ابو وليد البحيرى
2022-09-19, 02:37 PM
مسرح شوقي والأدب المقارن 1
د. إبراهيم عوض
جاء في كتاب "المسرح" لمحمد مندور ما يفهم منه أن تأثر شوقي بالأدب الفرنسي وإقباله على الإبداع المسرحي هو حصيلة إقامته في فرنسا أيام طلبه العلم في مدرسة الحقوق بمونبليه (انظر كتابه: المسرح/ سلسلة فنون الأدب العربي - الفن التمثيلي (1)/ دار المعارف/ 70 - 71)، والواقع أنه كان في مصر من قبل ذلك نشاط أدبي مسرحي شعرًا ونثرًا، تأليفًا وترجمة، ومن المؤلفين المسرحيين الغربيين الذين ترجمت بعض أعمالهم في تلك الفترة المبكرة: شكسبير وراسين وكورني وموليير، ومن الأسماء المسرحية التي برزت في تلك الفترة محمد عثمان جلال وسليم النقاش وخليل اليازجي ونجيب الحداد وعبدالله فكري ومصطفى كامل، وكانت هناك كتابات نقدية واعية بهذا الفن تدل على أن أصحابها درسوا المسرح وعرفوا أصول نقده مما قرؤوه في الأدب والنقد الغربيين، وهذه الكتابات متاحة لمن يريدها في مقدمات المسرحيات المنشورة في ذلك الوقت أو في بعض المجلات والصحف، ومن هنا فإني قد لا أشاطر د. مندور رأيه المذكور آنفًا، وأرى أن شوقي قد تأثر بالتأليف المسرحي الذي كان موجودًا ونشِطًا بمصر قبل سفره إلى فرنسا، وبخاصة إذا لاحظنا أنه لم يُقبِل بكل همته على المشاركة في ذلك التأليف إلا في أخريات حياته بعدما عاد من فرنسا بزمن جد طويل، بل بعدما عاد أيضًا من إسبانيا، التي كان قد نفي إليها خلال الحرب العالمية الأولى، ولو أضفنا إلى هذا وذاك أنه لم يقم بترجمة أي من المسرحيات الغربية لتبين أن الرأي الذي ذكرته أحرى أن يكون هو الصواب، وإن لم أستبعد أن تكون إقامته في فرنسا أيام الدراسة، ثم في إسبانيا أيام النفي، قد أغرته بالإقبال على المسرح الغربي قراءة ومشاهدة، مما أسهم في صقل إمكاناته المسرحية.
كذلك يقول د. محمد مندور في سياق انتقاد شوقي:
إن شوقي، حين شرع في الكتابة المسرحية، كان تأثره أوضح ما يكون بالمسرح الكلاسيكي، لكنه لم يكن قد تعمق دراسة المذاهب المسرحية المختلفة، ومن ثم لم يكن قادرًا على اختيار مذهب من تلك المذاهب عن وعي واختيار، بل جاء تأثره بالكلاسيكية بطريقة تلقائية غير منهحية؛ ولهذا لا نراه يتقيد في مسرحه بجميع الأصول الكلاسيكية، بل يأخذ بما هداه إليه إحساسه (المرجع السابق/ 71 - 72).
وبعيدًا عن المستوى الفني لمسرح شوقي نود أن نعرب بقوة عن مخالفتنا للدكتور مندور؛ إذ من الواضح أنه يرى أن مكاننا في الإبداع الأدبي لا بد أن يأتي تابعًا للغربيين، فإذا ذهبوا يمينًا وجب أن نذهب وراءهم ذات اليمين، وإذا راحوا شمالاً كان علينا أن نيمِّمَ وجوهنا ذات الشمال...وهكذا، وبنفس الطريقة لا بد لنا أن نكون إما كلاسيكيين أو رومانسيين أو واقعيين صرفًا ما دامت هناك مذاهب كلاسيكية ورومانسية وواقعية صرف، ولا يحق لنا أن نمزج بين مذهبين، وهذا ما يوجبه النقاد المشايعون لكل ما يأتي من الغرب، فنراهم يعيبون أي ناقد لا يتقيد بمذهب بعينه، ويزعمون أن نقده فاسد وغير منهجي، مع أن تلك المذاهب الأدبية والنقدية ليست نازلةً من السماء، بل هي نتاج بشري فيه الصواب وفيه الخطأ، ومن حق أي أحد أن يتصرف فيها على النحو الذي يراه صحيحًا، ومن ثم فإننا، مبدئيًّا، لا نرى فيما فعله شوقي طبقًا لما يقوله مندور من عدم تعبده لمذهب بعينه على النحو الذي يريده ذلك الناقد شيئًا يعاب، بل كان هو التصرف الأقرب إلى الحكمة، ثم إن شوقي لم يؤلف، وهو في فرنسا، إلا مسرحية واحدة هي مسرحية "علي بك الكبير"، التي أعاد تأليفها بعد ذلك بسنوات طوال في أخريات حياته.
كذلك لا أشاطر مندور قوله: إن استقاء شوقي مسرحياته من التاريخ قد وقف حاجزًا بينها وبين الجمهور، الذي كان يفضل أن يرى في المسرحية عرضًا لمشاكله المعاصرة بدلاً من معالجة الأحداث التاريخية التي بعد بها العهد فلم يعد لها تأثير يذكر في حياته واهتماماته (ص74)، وقد فات مندور أن كثيرًا جدًّا من المسرحيات المعاصرة لشوقي كانت مسرحيات تاريخية، وراجت لدى الجمهور المصري أيما رواج، وإلا فلم استمر الشعراء ينسجون مسرحياتهم من خيوط التاريخ؟ إن انحياز شوقي لإبداع المسرحيات التاريخية في كل أعماله تقريبًا إنما هو اتباع لما كان يجري عليه التأليف المسرحي في مصر آنذاك في أغلب الأحيان؛ إذ كان التاريخ والقصص الشعبي أهمَّ مصادر التأليف المسرحي العربي، كما جاء في مادة "المسرحية العربية" في "الموسوعة العربية العالمية"، التي أضافت أن المسرحية العربية تنقسم إلى ثلاثة أنواع: مسرحية تاريخية، ومسرحية تراثية، ومسرحية شعرية، وأن المسرح التاريخي قد شغل حيزًا كبيرًا في التراث الأدبي المسرحي على امتداد الوطن العربي، وفي مختلف مراحل تاريخ المسرحية العربية، ومنه على سبيل المثال في تلك الفترة المبكرة: مسرحية "المروءة والوفاء" لخليل اليازجي (1876م)، و"السلطان صلاح الدين في مملكة أورشليم" لفرح أنطون (1914م)، أما المسرح التراثي في تلك الفترة ذاتها فيمكن الاستشهاد له بمسرحية "أبو الحسن المغفل" لمارون النقاش، وهي مستوحاة من قصص "ألف ليلة وليلة"، وكاد أبو خليل القباني الرائد الثاني لكتابة المسرحية أن يعتمد كليًّا على القصص الشعبي في كتابة مسرحياته المأخوذة في معظمها من قصص "ألف ليلة وليلة"، وقد اعتمدت الموضوعات في هذه الفترة على ما يجد القبول لدى العامة من أحاديث الحب والخيانة والبطولة والشهامة.
