رَجُلٍ قالَ لأخِيهِ: يا كافِرُ، فقَدْ باءَ بها أحَدُهُما) (متفق عليه)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ولَعْنُ المُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ، ومَن رَمَى مُؤْمِنًا بكُفْرٍ فَهو كَقَتْلِهِ) (رواه البخاري).
- الإشارة إلى بداية ظهور أتباع هذا الفكر المنحرف الذين بدؤوا بالصحابة فكفروهم، وأنهم لا يزالون يطلون على الأمة بين الفينة والأخرى، لا سيما إذا توافرت لهم الأسباب المعينة على وجودهم، كما سيأتي في الكلام عن أسباب انتشاره.
1- خطر تكفير المسلم بغير حق:
- لا يجوز لأحد أن ينسب إلى مسلم شيئًا لم يفعله أو يعتقده: قال الله -تعالى-: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا) (الأحزاب: 58).
- وأخطر ذلك أن ينسب مسلمًا إلى الكفر بغير حق: قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) (النساء: 94)، وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "لَقِيَ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ رَجُلاً فِي غُنَيْمَةٍ لَهُ، فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ، فَأَخَذُوهُ فَقَتَلُوهُ وَأَخَذُوا تِلْكَ الْغُنَيْمَةَ"، فَنَزَلَتْ: (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا) وَقَرَأَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ: "السَّلامَ" (متفق عليه).
- حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- وزجر عن ذلك، وأخبر عن عاقبته السيئة على المعتدي: عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (*أَيُّمَا *امْرِئٍ *قَالَ *لِأَخِيهِ: *يَا *كَافِرُ، *فَقَدْ *بَاءَ *بِهَا *أَحَدُهُمَا، *إِنْ *كَانَ *كَمَا *قَالَ، *وَإِلَّا *رَجَعَتْ *عَلَيْهِ) (متفق عليه)، وعن أبي ذر -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ومَنْ دَعَا رجلًا بِالكُفرِ، أو قال عدُوَّ اللهِ وليسَ كذلِكَ، إلَّا حارَ عليْهِ) (متفق عليه).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وإذا كان تكفير المعين على سبيل الشتم كقتله؛ فكيف يكون تكفيره على سبيل الاعتقاد؟ فإن ذلك أعظم من قتله" (الاستقامة لابن تيمية).
2- الآثار المترتبة على تكفير المسلم:
- تمهيد: هذا النهي والزجر من الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- عن تكفير المسلمين بغير حق إنما هو لما يترتب على ذلك مِن آثار خطيرة؛ حيث يتغير وصف "المسلم" إلى "المرتد"، وهذا له أحكام تترتب عليه، فالردة مروق وخروج مِن ملة الإسلام بعد ثبوته، فيترتب على ذلك أحكام في الدنيا بعد الحكم عليه بالخلود في النار إن مات على ذلك، ومن هذه الأحكام ما يأتي:
أ*- إباحة دمه:
- المرتد قد جاء بما يدل على بغضه للإسلام وعداوته لأهله: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، يَشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأَنِّي رَسولُ اللَّهِ، إلَّا بإحْدَى ثَلاثٍ: النَّفْسُ بالنَّفْسِ، والثَّيِّبُ الزَّانِي، والمارِقُ مِنَ الدِّينِ التَّارِكُ لِلْجَماعَةِ) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَن بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ) (رواه البخاري).
ب*- لا يُقبل منه عمل:
- المرتد لا تنفعه صلاة، ولا زكاة، ولا صيام، ولا حج، ولا شيء، ولا يقبل منه عمل سابق ولا لاحق: قال الله -تعالى-: (وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة:217)، وقال -تعالى-: (وَمَن يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (المائدة:5).
ت*- لا يعامل كموتى المسلمين إذا مات:
- المرتد لا يغسل ولا يكفن، ولا يصلَّى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يجوز الترحم عليه ولا الاستغفار والدعاء له: قال الله -تعالى-: (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ) (التوبة: 84)، قال الله -تعالى-: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) (التوبة:113).
