ابو وليد البحيرى
2022-10-02, 09:04 PM
معركة أنوال وسحق جيوش الإسبان
. أحمد الظرافي
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/10/3.jpg
الغزو الإسباني للمغرب:
بعد سقوط الحكم الإسلامي في الأندلس عام 1492م، باشر الإسبان حروبهم الصليبية على المسلمين في شمال إفريقيا، ولحقوا في ذلك بجيرانهم البرتغاليين الذين كانوا قد بدؤوا تلك الحرب في عام 1415م، وهو العام الذي احتلوا فيه ثغر سبتة، وهكذا اندفع الإسبان والبرتغاليون، كلٌّ من موقعه، في شن حملات ضارية على ثغور شمال إفريقيا، حيث بدأت أساطيلهم تراوح هذه الثغور وتغاديها من طرابلس شرقاً حتى مليلة غرباً، وذلك استمرار لمعركتهم ضد المسلمين في الأندلس، وفي عام 1497م نجح الإسبان في احتلال ثغر مليلة. وفي عام 1508م احتلوا جزيرة بادس على ساحل الريف الأوسط، وانتهت هذه المرحلة بانتزاعهم لثغر سبتة من البرتغاليين عام 1640م، وبذلك يكونون قد أكدوا سيطرتهم على ضفتي خليج الزقاق (مضيق جبل طارق) في شمال المغرب الأقصى. بَيْدَ أن محاولاتهم المستمرة لتوسيع نفوذهم في الداخل باءت كلها بالفشل؛ بل ظلت سيطرتهم على ثغور شمال المغرب غير مستقرة حتى مطلع القرن العشرين؛ وذلك بسبب مقاومة القبائل المغربية لهم، وانتفاضاتها المتوالية ضدهم، وضرباتها الموجعة لقواتهم ولمصالحهم. وفي مطلع العقد الثاني من القرن العشرين قرر الإسبان وضع حدٍّ لتلك الانتفاضات الشعبية الجهادية في ريف المغرب، فأرسلت الحكومة الإسبانية مزيداً من القوات إلى شمال المغرب لقمعها، ثم لم تلبث أن استدعت جيشها الاحتياطي لتزج به في تلك الحرب للسيطرة على الريف المغـربي كله، تعويضاً عن خسارتها لمستعمراتها في أمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا (الفلبين)، وهزائمها المخزية هناك على أيدي الأمريكان، وتنازلاتهـا المذلة لهم، وبحلول عام 1912م، وهو العام الذي احتلت فيه فرنسا وسط المغرب، ونتيجة لهذا الاحتلال نجح الإسبان في احتلال الجزء الشمالي من المغرب الأقصى، ومع ذلك لم تهدأ مقاومة القبائل المغربية لهم، وكانت هذه المقاومة بقيادة محمد أمزيان بطل حرب الريف الأولى (1909 - 1912م)، ثم بقيادة أحمد الريسوني (1871 - 1925م)، إلا أن هذه المقاومة لم تكن مقاومة منظمة، وكانت تنقصها الأسلحة والذخائر والخبرة القتالية في مواجهة جيش نظامي عتيد ومحترف في القتل والإجرام وسياسة الأرض المحروقة كالجيش الإسباني، كما أن المنافسات والحروب القبلية الدموية، كانت تعمـل عملها بين القبائل في الريف المغربي، بتأثير دسائس الأعداء أولاً، ونتيجة للجهل ثانياً. وبعد احتلال فرنسا لوسط المغرب وجنوبه، وتقاسم النفوذ فيه مع الإسبان، وطبقاً لمؤامرة باريس بين فرنسا وإسبانيا عام 1912م تجددت مطامع الإسبان في مدِّ نفوذهم في الجبهة الشرقية، وبخاصة بعد التقدم الذي أحرزوه في الجبهة الغربية، ولكنهم كانوا مدركين لخطورة هذه المغامرة وجسامة الخسائر التي ستترتب عليها، نظراً للمقاومة الشديدة التي كانت تواجههـم، ولذلك فقـد ترافقت إجراءاتهم العسكرية في هذه المرحلة بالتدابير السياسية لاحتلال هذه المنطقة، وظلوا لبضع سنوات يتقدمون ببطء وحذر متبعين أسلوب القضم وأسلوب شراء ولاءات الخونة وضعفاء النفوس من رؤساء القبائل، واتخـاذ بعض أتباعهم جنوداً ليقاتلوا تحت لوائهم، ولكن بينما كان الإسبان متفائلين بنجاح هذه السياسة إذا بهم يتفاجؤون باندلاع ثورة الريف المبـاركة، بقيـادة الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي، وهنا بدأت مرحلـة جديد من مراحل الجهاد ضد الصليبية الإسبانية في شمال شرقي المغرب، لم تعرف لها المنطقة مثيلاً من قبل، وذلك في عام 1921م.