ومما قاله د. مندور عن مسرح شوقي أيضًا أنه مسرح كلاسيكي (ص71 - 74)، لكن فاته أن المسرح الكلاسيكي يفصل تمام الفصل بين المأساة والملهاة، فلا يخلط بينهما في العمل المسرحي الواحد، فضلًا عن أن زمن المسرحية فيه ينبغي ألا يتجاوز أربعًا وعشرين ساعة، كما لا ينبغي أن يتسع المحيط المكاني الذي تقع فيه أحداثها عن المحيط الذي يمكن أن يتحرك فيه الإنسان خلال تلك الساعات الأربع والعشرين، ومن ثم فإننا لا نوافق مندور على تصنيفه هذا؛ إذ كانت مسرحيات شوقي تضم أحيانًا عناصر مأساوية وأخرى ملهاوية، كما لم تلتزم بتاتًا بالوحدات الثلاث التي كان المسرحيون الكلاسيكيون يلتزمون بها، فلم يبقَ إذًا إلا أن موضوعات مسرحياته هي في الغالب موضوعات تاريخية، لكن هل يكفي هذا للحكم عليها بأنها مسرحيات كلاسيكية على اعتبار أن المسرحيات الكلاسيكية كانت تعالج موضوعات تاريخية؟ لا أظن هذا سببًا كافيًا للقول بأن شوقي شاعر مسرحي كلاسيكي، بل إن مندور نفسه قد عاد في موضع آخر من ذات الكتاب الذي نحن بصدده فذكر أن شوقي كان حريصًا على أن يضفي على مسرحيته: "مجنون ليلى" مثلًا ما يسمى بـ: "اللون المحلي" و"الطابع التاريخي الشعبي"، وهما سمتان من سمات المسرح الرومانسي (ص78)، كما لا ينبغي أن يفوتنا أن بعض مسرحيات شوقي تشتمل على أبيات رومانسية ينصرف البطل إلى إلقائها فتسكن حركة المسرحية، وينصرف المشاهد إلى استماع تلك القصيدة مغمورًا بالانبهار، وليس في هذا أدنى شيء من الاتجاه الكلاسيكي.
ولعل ما كتبه د. جمال الدين الرمادي عن مسرحيات شوقي من أنها لا تمت بصلة إلى مذهب أدبي محدد، بل تأخذ من هذا المذهب شيئًا، ومن ذاك المذهب شيئًا آخر، فجاء فنه يتأرجح على غير هدى، هو أقرب شيء إلى واقع الأمر (انظر كتابه: "مسرحية كليوباترة بين الأدب العربي والأدب الإنجليزي"/ دار الفكر العربي/ 45)، ومن العجيب أن يكتب مندور في كتابه: "مسرحيات شوقي" أنه إذا كانت الكلاسيكية تحافظ على مبدأ فصل الأنواع؛ أي: جعل المأساة مأساة خالصة، والملهاة ملهاة صرفًا، فإن الرومانسية قد خلطت بين الأمرين، وهو ما صنعه شوقي أيضًا (الكتاب المذكور/ مكتبة نهضة مصر ومطبعتها/ 1956م/ 28)، فضلًا عن تضمينه قصائد غنائية في مسرحياته إرضاءً للذوق العربي والمصري الذي يعشق الطرب والغناء (المرجع السابق/ 29 - 30)، كذلك أكد مندور أن "شوقي لم يتقيد بتيار خاص ولا بمذهب معين، بل جمع بين الشرق والغرب، وبين مذاهب الأدب المختلفة، والظاهر أنه لم يتعمق دراسة فلسفة الأدب، ولم يكن لنفسه حصيلة نظرية من تلك الفلسفة، وإنما كان يستهدي ذوقه الخاص وتفكيره القريب المنال" (ص30 - 31)، ليعود فيقول عكس هذا تمامًا حين قرر أننا "لا ينبغي أن نأخذ بالأصول التي سار عليها هذا المذهب أو ذاك في الأدب الغربي؛ فالكثير من تلك الأصول نسبي لم يتحرج الغربيون من الخروج عليها حتى لو كانت مما نظنه بديهيًّا، مثل ضرورة انتهاء المسرحية إلى خاتمة ما" (ص31)، وهو ما يعني صحة كل ما قلناه آنفًا، وبالمثل نرى د. محمد حامد شوكت يقرر أن شوقي قد تأثر في مسرحياته بالاتجاه الكلاسيكي في فرنسا (ص)78 من كتابه: "الفن المسرحي في الأدب العربي الحديث") رغم أنه عنون الفصل الذي ورد فيه هذا الحكم، وهو الفصل الثاني من الكتاب الذي نحن بصدده، بـ: "المسرح الرومانسي المنظوم" (ص67).
وهذه هي القضية الأولى من قضايا الأدب المقارن في مسرح شوقي، أما القضية الثانية فتتعلق بمسرحيته عن كليوباترا (69 - 30 ق.م)، وهي، كما نعرف، ملكة من ملكات مصر القديمة، ومن أكثر النساء اشتهارًا بالسحر والجاذبية على مدى التاريخ رغم أنها لم تكن صارخة الجمال، لكنها اشتهرت بالذكاء والفطنة والحصافة والطموح، وكانت تتصف في بعض الأحيان بقسوة القلب، وقد أحبت يوليوس قيصر ومارك أنطوني القائدين الرومانيين المشهورين في زمنها، وكانت لها معهما علاقات غرامية، وكانت هي الملكة الأخيرة في الأسرة الحاكمة التي أنشأها بطليموس الأول عام 323 ق.م، وهو أحد القواد في جيش الفاتح المقدوني الشهير الإسكندر الأكبر، واسمها كاملاً: كليوباترا السابعة؛ إذ كانت ملكة مصر السابعة التي تحمل هذا الاسم نفسه من السلالة المقدونية.
