طلال بن صالح النفيعي
2022-10-20, 06:45 PM
الرد العلمي في توجيه استعمال ابن تيمية لكلمة «يستتاب وإلا قتل»
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ﷺ وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإنّ كثيرا من العبارات العلمية التي يستعملها أهلُ العلم - لاسيما الفقهاء وغيرهم - تعتبر مصطلحاتٍ ذات قيمة شرعية؛ مما يجعلها معتبرةً؛ سواء في الجانب الفقهي أو القضائي أو غيرهما.
فكان من تلكم العبارات العلمية التي تمثل معنى مهما عند عامة أهل العلم عبارة: «يستتاب فإن تاب وإلا قتل»، وهي مع كونها ذات دلالة مهمة في كتب الفقه خاصة؛ سواء في أبواب الجنايات أو الحدود أو الردة ونحوها، إلا أنّ بعضَ الجهال من أهل الأهواء والبدع قد وقف مع هذه العبارة بشيء من التمويه والتدليس، الأمر الذي أضرّ بنفسه حتى أمسى معارضًا لفتاوى أهل العلم: ما بين تعطيل لأحكام الشريعة وبين اتهام لأهل العلم الكبار، وأخص منهم: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
لأجل هذا؛ فقد أحببت أن أقف مع هذه الدعاوي الباطلة بشيء من الاختصار من خلال بعض الوقفات العلمية، كما يلي:
الوقفة الأولى: أنَ عبارةَ «يستتاب وإلا قتل»: تُعدُّ من أهم الاصطلاحات الفقهية التي يستخدمها علماء الشريعة في أبواب الجنايات والحدود والأحكام والردة ونحوها؛ فجميع أصحاب المذاهب الفقهية يستعملونها وينصون عليها من أحناف ومالكية وشافعية وحنابلة وغيرهم. انظر: «بدائع الصنائع» (7/135)، و«المبسوط» (10/99)، و«الكافي في فقه أهل المدينة» (2/109)، و«البيان والتحصيل» لابن رشد (16/431)، و«الأم» للشافعي (1/295)، و«مختصر المزني» (8/128)، و«مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود» (353)، و«العدة شرح العمدة» لابن تيمية (616)، وغيرها.
لأجل هذا؛ لم تكن هذه العبارة حقًّا مستباحًا لكل أحد، بل هي من الأحكام القضائية التي تختص بأهل القضاء، لا بالفقهاء ونحوهم؛ وعليه فما يقوله الفقهاء عن أحد المسلمين: «يستتاب وإلا قتل»: فهم في حقيقة الأمر يحكمون عليه فقهيًّا لا قضائيًّا، بمعنى: أنّ المحكومَ عليه يجب أن يُحالَ أمرُه للقضاء للنظر في تهمته، فليس للفقيه حق التصرف انطلاقًا من الفتوى التي يصدرها، كما هو معلوم.
الوقفة الثانية: أنّ القاضي الشرعي لا يقضي في مسألة إلا بشروط معروفة، منها: أن يكون مفوضا من ولي أمر المسلمين - أو نائبه -، كما لا يخفى، وعليه فإنّ الاستتابةَ حقٌ قضائي، ليس لآحاد الرعية الافتيات عليها.
الوقفة الثالثة: أنّ القاضي الشرعي لا يقضي بحكمه على المتهم إلا بعد ثلاثة أمور:
الأمر الأول: أنّ التهمةَ التي وُجِّهت للمسلم تُعدُّ قضيةً قضائية، ولا يمكن ثبوتها على المكلف إلا ببينة، والبينة في هذا الباب هي أحد أمرين: الإقرار - كسائر الحدود -، أو الشهود. انظر: «التلقين» ( 120)، و«المقدمات» لابن رشد ( 214).
الأمر الثاني: أنّ القضيةَ إذا ثبتت - بالإقرار أو الشاهد - في حق المتهم، فإنها متوقف أيضا بعد ثبوتها على انتفاء الشبهة، وهذا ما تشهد به النصوص وعمل الفقهاء، فعن عائشة قالت: قال رسول الله ﷺ: «ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن وجدتم للمسلم مخرجا فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير له من أن يخطئ في العقوبة» أخرجه البيهقي في: «السنن الكبرى» (17057)، عن علي مرفوعا بلفظ: «ادرءوا الحدود» وضعفه، وقال في «خلافياته»: إنه شبه لا شيء. وأخرجه الترمذي (1424)، والحاكم (4/384)، من حديث عائشة بلفظ: «ادرءوا الحدود عن المسلمين... »، وضعفه.
