ابو وليد البحيرى
2021-12-23, 02:18 PM
مشاهد وصور من منهج الصحابة في الفتوحات الإسلامية
أحمد الشجاع
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/12/40.jpg
انطلقت الفتوحات الإسلامية - بعد وفاة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من أرضية إيمانية صلبة؛ فالمجتمع الإسلامي في الجزيرة العربية أصبح متماسكاً ومرتبطاً بدينه بعد أن تم القضاء على فتنة الردة.
وتأهب الصحابة لنشر نور الإسلام في أصقاع الأرض؛ يخرجون الناس من الظلمات إلى النور ومن الظلال إلى الهدى.
وقد حاول المستشرقون وأذنابهم وأعداء الإسلام، أن يجردوا الفتوحات الإسلامية من دوافعها الدعوية، وأهدافها الربانية، ومقاصدها السامية وألصقوا بحركة الفتوحات تهم باطلة لا تقوم أمام الدليل والبرهان والحجة.
ولهذا سيتحدث التقرير عن منهج الصحابة في بعض فتوحاتهم العظيمة التي جرت في العراق كنموذج يحتذى به ويسترشد بسيرته؛ فالصحابة خير من فقه دين الإسلام بعد رسول الله.. فهم القدوة الصالحة الخالصة لدين الله.
عتاب وإصلاح
لما أيقن خالد من انهزام العدو في العراق اشتاق إلى زيارة مكة، وإلى تأدية فريضة الحج متخفياً من غير أن يستأذن أبا بكر، فأمر جيشه بالعودة إلى الحيرة، وتظاهر بأنه سائر في مؤخرة الجيش فبدأ رحلته إلى مكة ومعه عدة من أصحابه لخمس بقين من ذي القعدة، ولم يكن معه دليل فاخترق الصحراء مسرعاً رغما عن صعوبة الطريق.
ولما أدى فريضة الحج عاد إلى الحيرة في أوائل فصل الربيع، فكانت غيبته على الجند يسيرة، فما وصلت إلى الحيرة مؤخرة الجيش حتى وافاهم خالد مع صاحب الساقة فقدما معاً وخالد وأصحابه محلقون.
وقد كان تكتمه شديداً حتى إنهم ظنوا أنه كان في هذه المدة بمنطقة الفراض، ولم يعلم أبو بكر بحج خالد مع أنه كان في الحج أيضاً، غير أنه بعد قليل بلغه الخبر فاستاء جداً، وعتب عليه، وكانت عقوبته أن صرفه إلى الشام ليمد جموع المسلمين باليرموك، فأرسل إليه كتاباً جاء فيه:
"سر حتى تأتي جموع المسلمين باليرموك فإنهم قد شجوا وأشجوا، وإياك أن تعود لمثل ما فعلت، فإنه لم يشج الجموع من الناس بعون الله شجاك، ولم ينزع الشجى من الناس نزعك، فليهنئك أبا سليمان النية والخطوة، فأتمم يتمم الله عليك، ولا يدخلنك عجب فتخسر وتخذل، وإياك أن تدل بعمل؛ فإن الله له المن وهو ولي الجزاء".
ويصف المؤلف هذا الخطاب من الخليفة الحكيم بأنه يصور مدى حرص الصديق على القواد الناجحين فيمدهم بالمشورة والنصائح التي تأخذ بيدهم إلى الفوز والتمكين بفضل الله:
أ - يأمر الصديق سيف الله خالداً أن يترك العراق ويتوجه إلى الشام لعل الله يفتح على يديه هذا الموقع.
ب - ينصحه ألا يعود في مثل ما حدث في حجه بدون إذن من الخليفة.
جـ - يأمره أن يسدد ويقارب ويجتهد مخلصاً النية لله وحده.
هـ - يحذره من العجب بالنفس والزهو والفخر؛ فذلك حظ النفس الذي يفسد العمل على العامل ويرده في وجهه، كما يحذره أن يدل ويمن على الله بالعمل الذي يعمله فإن الله هو المان به إذ التوفيق بيده سبحانه.
وجاء في خطاب الصديق إلى خالد: دع العراق، وأخلف فيه أهله الذي قدمت عليهم، ثم امضي مخففاً في أهل قوة من أصحابنا الذين قدموا معك العراق من اليمامة، وصحبوك في الطريق وقدموا عليك من الحجاز، ثم تأتي الشام، فتلقى أبا عبيدة بن الجراح ومن معه من المسلمين، وإذا التقيتم فأنت أمير الجماعة، والسلام عليك ورحمة الله.
وكان قد ظهرت في معارك العراق مقدرة الجيوش الإسلامية على تطبيق مبادئ الحرب من مباغتة وصد الهجوم وتثبيت الأعداء، وحشد القوة، وإدامة المعنويات، وجمع المعلومات ورسم الخطط وتنفيذها بكل قوة ودقة واحتياط منقطع النظير؛ فهو لم يذهب إلى الشام لمجاهدة الروم إلا بعد خبرة واسعة في فتوحات العراق.
وكان المرشح للبقاء على جيوش العراق بعد سفر خالد المثنى بن حارثة الشيباني لخبرته الواسعة بأرض العراق، ومهارته الفائقة في حرب الفرس. ويظهر للباحث أن الخطط التي وضعها خالد في حروب العراق كانت تعتمد على الله، ثم على جمع المعلومات الدقيقة التي تدل على نشاط مخابراته واستكشافاته في الميدان، والذي يبدو أن هذه المخابرات قد قام بتنظيمها القائد الفذ المثنى بن حارثة الشيباني؛ ليس فقط لألمعيته وقدرته الفائقة على التنظيم، وإنما لمعايشته للمنطقة، فهو ينتمي إلى بني شيبان من بكر بن وائل الذين كانت منازلهم بتخوم العراق وحوض الفرات التي تمتد شمالاً إلى (هيت) فكانوا بحكم مساكنهم واتصالاتهم، مؤهلين لأن يكونوا عيوناً (مخابرات).
فما وجدنا تحركاً لجيش من جيوش الفرس إلا وكان خبر ذلك التحرك منذ بدئه على لسان (المثنى) في الوقت المناسب، وما من شاردة ولا واردة تحدث في بلاط الفرس إلا وكان (المثنى) على علم بها في حينها.
وتهيأ خالد للسير إلى الشام، وقسم خالد الجند نصفين: نصفاً يسير به إلى الشام ونصفاً للمثنى، ولكنه جعل الصحابة جميعاً من نصيبه، فقال له المثنى: والله لا أقيم إلا على إنفاذ أمر أبي بكر كله في استصحاب نصف الصحابة، وإبقاء النصف، فو الله ما أرجو النصر إلا بهم، فأنت تعريني منهم.
وكان خطاب الصديق قد وصل إلى خالد قبل سفره يأمره فيه بمن يأخذ من الجند، ومن يدعهم للمثنى، قال: يا خالد لا تأخذ مجّداً إلا خلفت لهم مُجّداً، فإذا فتح الله عليك فارددهم إلى العراق وأنت معهم، ثم أنت على عملك.
فما زال خالد يسترضي المثنى ويعوضه عن الصحابة بمقاتلين من سادة أقوامهم من أهل البأس، وممن عرفوا بالشجاعة والصبر، وشدة المراس، فرضي المثنى آخر الأمر.
سار خالد من الحيرة في العراق، وقد استخلف المثنى به حارثة الشيباني على جند العراق، وسار هو إلى الشام، وكتب إلى أبي عبيدة: أما بعد فإني أسأل الله لنا ولك الأمن يوم الخوف والعصمة في دار الدنيا من كل سوء، وقد أتاني كتاب خليفة رسول الله يأمرني بالمسير إلى الشام وبالقيام على جندها والتولي لأمرها، والله ما طلبت ذلك قط ولا أردته إذ وليته، فأنت على حالك التي كنت عليها لا نعصيك ولا نخالفك ولا نقطع دونك أمراً، فأنت سيد المسلمين، لا ننكر فضلك، ولا نستغني عن رأيك تمم الله بنا وبك من إحسان ورحمنا وإياك من صلي النار، والسلام عليك ورحمة الله.
قيادة المثنى بن حارثة
بعد غياب خالد بن الوليد ومجموعة من قادة الجيش الكبار عن العراق وجد المثنى بن حارثة نفسه في مواجهة الجيوش الفارسية، فبدأ على الفور في تنظيم الجيوش الإسلامية، وكان خالد يتخذ الحيرة مقرًّا له، وكذا اتخذها المثنى مقرًّا له، وكان المثنى بن حارثة قائداً لمقدمة الجيش الإسلامي الموجودة بالقرب من المدائن، فوضع مكانه المُعَنَّى بن حارثة أخاه في أقرب نقطة للجيش الفارسي؛ وهذا أمر له معناه ومغزاه، فإن المُعَنَّى بن حارثة - أخا المُثَنَّى - يعلم عن أرض فارس ما لا يعلمه غيره من المسلمين؛ فهو أحق الناس بالوجود في هذا المكان القريب جدّاً من الفرس، وجعل مكان ضِرَار بن الأَزْوَر - وكان قد ذهب مع خالد بن الوليد - عتيبةَ بن النهاس، ومكان ضرار بن الخطاب وضع مسعود بن حارثة الأخ الثاني للمثنى بن حارثة.
وفي الجنوب وعلى الحامية الجنوبية التي تحمي حصن الأُبلّة والحصيد ظَلَّ سويد بن مقرن قائداً لهذه الحامية، كما كان على عهد خالد بن الوليد، وكان هذا في أواخر صفر سنة 13هـ.
وبدأ المثنى بن حارثة ينتظر الأخبار والأحداث، خاصة بعد أن علم أهل فارس بغياب نصف الجيش الإسلامي، وبقاء نصف الجيش فقط بقيادة المثنى بن حارثة.
في هذه الأثناء في المدائن فقد قُتِل منذ فترة قصيرة شيرويه كسرى فارس، وظل أهل فارس من دون كسرى يحكمهم، وكانت فتنة عظيمة في البلاط الملكي الفارسي، فتولى الحكم كسرى آخر كان اسمه شهر براز. ومعنى شهر براز بالفارسية خنزير الدولة. وأول ما فعله هذا الخنزير بعد أن تولَّى الحكم أن جهَّز جيشاً لملاقاة القوة الموجودة للمسلمين في الحيرة، فجهَّز جيشاً من عشرة آلاف مقاتل، وجعل مع هذا الجيش فيلاً، وكان الفيل أداة من أدوات الحرب عند الفرس لا يعرفها العرب، ولم يمر على المسلمين موقعة استُخدِم فيها الفيل إلا موقعة ذات السلاسل وقد أُسِر فيها الفيل، وهذه هي الموقعة الثانية التي يرسل فيها الفرس فيلاً مع الجيش، وكان على رأس الجيش الفارسي قائد يُسمَّى هرمز جاذويه. وأرسل شهر براز رسالة إلى المثنى بن حارثة يريد أن يَفُتَّ في عَضُدِه، مستخدماً سلاح الحرب النفسية الذي يستخدمه المسلمون معهم، ويقول له: إنما أرسل لك جيشاً من وخش أهل فارس (أي من رعاعهم)، إنما هم رعاة الخنازير والدجاج. أي أنه غير مهتم بأمره.
وعندما وصلت الرسالة إلى المثنى ردّ عليه برسالة فيها: "من المثنى بن حارثة إلى شهر براز كسرى فارس، الرأي عندي أنك إما باغٍ وأشد الناس عقاباً عند الله البغاة، وإما كاذب (في قوله أنه أرسل رعاة الدواجن والخنازير)، وشر الناس كذباً عند الله وعند الناس الملوك، والرأي عندي أنه إن كانت تلك الحقيقة فإنما اضْطُرِرْتم إليه (أي من كثرة الهزائم اضطررتم إلى أن يكون جيشكم من هؤلاء)، فالحمد لله الذي ردَّ كيدكم إلى رعاة الخنازير والدجاج". فلما تلقى شهر براز الرسالة حدث عكس ما كان يريد، حيث انهزم الفرس نفسيّاً، وبدءوا يقولون لشهر براز: جرّأْت علينا عَدُوَّنا، إذا كتبت بعد ذلك فاسْتَشِرْ.