وقد اعتلت كليوباترا العرش عام 51 ق.م، بعد وفاة والدها بطليموس الثاني عشر، وأصبح أخوها بطليموس الثالث عشر، الذي كان في العاشرة من عمره حينئذ، شريكها في الحكم وزوجها كذلك، جريًا على ما كان شائعًا في ذلك الزمان من جواز اقتران الأخ بأخته، وانفرد الأوصياء الذي كانوا يتولَّون رعاية بطليموس الصغير بالسلطة دونه عام 48 ق.م، وخلعوا كليوباترا عن العرش، وفي ذلك الوقت وصل يوليوس قيصر إلى الإسكندرية، عاصمة مصر حينئذ، حيث التقى بكليوباترا وربط الحب بينهما، فوقف إلى جانبها ونصرها على معارضيها، وغرق أخوها بطليموس الثالث عشر وهو يحاول الهرب، وأعادها قيصر إلى العرش مع شقيق آخر لها هو بطليموس الرابع عشر، وقد وضعت بعيد ذلك طفلاً عام 47ق.م، وسمته قيصرون، وأعلنت أنه ابن قيصر، وفي عام 46 ق.م لبت دعوة قيصر وذهبت هي وقيصرون وبطليموس الرابع عشر إلى روما، وظلت هناك حتى عام 44 ق.م حين قامت مجموعة من أشراف روما الأرستقراطيين بقتل قيصر، وحينئذ عادت إلى مصر، حيث دبرت مقتل أخيها بطليموس الرابع عشر حتى يتمكن قيصرون من الحكم.
وفي عام 41 ق.م وجه مارك أنطونيو دعوة إلى كليوباترا لزيارته في طرسوس في آسيا الصغرى (تركيا الآن)، وكان أنطونيو في ذلك الوقت أحد حكام روما مع جايوس أوكتافيوس (أوغسطس) وماركوس ليبيدس، وكان قد التقى بكليوباترا أثناء إقامتها في روما في ضيافة قيصر، وكان يود أن يحكم روما وحده، ويأمل أن يحصل على مساعدة مادية من كليوباترا، وقد ربط الحب بينهما عام 40 ق.م، ووضعت كليوباترا مولودين توءمين.
أحب أنطونيو كليوباترا وطفليها إسكندر هيليوس وكيلوباترا سيلين (التوءمين)، ولكنه ترك الجميع ليتزوج أوكتافيا شقيقة أوكتافيوس شريكه في الحكم، وكان زواجه بمثابة وسيلة سياسية للوصول إلى السلطة، إلا أنه افتقد كليوباترا، فترك أوكتافيا، وعاد إلى حبيبة قلبه وتزوجها عام 37 ق.م، وبعد ذلك بعام رزقت كليوباترا بغلام آخر منه، هو بطليموس فيلاديلفوس، وقد تعاون الاثنان لتحقيق أهدافهما، وكان هو يعتقد أن ثروة مصر ستساعده ليصبح الحاكم الوحيد لروما، أما هي فكانت تأمل أن تجعل من أولادها، وخصوصًا قيصرون، حلقات في سلسلة حكام روما، وفي عام 34 ق.م عينها حاكمًا على مصر وقبرص وكريت وسوريا، ومنح أبناءه منها كثيرًا من الأراضي التي كان يحكمها الإسكندر الأكبر، مما أغضب مشاركيه ومنافسيه في الحكم، وكان أوكتافيوس يرى أن كليوباترا امرأة جشعة ذات أطماع واسعة، وأحس أنها حولت أنطونيو إلى شخص مسلوب الإرادة تحركه كما تشاء.
وفي عام 32 ق.م أعلن أوكتافيوس الحرب على أنطونيو، ودارت معركة بين الفريقين عند أكتيوم على الشاطئ الغربي من بلاد اليونان، خسرها أنطونيو وكليوباترا، فعاد الاثنان إلى الإسكندرية، حيث حضر أوكتافيوس بعد بضعة أشهر لملاحقتها، وبعد أن وصل بقواته إلى مصر عام 30 ق.م أشاعت كليوباترا أنها انتحرت، وسمع أنطونيو بالنبأ فقتل نفسه بالخَنجَر حزنًا عليها، وحمله أتباعه إلى كليوباترا، حيث لفظ أنفاسه الأخيرة بين ذراعيها.
وهنا اعتقدت كليوباترا أن أوكتافيوس سوف يهينها على الملأ في روما، فحاولت أن تعقد السلام معه، ولكنها فشلت، فدفعها اليأس إلى الانتحار بأن وضعت حية سامة على صدرها أو ذراعها، وبعد وفاتها قتل الرومان قيصرون خشية أن يطالب بالإمبراطورية الرومانية بوصفه وريثًا لقيصر وولي عهده.
وترجع شهرة كليوباترا في التاريخ إلى وجهة نظر أوكتافيوس الذي وصف أنطونيو بأنه ضحية لصدمة حبه من امرأة ساحرة لعوب، وتبنى الشاعران الرومانيان فيرجيل وهوراس هذه النظرة، وتناولها تناولاً قصصيًّا عدد من الأدباء حول العالم، كما ألفت حولها مسرحيات متعددة، منها: مسرحية "أنطونيو وكليوباترا" (1607م) لوليم شكسبير، ومسرحية "كل شيء من أجل الحب" (1677م) للإنجليزي جون درايدن، ومسرحية "قيصر وكليوباترا" (1898م) للأيرلندي جورج برناردشو، ومسرحية "مصرع كليوباترا" للشاعر أحمد شوقي (نقلاً عن "الموسوعة العربية العالمية" بشيء من التصرف، وانظر أيضًا "الموسوعة البريطانية 2009م"، و"موسوعة اليونيفرساليس 2009م"، وموسوعة "الويكيبيدا" بنسختيها الإنجليزية والعربية، وموسوعة "الإنكارتا" بنسختيها الإنجليزية والفرنسية).