ث*- يفسخ نكاحه:
- المرتد لا تحل له زوجته المسلمة وتبين منه مع ثبوت الردة، ولا يجوز أن يكون وليًّا لامرأة مسلمة في عقد نكاح: قال الله -تعالى-: (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنّ َ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) (الممتحنة: 10)، وقال الله -تعالى-: (وَالْمُؤْمِنُو َ وَالْمُؤْمِنَات ُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) (التوبة: 71).
ج*- ماله يصير فيئًا للمسلمين، ولا يرث ولا يورث:
- المرتد إذا مات لا يورث ولا يرث قرابته المسلمين: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا يَرِثُ المُسْلِمُ الكَافِرَ وَلَا الكَافِرُ المُسْلِمَ) (متفق عليه).
ح*- لا تؤكل ذبيحته:
- المرتد لا تصلح ذبيحته للأكل ولا للبيع: قال الله -تعالى-: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ) (المائدة: 5)، (قبح حال المرتد حيث تؤكل ذبيحة اليهود والنصارى، ولا تؤكل ذبيحته).
خ*- الخلود في النار:
- إذا مات على الردة لا يُغفر له، وهو من أهل النار خالدًا فيها أبدًا: قال -تعالى-: (وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة: 217).
3- أسباب انتشار ظاهرة التكفير:
أ*- الجهل بالأحكام الشرعية واتباع المتشابه:
- تكفير الصحابة يوم صفين كان بسبب الجهل بمقاصد الشرع واتباع المتشابه: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: تلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُون مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) (آل عمران: 7)، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ، فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللهُ فَاحْذَرُوهُمْ) (متفق عليه).
ب*- التحاكم إلى القوانين الوضعية البشرية:
- الإشارة إلى آثار الاستعمار الغربي وغزوه الفكري لبلاد المسلمين، والتي من أعظمها تنحية الشريعة الإسلامية من حياتهم، وإحداث المحاكم الوضعية ثم إلغاء المحاكم الشرعية بعد أن تركوا جيلًا من أتباعهم "علمانيين وغيرهم" يحمون أفكارهم ويدافعون عنها.
- ومن هنا يقع كثير من الناس في شراك التكفير بغير حق حيث يكفرون الحكام، وهي مسألة فيها تفصيل، ثم يكفرون المجتمع تبعًا لذلك! ثم يستبيحون دماءهم وأموالهم! وربما جاءوا بالأدلة مِن غير فهم كقول الله -تعالى-: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (المائدة: 44).
ت*- انتشار الفساد الأخلاقي:
- الإشارة إلى دور الغرب وأتباعهم "كالعلمانيين ونحوهم" في إفساد أخلاق المسلمين (نشر العرى والفجور من خلال الوسائل المختلفة): قال الله -تعالى-: (الْمُنَافِقُون وَالْمُنَافِقَا تُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ) (التوبة: 67).
- إطلاق العنان لأهل الفساد، والتسلط على المتدينين بالسخرية والاستهزاء والتضييق.
- ومن هنا يقع كثير من الناس في شراك التكفير بغير حق؛ حيث العاطفة والغيرة على انتهاك الحرمات، ولكن بدون تحقيق وتفريق بين المعصية الكبيرة وبين الكفر المخرج من الدين ليكون شأنهم شأن العابد في قصة قاتل المائة نفس لما استعظم الذنب، فقال له: (هلْ مِن تَوْبَةٍ؟ قَالَ: لَا) (متفق عليه).
ث*- انتشار الظلم:
- أجواء النزاع بين المسلمين وشيوع الفتن تساعد على ظهور تيارات التكفير حيث يسلكون طريقًا ثالثًا، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الخوارج: (يَخْرُجُونَ علَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنَ النَّاسِ) (متفق عليه).
- وتزداد فتنة التكفير إذا كان أحد الطرفين يتسلط على الدعاة والعلماء والمتدينين، فيكون الطرف الثالث هو مَن يتبنى تكفير المتسلط؛ متأولًا لقوله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ) (البروج: 10)، وقوله -تعالى-: (وَالْكَافِرُون هُمُ الظَّالِمُونَ) (البقرة: 254).
- وتزداد الفتنة بازدياد الظلم والقهر للشباب المتدين: قال "شكري مصطفى" أمير جماعة التكفير والهجرة بعد تعذيبه في ليمان طرة: "إن كل المجتمعات القائمة جاهلة وكافرة قطعًا".
