ابو وليد البحيرى
2022-01-07, 04:30 PM
بيوت الناس وعمرانها في الحضارة الإسلامية
مختار خَواجَة
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/01/4.jpg
قد لا يكون حضور المعماريين المتخصصين (المهندسون) في عمران البيوت اختراعا إسلاميا، ولكن يمكن القول إن المهندس احتل تاريخيا قلب الحضارة الإسلامية على نحو ما نجده منعكسا في تطور العمارة في تاريخ المسلمين؛ فتميُّزُها وتعقيدُها يشير إلى ذروة الإتقان والإبداع -حتى بمعايير اللحظة الراهنة- عند الإطلالة على بعض الأحياء القديمة في حواضر الإسلام العتيقة مشرقا ومغربا، وهو ما أورثتنا إياه طبقة من البنَّائين العظماء من المسلمين وغيرهم.
وبالتالي لم يأتِ من فراغ إطلاقُ لقب “الأستاذ” على رئيس المهندسين، وهو لقب شديد الأهمية في الحياة العلمية للمسلمين إذْ كان لا يُطلق إلا على أئمة العلماء؛ لكن قصة البيوت هي قصة ساكنها الإنسان وكذلك قصة الثقافة التي ينتمي إليها، فالبيوت لها آداب في التصميم تعكس آداب وثقافة ساكنيها في المعيشة والتزاور والتجاور، كما أن التطور التقني والرفاه الاقتصادي يفرضان بصمتهما على نمط حياة الشعوب؛ ولا بد من أن ينعكس ذلك كله في العمارة تصميما وتقسيما.
وفي هذا المقال؛ سنقترب من قصة البيوت الإسلامية عمرانا ومكانا، في جولة ثقافية اجتماعية تبتعد عن الفنيات الدقيقة لهندسة العمران، وتتجاوز ردهات قصور المُلك وأركان القلاع وأروقة المنشآت العامة، لتقتصر غالبا على منازل طبقات الناس البسيطة والمتوسطة، فتتعرف على فنيات تصميمها وطرق وأدوات تشييدها، وتتبع أقسامها من المداخل إلى السطوح، مرورا بمختلف الغرف والمرافق والملحقات، وتكشف ما كانت تنطوي عليها من تسهيلات ووسائل راحة إضاءةً وتبريدا؛ ثم يتخلل ذلك كله رصد لبعض الظواهر المتصلة بعمران المساكن كالمباني المتعددة الطوابق، والشقق المشتركة السكنى، والمنازل سريعة التجهيز.
معمار بسيط
جاء الإسلام والحياة -في مناطق البادية العربية- يغلب على مساكنها “الخِيام والقِبَاب والأخْبِيةَ والفَسَاطِيط (= جمع فُسْطاط: الخيمة الكبيرة) من الأنْطاع (= جمع نِطْع: بِسَاطٌ جلدي) والأَدَم (= جمع أدِيم: جلد الدابة)”؛ كما يقول الإمام البَغَوي (ت 516هـ/1122م) عند تفسيره -في ‘معالم التنزيل‘- لقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً﴾؛ (سورة النحل/الآية: 80).
وقد تناول المؤرخ المقريزي (ت 845هـ/1441م) -في ‘الخطط والآثار‘- أهم التسميات المتعلقة بالبيوت عند العرب؛ فذكر فيها أن “البيت أخص من الدار، فكلّ دارٍ بيتٌ ولا ينعكس”، وأوضح أن الأخبية كانت هي السائدة عند العرب في جاهليتهم، وظلوا كذلك حتى سكنوا المدن بعد الإسلام فبنوا الدُّور والبيوت، ووجدوا “الفُرْسَ لا تُبيح [لعامة الناس بناءَ] شريفِ البنيان، كما لا تبيح شريف الأسماء إلّا لأهل البيوتات (= العوائل النبيلة)”.
جاء الإسلام إذن وحواضر شمالي الجزيرة العربية -وخاصة مكة المكرمة وما وراءها شرقا وشمالا- تتكون من بيوت صغيرة الحجم إجمالا، وبقي الحال كذلك معظم عصر الصحابة؛ فقد كانت بيوت النبي ﷺ التي أسسها في المدينة المنورة – حين وصلها مُهاجِراً- حُجُراتٍ بجوار المسجد النبوي.
ويروي المؤرخ محمد بن سعد (ت 230هـ/845م) -في ‘الطبقات الكبرى‘- أن هذه الحجرات النبوية “كان منها أربعة أبيات (= بيوت) بِـلَبِـنٍ لها حُجَرٌ من جريد [النخل]، وكانت خمسة أبيات من جريد مطيَّنة لا حُجَر لها، على أبوابها مُسُوح (= ثياب) الشَّعَر، ذَرَعتُ السِّتْرَ فوجدتُه ثلاثة أذرع (= 160 سم) في ذراع”.
أما “صناعة البناء” باعتبارها حرفة حضرية؛ فقد ذهب ابن خلدون (ت 808هـ/1406م) -في ‘المقدمة‘- إلى أنها “أول صنائع العمران الحضري وأقدمُها”، وعرّفها بقوله: “هي: معرفة العمل في اتخاذ البيوت والمنازل لِلْكَنِّ (= الاسْتتار) والمأوى للأبدان في المدن”.
وقد نقل أبو حيان التوحيدي (ت بعد 400هـ/1010م) كلاما لطيفا في “فلسفة البناء” ومرتكزات صنعته التي تقوم عليها؛ فقال -في ‘البصائر والذخائر‘- إن مقومات “صناعة البناء..: المادة التي يُعمل منها البناء..: التراب والطين والحجارة والخشب؛ والصورة التي ينحوها..: صورة البيت (= التصميم الهندسي)؛ والفاعل هو البنَّاء؛ والغرض الذي من أجله يُفعل [هو] سكنى البيت وإحراز ما يُحرَز فيه؛ والآلة التي بها يعمل هي آلات البناء” .
مؤثرات مختلفة
ويقرر ابن خلدون أن هذه الصناعة تتأثر بأعراف الشعوب ومناخات بلدانها ومستوى اقتصادياتها؛ ولذا فإنها تختلف حسب ما “يناسب مزاج هوائهم واختلاف أحوالهم في الغنى والفقر”، معتبرا أن صناعة البناء مختصة بأهل “الأقاليم المعتدلة من الرابع وما حواليه، إذْ الأقاليم المنحرفة [عنها] لا بناء فيها، وإنما يتخذون البيوت حظائر من القصب أو الطين، أو يأوون إلى الكُهوف والغِيران”.
كما تتأثر مستويات البنيان بالعوامل الاجتماعية والاقتصادية وما يصاحبها من تراكم حضاري؛ ففي تاريخ الطبري (ت 310هـ/922م) أن الكوفة والبصرة تأسستا سنة 17هـ/639م “فابْتَنَى أهلُ المِصْرَيْن [بيوتهم] بالقصب، ثم إن الحريق وقع بالكوفة وبالبصرة.. فاحترق ثمانون عريشاً”، فأرسلوا وفدا إلى الخليفة عمر بن الخطاب (ت 23هـ/645م) “يستأذنون في البناء باللَّبِن”، فأذِن لهم في ذلك.
كما يتحدد حجم البنيان بطبيعة احتياجات سُكنى صاحب المنزل؛ وفي ذلك يقول ابن خلدون إن المُوسِرِين “منهم مَنَ يتخذ القصور.. العظيمة الساحة المشتملة على عدة الدُّور والبيوت والغُرف الكبيرة، لكثرة ولده وحَشَمه وعياله وتابعه”.
بل إن بعضهم قد يحتاج “لبناء الاصطبلات لرَبْط مُقْرَباتِه (= خيوله)”، ومنهم مَن “يهيئون السراديب والمطامير (= أماكن تحت الأرض) لتخزين الأقوات”. أما ضعفاء الحال فيرضون بأحجام أصغر، إذ يكفي أحدَهم أن “يَبْني الدُّوَيْرة والبيوت لنفسه وسكنه وولده، لا يبتغي ما وراء ذلك لقصور حاله عنه، واقتصاره على الكَنِّ الطبيعي للبشر”.
يتحدث ابن خلدون -في ‘المقدمة‘- عن مواد البنيان رابطا بين نوعيتها والمستوى الاجتماعي لطبقات ملاك البيوت؛ فالكُبراء والموسرون “يجعلون أسس البنيان من الحجارة ويضعون الكِلْسَ بينها”، كما يهتمون بتجميل بيوتهم “بالجِصِّ والأصبغة”.
وقد يلعب العامل السياسي أثره في حجم وشكل البنيان؛ إذْ “يُحتاج لهذه الصناعة أيضا عند تأسيس الملوك وأهل الدول المدنَ العظيمة والهياكل (= الأبنية) المرتفعة، ويبالغون في إتقان الأوضاع وعُلوّ الأجرام مع الإحكام لتبلغ الصناعة مبالغها”؛ وفقا لابن خلدون.