وقال عمر بن الخطاب ططط: «لأن أعطل الحدود بالشبهات أحب إلي من أن أقيمها بالشبهات». انظر: «الاستذكار» أخرجه ابن أبي شيبة (9/567)، وانظر: «الاستذكار» لابن عبد البر (8/13).
ولذلك نص الفقهاء على أنّ الحدودَ لا تقبل فيها العبارة المشتركة، ولا اللفظ المحتمل، بل لا بد من التفصيل.
ومن الشبه التي تدرأ بها الحدود: عدمُ توفر الشروط ووجودُ الموانع، فلا يمكن إثبات حكم قضائي مع تخلف شرط من شروطه أو وجود مانع من موانعه.
فمن الشروط: العلم والقدرة باتفاق، فالجاهل لا يكفر، وغير القادر - وهو المكره ونحوه - لا يكفر، ومن الموانع: الجهل والإكراه والخطأ والنسيان وغير ذلك.
يقول ابن تيمية رحمه الله في «مجموع الفتاوى» (3/354): «أن المقالة تكون كفرا: كجحد وجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج, وتحليل الزنا والخمر والميسر ونكاح ذوات المحارم. ثم القائل بها قد يكون بحيث لم يبلغه الخطاب.
وكذا لا يكفر به جاحده, كمن هو حديث عهد بالإسلام, أو نشأ ببادية بعيدة لم تبلغه شرائع الإسلام، فهذا لا يحكم بكفره بجحد شيء مما أنزل على الرسول إذا لم يعلم أنه أنزل على الرسول».
ويقول ابن القيم في «مدارج السالكين» (1/226) - معلقا على حديث الرجل الذي أخطأ من شدة الفرح -: «وفي الحديث من قواعد العلم: أن اللفظ الذي يجري على لسان العبد خطأ - من فرح شديد، أو غيظ شديد ونحوه - لا يؤاخذ به، ولهذا لم يكن هذا كافرا بقوله: أنت عبدي وأنا ربك. ومعلوم أن تأثير الغضب في عدم القصد يصل إلى هذه الحال، أو أعظم منها، فلا ينبغي مؤاخذة الغضبان بما صدر منه في حال شدة غضبه من نحو هذا الكلام، ولا يقع طلاقه بذلك، ولا ردته»، ومثل الخطإ في ذلك: التأويل».
واشتراط انتفاء جميع الموانع: هو احتراز من عدم القصد، يقول ابن تيمية رحمه الله في «مجموع الفتاوى» (23/346): «وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها، قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون عنده ولم تثبت عنده، أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون قد عرضت له شبهات يعذره الله بها، فمن كان من المؤمنين مجتهدا في طلب الحق وأخطأ، فإن الله يغفر له خطأه كائنا ما كان، سواء كان في المسائل النظرية أو العملية، هذا الذي عليه أصحاب النبي ﷺ، وجماهير أئمة الإسلام، وما قسموا المسائل إلى مسائل أصول يكفر بإنكارها، ومسائل فروع لا يكفر بإنكارها».
الأمر الثالث: أن التهمة إذا ثبتت في حق المكلف - بعد انتفاء الشبه واستيفاء الشروط وانتفاء الموانع - حينها يتريث القاضي في تنزيل الحكم بالمتهم حتى يراجع المكلف نفسه ويتوب إلى الله، فعندها يمهل ثلاثة أيام وجوبا في الأشهر، دون تعذيب ولا ضرب ونحوه.
قال مالك: «وما علمت في استتابة تجويعا ولا تعطيشا، وأن يقات من الطعام بما لا يضره». انظر: «البيان في مذهب الإمام الشافعي» (12/48)، و«الطرق الحكمية» لابن القيم ( 31)، و«مواهب الجليل» (4/140)، وغيرها.
الوقفة الرابعة: أن كلمة الاستتابة، لم تجر على ألسنة أهل العلم، ولم تدون في مدوناتهم الفقهية وغيرها إلا لأمرين مهمين:
الأول: حماية جناب الشرع وحفظ مقاصده: بتطبيق أحكام الشريعة وعدم تعطيلها، وألا يتطاول المسلم على الأحكام الشرعية بالتعطيل والتكذيب والتحريف كما هو مسلك المنافقين وأعداء الدين ممن يتظاهرون بالإسلام، وهو منهم براء.