شخصية الأمير الخطابي:
ولد الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي عام 1882م في بلدة (أجدير) في شمالي المغرب، حيث كان والده زعيماً لقبيلة (ورياغل) إحدى قبائل الريف البربرية، وبعد أن حفظ القران وألمَّ بمبادئ الدين وأساسيات اللغة العربية في مسقط رأسه. أرسله والده إلى جامعة القرويين بفاس، فقضى هناك ثلاث سنوات، كما قضى مثلها في جامعة شلمنقة الإسبانية حيث درس القانون، وبعد ذلك التحق بمهنة التدريس في مدينة مليلة، ولكنه لم يلبث أن تحول إلى القضاء تابعاً للمحتل الإسباني الذي كان يحتل منطقته أيضاً، وإلى جانب ذلك عمل مراسلاً لجريدة (تلغرام الريف) التي أصدرها بعض التقدميين الإسبان في مليلة، والتي أخذت تنشر مقالاته عن أوضاع المغرب وتحليلاته للعلاقات الدولية، وبخاصة بين دول العالم الثالث والدول العظمى. وقد عُرِفَ الخطابي منذ بداية شبابه بشجاعته، وجرأته، وحسن رأيه، إلى جانب قوة إرادته وعزيمته، وشخصيته القيادية الفذة التي لا تقبل الضيم أو الخضوع، ولا تساوم على الدين والكرامة مهما كان الثمن، كما عُرِف بسعة إطلاعه على قضايا أمته وعلى ما يجري في العالم، والانفتاح على ثقافة العصر. وقد اعترف له بذلك الأعداء قبل الأصدقاء؛ فقد وصفه العقيد الإسباني رامون سانشيت أثناء إقامته بمليلة، فقال: «كان ذا عقل ثاقب، وذكاء حادٍّ، ومنطق صارم، وإدراك حصيف، وحدس سليم، وبعد نظر؛ فقد عُرف في هذه الرحلة بآرائه السديدة وحنكته وفطنته، فقد فرض نفسه على القواد الإسبانيين، فكان صاحب مبادىء راسخة، ذا قدرة على التحليق في سماء المثل العليا؛ إذ اتخذها دليلاً لطموحه السياسي ووسيلة ناجعة للثورة على الجهل، فتسلح بنور الفكر الإسلامي وثقافة العصر». وقد مكنته إقامته بمليلة واحتكاكه بالموظفين الإسبان من التعرف على خبايا السياسة الإسبانية، وعلى عقلية السلطة الإسبانية، ونواياها تجاه بلاده. هذه السلطة الاستعمارية الغاشمة التي قامت باعتقاله عام 1915م كونه أظهر التعاطف تجاه العثمانيين الذين انخرطـوا في الحرب العالمية الأولى إلى جانب الألمان، ولجرأته فقد حاول الهرب، وقفز من فوق أسوار السجن شاهق الارتفاع بصورة أدت إلى تهشم رأسه وكسر رجله، ومن ثَمَّ القبض عليه وإعادته إلى السجن مرة أخرى. وفي عام 1920م توفي والده، وكان ذلك بعد خروجه من السجن وعودته إلى قريته بزمن قليل، وكان والده حينها يُعِدُّ العدة للتصدي للإسبان بعد أن أنذرهم من مغبة التوغل في البلاد. ولذلك فقد تصدر الخطابي الواجهة في قبيلته بمساعدة أخيه وعمه، فعمل