مهارات متفاوتة
وكما تتفاضل أقسام البنيان وأحجامه؛ فإن البنَّائين أنفسهم كانوا يتفاوتون في قدراتهم الفنية ومهاراتهم المعمارية، ولذا نجد أن من “أهل هذه الصناعة..: البصير الماهر ومنهم القاصر”؛ طبقا لابن خلدون. وكانوا يُسمُّون المهندسين عموما ”الفَعَلَة”، كما في خبر يقول إن الخليفة المعتضد العباسي (ت 278هـ/891م) أرسل إلى “سُور أنطاكية بـ”فَعَلَة” يهدمونه”؛ حسب القاضي أبي علي التنوخي (ت 384هـ/994م) في ‘نشوار المحاضرة‘.
وينقسم هؤلاء ”الفَعَلَة” إلى فئات عدة حسب تخصص كل منهم ودَوْره المحدد له في عملية البناء؛ وتشمل هذه الفئات “النجّارين، والبنّائين، والنَّقّاشين، والمُزوِّقين، والجصّاصين، والحَرّاقين، والحدّادين، والرُّوزْجَارية ، والحمّالين”؛ حسبما يفيدنا به محب الدين ابن النجار (ت 643هـ/1245م) في ‘الدرة الثمينة في أخبار المدينة‘.
وكثيرا ما كان للمنتمين إلى صناعة البناء -في كل بلد- رئيس يتولى تنظيمَهم، ويرجعون إليه في أمور صنعتهم فيما يشبه “نقابة المهندسين”، وكان هذا الرئيس في العراق مثلا يسمى “الأستاذ”؛ حسبما يرد في أخبار بناء بغداد عند الخطيب البغدادي (ت 463هـ/1072م) في ‘تاريخ بغداد‘.
وقد يُلقَّب الأستاذُ أيضا “رئيسَ المهندسين” وفقا للمقريزي في ‘المواعظ والاعتبار‘؛ فقد ذكر أن “المعلِّم ابن السُّيُوفي [كان] “رئيس المهندسين” في الأيام الناصرية (= دولة الناصر قلاوون ت 741هـ/1340م)، وهو الذي تولى بناء جامع المارديني خارج باب زويلة” بالقاهرة القديمة.
ويُسمَّى أحد العاملين تحت إشراف “الأستاذ” في صناعة البناء بـ”الرُّوزجارى وجماعتهم “الرُّوزْجارية فـ”هذه النسبة إلى الرُّوزْجار وهو [بالفارسية] رُوزْكار، يعني: الذي يعمل بالنهار (= عامل اليومية)، ويقال ببغداد لمن يعملـ[ـون] بالنهار: الرُّوزْجارى” وفقا للإمام أبي سعد السمعاني (ت 562هـ/1167م) في كتابه ‘الأنساب‘.
أما مهارات البنّائين الفنية؛ فيذكر ابن خلدون أنها تتضمن “أشياء من الهندسة مثل: تسوية الحيطان بالوزن، وإجراء المياه بأخذ الارتفاع وأمثال ذلك”، وكذلك “جَرّ الأثقال” عند بناء المباني الضخمة؛ حيث يقومون “بمضاعفة قوّة الحبل بإدخاله في المعالق من أثقاب مقدرة على نسب هندسية [متداولة بينهم]، تُصيِّر الثقيل -عند معاناة الرفع- خفيفاً، فيتم المراد”.
احتراف فائق
وقد يُرْسَم البِناءُ على هيئة تصميم هندسي ثنائي الأبعاد وهو ما كانوا يعبرون عنه بـ”تصوير البناء في الدار”؛ حسب أبي الحسين العمراني اليمني (ت 558هـ/1163م) في كتابه ‘الانتصار‘. فقبل تنفيذ مشروع بناء مُسَنَّاة -وهي سدٌّ صغير لتنظيم مرور الماء في الأنهار والقنوات- لمنزل الوزير العباسي علي ابن الجراح (ت 335هـ/946م) ببغداد، وُضعت له دراسة مالية وفنية “فقدّر لذلك مئة ألف درهم، وصُوِّر البناء وأُحضِر الصورة والتقدير (= الميزانية)”، وفقا للصابئ (ت 448هـ/1056م) في ‘تحفة الوزراء‘.
واللافت أن التصميم الهندسي للبناء قد يكون مجسَّما ثلاثي الأبعاد، فيما يشبه فكرة ما يُعرف اليوم -في مجال تصاميم البناء الهندسية- بـ”النموذج المعماري” (الماكيت – Maquette)؛ فحين أراد الخليفة المنصور العباسي (ت 158هـ/776م) بناء مدينة بغداد سنة 141هـ/759م جمَع المهندسين ومثّل لهم هيئتها التي يريدها، ثم طلب منهم أن يراها مجسّمة أمامه فخُطّ له نموذجها المعماري بخطوط هندسية، و”أمر أن يُجعَل على تلك الخطوط حبّ القطن وينصبّ عليه النفط، فنظر إليها والنار تشتعل، ففهمها وعرف رسمها، وأمر أن يُحفر أساس ذلك [البناء] على الرسم، ثم ابتُدئ في عملها”؛ طبقا للطبري في تاريخه.
ويبدو أنه كان مألوفا -منذ صدر الإسلام- أن يتفق صاحبُ البيت على تفاصيل حجم البيت ومساحته مع المتعهدُ بالبناء الذي كان يُدعى ”مُتولِّي العمارة”؛ فقد نقل الإمام أبو الوليد الباجي (ت 474هـ/1081م) -في كتابه ‘المُنتقَى‘- عن الإمام مالك بن أنس (ت 179هـ/795م) أنه “لو قال البنَّاء: أمرتَني أن أبني بيتا خمسا في خمس، وقال رب العرصة (= القطعة الأرضية): بل عشرة في عشرة؛ تحالفا”.
وتختلف أجور العاملين في بناء البيوت بحسب مستوى مهارة البنّاء وما إن كان “أستاذا” أم “رُوزْجَاريا” وعموما يقدم لنا الخطيب البغدادي صورة تقريبية لهذه الأجور، فيذكر -في حديثه عن تشييد بغداد- أن “الأستاذ من الصناع كان يعمل يومه بقِيرَاط (= 8.35 دولارات أميركية تقريبا)..، والرُّوزْجَاري يعمل بحبتين إِلَى 3 حبات [من أجزاء القيراط]”.
ومع انتشار الإبداع المعماري في أرجاء العالم الإسلامي مشرقا ومغربا؛ فإن حظ الأندلس منه كان عظيما إن لم يكن هو الأعظم. ويكفينا في بيان ذلك أن ابن خلدون تحدث -في تاريخه- عن “قُصور الملك بتلمسان وكانت لا يُعبَّر عن حسنها”! رغم أنها لم تكن -حسب كلامه- إلا صدى لما كان في جوارها الأندلسي؛ فقد “استدعى لها [سلطانُها] الصناعَ والفَعَلَة من الأندلس لحضارتها”، فقامت نهضتها العمرانية “بالمَهَرة والحُذَّاق من أهل صناعة البناء بالأندلس، فاستجادوا لهم (= ملوك تلمسان) القصورَ والمنازلَ والبساتين بما أعيا على الناس بعدهم أن يأتوا بمثله”!
أساليب منوعة
أما تكاليف بناء البيوت فهي عادة تبعٌ للقدرة المالية لصاحبها وطبيعة البيت وحجمه ومرافقه؛ ومن التقديرات التي وصلتنا في ذلك ما ذكره الإمام الذهبي (ت 748هـ/1347م) -في تاريخ الإسلام‘- من أن السلطان البويهي مُعِزّ الدولة (ت 353هـ/964م) “أنشأ دارا [ببغداد] غرم (= صرَف) عليها أربعين ألف ألف درهم (= اليوم 50 مليون دولار أميركي تقريبا)، فبقيت إلى بعد الأربعمئة (400هـ/1010م) ونُقِضَتْ (= هُدمت)، فاشتروا جَرْدَ (= صافي) ما في سقوفها من الذهب بثمانية آلاف دينار (= اليوم 13 مليون دولار أميركي تقريبا)”!!
ويفيدنا الإمام ابن الجوزي -في ‘المنتظم‘- بأن الشاعر والكاتب أبا القاسم علي بن أفلح (ت 533هـ/1139م) كان مقرَّبا من الخليفة العباسي المسترشِد بالله (ت 529هـ/1135م) فأعطاه دارا يسكنها، ثم “اشترى دُوراً إلى جانبها فهدم الكل وأنشأ دارا كبيرة، وأعطاه الخليفة خمسمئة دينار وأطلق له مئة جذع [شجرة]، ومئتيْ ألف آجُرَّة (= لبِنة)..، [فـ]ـغرم عليها عشرين ألف دينار، وكان طولها ستين ذراعا في أربعين (= 1300 متر مربع تقريبا)، وقد أُجْرِيتْ بالذهب وعُمِلتْ فيها الصور”.
وفي القرن التاسع الهجري/الـ15 الميلادي؛ نجد عند الإمام السخاوي (ت 902هـ/1497م) -في الجواهر والدُّرر‘- تقديرا لمتوسط تكاليف بناء البيت في مصر نقلا عن “أعيان التجار وعظمائهم”، ووفقا لقولهم “فإن الدار.. تساوي ألف دينار، [ثم] تُكْرَى غالبا بنحو الأربعين دينارا”.