الثاني: حفظ حق المسلم بكل ما من شأنه أن يفتح له باب الإعذار والتوبة والرجوع إلى دائرة الإسلام بالإقرار به جملة وتفصيلا، لا سيما فيما اتهم فيه من استحلال محرم أو جحد أمر أو غير ذلك من الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة.
وعليه؛ كان واجبا على كل مسلم أن يحمل عبارة أهل العلم: «يستتاب وإلا قتل»، على محملها الذي جاءت فيه شرعا ووضعا، دون اعتساف أو إجحاف، وأن يدير معناها بين اصطلاح الفقهاء والقضاة، دون ما سواهم، والله الموفق.
ومن خلال ما بيَّناهُ في توجيه هذه المقولة الشرعية: كان واجبا على عموم المسلمين أن يقفوا مع معناها ومدلولاتها وشروطها وقفةَ المتبع لا المبتدع؛ أي: يكونوا متبعين لأئمة المسلمين فيما قرروه وفيما قالوه حكما وشرطا، كما مضى ذكره!
ومع هذا وذاك؛ إلا أننا وجدنا بعض الجهال من أهل عصرنا ممن ناصبوا العداء لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله جهلا منهم وظلما وعدوانا، ﴿والله لا يحب الظالمين﴾ [آل عمران: 57]، فكان من بادئ رأيهم: أن ابن تيمية كان مكثرا من ذكر «الاستتابة»، في كتبه وفتاواه!
قلت: إنّ ما ذكروه من كثرة وجود هذه المقولة في كتب ابن تيمية وفتاواه، لهو شيء موجود وأمر مذكور، وليس في هذا مما يُعابُ عليه ابن تيمية أو يُلامُ على كثرة ذكره له؛ لأن ابن تيمية رحمه الله لم يكن مكثرا لهذه المقولة إلا لأمور معتبرة وأوجه علمية لا يختلف فيها اثنان ولا ينتطح عليها عنزان، فمن ذلك ما يلي باختصار:
الأمر الأول: أن غالب كتب ابن تيمية رحمه الله دائرة حول تقريرات أصول الدين والرد على المخالفين من أهل الملل والنحل وأهل المقالات والفرق الباطلة على اختلاف مشاربهم.
فأما أهل الملل والنحل فكثير: كاليهود والنصارى والمجوس والفلاسفة - الدهرية والالهية - والباطنيين والزنادقة وغيرهم من أهل الكفر والنفاق.
وأما أهل المقالات والفرق الكلامية البدعية فأكثر: كالجهمية والمعتزلة والكلابية والكرامية والأشاعرة والشيعة والخوارج والصوفية والمرجئة، وغيرهم.
فأمر هذا سبيله، وهذه طريقته، كان مناسبا لابن تيمية أن يذكر الاستتابة قلة وكثرة كما يفرضها المنهج العلمي؛ لا سيما عند المحاققة والمناظرة والمجادلة مما يعرفه عامة أهل العلم، وأخص منهم: أئمة السنة الذين أكثروا في مصنفاتهم الرد على المخالفين من أهل الأهواء والبدع.
لذا فإن وجود كلمة الاستتابة في أكثر مصنفات ردود أئمة السنة: قد أخذت منهم محلا للذكر والتذكير حكما وإلزاما؛ بخلاف وجودها في كتبهم التي صنفت تقريرا لأصول أهل السنة لا ردا على المخالفين لها، فتأمل.
وهذا المسلك هو السبيل الذي طرقه ابن تيمية في رده على المخالفين من أهل الملل والمقالات والفرق الباطلة، فعندئذ لا ينبغي الالتفات إلى مثل هذه القالات التي يذكرها أهل الجهل والتقليد - من أهل الأهواء والبدع - في مناكفاتهم لمسلك ابن تيمية العلمي في رده على المخالفين من أهل الملل والمقالات الفاسدة.
الأمر الثاني: أن ابن تيمية رحمه الله يُعدُّ واحدا من المكثرين في التأليف والتصنيف ما يعرفه الجميع؛ حيث تجاوزت كتبه ورسائله وفتاواه الألفية أو يزيد، كما شهد بذلك أهل العلم قديما وحديثا!
