ابو وليد البحيرى
2022-12-15, 04:32 AM
ما بُني من الأفعال على حرف واحد
د. محمد حسان الطيان
حكى السيوطي في (البغية) أن أبا حاتم السجستاني[1] دخل بغداد فسُئل عن قوله تعالى: ﴿ قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ﴾[2]، ما يقال منه للواحد ؟ فقال: قِ، فقال: فالاثنين ؟ فقال: قيا. قال فالجمع ؟ قال: قوا، قال: فاجمع لي الثلاثة، قال: قِ، قيا، قوا.
قال وفي ناحية المسجد رجل جالس معه قماش، فقال لواحد: احتفظ بثيابي حتى أجيء، ومضى إلى صاحب الشُّرطة، وقال: إني ظفرت بقومٍ زنادقة يقرؤون القرآن على صياح الديك. فما شعرنا حتى هجم علينا الأعوان والشُّرطة فأخذونا وأحضرونا مجلس صاحب الشُّرْطة، فسألنا فتقدمت إليه وأعلمته بالخبر وقد اجتمع خلق من خلق الله، ينظرون ما يكون، فعنَّفني وقال: مثلك يطلق لسانه عند العامة بمثل هذا ! وعمَد إلى أصحابي فضربهم عشرة عشرة، وقال: لا تعودوا إلى مثل هذا، فعاد أبو حاتم إلى البصرة سريعاً، ولم يُقِمْ ببغداد ولم يأخذ عنه أهلها[3].
فعل وقى وأمثاله عند الإسناد:
سقت هذه القصة لأتوقف عند فعل (وقى) وما لفَّ لفّه مما يسمّى في العربية باللّفيف المفروق، إذ تحذف مه فاؤه لدى تصرّفه في المضارع كما تحذف من المثال الواوي (كوعد يعِد، وورد يرِد (لوقوعها بين عدوتيها الياء المفتوحة والكسرة فيصير: (يقي) ثم يُبنى على حذف حرف العلة من آخره لدى تصرفه في الأمر كما يُبنى كل معتل ناقص كـ (اسعَ، وامشِ، وادنُ) فيصير (قِ) أي إنه يبقى على حرف واحد هو عين الكلمة.
وقد جمع هذه الأفعال ابن مالك صاحب الألفية مبيّناً كيفية إسنادها للواحد المذكر، ثم المثنى مطلقاً، ثم الجمع المذكر، ثم الواحدة ثم جمعها، وذلك في عشر أبيات طريفة - ليست من الألفية - يقول فيها:
إنّي أقولُ لمنْ تُرجى مودَّتُهُ قِ المستجير قياهُ قُوهُ قِي قِينَ
وإنْ صرفتَ لوَالٍ شُغْلَ آخرَ قُلْ لِ شُغْلَ هذا لِياهُ لُوهُ لِي لِينَ
وإنْ وشَى ثوبَ غيري قلتُ في ضجرٍ شِ الثوبَ وَيْكَ شِياهُ شُوهُ شِي شِينَ
وقُلْ لقاتِل إنسانٍ على خطأٍ دِ مَنْ قتَلْتَ دِياهُ دُوهُ دِي دِينَ
وإنْ همُ لمْ يَرَوْا رأيي أَقُولُ لهمْ رَ الرأيَ وَيْكَ رَياه رَوْه رَيْ رَيْنَ
وإنْ همُ لمْ يَعُوا قوْلِي أَقُولُ لهمْ ع ِالقولَ مِنِّي عِياهُ عُوهُ عِي عِينَ
وإن أمَرْتَ بِوَأْيٍ للمُحِبِّ فقلْ إِ مَنْ تُحِبُّ إياهُ أوهُ إِي إينَ
وإنْ أردْتَ الوَنَى وَهْوَ الفُتُورُ فقلْ نِ يا خَلِيلِي نِياهُ نُوهُ نِي نِينَ
وإنْ أبَى أن يَفِي بالعهدِ قلتُ لَهُ فِ يا فلانُ فِياهُ فُوهُ فِي فِينَ
وقُلْ لساكِنِ قلْبِي إنْ سِوَاكَ بِهِ جِ القلبَ مِنِّي جِياهُ جُوهُ جِي جِينَ[4]
ذكر هذه الأبيات الشيخ الخضري في حاشيته على ابن عقيل ثم أردفها بالقول: (فهذه عشرة أفعال كلها بالكسر إلا (رَ) فيفتح في جميع أمثلته لفتح عين مضارعه، وكلها متعدية إلا (نِ) فلازم لأنه بمعنى تأنَّ. فالهاء في نِيَاه هاء المصدر لا المفعول به)[5].
