ابو وليد البحيرى
2022-10-18, 08:02 AM
اللغة العربية في نظر السلف الصالح
عرفان عبدالدايم محمد أحمد عبدالله
"ما ذلَّتْ لغةُ شعب إلا ذلَّ، ولا انحطَّت إلا كان أمره في ذَهاب وإدبار"؛ مصطفى صادق الرافعي.
ملخص البحث:
جاء هذه البحث ليضع بين يدي القارئ الكريم مجموعة نقاط أساسيَّة، تدور حول اهتمام السلف الصالح باللغة العربية، وجاء هذا البحث في مقدمة، وأربعة مطالب وخاتمة، في المقدمة بيَّن الباحث خُطَّة البحث، وفي المطلب الأول: حِرْص السلف الصالح على اللسان العربي الفصيح، وتحدَّث الباحث فيه عن الآثار الواردة عن سلفنا الصالح في حبِّهم للغة العربية، واهتمامهم بها، وحثهم على تعلُّمها.
والمطلب الثاني:
نظرة إلى أسباب نشأة النحو العربي ومفهومه، وفيه تكلَّم الباحث عن المفهوم الرشيد للنحو، وأسبابه ونشأته، وعن قضيَّة تأثُّره بالعلوم اليونانيَّة أو غيرها، وخلص إلى أن النحو علم عربي خالص النشأة، ولكنه تأثَّر بالمنطق اليوناني تأثُّر تطوُّر،
والمطلب الثالث: نظرة إلى الترجمة، ومدى جدواها في حياة المسلم، وذكَر البحث بعض المسلَّمات، منها: أن الترجمة من لغة إلى لغة - مهما تكن دقتها - لا تحمل كل ما في اللغة الأم من معانٍ، خاصة إذا كانت اللغة الأم أقل ثراء من اللغة المُترجَمة، ثم ساق البحث قضية من القضايا الفقهيَّة للتدليل على أنه لا بديل للمسلم - أي مسلم - عن تعلُّم اللغة العربيَّة؛ لأنها لغة دين، وأما المطلب الأخير، فقد مال إلى الشِّق التربوي، ليبين جهد سلفنا الصالح في قضية تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها، (ابن خلدون نموذجًا) وتبيَّن من العَرْض أنه تَعامَل مع اللغة من ناحية سلوكيَّة، تعتمد على حفظ النصوص، وتحليلها وفَهْمها، وهذا يُسمَّى عنده "صفة" والمداومة على ذلك تنقُل المتعلِّم من الصفة إلى "الحال"، ثم إلى "الملكة"، وكان المطلب الرابع بعنوان تربية الملكة اللسانية عند ابن خلدون، ثم جاءت خاتمة البحث، وفيها ذِكْر لنتائج البحث، ومنها الترجمات لا تفي بحاجات الأمم، خاصة أمة الإسلام، وهي سبب من أسباب تمزُّقها وضعْفها وإصلاح اللغة العربيَّة لن يكون من منطلق فردي، وإن كانت المُنطلَقات الفرديَّة مهمة، ولم يكن السلوكيون أسبق إلى نظريَّتهم من علمائنا، فنظرية المَلَكة اللسانيَّة عند ابن خلدون، تُعبِّر عن الفكرة نفسها.
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، منزل الكتاب بلسان عربي مبين، وأصلي وأسلِّم على خير خلقه أجمعين، معلم البشريَّة الخير، ومُخرِج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط الله العزيز الحميد.
وبعد، فإن اللغة هي الشاهد على النصر، وهي هويَّة أبنائها؛ لأنها وعاء الثقافة، ومعيار القوة والضَّعف لأي مجتمع من المجتمعات، فإن كان المجتمع قويًّا كان للغته القوة، وإن كان ضعيفًا كان للغته الضعف، والدلائل على ذلك كثيرة.
ونحن المسلمين يجب علينا أن ننظر إلى الوراء قليلاً لنتعرَّف على اعتناء السلف الصالح باللغة العربية، وحرصهم عليها، لنجسَّد واقعنا، وننطلق منطلقًا صحيحًا في تصحيح مسار هذه اللغة.
ويأتي هذا البحث في مقدمة وأربعة مطالب، وخاتمة:
المطلب الأول: حرص السلف الصالح على اللسان العربي الفصيح.
المطلب الثاني: نظرة إلى أسباب نشأة النحو العربي، ومفهومه.
المطلب الثالث: نظرة إلى الترجمة، ومدى جدواها في حياة المسلم.
المطلب الرابع: تربية المَلَكة اللسانية عند ابن خلدون.