لأجل هذا؛ فمن كان مكثرا من التأليف والتصنيف، وكانت أيضا معظم مصنفاته قد دونت في الرد على المخالفين من أهل الملل والنحل وأصحاب المقالات البدعية، كان - والحالة هذه -: أن تكون كلمة الاستتابة في مثاني كتبه ذات اعتبار لا محل إنكار، فشيء هذا مسلكه العلمي الجدلي كان ينبغي أن يحمل على مقصده الحسن لا أن يساء فهما؛ لا سيما ممن تسلق محراب العلم بغير بصيرة، ومن الذين لا يدركون حقائق الأمور ومقاصدها!
الأمر الثالث: أننا إذا نظرنا إلى كتاب من كتب الفقه مثلا؛ لوجدنا أن صاحبه قد ذكر كلمة «الاستتابة» في أبواب الردة والبغاة والحدود الشيء الكثير، وذلك باعتبار توظيف حكمها الفقهي على المرتد أو المخالف لأصل شرعي، كما هو مستفيض في كتب الفقه، فكيف والحالة هذه إذا قرأنا كتابا صنفه صاحبه في الرد على المخالفين لأصول اعتقاد أهل السنة؟!
فهذا مثلا: كتاب «التمهيد» لابن عبد البر، المتوفى سنة (463)، نجد أنه قد ذكر كلمة «الاستتابة»: (142) مرة، وكذا كتاب «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي، المتوفى سنة (671)، نجده أيضا قد ذكرها: (84) مرة، وغيرهما كثير.
هذا إذا علم الجميع أن الكتاب الأول صنف في شرح الأحاديث، والثاني في تفسير القرآن، فكيف إذا أردنا كتابا قد صنفه صاحبه في الرد على المخالفين في أصول الاعتقاد؟!
فعندئذ كان سائغا أن يكثر ابن تيمية من ذكر «الاستتابة» في مصنفاته ورسائله التي تجاوزت الآن أكثر من مائتين مصنفا: ما بين مجلد ورسالة وغير ذلك، والتي دون غالبها في الرد على المخالفين في أصول الاعتقاد، فشيء هذا سبيله مما يدل على حسن مسلك ابن تيمية العلمي وصحة أصوله وقواعده في مسلك الرد على المخالفين من أهل الملل والنحل وعلى أهل المقالات والفرق البدعية على اختلاف أصنافهم وأفكارهم ومذاهبهم!
فعندها لا يبقى لأحد أن يورد على ابن تيمية: إكثاره من كلمة الاستتابة في مصنفاته، وإلا عد منكرها على ابن تيمية جاهلا قد حبس في ظلمات هواه، والله يهدي من يشاء.
الأمر الرابع: أن الإكثار من ذكر الاستتابة في كتاب دون آخر ليس دليلا على صحة أو فساد مسلك مؤلفه؛ لأن العبرة ليست في الكثرة أو القلة؛ بل العبرة في حقيقة توظيف حكمها الفقهي الصحيح، فإذا كان صاحبها أنزلها في مكانها الصحيح فقها ودليلا واستدلالا فلا عتب عليه حينئذ؛ بخلاف من أسرف في ذكرها جهلا منه لحكمها الفقهي والاستدلالي.
فإذا نظرنا إلى كلمة «الاستتابة» في كتب ابن تيمية رحمه الله: فإننا نجدها قد دارت بين تقريرات إمام كبير بلغ مرتبة الاجتهاد وبين صحة توظيفها في مكانها الشرعي الصحيح، فحينها أين محلُّ الانكار على من هذا شأنه وهذه طريقته الشرعية؟!
ويدل على ذلك؛ أنّه بالتتبع والاستقراء لكلمة «يستتاب أو يقتل» في جميع كتب وفتاوى ابن تيمية: وجدناها عند توظيفها الفقهي قد استوفت شروطُها وتحققت دلالاتُها الشرعية؛ لكونه رحمه الله قد استعملها في حالات معتبرة ومقامات مقررة، مثل: مَنْ جحد أو استباح معلوما من الدين بالضرورة - وجوبًا أو حرمةً -، أو أنكر أصلا شرعيا مجمعا عليه، أو خالف إجماعا متفقا عليه عند أهل السنة والجماعة، أو غير ذلك من الأمور التي يستوجبُ على صاحبها التوبةُ منها وإلا كان كافرا أو مرتدا كما تقتضيه الأدلة الشرعية!
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين.