وهنا تأتي التساؤلات عند كثير من الشباب: الإسلام ينهى عن الظلم وتعذيب حتى الحيوانات؛ فكيف بحكام جعلوا أعوانهم يعذبون الناس؟ وهل المجتمع الذي يسكت على هؤلاء يكون مسلمًا؟ فتكون الإجابة التي غذى الشيطان نار فتنتها مع قلة العلم وعدم مطالعة التاريخ هي الحكم بالتكفير للكل الحكام والمحكومين والأعوان!
خاتمة:
- الإشارة إلى أن هذا المنهج الفاسد صارت له بعد ذلك أصول وعقائد، وصارت له روافد تدمر كيان الأمة.
- التنبيه على أن وصف التكفير غير ممتنع، ولكنه لا يكون إلا بالدليل؛ قال الله -تعالى-: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ? إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ) (النحل: 116)(1).
- التكفير له ضوابط (شروط وموانع) يجب مراعاتها عند تكفير شخص معين؛ وإلا فقد يكون هذا الشخص جاهلًا أو متأولًا، أو مكرهًا، ونحوه... قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّ اللهَ تعالى وضع عن أُمَّتي الخطأَ، والنسيانَ، وما اسْتُكرِهوا عليه) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني)، وقال -تعالى-: (مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (النحل: 106).
- الإشارة إلى أهمية دور العلماء وتلاميذهم في نشر المنهج الصحيح؛ قال الله -تعالى-: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّه ُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ) (آل عمران: 187).
- الإشارة إلى أهمية دور الحكام والحكومات في العمل على إزالة أسباب انتشار هذا الفكر المنحرف؛ قال الله -تعالى-: (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) (الحج: 41).
اللهم أبرِم لهذه الأمة أمرَ رُشدٍ يُعزُّ فيه أهلُ طاعتك، ويُهدَى فيه أهلُ معصيتِك، ويُؤمَرُ فيه بالمعروف، ويُنهَى عن المُنكر يا رب العالمين.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــ
(1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وليس لأحدٍ أن ُيكفِّر أحدًا من المسلمين وإن أخطأ وغلط، حتى تقام عليه الحجة وتُبَيَّنَ له المحجة، ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة، وإزالة الشبهة".
ابو وليد البحيرى
2024-08-24, 10:03 AM
الكبائر (45)
إشاعة الفاحشة
(موعظة الأسبوع)
كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
المقدمة:
- الكبائر هي تلك الذنوب المهلكة، التي ضمن الله لمن اجتنبها في الدنيا، الجنة في الآخرة: قال -تعالى-: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) (النساء: 31).
- إشاعة الفاحشة من الكبائر المهلكة لصاحبها في الدنيا والآخرة؛ وذلك لما لها من أثر كبير في إفساد مجتمعات المسلمين: قال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (النور: 19).
- الإشارة إلى بعض الصور التي تساعد على إشاعة الفاحشة: (دعوات التحرر النسوية بألوانها وإثارة الشبهات حول الزواج والطلاق، والسفر الميراث، وغير ذلك - أعمال فنية تصور المجتمع كله في صورة الراقصة، أو الزوجة الخائنة، أو مدمني المخدرات، أو... - حفلات ومهرجانات الرقص والعري بزعم الترفيه - قنوات لنشر ألوان العرى والرذيلة - قوانين في الجامعات تقيد الحجاب والتدين، وتطلق العنان للتبرج والعرى - مسابقات رياضية للنساء شبه عاريات - نشر الصور والمقاطع الخليعة - نشر الأغاني والموسيقى - نشر القصص الجنسية - نشر فضائح المشاهير - وأشر من كل ما سبق: الإنترنت الحر بكل ما يحمل من شر).
- ومما يدمي القلب، أن نشر ودعم الفاحشة يبلغ أَوجَهُ وقوته في مواسم العبادات (شهر رمضان المبارك، والأعياد) التي يمنُّ الله الرحيم بها علينا لنكفر عن السيئات، ونزداد في الحسنات، ونعيش في نعيم نسائم الرحمات: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا)(النساء :27)(1).
(1) أثر إشاعة الفاحشة في مجتمعات المسلمين:
- بداية قد حرَّم الله الفواحش بأنواعها وألوانها في كل زمان ومكان: قال -تعالى-: (وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) (الأنعام: 151)، وقال -تعالى-: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (الأعراف: 33).