ويقدّم لنا ابن خلدون صورة عن طُرُق البناء وأساليبه -حتى زمنه- وكيف أنها كانت تتنوع حسب نوع المادة المستخدمة فيه؛ فيقول إن “منها البناء بالحجارة المنجَّدة أو بالآجُرّ (= اللَّبِن المُحْرَق المُعَدُّ للبناء)”، بإلصاق الجدران بعضها ببعض “بالطين والكِلْس الذي يلتحم معها كأنها جسم واحد”.
ومن هذه الطرق أيضا “البناء بالتراب خاصة”، حيث يوضع لوْحان من الخشب بطول أربعة أذرع [مترين تقريبا] ويُمْلأ الفراغ بينهما “بالتراب مخلطا بالكلس”، وتضاف مواد أخرى تثبتهما معا على طول الحائط، ويُسمَّى ذلك “الطابية وصانعه الطَّوّاب”. ومن طرق البناء خلط الكلس بالماء وتخميره أسبوعا أو اثنين، ثم “تُجَلَّل الحيطان” به من الأعلى.
وتُعمَل أسقُف البيوت “بأن يُمَدّ الخُشُب المُحْكَمَة النجارة أو الساذَجَة (= غير المعالَجة) بين حائطين من المنزل، وتوضع “من فوقها الألواح كذلك موصولة بالدَّسائر (= المسامير)”، ثم “يُصبُّ عليها التراب والكلس، ويبسط بالمراكز (= مواد تجعل الخليط متماسكا)” لضمان ثبات البناء وتقويته.
كفاءة عالية
وكانت أماكن صناعة الآجُرّ -الذي تشاد به المباني- تعرف بـ”أتَاتِين الآجُرِّ”، والأَتَاتِين جمع أَتُّون وهو مَوْقد النار الذي يُحرَق فيه هذا الآجُرّ، وعامله يدعى “الآجُرّيّ”. ويحدثنا التنوخي مثلا أنه كانت بأطراف بغداد بعض “أتاتين الآجُرِّ” لصناعة اللبِن.
ويقول المؤرخ ابن الأثير (ت 630هـ/1233م) -في كتابه ‘الكامل‘- إنه في سنة 332هـ/944م “كانت الأمطار كثيرة.. حتى خربت المنازل..، [فـ]ـصار ما.. يسقط من الأبنية لا يعاد..، وتعطل كثير من “أتاتين الآجر” لقلة البناء، ومن يُضْطَرُّ إليه اجتزأ بالأنقاض” من البيوت المتهدمة. ويذكر المقريزي أن بالقاهرة منطقة “عُرفت ببُركة الطَّوَّابين، من أجل أنه كان يُعمل فيها الطوب” لأغراض البناء.
وتتعدد الآلات المستخدمة في البناء بين البساطة والتعقيد؛ ومن ذلك ما أخبرنا به ابن الوردي الحفيد المعري (ت 852هـ/1448م) -في ‘خريدة العجائب‘- من أنه وُجدت في أحد الحصون “بقية من آلات البناء، وهي قدور من حديد ومغارف من حديد..، وهي أكبر من قُدور [صناعة] الصابون”. كما يذكر منها ابن النجار -في ‘الدرة الثمينة‘- “الحديد والرصاص والأصباغ والحبال”.
ويبدو أن المهندسين كانوا على مستوى عظيم من المهارة في سرعة الإنجاز، بحيث كانوا يبنون مدينة صغيرة في شهر؛ فالمؤرخ كمال الدين ابن العديم (ت 660هـ/1262م) يخبرنا -في ‘بغية الطلب في تاريخ حلب‘- أن مدينة رَعْبَان ضربها زلزال فخرّبها كليا، وكانت من المدن الدفاعية المهمة على الحدود مع البيزنطيين “ومَلَكَها العدوُّ في أيام سيف الدولة (الحمداني ت 356هـ/967م)، فأنهض إليها العساكرَ والصُّنّاعَ (= المهندسين)، وأنفق عليها الأموال الجسيمة حتى بناها في مدة شهر، وعساكرُ الروم جامعة والحربُ واقعة”!!
ولذا كانوا أحيانا يُكْملون بناء البيت بأن يُبنَى ويجصَّص ويبيَّض ويهيَّأ في يوم واحد إذا كانت ميزانيته مفتوحة وناجزة؛ فقد خرج الوزير حامد بن العباس (ت 311هـ/924م) للنزهة في بغداد فرأى تاجرا احترقت داره وتلفت مدّخراته، فطلب من وكيله إعادة بناء داره وأن ينجزها قبل العشاء.
لم يستصعب الوكيلُ المهمةَ لكنه اشترط توفير اللوازم لإنجازها، فخاطب الوزيرَ قائلا: “فتَقَدَّمْ (= أعطِ أوامركَ) إلى الخادم أن يُطْلق ما أريده، والى صاحب المعونة (= شُرَطي) أن يقف معي، ويحضر كل ما أريده من الصناع”، فحضر “أصناف الرُّوزْجَارية والبنائين” فكانوا “ينقضون بيتا ويطرحون فيه من يبنيه” حتى أنجزوا المهمة، كما يروي عريب بن سعد القرطبي (ت 369هـ/979م) في ‘صلة تاريخ الطبري‘.
وفي مقابل تلك السرعة الهائلة في الإنجاز؛ نجد أن تشييد بعض المنازل ربما استغرق سنوات لما اشتمل عليه البناء من ضخامة وزخرفة بالغة، كما حصل في تشييد دار رئيس التجار بالقاهرة برهان الدين المحلي (ت 806هـ/1403م) “التي عمرها في مدة سبع سنين، وأنفق في بنائها زيادة على خمسين ألف دينار (= اليوم 8.5 ملايين دولار أميركي تقريبا)”؛ وفقا للمقريزي في ‘المواعظ والاعتبار‘.
مرجعية فنية
لا تنحصر كفاءة المهندسين في قدرتهم على البناء المُتقَن؛ بل إنه مع توسُّع العمران وتزايد البنيان تنشب عادةً النزاعات بين أصحابه وسكانه على الانتفاع بلوازمه من ماء وهواء وضياء وغيرها، ويُلْجَأ إلى القضاء لإلزام الجيران بصيانة الحيطان، والانتفاع بمرافق الطرق وقنوات “الصرف الصحي”.
وهنا -كما يقول ابن خلدون- يلجأ القضاةُ فيما قد يخفى عليهم من شؤون البناء الفنية إلى “أهل البصر العارفين بالبناء وأحواله، المستدلين عليها بالمَعاقد والقُمُط (= حبال تشدّ مكونات البناء) ومراكز الخشب ومَيْل الحيطان واعتدالها، وقسْم المساكن على نسبة أوضاعها ومنافعها، وتسريب المياه في القنوات مجلوبة ومرفوعة، بحيث لا تضر بما مرت عليه من البيوت والحيطان، وغير ذلك”.
ويبدو أن العرف جرى بتوثيق ما يصدر عن المهندسين من مشورة أو قرارات فنية عمرانية بعد دراسة حالة البناء؛ فالمقريزي يذكر -في ‘المواعظ والاعتبار‘- أنه في سنة 821هـ/1418م ظهر في مئذنة أحد جوامع القاهرة “اعوجاجٌ..، فكُتب محضر بجماعة المهندسين أنها مستحقة الهدم وعُرض على السلطان”.
وبناءً على التفاوت في البنيان مادةً وفخامةً؛ كانت المدن تتفاضل في عمرانها إتقانا واتساعا وجمالا، ولذلك يتحدث ابن فضل الله العمري (ت 749هـ/1348م) -في ‘مسالك الأبصار‘- عن أن “غالب مباني الشام بالحجر، ودُورها أصغر مقادير من دُور مصر ولكنها أزيد زخرفة منها، وإن كان الرخام بها أقل وإنما هي أحسن أنواعا، وعناية أهل دمشق بالمباني كثيرة ولهم في بساتينهم منها ما تفوق به” على مباني غيرها.
تختلف أحجام بيوت الناس حسب “اختلاف أحوالهم في الغنى والفقر” كما يقول عند ابن خلدون، ومن هنا تنوعت طبقات منازلهم بين العامة والخاصة؛ ففي ‘صفة الصفوة‘ لابن الجوزي وردت نصوص تكشف عن أحجام بيوت كثير من العامة والعلماء الزهاد، فمنزل أبي سعيد الخرّاز (ت 277هـ/891م) كان غرفة واحدة، تقول عنها تلميذته: “كنتُ أسأله مسألة والإزار (= ساتر بالبيت) بيني وبينه مشدود”.
أما متوسطو الحال فقد يكون في بيوتهم ثلاث غرف؛ فابن الجوزي يروي عن رجل بغدادي قوله: “ولنا ثلاث أبيات: بيت فيه أنا وأهلي، وبيت فيه صبية مُقْعَدة..، وبيت كان فيه ضيفنا”. وقد يصل اتساع بيت أحد أبناء الطبقات الموسرة إلى حد كبير من الضخامة؛ فالعمري يقول -في ‘مسالك الأبصار‘- متحدثا عن مراكش المغربية: “حكى لي غيرُ واحدٍ عن سعة دُورها وضخامة عمائرها..، حتى يقال إنه إذا كان الرجل في صدْر الدار ونادى رفيقَه وهو في صدرها الآخر بأعلى صوته لا يكاد يسمعه لاتساعها”!!