المطلب الأول: حرص السلف الصالح على اللسان العربي الفصيح:
اللغة العربية من ثوابت الأمة الإسلاميَّة، لا يمكن أن تتخلَّى عنها، بل إن تعلُّمها واجب على المسلم؛ لأنها أداة الدين، ولا يَصِل إنسان إلى فَهْم هذا الدين فهمًا صحيحًا إلا عن طريق هذه اللغة الغراء، ومن القواعد الفقهية "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"، وفَهْم الدين لا يكون إلا باللغة العربية؛ لذا فتعلُّمها واجب على كل مسلم، وقد حرص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ذلك أشد الحرص، حتى إنه سمع رجلاً يَلحَن فقال: ((أرشدوا أخاكم))؛ (كنز العمال، 1989م، رقم الحديث 2809) وفي رواية ((فقد ضل)).
وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يأمر أصحابه أن يتعلَّموا العربية، كما كان يأمرهم أن يتعلَّموا الفرائض، فكان يقول: "تعلَّموا العربية؛ فإنها من دينكم، تعلَّموا الفرائض؛ فإنها من دينكم"، فقدَّم - رضي الله عنه - تعلُّم العربية على تعلُّم الفرائض، لما يعلمه لها من فضل في معرفة الدين والفقه.
كما روي عنه أنه مرَّ على قوم يرمون نبلاً فعاب عليهم، فقال أحدهم: يا أمير المؤمنين، "إنا قوم متعلمين" - والصحيح، مُتعلِّمون فقال: لحْنكم أشد عليَّ من سوء رميكم، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((رحِم الله امرأ أصلح من لسانه))؛ (اتفاق المباني، 1985م، ص137).
ومما روي عنه أيضًا، وقد كان حريصًا على ضبْط اللسان العربي؛ لأنه الوعاء الذي نزل به القرآن، والسبيل الأول إلى فَهْمه فهمًا صحيحًا، واستنباط أحكامه استنباطًا سديدًا - أن الحصين بن أبي الحر، وقيل: أبو موسى الأشعري - أرسل إليه كتابًا، فلحن في حرف فيه، فكتب إليه عمر - رضي الله عنه -: أن قنِّع كاتبك سوطًا؛ (البيان والتبيين، 1968م، ص321)، وفي بعض الروايات أمر بعزله.
وكان الحسن بن أبي الحسن - من التابعين - إذا عثَر لسانه بشيء من اللحن، قال: أستغفر الله، فسئل في ذلك، فقال: مَن أخطأ فيها - أي في العربية - فقد كذب على العرب، ومن كذب فقد عمل سوءًا، والله - عز وجل - يقول: ﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 110].
وكان الفراء يُفضل النحو على الفقه، وروي عنه أنه زار محمد بن الحسن، فتذاكرا في الفقه والنحو، ففضَّل الفراء النحو على الفقه، وفضَّل محمد بن الحسن الفقه على النحو، فبدأ الفراء يُدلِّل على صحة قوله، فقال: قَلَّ رجل أنعم النظر في العربية، وأراد علمًا غيره إلا سَهُل عليه.
فأراد محمد بن الحسن أن يُبطِل حجَّتَه، فقال له: يا أبا زكريا، قد أنعمت النظر في العربية، وأسألك عن باب من الفقه، فقال الفراء: هات على بركة الله، فقال ابن الحسن: ما تقول في رجل صلى فسها في صلاته، وسجد سجدتي السهو، فسها فيهما؟ فتفكَّر الفراء ساعة، ثم قال: لا شيء عليه، فقال له محمد: ولمَ؟ قال: لأن التصغير عندنا ليس له تصغير، وإنما سجدتا السهو تمام الصلاة، وليس للتمام تمام، فقال محمد بن الحسن: ما ظننتُ أن آدميًّا يَلِد مثلك؛ (معجم الأدباء، 1993م، 1: 17).
وكان الإمام الشافعي يتكلَّم عن البدع، فسئل عن كثرتها في زمانه، فقال "لبُعدْ الناس عن العربية"، وقد عدَّ الإمام ابن تيميَّة تعلُّم اللغة العربية من الفروض الواجبة، فقال: "إن نفس اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب، فإن فَهْم الكتاب والسنة فرض، ولا يُفهَم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"؛ (اقتضاء الصراط، 1419هـ - 1999م 1: 424)، وأما الإمام ابن حزم، فقد ألزم من أراد أن يتعلَّم الفقه تعلُّم النحو واللغة، فقال "لزم لمن طلب الفقه أن يتعلَّم النحو واللغة، وإلا فهو ناقص مُنحط لا تجوز له الفُتيا في دين الله - عز وجل"؛ (الإحكام، مطبعة العاصمة بالقاهرة،1: 208).
وفي هذا العصر أضحى كثير من الناس يتعلَّمون الفقه، ويتركون اللغة والنحو، ولهذا السبب كثرت زلاتهم؛ لأنهم تركوا أداة فَهْم الدين.