على جمع شمل القبائل وإزالة ما بينها من فرقة واختلاف، وحثِّها على توجيه بأسها نحو العدو المشترك، وهو العدو الإسباني المحتل، وتخليص البلاد منه، معتبراً الحرب ضده حرباً دينية وحضارية. وقد توَّج جهودَه في هذا المجال بتنظيم مؤتمر عامٍّ لرؤساء القبائل، نجح خلاله في تحقيق مصالَحة عامة بينهم، واعترفوا به زعيماً عليهم، بعد أن تعاهدوا على رفع راية الجهاد ضد الإسبان. ولم يكن الخطابي قائداً عسكرياً فحسب؛ وإنما كان إلى جانب ذلك مصلحاً اجتماعياً، وداعية إسلامياً، يدعو إلى الله على علم وبصيرة، وكانت دعوته تقوم على تجديد ما اندرس من تعاليم الإسلام، ومحاربة الجمود، ونشر العلم، والأخذ بأسباب التقدم والتمدن، في إطار العقيدة الإسلامية.
الجنرال سيلفستري وثورة الريف:
وفي ربيع عام 1921م، وهو العام الذي اندلعت فيه ثورة الريف بقيادة الأمير الخطابي، حشد الإسبان في مليلة جيشاً ضخماً قوامه 30 ألف مقاتل، ومثلهم تقريباً من خونة الأهالي، ولم يلبثوا أن تقدموا في المنطقة، بقيادة الجنرال مانويل فرنانديز سيلفستري، قائد القيادة العليا لجيش الاحتلال الإسباني بناحية مليلة، وكان هذا الجنرال معروفاً بصلفه وعناده، ونوزاعه الاستعمارية، وشدة ولائه للتاج الإسباني، وكان يحظى بالدعم المطلق من قبل الفونسو الثالث عشر، ملك إسبانيا (1902 - 1931م) الذي وضع كل ثقته فيه لوضع حدٍّ لثورة ابن عبد الكريم، ومن ثَمَّ إحكام السيطرة الكاملة، على بلاد الريف كلهـا، حيث كان الإسبان يعتقدون في البداية أن هذه الثورة ليست سوى حركة مؤقتة كالحركات التي سبقتها؛ وبخاصة أن هذا الجنرال بعد تعيينه قائداً عسكرياً لهذه الجبهة عام 1920م، كان قد احتل عدة مواقع متقدمة دون أن يجابَه بمقاومة تذكر، ودون أن يخسر أيَ جندي إسباني، فقد كان الضحايا في هذه المرحلة كلهم من الريفيين الخونة العاملين تحت اللواء الإسباني، كما أن كلاً من إسبانيا وفرنسا كانتا قد منعتا وصول السلاح إلى الريفيين، وجرَّمتا حمله من قبلهم، على اعتبار أنهم (متشددون) وأعداء لرسالتهما الحضارية التي يحملانها إلى الشعوب المتخلفة، بزعمهم. ولذلك فقد استمر الجنرال سيلفستري في اندفاعه حتى منطقة أنوال على مشارف قبيلة (ورياغل) التي ينتمي إليها ابن عبد الكريم، قائد الثورة، حيث كان يتخندق فيها إلى جانب مقاتليه وقتذاك، وكان الجنرال الإسباني المغرور قد أقسم أنه سيشرب الخمر في بيت ابن عبد الكريم. ولكن شاء الله تعالى أن يجعل كيدَه في نحره، وتدميرَه في تدبيره؛ فعند وصوله إلى هذه المنطقة بدأت الأمـور تتخـذ منحىً آخر، لم يحسب له حساباً؛ فبينما كان ذلك الجنرال، يواصل احتلال مناطق الريف فوجىء بانقضاض المجاهدين الريفيين على مركز (أبران) أحد المراكز الإسبانية المهمة في المنطقة وإبادة من وجدوا فيه من جنود إلا قلة قليلة ممن استطاعوا الهرب، والاستيلاء على جميع الأسلحة والذخائر التي كانت فيه، وكانت هذه أول لطمة مؤلمة لهذا الجنرال المتعجرف في المغرب، وكانت بالمقابل أول انتصار للخطابي، وهو الانتصار الذي ذاع صيته في نواحي المنطقة كلها. وعلى إثر ذلك الانتصار الذي جاء بعد عقود من الهزائم والنكسات، وفي وقت كان فيه العالم الإسلامي كله يرزح تحت نير الاستعمار، سرى الحماس في عروق أبناء قبائل الريف، ودبَّت الحميــة في نفوسهم، وتذكروا أمجاد وبطولات أسلافهم فاتحي الأندلس، وبخاصة أن هذا الانتصار قد وقع في العشر الأواخر من رمضان 1339هـ، ومن هنا فقد تداعوا للثورة على الغزاة الإسبان، ولم تلبث أن دوت صيحة الجهاد ضدهم في المنطقة كلها، وانخرط المئات من أبنائها في صفوف كتائب الخطابي، وأخذت الضربات الموجعة تسدَّد للإسبان من كل الاتجاهات، وتم القضاء على العديد من الفرق الإسبانية الموجودة بالمنطقة والاستيلاء على أسلحتها، كما باتت الفرق الإسبانية الأخرى شبه محاصرة، وبات المجاهدون على مشارف أنوال، مركز تجمع القوات الإسبانية، وعلى أهبة الاستعداد لخوض المعركة الفاصلة ضدها، وهي المعركة التي سيتردد صداها في الشرق والغرب، وسيخلدها التاريخ باسم (معركة أنوال).
يتبع
. أحمد الظرافي
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/10/3.jpg
الغزو الإسباني للمغرب:
بعد سقوط الحكم الإسلامي في الأندلس عام 1492م، باشر الإسبان حروبهم الصليبية على المسلمين في شمال إفريقيا، ولحقوا في ذلك بجيرانهم البرتغاليين الذين كانوا قد بدؤوا تلك الحرب في عام 1415م، وهو العام الذي احتلوا فيه ثغر سبتة، وهكذا اندفع الإسبان والبرتغاليون، كلٌّ من موقعه، في شن حملات ضارية على ثغور شمال إفريقيا، حيث بدأت أساطيلهم تراوح هذه الثغور وتغاديها من طرابلس شرقاً حتى مليلة غرباً، وذلك استمرار لمعركتهم ضد المسلمين في الأندلس، وفي عام 1497م نجح الإسبان في احتلال ثغر مليلة. وفي عام 1508م احتلوا جزيرة بادس على ساحل الريف الأوسط، وانتهت هذه المرحلة بانتزاعهم لثغر سبتة من البرتغاليين عام 1640م، وبذلك يكونون قد أكدوا سيطرتهم على ضفتي خليج الزقاق (مضيق جبل طارق) في شمال المغرب الأقصى. بَيْدَ أن محاولاتهم المستمرة لتوسيع نفوذهم في الداخل باءت كلها بالفشل؛ بل ظلت سيطرتهم على ثغور شمال المغرب غير مستقرة حتى مطلع القرن العشرين؛ وذلك بسبب مقاومة القبائل المغربية لهم، وانتفاضاتها المتوالية ضدهم، وضرباتها الموجعة لقواتهم ولمصالحهم. وفي مطلع العقد الثاني من القرن العشرين قرر الإسبان وضع حدٍّ لتلك الانتفاضات الشعبية الجهادية في ريف المغرب، فأرسلت الحكومة الإسبانية مزيداً من القوات إلى شمال المغرب لقمعها، ثم لم تلبث أن استدعت جيشها الاحتياطي لتزج به في تلك الحرب للسيطرة على الريف المغـربي كله، تعويضاً عن خسارتها لمستعمراتها في أمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا (الفلبين)، وهزائمها المخزية هناك على أيدي الأمريكان، وتنازلاتهـا المذلة لهم، وبحلول عام 1912م، وهو العام الذي احتلت فيه فرنسا وسط المغرب، ونتيجة لهذا الاحتلال نجح الإسبان في احتلال الجزء الشمالي من المغرب الأقصى، ومع ذلك لم تهدأ مقاومة القبائل المغربية لهم، وكانت هذه المقاومة بقيادة محمد أمزيان بطل حرب الريف الأولى (1909 - 1912م)، ثم بقيادة أحمد الريسوني (1871 - 1925م)، إلا أن هذه المقاومة لم تكن مقاومة منظمة، وكانت تنقصها الأسلحة والذخائر والخبرة القتالية في مواجهة جيش نظامي عتيد ومحترف في القتل والإجرام وسياسة الأرض المحروقة كالجيش الإسباني، كما أن المنافسات والحروب القبلية الدموية، كانت تعمـل عملها بين القبائل في الريف المغربي، بتأثير دسائس الأعداء أولاً، ونتيجة للجهل ثانياً. وبعد احتلال فرنسا لوسط المغرب وجنوبه، وتقاسم النفوذ فيه مع الإسبان، وطبقاً لمؤامرة باريس بين فرنسا وإسبانيا عام 1912م تجددت مطامع الإسبان في مدِّ نفوذهم في الجبهة الشرقية، وبخاصة بعد التقدم الذي أحرزوه في الجبهة الغربية، ولكنهم كانوا مدركين لخطورة هذه المغامرة وجسامة الخسائر التي ستترتب عليها، نظراً للمقاومة الشديدة التي كانت تواجههـم، ولذلك فقـد ترافقت إجراءاتهم العسكرية في هذه المرحلة بالتدابير السياسية لاحتلال هذه المنطقة، وظلوا لبضع سنوات يتقدمون ببطء وحذر متبعين أسلوب القضم وأسلوب شراء ولاءات الخونة وضعفاء النفوس من رؤساء القبائل، واتخـاذ بعض أتباعهم جنوداً ليقاتلوا تحت لوائهم، ولكن بينما كان الإسبان متفائلين بنجاح هذه السياسة إذا بهم يتفاجؤون باندلاع ثورة الريف المبـاركة، بقيـادة الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي، وهنا بدأت مرحلـة جديد من مراحل الجهاد ضد الصليبية الإسبانية في شمال شرقي المغرب، لم تعرف لها المنطقة مثيلاً من قبل، وذلك في عام 1921م.
