تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : علامات المحبة



ابو وليد البحيرى
2022-09-06, 07:13 PM
علامات المحبة (1)







كتبه/ ياسر برهامي


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

قال ابن القيم -رحمه الله- في بيان علامات المحبة:

"تالله ما هزلت فيستامها المفلسون، ولا كسدت فيبيعها بالنسيئة المعسرون، لقد أقيمت للعرض في سوق من يزيد، فلم يُرضَ لها بثمن دون بذل النفوس، فتأخر البطَّالون، وقام المحبون ينظرون أيهم يصلح أن يكون ثمنًا، فدارت السلعة بينهم ووقعت في يد (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) (المائدة: 54).

لما كثر المدعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى، فتنوع المدعون في الشهود، فقيل: لا تقبل هذه الدعوى إلا ببينة (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) (آل عمران: 31)، فتأخر الخلق كلهم، وثبت أتباع الحبيب -صلى الله عليه وسلم- في أفعاله وأقواله وأخلاقه، فطولبوا بعدالة البينة بتزكية (يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) (المائدة: 54)، فتأخر أكثر المحبين، وقام المجاهدون، فقيل لهم: إن نفوس المحبين وأموالهم ليست لهم، فهلموا إلى بيعة (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) (التوبة: 111)، فلما عرفوا عظمة المشتري وفضل الثمن وجلالة من جرى على يديه عقد التبايع؛ عرفوا قدر السلعة، وأن لها شأنًا، فرأوا من أعظم الغبن أن يبيعوها لغيره بثمن بخس، فعقدوا معه بيعة الرضوان بالتراضي من غير ثبوت خيار، وقالوا: والله لا نقيلك، ولا نستقيلك، فلما تم العقد وسلموا المبيع قيل لهم: مذ صارت نفوسكم وأموالكم لنا رددناها عليكم أوفر ما كانت، وأضعافها معًا (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (آل عمران: 169).

إذا غرست شجرة المحبة في القلب، وسُقيت بماء الإخلاص، ومتابعة الحبيب؛ أثمرت أنواع الثمار، وآتت أكلها كل حين بإذن ربها، أصلها ثابت في قرار القلب، وفرعها متصل بسدرة المنتهى" (مدارج السالكين) (3/8- 9).

قوله -رحمه الله- عن المحبة: "تالله ما هزلت فيستامها المفلسون" يقال: هزل فلان هزلاً: ضعف وغث، والهزال: الغثاثة والنحافة، والهزيل: الغث النحيف، "فيستامها" أي: يتفاوض في بيعها، فيعرض البائع ثمنًا ويعرض المشتري ثمنًا دون الأول، "المفلسون": وهم كما جاء في الحديث من قول الصحابة لما سألهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن المفلس قالوا: (من لا درهم له ولا متاع) (رواه مسلم)، فلإفلاسه لا يساوم إلا في الأمور الرخيصة.

فالمحبة ليست هزيلة، إنما لها ثمن غالٍ من الأنفس والأموال، فلن تنال المحبة حتى تدفع ثمنها من راحتك ولذاتك وأمنك، وحتى تضحي بالشهوات، فليست المسألة مجرد دعوى وأنت مقيمٌ على ما أنت عليه لا تتحرك إلا فيما يوافق هواك، بل لابد أن تضحي، وتدفع الثمن الذي أراده الله -عز وجل- حتى تكون صادقًا في المحبة، فالمحبة لا تُنال دون ثمن، ولا يُساوم عليها المفلس، كمن يبذل لله من وقته ما فضل عن دنياه، أو يريد أن يبقى في دائرة الأمن مطمئنًّا تمامًا، لا يخالف أهل الباطل، ولا يخالف أهل الكفر ولا يتبرأ منهم، وكذلك لا يضحي بشيء من علاقاته، فيريد أن يلازم أبناءه دائمًا، ولا يفارق الظلال والثمار والزوجة الحسناء، وهي الأسباب التي جعلت كعب بن مالك -رضي الله عنه- يتخلف عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة تبوك، وقد قال: (وغزا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال) (حديث كعب بن مالك رواه البخاري ومسلم)، وكان لأبي خيثمة زوجتان قد أعدت كل منهما عريشًا وهيأت مشربًا ومأكلاً فقال: (أنا هنا ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحر؟!)، ثم لحق به -صلى الله عليه وسلم-، فانظر إلى نفسك واستعدادها لبذل ثمن هذه المحبة، والله المستعان.