وكتبه
فضيلة الشيخ الدكتور
ذياب بن سعد آل حمدان الغامدي
ليلة الجمعة الموافق (25/ربيع الأول/1444)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ﷺ وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإنّ كثيرا من العبارات العلمية التي يستعملها أهلُ العلم - لاسيما الفقهاء وغيرهم - تعتبر مصطلحاتٍ ذات قيمة شرعية؛ مما يجعلها معتبرةً؛ سواء في الجانب الفقهي أو القضائي أو غيرهما.
فكان من تلكم العبارات العلمية التي تمثل معنى مهما عند عامة أهل العلم عبارة: «يستتاب فإن تاب وإلا قتل»، وهي مع كونها ذات دلالة مهمة في كتب الفقه خاصة؛ سواء في أبواب الجنايات أو الحدود أو الردة ونحوها، إلا أنّ بعضَ الجهال من أهل الأهواء والبدع قد وقف مع هذه العبارة بشيء من التمويه والتدليس، الأمر الذي أضرّ بنفسه حتى أمسى معارضًا لفتاوى أهل العلم: ما بين تعطيل لأحكام الشريعة وبين اتهام لأهل العلم الكبار، وأخص منهم: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
لأجل هذا؛ فقد أحببت أن أقف مع هذه الدعاوي الباطلة بشيء من الاختصار من خلال بعض الوقفات العلمية، كما يلي:
الوقفة الأولى: أنَ عبارةَ «يستتاب وإلا قتل»: تُعدُّ من أهم الاصطلاحات الفقهية التي يستخدمها علماء الشريعة في أبواب الجنايات والحدود والأحكام والردة ونحوها؛ فجميع أصحاب المذاهب الفقهية يستعملونها وينصون عليها من أحناف ومالكية وشافعية وحنابلة وغيرهم. انظر: «بدائع الصنائع» (7/135)، و«المبسوط» (10/99)، و«الكافي في فقه أهل المدينة» (2/109)، و«البيان والتحصيل» لابن رشد (16/431)، و«الأم» للشافعي (1/295)، و«مختصر المزني» (8/128)، و«مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود» (353)، و«العدة شرح العمدة» لابن تيمية (616)، وغيرها.
لأجل هذا؛ لم تكن هذه العبارة حقًّا مستباحًا لكل أحد، بل هي من الأحكام القضائية التي تختص بأهل القضاء، لا بالفقهاء ونحوهم؛ وعليه فما يقوله الفقهاء عن أحد المسلمين: «يستتاب وإلا قتل»: فهم في حقيقة الأمر يحكمون عليه فقهيًّا لا قضائيًّا، بمعنى: أنّ المحكومَ عليه يجب أن يُحالَ أمرُه للقضاء للنظر في تهمته، فليس للفقيه حق التصرف انطلاقًا من الفتوى التي يصدرها، كما هو معلوم.
الوقفة الثانية: أنّ القاضي الشرعي لا يقضي في مسألة إلا بشروط معروفة، منها: أن يكون مفوضا من ولي أمر المسلمين - أو نائبه -، كما لا يخفى، وعليه فإنّ الاستتابةَ حقٌ قضائي، ليس لآحاد الرعية الافتيات عليها.
الوقفة الثالثة: أنّ القاضي الشرعي لا يقضي بحكمه على المتهم إلا بعد ثلاثة أمور:
الأمر الأول: أنّ التهمةَ التي وُجِّهت للمسلم تُعدُّ قضيةً قضائية، ولا يمكن ثبوتها على المكلف إلا ببينة، والبينة في هذا الباب هي أحد أمرين: الإقرار - كسائر الحدود -، أو الشهود. انظر: «التلقين» ( 120)، و«المقدمات» لابن رشد ( 214).
الأمر الثاني: أنّ القضيةَ إذا ثبتت - بالإقرار أو الشاهد - في حق المتهم، فإنها متوقف أيضا بعد ثبوتها على انتفاء الشبهة، وهذا ما تشهد به النصوص وعمل الفقهاء، فعن عائشة قالت: قال رسول الله ﷺ: «ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن وجدتم للمسلم مخرجا فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير له من أن يخطئ في العقوبة» أخرجه البيهقي في: «السنن الكبرى» (17057)، عن علي مرفوعا بلفظ: «ادرءوا الحدود» وضعفه، وقال في «خلافياته»: إنه شبه لا شيء. وأخرجه الترمذي (1424)، والحاكم (4/384)، من حديث عائشة بلفظ: «ادرءوا الحدود عن المسلمين... »، وضعفه.