تقسيم وترسيم
إن “الدِّهْلِيزَ” أولُ ما يلاقيه القادم إلى أحد البيوت الكبيرة من أقسامه؛ فهو ممرٌّ يمتد من باب الدار إلى ساحتها الداخلية [الصَّحن]، ويبدو أنه عُرف قديما في منازل عصر النبوة لحديث ابن عباس (ت 69هـ/689م) الوارد في ‘مُسْتخرَج أبي عَوانة‘؛ أنه قال: “كنتُ ألعب مع الغلمان فبَصُرتُ (= رأيتُ) برسول الله ﷺ [قادما] فاختبأتُ في دِهْلِيزَ باب دار قوم”.
وقد يُستخدم الدِّهْليز مساحةً لاستقبال الضيوف وإطعامهم حسبما تفيده رواية جاءت في ‘الفرَج بعد الشِّدة‘ للتنوخي، وفيها أن رجلا دخل دار عُبَيد الله بن أبي بكرة (ت 79هـ/699م) يقول: “ودخلنا فإذا الدهليز مفروش والناس جلوس مع الرجل، فدعا بغَداء فجاؤوا بأحسن غداء”!
وربما تغالى الناس في سعة الدهاليز والتأنق فيها لكونها واجهة المنزل ومدخله؛ ولذا يقول التنوخي -في ‘نشوار المحاضرة‘-إن الوزير العباسي أحمد بن الخصيب الجَرْجَرَائي (ت 265هـ/879م) حين شيد مبنى له بمدينة سامراء “استعمل في سقف دهليز داره سبعين قارِيَةَ (= سارية) ساجٍ، والقارِيَةُ ساجَةٌ عظيمة تُستعمل قطعة صحيحة”، أي خشبة واحدة غير مركبة من قطعتين. وقد بلغ كرم الوزير العباسي علي ابن الفرات (ت 312هـ/925م) أنه “أمر بنصب مطبخ [في دهليزه] لمن يحضر من أرباب الحوائج”؛ وفقا للخطيب في ‘تاريخ بغداد‘.
وقد يكون في الدِّهْليز دُرَج يؤدي إلى أعلى المنزل، كما نجده في قصة اختباء الوزير العباسي الفضل بن الربيع (ت 208هـ/823م) بدار جندي فـ”كانت الدرجة (= السلّم) في الدهليز”. وربما اتخذ منه بعض الزوار المقرَّبين مسكنا له كما فعل التاجر البغدادي الكبير أبو عبد الله ابن الجصاص (ت 315هـ/928م) الذي كان يبيع الجواهر لنساء أمير مصر خُمَارَوَيْه ابن طولون (ت 282هـ/896م)؛ إذ يقول: “ثم لزمتُ دهليزَهم، وأخذتُ لنفسي غرفة كانت فيه فجعلتها مسكني”؛ وفقا للتنوخي.
والدهليز في البيوت المقسَّمة هو المساحة المشتركة بين البابين الخارجي والداخلي؛ ففي ‘نشوار المحاضرة‘ للتنوخي أن رجلا دخل بيتا ووصفه قائلا: “فتجد دهليزا طويلا يؤدي إلى بابين، فأدخل الأيمن منهما فيدخلك إلى دار”. وقد يحتوي الدهليز مرحاضا؛ إذْ جاء في قصة حكاها لصّ قوله: “حصلتُ (= بقيتُ) مختبئا في مُسْتراح الدهليز”؛ وفقا للتنوخي.
وإذا دخل المرء البيت من الدهليز فإنه سيقوده إلى جزء مركزي في البيوت الإسلامية يُدعَى “صَحْن الدار”، وهو الساحة التي تتوسط الدار فتتوزع من حولها الغرف والمرافق الداخلية، وتطل عليها الأدوار العلوية إن كان للبيت أكثر من طابق.
وفي العادة يتناسب حجم “صَحْن الدار” مع مساحتها ومكانة مالكها الاجتماعية، وربما اتّسع الصَّحْن لنصب خيمة كبيرة تسمى السُّرَادق؛ ففي إحدى قصص التنوخي -في ‘الفرَج بعد الشِّدة‘- أن قاضي القضاة أبا عمر المالكي (ت 320هـ/932م) زار التاجر البغدادي ابن الجصاص في منزله، قال: “[فكان] في صَحْنه سُرَادقٌ مضروبٌ فجلسنا بالقُرب منه”.
وأحيانا يكون في الصحن فخّ للإيقاع باللصوص إذا دخلوا المنزل؛ ففي ‘نشوار المحاضرة‘ قصة لصّ “تائب” دخل دار رجل صيرفي “كثير المال، يطلبه اللصوص فلا.. يقدرون عليه”، فقال اللص يروي ما جرى لزملائه اللصوص مع هذا الصيرفي: “فإذا للمَوْلَى زُبْيَةٌ (= حفرة مَخْفية) في أكثر الصحن محيطة به”، وكان أهل البيت يعرفونها فيتجنبونها، وكانت مغطاة بـ”بارِيّة (= حصيرة قصَب) من فوق خشب رقيق جدا”، فلما سقط اللصوص في الحفرة وجدوا أنها “عميقة جدا لا يمكن الصعود منها”!
غرف ومرافق
ومن الصَّحْن ينتقل الداخل إلى مختلف غرف البيت سُفليّها وعُلويّها، وأُولاها غرفة “المجلس” التي هي عادة موضع استقبال الضيوف والمدعوين إلى الولائم عند إقامتها؛ فقد حدثنا المُغنِّي إسحق الموصلي (ت 235هـ/850م) عن زيارة له إلى الوزير جعفر بن يحيى البَرْمَكي (ت 187هـ/803م) قائلا: “فسِرْنا إلى مجلسه فطرحنا ثيابنا ودعا بالطعام فأكلنا”؛ حسب التنوخي في ‘الفرَج بعد الشِّدة‘. وقد يكون للبيت أكثر من مجلس كما يفيدنا التنوخي بوصفه دار رجل بغدادي متوسط الحال: “وبنى فيها مجلسين متقابلين وخزائن ومُستراحاً”.
وربما عبّروا عن المجلس المنفصل عن معظم البيت بلفظ “الرواق”، وهو “بيت كالفُسْطاط (= الخيمة) يُحْمَل على سِطَاع (= عَمود) واحد في وسطه”؛ طبقا للخليل الفراهيدي (ت 170هـ/786م) في معجمه ‘العين‘. وكان لمجلس الوزير جعفر البرمكي عدة أروقة “فأقبل -أحد العباسيين- نحونا حتى صار إلى الرواق الذي نحن فيه”.
أما حُجَر النوم الخاصة فكانت تسمى “المَرْقَد”، كما نجده في قصة الأصمعي (ت 216هـ/831م) مع الخليفة العباسي المأمون (ت 218هـ/833م) التي رواها إبراهيم بن محمد البيهقي الكاتب (ت نحو 320هـ/932م) في ‘المحاسن والمساوئ‘؛ إذ قال الأصمعي: “استأذنتُ على المأمون وإذا هو نائم فأذن لي..، فدخلت عليه وهو في “مَرْقَده””.
وإذا كان صاحب البيت من أهل العلم والأدب والثقافة فإن منزله سيحتوي غالبا غرفة مخصصة للكتب كانوا يدعونها “بيت الكتب”؛ فقد أورد محمد بن علي القَلْعي الشافعي (ت 630هـ/1233م) -في ‘تهذيب الرياسة وترتيب السياسة‘- أن الأمير عبد الله بن طاهر (ت 230هـ/844م) لما اجتاز بمدينة الرَّقة قصد منزل الشاعر كُلْثوم العَتّابي التغلبي (ت 220هـ/835م) فـ”دخل عليه فألْفاه جالسا في “بيت كتبه”، فحادثه وذاكره وانصرف”. وكان شيخ الإسلام أبو عثمان النيسابوري الصابوني (449هـ/1058م) يقول: “ما دخلتُ “بيتَ الكتب” قَطُّ إلا على طهارة”؛ وفقا لابن عساكر (ت 571هـ/1175م) في ‘تاريخ دمشق‘.
كانت أسقف البيوت تصنع من جذوع الشجر، وقد تكون فوق سطح البيت غرفة تسمّى “العُـلِّيَّة” (بنتهاوس – Penthouse) وجمعها “العَلالِيّ”، وربما وُضِع لها سُلّم خشبي يمكن تحريكه؛ فقد روى الخطيب البغدادي -في ‘التطفيل وحكايات الطفيليين‘- قصصا تفيد بأن بعضهم كان يجمع الطفيليين في غرفة بهذا الوصف لئلا يأكلوا طعامه، ويرفع عنهم السلم عندما ينتهي ضيوفه من الطعام، وقد فعلها مرة بـ”ثلاثة عشر طفيليا ثم رفع السلم ووُضعت الموائد”!!
وأما الصعود إلى السطوح فكان يتم بدُرَج يُسمَّى “المَمْرَق” وجمعه مَمَارِق؛ فقد جاء في ‘نشوار المحاضرة‘ نقلا عن أحد اللصوص يحكي إحدى مغامرته في السرقة: “ورُمْتُ صعود السطح فما قَدَرتُ لأن المَمَارق مقفلة بثلاثة أقفال”.