موقعة (بابل)
وبدأ الجيش الفارسي يتحرك من المدائن في اتجاه المثنى بن حارثة، وقد استفاد المثنى بن حارثة من فترة وجود خالد بن الوليد وتعلَّم منه كثيراً، فلم ينتظر في الحيرة حتى يأتيه جيش (هرمز جاذويه)، ولكنه أسرع ليقابله في بابل، وهي منطقة قريبة جدّاً من المدائن. وكان تحرّك المثنى إلى بابل له مغزى آخر، فقد كانت هذه المنطقة تُسمى بانِقيا وباروسما، وكانت قد صالحت المسلمين على دفع مليوني درهم في كل سنة، على أن يوفر المسلمون لهم الحماية ممن يعتدي عليهم سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، فكان لا بُدَّ للمثنى بن حارثة أن يقاتل في هذا المكان حتى يحمي هذه المنطقة التي تدفع الجزية للمسلمين.
وقد وصل المثنى بن حارثة بجيشه إلى هذه المنطقة قبل أن يصلها هرمز جاذويه، وانتظر الجيش الفارسي حتى جاء وفي مقدمته الفيل.
وكانت الحرب في هذه المعركة سجالاً، فقد كان الجيشان متقاربين في القوة؛ تسعة آلاف من المسلمين وعشرة آلاف من الفرس، ومع ذلك كان الجيش الفارسي - في البداية - له بعض الغلبة على الجيش المسلم بسبب وجود الفيل الذي كان يتقدم داخل صفوف المسلمين؛ فيحدث نوعاً من الارتباك، ولا أحد يستطيع أن يقف أمامه أو يتعامل معه، وعندما رأى المثنى بن حارثة ذلك انتدب من المسلمين فرقة للتطوع لقتل هذا الفيل، وخرجت معه فرقة من عظماء المسلمين وتقدّموا ناحية الفيل، ومن خلف ظهره قطعوا الأحزمة التي يجلس عليها من يقود الفيل، فوقع قائد الفيل وقُتِل، وكان المثنى قد سأل عن مقتل الفيل فقالوا: يُقْتَلُ من خرطومه. فقتلوه، وبعد مقتل الفيل بدأت الجيوش الفارسية تتقهقر وتُهزَم، وانتصر المسلمون في موقعة بابل التي كانت في ربيع الأول سنة 13هـ، وذلك بعد أقل من 25 يوماً من غياب خالد بن الوليد، فكان ذلك اطمئناناً لنفوس الجند أن النصر يأتي من عند الله، وليس من عند أشخاص بعينهم، ومتى رضي الله تعالى عن فرقة، فسوف يتم لها النصر، حتى وإن غاب عنها خالد بن الوليد.
وقد استفاد المثنى من خالد بن الوليد كثيراً، فأرسل في إثر الجيش المنهزم - بعدما فرَّ منهم الكثير - بعض الفرق التي تطارد الفارِّين، ووصلت هذه الفرق حتى مشارف المدائن؛ وذلك يحول بين تجمع الجيش وهجومه مرة أخرى على المسلمين، فالمسافة بين بابل والمدائن تقرب من 72 كم، ومن المدائن إلى الحيرة حوالي 150 كم، فتكون بابل أقرب إلى المدائن من الحيرة.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/12/41.jpg
فوضى في فارس
حفل الوضع في فارس في هذه الفترة بالفتن العظيمة والقلاقل؛ فقد قُتِلَ (شهر براز) ولم يمكث على كرسي الحكم إلا أربعين يوماً فقط، حيث قتله الحرس الخاص به، وتحيَّر الفرس في اختيار كسرى جديد، فلا بُدَّ أن يكون الحاكم من العائلة المالكة (آل ساسان)، حتى وإن كان صغيراً، وإن لم يوجد فامرأة، وقد تولَّى الحكم بشكل مؤقت بعد شهر براز امرأة تُسمَّى (آذرمدخت)، وكانت ابنة لأحد الأكاسرة السابقين، وقد تولَّت الحكم لفترة قصيرة، ثم عثروا على رجل يُسمَّى (سابور)، وكان ابناً لأحد الأكاسرة السابقين، ولكنه من جارية فتولَّى الحكم بعد هذه المرأة، وكانت الأمهات يخبئن أبناءهنَّ لكي لا يكونوا من الأكاسرة؛ وذلك لكثرة الفتن، فقد رأيْنَ قتل أكثر من ثلاثة من الأكاسرة في فترة قصيرة، وعندما عثروا على هذا الشاب تم تعيينه على رأس البلاط الفارسي فصار كسرى، ولكن لصغر سنه تم تعيين أحد الولاة عليه حتى يستوعب أمور الحكم جيداً.
وطلب سابور من وليه أن يزوجه من آذرمدخت، ولكنها قالت: كيف أتزوج من ابن جارية، حتى وإن كان كسرى فارس؟، ولما أصر الولي وسابور على رأيهما دبَّرت لهما مكيدة وقتلتهما، وتولَّت هي الحكم.
وكان الولي الذي قُتِل يُسمَّى (فخَّاذ)، فلما علم ابنه بالأمر وكان اسمه (رستم)، وقد كان في خراسان وهي منطقة بعيدة عن المدائن، انطلق بجيشه نحو المدائن وأحدث انقلاباً عظيماً؛ حيث قتل آذرمدخت وحرسها وكل جيشها، ولما لم يكن من حقِّه أن يتولَّى الحكم؛ لأنه ليس من العائلة المالكة، فقد ساعد على تولِّي بوران بنت كسرى الحكم، وكانت امرأةً ذات حكمة، ويرجعون إليها في الأمور الصعبة، فتولَّت الحكم وقالت لرستم: أنت على رأس الجيش من الآن.
وكانت المخابرات الإسلامية تنقل هذه الأخبار بدقة إلى المثنى بن حارثة، فقد علم بمقتل الأكاسرة واحداً بعد الآخر، وعلم أيضاً بتولّي بوران بنت كسرى الحكم، وأنها ولَّت رستم - القائد الفارسي المعروف جيداً - قيادة الجيش الفارسي، وقد علم المثنى أن قوة المسلمين الموجودة معه لن تستطيع أن تقف أمام قوة الفرس، وجيوشهم الجرارة بعد أن تولَّى رستم قيادة الجيش.
كانت حدود الفرس في تلك الآونة تمتد حتى الصين، وكانت المدائن العاصمة، وكانت الصين تدفع الجزية للفرس اتقاءً لشرهم.
وفاة الخليفة الصديق
وقرر المثنى بن حارثة أن يترك العراق ويذهب هو بنفسه إلى أبي بكر الصديق ليُطلِعه على الموقف؛ حتى يمدَّه ببعض المدد، ويعرض عليه أيضاً أن يستعين بمن قد ارتدوا ورجعوا إلى الإسلام، وكانوا - إلى هذا الوقت - لم يشاركوا مع الجيوش الإسلامية بأمر أبي بكر.
وبالفعل ترك المثنى جيشه بعد أن عيَّن عليه بشير بن الخصاصية، وكان أحد صحابة النبي، وكان خالد بن الوليد يريد أن يأخذه معه إلى الشام، ولكنَّ المثنَّى أَصَرَّ على أن يُبْقِيَ له خالد بعض أصحاب النبي، وكان هذا الرجل ممن بقوا معه.
واتجه المثنى بن حارثة إلى المدينة لمقابلة أبي بكر الصديق، وعندما وصل المثنى إلى المدينة وجد أبا بكر في مرض موته، وكان في غيبوبة تامة، ومكث المثنى فترة حتى صحا أبو بكر صحوة قابله فيها، وعرض عليه موقف جيشه وما يريده، فأرسل أبو بكر إلى عمر بن الخطاب وقال: عَلَيَّ بعمر.
ثم قال له: اسمع يا عمر ما أقول لك ثم اعمل به، إني لأرجو أن أموت من يومي هذا (وكان يوم 21 من جمادى الآخرة سنة 13هـ)، فإن أنا مِتُّ فلا تُمسِينَّ حتى تندب الناس مع المثنى، وإن تأخرت إلى الليل فلا تُصبِحَنَّ حتى تندب الناس مع المثنى، ولا تَشغلنَّكم مصيبة - وإن عَظُمَتْ - عن أمر دينكم ووصية ربكم، وقد رأيتَني مُتَوفَّى رسول الله وما صنعتُ ولم يُصَبِ الخلق بمثله، وبالله لو أنِّي أَنِي (أي أتباطأ) عن أمر الله وأمر رسوله، لخذلنا ولعاقبنا فاضطرمت المدينة ناراً، وإن فتح الله على أمراء الشام فاردد أصحاب خالد إلى العراق، فهم أهله وولاة أمره وحدّه، وأهل الضراوة بهم والجرأة عليهم.
فكانت هذه هي وصية أبي بكر في اللحظات الأخيرة قبل موته، ونلاحظ فيها حرصه الشديد على استمرارية الجهاد في سبيل الله، مهما عظمت المصائب وكثرت الخطوب.
وفي الوصية الأخيرة شيئٌ مهمٌّ في قول الصديق: "وإن فتح الله على أمراء الشام، فاردد أصحاب خالد إلى العراق". لم يقل: فاردد خالداً إلى العراق؛ لأنه يعلم أن الأمور السياسية تحتاج إلى توافق بين القائد العام والجند الذين تحت إمرته، وكان أبو بكر يعلم عدم وجود هذا التوافق بين عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد رضي الله عنهما.
وتُوُفِّيَ أبو بكر الصديق في هذه الليلة، وكان في فترة خلافته القصيرة قد قام بحروب الردة، وأَنفذَ بعث أسامة بن زيد إلى الروم، وقام بالفتوحات الإسلامية في فارس والروم، وجمع القرآن الكريم، وثبَّت دعائم الأمة الإسلامية في ذلك الوقت، فرضي الله عنه وأرضاه.
بعد أن تولَّى عمر بن الخطاب إمارة المسلمين بعد موت أبي بكر ذهب فدفنه بعد العشاء بجوار رسول الله، ثم نادى في منتصف الليل: "الصلاةُ جامعة"، فَجَمَعَ أهلَ المدينة وندب الناس للخروج مع المثنى.
ولم يستجب أحد لنداء عمر بن الخطاب، وكان هذا شيئاً عجيباً وغريباً على أهل المدينة ألا يستجيبوا لنداء الجهاد في سبيل الله، ولم يكن عمر بن الخطاب متوقعاً لهذا الأمر على الإطلاق، فانتظر حتى صلاة الفجر وأَمَّ الناس في صلاة الفجر، وبايعه الناس على الإمارة، وأصبح هو أمير المؤمنين بعد هذه المبايعة من الناس، فندب الناس للقيام بفتح فارس، ولم يستجب أحدٌ أيضاً، وظل يدعو الناس بعد كل صلاة مدة ثلاثة أيَّام، ولم يستجب لندائه أحد.
ويفسَّر هذا الموقف من المسلمين في عدة أمور:
أولاً: لم يكن موجودٌ بالمدينة خمسين ألفًاً من خيرة أهلها، فقد خرج ثلاثون ألفًاً لحرب الروم، وعشرون ألفًاً لحرب العراق، ومن كان موجوداً أقل درجة ممن ذهب للجهاد، خاصة أن من خرج إنما خرج تطوعاً ولم يخرج مجبراً، فعندما أرسل أبو بكر خالد بن الوليد قال له: "ولا تكره أحداً على القتال معك"؛ ولأجل هذا فقد تركه بعض الناس قبل أن يصل إلى العراق.
ثانياً: ربما لم يستجب الناس حزناً لوفاة الصدّيق، فقد كانت المصيبة عظيمة، وكان عمر يبكي عليه ويقول: يا خليفة رسول الله، لقد أتعبت من خلفك، والله لا يشق أحد غبارك. ويبكي علي بن أبي طالب أيضاً كثيراً على وفاة أبي بكر، وتنوح النساء بصوت مرتفع في المدينة، وقد أمرهن عمر بألا ينحن فلم ينتهين، حتى قال لهن: إن الميت يُعَذَّبُ ببكاء أهله عليه؛ فعندها كَفَّ النساء عن النواح.
ثالثاً: كان تولِّي عمر بن الخطاب - مع شدته - قد أدخل المسلمين في حالة ترقب وخوف، ولم يعرف المسلمون ما سيفعل، حتى إن طلحة بن عبيد الله دخل على أبي بكر الصديق وقال له: يا خليفة رسول الله، استخلفت عمر على المؤمنين وأنت ملاقٍ ربك، وأنت تعلم ما به من الشدة وأنت معه، فكيف إذا خلَّيْتَ بينه وبينهم؟.
وكان أبو بكر مضطجعاً، فقال: أجلسوني. فأجلسوه، فيمسك بطلحة ويقول له: أباللهِ تخوفني، واللهِ إن سألني ربي عن عمر لقلت له: استخلفتُ خير أهلك على أهلك.