ولما كان عصر الدولة الأموية، وبدأ اللحن يظهر وينتشر، إلى أن وصل الأمر أن يُعَد مَن لا يلحن، فقالوا: أربعة لم يلحنوا في جِد ولا هزل: الشعبي، وعبدالملك بن مروان، والحجاج بن يوسف، وابن القرية، والحجاج أفصحهم، يأتي الخليفة المثقَّف عبدالملك بن مروان ويقول: "اللحن في الكلام أقبح من التفتيق في الثوب، والجُدَري في الوجه"؛ (العقد الفريد، 1404 هـ = 1983م، 308: 2).
ولما قيل له: "لقد عجل إليك الشيب يا أمير المؤمنين، قال: شيَّبني ارتقاء المنابر، وتوقُّع اللحن"؛ (العقد الفريد،2: 308).
فالنحو يبسُط من لسان الألكن http://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
والمرء تُكرِمه إذا لم يلحنِ http://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
فإذا طلبتَ من العلوم أجلَّها http://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
فأجلُّها منها مقيمُ الألسن http://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
بل إن أبا عمرو بن العلاء كان يقول: "لَعِلمُ العربية هو الدين بعينه، فبلغ ذلك عبدالله بن المبارك، فقال: صدق؛ لأني رأيت النصارى قد عبدوا المسيح لجِهْلهم بذلك، قال الله - تعالى - في الإنجيل: ((أنا ولَّدتك من مريم، وأنت نَبِيي))، فحسبوه يقول: أنا ولَدتك، وأنت بُنَيي، بتخفيف اللام، وتقديم الباء، وتعويض الضمة بالفتحة، فكفَروا"؛ (معجم الأدباء، 1: 10).
ولم نكن - نحن أبناء الإسلام - بمعزِل عن هذا التحريف والزيغ، لولا أن الله - عز وجل - تكفَّل بحفظ دينه وكتابه الكريم، وهيَّأ لأبناء هذه الأمة من العلماء مَن يحفظون لهم دينهم، ويُدوِّنون لهم عِلمَهم، فهذا الأعرابي يسمع القارئ يقرأ قوله تعالى في سورة التوبة: ﴿ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ﴾ [التوبة: 3][2] ، بكسر اللام، فقال أوَبرِئ الله من رسوله؟ فبلغ ذلك عمرَ بن الخطاب - رضي الله عنه - فأمر ألا يقرئ القرآن إلا مَن يُحسِن العربيَّة"؛ (صبح الأعشى، 1987م،1: 206).
فالقارئ إذا قرأ: "أن الله بريء من المشركين ورسولُه"؛ بالرفع في رسوله، "فقد سلك طريقًا من الصواب واضحًا، وركب منهجًا من الفضل لائحًا، فإن كسر اللام من "رسولِه" متعمِّدًا كان كفرًا بحتًا"؛ (معجم الأدباء، 1: 10).
وكانت هذه هي البداية التي جاءت في إثرها علوم العربية، وخاصة النحو الذي تكاد تُجمِع الروايات على أنه نشأ تلبية لحاجات المجتمع الإسلامي، والذي بات اللحن فيه ظاهرة تُخشى - أو قل إن شئتَ -: باتت تُهدِّد اللسان العربي، وهذا هو موضوع المطلب الثاني.
المطلب الثاني: نظرة إلى أسباب نشأة النحو العربي ومفهومه:
إن ظاهرة تفشي اللحن في البلاد الإسلاميَّة، والتي كانت نتيجة طبيعيَّة لانتشار الإسلام بين الأعاجم، كانت السبب الرئيس في نشأة النحو، ونشأ النحو بمفهوم أرشد مما هو عليه الآن، فالنحو عند نشأته كان يُقصَد به "ترتيب العرب لكلامهم الذي به نزل القرآن، وبه تُفهَم معاني الكلام التي يُعبَّر عنها باختلاف الحركات، وبناء الألفاظ"؛ (الإحكام، 2: 693)، وحذَّر أبو حامد الغزالي بقوله: "يفهَم به خطاب العرب وعادتهم في الاستعمال إلى حد يميِّز بين صريح الكلام وظاهره ومجمله وحقيقته ومجازه وعامِّه وخاصه ومُحكَمه ومتشابهه ومُطلَقه ومقيَّده ونصه وفحواه ولحنه ومفهومه"؛ (المستصفى، 12: 4).