يتبع
مختار خَواجَة
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/01/4.jpg
قد لا يكون حضور المعماريين المتخصصين (المهندسون) في عمران البيوت اختراعا إسلاميا، ولكن يمكن القول إن المهندس احتل تاريخيا قلب الحضارة الإسلامية على نحو ما نجده منعكسا في تطور العمارة في تاريخ المسلمين؛ فتميُّزُها وتعقيدُها يشير إلى ذروة الإتقان والإبداع -حتى بمعايير اللحظة الراهنة- عند الإطلالة على بعض الأحياء القديمة في حواضر الإسلام العتيقة مشرقا ومغربا، وهو ما أورثتنا إياه طبقة من البنَّائين العظماء من المسلمين وغيرهم.
وبالتالي لم يأتِ من فراغ إطلاقُ لقب “الأستاذ” على رئيس المهندسين، وهو لقب شديد الأهمية في الحياة العلمية للمسلمين إذْ كان لا يُطلق إلا على أئمة العلماء؛ لكن قصة البيوت هي قصة ساكنها الإنسان وكذلك قصة الثقافة التي ينتمي إليها، فالبيوت لها آداب في التصميم تعكس آداب وثقافة ساكنيها في المعيشة والتزاور والتجاور، كما أن التطور التقني والرفاه الاقتصادي يفرضان بصمتهما على نمط حياة الشعوب؛ ولا بد من أن ينعكس ذلك كله في العمارة تصميما وتقسيما.
وفي هذا المقال؛ سنقترب من قصة البيوت الإسلامية عمرانا ومكانا، في جولة ثقافية اجتماعية تبتعد عن الفنيات الدقيقة لهندسة العمران، وتتجاوز ردهات قصور المُلك وأركان القلاع وأروقة المنشآت العامة، لتقتصر غالبا على منازل طبقات الناس البسيطة والمتوسطة، فتتعرف على فنيات تصميمها وطرق وأدوات تشييدها، وتتبع أقسامها من المداخل إلى السطوح، مرورا بمختلف الغرف والمرافق والملحقات، وتكشف ما كانت تنطوي عليها من تسهيلات ووسائل راحة إضاءةً وتبريدا؛ ثم يتخلل ذلك كله رصد لبعض الظواهر المتصلة بعمران المساكن كالمباني المتعددة الطوابق، والشقق المشتركة السكنى، والمنازل سريعة التجهيز.
معمار بسيط
جاء الإسلام والحياة -في مناطق البادية العربية- يغلب على مساكنها “الخِيام والقِبَاب والأخْبِيةَ والفَسَاطِيط (= جمع فُسْطاط: الخيمة الكبيرة) من الأنْطاع (= جمع نِطْع: بِسَاطٌ جلدي) والأَدَم (= جمع أدِيم: جلد الدابة)”؛ كما يقول الإمام البَغَوي (ت 516هـ/1122م) عند تفسيره -في ‘معالم التنزيل‘- لقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً﴾؛ (سورة النحل/الآية: 80).
وقد تناول المؤرخ المقريزي (ت 845هـ/1441م) -في ‘الخطط والآثار‘- أهم التسميات المتعلقة بالبيوت عند العرب؛ فذكر فيها أن “البيت أخص من الدار، فكلّ دارٍ بيتٌ ولا ينعكس”، وأوضح أن الأخبية كانت هي السائدة عند العرب في جاهليتهم، وظلوا كذلك حتى سكنوا المدن بعد الإسلام فبنوا الدُّور والبيوت، ووجدوا “الفُرْسَ لا تُبيح [لعامة الناس بناءَ] شريفِ البنيان، كما لا تبيح شريف الأسماء إلّا لأهل البيوتات (= العوائل النبيلة)”.
جاء الإسلام إذن وحواضر شمالي الجزيرة العربية -وخاصة مكة المكرمة وما وراءها شرقا وشمالا- تتكون من بيوت صغيرة الحجم إجمالا، وبقي الحال كذلك معظم عصر الصحابة؛ فقد كانت بيوت النبي ﷺ التي أسسها في المدينة المنورة – حين وصلها مُهاجِراً- حُجُراتٍ بجوار المسجد النبوي.
ويروي المؤرخ محمد بن سعد (ت 230هـ/845م) -في ‘الطبقات الكبرى‘- أن هذه الحجرات النبوية “كان منها أربعة أبيات (= بيوت) بِـلَبِـنٍ لها حُجَرٌ من جريد [النخل]، وكانت خمسة أبيات من جريد مطيَّنة لا حُجَر لها، على أبوابها مُسُوح (= ثياب) الشَّعَر، ذَرَعتُ السِّتْرَ فوجدتُه ثلاثة أذرع (= 160 سم) في ذراع”.
أما “صناعة البناء” باعتبارها حرفة حضرية؛ فقد ذهب ابن خلدون (ت 808هـ/1406م) -في ‘المقدمة‘- إلى أنها “أول صنائع العمران الحضري وأقدمُها”، وعرّفها بقوله: “هي: معرفة العمل في اتخاذ البيوت والمنازل لِلْكَنِّ (= الاسْتتار) والمأوى للأبدان في المدن”.
وقد نقل أبو حيان التوحيدي (ت بعد 400هـ/1010م) كلاما لطيفا في “فلسفة البناء” ومرتكزات صنعته التي تقوم عليها؛ فقال -في ‘البصائر والذخائر‘- إن مقومات “صناعة البناء..: المادة التي يُعمل منها البناء..: التراب والطين والحجارة والخشب؛ والصورة التي ينحوها..: صورة البيت (= التصميم الهندسي)؛ والفاعل هو البنَّاء؛ والغرض الذي من أجله يُفعل [هو] سكنى البيت وإحراز ما يُحرَز فيه؛ والآلة التي بها يعمل هي آلات البناء” .
مؤثرات مختلفة
ويقرر ابن خلدون أن هذه الصناعة تتأثر بأعراف الشعوب ومناخات بلدانها ومستوى اقتصادياتها؛ ولذا فإنها تختلف حسب ما “يناسب مزاج هوائهم واختلاف أحوالهم في الغنى والفقر”، معتبرا أن صناعة البناء مختصة بأهل “الأقاليم المعتدلة من الرابع وما حواليه، إذْ الأقاليم المنحرفة [عنها] لا بناء فيها، وإنما يتخذون البيوت حظائر من القصب أو الطين، أو يأوون إلى الكُهوف والغِيران”.
كما تتأثر مستويات البنيان بالعوامل الاجتماعية والاقتصادية وما يصاحبها من تراكم حضاري؛ ففي تاريخ الطبري (ت 310هـ/922م) أن الكوفة والبصرة تأسستا سنة 17هـ/639م “فابْتَنَى أهلُ المِصْرَيْن [بيوتهم] بالقصب، ثم إن الحريق وقع بالكوفة وبالبصرة.. فاحترق ثمانون عريشاً”، فأرسلوا وفدا إلى الخليفة عمر بن الخطاب (ت 23هـ/645م) “يستأذنون في البناء باللَّبِن”، فأذِن لهم في ذلك.
كما يتحدد حجم البنيان بطبيعة احتياجات سُكنى صاحب المنزل؛ وفي ذلك يقول ابن خلدون إن المُوسِرِين “منهم مَنَ يتخذ القصور.. العظيمة الساحة المشتملة على عدة الدُّور والبيوت والغُرف الكبيرة، لكثرة ولده وحَشَمه وعياله وتابعه”.
بل إن بعضهم قد يحتاج “لبناء الاصطبلات لرَبْط مُقْرَباتِه (= خيوله)”، ومنهم مَن “يهيئون السراديب والمطامير (= أماكن تحت الأرض) لتخزين الأقوات”. أما ضعفاء الحال فيرضون بأحجام أصغر، إذ يكفي أحدَهم أن “يَبْني الدُّوَيْرة والبيوت لنفسه وسكنه وولده، لا يبتغي ما وراء ذلك لقصور حاله عنه، واقتصاره على الكَنِّ الطبيعي للبشر”.
يتحدث ابن خلدون -في ‘المقدمة‘- عن مواد البنيان رابطا بين نوعيتها والمستوى الاجتماعي لطبقات ملاك البيوت؛ فالكُبراء والموسرون “يجعلون أسس البنيان من الحجارة ويضعون الكِلْسَ بينها”، كما يهتمون بتجميل بيوتهم “بالجِصِّ والأصبغة”.
وقد يلعب العامل السياسي أثره في حجم وشكل البنيان؛ إذْ “يُحتاج لهذه الصناعة أيضا عند تأسيس الملوك وأهل الدول المدنَ العظيمة والهياكل (= الأبنية) المرتفعة، ويبالغون في إتقان الأوضاع وعُلوّ الأجرام مع الإحكام لتبلغ الصناعة مبالغها”؛ وفقا لابن خلدون.