فهذه الأمور جعلت الناس تتردد في أمر الخروج مع المثنى بن حارثة.. وكلما ندب عمر بن الخطاب الناس لم يقمْ أحد، فقام المثنى بن حارثة في اليوم الرابع وخطب خطبة عظيمة في أهل المدينة وما حولها - حيث جاء الناس لمبايعة عمر بن الخطاب على الإمارة - وقال لهم: يا أهل الإسلام مما تخافون؟ لقد ملَّكنا الله رقاب أهل فارس، والله لقد تبحبحنا في ريفهم، وجرَّأنا الله عليهم، وكانت لنا الغلبة عليهم.
ومع هذا لم يقم أحد؛ فقام عمر بن الخطاب وقال: أين المهاجرون لموعود الله؟ لقد وعدكم الله أن يورثكم الأرض، فأين المهاجرون إلى ميراث الأرض؟، أين عباد الله الصالحون؟، وبكى عمر، فصاح رجل من المسلمين: أنا لها.
رجلٌ واحد بعد كل هذه الصيحات المؤمنة من عمر، كان هذا الرجل هو أبو عبيد بن مسعود الثقفي، من قبيلة ثقيف.. وبعد أن قام هذا الرجل قام رجل آخر يُسمَّى سعد بن عبيد، وقال: أنا لها يا عمر. وكان من الأنصار ومن صحابة رسول الله، ثم قام رجل ثالث وهو سليط بن قيس وهو من الصحابة القدامى من صحابة رسول الله، وشهد كل المشاهد مع رسول الله.
وانتظر المسلمون مدة دون أن يقوم أحد غير هؤلاء الثلاثة، ثم تحركت النفوس وأوقع الله الإيمان في القلوب؛ فقام من المسلمين الكثير حتى وصل تعدادهم إلى الألف، منهم ثلاثمائة من قبيلة ثقيف، والباقي من أهل المدينة ممن شهدوا بدراً، وشهدوا المشاهد مع رسول الله.
أبو عبيدالثقفي أمير الجيش
بعدما قام هؤلاء الألف كانت هناك مشكلة جديدة أمام عمر بن الخطاب، وهي اختيار القائد لهؤلاء الألف من الجنود، ويشير عليه الصحابة بأن يختار رجلاً ممن له صحبة من السابقين، فقال: لا والله، أندبهم للقاء فلا يخرجون، وعندما تأتي الإمرة أضعهم. ووضع أبا عبيد بن مسعود على رأس الجيش.
وأرسل إلى أبي عبيد بن مسعود الثقفي وقال له: والله إني وضعتك في هذا المكان لسبقِكَ، ولو سبقك سليط بن قيس أو سعد بن عبيد لجعلتهما الأمراء؛ فاستمع لرأيهما، ولا تتصرف في أي أمر من الأمور إلا بعد أن تستشير أصحاب رسول الله.. ثم يقول له: ولا تُفشِينَّ سرًّاً، فإنك مالكٌ أمرك ما دام سرُّك في داخلك. فكانت هذه هي وصية عمر بن الخطاب لأبي عبيد بن مسعود الثقفي.
وجعل المثنى بن حارثة تابعاً لأبي عبيد بن مسعود الثقفي، وهذا الأمر لم يؤثر مطلقاً في تحركات المثنى للإسلام وفي سبيل الله، فقد كان رجلاً مؤمنًاً حقًّاً، واستجاب لرأي عمر، وذهب إليه عمر وقال له: اذهب إلى أهلك وانتظر النجدة.
وانطلق المثنى سريعاً نحو الجيش الإسلامي في فارس، انتظاراً للجيش الذي سيأتي بقيادة أبي عبيد بن مسعود الثقفي من المدينة، ووصل المثنى مبكراً للجيش، وعندما وصل علم أن بوران بنت كسرى تجهِّز الجيوش لحرب المسلمين، وقد تولَّى رستم إمارة جميع الجيوش الفارسية، وبدأ المثنى يرتِّب القوات استعداداً لقدوم أبي عبيد بن مسعود ومن معه مدداً له، وفي هذه الأثناء يعلم المثنى - بفضل المخابرات الإسلامية الموجودة في المنطقة - أن رستم قد أرسل مجموعة كبيرة من الأمراء إلى أماكن مختلفة على حدود الجيش الإسلامي الموجود في فارس.
وكانت هذه المنطقة على صلح مع المسلمين على أن يدفعوا الجزية، وقال لهم رستم: إن على كل أمير أن يثور في المنطقة التي هو فيها، وأول مَن يقوم بالثورة سيكون هو الأمير على جميع الأمراء؛ وذلك تشجيعاً لهم على الثورة.
وكان ممن جهَّزهم لذلك جابان قائد الفرس في موقعة (أُلَّيْس) التي انهزم فيها الفرس، وفرَّ هو من المسلمين، فقام المثنى - وبحكمة شديدة - بالانسحاب بجيشه من هذه المنطقة كلها إلى ما بعد الحيرة منتظراً جيش أبي عبيد بن مسعود الثقفي، ولو ظل في مكانه الأول لحاصرته الجيوش، وربما تكون الهلكة لجيش المسلمين الصغير الموجود معه.
موقعة (النمارق)
يصل جيش عبيد بن مسعود الثقفي إلى منطقة تُسمى خِفَّان في 3 من شعبان سنة 13هـ، ونلاحظ أن أبا بكر تُوفِّي في جمادى الآخرة، ثم مرَّ شهر رجب ووصل الجيش في 3 من شعبان وهي فترة طويلة، فلم تكن جيوش خالد بن الوليد تقطع هذه المسافات في هذا الوقت الطويل، ووضع المثنى نفسه تحت إمرة أبي عبيد بن مسعود الثقفي، وبدأ أبو عبيد بن مسعود ينظم الجيوش لحرب الفرس، فكانت موقعة النمارق وأتت الجيوش الفارسية بقيادة جابان وهو أول من ثار في المنطقة وتوجه بجيشه مرة أخرى لمقابلة المسلمين بعد أن هُزم في موقعة أُلَّيْس، واتجه إليه أبو عبيد بن مسعود، والتقى الجيشان في موقعة شديدة وهي أول موقعة لأبي عبيد بن مسعود في منطقة العراق، وكانت في 7 من شعبان سنة 13هـ، وأبلى الجيش الإسلامي وقائدُه أبو عبيد بلاءً حسناً في هذه الموقعة، وتم النصر للمسلمين، وأُسِرَ جابان، ولكنه مكر بأحد المسلمين وخدعه بأنه سيعطيه كذا وكذا إذا أطلقه، ولم يكن يعرف هذا الرجل أن هذا هو (جابان) أمير فارس في الجيش فأمَّنه، وعندما علم أبو عبيد أن هذا الرجل هو جابان قال: لا نخون عهداً أعطاه أحدُ المسلمين. فأطلق سراحه وكان في يده أن يقتله.
موقعة (الجسر)
بعد أن انتصر المسلمون في معركة النمارق، انتصروا أيضاً في موقعة السقاطية على (نورسي)، وبعدها بخمسة أيام تقدم أبو عبيد إلى (باقسياثا) بالقرب من بابل وانتصر على الجيوش الفارسية بقيادة الجالينوس وهو من كبار قادة الفرس.
تعجب رستم كثيراً وأصابته الحيرة والدهشة مما يحدث، إذ كيف ينتصر هؤلاء بعد غياب خالد بن الوليد ومعه نصف الجيش؟. ينتصرون على الفرس في ثلاث مواقع متتالية في تسعة أيام؛ فقال رستم: مَنْ أشدُّ الفُرْسِ على العرب؟.
فقالوا له: بهمن جاذويه. وكان أحد كبار قادة الفرس، ولم يشترك في الحروب مع المسلمين حتى هذه اللحظة.
فقال رستم: إذن فهو القائد.
وبذلك أعطى رستم إمرة الجيوش الفارسية لبهمن جاذويه وأخرجه مع جيش كبير يزيد على سبعين ألف فارسي، وأرسل مع هذا الجيش أكثر من عشرة أفيال.
توجّه الجيش الفارسي بهذه الجموع الجرارة لقتال المسلمين، وعلم أبو عبيد بذلك فتوجه بجيشه إلى منطقة في شمال الحيرة تسمى قِسّ النَّاطِف، وعسكر بجيشه في هذه المنطقة انتظاراً لقدوم جيش الفرس. وقَدِمَ الفُرسُ، ووقفوا على الجانب الآخر من نهر الفرات، فالمسلمون على الناحية الغربية، والفرس على الناحية الشرقية بقيادة بهمن جاذويه، وكان بين الشاطئين جسرٌ عائم أقامه الفرس في هذه الآونة للحرب - وكان الفرس مهرة في بناء هذه الجسور - وأرسل بهمن جاذويه رسولاً إلى الجيش الإسلامي يقول له: إما أن نعبر إليكم، وإما أن تعبروا إلينا.
أخطاءأبي عبيد
كان عمر بن الخطاب قد نصح أبا عبيد قبل أن يخرج إلى القتال قائلاً: لا تُفشِينَّ لك سرًّا؛ لأنك مالكٌ أمرك حتى يخرج سِرُّك من بين جنبيك، ولا تحدِثَنَّ أمراً حتى تستشير أصحاب رسول الله.
وأوصاه خاصة بسعد بن عبيد الأنصاري وسليط بن قيس من الصحابة الكرام جميعاً، وأخطأ أبو عبيد الخطأ الأول فأخذ يناقش أصحابه ويشاورهم أمام رسول الفرس، وهذا إفشاء للسر، ولأمور التنظيم الحربي، وأخذته الحميَّة عندما وصلته الرسالة، وقال: والله لا أتركهم يعبرون ويقولون: إنا جَبُنَّا عن لقائهم. واجتمع الصحابة على عدم العبور إليهم: وقالوا له: كيف تعبر إليهم وتقطع على نفسك خط الرجعة، فيكون الفرات من خلفك؟، وقد كان المسلمون وأهل الجزيرة العربية يجيدون الحرب في الصحراء، ودائماً كان المسلمون يجعلون لأنفسهم خط رجعة في الصحراء، وإذا حدثت هزيمة يستطيع الجيش أن يرجع إلى الصحراء ولا يهلك بكامله، ولكن أبا عبيد أصرَّ على رأيه بالعبور، وذكّره أصحابه بقول عمر بن الخطاب: أنِ اسْتشر أصحاب رسول الله؛ فقال: والله لا نكون عندهم جبناء. وهذا كله يحدث أمام رسول الفرس، الذي استغل الفرصة ليثير حميَّة أبي عبيد، فقال: إنهم يقولون إنكم جبناء ولن تعبروا لنا أبداً. فقال أبو عبيد: إذن نعبر إليهم. وسمع الجنود وأطاعوا وبدأ الجيش الإسلامي يعبر هذا الجسر الضيِّق للوصول للناحية الأخرى التي يوجد بها الجيش الفارسي.
ونلاحظ في هذا الموقف أن الجيش الإسلامي يدخل في منطقة محصورة بين نهر يُسمى النيل - وهو نهر صغير وأحد روافد نهر الفرات - ونهر الفرات، وكلا النهرين يمتلئ بالمياه، والجيش الفارسي يغلق باقي المنطقة، فلو دخل المسلمون هذا المكان فليس أمامهم إلا القتال مع الجيش الفارسي، والفرس يدركون أهمية هذا الموقع جيداً، فأخلوا مكاناً ضيقاً ليعبر المسلمون إليهم، ويتكدس الجيش الإسلامي في منطقة صغيرة جدّاً، ويرى المثنى بن حارثة ذلك ويعيد النصيحة لأبي عبيد قائلاً له: إنما تلقي بنا إلى الهَلَكَة، ويصرُّ أبو عبيد على رأيه.