فكان مقصود النحو أوسع مما هو عليه الآن، وكان يُسمى علم العربية، وليس مقصورًا على العلامة الإعرابيَّة التي تكون على أواخر الكلمات فحسب، بل إن نظرتنا إلى النحو على أنه العلم بضبط أواخر الكلمات تُعَد شلاًّ للنحو، وذَهابًا بقيمته العلميَّة، ونحن نحتاج إلى أن نعود ببحثنا النحوي وتعليمه من الطلاب في الجامعات إلى حقيقته التي بدأها سيبويه، وقد اختلف المؤرخون في واضع النحو الأول، لكنهم اتفقوا - أو كادوا أن يتَّفِقوا - في سبب الوضع، وهو تفشِّي اللحن، وقد وقف العلماء من نشأة النحو مواقف مُتباينة، فمنهم من جعلها نشأة عربيَّة خالصة، وأن النحو قد نبت عند العرب كما تنبُت الشجرة في أرضها، وأنه أنقى العلوم العربيَّة عروبة، ومنهم من جعل النحو نقلاً عن اليونان وغيرهم من الهنود والسريان، ولا ناقة فيه للعرب ولا جمل"؛ (النحو العربي، 1979 م).
وفكرة تأثُّر النحو العربي بالمنطق اليوناني وغيره، سواء الطبيعي منه أو الصوري أخذت مساحة كبيرة من الدراسات العربية، وكُتبت فيها البحوث والرسائل العلمية، وقد يكون مؤيدوها أكثر من معارضيها، رغم أن أول كتاب في النحو لسيبويه، المتوفى على أرجح الأقوال 180هـ، والذي يُعَد كتابه دستور النحو العربي، أو قرآن النحو العربي، بينما لم تُترجَم كتب المنطق اليوناني ترجمة مُنظَّمة إلا في عهد المأمون، الذي حكم من عام 198 إلى 218 من الهجرة النبوية؛ أي بعد ثمانية عشر عامًا من موت المؤلف الأول للنحو، وإن وجدت تَراجم قبل هذا العهد، لكنها كانت لكتب الطب والكيمياء، وكانت هذه الترجمة بأمر من خالد بن يزيد، ولم تُنظِّمها الدولة، مما جعلها محدودة.
وما نَميل إليه أن نشأة النحو هي نشأة خالصة العروبة، ولكن الدراسات النحْويَّة تأثَّرت بالمنطق والفلسفة والعلوم اليونانيَّة بعدما نُقِلت إلى العربية في عهد المأمون، فالتأثر تأثُّر تطور وليس تأثر نشأة.
ولو نظرنا إلى كتاب سيبويه لوجدناه بعيدًا كلَّ البعد عن المنطق اليوناني، وأنه كان يَصِف الظواهر اللغويَّة ليَصِل منها إلى القواعد الكليَّة، فانظر - مثلاً - إلى تعريف الجملة عند سيبويه، سوف تجده تعريفًا وصفيًّا، وليس تعريفًا معياريًّا محدَّدًا كما هو الحال في المنطق، فسيبويه يعرفها على أنها: المسند والمسند إليه، ثم يَصِف المُسنَد والمسند إليه فيقول: "وهما ما لا يغني واحد منهما عن الآخر، ولا يجد المتكلم منه بدًّا، فمن ذلك الاسم المبتدأ والمبني عليه، نحو قولك: عبد الله أخوك، وهذا أخوك، ومثل ذلك: يذهب عبد الله، فلا بد للفعل من الاسم كما لم يكن للاسم الأول بُد من الآخر في الابتداء"؛ (الكتاب 1408هـ 1988م،1: 23)، فسيبويه هنا وصف ولم يُعرِّف، وهو أبعد ما يكون عن تعريفات علم المنطق، ثم جاء المبرد (ت: 285)، وأضاف أنها الفعل مع الفاعل، وعلَّل ذلك بقوله: "لأنها جملة يَحسُن السكوت عليها، وتجب بها الفائدة للمخاطب"؛ (المقتضب،1: 146)، فالمبرد هنا يَنصُّ على أن شرط الجملة عنده أن تفيد فائدة يَحسُن السكوت عليها، ويُعَد أوَّل من استخدم مصطلح الجملة المفيدة هو ابن السراج (ت: 316هـ)، وهي عنده تتكوَّن "فعل وفاعل، أو مبتدأ وخبر"؛ (الأصول، 1: 64)، ويُعَد المصطلح حتى هذا العصر مجرَّد وصف يَصدُر من العلماء.
إلا أنه بنشاط حركة الترجمة تمت المزاوَجة بين العلوم، فكل علمٍ أخذ من الآخر ما يُناسبه ويبلِّغه الكمال، ومع بداية القرن الرابع الهجري بدا تأثُّر النحاة بالمنطق اليوناني واضحًا في مصطلحاتهم وبعض تفريعاتهم، حتى قال أبو حيان: "لولا أن الكمال غير مستطاع، لكان يجب أن يكون المنطقي نحْويًا، والنحوي منطقيًّا"؛ (المقتبسات، ص 123).