مهارات متفاوتة
وكما تتفاضل أقسام البنيان وأحجامه؛ فإن البنَّائين أنفسهم كانوا يتفاوتون في قدراتهم الفنية ومهاراتهم المعمارية، ولذا نجد أن من “أهل هذه الصناعة..: البصير الماهر ومنهم القاصر”؛ طبقا لابن خلدون. وكانوا يُسمُّون المهندسين عموما ”الفَعَلَة”، كما في خبر يقول إن الخليفة المعتضد العباسي (ت 278هـ/891م) أرسل إلى “سُور أنطاكية بـ”فَعَلَة” يهدمونه”؛ حسب القاضي أبي علي التنوخي (ت 384هـ/994م) في ‘نشوار المحاضرة‘.
وينقسم هؤلاء ”الفَعَلَة” إلى فئات عدة حسب تخصص كل منهم ودَوْره المحدد له في عملية البناء؛ وتشمل هذه الفئات “النجّارين، والبنّائين، والنَّقّاشين، والمُزوِّقين، والجصّاصين، والحَرّاقين، والحدّادين، والرُّوزْجَارية ، والحمّالين”؛ حسبما يفيدنا به محب الدين ابن النجار (ت 643هـ/1245م) في ‘الدرة الثمينة في أخبار المدينة‘.
وكثيرا ما كان للمنتمين إلى صناعة البناء -في كل بلد- رئيس يتولى تنظيمَهم، ويرجعون إليه في أمور صنعتهم فيما يشبه “نقابة المهندسين”، وكان هذا الرئيس في العراق مثلا يسمى “الأستاذ”؛ حسبما يرد في أخبار بناء بغداد عند الخطيب البغدادي (ت 463هـ/1072م) في ‘تاريخ بغداد‘.
وقد يُلقَّب الأستاذُ أيضا “رئيسَ المهندسين” وفقا للمقريزي في ‘المواعظ والاعتبار‘؛ فقد ذكر أن “المعلِّم ابن السُّيُوفي [كان] “رئيس المهندسين” في الأيام الناصرية (= دولة الناصر قلاوون ت 741هـ/1340م)، وهو الذي تولى بناء جامع المارديني خارج باب زويلة” بالقاهرة القديمة.
ويُسمَّى أحد العاملين تحت إشراف “الأستاذ” في صناعة البناء بـ”الرُّوزجارى وجماعتهم “الرُّوزْجارية فـ”هذه النسبة إلى الرُّوزْجار وهو [بالفارسية] رُوزْكار، يعني: الذي يعمل بالنهار (= عامل اليومية)، ويقال ببغداد لمن يعملـ[ـون] بالنهار: الرُّوزْجارى” وفقا للإمام أبي سعد السمعاني (ت 562هـ/1167م) في كتابه ‘الأنساب‘.
أما مهارات البنّائين الفنية؛ فيذكر ابن خلدون أنها تتضمن “أشياء من الهندسة مثل: تسوية الحيطان بالوزن، وإجراء المياه بأخذ الارتفاع وأمثال ذلك”، وكذلك “جَرّ الأثقال” عند بناء المباني الضخمة؛ حيث يقومون “بمضاعفة قوّة الحبل بإدخاله في المعالق من أثقاب مقدرة على نسب هندسية [متداولة بينهم]، تُصيِّر الثقيل -عند معاناة الرفع- خفيفاً، فيتم المراد”.
احتراف فائق
وقد يُرْسَم البِناءُ على هيئة تصميم هندسي ثنائي الأبعاد وهو ما كانوا يعبرون عنه بـ”تصوير البناء في الدار”؛ حسب أبي الحسين العمراني اليمني (ت 558هـ/1163م) في كتابه ‘الانتصار‘. فقبل تنفيذ مشروع بناء مُسَنَّاة -وهي سدٌّ صغير لتنظيم مرور الماء في الأنهار والقنوات- لمنزل الوزير العباسي علي ابن الجراح (ت 335هـ/946م) ببغداد، وُضعت له دراسة مالية وفنية “فقدّر لذلك مئة ألف درهم، وصُوِّر البناء وأُحضِر الصورة والتقدير (= الميزانية)”، وفقا للصابئ (ت 448هـ/1056م) في ‘تحفة الوزراء‘.
واللافت أن التصميم الهندسي للبناء قد يكون مجسَّما ثلاثي الأبعاد، فيما يشبه فكرة ما يُعرف اليوم -في مجال تصاميم البناء الهندسية- بـ”النموذج المعماري” (الماكيت – Maquette)؛ فحين أراد الخليفة المنصور العباسي (ت 158هـ/776م) بناء مدينة بغداد سنة 141هـ/759م جمَع المهندسين ومثّل لهم هيئتها التي يريدها، ثم طلب منهم أن يراها مجسّمة أمامه فخُطّ له نموذجها المعماري بخطوط هندسية، و”أمر أن يُجعَل على تلك الخطوط حبّ القطن وينصبّ عليه النفط، فنظر إليها والنار تشتعل، ففهمها وعرف رسمها، وأمر أن يُحفر أساس ذلك [البناء] على الرسم، ثم ابتُدئ في عملها”؛ طبقا للطبري في تاريخه.
ويبدو أنه كان مألوفا -منذ صدر الإسلام- أن يتفق صاحبُ البيت على تفاصيل حجم البيت ومساحته مع المتعهدُ بالبناء الذي كان يُدعى ”مُتولِّي العمارة”؛ فقد نقل الإمام أبو الوليد الباجي (ت 474هـ/1081م) -في كتابه ‘المُنتقَى‘- عن الإمام مالك بن أنس (ت 179هـ/795م) أنه “لو قال البنَّاء: أمرتَني أن أبني بيتا خمسا في خمس، وقال رب العرصة (= القطعة الأرضية): بل عشرة في عشرة؛ تحالفا”.
وتختلف أجور العاملين في بناء البيوت بحسب مستوى مهارة البنّاء وما إن كان “أستاذا” أم “رُوزْجَاريا” وعموما يقدم لنا الخطيب البغدادي صورة تقريبية لهذه الأجور، فيذكر -في حديثه عن تشييد بغداد- أن “الأستاذ من الصناع كان يعمل يومه بقِيرَاط (= 8.35 دولارات أميركية تقريبا)..، والرُّوزْجَاري يعمل بحبتين إِلَى 3 حبات [من أجزاء القيراط]”.
ومع انتشار الإبداع المعماري في أرجاء العالم الإسلامي مشرقا ومغربا؛ فإن حظ الأندلس منه كان عظيما إن لم يكن هو الأعظم. ويكفينا في بيان ذلك أن ابن خلدون تحدث -في تاريخه- عن “قُصور الملك بتلمسان وكانت لا يُعبَّر عن حسنها”! رغم أنها لم تكن -حسب كلامه- إلا صدى لما كان في جوارها الأندلسي؛ فقد “استدعى لها [سلطانُها] الصناعَ والفَعَلَة من الأندلس لحضارتها”، فقامت نهضتها العمرانية “بالمَهَرة والحُذَّاق من أهل صناعة البناء بالأندلس، فاستجادوا لهم (= ملوك تلمسان) القصورَ والمنازلَ والبساتين بما أعيا على الناس بعدهم أن يأتوا بمثله”!
أساليب منوعة
أما تكاليف بناء البيوت فهي عادة تبعٌ للقدرة المالية لصاحبها وطبيعة البيت وحجمه ومرافقه؛ ومن التقديرات التي وصلتنا في ذلك ما ذكره الإمام الذهبي (ت 748هـ/1347م) -في تاريخ الإسلام‘- من أن السلطان البويهي مُعِزّ الدولة (ت 353هـ/964م) “أنشأ دارا [ببغداد] غرم (= صرَف) عليها أربعين ألف ألف درهم (= اليوم 50 مليون دولار أميركي تقريبا)، فبقيت إلى بعد الأربعمئة (400هـ/1010م) ونُقِضَتْ (= هُدمت)، فاشتروا جَرْدَ (= صافي) ما في سقوفها من الذهب بثمانية آلاف دينار (= اليوم 13 مليون دولار أميركي تقريبا)”!!
ويفيدنا الإمام ابن الجوزي -في ‘المنتظم‘- بأن الشاعر والكاتب أبا القاسم علي بن أفلح (ت 533هـ/1139م) كان مقرَّبا من الخليفة العباسي المسترشِد بالله (ت 529هـ/1135م) فأعطاه دارا يسكنها، ثم “اشترى دُوراً إلى جانبها فهدم الكل وأنشأ دارا كبيرة، وأعطاه الخليفة خمسمئة دينار وأطلق له مئة جذع [شجرة]، ومئتيْ ألف آجُرَّة (= لبِنة)..، [فـ]ـغرم عليها عشرين ألف دينار، وكان طولها ستين ذراعا في أربعين (= 1300 متر مربع تقريبا)، وقد أُجْرِيتْ بالذهب وعُمِلتْ فيها الصور”.
وفي القرن التاسع الهجري/الـ15 الميلادي؛ نجد عند الإمام السخاوي (ت 902هـ/1497م) -في الجواهر والدُّرر‘- تقديرا لمتوسط تكاليف بناء البيت في مصر نقلا عن “أعيان التجار وعظمائهم”، ووفقا لقولهم “فإن الدار.. تساوي ألف دينار، [ثم] تُكْرَى غالبا بنحو الأربعين دينارا”.