وعبر الجيش الإسلامي بالفعل إلى هذه المنطقة، وكان مع الفُرْسِ كما ذكرنا عشرة أفيال منها الفيل الأبيض، وهو أشهر وأعظم أفيال فارس في الحرب، وتتبعه كل الفيلة إن أقدم أقدموا وإن أحجم أحجموا، وتقدمت الجيوش الفارسية يتقدمها الفيلة إلى الجيش الإسلامي المحصور بين نهري الفرات ورافده نهر النيل، وتراجعت القوات الإسلامية تدريجيًّاً أمام الأفيال، ولكن خلفهم نهرين فاضطروا للوقوف انتظاراً لهجوم الفيلة وقتالها، وكانت شجاعة المسلمين وقوتهم فائقة ودخلوا في القتال، ولكن الخيول بمجرد أن رأت الأفيال فزعت وهربت، وكانت سبباً في إعاقة إقدام المسلمين على القتال، وعادت الخيول إلى الوراء وداهمت مشاة المسلمين، ولم تفلح محاولات المسلمين لإجبار الخيول على الإقدام لعدم تمرُّسها على مواجهة الأفيال، وفي هذه اللحظة - وبعد أن أخطأ أبو عبيد في إفشاء السر أمام رسول الفرس، وأخطأ في العبور مخالفاً مشورة أصحاب رسول الله، وأخطأ باختياره هذا المكان للمعركة - كان لا بد عليه أن ينسحب بجيشه سريعاً من أرض المعركة، كما فعل خالد بن الوليد في معركة المذار عندما علم أنه سيكون محاطًا بجيش من الجنوب، انسحب سريعاً بجيشه حتى يقابل جيش الأندرزغر في الولجة.
لكن أبا عبيد استقتل وقال: لأقاتلنَّ حتى النهاية. وإن كانت هذه شجاعة فائقة منه، فإن الحروب كما تقوم على الشجاعة لا بد أن يكون هناك حكمة في التعامل مع الحدث.
وبدأت أفيال الفرس تهاجم المسلمين بضراوة، وأمر أبو عبيد أن يتخلَّى المسلمون عن الخيول ويحاربوا الفرس جميعاً وهم مشاة، وفقد المسلمون بذلك سلاح الخيول وأصبحوا جميعاً مشاة أمام قوات فارسية مجهزة بالخيول والأفيال، واشتد وَطِيسُ الحرب ولم يتوانَ المسلمون عن القتال، وتقدم أبو عبيد بن مسعود الثقفي وقال: دُلُّوني على مقتل الفيل. كما قال من قبل المثنى بن حارثة، فقيل له: يُقتَلُ من خرطومه، فتقدم ناحية الفيل الأبيض بمفرده، فقالوا له: يا أبا عبيد، إنما تلقي بنفسك إلى التهلكة وأنت الأمير، فقال: والله لا أتركه إما يقتلني وإما أقتله. وتوجه ناحية الفيل وقطع أحزمته التي يُحمل فوقها قائدُ الفيل، ووقع قائد الفيل وقتله أبو عبيد بن مسعود، ولكن الفيل لا يزال حيًّاً، وهو مُدَرَّب تدريباً جيداً على القتال، وأخذ أبو عبيد يقاتل هذا الفيل العظيم ويقف الفيل على قدميه الخلفيتين ويرفع قدميه الأماميتين في وجه أبي عبيد، ولكنَّ أبا عبيد لم يتوانَ عن محاربته ومحاولة قتله، وعندما شَعَر بصعوبة الأمر أوصى من حوله: إن أنا مِتُّ، فإمرة الجيش لفلان ثم لفلان ثم لفلان؛ ويعدد أسماء من يخلفونه في قيادة الجيش. وهذا أيضاً من أخطاء أبي عبيد؛ لأن أمير الجيش يجب أن يحافظ على نفسه، ليس حبًّاً في الحياة ولكن حرصاً على جيشه وجنده في تلك الظروف، وليس الأمر شجاعة فحسب، ولأنه بمقتل الأمير تنهار معنويات الجيش، وتختل الكثير من موازينه. ومن الأخطاء أيضاً أن أبا عبيد أوصى بإمرة الجيش بعده لسبعة من ثقيف منهم ابنه وأخوه والثامن المثنى بن حارثة، وكان الأَوْلى أن يكون الأمير بعده مباشرة المثنى أو سليط بن قيس، كما أوصاه عمر بن الخطاب.
المثنى يستعيد القيادة
ويواصل أبو عبيد قتاله مع الفيل ويحاول قطع خرطومه، لكن الفيل يعاجله بضربة فيقع على الأرض، ويهجم عليه الفيل ويدوسه بأقدامه الأماميتين فيمزِّقهُ أشلاءً، وكان موقفًا صعباً على المسلمين حينما يرون قائدهم يُقتَل هذه القتلة البشعة.
ويتولى إمرة الجيش بعده مباشرة أول السبعة ويحمل على الفرس ويستقتل ويقتل، وكذا الثاني والثالث وهكذا، وقد قتل في هذه المعركة ثلاثة من أبناء أبي عبيد بن مسعود الثقفي كان أحدهم أميراً على الجيش، وقُتِل كذلك أخوه الحكم بن مسعود الثقفي وكان أحد الأمراء على الجيش بعد استشهاد أبي عبيد، وتأتي الإمرة للمثنى بن حارثة والأمر في غاية الصعوبة، والفرس في شدة هجومهم على المسلمين، ويصف الأَغَرُّ العجْلِيُّ - وهو أحد صحابة النبي الذين حضروا الموقعة - فيقول: وَخَزَقَ الفرسُ المسلمين بالنشاب (الرماح)، وعضَّ المسلمين الألَمُ.
وفي هذه اللحظة يبدأ بعض المسلمين في الفرار عن طريق الجسر إلى الناحية الأخرى من الفرات، وهذه أول مرة في فتوح فارس يفِرُّ فيها بعض المسلمين من القتال، وهذا الفرار في هذا الموقف له دليل شرعي ولا يُعَدُّ فراراً من الزحف، وقد قيل: إن الفرار من المثلين جائز، فما بالنا وجيش الفرس ستة أو سبعة أمثال جيش المسلمين. ولكن يُخطِئ أحد المسلمين خطأً جسيماً آخر، فيذهب عبد الله بن مرثد الثقفي ويقطع الجسر بسيفه، ويقول: والله لا يفِرُّ المسلمون من المعركة؛ فقاتلوا حتى تموتوا على ما مات عليه أميركم.
ويُسقَطُ في أيدي المسلمين، ويستأنف الفُرْسُ القتال مع المسلمين، ويزداد الموقف صعوبة، ويُؤتَى بالرجل الذي قطع الجسر إلى قائد الجيش المثنى بن حارثة، فيضربه المثنى، ويقول له: ماذا فعلت بالمسلمين؟، فقال: إني أردت ألا يفرَّ أحد من المعركة. فقال: إن هذا ليس بفرار.
انسحابمنظم
وبدأ المثنى - وفي هدوء يُحسب له - يقود حركة الجيش المسلم المتبقي بعد الهجمات الفارسية القاسية والشديدة، ويقول لجيشه محمِّساً لهم: يا عباد الله، إما النصر وإما الجنة.
ثم نادى على المسلمين في الناحية الأخرى أن يصلحوا الجسر ما استطاعوا، وكان مع المسلمين بعض الفرس الذين كانوا قد أسلموا وكانوا ذوي قدرة على إصلاح الجسور، فبدءوا يصلحون الجسر من جديد، وبدأ المثنى يقود إحدى العمليات الصعبة، وهي عملية انسحاب في هذا المكان الضيِّق أمام القوات الفارسية العنيفة، فأرسل إلى أشجع المسلمين واستنفرهم ولم يستكرههم، وقال: يقف أشجع المسلمين على الجسر لحمايته. فتقدَّم لحماية الجسر عاصم بن عمرو التميمي وزيد الخيل وقيس بن سليط صحابي رسول الله والمثنى بن حارثة على رأسهم، ووقف كل هؤلاء ليقوموا بحماية الجيش أثناء العبور، ويحموا الجسر لئلا يقطعه أحد من الفرس، ويقول المثنى بن حارثة للجيش: "اعبروا على هيِّنَتِكم ولا تفزعوا؛ فإنا نقف من دونكم، والله لا نزايل (لا نترك هذا المكان) حتى يعبر آخرُكم".
ويبدأ المسلمون في الانسحاب واحداً تلوَ الآخر ويقاتلون حتى آخر لحظة، وتكسو الدماء كل شيء وتكثر جثث المسلمين ما بين قتيل وغريق في النهرين، ويكون آخر شهداء المسلمين على الجسر هو سويد بن قيس أحد صحابة النبي، وآخر من عبر الجسر هو المثنى بن حارثة، فقد ظل يقاتل حتى اللحظة الأخيرة ويرجع بظهره والفرس من أمامه، وبمجرد عبوره الجسر قطعه على الفُرسِ، ولم يستطع الفرس العبور إلى المسلمين، وعاد المسلمون أدراجهم ووصلوا إلى الشاطئ الغربي من نهر الفرات قبل غروب الشمس بقليل.
ولم يكن الفرس يقاتلون بالليل؛ لذا تركوا المسلمين، وكانت فرصة للجيش الإسلامي لكي ينجو منسحباً إلى عمق الصحراء؛ لأنه لو ظل في مكانه لعبر إليه الجيش الفارسي في الصباح وقضى على من تبقى منه.
في هذا الوقت كان قد فَرَّ من المسلمين ألفانِ، ومنهم من قد وصل في فراره إلى المدينة، واستُشهِد من المسلمين في هذه الموقعة أربعة آلاف شهيد، وكان قد اشترك فيها ثمانية آلاف، قُتِلَ منهم أربعة آلاف ما بين شهيد في القتال وغريق في النهر، ومن هؤلاء الآلاف الأربعة غَالِبُ أهل ثقيف، والكثير ممن شهد بدراً وأُحُداً والمشاهد مع رسول الله، وكان الأمر شديداً على المسلمين، ولولا فضل الله تعالى، ثم تولية المثنى بن حارثة الأمر ما كان لمن نجا أن ينجو من هذه المصيدة المحكمة التي أعدها الفرس للمسلمين.
وكان المثنى كفاءة حربية منقطعة النظير، وهذه هي قيمة القيادة الصائبة، فقد كان أبو عبيد بن مسعود تملؤه الشجاعة والإيمان والإقدام، وقد كان أول من استُنفِرَ فخرج للجهاد وفي وجود الكثير من الصحابة، نفر قبلهم وأُمِّرَ على الجيش، ودخل الحروب في منتهى الشجاعة ولم تأخذه في الله لومةُ لائمٍ، وتقدم لمهاجمة الفيل وهو يعلم أنه سيُقتَل فيوصي بالإمرة لمن بعده، ولم يتوانَ عن القتال.
ومع هذا فإمارة الجيوش ليست شجاعة وإيمان فقط، وإنما لا بد من المهارة العالية والكفاءة الحربية، حتى قال بعض الفقهاء: إذا وُجِدَ قائدان أحدهما من الإيمان بمكان ولكنه لا يدرك قيمة القيادة والإمارة، والآخر يصل إلى درجة الفسوق لكنه مسلم، ويستطيع قيادة الحروب بمهارة، فلا بأس أن يَلِيَ هذا الفاسقُ قيادة الجيش في الحروب؛ لأنه يستطيع أن ينجو بجيش المسلمين كله، والآخر ربما يؤدي بالجيش إلى الهلكة مع إيمانه وشجاعته.
كانت موقعة الجسر في 23 من شعبان 13هـ، وكان أبو عبيد قد وصل إلى العراق في 3 من شعبان، وكانت أولى حروبه النمارق في 8 من شعبان، ثم السقاطية في 12 من شعبان، ثم باقسياثا في 17 من شعبان، ثم هذه الموقعة في 23 من شعبان، فخلال عشرين يوماً من وصول أبي عبيد بجيشه انتصر المسلمون في ثلاث معارك، وهُزموا في معركة واحدة قضت على نصف الجيش، ومن بقي فرَّ، ولم يبق مع المثنى غير ألفين من المقاتلين.
وأرسل المثنى بالخبر إلى المدينة مع عبد الله بن زيد، وعندما وصل إلى المدينة كان عمر بن الخطاب على المنبر فَيُسِرّ إليه بالأمر نظراً لصعوبته على المسلمين، فيبكي عمر على المنبر، وكان لا بد أن يعلم المسلمون حتى يستنفر الناس للخروج مرة أخرى لمساعدة بقايا الجيش الموجودة في العراق، وبعد أن يبكي يقول: رَحِمَ الله أبا عبيد لو لم يستقتل وانسحب لكُنَّا له فئة، ولكن قدَّر الله وما شاء فعل.
وكان هذا الأمر يمثِّل للمسلمين الخزي والعار، ولم يتعودوا قبل ذلك على الفرار من أعدائهم، لكن عمر بن الخطاب يطمئنهم ويقول لهم: إنني لكم فئة، ولا يُعَدُّ هذا الأمر فراراً، وظل يحمسهم ويحفزهم، وكان معهم معاذ القارئ وكان أحد مَن فرُّوا، وكان يَؤُمُّ المسلمين في التراويح، فكان كلما قرأ آيات الفرار من الزحف يبكي وهو يصلي، فيطمئنه عمر، ويقول له: إنك لست من أهل هذه الآية.