شخصية الأمير الخطابي:
ولد الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي عام 1882م في بلدة (أجدير) في شمالي المغرب، حيث كان والده زعيماً لقبيلة (ورياغل) إحدى قبائل الريف البربرية، وبعد أن حفظ القران وألمَّ بمبادئ الدين وأساسيات اللغة العربية في مسقط رأسه. أرسله والده إلى جامعة القرويين بفاس، فقضى هناك ثلاث سنوات، كما قضى مثلها في جامعة شلمنقة الإسبانية حيث درس القانون، وبعد ذلك التحق بمهنة التدريس في مدينة مليلة، ولكنه لم يلبث أن تحول إلى القضاء تابعاً للمحتل الإسباني الذي كان يحتل منطقته أيضاً، وإلى جانب ذلك عمل مراسلاً لجريدة (تلغرام الريف) التي أصدرها بعض التقدميين الإسبان في مليلة، والتي أخذت تنشر مقالاته عن أوضاع المغرب وتحليلاته للعلاقات الدولية، وبخاصة بين دول العالم الثالث والدول العظمى. وقد عُرِفَ الخطابي منذ بداية شبابه بشجاعته، وجرأته، وحسن رأيه، إلى جانب قوة إرادته وعزيمته، وشخصيته القيادية الفذة التي لا تقبل الضيم أو الخضوع، ولا تساوم على الدين والكرامة مهما كان الثمن، كما عُرِف بسعة إطلاعه على قضايا أمته وعلى ما يجري في العالم، والانفتاح على ثقافة العصر. وقد اعترف له بذلك الأعداء قبل الأصدقاء؛ فقد وصفه العقيد الإسباني رامون سانشيت أثناء إقامته بمليلة، فقال: «كان ذا عقل ثاقب، وذكاء حادٍّ، ومنطق صارم، وإدراك حصيف، وحدس سليم، وبعد نظر؛ فقد عُرف في هذه الرحلة بآرائه السديدة وحنكته وفطنته، فقد فرض نفسه على القواد الإسبانيين، فكان صاحب مبادىء راسخة، ذا قدرة على التحليق في سماء المثل العليا؛ إذ اتخذها دليلاً لطموحه السياسي ووسيلة ناجعة للثورة على الجهل، فتسلح بنور الفكر الإسلامي وثقافة العصر». وقد مكنته إقامته بمليلة واحتكاكه بالموظفين الإسبان من التعرف على خبايا السياسة الإسبانية، وعلى عقلية السلطة الإسبانية، ونواياها تجاه بلاده. هذه السلطة الاستعمارية الغاشمة التي قامت باعتقاله عام 1915م كونه أظهر التعاطف تجاه العثمانيين الذين انخرطـوا في الحرب العالمية الأولى إلى جانب الألمان، ولجرأته فقد حاول الهرب، وقفز من فوق أسوار السجن شاهق الارتفاع بصورة أدت إلى تهشم رأسه وكسر رجله، ومن ثَمَّ القبض عليه وإعادته إلى السجن مرة أخرى. وفي عام 1920م توفي والده، وكان ذلك بعد خروجه من السجن وعودته إلى قريته بزمن قليل، وكان والده حينها يُعِدُّ العدة للتصدي للإسبان بعد أن أنذرهم من مغبة التوغل في البلاد. ولذلك فقد تصدر الخطابي الواجهة في قبيلته بمساعدة أخيه وعمه، فعمل على جمع شمل القبائل وإزالة ما بينها من فرقة واختلاف، وحثِّها على توجيه بأسها نحو العدو المشترك، وهو العدو الإسباني المحتل، وتخليص البلاد منه، معتبراً الحرب ضده حرباً دينية وحضارية. وقد توَّج جهودَه في هذا المجال بتنظيم مؤتمر عامٍّ لرؤساء القبائل، نجح خلاله في تحقيق مصالَحة عامة بينهم، واعترفوا به زعيماً عليهم، بعد أن تعاهدوا على رفع راية الجهاد ضد الإسبان. ولم يكن الخطابي قائداً عسكرياً فحسب؛ وإنما كان إلى جانب ذلك مصلحاً اجتماعياً، وداعية إسلامياً، يدعو إلى الله على علم وبصيرة، وكانت دعوته تقوم على تجديد ما اندرس من تعاليم الإسلام، ومحاربة الجمود، ونشر العلم، والأخذ بأسباب التقدم والتمدن، في إطار العقيدة الإسلامية.