يتبع
عرفان عبدالدايم محمد أحمد عبدالله
"ما ذلَّتْ لغةُ شعب إلا ذلَّ، ولا انحطَّت إلا كان أمره في ذَهاب وإدبار"؛ مصطفى صادق الرافعي.
ملخص البحث:
جاء هذه البحث ليضع بين يدي القارئ الكريم مجموعة نقاط أساسيَّة، تدور حول اهتمام السلف الصالح باللغة العربية، وجاء هذا البحث في مقدمة، وأربعة مطالب وخاتمة، في المقدمة بيَّن الباحث خُطَّة البحث، وفي المطلب الأول: حِرْص السلف الصالح على اللسان العربي الفصيح، وتحدَّث الباحث فيه عن الآثار الواردة عن سلفنا الصالح في حبِّهم للغة العربية، واهتمامهم بها، وحثهم على تعلُّمها.
والمطلب الثاني:
نظرة إلى أسباب نشأة النحو العربي ومفهومه، وفيه تكلَّم الباحث عن المفهوم الرشيد للنحو، وأسبابه ونشأته، وعن قضيَّة تأثُّره بالعلوم اليونانيَّة أو غيرها، وخلص إلى أن النحو علم عربي خالص النشأة، ولكنه تأثَّر بالمنطق اليوناني تأثُّر تطوُّر،
والمطلب الثالث: نظرة إلى الترجمة، ومدى جدواها في حياة المسلم، وذكَر البحث بعض المسلَّمات، منها: أن الترجمة من لغة إلى لغة - مهما تكن دقتها - لا تحمل كل ما في اللغة الأم من معانٍ، خاصة إذا كانت اللغة الأم أقل ثراء من اللغة المُترجَمة، ثم ساق البحث قضية من القضايا الفقهيَّة للتدليل على أنه لا بديل للمسلم - أي مسلم - عن تعلُّم اللغة العربيَّة؛ لأنها لغة دين، وأما المطلب الأخير، فقد مال إلى الشِّق التربوي، ليبين جهد سلفنا الصالح في قضية تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها، (ابن خلدون نموذجًا) وتبيَّن من العَرْض أنه تَعامَل مع اللغة من ناحية سلوكيَّة، تعتمد على حفظ النصوص، وتحليلها وفَهْمها، وهذا يُسمَّى عنده "صفة" والمداومة على ذلك تنقُل المتعلِّم من الصفة إلى "الحال"، ثم إلى "الملكة"، وكان المطلب الرابع بعنوان تربية الملكة اللسانية عند ابن خلدون، ثم جاءت خاتمة البحث، وفيها ذِكْر لنتائج البحث، ومنها الترجمات لا تفي بحاجات الأمم، خاصة أمة الإسلام، وهي سبب من أسباب تمزُّقها وضعْفها وإصلاح اللغة العربيَّة لن يكون من منطلق فردي، وإن كانت المُنطلَقات الفرديَّة مهمة، ولم يكن السلوكيون أسبق إلى نظريَّتهم من علمائنا، فنظرية المَلَكة اللسانيَّة عند ابن خلدون، تُعبِّر عن الفكرة نفسها.
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، منزل الكتاب بلسان عربي مبين، وأصلي وأسلِّم على خير خلقه أجمعين، معلم البشريَّة الخير، ومُخرِج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط الله العزيز الحميد.
وبعد، فإن اللغة هي الشاهد على النصر، وهي هويَّة أبنائها؛ لأنها وعاء الثقافة، ومعيار القوة والضَّعف لأي مجتمع من المجتمعات، فإن كان المجتمع قويًّا كان للغته القوة، وإن كان ضعيفًا كان للغته الضعف، والدلائل على ذلك كثيرة.
ونحن المسلمين يجب علينا أن ننظر إلى الوراء قليلاً لنتعرَّف على اعتناء السلف الصالح باللغة العربية، وحرصهم عليها، لنجسَّد واقعنا، وننطلق منطلقًا صحيحًا في تصحيح مسار هذه اللغة.
ويأتي هذا البحث في مقدمة وأربعة مطالب، وخاتمة:
المطلب الأول: حرص السلف الصالح على اللسان العربي الفصيح.
المطلب الثاني: نظرة إلى أسباب نشأة النحو العربي، ومفهومه.
المطلب الثالث: نظرة إلى الترجمة، ومدى جدواها في حياة المسلم.
المطلب الرابع: تربية المَلَكة اللسانية عند ابن خلدون.