يتبع
أحمد الشجاع
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/12/40.jpg
انطلقت الفتوحات الإسلامية - بعد وفاة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من أرضية إيمانية صلبة؛ فالمجتمع الإسلامي في الجزيرة العربية أصبح متماسكاً ومرتبطاً بدينه بعد أن تم القضاء على فتنة الردة.
وتأهب الصحابة لنشر نور الإسلام في أصقاع الأرض؛ يخرجون الناس من الظلمات إلى النور ومن الظلال إلى الهدى.
وقد حاول المستشرقون وأذنابهم وأعداء الإسلام، أن يجردوا الفتوحات الإسلامية من دوافعها الدعوية، وأهدافها الربانية، ومقاصدها السامية وألصقوا بحركة الفتوحات تهم باطلة لا تقوم أمام الدليل والبرهان والحجة.
ولهذا سيتحدث التقرير عن منهج الصحابة في بعض فتوحاتهم العظيمة التي جرت في العراق كنموذج يحتذى به ويسترشد بسيرته؛ فالصحابة خير من فقه دين الإسلام بعد رسول الله.. فهم القدوة الصالحة الخالصة لدين الله.
عتاب وإصلاح
لما أيقن خالد من انهزام العدو في العراق اشتاق إلى زيارة مكة، وإلى تأدية فريضة الحج متخفياً من غير أن يستأذن أبا بكر، فأمر جيشه بالعودة إلى الحيرة، وتظاهر بأنه سائر في مؤخرة الجيش فبدأ رحلته إلى مكة ومعه عدة من أصحابه لخمس بقين من ذي القعدة، ولم يكن معه دليل فاخترق الصحراء مسرعاً رغما عن صعوبة الطريق.
ولما أدى فريضة الحج عاد إلى الحيرة في أوائل فصل الربيع، فكانت غيبته على الجند يسيرة، فما وصلت إلى الحيرة مؤخرة الجيش حتى وافاهم خالد مع صاحب الساقة فقدما معاً وخالد وأصحابه محلقون.
وقد كان تكتمه شديداً حتى إنهم ظنوا أنه كان في هذه المدة بمنطقة الفراض، ولم يعلم أبو بكر بحج خالد مع أنه كان في الحج أيضاً، غير أنه بعد قليل بلغه الخبر فاستاء جداً، وعتب عليه، وكانت عقوبته أن صرفه إلى الشام ليمد جموع المسلمين باليرموك، فأرسل إليه كتاباً جاء فيه:
"سر حتى تأتي جموع المسلمين باليرموك فإنهم قد شجوا وأشجوا، وإياك أن تعود لمثل ما فعلت، فإنه لم يشج الجموع من الناس بعون الله شجاك، ولم ينزع الشجى من الناس نزعك، فليهنئك أبا سليمان النية والخطوة، فأتمم يتمم الله عليك، ولا يدخلنك عجب فتخسر وتخذل، وإياك أن تدل بعمل؛ فإن الله له المن وهو ولي الجزاء".
ويصف المؤلف هذا الخطاب من الخليفة الحكيم بأنه يصور مدى حرص الصديق على القواد الناجحين فيمدهم بالمشورة والنصائح التي تأخذ بيدهم إلى الفوز والتمكين بفضل الله:
أ - يأمر الصديق سيف الله خالداً أن يترك العراق ويتوجه إلى الشام لعل الله يفتح على يديه هذا الموقع.
ب - ينصحه ألا يعود في مثل ما حدث في حجه بدون إذن من الخليفة.
جـ - يأمره أن يسدد ويقارب ويجتهد مخلصاً النية لله وحده.
هـ - يحذره من العجب بالنفس والزهو والفخر؛ فذلك حظ النفس الذي يفسد العمل على العامل ويرده في وجهه، كما يحذره أن يدل ويمن على الله بالعمل الذي يعمله فإن الله هو المان به إذ التوفيق بيده سبحانه.
وجاء في خطاب الصديق إلى خالد: دع العراق، وأخلف فيه أهله الذي قدمت عليهم، ثم امضي مخففاً في أهل قوة من أصحابنا الذين قدموا معك العراق من اليمامة، وصحبوك في الطريق وقدموا عليك من الحجاز، ثم تأتي الشام، فتلقى أبا عبيدة بن الجراح ومن معه من المسلمين، وإذا التقيتم فأنت أمير الجماعة، والسلام عليك ورحمة الله.
وكان قد ظهرت في معارك العراق مقدرة الجيوش الإسلامية على تطبيق مبادئ الحرب من مباغتة وصد الهجوم وتثبيت الأعداء، وحشد القوة، وإدامة المعنويات، وجمع المعلومات ورسم الخطط وتنفيذها بكل قوة ودقة واحتياط منقطع النظير؛ فهو لم يذهب إلى الشام لمجاهدة الروم إلا بعد خبرة واسعة في فتوحات العراق.
وكان المرشح للبقاء على جيوش العراق بعد سفر خالد المثنى بن حارثة الشيباني لخبرته الواسعة بأرض العراق، ومهارته الفائقة في حرب الفرس. ويظهر للباحث أن الخطط التي وضعها خالد في حروب العراق كانت تعتمد على الله، ثم على جمع المعلومات الدقيقة التي تدل على نشاط مخابراته واستكشافاته في الميدان، والذي يبدو أن هذه المخابرات قد قام بتنظيمها القائد الفذ المثنى بن حارثة الشيباني؛ ليس فقط لألمعيته وقدرته الفائقة على التنظيم، وإنما لمعايشته للمنطقة، فهو ينتمي إلى بني شيبان من بكر بن وائل الذين كانت منازلهم بتخوم العراق وحوض الفرات التي تمتد شمالاً إلى (هيت) فكانوا بحكم مساكنهم واتصالاتهم، مؤهلين لأن يكونوا عيوناً (مخابرات).
فما وجدنا تحركاً لجيش من جيوش الفرس إلا وكان خبر ذلك التحرك منذ بدئه على لسان (المثنى) في الوقت المناسب، وما من شاردة ولا واردة تحدث في بلاط الفرس إلا وكان (المثنى) على علم بها في حينها.
وتهيأ خالد للسير إلى الشام، وقسم خالد الجند نصفين: نصفاً يسير به إلى الشام ونصفاً للمثنى، ولكنه جعل الصحابة جميعاً من نصيبه، فقال له المثنى: والله لا أقيم إلا على إنفاذ أمر أبي بكر كله في استصحاب نصف الصحابة، وإبقاء النصف، فو الله ما أرجو النصر إلا بهم، فأنت تعريني منهم.
وكان خطاب الصديق قد وصل إلى خالد قبل سفره يأمره فيه بمن يأخذ من الجند، ومن يدعهم للمثنى، قال: يا خالد لا تأخذ مجّداً إلا خلفت لهم مُجّداً، فإذا فتح الله عليك فارددهم إلى العراق وأنت معهم، ثم أنت على عملك.
فما زال خالد يسترضي المثنى ويعوضه عن الصحابة بمقاتلين من سادة أقوامهم من أهل البأس، وممن عرفوا بالشجاعة والصبر، وشدة المراس، فرضي المثنى آخر الأمر.
سار خالد من الحيرة في العراق، وقد استخلف المثنى به حارثة الشيباني على جند العراق، وسار هو إلى الشام، وكتب إلى أبي عبيدة: أما بعد فإني أسأل الله لنا ولك الأمن يوم الخوف والعصمة في دار الدنيا من كل سوء، وقد أتاني كتاب خليفة رسول الله يأمرني بالمسير إلى الشام وبالقيام على جندها والتولي لأمرها، والله ما طلبت ذلك قط ولا أردته إذ وليته، فأنت على حالك التي كنت عليها لا نعصيك ولا نخالفك ولا نقطع دونك أمراً، فأنت سيد المسلمين، لا ننكر فضلك، ولا نستغني عن رأيك تمم الله بنا وبك من إحسان ورحمنا وإياك من صلي النار، والسلام عليك ورحمة الله.
قيادة المثنى بن حارثة
بعد غياب خالد بن الوليد ومجموعة من قادة الجيش الكبار عن العراق وجد المثنى بن حارثة نفسه في مواجهة الجيوش الفارسية، فبدأ على الفور في تنظيم الجيوش الإسلامية، وكان خالد يتخذ الحيرة مقرًّا له، وكذا اتخذها المثنى مقرًّا له، وكان المثنى بن حارثة قائداً لمقدمة الجيش الإسلامي الموجودة بالقرب من المدائن، فوضع مكانه المُعَنَّى بن حارثة أخاه في أقرب نقطة للجيش الفارسي؛ وهذا أمر له معناه ومغزاه، فإن المُعَنَّى بن حارثة - أخا المُثَنَّى - يعلم عن أرض فارس ما لا يعلمه غيره من المسلمين؛ فهو أحق الناس بالوجود في هذا المكان القريب جدّاً من الفرس، وجعل مكان ضِرَار بن الأَزْوَر - وكان قد ذهب مع خالد بن الوليد - عتيبةَ بن النهاس، ومكان ضرار بن الخطاب وضع مسعود بن حارثة الأخ الثاني للمثنى بن حارثة.
وفي الجنوب وعلى الحامية الجنوبية التي تحمي حصن الأُبلّة والحصيد ظَلَّ سويد بن مقرن قائداً لهذه الحامية، كما كان على عهد خالد بن الوليد، وكان هذا في أواخر صفر سنة 13هـ.
وبدأ المثنى بن حارثة ينتظر الأخبار والأحداث، خاصة بعد أن علم أهل فارس بغياب نصف الجيش الإسلامي، وبقاء نصف الجيش فقط بقيادة المثنى بن حارثة.
في هذه الأثناء في المدائن فقد قُتِل منذ فترة قصيرة شيرويه كسرى فارس، وظل أهل فارس من دون كسرى يحكمهم، وكانت فتنة عظيمة في البلاط الملكي الفارسي، فتولى الحكم كسرى آخر كان اسمه شهر براز. ومعنى شهر براز بالفارسية خنزير الدولة. وأول ما فعله هذا الخنزير بعد أن تولَّى الحكم أن جهَّز جيشاً لملاقاة القوة الموجودة للمسلمين في الحيرة، فجهَّز جيشاً من عشرة آلاف مقاتل، وجعل مع هذا الجيش فيلاً، وكان الفيل أداة من أدوات الحرب عند الفرس لا يعرفها العرب، ولم يمر على المسلمين موقعة استُخدِم فيها الفيل إلا موقعة ذات السلاسل وقد أُسِر فيها الفيل، وهذه هي الموقعة الثانية التي يرسل فيها الفرس فيلاً مع الجيش، وكان على رأس الجيش الفارسي قائد يُسمَّى هرمز جاذويه. وأرسل شهر براز رسالة إلى المثنى بن حارثة يريد أن يَفُتَّ في عَضُدِه، مستخدماً سلاح الحرب النفسية الذي يستخدمه المسلمون معهم، ويقول له: إنما أرسل لك جيشاً من وخش أهل فارس (أي من رعاعهم)، إنما هم رعاة الخنازير والدجاج. أي أنه غير مهتم بأمره.
وعندما وصلت الرسالة إلى المثنى ردّ عليه برسالة فيها: "من المثنى بن حارثة إلى شهر براز كسرى فارس، الرأي عندي أنك إما باغٍ وأشد الناس عقاباً عند الله البغاة، وإما كاذب (في قوله أنه أرسل رعاة الدواجن والخنازير)، وشر الناس كذباً عند الله وعند الناس الملوك، والرأي عندي أنه إن كانت تلك الحقيقة فإنما اضْطُرِرْتم إليه (أي من كثرة الهزائم اضطررتم إلى أن يكون جيشكم من هؤلاء)، فالحمد لله الذي ردَّ كيدكم إلى رعاة الخنازير والدجاج". فلما تلقى شهر براز الرسالة حدث عكس ما كان يريد، حيث انهزم الفرس نفسيّاً، وبدءوا يقولون لشهر براز: جرّأْت علينا عَدُوَّنا، إذا كتبت بعد ذلك فاسْتَشِرْ.