والحقُّ أن هذه الأبيات لا تحيط بكل ما في العربية من أفعال اللفيف المفروق وإنما تقتصر على تسعة منها هي كل ما جاء مكسوراً فيها، أمّا (رَ) وهو المفتوح الوحيد فيها فليس من هذا الضرب، وإنما هو ناقص مهموز العين، إذ إن أصله (رأى) ومضارعه (يرأى) إلا أنَّ همزته تسقط تخفيفاً فيبقى على (يرى) ثم يبنى على حذف حرف العلة من آخره في صيغة الأمر فيبقى على (رَ) ووزنه (فَـ) لأن ما سقط منه هو العين واللام خلافاً لسائر الأفعال المذكورة في الأبيات إذ إنَّ وزنها (عِ) لأن ما سقط منها هو الفاء واللام.
* شواهد على اللفيف المفروق
وأما مبلغ عدة اللفيف المفروق في العربية فهو ثمانية عشر فعلاً وفق ما دلَّ عليه إحصاؤنا للأفعال العربية في المعجم الحاسوبي[6]. يضاف إليها أربعة أفعال لم نثبتها في معجمنا لضعف روايتها وانفراد بعض المعجمات بها. ويبلغ المجموع بها اثنين وعشرين فعلاً، فإذا استثنينا ما جاء في الأبيات السالفة منها، بقي لدينا ثلاثة عشر فعلاً تحتاج إلى مزيد بيان وإيضاح، وسأسردها فيما يلي مشفوعة بأبوابها الصرفية، ومصادرها، ومعانيها المختلفة، مع شواهد لها، محيلاً على أشهر المعجمات التي وردت فيها:
1 - وَثَى: أورد صاحب اللسان هذا الفعل بمعنى وشى في رواية - انفرد بها ابن الأعرابي وهو مولع بالنوادر - هذا نصها:
(وثى به إلى السلطان: وشى، عن ابن الأعرابي، وأنشد:
يجمع للرِّعاءِ في ثلاثِ
طولَ الصَّوى وقلةَ الإرْعاثِ
جمعَكَ للمُخاصم المُواثي
كأنه جاء على واثاه، والمعروف عندنا أثى)[7].
على حين عدّ صاحب القاموس الوثيَ لغةً في الوثء[8]، وهو وصْمٌ يصيب اللحم ولا يبلغ العظمَ فيَرِمُ[9]، قال: (الوَثْيُ الوثْءُ ووُثِيَتْ يده بالضم فهي مَوْثِيَّة)[10].
وزاد صاحب التاج: (ونصُّ الليث وُثِيَتْ يدُهُ كرُمِيَتْ)[11].
ولم يرد هذا الفعل في إحصائنا الحاسوبي السالف لضعف روايته.
2 - وحَى: وَحَى يحِي وحياً، وقد ورد هذا الفعل بعدةِ معانٍ أشهرها:
أ - الإشارة والإلهام: قال: وَحَيْتُ إليه الكلام وأوْحَيْتُ[12].
ب - الكتابة: يقال: وَحَيْتُ الكتاب أَحِيه وَحْياً أي كتبْتُه. قال العجاج:
حتّى نَحَاهم جدُّنا والنّاحي
لقَدَرٍ كانَ وحاهُ الواحي
بثرْمَداءَ جهْرةَ الفِضاحِ
جـ - الإسراع: وحى وتوحّى بالشيء أسرع[13].
3 - وَخَى: وَخَى يخِي وخْياً إذا توجه لوجه، ووخى الأمر: قصده.
أنشد الأصمعي:
قالتْ ولم تقصِدْ له ولم تَخِهْ
ما بالُ شيخٍ آضَ من تشيُّخِهْ
كالكُرّزِ المربوطِ بين أَفْرُخِهْ[14] ؟
وقال الشاعر:
لو أبصرَتْ أبْكَمَ أعْمى أصْلَخا إذاً لسَمًّى واهتدى أنَّى وَخَى
أي أنَّى توجّه[15].