ولسوف نشرع الآن في المقارنة بين مسرحية شكسبير ونظيرتها لشوقي، فماذا نجد؟ نجد أن كلتا المسرحتين قد بدأت أحداثها في غرفة من غرفات قصر كليوباترة: فأما لدن شكسبير فهي غرفة مجهَّلة لم تحدد: "Alexandtia، Aroon in Cleopatra palase"، وأما لدن شوقي فهي المكتبة تحديدًا، ومع هذا فالفرق بين المكانين هو فرق غير ذي قيمة، كما هو بين لا يحتاج إلى توضيح، فهل هذا الأمر تم عفوًا؟ أم هل تأثر شوقي بمسرحية شكبير، التي كان قد قرأها قبل أن يؤلف مسرحيته هو فكان أن بدأ مسرحيته على هذا النحو؟ (انظر في قراءته مسرحية شكسبير كتاب د. ماهر حسن فهمي: "أحمد شوقي"/ أعلام العرب/ العدد 106/ 171).
وقد وصفت كليوباترة في النظرات التحليلية التي ذيلت بها مسرحية "مصرع كليوباترة" بـ: "الملكة المصرية المظلومة"، مؤكدًا كاتبها أنها اكتسبت مصريتها من واقع حكم أسرتها لأرض الكنانة ثلاثة قرون هي عمر الدولة البطلمية، التي وفدت إلينا من اليونان واحتلت بلادنا (ص119)، كذلك انبرى كاتب النظرات يدافع عن كليوباترة أيما دفاع؛ إذ نعتها بالوفاء والإخلاص لمصر، ورد ما اتهمها به مؤرخو الرومان في عرضها وعقلها واصفين إياها بأنها "حية النيل العجوز"، مبينًا أنه إذا كان شوقي قد أخذ على عاتقه مهمة كتابة مسرحية تنصف "هذه المصرية المضطهدة" وتثبت لها "سمو الغاية ونبالة المقصد" على حد تعبيره، فهذا أمر طبيعي استوحي فيه المنطق واتجاه البحث العلمي الذي يكشف كل يوم من أمر كليوباترة شيئًا جديدًا ينسخ ما كان متعارفًا من قبل (ص120).
والواقع الذي نعرفه ولا نعرف سواه، حتى الآن على الأقل، هو أن كليوباترة كانت امرأة لعوبًا حسبما رأينا من ترجمتها الآنفة، فضلًا عن أنها ليست مصرية أبدًا، فكيف يقلب شوقي حقائق التاريخ ويصيرها مصرية طاهرة الذيل؟ لقد أطلق للسانه في المسرحية العنان، فوصف الشعب المصري بأنه شعب ثرثار رعديد يسمع كلام حاكميه ولا يفكر يومًا في الثورة عليهم، بل يخرج للهتاف بحياتهم والتصفيق لهم مهما استبدوا به وأجحفوا بحقوقه وساموه سوء العذاب، ولم نجد في ذلك ما يقدح في وطنيته؛ إذ ليس مطلوبًا من الأديب أن يزيف حقائق الأمور فيرسم لشعبه صورة براقة نظيفة في الوقت الذي ليست صورته الحقيقية براقة ولا نظيفة، فكيف انقلبت الأمور على يديه بالنسبة إلى كليوباترة، فحرص على تطهيرها وتصويرها في أبهى حلة وأنقاها، وهي ليست كذلك؟ ترى هل السبب في ذلك يرجع إلى أن في عروق شوقي شيئًا من الدم اليوناني وأنه ليس مصريًّا بالجنس بل بإقامة أسرته فيها زمنًا مثلما هو الوضع في حالة كليوباترة؟
لكن كيف فات شوقي أن ثمة فرقًا هائلًا بين البطالمة، الذين اقتحموا مصر بالقوة الغشوم محتلين، وحكموها مستبدين، ولثرواتها مستنزفين، ولشعبها قاهرين، وبينه هو وأمثاله ممن أتوا إلى مصر بوصفهم أفرادًا، وامتزجوا بالمصريين امتزاجًا، وصاروا جزءًا منهم بالطريق الطبيعي وبالرضا؟ ثم إن كليوباترة خاضت بركة من الدماء في سبيل التشبث بالسلطان، وقتلت أخاها، وفرطت في عِرضها، واتبعت سبيل شهواتها، واستغلت جسدها من أجل الإيقاع بقادة روما في غرامها واحدًا وراء الآخر غير عابئة بمبدأ أو قيمة، وما هكذا تخدم الأوطان! إن الأوطان إنما تخدم بالشرف والكرامة والعزة والعفة، لا بإذالة العِرض وابتذاله!
كذلك كان البطالمة يعملون على نشر الثقافة الإغريقية ويقربون إليهم أبناء بلادهم الأصلية دون المصريين، وإلى القارئ ما كتبته "الموسوعة العربية العالمية" في المادة الخاصة بـ: "بطليموس الأول" مؤسس دولة البطالسة في مصر: "أسس أسرة من الحكام الذين حكموا مصر بين 323 و30 ق.م، وعرفت هذه الأسرة بالبطالسة، وقد حكم بطليموس، الذي اتخذ لقب ملك مصر، من 305 ق.م حتى عام 285 ق.م، ولد بطليموس في مقدونيا، وهي منطقة شمال اليونان، وصار قائدًا بارزًا في جيش الإسكندر الأكبر، وهو الملك المقدوني الذي أنشأ إمبراطورية ضمت مصر وأغلب بلاد غرب آسيا، وبعد موت الإسكندر عام 323 ق.م استولى بطليموس على مصر، وبسط حكمه إلى جزيرة قبرص وجنوب فلسطين وبرقة، وهي مستعمرة إفريقية في شمال إفريقيا...جند بطليموس المقيمين من الإغريق والمقدونيين في جيشه وبحريته وإدارته، ومنح المستوطنين الأراضي، وشجع على تنمية الثقافة الإغريقية".
وعلى العكس مما كتبه صاحب النظرات التحليلية تمامًا يرى فتحي سعيد أن شوقي، حين اختار كليوباترة موضوعًا لمسرحيته، كان حريصًا على "ألا يغضب ولي النعم أو جناب السلطان الأكبر؛ فكليوباترة سليلة البطالمة، وليست بنت مصر" (فتحي سعيد/ شوقي أمير الشعراء - لماذا؟/ دار المعارف/ سلسلة "تابك"/ العدد 54/ 28).