موقعة (بابل)
وبدأ الجيش الفارسي يتحرك من المدائن في اتجاه المثنى بن حارثة، وقد استفاد المثنى بن حارثة من فترة وجود خالد بن الوليد وتعلَّم منه كثيراً، فلم ينتظر في الحيرة حتى يأتيه جيش (هرمز جاذويه)، ولكنه أسرع ليقابله في بابل، وهي منطقة قريبة جدّاً من المدائن. وكان تحرّك المثنى إلى بابل له مغزى آخر، فقد كانت هذه المنطقة تُسمى بانِقيا وباروسما، وكانت قد صالحت المسلمين على دفع مليوني درهم في كل سنة، على أن يوفر المسلمون لهم الحماية ممن يعتدي عليهم سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، فكان لا بُدَّ للمثنى بن حارثة أن يقاتل في هذا المكان حتى يحمي هذه المنطقة التي تدفع الجزية للمسلمين.
وقد وصل المثنى بن حارثة بجيشه إلى هذه المنطقة قبل أن يصلها هرمز جاذويه، وانتظر الجيش الفارسي حتى جاء وفي مقدمته الفيل.
وكانت الحرب في هذه المعركة سجالاً، فقد كان الجيشان متقاربين في القوة؛ تسعة آلاف من المسلمين وعشرة آلاف من الفرس، ومع ذلك كان الجيش الفارسي - في البداية - له بعض الغلبة على الجيش المسلم بسبب وجود الفيل الذي كان يتقدم داخل صفوف المسلمين؛ فيحدث نوعاً من الارتباك، ولا أحد يستطيع أن يقف أمامه أو يتعامل معه، وعندما رأى المثنى بن حارثة ذلك انتدب من المسلمين فرقة للتطوع لقتل هذا الفيل، وخرجت معه فرقة من عظماء المسلمين وتقدّموا ناحية الفيل، ومن خلف ظهره قطعوا الأحزمة التي يجلس عليها من يقود الفيل، فوقع قائد الفيل وقُتِل، وكان المثنى قد سأل عن مقتل الفيل فقالوا: يُقْتَلُ من خرطومه. فقتلوه، وبعد مقتل الفيل بدأت الجيوش الفارسية تتقهقر وتُهزَم، وانتصر المسلمون في موقعة بابل التي كانت في ربيع الأول سنة 13هـ، وذلك بعد أقل من 25 يوماً من غياب خالد بن الوليد، فكان ذلك اطمئناناً لنفوس الجند أن النصر يأتي من عند الله، وليس من عند أشخاص بعينهم، ومتى رضي الله تعالى عن فرقة، فسوف يتم لها النصر، حتى وإن غاب عنها خالد بن الوليد.
وقد استفاد المثنى من خالد بن الوليد كثيراً، فأرسل في إثر الجيش المنهزم - بعدما فرَّ منهم الكثير - بعض الفرق التي تطارد الفارِّين، ووصلت هذه الفرق حتى مشارف المدائن؛ وذلك يحول بين تجمع الجيش وهجومه مرة أخرى على المسلمين، فالمسافة بين بابل والمدائن تقرب من 72 كم، ومن المدائن إلى الحيرة حوالي 150 كم، فتكون بابل أقرب إلى المدائن من الحيرة.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/12/41.jpg
فوضى في فارس
حفل الوضع في فارس في هذه الفترة بالفتن العظيمة والقلاقل؛ فقد قُتِلَ (شهر براز) ولم يمكث على كرسي الحكم إلا أربعين يوماً فقط، حيث قتله الحرس الخاص به، وتحيَّر الفرس في اختيار كسرى جديد، فلا بُدَّ أن يكون الحاكم من العائلة المالكة (آل ساسان)، حتى وإن كان صغيراً، وإن لم يوجد فامرأة، وقد تولَّى الحكم بشكل مؤقت بعد شهر براز امرأة تُسمَّى (آذرمدخت)، وكانت ابنة لأحد الأكاسرة السابقين، وقد تولَّت الحكم لفترة قصيرة، ثم عثروا على رجل يُسمَّى (سابور)، وكان ابناً لأحد الأكاسرة السابقين، ولكنه من جارية فتولَّى الحكم بعد هذه المرأة، وكانت الأمهات يخبئن أبناءهنَّ لكي لا يكونوا من الأكاسرة؛ وذلك لكثرة الفتن، فقد رأيْنَ قتل أكثر من ثلاثة من الأكاسرة في فترة قصيرة، وعندما عثروا على هذا الشاب تم تعيينه على رأس البلاط الفارسي فصار كسرى، ولكن لصغر سنه تم تعيين أحد الولاة عليه حتى يستوعب أمور الحكم جيداً.
وطلب سابور من وليه أن يزوجه من آذرمدخت، ولكنها قالت: كيف أتزوج من ابن جارية، حتى وإن كان كسرى فارس؟، ولما أصر الولي وسابور على رأيهما دبَّرت لهما مكيدة وقتلتهما، وتولَّت هي الحكم.
وكان الولي الذي قُتِل يُسمَّى (فخَّاذ)، فلما علم ابنه بالأمر وكان اسمه (رستم)، وقد كان في خراسان وهي منطقة بعيدة عن المدائن، انطلق بجيشه نحو المدائن وأحدث انقلاباً عظيماً؛ حيث قتل آذرمدخت وحرسها وكل جيشها، ولما لم يكن من حقِّه أن يتولَّى الحكم؛ لأنه ليس من العائلة المالكة، فقد ساعد على تولِّي بوران بنت كسرى الحكم، وكانت امرأةً ذات حكمة، ويرجعون إليها في الأمور الصعبة، فتولَّت الحكم وقالت لرستم: أنت على رأس الجيش من الآن.
وكانت المخابرات الإسلامية تنقل هذه الأخبار بدقة إلى المثنى بن حارثة، فقد علم بمقتل الأكاسرة واحداً بعد الآخر، وعلم أيضاً بتولّي بوران بنت كسرى الحكم، وأنها ولَّت رستم - القائد الفارسي المعروف جيداً - قيادة الجيش الفارسي، وقد علم المثنى أن قوة المسلمين الموجودة معه لن تستطيع أن تقف أمام قوة الفرس، وجيوشهم الجرارة بعد أن تولَّى رستم قيادة الجيش.
كانت حدود الفرس في تلك الآونة تمتد حتى الصين، وكانت المدائن العاصمة، وكانت الصين تدفع الجزية للفرس اتقاءً لشرهم.
وفاة الخليفة الصديق
وقرر المثنى بن حارثة أن يترك العراق ويذهب هو بنفسه إلى أبي بكر الصديق ليُطلِعه على الموقف؛ حتى يمدَّه ببعض المدد، ويعرض عليه أيضاً أن يستعين بمن قد ارتدوا ورجعوا إلى الإسلام، وكانوا - إلى هذا الوقت - لم يشاركوا مع الجيوش الإسلامية بأمر أبي بكر.
وبالفعل ترك المثنى جيشه بعد أن عيَّن عليه بشير بن الخصاصية، وكان أحد صحابة النبي، وكان خالد بن الوليد يريد أن يأخذه معه إلى الشام، ولكنَّ المثنَّى أَصَرَّ على أن يُبْقِيَ له خالد بعض أصحاب النبي، وكان هذا الرجل ممن بقوا معه.
واتجه المثنى بن حارثة إلى المدينة لمقابلة أبي بكر الصديق، وعندما وصل المثنى إلى المدينة وجد أبا بكر في مرض موته، وكان في غيبوبة تامة، ومكث المثنى فترة حتى صحا أبو بكر صحوة قابله فيها، وعرض عليه موقف جيشه وما يريده، فأرسل أبو بكر إلى عمر بن الخطاب وقال: عَلَيَّ بعمر.
ثم قال له: اسمع يا عمر ما أقول لك ثم اعمل به، إني لأرجو أن أموت من يومي هذا (وكان يوم 21 من جمادى الآخرة سنة 13هـ)، فإن أنا مِتُّ فلا تُمسِينَّ حتى تندب الناس مع المثنى، وإن تأخرت إلى الليل فلا تُصبِحَنَّ حتى تندب الناس مع المثنى، ولا تَشغلنَّكم مصيبة - وإن عَظُمَتْ - عن أمر دينكم ووصية ربكم، وقد رأيتَني مُتَوفَّى رسول الله وما صنعتُ ولم يُصَبِ الخلق بمثله، وبالله لو أنِّي أَنِي (أي أتباطأ) عن أمر الله وأمر رسوله، لخذلنا ولعاقبنا فاضطرمت المدينة ناراً، وإن فتح الله على أمراء الشام فاردد أصحاب خالد إلى العراق، فهم أهله وولاة أمره وحدّه، وأهل الضراوة بهم والجرأة عليهم.
فكانت هذه هي وصية أبي بكر في اللحظات الأخيرة قبل موته، ونلاحظ فيها حرصه الشديد على استمرارية الجهاد في سبيل الله، مهما عظمت المصائب وكثرت الخطوب.
وفي الوصية الأخيرة شيئٌ مهمٌّ في قول الصديق: "وإن فتح الله على أمراء الشام، فاردد أصحاب خالد إلى العراق". لم يقل: فاردد خالداً إلى العراق؛ لأنه يعلم أن الأمور السياسية تحتاج إلى توافق بين القائد العام والجند الذين تحت إمرته، وكان أبو بكر يعلم عدم وجود هذا التوافق بين عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد رضي الله عنهما.
وتُوُفِّيَ أبو بكر الصديق في هذه الليلة، وكان في فترة خلافته القصيرة قد قام بحروب الردة، وأَنفذَ بعث أسامة بن زيد إلى الروم، وقام بالفتوحات الإسلامية في فارس والروم، وجمع القرآن الكريم، وثبَّت دعائم الأمة الإسلامية في ذلك الوقت، فرضي الله عنه وأرضاه.
بعد أن تولَّى عمر بن الخطاب إمارة المسلمين بعد موت أبي بكر ذهب فدفنه بعد العشاء بجوار رسول الله، ثم نادى في منتصف الليل: "الصلاةُ جامعة"، فَجَمَعَ أهلَ المدينة وندب الناس للخروج مع المثنى.
ولم يستجب أحد لنداء عمر بن الخطاب، وكان هذا شيئاً عجيباً وغريباً على أهل المدينة ألا يستجيبوا لنداء الجهاد في سبيل الله، ولم يكن عمر بن الخطاب متوقعاً لهذا الأمر على الإطلاق، فانتظر حتى صلاة الفجر وأَمَّ الناس في صلاة الفجر، وبايعه الناس على الإمارة، وأصبح هو أمير المؤمنين بعد هذه المبايعة من الناس، فندب الناس للقيام بفتح فارس، ولم يستجب أحدٌ أيضاً، وظل يدعو الناس بعد كل صلاة مدة ثلاثة أيَّام، ولم يستجب لندائه أحد.
ويفسَّر هذا الموقف من المسلمين في عدة أمور:
أولاً: لم يكن موجودٌ بالمدينة خمسين ألفًاً من خيرة أهلها، فقد خرج ثلاثون ألفًاً لحرب الروم، وعشرون ألفًاً لحرب العراق، ومن كان موجوداً أقل درجة ممن ذهب للجهاد، خاصة أن من خرج إنما خرج تطوعاً ولم يخرج مجبراً، فعندما أرسل أبو بكر خالد بن الوليد قال له: "ولا تكره أحداً على القتال معك"؛ ولأجل هذا فقد تركه بعض الناس قبل أن يصل إلى العراق.
ثانياً: ربما لم يستجب الناس حزناً لوفاة الصدّيق، فقد كانت المصيبة عظيمة، وكان عمر يبكي عليه ويقول: يا خليفة رسول الله، لقد أتعبت من خلفك، والله لا يشق أحد غبارك. ويبكي علي بن أبي طالب أيضاً كثيراً على وفاة أبي بكر، وتنوح النساء بصوت مرتفع في المدينة، وقد أمرهن عمر بألا ينحن فلم ينتهين، حتى قال لهن: إن الميت يُعَذَّبُ ببكاء أهله عليه؛ فعندها كَفَّ النساء عن النواح.
ثالثاً: كان تولِّي عمر بن الخطاب - مع شدته - قد أدخل المسلمين في حالة ترقب وخوف، ولم يعرف المسلمون ما سيفعل، حتى إن طلحة بن عبيد الله دخل على أبي بكر الصديق وقال له: يا خليفة رسول الله، استخلفت عمر على المؤمنين وأنت ملاقٍ ربك، وأنت تعلم ما به من الشدة وأنت معه، فكيف إذا خلَّيْتَ بينه وبينهم؟.
وكان أبو بكر مضطجعاً، فقال: أجلسوني. فأجلسوه، فيمسك بطلحة ويقول له: أباللهِ تخوفني، واللهِ إن سألني ربي عن عمر لقلت له: استخلفتُ خير أهلك على أهلك.
