تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : لا تحزن إن الله معنا



ابو وليد البحيرى
2022-03-10, 10:39 AM
لا تحزن إن الله معنا (1)

كتبه/ محمود أمين

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

(*لَا *تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا): كلمات قالها النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر الصديق رضي الله عنه حين كان معه في الغار في رحلة الهجرة، فما أجملها مِن كلمات، جمعت من معاني التأييد والمعية، والنصر والثبات، وسبب زوال الهم والغم الشيء الكثير.

(*لَا *تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا): كلمات خرجت على وجه المواساة والتثبيت في أوقات الخوف والزلزلة من صاحب الدعوة نبي الإسلام ورسول الله إلى العالمين، إلى خير أصحابه وأفضلهم على الإطلاق، وكذلك كل داعٍ يتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم ويقتدي به يقول لصاحبه وأخيه في طريق الدعوة: (*لَا *تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا).

قال القرطبي رحمه الله: "هذه الآية تضمنت فضائل الصديق رضي الله عنه، روى أصبغ وأبو زيد عن ابن القاسم عن مالك: "ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ *لَا *تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا" هو الصديق، فحقق الله تعالى قوله له بكلامه، ووصف الصحبة في كتابه".

- فإلى كل مكروب ومحزون، ومهموم ومغموم من كيد الأعداء، ومكر الليل والنهار (*لَا *تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)، فإن مكرهم إلى زوال وكيدهم لا يفلح.

- إلى كل مَن سلك طريق الالتزام بهذا الدين، وشرح الله صدره للتسنن بسننه وأخلاقه والقيام بواجباته ثم وجد أنواعًا من العقبات والصدود، والإعراض والأذى، ليس هناك أجمل من هذه الكلمات تواسيك، وتشد من أزرك، وتذكرك بحقيقة الأمور، وتعينك على الثبات: (*لَا *تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا).

فتعالَ معي نقف هذه الوقفات مع معاني هذه الكلمات:

قال الله تعالى: "إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ *لَا *تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ".

قال ابن جرير الطبري رحمه الله: "هذا إعلامٌ من الله أصحابَ رسوله صلى الله عليه وسلم أنه المتوكّل بنصر رسوله على أعداء دينه وإظهاره عليهم دونهم، أعانوه أو لم يعينوه، وتذكيرٌ منه لهم فعلَ ذلك به، وهو من العدد في قلة، والعدوُّ في كثرة؛ فكيف به وهو مِن العدد في كثرة، والعدو في قلة؟!".

أُخرِج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة كما قال له ورقة بن نوفل في بداية الوحي: "يا ليتني فيها جذعًا، ليتني أكون حيًّا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو مخرجي هم»، قال: نعم، لم يأتِ رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي"، فخرج منها وهي أحب البلاد إليه، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكة: "ما أطيبك من بلد، وأحبك إليَّ، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك".

وهاجر هو وأبو بكر، وقد أعدت قريش العدة لقتلهم وطلبهم، وهو إذ ذاك ليس معه أحدٌ إلا صاحبه، فهو (ثَانِيَ اثْنَيْنِ) وفي هذا من قلة العدد وقلة النصير.

(إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ) قال السعدي رحمه الله: "أي‏:‏ لما هربا من مكة، لجآ إلى غار ثور في أسفل مكة، فمكثا فيه ليبرد عنهما الطلب،‏ فهما في تلك الحالة الحرجة الشديدة المشقة، حين انتشر الأعداء من كل جانب يطلبونهما ليقتلوهما، فأنزل اللّه عليهما من نصره ما لا يخطر على البال‏".‏

وعن أنس رضي الله عنه أن أبا بكر رضي الله عنه حَدَّثَه قال: "نظرت إلى أقدام المشركين على رؤوسنا ونحن في الغار، فقلت: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه، فقال: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!"، ويا لها من لحظات اجتمعت فيها أسباب الخوف والهم والحزن؛ فقد اشتد الأذى بالدعوة وأهلها حتى أرادوا قتل صاحب الدعوة!

(*لَا *تَحْزَنْ): فالحزن هم غليظ بتوجع، يرق له القلب.

(*لَا *تَحْزَنْ): نهي عن الحزن، وهو نهي متكرر في الكتاب والسنة للمؤمنين عن الحزن، كما قال تعالى: "وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ"، وهذا النهي جاء بعد حصول الأذى والآلام والجراحات، كما وقع في غزوة أُحد؛ فقد قُتِل سبعون من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقُتِل حمزة بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم، ومُثِّل به تمثيلًا شديدًا، وبباقي الشهداء، والنبي صلى الله عليه وسلم نفسه شُجَّ رأسُه، وكسرت رباعيته، ودخلت حلقة المغفر في وجهه.


وأما في قصة الهجرة، فكان ما وقع مِن خروج المشركين في أثره صلى الله عليه وسلم، ووصلوا إلى الغار وما بينهم وبين أن يصلوا إليهما؛ إلا أن ينظروا تحت أقدامهم، لكن الله حال بينهم وبين ذلك، فلا تحزن فإن معية الله للمؤمنين تذهب عنهم كل حزن.