يتبع
د. محمد حسان الطيان
حكى السيوطي في (البغية) أن أبا حاتم السجستاني[1] دخل بغداد فسُئل عن قوله تعالى: ﴿ قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ﴾[2]، ما يقال منه للواحد ؟ فقال: قِ، فقال: فالاثنين ؟ فقال: قيا. قال فالجمع ؟ قال: قوا، قال: فاجمع لي الثلاثة، قال: قِ، قيا، قوا.
قال وفي ناحية المسجد رجل جالس معه قماش، فقال لواحد: احتفظ بثيابي حتى أجيء، ومضى إلى صاحب الشُّرطة، وقال: إني ظفرت بقومٍ زنادقة يقرؤون القرآن على صياح الديك. فما شعرنا حتى هجم علينا الأعوان والشُّرطة فأخذونا وأحضرونا مجلس صاحب الشُّرْطة، فسألنا فتقدمت إليه وأعلمته بالخبر وقد اجتمع خلق من خلق الله، ينظرون ما يكون، فعنَّفني وقال: مثلك يطلق لسانه عند العامة بمثل هذا ! وعمَد إلى أصحابي فضربهم عشرة عشرة، وقال: لا تعودوا إلى مثل هذا، فعاد أبو حاتم إلى البصرة سريعاً، ولم يُقِمْ ببغداد ولم يأخذ عنه أهلها[3].
فعل وقى وأمثاله عند الإسناد:
سقت هذه القصة لأتوقف عند فعل (وقى) وما لفَّ لفّه مما يسمّى في العربية باللّفيف المفروق، إذ تحذف مه فاؤه لدى تصرّفه في المضارع كما تحذف من المثال الواوي (كوعد يعِد، وورد يرِد (لوقوعها بين عدوتيها الياء المفتوحة والكسرة فيصير: (يقي) ثم يُبنى على حذف حرف العلة من آخره لدى تصرفه في الأمر كما يُبنى كل معتل ناقص كـ (اسعَ، وامشِ، وادنُ) فيصير (قِ) أي إنه يبقى على حرف واحد هو عين الكلمة.
وقد جمع هذه الأفعال ابن مالك صاحب الألفية مبيّناً كيفية إسنادها للواحد المذكر، ثم المثنى مطلقاً، ثم الجمع المذكر، ثم الواحدة ثم جمعها، وذلك في عشر أبيات طريفة - ليست من الألفية - يقول فيها:
إنّي أقولُ لمنْ تُرجى مودَّتُهُ قِ المستجير قياهُ قُوهُ قِي قِينَ
وإنْ صرفتَ لوَالٍ شُغْلَ آخرَ قُلْ لِ شُغْلَ هذا لِياهُ لُوهُ لِي لِينَ
وإنْ وشَى ثوبَ غيري قلتُ في ضجرٍ شِ الثوبَ وَيْكَ شِياهُ شُوهُ شِي شِينَ
وقُلْ لقاتِل إنسانٍ على خطأٍ دِ مَنْ قتَلْتَ دِياهُ دُوهُ دِي دِينَ
وإنْ همُ لمْ يَرَوْا رأيي أَقُولُ لهمْ رَ الرأيَ وَيْكَ رَياه رَوْه رَيْ رَيْنَ
وإنْ همُ لمْ يَعُوا قوْلِي أَقُولُ لهمْ ع ِالقولَ مِنِّي عِياهُ عُوهُ عِي عِينَ
وإن أمَرْتَ بِوَأْيٍ للمُحِبِّ فقلْ إِ مَنْ تُحِبُّ إياهُ أوهُ إِي إينَ
وإنْ أردْتَ الوَنَى وَهْوَ الفُتُورُ فقلْ نِ يا خَلِيلِي نِياهُ نُوهُ نِي نِينَ
وإنْ أبَى أن يَفِي بالعهدِ قلتُ لَهُ فِ يا فلانُ فِياهُ فُوهُ فِي فِينَ
وقُلْ لساكِنِ قلْبِي إنْ سِوَاكَ بِهِ جِ القلبَ مِنِّي جِياهُ جُوهُ جِي جِينَ[4]
ذكر هذه الأبيات الشيخ الخضري في حاشيته على ابن عقيل ثم أردفها بالقول: (فهذه عشرة أفعال كلها بالكسر إلا (رَ) فيفتح في جميع أمثلته لفتح عين مضارعه، وكلها متعدية إلا (نِ) فلازم لأنه بمعنى تأنَّ. فالهاء في نِيَاه هاء المصدر لا المفعول به)[5].