فهذه الأمور جعلت الناس تتردد في أمر الخروج مع المثنى بن حارثة.. وكلما ندب عمر بن الخطاب الناس لم يقمْ أحد، فقام المثنى بن حارثة في اليوم الرابع وخطب خطبة عظيمة في أهل المدينة وما حولها - حيث جاء الناس لمبايعة عمر بن الخطاب على الإمارة - وقال لهم: يا أهل الإسلام مما تخافون؟ لقد ملَّكنا الله رقاب أهل فارس، والله لقد تبحبحنا في ريفهم، وجرَّأنا الله عليهم، وكانت لنا الغلبة عليهم.
ومع هذا لم يقم أحد؛ فقام عمر بن الخطاب وقال: أين المهاجرون لموعود الله؟ لقد وعدكم الله أن يورثكم الأرض، فأين المهاجرون إلى ميراث الأرض؟، أين عباد الله الصالحون؟، وبكى عمر، فصاح رجل من المسلمين: أنا لها.
رجلٌ واحد بعد كل هذه الصيحات المؤمنة من عمر، كان هذا الرجل هو أبو عبيد بن مسعود الثقفي، من قبيلة ثقيف.. وبعد أن قام هذا الرجل قام رجل آخر يُسمَّى سعد بن عبيد، وقال: أنا لها يا عمر. وكان من الأنصار ومن صحابة رسول الله، ثم قام رجل ثالث وهو سليط بن قيس وهو من الصحابة القدامى من صحابة رسول الله، وشهد كل المشاهد مع رسول الله.
وانتظر المسلمون مدة دون أن يقوم أحد غير هؤلاء الثلاثة، ثم تحركت النفوس وأوقع الله الإيمان في القلوب؛ فقام من المسلمين الكثير حتى وصل تعدادهم إلى الألف، منهم ثلاثمائة من قبيلة ثقيف، والباقي من أهل المدينة ممن شهدوا بدراً، وشهدوا المشاهد مع رسول الله.
أبو عبيدالثقفي أمير الجيش
بعدما قام هؤلاء الألف كانت هناك مشكلة جديدة أمام عمر بن الخطاب، وهي اختيار القائد لهؤلاء الألف من الجنود، ويشير عليه الصحابة بأن يختار رجلاً ممن له صحبة من السابقين، فقال: لا والله، أندبهم للقاء فلا يخرجون، وعندما تأتي الإمرة أضعهم. ووضع أبا عبيد بن مسعود على رأس الجيش.
وأرسل إلى أبي عبيد بن مسعود الثقفي وقال له: والله إني وضعتك في هذا المكان لسبقِكَ، ولو سبقك سليط بن قيس أو سعد بن عبيد لجعلتهما الأمراء؛ فاستمع لرأيهما، ولا تتصرف في أي أمر من الأمور إلا بعد أن تستشير أصحاب رسول الله.. ثم يقول له: ولا تُفشِينَّ سرًّاً، فإنك مالكٌ أمرك ما دام سرُّك في داخلك. فكانت هذه هي وصية عمر بن الخطاب لأبي عبيد بن مسعود الثقفي.
وجعل المثنى بن حارثة تابعاً لأبي عبيد بن مسعود الثقفي، وهذا الأمر لم يؤثر مطلقاً في تحركات المثنى للإسلام وفي سبيل الله، فقد كان رجلاً مؤمنًاً حقًّاً، واستجاب لرأي عمر، وذهب إليه عمر وقال له: اذهب إلى أهلك وانتظر النجدة.
وانطلق المثنى سريعاً نحو الجيش الإسلامي في فارس، انتظاراً للجيش الذي سيأتي بقيادة أبي عبيد بن مسعود الثقفي من المدينة، ووصل المثنى مبكراً للجيش، وعندما وصل علم أن بوران بنت كسرى تجهِّز الجيوش لحرب المسلمين، وقد تولَّى رستم إمارة جميع الجيوش الفارسية، وبدأ المثنى يرتِّب القوات استعداداً لقدوم أبي عبيد بن مسعود ومن معه مدداً له، وفي هذه الأثناء يعلم المثنى - بفضل المخابرات الإسلامية الموجودة في المنطقة - أن رستم قد أرسل مجموعة كبيرة من الأمراء إلى أماكن مختلفة على حدود الجيش الإسلامي الموجود في فارس.
وكانت هذه المنطقة على صلح مع المسلمين على أن يدفعوا الجزية، وقال لهم رستم: إن على كل أمير أن يثور في المنطقة التي هو فيها، وأول مَن يقوم بالثورة سيكون هو الأمير على جميع الأمراء؛ وذلك تشجيعاً لهم على الثورة.
وكان ممن جهَّزهم لذلك جابان قائد الفرس في موقعة (أُلَّيْس) التي انهزم فيها الفرس، وفرَّ هو من المسلمين، فقام المثنى - وبحكمة شديدة - بالانسحاب بجيشه من هذه المنطقة كلها إلى ما بعد الحيرة منتظراً جيش أبي عبيد بن مسعود الثقفي، ولو ظل في مكانه الأول لحاصرته الجيوش، وربما تكون الهلكة لجيش المسلمين الصغير الموجود معه.
موقعة (النمارق)
يصل جيش عبيد بن مسعود الثقفي إلى منطقة تُسمى خِفَّان في 3 من شعبان سنة 13هـ، ونلاحظ أن أبا بكر تُوفِّي في جمادى الآخرة، ثم مرَّ شهر رجب ووصل الجيش في 3 من شعبان وهي فترة طويلة، فلم تكن جيوش خالد بن الوليد تقطع هذه المسافات في هذا الوقت الطويل، ووضع المثنى نفسه تحت إمرة أبي عبيد بن مسعود الثقفي، وبدأ أبو عبيد بن مسعود ينظم الجيوش لحرب الفرس، فكانت موقعة النمارق وأتت الجيوش الفارسية بقيادة جابان وهو أول من ثار في المنطقة وتوجه بجيشه مرة أخرى لمقابلة المسلمين بعد أن هُزم في موقعة أُلَّيْس، واتجه إليه أبو عبيد بن مسعود، والتقى الجيشان في موقعة شديدة وهي أول موقعة لأبي عبيد بن مسعود في منطقة العراق، وكانت في 7 من شعبان سنة 13هـ، وأبلى الجيش الإسلامي وقائدُه أبو عبيد بلاءً حسناً في هذه الموقعة، وتم النصر للمسلمين، وأُسِرَ جابان، ولكنه مكر بأحد المسلمين وخدعه بأنه سيعطيه كذا وكذا إذا أطلقه، ولم يكن يعرف هذا الرجل أن هذا هو (جابان) أمير فارس في الجيش فأمَّنه، وعندما علم أبو عبيد أن هذا الرجل هو جابان قال: لا نخون عهداً أعطاه أحدُ المسلمين. فأطلق سراحه وكان في يده أن يقتله.
موقعة (الجسر)
بعد أن انتصر المسلمون في معركة النمارق، انتصروا أيضاً في موقعة السقاطية على (نورسي)، وبعدها بخمسة أيام تقدم أبو عبيد إلى (باقسياثا) بالقرب من بابل وانتصر على الجيوش الفارسية بقيادة الجالينوس وهو من كبار قادة الفرس.
تعجب رستم كثيراً وأصابته الحيرة والدهشة مما يحدث، إذ كيف ينتصر هؤلاء بعد غياب خالد بن الوليد ومعه نصف الجيش؟. ينتصرون على الفرس في ثلاث مواقع متتالية في تسعة أيام؛ فقال رستم: مَنْ أشدُّ الفُرْسِ على العرب؟.
فقالوا له: بهمن جاذويه. وكان أحد كبار قادة الفرس، ولم يشترك في الحروب مع المسلمين حتى هذه اللحظة.
فقال رستم: إذن فهو القائد.
وبذلك أعطى رستم إمرة الجيوش الفارسية لبهمن جاذويه وأخرجه مع جيش كبير يزيد على سبعين ألف فارسي، وأرسل مع هذا الجيش أكثر من عشرة أفيال.
توجّه الجيش الفارسي بهذه الجموع الجرارة لقتال المسلمين، وعلم أبو عبيد بذلك فتوجه بجيشه إلى منطقة في شمال الحيرة تسمى قِسّ النَّاطِف، وعسكر بجيشه في هذه المنطقة انتظاراً لقدوم جيش الفرس. وقَدِمَ الفُرسُ، ووقفوا على الجانب الآخر من نهر الفرات، فالمسلمون على الناحية الغربية، والفرس على الناحية الشرقية بقيادة بهمن جاذويه، وكان بين الشاطئين جسرٌ عائم أقامه الفرس في هذه الآونة للحرب - وكان الفرس مهرة في بناء هذه الجسور - وأرسل بهمن جاذويه رسولاً إلى الجيش الإسلامي يقول له: إما أن نعبر إليكم، وإما أن تعبروا إلينا.
أخطاءأبي عبيد
كان عمر بن الخطاب قد نصح أبا عبيد قبل أن يخرج إلى القتال قائلاً: لا تُفشِينَّ لك سرًّا؛ لأنك مالكٌ أمرك حتى يخرج سِرُّك من بين جنبيك، ولا تحدِثَنَّ أمراً حتى تستشير أصحاب رسول الله.
وأوصاه خاصة بسعد بن عبيد الأنصاري وسليط بن قيس من الصحابة الكرام جميعاً، وأخطأ أبو عبيد الخطأ الأول فأخذ يناقش أصحابه ويشاورهم أمام رسول الفرس، وهذا إفشاء للسر، ولأمور التنظيم الحربي، وأخذته الحميَّة عندما وصلته الرسالة، وقال: والله لا أتركهم يعبرون ويقولون: إنا جَبُنَّا عن لقائهم. واجتمع الصحابة على عدم العبور إليهم: وقالوا له: كيف تعبر إليهم وتقطع على نفسك خط الرجعة، فيكون الفرات من خلفك؟، وقد كان المسلمون وأهل الجزيرة العربية يجيدون الحرب في الصحراء، ودائماً كان المسلمون يجعلون لأنفسهم خط رجعة في الصحراء، وإذا حدثت هزيمة يستطيع الجيش أن يرجع إلى الصحراء ولا يهلك بكامله، ولكن أبا عبيد أصرَّ على رأيه بالعبور، وذكّره أصحابه بقول عمر بن الخطاب: أنِ اسْتشر أصحاب رسول الله؛ فقال: والله لا نكون عندهم جبناء. وهذا كله يحدث أمام رسول الفرس، الذي استغل الفرصة ليثير حميَّة أبي عبيد، فقال: إنهم يقولون إنكم جبناء ولن تعبروا لنا أبداً. فقال أبو عبيد: إذن نعبر إليهم. وسمع الجنود وأطاعوا وبدأ الجيش الإسلامي يعبر هذا الجسر الضيِّق للوصول للناحية الأخرى التي يوجد بها الجيش الفارسي.
ونلاحظ في هذا الموقف أن الجيش الإسلامي يدخل في منطقة محصورة بين نهر يُسمى النيل - وهو نهر صغير وأحد روافد نهر الفرات - ونهر الفرات، وكلا النهرين يمتلئ بالمياه، والجيش الفارسي يغلق باقي المنطقة، فلو دخل المسلمون هذا المكان فليس أمامهم إلا القتال مع الجيش الفارسي، والفرس يدركون أهمية هذا الموقع جيداً، فأخلوا مكاناً ضيقاً ليعبر المسلمون إليهم، ويتكدس الجيش الإسلامي في منطقة صغيرة جدّاً، ويرى المثنى بن حارثة ذلك ويعيد النصيحة لأبي عبيد قائلاً له: إنما تلقي بنا إلى الهَلَكَة، ويصرُّ أبو عبيد على رأيه.
وعبر الجيش الإسلامي بالفعل إلى هذه المنطقة، وكان مع الفُرْسِ كما ذكرنا عشرة أفيال منها الفيل الأبيض، وهو أشهر وأعظم أفيال فارس في الحرب، وتتبعه كل الفيلة إن أقدم أقدموا وإن أحجم أحجموا، وتقدمت الجيوش الفارسية يتقدمها الفيلة إلى الجيش الإسلامي المحصور بين نهري الفرات ورافده نهر النيل، وتراجعت القوات الإسلامية تدريجيًّاً أمام الأفيال، ولكن خلفهم نهرين فاضطروا للوقوف انتظاراً لهجوم الفيلة وقتالها، وكانت شجاعة المسلمين وقوتهم فائقة ودخلوا في القتال، ولكن الخيول بمجرد أن رأت الأفيال فزعت وهربت، وكانت سبباً في إعاقة إقدام المسلمين على القتال، وعادت الخيول إلى الوراء وداهمت مشاة المسلمين، ولم تفلح محاولات المسلمين لإجبار الخيول على الإقدام لعدم تمرُّسها على مواجهة الأفيال، وفي هذه اللحظة - وبعد أن أخطأ أبو عبيد في إفشاء السر أمام رسول الفرس، وأخطأ في العبور مخالفاً مشورة أصحاب رسول الله، وأخطأ باختياره هذا المكان للمعركة - كان لا بد عليه أن ينسحب بجيشه سريعاً من أرض المعركة، كما فعل خالد بن الوليد في معركة المذار عندما علم أنه سيكون محاطًا بجيش من الجنوب، انسحب سريعاً بجيشه حتى يقابل جيش الأندرزغر في الولجة.