المطلب الأول: حرص السلف الصالح على اللسان العربي الفصيح:
اللغة العربية من ثوابت الأمة الإسلاميَّة، لا يمكن أن تتخلَّى عنها، بل إن تعلُّمها واجب على المسلم؛ لأنها أداة الدين، ولا يَصِل إنسان إلى فَهْم هذا الدين فهمًا صحيحًا إلا عن طريق هذه اللغة الغراء، ومن القواعد الفقهية "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"، وفَهْم الدين لا يكون إلا باللغة العربية؛ لذا فتعلُّمها واجب على كل مسلم، وقد حرص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ذلك أشد الحرص، حتى إنه سمع رجلاً يَلحَن فقال: ((أرشدوا أخاكم))؛ (كنز العمال، 1989م، رقم الحديث 2809) وفي رواية ((فقد ضل)).
وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يأمر أصحابه أن يتعلَّموا العربية، كما كان يأمرهم أن يتعلَّموا الفرائض، فكان يقول: "تعلَّموا العربية؛ فإنها من دينكم، تعلَّموا الفرائض؛ فإنها من دينكم"، فقدَّم - رضي الله عنه - تعلُّم العربية على تعلُّم الفرائض، لما يعلمه لها من فضل في معرفة الدين والفقه.
كما روي عنه أنه مرَّ على قوم يرمون نبلاً فعاب عليهم، فقال أحدهم: يا أمير المؤمنين، "إنا قوم متعلمين" - والصحيح، مُتعلِّمون فقال: لحْنكم أشد عليَّ من سوء رميكم، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((رحِم الله امرأ أصلح من لسانه))؛ (اتفاق المباني، 1985م، ص137).
ومما روي عنه أيضًا، وقد كان حريصًا على ضبْط اللسان العربي؛ لأنه الوعاء الذي نزل به القرآن، والسبيل الأول إلى فَهْمه فهمًا صحيحًا، واستنباط أحكامه استنباطًا سديدًا - أن الحصين بن أبي الحر، وقيل: أبو موسى الأشعري - أرسل إليه كتابًا، فلحن في حرف فيه، فكتب إليه عمر - رضي الله عنه -: أن قنِّع كاتبك سوطًا؛ (البيان والتبيين، 1968م، ص321)، وفي بعض الروايات أمر بعزله.
وكان الحسن بن أبي الحسن - من التابعين - إذا عثَر لسانه بشيء من اللحن، قال: أستغفر الله، فسئل في ذلك، فقال: مَن أخطأ فيها - أي في العربية - فقد كذب على العرب، ومن كذب فقد عمل سوءًا، والله - عز وجل - يقول: ﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 110].
وكان الفراء يُفضل النحو على الفقه، وروي عنه أنه زار محمد بن الحسن، فتذاكرا في الفقه والنحو، ففضَّل الفراء النحو على الفقه، وفضَّل محمد بن الحسن الفقه على النحو، فبدأ الفراء يُدلِّل على صحة قوله، فقال: قَلَّ رجل أنعم النظر في العربية، وأراد علمًا غيره إلا سَهُل عليه.
فأراد محمد بن الحسن أن يُبطِل حجَّتَه، فقال له: يا أبا زكريا، قد أنعمت النظر في العربية، وأسألك عن باب من الفقه، فقال الفراء: هات على بركة الله، فقال ابن الحسن: ما تقول في رجل صلى فسها في صلاته، وسجد سجدتي السهو، فسها فيهما؟ فتفكَّر الفراء ساعة، ثم قال: لا شيء عليه، فقال له محمد: ولمَ؟ قال: لأن التصغير عندنا ليس له تصغير، وإنما سجدتا السهو تمام الصلاة، وليس للتمام تمام، فقال محمد بن الحسن: ما ظننتُ أن آدميًّا يَلِد مثلك؛ (معجم الأدباء، 1993م، 1: 17).
وكان الإمام الشافعي يتكلَّم عن البدع، فسئل عن كثرتها في زمانه، فقال "لبُعدْ الناس عن العربية"، وقد عدَّ الإمام ابن تيميَّة تعلُّم اللغة العربية من الفروض الواجبة، فقال: "إن نفس اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب، فإن فَهْم الكتاب والسنة فرض، ولا يُفهَم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"؛ (اقتضاء الصراط، 1419هـ - 1999م 1: 424)، وأما الإمام ابن حزم، فقد ألزم من أراد أن يتعلَّم الفقه تعلُّم النحو واللغة، فقال "لزم لمن طلب الفقه أن يتعلَّم النحو واللغة، وإلا فهو ناقص مُنحط لا تجوز له الفُتيا في دين الله - عز وجل"؛ (الإحكام، مطبعة العاصمة بالقاهرة،1: 208).
وفي هذا العصر أضحى كثير من الناس يتعلَّمون الفقه، ويتركون اللغة والنحو، ولهذا السبب كثرت زلاتهم؛ لأنهم تركوا أداة فَهْم الدين.