ابو وليد البحيرى
2022-03-17, 10:50 PM
لا تحزن إن الله معنا (2)

كتبه/ محمود أمين



الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد قال ابن القيم رحمه الله: "اعلم أن الحزن من عوارض الطريق، ليس من مقامات الإيمان، ولا من منازل السائرين؛ ولهذا لم يأْمر الله به في موضع قط ولا أَثنى عليه، ولا رتَّب عليه جزاءً ولا ثوابًا، بل نهى عنه في غير موضع، كقوله تعالى: "وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ"، وقال تعالى: "وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضِيقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ"، وقال تعالى: "فَلا تأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ"، وقال: "إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعنَا"، فالحزن هو بلية من البلايا التي نسأَل الله دفعها وكشفها، ولهذا يقول أهل الجنة: "الْحَمْدُ للهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحزَن"، فحمدُه على أن أذهب عنهم تلك البلية ونجاهم منها.

وفى الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في دعائه: "اللَّهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وضلع الدين وغلبة الرجال".

إلى أن قال: والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الحزن مما يستعاذ منه؛ وذلك لأن الحزن يضعف القلب ويوهن العزم، ويضر الإرادة، ولا شيء أحب إلى الشيطان من حزن المؤمن، قال تعالى: "إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا"، فالحزن مرض من أمراض القلب يمنعه من نهوضه وسيره وتشميره، والثواب عليه ثواب المصائب التي يبتلى العبد بها بغير اختياره، كالمرض والألم ونحوهما، وأما أن يكون عبادة مأْمورًا بتحصيلها وطلبها فلا، ففرق بين ما يثاب عليه العبد من المأمورات، وما يثاب عليه من البليات.

ثم قال: فهذه المراتب من الحزن لا بد منها في الطريق، ولكن الكيس مَن لا يدعها تملكه وتقعده، بل يجعل عوض فكرته فيها فكرته فيما يدفعها به، فإن المكروه إذا ورد على النفس، فإن كانت صغيرة اشتغلت بفكرها فيه، وفي حصوله عن الفكرة في الأسباب التي يدفعها به؛ فأَورثها الحزن، وإن كانت نفسًا كبيرة شريفة لم تفكر فيه، بل تصرف فكرها إلى ما ينفعها، فإن علمت منه مخرجًا فكرت في طريق ذلك المخرج وأسبابه، وإن علمت أنه لا مخرج منه، فكرت في عبودية الله فيه، وكان ذلك عوضًا لها من الحزن؛ فعلى كل حال لا فائدة لها في الحزن أصلًا. والله أعلم" (طريق الهجرتين).

قال الشيخ السعدي رحمه الله في فوائد الآية: "وفيها: أن الحزن قد يعرض لخواص عباد الله الصديقين، مع أن الأولى -إذا نزل بالعبد- أن يسعى في ذهابه عنه؛ فإنه مضعف للقلب، موهن للعزيمة" (تفسير السعدي).

ومعية الله للمؤمنين خير لهم من كل ما فقدوه، ومن كل ما نزل بهم من هموم وآلام، وهو عز وجل معهم بتأييده ونصره وحفظه، يتولاهم ويثبتهم ويعينهم، وهو حسبهم وكافيهم.

قال ابن القيم رحمه الله: "مَن عرف الله أحبه ولا بد، ومن أحبه انقشعت عنه سحائب الظلمات، وانكشفت عن قلبه الهموم والغموم والأحزان، وعمر قلبه بالسرور والأفراح، وأقبلت إليه وفود التهاني والبشائر من كل جانب، فإنه لا حزن مع الله أبدًا؛ ولهذا قال تعالى حكاية عن نبيه صلى الله عليه وسلم أنه قال لصاحبه أبى بكر: "لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا"؛ فدل أنه لا حزن مع الله، وأن مَن كان الله معه؛ فما له وللحزن؟! وإنما الحزن كل الحزن لمَن فاته الله، فمَن حصل الله له؛ فعلى أي شيء يحزن؟! ومَن فاته الله؛ فبأي شيء يفرح؟!" (طريق الهجرتين).

وأما ثمرة هذه المعية للنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق رضي الله عنه؛ فهي أربعة أمور، كل واحدة منها نصر عظيم:

?- (فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ): وهذه السكينة، هي: الثبات والطمأنينة والسكون.

قال الشيخ السعدي في فوائد الآية: "وفيها فضيلة السكينة، وأنها من تمام نعمة الله على العبد في أوقات الشدائد والمخاوف التي تطيش بها الأفئدة، وأنها تكون على حسب معرفة العبد بربه وثقته بوعده الصادق وبحسب إيمانه وشجاعته" (تفسير السعدي).


?- (وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا): وهم الملائكة الكرام.

?- (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى): فخذلهم، ولم يتم لهم مقصدهم وردهم عنهما.

4- (وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا): كلماته القدرية والدينية؛ فدين الله هو الظاهر العالي على سائر الأديان، بالحجج الواضحة، والآيات الباهرة والسلطان الناصر" (انظر: تفسير السعدي).