قوله -رحمه الله-: "ولا كسدت فيبيعها بالنسيئة المعسرون" فالبضاعة البائرة يشتريها من لا مال لديه من التجار لأجل الركود والكساد، فالمحبة ليست بضاعة كاسدة، بل هناك من يبذل فيها الثمن وإن كانوا قلة، فإن كنت محبًّا لله -عز وجل- صادقًا في محبتك فلابد أن تدفع الثمن مقدَّمًا، لا أن تدفعه بعد أن تجرب، ولكن ادفع أولاً وستجد السلعة بعد ذلك، فإن الله -عز وجل- اشترط أن تبذل أولاً فقال: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة: 111)، فهم يبذلون أولاً ليجدوا في الدنيًا شيئًا من الثمن، وفي الآخرة غاية الثمن، وهي الجنة التي يجدون فيها أعظم ما يريدون: حب الله -عز وجل-، والقرب منه، والنظر إلى وجهه وسماع كلامه، وكلما كثر بَذلُك وعظمت تضحيتُك كلما عظم حب الله -عز وجل- في قلبك، وكلما امتنعت من شهواتك وجاهدت نفسك وبذلت من راحتك كلما زاد الحب في قلبك، وكلما جاهدت شيئًا من الأصناف الثمانية المذكورة في قوله -عز وجل-: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوه َا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة: 24)، هذه الثمانية كلما بذلت منها كلما كانت محبتك أعظم، فهذه السلعة غالية عند صاحبها، ليست كاسدة حتي يبيعها بالنسيئة، وإنما يبيعها نقدًا فبعد أن تبذل الثمن تأتيك السلعة.

قال ابن القيم -رحمه الله- في النونية:

يا سلعة الرحمن ليس ينالها في الألف إلا واحد لا اثنانِ

يا سلعة الرحمن ماذا كفؤها إلا أولو التقوى مع الإيمانِ

يا سلعة الرحمن سوقك كاسد بين الأراذل سلفة الحيوانِ

يا سلعة الرحمن هل من خاطب فالمهر قبل الموت ذو إمكانِ

يا سلعة الرحمن كيف تصبر الـ خطاب عنك وهم ذوو إيمانِ

يا سلعة الرحمن لولا أنها حجبت بكل مكاره الإنسانِ

ما كان عنها قط من متخلف وتعطلت دار الجزاء الثاني

لكنها حجبت بكل كريهة ليصد عنها المبطل المتواني

وتنالها الهمم التي تسمو إلى رب العلى بمشيئة الرحمنِ

فاتعب ليوم معادك الأدنى تجد راحاته يوم الميعاد الثاني


وللحديث عن علامات الحب بقيةٌ بإذن الله -عز وجل-.

ابو وليد البحيرى
2022-09-06, 07:15 PM
علامات المحبة (2)







كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فما زلنا مع كلام الإمام ابن القيم –رحمه الله- في علامات المحبة، قال –رحمه الله-: "لقد أقيمت للعرض في سوق من يزيد، فلم يُرضَ لها بثمن دون بذل النفوس، فتأخر البطَّالون، وقام المحبون ينظرون أيهم يصلح أن يكون ثمنًا، فدارت السلعة بينهم ووقعت في يد (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) (المائدة: 54)".

قوله -رحمه الله-: "لقد أقيمت للعرض في سوق من يزيد فلم يُرضَ لها بثمن دون بذل النفوس"، فالله يحب أن يتنافس المؤمنون المحبون في إظهار تضحيتهم وبذلهم لكي ينالوا حب الله -عز وجل-، و"سوق من يزيد" مثل المزاد، أي: لينظر من يدفع أكثر، ولذلك فهم يتنافسون في البذل، ومالكها لا يرضى بثمن لها دون بذل النفوس، فلكي يعطيك حبه وتجد لذته في قلبك لابد أن تكون مستعدًّا لبذل نفسك.

"فتأخر البطالون" أي: من لا يريدون بذل شيء، ولا يريدون العمل للإسلام، وإنما يريدون أن ينالوها سهلة دون ثمن، فمثل هذا سيتأخر، ولن يتقدم؛ لأنه غير مستعد لبذل نفسه، "وقام المحبون ينظرون أيهم يصلح أن يكون ثمنًا، فدارت السلعة بينهم ووقعت في يد (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ)"؛ لأن الله قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (المائدة: 54)، فالذلة على المؤمنين من علامات حب الله -عز وجل-؛ لأن (أَذِلَّةٍ عَلَى) تتضمن معنى الشفقة والرحمة، فرفقك بعباد المؤمنين والمسلمين وحب الخير لهم ومراعاتك لمصالحهم من علامات صدق المحبة.

(أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ)، فهو قوي شديد عليهم، لا يتهاون، ولا يداهن، ولا يركن إليهم، ولا يقول الباطل إرضاء لهم.

لذلك كانت قضية الولاء والبراء والحب والبغض من أعظم أدلة وعلامات حب الله -عز وجل-، وغيابها وضعفها أو وجود ما يناقضها من أعظم الأدلة على انتفاء هذه الصفة من القلب، وربما وُجد ضدها، والعياذ بالله، ولذلك تجد المنافقين من أشد الناس بعدًا في هذا الباب، كما قال الله -عز وجل-: (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) (النساء: 139)، فالمنافق يحب الكفرة، وينصح لهم، ويواليهم على أهل الإيمان، أما حالهم مع المؤمنين فكما قال الله -عز وجل-: (فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ) (الأحزاب: 19) والعياذ بالله، وإذا تمكنوا منهم ساموهم سوء العذاب وعاملوهم بأنواع الإهانة.

ولذلك كان النفاق ظاهرًا جليًّا لا يخفى على أهل الإيمان، ومع أنه في القلب إلا أن دلائله لا تخفى على أهل البصائر، فمثل هذا الإنسان لا يحب الله -عز وجل-؛ لأنه يعادي أولياء الله الذين يحبونه ويطيعونه، وهمُّه في الدنيا القدح فيهم والشدة عليهم، وفي نفس الوقت تجده رفيقًا ذليلاً هينًا لينًا مع الكفرة والمنافقين وأعداء الإسلام، وقد يتلبس المنافق باسم الدين أو العلم والدعوة وعلامات النفاق ظاهرة عليه بينة جلية؛ لأنه ذليل للكافرين والمنافقين، يحبهم ويرى نفسه في خندقهم، شديد على أهل الإسلام، بخلاف من وصفهم الله -عز وجل-: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ).

انظر إلى شفقة أنس بن النضر -رضي الله عنه- على المسلمين وغيظه من الكفار عندما انهزم المسلمون وفروا في غزوة أحد فقال: "اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء -يعني أصحابه- ، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء -يعني المشركين-" <رواه البخاري>، فهو يعتذر عن المؤمنين، ويتبرأ من المشركين، فيدعو للمسلمين أن يقبل الله عذرهم مع أنهم فروا من المعركة وتركوا النبي -صلى الله عليه وسلم-، لكنه لا يستطيع إلا أن يرجو لهم أن يكون لهم عذر وتوبة مقبولة.

وقد وصف الله -عز وجل- أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- قبل وجودهم ووجود آبائهم، فقال -عز وجل-: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (الفتح: 29)، فعلامة المحبة الصادقة لله -عز وجل- أن تحب أولياءه الذين يطيعونه، لا أن تبحث عن زلاتهم وعوراتهم وتتبعها لكي تفسد الأمور عليهم، وفي نفس الوقت تذل للكفار، فالمؤمن الصادق ذليل على المؤمنين شفيق رحيم بهم، شديد على الكفار عزيز عليهم، يتبرأ منهم بمقتضى ما شرع الله -عز وجل- من البراء منهم.


وللحديث عن علامات الحب بقيةٌ بإذن الله -عز وجل-.

ابو وليد البحيرى
2022-09-10, 02:47 PM
علامات المحبة (3)



كتبه/ ياسر برهامي



الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فما زلنا مع كلام الإمام ابن القيم –رحمه الله- في علامات المحبة، قال –رحمه الله-: "لما كثر المدعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى، فتنوع المدعون في الشهود، فقيل: لا تقبل هذه الدعوى إلا ببينة (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) (آل عمران: 31)، فتأخر الخلق كلهم، وثبت أتباع الحبيب -صلى الله عليه وسلم- في أفعاله وأقواله وأخلاقه، فطولبوا بعدالة البينة بتزكية (يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) (المائدة: 54)، فتأخر أكثر المحبين، وقام المجاهدون، فقيل لهم: إن نفوس المحبين وأموالهم ليست لهم، فهلموا إلى بيعة (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) (التوبة: 111)، فلما عرفوا عظمة المشتري وفضل الثمن وجلالة من جرى على يديه عقد التبايع؛ عرفوا قدر السلعة، وأن لها شأنًا، فرأوا من أعظم الغبن أن يبيعوها لغيره بثمن بخس، فعقدوا معه بيعة الرضوان بالتراضي من غير ثبوت خيار، وقالوا: والله لا نقيلك، ولا نستقيلك، فلما تم العقد وسلموا المبيع قيل لهم: مذ صارت نفوسكم وأموالكم لنا رددناها عليكم أوفر ما كانت، وأضعافها معًا (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (آل عمران: 169).