لكن أبا عبيد استقتل وقال: لأقاتلنَّ حتى النهاية. وإن كانت هذه شجاعة فائقة منه، فإن الحروب كما تقوم على الشجاعة لا بد أن يكون هناك حكمة في التعامل مع الحدث.
وبدأت أفيال الفرس تهاجم المسلمين بضراوة، وأمر أبو عبيد أن يتخلَّى المسلمون عن الخيول ويحاربوا الفرس جميعاً وهم مشاة، وفقد المسلمون بذلك سلاح الخيول وأصبحوا جميعاً مشاة أمام قوات فارسية مجهزة بالخيول والأفيال، واشتد وَطِيسُ الحرب ولم يتوانَ المسلمون عن القتال، وتقدم أبو عبيد بن مسعود الثقفي وقال: دُلُّوني على مقتل الفيل. كما قال من قبل المثنى بن حارثة، فقيل له: يُقتَلُ من خرطومه، فتقدم ناحية الفيل الأبيض بمفرده، فقالوا له: يا أبا عبيد، إنما تلقي بنفسك إلى التهلكة وأنت الأمير، فقال: والله لا أتركه إما يقتلني وإما أقتله. وتوجه ناحية الفيل وقطع أحزمته التي يُحمل فوقها قائدُ الفيل، ووقع قائد الفيل وقتله أبو عبيد بن مسعود، ولكن الفيل لا يزال حيًّاً، وهو مُدَرَّب تدريباً جيداً على القتال، وأخذ أبو عبيد يقاتل هذا الفيل العظيم ويقف الفيل على قدميه الخلفيتين ويرفع قدميه الأماميتين في وجه أبي عبيد، ولكنَّ أبا عبيد لم يتوانَ عن محاربته ومحاولة قتله، وعندما شَعَر بصعوبة الأمر أوصى من حوله: إن أنا مِتُّ، فإمرة الجيش لفلان ثم لفلان ثم لفلان؛ ويعدد أسماء من يخلفونه في قيادة الجيش. وهذا أيضاً من أخطاء أبي عبيد؛ لأن أمير الجيش يجب أن يحافظ على نفسه، ليس حبًّاً في الحياة ولكن حرصاً على جيشه وجنده في تلك الظروف، وليس الأمر شجاعة فحسب، ولأنه بمقتل الأمير تنهار معنويات الجيش، وتختل الكثير من موازينه. ومن الأخطاء أيضاً أن أبا عبيد أوصى بإمرة الجيش بعده لسبعة من ثقيف منهم ابنه وأخوه والثامن المثنى بن حارثة، وكان الأَوْلى أن يكون الأمير بعده مباشرة المثنى أو سليط بن قيس، كما أوصاه عمر بن الخطاب.
المثنى يستعيد القيادة
ويواصل أبو عبيد قتاله مع الفيل ويحاول قطع خرطومه، لكن الفيل يعاجله بضربة فيقع على الأرض، ويهجم عليه الفيل ويدوسه بأقدامه الأماميتين فيمزِّقهُ أشلاءً، وكان موقفًا صعباً على المسلمين حينما يرون قائدهم يُقتَل هذه القتلة البشعة.
ويتولى إمرة الجيش بعده مباشرة أول السبعة ويحمل على الفرس ويستقتل ويقتل، وكذا الثاني والثالث وهكذا، وقد قتل في هذه المعركة ثلاثة من أبناء أبي عبيد بن مسعود الثقفي كان أحدهم أميراً على الجيش، وقُتِل كذلك أخوه الحكم بن مسعود الثقفي وكان أحد الأمراء على الجيش بعد استشهاد أبي عبيد، وتأتي الإمرة للمثنى بن حارثة والأمر في غاية الصعوبة، والفرس في شدة هجومهم على المسلمين، ويصف الأَغَرُّ العجْلِيُّ - وهو أحد صحابة النبي الذين حضروا الموقعة - فيقول: وَخَزَقَ الفرسُ المسلمين بالنشاب (الرماح)، وعضَّ المسلمين الألَمُ.
وفي هذه اللحظة يبدأ بعض المسلمين في الفرار عن طريق الجسر إلى الناحية الأخرى من الفرات، وهذه أول مرة في فتوح فارس يفِرُّ فيها بعض المسلمين من القتال، وهذا الفرار في هذا الموقف له دليل شرعي ولا يُعَدُّ فراراً من الزحف، وقد قيل: إن الفرار من المثلين جائز، فما بالنا وجيش الفرس ستة أو سبعة أمثال جيش المسلمين. ولكن يُخطِئ أحد المسلمين خطأً جسيماً آخر، فيذهب عبد الله بن مرثد الثقفي ويقطع الجسر بسيفه، ويقول: والله لا يفِرُّ المسلمون من المعركة؛ فقاتلوا حتى تموتوا على ما مات عليه أميركم.
ويُسقَطُ في أيدي المسلمين، ويستأنف الفُرْسُ القتال مع المسلمين، ويزداد الموقف صعوبة، ويُؤتَى بالرجل الذي قطع الجسر إلى قائد الجيش المثنى بن حارثة، فيضربه المثنى، ويقول له: ماذا فعلت بالمسلمين؟، فقال: إني أردت ألا يفرَّ أحد من المعركة. فقال: إن هذا ليس بفرار.
انسحابمنظم
وبدأ المثنى - وفي هدوء يُحسب له - يقود حركة الجيش المسلم المتبقي بعد الهجمات الفارسية القاسية والشديدة، ويقول لجيشه محمِّساً لهم: يا عباد الله، إما النصر وإما الجنة.
ثم نادى على المسلمين في الناحية الأخرى أن يصلحوا الجسر ما استطاعوا، وكان مع المسلمين بعض الفرس الذين كانوا قد أسلموا وكانوا ذوي قدرة على إصلاح الجسور، فبدءوا يصلحون الجسر من جديد، وبدأ المثنى يقود إحدى العمليات الصعبة، وهي عملية انسحاب في هذا المكان الضيِّق أمام القوات الفارسية العنيفة، فأرسل إلى أشجع المسلمين واستنفرهم ولم يستكرههم، وقال: يقف أشجع المسلمين على الجسر لحمايته. فتقدَّم لحماية الجسر عاصم بن عمرو التميمي وزيد الخيل وقيس بن سليط صحابي رسول الله والمثنى بن حارثة على رأسهم، ووقف كل هؤلاء ليقوموا بحماية الجيش أثناء العبور، ويحموا الجسر لئلا يقطعه أحد من الفرس، ويقول المثنى بن حارثة للجيش: "اعبروا على هيِّنَتِكم ولا تفزعوا؛ فإنا نقف من دونكم، والله لا نزايل (لا نترك هذا المكان) حتى يعبر آخرُكم".
ويبدأ المسلمون في الانسحاب واحداً تلوَ الآخر ويقاتلون حتى آخر لحظة، وتكسو الدماء كل شيء وتكثر جثث المسلمين ما بين قتيل وغريق في النهرين، ويكون آخر شهداء المسلمين على الجسر هو سويد بن قيس أحد صحابة النبي، وآخر من عبر الجسر هو المثنى بن حارثة، فقد ظل يقاتل حتى اللحظة الأخيرة ويرجع بظهره والفرس من أمامه، وبمجرد عبوره الجسر قطعه على الفُرسِ، ولم يستطع الفرس العبور إلى المسلمين، وعاد المسلمون أدراجهم ووصلوا إلى الشاطئ الغربي من نهر الفرات قبل غروب الشمس بقليل.
ولم يكن الفرس يقاتلون بالليل؛ لذا تركوا المسلمين، وكانت فرصة للجيش الإسلامي لكي ينجو منسحباً إلى عمق الصحراء؛ لأنه لو ظل في مكانه لعبر إليه الجيش الفارسي في الصباح وقضى على من تبقى منه.
في هذا الوقت كان قد فَرَّ من المسلمين ألفانِ، ومنهم من قد وصل في فراره إلى المدينة، واستُشهِد من المسلمين في هذه الموقعة أربعة آلاف شهيد، وكان قد اشترك فيها ثمانية آلاف، قُتِلَ منهم أربعة آلاف ما بين شهيد في القتال وغريق في النهر، ومن هؤلاء الآلاف الأربعة غَالِبُ أهل ثقيف، والكثير ممن شهد بدراً وأُحُداً والمشاهد مع رسول الله، وكان الأمر شديداً على المسلمين، ولولا فضل الله تعالى، ثم تولية المثنى بن حارثة الأمر ما كان لمن نجا أن ينجو من هذه المصيدة المحكمة التي أعدها الفرس للمسلمين.
وكان المثنى كفاءة حربية منقطعة النظير، وهذه هي قيمة القيادة الصائبة، فقد كان أبو عبيد بن مسعود تملؤه الشجاعة والإيمان والإقدام، وقد كان أول من استُنفِرَ فخرج للجهاد وفي وجود الكثير من الصحابة، نفر قبلهم وأُمِّرَ على الجيش، ودخل الحروب في منتهى الشجاعة ولم تأخذه في الله لومةُ لائمٍ، وتقدم لمهاجمة الفيل وهو يعلم أنه سيُقتَل فيوصي بالإمرة لمن بعده، ولم يتوانَ عن القتال.
ومع هذا فإمارة الجيوش ليست شجاعة وإيمان فقط، وإنما لا بد من المهارة العالية والكفاءة الحربية، حتى قال بعض الفقهاء: إذا وُجِدَ قائدان أحدهما من الإيمان بمكان ولكنه لا يدرك قيمة القيادة والإمارة، والآخر يصل إلى درجة الفسوق لكنه مسلم، ويستطيع قيادة الحروب بمهارة، فلا بأس أن يَلِيَ هذا الفاسقُ قيادة الجيش في الحروب؛ لأنه يستطيع أن ينجو بجيش المسلمين كله، والآخر ربما يؤدي بالجيش إلى الهلكة مع إيمانه وشجاعته.
كانت موقعة الجسر في 23 من شعبان 13هـ، وكان أبو عبيد قد وصل إلى العراق في 3 من شعبان، وكانت أولى حروبه النمارق في 8 من شعبان، ثم السقاطية في 12 من شعبان، ثم باقسياثا في 17 من شعبان، ثم هذه الموقعة في 23 من شعبان، فخلال عشرين يوماً من وصول أبي عبيد بجيشه انتصر المسلمون في ثلاث معارك، وهُزموا في معركة واحدة قضت على نصف الجيش، ومن بقي فرَّ، ولم يبق مع المثنى غير ألفين من المقاتلين.
وأرسل المثنى بالخبر إلى المدينة مع عبد الله بن زيد، وعندما وصل إلى المدينة كان عمر بن الخطاب على المنبر فَيُسِرّ إليه بالأمر نظراً لصعوبته على المسلمين، فيبكي عمر على المنبر، وكان لا بد أن يعلم المسلمون حتى يستنفر الناس للخروج مرة أخرى لمساعدة بقايا الجيش الموجودة في العراق، وبعد أن يبكي يقول: رَحِمَ الله أبا عبيد لو لم يستقتل وانسحب لكُنَّا له فئة، ولكن قدَّر الله وما شاء فعل.
وكان هذا الأمر يمثِّل للمسلمين الخزي والعار، ولم يتعودوا قبل ذلك على الفرار من أعدائهم، لكن عمر بن الخطاب يطمئنهم ويقول لهم: إنني لكم فئة، ولا يُعَدُّ هذا الأمر فراراً، وظل يحمسهم ويحفزهم، وكان معهم معاذ القارئ وكان أحد مَن فرُّوا، وكان يَؤُمُّ المسلمين في التراويح، فكان كلما قرأ آيات الفرار من الزحف يبكي وهو يصلي، فيطمئنه عمر، ويقول له: إنك لست من أهل هذه الآية.
يتبع