يتبع
د. إبراهيم عوض
جاء في كتاب "المسرح" لمحمد مندور ما يفهم منه أن تأثر شوقي بالأدب الفرنسي وإقباله على الإبداع المسرحي هو حصيلة إقامته في فرنسا أيام طلبه العلم في مدرسة الحقوق بمونبليه (انظر كتابه: المسرح/ سلسلة فنون الأدب العربي - الفن التمثيلي (1)/ دار المعارف/ 70 - 71)، والواقع أنه كان في مصر من قبل ذلك نشاط أدبي مسرحي شعرًا ونثرًا، تأليفًا وترجمة، ومن المؤلفين المسرحيين الغربيين الذين ترجمت بعض أعمالهم في تلك الفترة المبكرة: شكسبير وراسين وكورني وموليير، ومن الأسماء المسرحية التي برزت في تلك الفترة محمد عثمان جلال وسليم النقاش وخليل اليازجي ونجيب الحداد وعبدالله فكري ومصطفى كامل، وكانت هناك كتابات نقدية واعية بهذا الفن تدل على أن أصحابها درسوا المسرح وعرفوا أصول نقده مما قرؤوه في الأدب والنقد الغربيين، وهذه الكتابات متاحة لمن يريدها في مقدمات المسرحيات المنشورة في ذلك الوقت أو في بعض المجلات والصحف، ومن هنا فإني قد لا أشاطر د. مندور رأيه المذكور آنفًا، وأرى أن شوقي قد تأثر بالتأليف المسرحي الذي كان موجودًا ونشِطًا بمصر قبل سفره إلى فرنسا، وبخاصة إذا لاحظنا أنه لم يُقبِل بكل همته على المشاركة في ذلك التأليف إلا في أخريات حياته بعدما عاد من فرنسا بزمن جد طويل، بل بعدما عاد أيضًا من إسبانيا، التي كان قد نفي إليها خلال الحرب العالمية الأولى، ولو أضفنا إلى هذا وذاك أنه لم يقم بترجمة أي من المسرحيات الغربية لتبين أن الرأي الذي ذكرته أحرى أن يكون هو الصواب، وإن لم أستبعد أن تكون إقامته في فرنسا أيام الدراسة، ثم في إسبانيا أيام النفي، قد أغرته بالإقبال على المسرح الغربي قراءة ومشاهدة، مما أسهم في صقل إمكاناته المسرحية.
كذلك يقول د. محمد مندور في سياق انتقاد شوقي:
إن شوقي، حين شرع في الكتابة المسرحية، كان تأثره أوضح ما يكون بالمسرح الكلاسيكي، لكنه لم يكن قد تعمق دراسة المذاهب المسرحية المختلفة، ومن ثم لم يكن قادرًا على اختيار مذهب من تلك المذاهب عن وعي واختيار، بل جاء تأثره بالكلاسيكية بطريقة تلقائية غير منهحية؛ ولهذا لا نراه يتقيد في مسرحه بجميع الأصول الكلاسيكية، بل يأخذ بما هداه إليه إحساسه (المرجع السابق/ 71 - 72).
وبعيدًا عن المستوى الفني لمسرح شوقي نود أن نعرب بقوة عن مخالفتنا للدكتور مندور؛ إذ من الواضح أنه يرى أن مكاننا في الإبداع الأدبي لا بد أن يأتي تابعًا للغربيين، فإذا ذهبوا يمينًا وجب أن نذهب وراءهم ذات اليمين، وإذا راحوا شمالاً كان علينا أن نيمِّمَ وجوهنا ذات الشمال...وهكذا، وبنفس الطريقة لا بد لنا أن نكون إما كلاسيكيين أو رومانسيين أو واقعيين صرفًا ما دامت هناك مذاهب كلاسيكية ورومانسية وواقعية صرف، ولا يحق لنا أن نمزج بين مذهبين، وهذا ما يوجبه النقاد المشايعون لكل ما يأتي من الغرب، فنراهم يعيبون أي ناقد لا يتقيد بمذهب بعينه، ويزعمون أن نقده فاسد وغير منهجي، مع أن تلك المذاهب الأدبية والنقدية ليست نازلةً من السماء، بل هي نتاج بشري فيه الصواب وفيه الخطأ، ومن حق أي أحد أن يتصرف فيها على النحو الذي يراه صحيحًا، ومن ثم فإننا، مبدئيًّا، لا نرى فيما فعله شوقي طبقًا لما يقوله مندور من عدم تعبده لمذهب بعينه على النحو الذي يريده ذلك الناقد شيئًا يعاب، بل كان هو التصرف الأقرب إلى الحكمة، ثم إن شوقي لم يؤلف، وهو في فرنسا، إلا مسرحية واحدة هي مسرحية "علي بك الكبير"، التي أعاد تأليفها بعد ذلك بسنوات طوال في أخريات حياته.
كذلك لا أشاطر مندور قوله: إن استقاء شوقي مسرحياته من التاريخ قد وقف حاجزًا بينها وبين الجمهور، الذي كان يفضل أن يرى في المسرحية عرضًا لمشاكله المعاصرة بدلاً من معالجة الأحداث التاريخية التي بعد بها العهد فلم يعد لها تأثير يذكر في حياته واهتماماته (ص74)، وقد فات مندور أن كثيرًا جدًّا من المسرحيات المعاصرة لشوقي كانت مسرحيات تاريخية، وراجت لدى الجمهور المصري أيما رواج، وإلا فلم استمر الشعراء ينسجون مسرحياتهم من خيوط التاريخ؟ إن انحياز شوقي لإبداع المسرحيات التاريخية في كل أعماله تقريبًا إنما هو اتباع لما كان يجري عليه التأليف المسرحي في مصر آنذاك في أغلب الأحيان؛ إذ كان التاريخ والقصص الشعبي أهمَّ مصادر التأليف المسرحي العربي، كما جاء في مادة "المسرحية العربية" في "الموسوعة العربية العالمية"، التي أضافت أن المسرحية العربية تنقسم إلى ثلاثة أنواع: مسرحية تاريخية، ومسرحية تراثية، ومسرحية شعرية، وأن المسرح التاريخي قد شغل حيزًا كبيرًا في التراث الأدبي المسرحي على امتداد الوطن العربي، وفي مختلف مراحل تاريخ المسرحية العربية، ومنه على سبيل المثال في تلك الفترة المبكرة: مسرحية "المروءة والوفاء" لخليل اليازجي (1876م)، و"السلطان صلاح الدين في مملكة أورشليم" لفرح أنطون (1914م)، أما المسرح التراثي في تلك الفترة ذاتها فيمكن الاستشهاد له بمسرحية "أبو الحسن المغفل" لمارون النقاش، وهي مستوحاة من قصص "ألف ليلة وليلة"، وكاد أبو خليل القباني الرائد الثاني لكتابة المسرحية أن يعتمد كليًّا على القصص الشعبي في كتابة مسرحياته المأخوذة في معظمها من قصص "ألف ليلة وليلة"، وقد اعتمدت الموضوعات في هذه الفترة على ما يجد القبول لدى العامة من أحاديث الحب والخيانة والبطولة والشهامة.