الجنرال سيلفستري وثورة الريف:
وفي ربيع عام 1921م، وهو العام الذي اندلعت فيه ثورة الريف بقيادة الأمير الخطابي، حشد الإسبان في مليلة جيشاً ضخماً قوامه 30 ألف مقاتل، ومثلهم تقريباً من خونة الأهالي، ولم يلبثوا أن تقدموا في المنطقة، بقيادة الجنرال مانويل فرنانديز سيلفستري، قائد القيادة العليا لجيش الاحتلال الإسباني بناحية مليلة، وكان هذا الجنرال معروفاً بصلفه وعناده، ونوزاعه الاستعمارية، وشدة ولائه للتاج الإسباني، وكان يحظى بالدعم المطلق من قبل الفونسو الثالث عشر، ملك إسبانيا (1902 - 1931م) الذي وضع كل ثقته فيه لوضع حدٍّ لثورة ابن عبد الكريم، ومن ثَمَّ إحكام السيطرة الكاملة، على بلاد الريف كلهـا، حيث كان الإسبان يعتقدون في البداية أن هذه الثورة ليست سوى حركة مؤقتة كالحركات التي سبقتها؛ وبخاصة أن هذا الجنرال بعد تعيينه قائداً عسكرياً لهذه الجبهة عام 1920م، كان قد احتل عدة مواقع متقدمة دون أن يجابَه بمقاومة تذكر، ودون أن يخسر أيَ جندي إسباني، فقد كان الضحايا في هذه المرحلة كلهم من الريفيين الخونة العاملين تحت اللواء الإسباني، كما أن كلاً من إسبانيا وفرنسا كانتا قد منعتا وصول السلاح إلى الريفيين، وجرَّمتا حمله من قبلهم، على اعتبار أنهم (متشددون) وأعداء لرسالتهما الحضارية التي يحملانها إلى الشعوب المتخلفة، بزعمهم. ولذلك فقد استمر الجنرال سيلفستري في اندفاعه حتى منطقة أنوال على مشارف قبيلة (ورياغل) التي ينتمي إليها ابن عبد الكريم، قائد الثورة، حيث كان يتخندق فيها إلى جانب مقاتليه وقتذاك، وكان الجنرال الإسباني المغرور قد أقسم أنه سيشرب الخمر في بيت ابن عبد الكريم. ولكن شاء الله تعالى أن يجعل كيدَه في نحره، وتدميرَه في تدبيره؛ فعند وصوله إلى هذه المنطقة بدأت الأمـور تتخـذ منحىً آخر، لم يحسب له حساباً؛ فبينما كان ذلك الجنرال، يواصل احتلال مناطق الريف فوجىء بانقضاض المجاهدين الريفيين على مركز (أبران) أحد المراكز الإسبانية المهمة في المنطقة وإبادة من وجدوا فيه من جنود إلا قلة قليلة ممن استطاعوا الهرب، والاستيلاء على جميع الأسلحة والذخائر التي كانت فيه، وكانت هذه أول لطمة مؤلمة لهذا الجنرال المتعجرف في المغرب، وكانت بالمقابل أول انتصار للخطابي، وهو الانتصار الذي ذاع صيته في نواحي المنطقة كلها. وعلى إثر ذلك الانتصار الذي جاء بعد عقود من الهزائم والنكسات، وفي وقت كان فيه العالم الإسلامي كله يرزح تحت نير الاستعمار، سرى الحماس في عروق أبناء قبائل الريف، ودبَّت الحميــة في نفوسهم، وتذكروا أمجاد وبطولات أسلافهم فاتحي الأندلس، وبخاصة أن هذا الانتصار قد وقع في العشر الأواخر من رمضان 1339هـ، ومن هنا فقد تداعوا للثورة على الغزاة الإسبان، ولم تلبث أن دوت صيحة الجهاد ضدهم في المنطقة كلها، وانخرط المئات من أبنائها في صفوف كتائب الخطابي، وأخذت الضربات الموجعة تسدَّد للإسبان من كل الاتجاهات، وتم القضاء على العديد من الفرق الإسبانية الموجودة بالمنطقة والاستيلاء على أسلحتها، كما باتت الفرق الإسبانية الأخرى شبه محاصرة، وبات المجاهدون على مشارف أنوال، مركز تجمع القوات الإسبانية، وعلى أهبة الاستعداد لخوض المعركة الفاصلة ضدها، وهي المعركة التي سيتردد صداها في الشرق والغرب، وسيخلدها التاريخ باسم (معركة أنوال).
يتبع