- انتشار الفاحشة سبب لنزول العقاب والبلايا والنقم والأمراض والغلاء والهلاك وتسلط الأعداء: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَيلٌ للعربِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ) وَحَلَّقَ بِأُصْبَعَيْهِ: الإِبْهَامَ وَالَّتِي تَلِيهَا. قَالَتْ زَيْنَبُ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَنُهْلَكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: (نَعَمْ إِذا كثُرَ الخَبَثُ) (متفق عليه). وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: (يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ، لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلاَّ فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلاَفِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَيَشْرَبَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِى الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا يُعْزَفُ عَلَى رُءُوسِهِمْ بِالْمَعَازِفِ وَالْمُغَنِّيَا تِ يَخْسِفُ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ وَيَجْعَلُ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ ) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).
- وفي الجملة فإن شيوع الفاحشة سبب في فساد كل شيء (الاقتصاد والصناعة والزراعة، والماء والهواء و... ): قال -تعالى-: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم:41).
(2) عاقبة الذين يشيعون الفاحشة في الدنيا والآخرة:
- لقد توعدهم الحق -تبارك وتعالى- بالعقوبة الأليمة في الدنيا وفي الآخرة: قال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (النور: 19).
- (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ): محبة اشاعة الفاحشة دون فعلها، أو تحريض عليها توجب العذاب الأليم في الدنيا والآخرة؛ فكيف يكون عذاب الذين يفعلونها أو يحرضون عليها؟!
- (لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا): أن يعاقبوا في الدنيا بما يزجرهم ويمنعهم ويمنع أمثالهم، إما بالتعزير، وإما بالعقوبة. ومن ذلك: الحد الذي هو الجلد ثمانين جلدة، ورد الشهادة والحكم بفسقهم.
- وقد يكون من العذاب في الدنيا أن يفضحهم الله، وأن يظهر عليهم الذل وسواد الوجوه، وإن ملكوا المال والشهرة، وقاموا بعمليات التجميل: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي) (رواه أحمد، وصححه الألباني). وقال الحسن البصري -رحمه الله-: "إِنَّهُمْ وَإِنْ طَقْطَقَتْ بِهِمُ الْبِغَالُ وَهَمْلَجَتْ بِهِمُ الْبَرَاذِينُ، إِنَّ ذُلَّ الْمَعْصِيَةِ لا يُفَارِقُ قُلُوبَهُمْ، أَبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُذِلَّ مَنْ عَصَاهُ".
- وقد يعاقبهم الله -تعالى- بعقوبات ظاهرة في الدنيا، كمرض فتاك أو شلل أو فقر أو ما أشبه ذلك: (انتحار الممثل الفلاني أو الفلانية - موت الراقصة الفلانية أو المغني الفلاني بعد صراع مع المرض والفقر حيث لم يجد ثمن العلاج - وغيره..).
- (لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ): فأما في الآخرة فسنة الله ماضية في كلِّ من خالف أمر الله، وفتن الناس في دينهم، بالمحاسبة والمعاقبة: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) (البقرة: 281)، (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) (آل عمران: 30)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ الْعَبْدَ *لَيَتَكَلَّمُ *بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا يَزِلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ) (متفق عليه)؛ فكيف بهؤلاء الذين ملئوا الدنيا بالفواحش، وأفسدوا على الناس دينهم؟!
- بل إنهم لا يحاسبون على سيئاتهم فحسب؛ بل سيحاسبون على سيئاتهم، وسيئات كل من أفسدوه وفتنوه عن الهداية إلى يوم القيامة: قال الله -تبارك وتعالى-: (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ) (النحل: 25). وقال -تعالى-: (وَلَيَحْمِلُنّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ دَعَا إِلَى ضَلالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا) (رواه مسلم).
- وعند ذلك لا ينفع الندم: قال -تعالى-: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا) (الفرقان: 27)، وقال: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) (الملك: 10)، وقال: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ) (السجدة: 12).
(3) هل لهم من توبة في الدنيا؟
- تقبل توبتهم إذا صدقوا: قال -تعالى-: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا على أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزمر: 53)، وقال: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى) (طه: 82)، وقال: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) (الشورى: 25)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا) (رواه مسلم)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ) (رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني).