ومما قاله د. مندور عن مسرح شوقي أيضًا أنه مسرح كلاسيكي (ص71 - 74)، لكن فاته أن المسرح الكلاسيكي يفصل تمام الفصل بين المأساة والملهاة، فلا يخلط بينهما في العمل المسرحي الواحد، فضلًا عن أن زمن المسرحية فيه ينبغي ألا يتجاوز أربعًا وعشرين ساعة، كما لا ينبغي أن يتسع المحيط المكاني الذي تقع فيه أحداثها عن المحيط الذي يمكن أن يتحرك فيه الإنسان خلال تلك الساعات الأربع والعشرين، ومن ثم فإننا لا نوافق مندور على تصنيفه هذا؛ إذ كانت مسرحيات شوقي تضم أحيانًا عناصر مأساوية وأخرى ملهاوية، كما لم تلتزم بتاتًا بالوحدات الثلاث التي كان المسرحيون الكلاسيكيون يلتزمون بها، فلم يبقَ إذًا إلا أن موضوعات مسرحياته هي في الغالب موضوعات تاريخية، لكن هل يكفي هذا للحكم عليها بأنها مسرحيات كلاسيكية على اعتبار أن المسرحيات الكلاسيكية كانت تعالج موضوعات تاريخية؟ لا أظن هذا سببًا كافيًا للقول بأن شوقي شاعر مسرحي كلاسيكي، بل إن مندور نفسه قد عاد في موضع آخر من ذات الكتاب الذي نحن بصدده فذكر أن شوقي كان حريصًا على أن يضفي على مسرحيته: "مجنون ليلى" مثلًا ما يسمى بـ: "اللون المحلي" و"الطابع التاريخي الشعبي"، وهما سمتان من سمات المسرح الرومانسي (ص78)، كما لا ينبغي أن يفوتنا أن بعض مسرحيات شوقي تشتمل على أبيات رومانسية ينصرف البطل إلى إلقائها فتسكن حركة المسرحية، وينصرف المشاهد إلى استماع تلك القصيدة مغمورًا بالانبهار، وليس في هذا أدنى شيء من الاتجاه الكلاسيكي.
ولعل ما كتبه د. جمال الدين الرمادي عن مسرحيات شوقي من أنها لا تمت بصلة إلى مذهب أدبي محدد، بل تأخذ من هذا المذهب شيئًا، ومن ذاك المذهب شيئًا آخر، فجاء فنه يتأرجح على غير هدى، هو أقرب شيء إلى واقع الأمر (انظر كتابه: "مسرحية كليوباترة بين الأدب العربي والأدب الإنجليزي"/ دار الفكر العربي/ 45)، ومن العجيب أن يكتب مندور في كتابه: "مسرحيات شوقي" أنه إذا كانت الكلاسيكية تحافظ على مبدأ فصل الأنواع؛ أي: جعل المأساة مأساة خالصة، والملهاة ملهاة صرفًا، فإن الرومانسية قد خلطت بين الأمرين، وهو ما صنعه شوقي أيضًا (الكتاب المذكور/ مكتبة نهضة مصر ومطبعتها/ 1956م/ 28)، فضلًا عن تضمينه قصائد غنائية في مسرحياته إرضاءً للذوق العربي والمصري الذي يعشق الطرب والغناء (المرجع السابق/ 29 - 30)، كذلك أكد مندور أن "شوقي لم يتقيد بتيار خاص ولا بمذهب معين، بل جمع بين الشرق والغرب، وبين مذاهب الأدب المختلفة، والظاهر أنه لم يتعمق دراسة فلسفة الأدب، ولم يكن لنفسه حصيلة نظرية من تلك الفلسفة، وإنما كان يستهدي ذوقه الخاص وتفكيره القريب المنال" (ص30 - 31)، ليعود فيقول عكس هذا تمامًا حين قرر أننا "لا ينبغي أن نأخذ بالأصول التي سار عليها هذا المذهب أو ذاك في الأدب الغربي؛ فالكثير من تلك الأصول نسبي لم يتحرج الغربيون من الخروج عليها حتى لو كانت مما نظنه بديهيًّا، مثل ضرورة انتهاء المسرحية إلى خاتمة ما" (ص31)، وهو ما يعني صحة كل ما قلناه آنفًا، وبالمثل نرى د. محمد حامد شوكت يقرر أن شوقي قد تأثر في مسرحياته بالاتجاه الكلاسيكي في فرنسا (ص)78 من كتابه: "الفن المسرحي في الأدب العربي الحديث") رغم أنه عنون الفصل الذي ورد فيه هذا الحكم، وهو الفصل الثاني من الكتاب الذي نحن بصدده، بـ: "المسرح الرومانسي المنظوم" (ص67).
وهذه هي القضية الأولى من قضايا الأدب المقارن في مسرح شوقي، أما القضية الثانية فتتعلق بمسرحيته عن كليوباترا (69 - 30 ق.م)، وهي، كما نعرف، ملكة من ملكات مصر القديمة، ومن أكثر النساء اشتهارًا بالسحر والجاذبية على مدى التاريخ رغم أنها لم تكن صارخة الجمال، لكنها اشتهرت بالذكاء والفطنة والحصافة والطموح، وكانت تتصف في بعض الأحيان بقسوة القلب، وقد أحبت يوليوس قيصر ومارك أنطوني القائدين الرومانيين المشهورين في زمنها، وكانت لها معهما علاقات غرامية، وكانت هي الملكة الأخيرة في الأسرة الحاكمة التي أنشأها بطليموس الأول عام 323 ق.م، وهو أحد القواد في جيش الفاتح المقدوني الشهير الإسكندر الأكبر، واسمها كاملاً: كليوباترا السابعة؛ إذ كانت ملكة مصر السابعة التي تحمل هذا الاسم نفسه من السلالة المقدونية.