والحقُّ أن هذه الأبيات لا تحيط بكل ما في العربية من أفعال اللفيف المفروق وإنما تقتصر على تسعة منها هي كل ما جاء مكسوراً فيها، أمّا (رَ) وهو المفتوح الوحيد فيها فليس من هذا الضرب، وإنما هو ناقص مهموز العين، إذ إن أصله (رأى) ومضارعه (يرأى) إلا أنَّ همزته تسقط تخفيفاً فيبقى على (يرى) ثم يبنى على حذف حرف العلة من آخره في صيغة الأمر فيبقى على (رَ) ووزنه (فَـ) لأن ما سقط منه هو العين واللام خلافاً لسائر الأفعال المذكورة في الأبيات إذ إنَّ وزنها (عِ) لأن ما سقط منها هو الفاء واللام.
* شواهد على اللفيف المفروق
وأما مبلغ عدة اللفيف المفروق في العربية فهو ثمانية عشر فعلاً وفق ما دلَّ عليه إحصاؤنا للأفعال العربية في المعجم الحاسوبي[6]. يضاف إليها أربعة أفعال لم نثبتها في معجمنا لضعف روايتها وانفراد بعض المعجمات بها. ويبلغ المجموع بها اثنين وعشرين فعلاً، فإذا استثنينا ما جاء في الأبيات السالفة منها، بقي لدينا ثلاثة عشر فعلاً تحتاج إلى مزيد بيان وإيضاح، وسأسردها فيما يلي مشفوعة بأبوابها الصرفية، ومصادرها، ومعانيها المختلفة، مع شواهد لها، محيلاً على أشهر المعجمات التي وردت فيها:
1 - وَثَى: أورد صاحب اللسان هذا الفعل بمعنى وشى في رواية - انفرد بها ابن الأعرابي وهو مولع بالنوادر - هذا نصها:
(وثى به إلى السلطان: وشى، عن ابن الأعرابي، وأنشد:
يجمع للرِّعاءِ في ثلاثِ
طولَ الصَّوى وقلةَ الإرْعاثِ
جمعَكَ للمُخاصم المُواثي
كأنه جاء على واثاه، والمعروف عندنا أثى)[7].
على حين عدّ صاحب القاموس الوثيَ لغةً في الوثء[8]، وهو وصْمٌ يصيب اللحم ولا يبلغ العظمَ فيَرِمُ[9]، قال: (الوَثْيُ الوثْءُ ووُثِيَتْ يده بالضم فهي مَوْثِيَّة)[10].
وزاد صاحب التاج: (ونصُّ الليث وُثِيَتْ يدُهُ كرُمِيَتْ)[11].
ولم يرد هذا الفعل في إحصائنا الحاسوبي السالف لضعف روايته.
2 - وحَى: وَحَى يحِي وحياً، وقد ورد هذا الفعل بعدةِ معانٍ أشهرها:
أ - الإشارة والإلهام: قال: وَحَيْتُ إليه الكلام وأوْحَيْتُ[12].
ب - الكتابة: يقال: وَحَيْتُ الكتاب أَحِيه وَحْياً أي كتبْتُه. قال العجاج:
حتّى نَحَاهم جدُّنا والنّاحي
لقَدَرٍ كانَ وحاهُ الواحي
بثرْمَداءَ جهْرةَ الفِضاحِ
جـ - الإسراع: وحى وتوحّى بالشيء أسرع[13].
3 - وَخَى: وَخَى يخِي وخْياً إذا توجه لوجه، ووخى الأمر: قصده.
أنشد الأصمعي:
قالتْ ولم تقصِدْ له ولم تَخِهْ
ما بالُ شيخٍ آضَ من تشيُّخِهْ
كالكُرّزِ المربوطِ بين أَفْرُخِهْ[14] ؟
وقال الشاعر:
لو أبصرَتْ أبْكَمَ أعْمى أصْلَخا إذاً لسَمًّى واهتدى أنَّى وَخَى
أي أنَّى توجّه[15].
يتبع