إذا غرست شجرة المحبة في القلب، وسُقيت بماء الإخلاص، ومتابعة الحبيب؛ أثمرت أنواع الثمار، وآتت أكلها كل حين بإذن ربها، أصلها ثابت في قرار القلب، وفرعها متصل بسدرة المنتهى".

قوله -رحمه الله-: "لما كثر المدعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى، فتنوع المدعون في الشهود، فقيل: لا تقبل هذه الدعوى إلا ببينة (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) (آل عمران: 31)".

أي: نريد شهودًا وأدلة واضحة تدل على صدق دعواكم في المحبة، والآية واضحة بينة في هذه الدلالة، فمن زعم أنه يحب الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وأهل بيته وهو يخالف طريقتهم بأن يسب أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- مثلاً؛ فهو غير صادق في دعواه، ما لم يأت ببينة على صدق الدعوى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي).

ومن اتبع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعليه أن يبحث عن سنته، فيتبعها ظاهرًا وباطنًا: في الهيئة، والأخلاق، والعبادة، والسلوك، لا في مسألة واحدة فقط، فقد تجد بعض الناس قد أظهر الالتزام الظاهر قائلاً أنه يتبع السنة، ومثال ذلك أنك تجد أن كلمة سني قد صارت تعني عند الناس أنه ملتحٍ فقط، فليست هذه القضية، وإنما القضية أن تتبع النبي -صلى الله عليه وسلم- في أخلاقه، وفي أعماله، وفي عبادته، وفيما جاء به -صلى الله عليه وسلم- من العقيدة في المقام الأول، فتصل إلى درجة المحبوبية بعد درجة المحبة باتباع الحبيب -صلى الله عليه وسلم-، (فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ).

يقول -رحمه الله-: "فتأخر الخلق كلهم، وثبت أتباع الحبيب -صلى الله عليه وسلم- في أفعاله وأقواله وأخلاقه"؛ لأن معهم دليلاً على صدق حبهم لله -عز وجل-، وهو أنهم يتبعون الرسول -صلى الله عليه وسلم- في أفعاله وأقواله وأخلاقه.

قوله -رحمه الله-: "فطولبوا بعدالة البينة بتزكية (يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) (المائدة: 54)"، فالبينة شهود، والمطلوب في الشهود تزكية أحد لهم لإثبات عدالتهم، فهو يقول أن التزكية التي تدل على عدالة البينة ـ وهي الاتباع الصادق ـ هي الجهاد، فيجاهدون في سبيل الله بأنواع الجهاد كلها: بالقرآن والسنان، وبالمال والنفس، وبما شرع الله -عز وجل- من أنواع الجهاد كلها، فهم (يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ)، لا يعبؤون بمن يلومهم؛ لأن الناس إنما يلومونهم على الاتباع، فهم لا يعبؤون بمن لامهم على اتباع حبيبهم -صلى الله عليه وسلم-، ولا يخافون في الله -عز وجل- لومة لائم.

قوله -رحمه الله-: "فتأخر أكثر المحبين، وقام المجاهدون، فقيل لهم: إن نفوس المحبين وأموالهم ليست لهم، فهلموا إلى بيعة (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) (التوبة: 111)"، فهلموا إلى بيعة تؤكد أنكم لا تملكون نفوسًا ولا أموالاً، وإنما تركتموها لله يفعل بها ما يشاء، لا تقل: لي كذا؛ فإنه ليس لك شيء، إنما أنت مملوك قد بعت نفسك؛ (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ).

قال: "فلما عرفوا عظمة المشتري، وفضل الثمن، وجلالة من جرى على يديه عقد التبايع؛ عرفوا قدر السلعة، وأن لها شأنًا"، فإذا أردت أن تعرف قدر سلعة فانظر إلى من يشتريها، فإذا كانت سلعة لا يشتريها إلا الملوك فلابد أنها سلعة عظيمة، فما بالك إذا كان المشتري هو رب العالمين -عز وجل- ؟! والثمن هو الجنة، ومن جرى على يديه عقد التبايع هو الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ فهو الذي بايع عن الله -عز وجل-، وجبريل المبلغ عن الله لمحمد -صلى الله عليه وسلم-، فهذان أشرف رسولين: رسول بشري، ورسول ملكي.