وقد اعتلت كليوباترا العرش عام 51 ق.م، بعد وفاة والدها بطليموس الثاني عشر، وأصبح أخوها بطليموس الثالث عشر، الذي كان في العاشرة من عمره حينئذ، شريكها في الحكم وزوجها كذلك، جريًا على ما كان شائعًا في ذلك الزمان من جواز اقتران الأخ بأخته، وانفرد الأوصياء الذي كانوا يتولَّون رعاية بطليموس الصغير بالسلطة دونه عام 48 ق.م، وخلعوا كليوباترا عن العرش، وفي ذلك الوقت وصل يوليوس قيصر إلى الإسكندرية، عاصمة مصر حينئذ، حيث التقى بكليوباترا وربط الحب بينهما، فوقف إلى جانبها ونصرها على معارضيها، وغرق أخوها بطليموس الثالث عشر وهو يحاول الهرب، وأعادها قيصر إلى العرش مع شقيق آخر لها هو بطليموس الرابع عشر، وقد وضعت بعيد ذلك طفلاً عام 47ق.م، وسمته قيصرون، وأعلنت أنه ابن قيصر، وفي عام 46 ق.م لبت دعوة قيصر وذهبت هي وقيصرون وبطليموس الرابع عشر إلى روما، وظلت هناك حتى عام 44 ق.م حين قامت مجموعة من أشراف روما الأرستقراطيين بقتل قيصر، وحينئذ عادت إلى مصر، حيث دبرت مقتل أخيها بطليموس الرابع عشر حتى يتمكن قيصرون من الحكم.
وفي عام 41 ق.م وجه مارك أنطونيو دعوة إلى كليوباترا لزيارته في طرسوس في آسيا الصغرى (تركيا الآن)، وكان أنطونيو في ذلك الوقت أحد حكام روما مع جايوس أوكتافيوس (أوغسطس) وماركوس ليبيدس، وكان قد التقى بكليوباترا أثناء إقامتها في روما في ضيافة قيصر، وكان يود أن يحكم روما وحده، ويأمل أن يحصل على مساعدة مادية من كليوباترا، وقد ربط الحب بينهما عام 40 ق.م، ووضعت كليوباترا مولودين توءمين.
أحب أنطونيو كليوباترا وطفليها إسكندر هيليوس وكيلوباترا سيلين (التوءمين)، ولكنه ترك الجميع ليتزوج أوكتافيا شقيقة أوكتافيوس شريكه في الحكم، وكان زواجه بمثابة وسيلة سياسية للوصول إلى السلطة، إلا أنه افتقد كليوباترا، فترك أوكتافيا، وعاد إلى حبيبة قلبه وتزوجها عام 37 ق.م، وبعد ذلك بعام رزقت كليوباترا بغلام آخر منه، هو بطليموس فيلاديلفوس، وقد تعاون الاثنان لتحقيق أهدافهما، وكان هو يعتقد أن ثروة مصر ستساعده ليصبح الحاكم الوحيد لروما، أما هي فكانت تأمل أن تجعل من أولادها، وخصوصًا قيصرون، حلقات في سلسلة حكام روما، وفي عام 34 ق.م عينها حاكمًا على مصر وقبرص وكريت وسوريا، ومنح أبناءه منها كثيرًا من الأراضي التي كان يحكمها الإسكندر الأكبر، مما أغضب مشاركيه ومنافسيه في الحكم، وكان أوكتافيوس يرى أن كليوباترا امرأة جشعة ذات أطماع واسعة، وأحس أنها حولت أنطونيو إلى شخص مسلوب الإرادة تحركه كما تشاء.
وفي عام 32 ق.م أعلن أوكتافيوس الحرب على أنطونيو، ودارت معركة بين الفريقين عند أكتيوم على الشاطئ الغربي من بلاد اليونان، خسرها أنطونيو وكليوباترا، فعاد الاثنان إلى الإسكندرية، حيث حضر أوكتافيوس بعد بضعة أشهر لملاحقتها، وبعد أن وصل بقواته إلى مصر عام 30 ق.م أشاعت كليوباترا أنها انتحرت، وسمع أنطونيو بالنبأ فقتل نفسه بالخَنجَر حزنًا عليها، وحمله أتباعه إلى كليوباترا، حيث لفظ أنفاسه الأخيرة بين ذراعيها.
وهنا اعتقدت كليوباترا أن أوكتافيوس سوف يهينها على الملأ في روما، فحاولت أن تعقد السلام معه، ولكنها فشلت، فدفعها اليأس إلى الانتحار بأن وضعت حية سامة على صدرها أو ذراعها، وبعد وفاتها قتل الرومان قيصرون خشية أن يطالب بالإمبراطورية الرومانية بوصفه وريثًا لقيصر وولي عهده.
وترجع شهرة كليوباترا في التاريخ إلى وجهة نظر أوكتافيوس الذي وصف أنطونيو بأنه ضحية لصدمة حبه من امرأة ساحرة لعوب، وتبنى الشاعران الرومانيان فيرجيل وهوراس هذه النظرة، وتناولها تناولاً قصصيًّا عدد من الأدباء حول العالم، كما ألفت حولها مسرحيات متعددة، منها: مسرحية "أنطونيو وكليوباترا" (1607م) لوليم شكسبير، ومسرحية "كل شيء من أجل الحب" (1677م) للإنجليزي جون درايدن، ومسرحية "قيصر وكليوباترا" (1898م) للأيرلندي جورج برناردشو، ومسرحية "مصرع كليوباترا" للشاعر أحمد شوقي (نقلاً عن "الموسوعة العربية العالمية" بشيء من التصرف، وانظر أيضًا "الموسوعة البريطانية 2009م"، و"موسوعة اليونيفرساليس 2009م"، وموسوعة "الويكيبيدا" بنسختيها الإنجليزية والعربية، وموسوعة "الإنكارتا" بنسختيها الإنجليزية والفرنسية).