ويقدّم لنا ابن خلدون صورة عن طُرُق البناء وأساليبه -حتى زمنه- وكيف أنها كانت تتنوع حسب نوع المادة المستخدمة فيه؛ فيقول إن “منها البناء بالحجارة المنجَّدة أو بالآجُرّ (= اللَّبِن المُحْرَق المُعَدُّ للبناء)”، بإلصاق الجدران بعضها ببعض “بالطين والكِلْس الذي يلتحم معها كأنها جسم واحد”.
ومن هذه الطرق أيضا “البناء بالتراب خاصة”، حيث يوضع لوْحان من الخشب بطول أربعة أذرع [مترين تقريبا] ويُمْلأ الفراغ بينهما “بالتراب مخلطا بالكلس”، وتضاف مواد أخرى تثبتهما معا على طول الحائط، ويُسمَّى ذلك “الطابية وصانعه الطَّوّاب”. ومن طرق البناء خلط الكلس بالماء وتخميره أسبوعا أو اثنين، ثم “تُجَلَّل الحيطان” به من الأعلى.
وتُعمَل أسقُف البيوت “بأن يُمَدّ الخُشُب المُحْكَمَة النجارة أو الساذَجَة (= غير المعالَجة) بين حائطين من المنزل، وتوضع “من فوقها الألواح كذلك موصولة بالدَّسائر (= المسامير)”، ثم “يُصبُّ عليها التراب والكلس، ويبسط بالمراكز (= مواد تجعل الخليط متماسكا)” لضمان ثبات البناء وتقويته.
كفاءة عالية
وكانت أماكن صناعة الآجُرّ -الذي تشاد به المباني- تعرف بـ”أتَاتِين الآجُرِّ”، والأَتَاتِين جمع أَتُّون وهو مَوْقد النار الذي يُحرَق فيه هذا الآجُرّ، وعامله يدعى “الآجُرّيّ”. ويحدثنا التنوخي مثلا أنه كانت بأطراف بغداد بعض “أتاتين الآجُرِّ” لصناعة اللبِن.
ويقول المؤرخ ابن الأثير (ت 630هـ/1233م) -في كتابه ‘الكامل‘- إنه في سنة 332هـ/944م “كانت الأمطار كثيرة.. حتى خربت المنازل..، [فـ]ـصار ما.. يسقط من الأبنية لا يعاد..، وتعطل كثير من “أتاتين الآجر” لقلة البناء، ومن يُضْطَرُّ إليه اجتزأ بالأنقاض” من البيوت المتهدمة. ويذكر المقريزي أن بالقاهرة منطقة “عُرفت ببُركة الطَّوَّابين، من أجل أنه كان يُعمل فيها الطوب” لأغراض البناء.
وتتعدد الآلات المستخدمة في البناء بين البساطة والتعقيد؛ ومن ذلك ما أخبرنا به ابن الوردي الحفيد المعري (ت 852هـ/1448م) -في ‘خريدة العجائب‘- من أنه وُجدت في أحد الحصون “بقية من آلات البناء، وهي قدور من حديد ومغارف من حديد..، وهي أكبر من قُدور [صناعة] الصابون”. كما يذكر منها ابن النجار -في ‘الدرة الثمينة‘- “الحديد والرصاص والأصباغ والحبال”.
ويبدو أن المهندسين كانوا على مستوى عظيم من المهارة في سرعة الإنجاز، بحيث كانوا يبنون مدينة صغيرة في شهر؛ فالمؤرخ كمال الدين ابن العديم (ت 660هـ/1262م) يخبرنا -في ‘بغية الطلب في تاريخ حلب‘- أن مدينة رَعْبَان ضربها زلزال فخرّبها كليا، وكانت من المدن الدفاعية المهمة على الحدود مع البيزنطيين “ومَلَكَها العدوُّ في أيام سيف الدولة (الحمداني ت 356هـ/967م)، فأنهض إليها العساكرَ والصُّنّاعَ (= المهندسين)، وأنفق عليها الأموال الجسيمة حتى بناها في مدة شهر، وعساكرُ الروم جامعة والحربُ واقعة”!!
ولذا كانوا أحيانا يُكْملون بناء البيت بأن يُبنَى ويجصَّص ويبيَّض ويهيَّأ في يوم واحد إذا كانت ميزانيته مفتوحة وناجزة؛ فقد خرج الوزير حامد بن العباس (ت 311هـ/924م) للنزهة في بغداد فرأى تاجرا احترقت داره وتلفت مدّخراته، فطلب من وكيله إعادة بناء داره وأن ينجزها قبل العشاء.
لم يستصعب الوكيلُ المهمةَ لكنه اشترط توفير اللوازم لإنجازها، فخاطب الوزيرَ قائلا: “فتَقَدَّمْ (= أعطِ أوامركَ) إلى الخادم أن يُطْلق ما أريده، والى صاحب المعونة (= شُرَطي) أن يقف معي، ويحضر كل ما أريده من الصناع”، فحضر “أصناف الرُّوزْجَارية والبنائين” فكانوا “ينقضون بيتا ويطرحون فيه من يبنيه” حتى أنجزوا المهمة، كما يروي عريب بن سعد القرطبي (ت 369هـ/979م) في ‘صلة تاريخ الطبري‘.
وفي مقابل تلك السرعة الهائلة في الإنجاز؛ نجد أن تشييد بعض المنازل ربما استغرق سنوات لما اشتمل عليه البناء من ضخامة وزخرفة بالغة، كما حصل في تشييد دار رئيس التجار بالقاهرة برهان الدين المحلي (ت 806هـ/1403م) “التي عمرها في مدة سبع سنين، وأنفق في بنائها زيادة على خمسين ألف دينار (= اليوم 8.5 ملايين دولار أميركي تقريبا)”؛ وفقا للمقريزي في ‘المواعظ والاعتبار‘.
مرجعية فنية
لا تنحصر كفاءة المهندسين في قدرتهم على البناء المُتقَن؛ بل إنه مع توسُّع العمران وتزايد البنيان تنشب عادةً النزاعات بين أصحابه وسكانه على الانتفاع بلوازمه من ماء وهواء وضياء وغيرها، ويُلْجَأ إلى القضاء لإلزام الجيران بصيانة الحيطان، والانتفاع بمرافق الطرق وقنوات “الصرف الصحي”.
وهنا -كما يقول ابن خلدون- يلجأ القضاةُ فيما قد يخفى عليهم من شؤون البناء الفنية إلى “أهل البصر العارفين بالبناء وأحواله، المستدلين عليها بالمَعاقد والقُمُط (= حبال تشدّ مكونات البناء) ومراكز الخشب ومَيْل الحيطان واعتدالها، وقسْم المساكن على نسبة أوضاعها ومنافعها، وتسريب المياه في القنوات مجلوبة ومرفوعة، بحيث لا تضر بما مرت عليه من البيوت والحيطان، وغير ذلك”.
ويبدو أن العرف جرى بتوثيق ما يصدر عن المهندسين من مشورة أو قرارات فنية عمرانية بعد دراسة حالة البناء؛ فالمقريزي يذكر -في ‘المواعظ والاعتبار‘- أنه في سنة 821هـ/1418م ظهر في مئذنة أحد جوامع القاهرة “اعوجاجٌ..، فكُتب محضر بجماعة المهندسين أنها مستحقة الهدم وعُرض على السلطان”.
وبناءً على التفاوت في البنيان مادةً وفخامةً؛ كانت المدن تتفاضل في عمرانها إتقانا واتساعا وجمالا، ولذلك يتحدث ابن فضل الله العمري (ت 749هـ/1348م) -في ‘مسالك الأبصار‘- عن أن “غالب مباني الشام بالحجر، ودُورها أصغر مقادير من دُور مصر ولكنها أزيد زخرفة منها، وإن كان الرخام بها أقل وإنما هي أحسن أنواعا، وعناية أهل دمشق بالمباني كثيرة ولهم في بساتينهم منها ما تفوق به” على مباني غيرها.
تختلف أحجام بيوت الناس حسب “اختلاف أحوالهم في الغنى والفقر” كما يقول عند ابن خلدون، ومن هنا تنوعت طبقات منازلهم بين العامة والخاصة؛ ففي ‘صفة الصفوة‘ لابن الجوزي وردت نصوص تكشف عن أحجام بيوت كثير من العامة والعلماء الزهاد، فمنزل أبي سعيد الخرّاز (ت 277هـ/891م) كان غرفة واحدة، تقول عنها تلميذته: “كنتُ أسأله مسألة والإزار (= ساتر بالبيت) بيني وبينه مشدود”.
أما متوسطو الحال فقد يكون في بيوتهم ثلاث غرف؛ فابن الجوزي يروي عن رجل بغدادي قوله: “ولنا ثلاث أبيات: بيت فيه أنا وأهلي، وبيت فيه صبية مُقْعَدة..، وبيت كان فيه ضيفنا”. وقد يصل اتساع بيت أحد أبناء الطبقات الموسرة إلى حد كبير من الضخامة؛ فالعمري يقول -في ‘مسالك الأبصار‘- متحدثا عن مراكش المغربية: “حكى لي غيرُ واحدٍ عن سعة دُورها وضخامة عمائرها..، حتى يقال إنه إذا كان الرجل في صدْر الدار ونادى رفيقَه وهو في صدرها الآخر بأعلى صوته لا يكاد يسمعه لاتساعها”!!