- ويكثر بعد التوبة من الاستغفار والعمل الصالح من صلاة وصيام وصدقة ويدعو الله بالثبات وينشغل بتهذيب نفسه وتربيتها، ويرفض كل الإغراءات التي تدعوه إلى الرجوع للمعصية، ويقطع كل الوسائل التي تربطه بذلك الفعل، وكذا يبتعد عن الانتصاب للتعليم والتوجيه وهو في حال الجهل كما يفعله كثير من المشاهير إذا اعتزلوا الضلال؛ قال العالم للتائب: (انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللهَ فَاعْبُدِ اللهَ مَعَهُمْ، وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ، فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ) (متفق عليه)، وقال -تعالى-: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُ مْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت: 69).
- وأما المال الحرام الذى حصل من عمل الفاحشة، أو إشاعتها: فإن كان غنيًّا وقادرًا على التخلص من هذا المال، وتطيب نفسه بذلك، فليتصدق به على الفقراء، كما هو مذهب جمهور العلماء، وهو أبرأ للذمة وأحوط للدين، وإن كانت نفسه لا تطاوعه بذلك، أو ربما صده ذلك عن التوبة أو وقف عائقاً أمامها، أو كان فقيرًا محتاجًا للمال: فلينتفع به؛ قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: "فطريق التخلص منه وتمام التوبة: بالصدقة به، فإن كان محتاجًا إليه فله أن يأخذ قدر حاجته، ويتصدق بالباقي، فهذا حكم كل كسب خبيث لخبث عوضه، عينًا كان أو منفعة" (زاد المعاد).
فاللهم تب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــــــ
(1) تقول الأستاذة عابدة المؤيد العظم في مقال بعنوان: "إنهم يشيعون الفاحشة": "أصبحت المسلسلات تعرِضُ "الأدواء" بطريقة يسمُّونها "جرأة"، والواقع أنها طريقة "فجة" و"وقِحة"، وأسلوبها ليس فيه خجلٌ ولا حياء، ولا مراعاةٌ للمُشاهِدِ الذي قد يكون: "عذراء في خِدرها تمتلئ حياءً، أو يكون المشاهد شابًّا لا يجد نكاحًا يُعِفُّه، أو طفلًا لم يبلُغ الحُلُم ولا يفقه شيئًا، أو عانسًا تتُوق للزواج وهي بغنًى عمن يزيدها شوقًا إليه..."، وكل هؤلاء يتابع المسلسل والبرنامج مع الوالدين؛ فكيف سيكون الموقفُ حين ذاك؟! وكيف ستشرح الأم لصغيرها ما غمض عليه وصعُب فهمه؟! وكيف سيتفهم الشاب الصبرَ؟! وكيف ستلجم العانس مشاعرَها؟
لقد كانت الفتنةُ نائمةً غافية، وكلٌّ من (الذَّكَر والأنثى) لاهٍ عن أهوائه بالدراسة والتصبر، ومكابدة الحياة، فأبَوْا على الشباب سكينتهم، وها هم يوقظون الغرائز عن عمد، وبإصرار كبير، ثم وبعد أن يتحمسَ الشباب ويلتهبوا، يتركونهم بلا "مصرف شرعي" ينفِّسون فيه حاجاتِهم الطبيعية الضرورية، فماذا ستكون النتيجة؟ وماذا سيفعل هؤلاء الشباب وهم ممتلئون بالطاقة ولا يجدون لها مصرفًا؟! سيعاكسون البنات، ويتبعون قول الشاعر: "نظرةٌ فسلام فكلام فموعد فلقاء..."، إنها النتيجة الواقعية والحتمية لمثل هذا السلوك، ونتساءل بعدها: "لِمَ كثُرَ الاغتصابُ في مجتمعاتنا؟!"، "لماذا كثُر الزواج العرفي؟"، "لماذا زاد الانحراف والفساد؟"، "لماذا يتزوَّجُ أبناؤنا بمن لا نرتضي سلوكَهن ولا دِينهن؟".
Powered by vBulletin® Version 4.2.2 Copyright © 2025 vBulletin Solutions، Inc. All rights reserved.