ولما كان عصر الدولة الأموية، وبدأ اللحن يظهر وينتشر، إلى أن وصل الأمر أن يُعَد مَن لا يلحن، فقالوا: أربعة لم يلحنوا في جِد ولا هزل: الشعبي، وعبدالملك بن مروان، والحجاج بن يوسف، وابن القرية، والحجاج أفصحهم، يأتي الخليفة المثقَّف عبدالملك بن مروان ويقول: "اللحن في الكلام أقبح من التفتيق في الثوب، والجُدَري في الوجه"؛ (العقد الفريد، 1404 هـ = 1983م، 308: 2).
ولما قيل له: "لقد عجل إليك الشيب يا أمير المؤمنين، قال: شيَّبني ارتقاء المنابر، وتوقُّع اللحن"؛ (العقد الفريد،2: 308).
فالنحو يبسُط من لسان الألكن http://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
والمرء تُكرِمه إذا لم يلحنِ http://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
فإذا طلبتَ من العلوم أجلَّها http://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
فأجلُّها منها مقيمُ الألسن http://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
بل إن أبا عمرو بن العلاء كان يقول: "لَعِلمُ العربية هو الدين بعينه، فبلغ ذلك عبدالله بن المبارك، فقال: صدق؛ لأني رأيت النصارى قد عبدوا المسيح لجِهْلهم بذلك، قال الله - تعالى - في الإنجيل: ((أنا ولَّدتك من مريم، وأنت نَبِيي))، فحسبوه يقول: أنا ولَدتك، وأنت بُنَيي، بتخفيف اللام، وتقديم الباء، وتعويض الضمة بالفتحة، فكفَروا"؛ (معجم الأدباء، 1: 10).
ولم نكن - نحن أبناء الإسلام - بمعزِل عن هذا التحريف والزيغ، لولا أن الله - عز وجل - تكفَّل بحفظ دينه وكتابه الكريم، وهيَّأ لأبناء هذه الأمة من العلماء مَن يحفظون لهم دينهم، ويُدوِّنون لهم عِلمَهم، فهذا الأعرابي يسمع القارئ يقرأ قوله تعالى في سورة التوبة: ﴿ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ﴾ [التوبة: 3][2] ، بكسر اللام، فقال أوَبرِئ الله من رسوله؟ فبلغ ذلك عمرَ بن الخطاب - رضي الله عنه - فأمر ألا يقرئ القرآن إلا مَن يُحسِن العربيَّة"؛ (صبح الأعشى، 1987م،1: 206).
فالقارئ إذا قرأ: "أن الله بريء من المشركين ورسولُه"؛ بالرفع في رسوله، "فقد سلك طريقًا من الصواب واضحًا، وركب منهجًا من الفضل لائحًا، فإن كسر اللام من "رسولِه" متعمِّدًا كان كفرًا بحتًا"؛ (معجم الأدباء، 1: 10).
وكانت هذه هي البداية التي جاءت في إثرها علوم العربية، وخاصة النحو الذي تكاد تُجمِع الروايات على أنه نشأ تلبية لحاجات المجتمع الإسلامي، والذي بات اللحن فيه ظاهرة تُخشى - أو قل إن شئتَ -: باتت تُهدِّد اللسان العربي، وهذا هو موضوع المطلب الثاني.
المطلب الثاني: نظرة إلى أسباب نشأة النحو العربي ومفهومه:
إن ظاهرة تفشي اللحن في البلاد الإسلاميَّة، والتي كانت نتيجة طبيعيَّة لانتشار الإسلام بين الأعاجم، كانت السبب الرئيس في نشأة النحو، ونشأ النحو بمفهوم أرشد مما هو عليه الآن، فالنحو عند نشأته كان يُقصَد به "ترتيب العرب لكلامهم الذي به نزل القرآن، وبه تُفهَم معاني الكلام التي يُعبَّر عنها باختلاف الحركات، وبناء الألفاظ"؛ (الإحكام، 2: 693)، وحذَّر أبو حامد الغزالي بقوله: "يفهَم به خطاب العرب وعادتهم في الاستعمال إلى حد يميِّز بين صريح الكلام وظاهره ومجمله وحقيقته ومجازه وعامِّه وخاصه ومُحكَمه ومتشابهه ومُطلَقه ومقيَّده ونصه وفحواه ولحنه ومفهومه"؛ (المستصفى، 12: 4).