قال -رحمه الله-: "فرأوا أن من أعظم الغبن أن يبيعوها لغيره بثمن بخس"، فهذه هي النفوس المحبة، وليست النفوس المتوانية الكسولة البعيدة عن الخير التي لم تتصف بالصفات التي ذكر الله -عز وجل-: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (التوبة: 112)، فرأوا من أعظم الغبن -أي: الخسارة- أن يبيعوها لغير الله بثمن بخس، أي: بشيء من الدنيا؛ فالنفس ما هي إلا دقائق وساعات، فمن أنفق عمره لنيل حظ من حظوظ الدنيا يكون بذلك قد باعه بثمن بخس.

قال -رحمه الله-: "فعقدوا معه بيعة الرضوان بالتراضي من غير ثبوت خيار"، فلا يقول أحد منهم أنه يمكن أن يرجع في هذه البيعة، فليس عنده أدنى احتمال للرجوع في أثناء الطريق، بل سيسير فيه للنهاية.

قال -رحمه الله-: "وقالوا: والله لا نقيلك، ولا نستقيلك"، هذه كلمة الصحابة في بيعة العقبة للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فقوله: "لا نقيلك" أي: لا نقبل منك أن تفسخ العقد معنا، "ولا نستقيلك" أي: لا نطلب منك أن تفسخ العقد.

قال -رحمه الله-: "فلما تمَّ العقد وسلموا المبيع" أي: سلموا النفوس لله -عز وجل- يفعل بها ما يشاء، ويضعها حيث أراد، ومهما يكن من أمر فهو يحقق العبودية لله -عز وجل- في كل مكان.

قال -رحمه الله-: "قيل لهم: مذ صارت نفوسكم وأموالكم لنا رددناها عليكم أوفر ما كانت، وأضعافها معًا (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ . فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) (آل عمران: 169-170)"؛ معاملة بالكرم، كما أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من جابر جمله، فأعطاه ثمنه وزاده ثم رده عليه (رواه البخاري ومسلم)، فالله أكرم الأكرمين، فهو -عز وجل- قد أخذ من المؤمنين أنفسهم وأموالهم فردها عليهم أوفر ما كانت، أي: أتم ما كانت وأضعافها معها، (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (آل عمران: 169)، فلما بذلوا الحياة أعطاهم الله -عز وجل- حياة أكمل منها بكثير، ومن عاش منهم عاش أكرم حياة.

قال -رحمه الله-: "إذا غرست شجرة المحبة في القلب، وسُقيت بماء الإخلاص، ومتابعة الحبيب" -صلى الله عليه وسلم-، والإيمان أصله المحبة والإخلاص والاتباع، فإذا حدث ذلك "أثمرت أنواع الثمار، وآتت أُكُلَها كل حين بإذن ربها، أصلها ثابت في قرار القلب، وفرعها متصل بسدرة المنتهى"، وأُكُلُها هو آثار حب الله -عز وجل- في القلب من الأعمال والأقوال الطيبة، فتؤتي المحبة هذه الثمار كل وقت وحين، فشجرة المحبة "أصلها ثابت في قرار القلب، وفرعها متصل بسدرة المنتهى"، فالشجرة أصلها في قلب العبد المؤمن، وفرعها هو أعماله، تصعد إلى الله -عز وجل-، فسدرة المنتهي عندها تقبض الأعمال، فلا يزال عملٌ صالحٌ يصعد مقبولاً تُفتح له أبواب السماء ولا يرد في وجهه.

المحبة حقيقة العبودية، وإنما تمكن الأعمال الأخرى -من الحمد، والشكر، والخوف، والرجاء، والصبر، والزهد، والحياء، والفقر، والشوق، والإنابة- باستمرار المحبة في القلوب، وهي حقيقة الإخلاص، بل حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله، لذلك أتعجب أعظم العجب ممن يقول: لا يلزم ولا ذرة من حب الله في القلب لينجو الإنسان، فبعض المبتدعة الجهال الذين نسبوا أنفسهم إلى السلفية ظلمًا وزورًا يقولون أن أصل أعمال القلوب بما فيها المحبة ليست ركنًا في الإيمان، وإنما يكفيه قول اللسان وينجو بذلك عند الله، فهذا من الجهل، بل لم يشم رائحة للإيمان من يقول هذا الكلام، نعوذ بالله من الخذلان.


نسأل الله أن يمن علينا بصلاح قلوبنا وتزكية نفوسنا، اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكِّها أنت خير من زكاها، أنت وليُّها ومولاها.