وقال عمر بن الخطاب ططط: «لأن أعطل الحدود بالشبهات أحب إلي من أن أقيمها بالشبهات». انظر: «الاستذكار» أخرجه ابن أبي شيبة (9/567)، وانظر: «الاستذكار» لابن عبد البر (8/13).
ولذلك نص الفقهاء على أنّ الحدودَ لا تقبل فيها العبارة المشتركة، ولا اللفظ المحتمل، بل لا بد من التفصيل.
ومن الشبه التي تدرأ بها الحدود: عدمُ توفر الشروط ووجودُ الموانع، فلا يمكن إثبات حكم قضائي مع تخلف شرط من شروطه أو وجود مانع من موانعه.
فمن الشروط: العلم والقدرة باتفاق، فالجاهل لا يكفر، وغير القادر - وهو المكره ونحوه - لا يكفر، ومن الموانع: الجهل والإكراه والخطأ والنسيان وغير ذلك.
يقول ابن تيمية رحمه الله في «مجموع الفتاوى» (3/354): «أن المقالة تكون كفرا: كجحد وجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج, وتحليل الزنا والخمر والميسر ونكاح ذوات المحارم. ثم القائل بها قد يكون بحيث لم يبلغه الخطاب.
وكذا لا يكفر به جاحده, كمن هو حديث عهد بالإسلام, أو نشأ ببادية بعيدة لم تبلغه شرائع الإسلام، فهذا لا يحكم بكفره بجحد شيء مما أنزل على الرسول إذا لم يعلم أنه أنزل على الرسول».
ويقول ابن القيم في «مدارج السالكين» (1/226) - معلقا على حديث الرجل الذي أخطأ من شدة الفرح -: «وفي الحديث من قواعد العلم: أن اللفظ الذي يجري على لسان العبد خطأ - من فرح شديد، أو غيظ شديد ونحوه - لا يؤاخذ به، ولهذا لم يكن هذا كافرا بقوله: أنت عبدي وأنا ربك. ومعلوم أن تأثير الغضب في عدم القصد يصل إلى هذه الحال، أو أعظم منها، فلا ينبغي مؤاخذة الغضبان بما صدر منه في حال شدة غضبه من نحو هذا الكلام، ولا يقع طلاقه بذلك، ولا ردته»، ومثل الخطإ في ذلك: التأويل».
واشتراط انتفاء جميع الموانع: هو احتراز من عدم القصد، يقول ابن تيمية رحمه الله في «مجموع الفتاوى» (23/346): «وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها، قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون عنده ولم تثبت عنده، أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون قد عرضت له شبهات يعذره الله بها، فمن كان من المؤمنين مجتهدا في طلب الحق وأخطأ، فإن الله يغفر له خطأه كائنا ما كان، سواء كان في المسائل النظرية أو العملية، هذا الذي عليه أصحاب النبي ﷺ، وجماهير أئمة الإسلام، وما قسموا المسائل إلى مسائل أصول يكفر بإنكارها، ومسائل فروع لا يكفر بإنكارها».
الأمر الثالث: أن التهمة إذا ثبتت في حق المكلف - بعد انتفاء الشبه واستيفاء الشروط وانتفاء الموانع - حينها يتريث القاضي في تنزيل الحكم بالمتهم حتى يراجع المكلف نفسه ويتوب إلى الله، فعندها يمهل ثلاثة أيام وجوبا في الأشهر، دون تعذيب ولا ضرب ونحوه.
قال مالك: «وما علمت في استتابة تجويعا ولا تعطيشا، وأن يقات من الطعام بما لا يضره». انظر: «البيان في مذهب الإمام الشافعي» (12/48)، و«الطرق الحكمية» لابن القيم ( 31)، و«مواهب الجليل» (4/140)، وغيرها.
الوقفة الرابعة: أن كلمة الاستتابة، لم تجر على ألسنة أهل العلم، ولم تدون في مدوناتهم الفقهية وغيرها إلا لأمرين مهمين:
الأول: حماية جناب الشرع وحفظ مقاصده: بتطبيق أحكام الشريعة وعدم تعطيلها، وألا يتطاول المسلم على الأحكام الشرعية بالتعطيل والتكذيب والتحريف كما هو مسلك المنافقين وأعداء الدين ممن يتظاهرون بالإسلام، وهو منهم براء.