فكان مقصود النحو أوسع مما هو عليه الآن، وكان يُسمى علم العربية، وليس مقصورًا على العلامة الإعرابيَّة التي تكون على أواخر الكلمات فحسب، بل إن نظرتنا إلى النحو على أنه العلم بضبط أواخر الكلمات تُعَد شلاًّ للنحو، وذَهابًا بقيمته العلميَّة، ونحن نحتاج إلى أن نعود ببحثنا النحوي وتعليمه من الطلاب في الجامعات إلى حقيقته التي بدأها سيبويه، وقد اختلف المؤرخون في واضع النحو الأول، لكنهم اتفقوا - أو كادوا أن يتَّفِقوا - في سبب الوضع، وهو تفشِّي اللحن، وقد وقف العلماء من نشأة النحو مواقف مُتباينة، فمنهم من جعلها نشأة عربيَّة خالصة، وأن النحو قد نبت عند العرب كما تنبُت الشجرة في أرضها، وأنه أنقى العلوم العربيَّة عروبة، ومنهم من جعل النحو نقلاً عن اليونان وغيرهم من الهنود والسريان، ولا ناقة فيه للعرب ولا جمل"؛ (النحو العربي، 1979 م).
وفكرة تأثُّر النحو العربي بالمنطق اليوناني وغيره، سواء الطبيعي منه أو الصوري أخذت مساحة كبيرة من الدراسات العربية، وكُتبت فيها البحوث والرسائل العلمية، وقد يكون مؤيدوها أكثر من معارضيها، رغم أن أول كتاب في النحو لسيبويه، المتوفى على أرجح الأقوال 180هـ، والذي يُعَد كتابه دستور النحو العربي، أو قرآن النحو العربي، بينما لم تُترجَم كتب المنطق اليوناني ترجمة مُنظَّمة إلا في عهد المأمون، الذي حكم من عام 198 إلى 218 من الهجرة النبوية؛ أي بعد ثمانية عشر عامًا من موت المؤلف الأول للنحو، وإن وجدت تَراجم قبل هذا العهد، لكنها كانت لكتب الطب والكيمياء، وكانت هذه الترجمة بأمر من خالد بن يزيد، ولم تُنظِّمها الدولة، مما جعلها محدودة.
وما نَميل إليه أن نشأة النحو هي نشأة خالصة العروبة، ولكن الدراسات النحْويَّة تأثَّرت بالمنطق والفلسفة والعلوم اليونانيَّة بعدما نُقِلت إلى العربية في عهد المأمون، فالتأثر تأثُّر تطور وليس تأثر نشأة.
ولو نظرنا إلى كتاب سيبويه لوجدناه بعيدًا كلَّ البعد عن المنطق اليوناني، وأنه كان يَصِف الظواهر اللغويَّة ليَصِل منها إلى القواعد الكليَّة، فانظر - مثلاً - إلى تعريف الجملة عند سيبويه، سوف تجده تعريفًا وصفيًّا، وليس تعريفًا معياريًّا محدَّدًا كما هو الحال في المنطق، فسيبويه يعرفها على أنها: المسند والمسند إليه، ثم يَصِف المُسنَد والمسند إليه فيقول: "وهما ما لا يغني واحد منهما عن الآخر، ولا يجد المتكلم منه بدًّا، فمن ذلك الاسم المبتدأ والمبني عليه، نحو قولك: عبد الله أخوك، وهذا أخوك، ومثل ذلك: يذهب عبد الله، فلا بد للفعل من الاسم كما لم يكن للاسم الأول بُد من الآخر في الابتداء"؛ (الكتاب 1408هـ 1988م،1: 23)، فسيبويه هنا وصف ولم يُعرِّف، وهو أبعد ما يكون عن تعريفات علم المنطق، ثم جاء المبرد (ت: 285)، وأضاف أنها الفعل مع الفاعل، وعلَّل ذلك بقوله: "لأنها جملة يَحسُن السكوت عليها، وتجب بها الفائدة للمخاطب"؛ (المقتضب،1: 146)، فالمبرد هنا يَنصُّ على أن شرط الجملة عنده أن تفيد فائدة يَحسُن السكوت عليها، ويُعَد أوَّل من استخدم مصطلح الجملة المفيدة هو ابن السراج (ت: 316هـ)، وهي عنده تتكوَّن "فعل وفاعل، أو مبتدأ وخبر"؛ (الأصول، 1: 64)، ويُعَد المصطلح حتى هذا العصر مجرَّد وصف يَصدُر من العلماء.
إلا أنه بنشاط حركة الترجمة تمت المزاوَجة بين العلوم، فكل علمٍ أخذ من الآخر ما يُناسبه ويبلِّغه الكمال، ومع بداية القرن الرابع الهجري بدا تأثُّر النحاة بالمنطق اليوناني واضحًا في مصطلحاتهم وبعض تفريعاتهم، حتى قال أبو حيان: "لولا أن الكمال غير مستطاع، لكان يجب أن يكون المنطقي نحْويًا، والنحوي منطقيًّا"؛ (المقتبسات، ص 123).
يتبع