ولسوف نشرع الآن في المقارنة بين مسرحية شكسبير ونظيرتها لشوقي، فماذا نجد؟ نجد أن كلتا المسرحتين قد بدأت أحداثها في غرفة من غرفات قصر كليوباترة: فأما لدن شكسبير فهي غرفة مجهَّلة لم تحدد: "Alexandtia، Aroon in Cleopatra palase"، وأما لدن شوقي فهي المكتبة تحديدًا، ومع هذا فالفرق بين المكانين هو فرق غير ذي قيمة، كما هو بين لا يحتاج إلى توضيح، فهل هذا الأمر تم عفوًا؟ أم هل تأثر شوقي بمسرحية شكبير، التي كان قد قرأها قبل أن يؤلف مسرحيته هو فكان أن بدأ مسرحيته على هذا النحو؟ (انظر في قراءته مسرحية شكسبير كتاب د. ماهر حسن فهمي: "أحمد شوقي"/ أعلام العرب/ العدد 106/ 171).
وقد وصفت كليوباترة في النظرات التحليلية التي ذيلت بها مسرحية "مصرع كليوباترة" بـ: "الملكة المصرية المظلومة"، مؤكدًا كاتبها أنها اكتسبت مصريتها من واقع حكم أسرتها لأرض الكنانة ثلاثة قرون هي عمر الدولة البطلمية، التي وفدت إلينا من اليونان واحتلت بلادنا (ص119)، كذلك انبرى كاتب النظرات يدافع عن كليوباترة أيما دفاع؛ إذ نعتها بالوفاء والإخلاص لمصر، ورد ما اتهمها به مؤرخو الرومان في عرضها وعقلها واصفين إياها بأنها "حية النيل العجوز"، مبينًا أنه إذا كان شوقي قد أخذ على عاتقه مهمة كتابة مسرحية تنصف "هذه المصرية المضطهدة" وتثبت لها "سمو الغاية ونبالة المقصد" على حد تعبيره، فهذا أمر طبيعي استوحي فيه المنطق واتجاه البحث العلمي الذي يكشف كل يوم من أمر كليوباترة شيئًا جديدًا ينسخ ما كان متعارفًا من قبل (ص120).
والواقع الذي نعرفه ولا نعرف سواه، حتى الآن على الأقل، هو أن كليوباترة كانت امرأة لعوبًا حسبما رأينا من ترجمتها الآنفة، فضلًا عن أنها ليست مصرية أبدًا، فكيف يقلب شوقي حقائق التاريخ ويصيرها مصرية طاهرة الذيل؟ لقد أطلق للسانه في المسرحية العنان، فوصف الشعب المصري بأنه شعب ثرثار رعديد يسمع كلام حاكميه ولا يفكر يومًا في الثورة عليهم، بل يخرج للهتاف بحياتهم والتصفيق لهم مهما استبدوا به وأجحفوا بحقوقه وساموه سوء العذاب، ولم نجد في ذلك ما يقدح في وطنيته؛ إذ ليس مطلوبًا من الأديب أن يزيف حقائق الأمور فيرسم لشعبه صورة براقة نظيفة في الوقت الذي ليست صورته الحقيقية براقة ولا نظيفة، فكيف انقلبت الأمور على يديه بالنسبة إلى كليوباترة، فحرص على تطهيرها وتصويرها في أبهى حلة وأنقاها، وهي ليست كذلك؟ ترى هل السبب في ذلك يرجع إلى أن في عروق شوقي شيئًا من الدم اليوناني وأنه ليس مصريًّا بالجنس بل بإقامة أسرته فيها زمنًا مثلما هو الوضع في حالة كليوباترة؟
لكن كيف فات شوقي أن ثمة فرقًا هائلًا بين البطالمة، الذين اقتحموا مصر بالقوة الغشوم محتلين، وحكموها مستبدين، ولثرواتها مستنزفين، ولشعبها قاهرين، وبينه هو وأمثاله ممن أتوا إلى مصر بوصفهم أفرادًا، وامتزجوا بالمصريين امتزاجًا، وصاروا جزءًا منهم بالطريق الطبيعي وبالرضا؟ ثم إن كليوباترة خاضت بركة من الدماء في سبيل التشبث بالسلطان، وقتلت أخاها، وفرطت في عِرضها، واتبعت سبيل شهواتها، واستغلت جسدها من أجل الإيقاع بقادة روما في غرامها واحدًا وراء الآخر غير عابئة بمبدأ أو قيمة، وما هكذا تخدم الأوطان! إن الأوطان إنما تخدم بالشرف والكرامة والعزة والعفة، لا بإذالة العِرض وابتذاله!
كذلك كان البطالمة يعملون على نشر الثقافة الإغريقية ويقربون إليهم أبناء بلادهم الأصلية دون المصريين، وإلى القارئ ما كتبته "الموسوعة العربية العالمية" في المادة الخاصة بـ: "بطليموس الأول" مؤسس دولة البطالسة في مصر: "أسس أسرة من الحكام الذين حكموا مصر بين 323 و30 ق.م، وعرفت هذه الأسرة بالبطالسة، وقد حكم بطليموس، الذي اتخذ لقب ملك مصر، من 305 ق.م حتى عام 285 ق.م، ولد بطليموس في مقدونيا، وهي منطقة شمال اليونان، وصار قائدًا بارزًا في جيش الإسكندر الأكبر، وهو الملك المقدوني الذي أنشأ إمبراطورية ضمت مصر وأغلب بلاد غرب آسيا، وبعد موت الإسكندر عام 323 ق.م استولى بطليموس على مصر، وبسط حكمه إلى جزيرة قبرص وجنوب فلسطين وبرقة، وهي مستعمرة إفريقية في شمال إفريقيا...جند بطليموس المقيمين من الإغريق والمقدونيين في جيشه وبحريته وإدارته، ومنح المستوطنين الأراضي، وشجع على تنمية الثقافة الإغريقية".
وعلى العكس مما كتبه صاحب النظرات التحليلية تمامًا يرى فتحي سعيد أن شوقي، حين اختار كليوباترة موضوعًا لمسرحيته، كان حريصًا على "ألا يغضب ولي النعم أو جناب السلطان الأكبر؛ فكليوباترة سليلة البطالمة، وليست بنت مصر" (فتحي سعيد/ شوقي أمير الشعراء - لماذا؟/ دار المعارف/ سلسلة "تابك"/ العدد 54/ 28).
يتبع