الثاني: حفظ حق المسلم بكل ما من شأنه أن يفتح له باب الإعذار والتوبة والرجوع إلى دائرة الإسلام بالإقرار به جملة وتفصيلا، لا سيما فيما اتهم فيه من استحلال محرم أو جحد أمر أو غير ذلك من الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة.
وعليه؛ كان واجبا على كل مسلم أن يحمل عبارة أهل العلم: «يستتاب وإلا قتل»، على محملها الذي جاءت فيه شرعا ووضعا، دون اعتساف أو إجحاف، وأن يدير معناها بين اصطلاح الفقهاء والقضاة، دون ما سواهم، والله الموفق.
ومن خلال ما بيَّناهُ في توجيه هذه المقولة الشرعية: كان واجبا على عموم المسلمين أن يقفوا مع معناها ومدلولاتها وشروطها وقفةَ المتبع لا المبتدع؛ أي: يكونوا متبعين لأئمة المسلمين فيما قرروه وفيما قالوه حكما وشرطا، كما مضى ذكره!
ومع هذا وذاك؛ إلا أننا وجدنا بعض الجهال من أهل عصرنا ممن ناصبوا العداء لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله جهلا منهم وظلما وعدوانا، ﴿والله لا يحب الظالمين﴾ [آل عمران: 57]، فكان من بادئ رأيهم: أن ابن تيمية كان مكثرا من ذكر «الاستتابة»، في كتبه وفتاواه!
قلت: إنّ ما ذكروه من كثرة وجود هذه المقولة في كتب ابن تيمية وفتاواه، لهو شيء موجود وأمر مذكور، وليس في هذا مما يُعابُ عليه ابن تيمية أو يُلامُ على كثرة ذكره له؛ لأن ابن تيمية رحمه الله لم يكن مكثرا لهذه المقولة إلا لأمور معتبرة وأوجه علمية لا يختلف فيها اثنان ولا ينتطح عليها عنزان، فمن ذلك ما يلي باختصار:
الأمر الأول: أن غالب كتب ابن تيمية رحمه الله دائرة حول تقريرات أصول الدين والرد على المخالفين من أهل الملل والنحل وأهل المقالات والفرق الباطلة على اختلاف مشاربهم.
فأما أهل الملل والنحل فكثير: كاليهود والنصارى والمجوس والفلاسفة - الدهرية والالهية - والباطنيين والزنادقة وغيرهم من أهل الكفر والنفاق.
وأما أهل المقالات والفرق الكلامية البدعية فأكثر: كالجهمية والمعتزلة والكلابية والكرامية والأشاعرة والشيعة والخوارج والصوفية والمرجئة، وغيرهم.
فأمر هذا سبيله، وهذه طريقته، كان مناسبا لابن تيمية أن يذكر الاستتابة قلة وكثرة كما يفرضها المنهج العلمي؛ لا سيما عند المحاققة والمناظرة والمجادلة مما يعرفه عامة أهل العلم، وأخص منهم: أئمة السنة الذين أكثروا في مصنفاتهم الرد على المخالفين من أهل الأهواء والبدع.
لذا فإن وجود كلمة الاستتابة في أكثر مصنفات ردود أئمة السنة: قد أخذت منهم محلا للذكر والتذكير حكما وإلزاما؛ بخلاف وجودها في كتبهم التي صنفت تقريرا لأصول أهل السنة لا ردا على المخالفين لها، فتأمل.
وهذا المسلك هو السبيل الذي طرقه ابن تيمية في رده على المخالفين من أهل الملل والمقالات والفرق الباطلة، فعندئذ لا ينبغي الالتفات إلى مثل هذه القالات التي يذكرها أهل الجهل والتقليد - من أهل الأهواء والبدع - في مناكفاتهم لمسلك ابن تيمية العلمي في رده على المخالفين من أهل الملل والمقالات الفاسدة.
الأمر الثاني: أن ابن تيمية رحمه الله يُعدُّ واحدا من المكثرين في التأليف والتصنيف ما يعرفه الجميع؛ حيث تجاوزت كتبه ورسائله وفتاواه الألفية أو يزيد، كما شهد بذلك أهل العلم قديما وحديثا!