تقسيم وترسيم
إن “الدِّهْلِيزَ” أولُ ما يلاقيه القادم إلى أحد البيوت الكبيرة من أقسامه؛ فهو ممرٌّ يمتد من باب الدار إلى ساحتها الداخلية [الصَّحن]، ويبدو أنه عُرف قديما في منازل عصر النبوة لحديث ابن عباس (ت 69هـ/689م) الوارد في ‘مُسْتخرَج أبي عَوانة‘؛ أنه قال: “كنتُ ألعب مع الغلمان فبَصُرتُ (= رأيتُ) برسول الله ﷺ [قادما] فاختبأتُ في دِهْلِيزَ باب دار قوم”.
وقد يُستخدم الدِّهْليز مساحةً لاستقبال الضيوف وإطعامهم حسبما تفيده رواية جاءت في ‘الفرَج بعد الشِّدة‘ للتنوخي، وفيها أن رجلا دخل دار عُبَيد الله بن أبي بكرة (ت 79هـ/699م) يقول: “ودخلنا فإذا الدهليز مفروش والناس جلوس مع الرجل، فدعا بغَداء فجاؤوا بأحسن غداء”!
وربما تغالى الناس في سعة الدهاليز والتأنق فيها لكونها واجهة المنزل ومدخله؛ ولذا يقول التنوخي -في ‘نشوار المحاضرة‘-إن الوزير العباسي أحمد بن الخصيب الجَرْجَرَائي (ت 265هـ/879م) حين شيد مبنى له بمدينة سامراء “استعمل في سقف دهليز داره سبعين قارِيَةَ (= سارية) ساجٍ، والقارِيَةُ ساجَةٌ عظيمة تُستعمل قطعة صحيحة”، أي خشبة واحدة غير مركبة من قطعتين. وقد بلغ كرم الوزير العباسي علي ابن الفرات (ت 312هـ/925م) أنه “أمر بنصب مطبخ [في دهليزه] لمن يحضر من أرباب الحوائج”؛ وفقا للخطيب في ‘تاريخ بغداد‘.
وقد يكون في الدِّهْليز دُرَج يؤدي إلى أعلى المنزل، كما نجده في قصة اختباء الوزير العباسي الفضل بن الربيع (ت 208هـ/823م) بدار جندي فـ”كانت الدرجة (= السلّم) في الدهليز”. وربما اتخذ منه بعض الزوار المقرَّبين مسكنا له كما فعل التاجر البغدادي الكبير أبو عبد الله ابن الجصاص (ت 315هـ/928م) الذي كان يبيع الجواهر لنساء أمير مصر خُمَارَوَيْه ابن طولون (ت 282هـ/896م)؛ إذ يقول: “ثم لزمتُ دهليزَهم، وأخذتُ لنفسي غرفة كانت فيه فجعلتها مسكني”؛ وفقا للتنوخي.
والدهليز في البيوت المقسَّمة هو المساحة المشتركة بين البابين الخارجي والداخلي؛ ففي ‘نشوار المحاضرة‘ للتنوخي أن رجلا دخل بيتا ووصفه قائلا: “فتجد دهليزا طويلا يؤدي إلى بابين، فأدخل الأيمن منهما فيدخلك إلى دار”. وقد يحتوي الدهليز مرحاضا؛ إذْ جاء في قصة حكاها لصّ قوله: “حصلتُ (= بقيتُ) مختبئا في مُسْتراح الدهليز”؛ وفقا للتنوخي.
وإذا دخل المرء البيت من الدهليز فإنه سيقوده إلى جزء مركزي في البيوت الإسلامية يُدعَى “صَحْن الدار”، وهو الساحة التي تتوسط الدار فتتوزع من حولها الغرف والمرافق الداخلية، وتطل عليها الأدوار العلوية إن كان للبيت أكثر من طابق.
وفي العادة يتناسب حجم “صَحْن الدار” مع مساحتها ومكانة مالكها الاجتماعية، وربما اتّسع الصَّحْن لنصب خيمة كبيرة تسمى السُّرَادق؛ ففي إحدى قصص التنوخي -في ‘الفرَج بعد الشِّدة‘- أن قاضي القضاة أبا عمر المالكي (ت 320هـ/932م) زار التاجر البغدادي ابن الجصاص في منزله، قال: “[فكان] في صَحْنه سُرَادقٌ مضروبٌ فجلسنا بالقُرب منه”.
وأحيانا يكون في الصحن فخّ للإيقاع باللصوص إذا دخلوا المنزل؛ ففي ‘نشوار المحاضرة‘ قصة لصّ “تائب” دخل دار رجل صيرفي “كثير المال، يطلبه اللصوص فلا.. يقدرون عليه”، فقال اللص يروي ما جرى لزملائه اللصوص مع هذا الصيرفي: “فإذا للمَوْلَى زُبْيَةٌ (= حفرة مَخْفية) في أكثر الصحن محيطة به”، وكان أهل البيت يعرفونها فيتجنبونها، وكانت مغطاة بـ”بارِيّة (= حصيرة قصَب) من فوق خشب رقيق جدا”، فلما سقط اللصوص في الحفرة وجدوا أنها “عميقة جدا لا يمكن الصعود منها”!
غرف ومرافق
ومن الصَّحْن ينتقل الداخل إلى مختلف غرف البيت سُفليّها وعُلويّها، وأُولاها غرفة “المجلس” التي هي عادة موضع استقبال الضيوف والمدعوين إلى الولائم عند إقامتها؛ فقد حدثنا المُغنِّي إسحق الموصلي (ت 235هـ/850م) عن زيارة له إلى الوزير جعفر بن يحيى البَرْمَكي (ت 187هـ/803م) قائلا: “فسِرْنا إلى مجلسه فطرحنا ثيابنا ودعا بالطعام فأكلنا”؛ حسب التنوخي في ‘الفرَج بعد الشِّدة‘. وقد يكون للبيت أكثر من مجلس كما يفيدنا التنوخي بوصفه دار رجل بغدادي متوسط الحال: “وبنى فيها مجلسين متقابلين وخزائن ومُستراحاً”.
وربما عبّروا عن المجلس المنفصل عن معظم البيت بلفظ “الرواق”، وهو “بيت كالفُسْطاط (= الخيمة) يُحْمَل على سِطَاع (= عَمود) واحد في وسطه”؛ طبقا للخليل الفراهيدي (ت 170هـ/786م) في معجمه ‘العين‘. وكان لمجلس الوزير جعفر البرمكي عدة أروقة “فأقبل -أحد العباسيين- نحونا حتى صار إلى الرواق الذي نحن فيه”.
أما حُجَر النوم الخاصة فكانت تسمى “المَرْقَد”، كما نجده في قصة الأصمعي (ت 216هـ/831م) مع الخليفة العباسي المأمون (ت 218هـ/833م) التي رواها إبراهيم بن محمد البيهقي الكاتب (ت نحو 320هـ/932م) في ‘المحاسن والمساوئ‘؛ إذ قال الأصمعي: “استأذنتُ على المأمون وإذا هو نائم فأذن لي..، فدخلت عليه وهو في “مَرْقَده””.
وإذا كان صاحب البيت من أهل العلم والأدب والثقافة فإن منزله سيحتوي غالبا غرفة مخصصة للكتب كانوا يدعونها “بيت الكتب”؛ فقد أورد محمد بن علي القَلْعي الشافعي (ت 630هـ/1233م) -في ‘تهذيب الرياسة وترتيب السياسة‘- أن الأمير عبد الله بن طاهر (ت 230هـ/844م) لما اجتاز بمدينة الرَّقة قصد منزل الشاعر كُلْثوم العَتّابي التغلبي (ت 220هـ/835م) فـ”دخل عليه فألْفاه جالسا في “بيت كتبه”، فحادثه وذاكره وانصرف”. وكان شيخ الإسلام أبو عثمان النيسابوري الصابوني (449هـ/1058م) يقول: “ما دخلتُ “بيتَ الكتب” قَطُّ إلا على طهارة”؛ وفقا لابن عساكر (ت 571هـ/1175م) في ‘تاريخ دمشق‘.
كانت أسقف البيوت تصنع من جذوع الشجر، وقد تكون فوق سطح البيت غرفة تسمّى “العُـلِّيَّة” (بنتهاوس – Penthouse) وجمعها “العَلالِيّ”، وربما وُضِع لها سُلّم خشبي يمكن تحريكه؛ فقد روى الخطيب البغدادي -في ‘التطفيل وحكايات الطفيليين‘- قصصا تفيد بأن بعضهم كان يجمع الطفيليين في غرفة بهذا الوصف لئلا يأكلوا طعامه، ويرفع عنهم السلم عندما ينتهي ضيوفه من الطعام، وقد فعلها مرة بـ”ثلاثة عشر طفيليا ثم رفع السلم ووُضعت الموائد”!!
وأما الصعود إلى السطوح فكان يتم بدُرَج يُسمَّى “المَمْرَق” وجمعه مَمَارِق؛ فقد جاء في ‘نشوار المحاضرة‘ نقلا عن أحد اللصوص يحكي إحدى مغامرته في السرقة: “ورُمْتُ صعود السطح فما قَدَرتُ لأن المَمَارق مقفلة بثلاثة أقفال”.
يتبع