لأجل هذا؛ فمن كان مكثرا من التأليف والتصنيف، وكانت أيضا معظم مصنفاته قد دونت في الرد على المخالفين من أهل الملل والنحل وأصحاب المقالات البدعية، كان - والحالة هذه -: أن تكون كلمة الاستتابة في مثاني كتبه ذات اعتبار لا محل إنكار، فشيء هذا مسلكه العلمي الجدلي كان ينبغي أن يحمل على مقصده الحسن لا أن يساء فهما؛ لا سيما ممن تسلق محراب العلم بغير بصيرة، ومن الذين لا يدركون حقائق الأمور ومقاصدها!
الأمر الثالث: أننا إذا نظرنا إلى كتاب من كتب الفقه مثلا؛ لوجدنا أن صاحبه قد ذكر كلمة «الاستتابة» في أبواب الردة والبغاة والحدود الشيء الكثير، وذلك باعتبار توظيف حكمها الفقهي على المرتد أو المخالف لأصل شرعي، كما هو مستفيض في كتب الفقه، فكيف والحالة هذه إذا قرأنا كتابا صنفه صاحبه في الرد على المخالفين لأصول اعتقاد أهل السنة؟!
فهذا مثلا: كتاب «التمهيد» لابن عبد البر، المتوفى سنة (463)، نجد أنه قد ذكر كلمة «الاستتابة»: (142) مرة، وكذا كتاب «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي، المتوفى سنة (671)، نجده أيضا قد ذكرها: (84) مرة، وغيرهما كثير.
هذا إذا علم الجميع أن الكتاب الأول صنف في شرح الأحاديث، والثاني في تفسير القرآن، فكيف إذا أردنا كتابا قد صنفه صاحبه في الرد على المخالفين في أصول الاعتقاد؟!
فعندئذ كان سائغا أن يكثر ابن تيمية من ذكر «الاستتابة» في مصنفاته ورسائله التي تجاوزت الآن أكثر من مائتين مصنفا: ما بين مجلد ورسالة وغير ذلك، والتي دون غالبها في الرد على المخالفين في أصول الاعتقاد، فشيء هذا سبيله مما يدل على حسن مسلك ابن تيمية العلمي وصحة أصوله وقواعده في مسلك الرد على المخالفين من أهل الملل والنحل وعلى أهل المقالات والفرق البدعية على اختلاف أصنافهم وأفكارهم ومذاهبهم!
فعندها لا يبقى لأحد أن يورد على ابن تيمية: إكثاره من كلمة الاستتابة في مصنفاته، وإلا عد منكرها على ابن تيمية جاهلا قد حبس في ظلمات هواه، والله يهدي من يشاء.
الأمر الرابع: أن الإكثار من ذكر الاستتابة في كتاب دون آخر ليس دليلا على صحة أو فساد مسلك مؤلفه؛ لأن العبرة ليست في الكثرة أو القلة؛ بل العبرة في حقيقة توظيف حكمها الفقهي الصحيح، فإذا كان صاحبها أنزلها في مكانها الصحيح فقها ودليلا واستدلالا فلا عتب عليه حينئذ؛ بخلاف من أسرف في ذكرها جهلا منه لحكمها الفقهي والاستدلالي.
فإذا نظرنا إلى كلمة «الاستتابة» في كتب ابن تيمية رحمه الله: فإننا نجدها قد دارت بين تقريرات إمام كبير بلغ مرتبة الاجتهاد وبين صحة توظيفها في مكانها الشرعي الصحيح، فحينها أين محلُّ الانكار على من هذا شأنه وهذه طريقته الشرعية؟!
ويدل على ذلك؛ أنّه بالتتبع والاستقراء لكلمة «يستتاب أو يقتل» في جميع كتب وفتاوى ابن تيمية: وجدناها عند توظيفها الفقهي قد استوفت شروطُها وتحققت دلالاتُها الشرعية؛ لكونه رحمه الله قد استعملها في حالات معتبرة ومقامات مقررة، مثل: مَنْ جحد أو استباح معلوما من الدين بالضرورة - وجوبًا أو حرمةً -، أو أنكر أصلا شرعيا مجمعا عليه، أو خالف إجماعا متفقا عليه عند أهل السنة والجماعة، أو غير ذلك من الأمور التي يستوجبُ على صاحبها التوبةُ منها وإلا كان كافرا أو مرتدا كما تقتضيه الأدلة الشرعية!
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين.
وكتبه
فضيلة الشيخ الدكتور
ذياب بن سعد آل حمدان الغامدي
ليلة الجمعة الموافق (25/ربيع الأول/1444)