مشاهدة النسخة كاملة : المنتقى من كتاب " إحياء علوم الدين " للإمام الغزالي
ابو وليد البحيرى
2021-12-20, 10:48 PM
المنتقى من كتاب " إحياء علوم الدين " للإمام الغزالي :
المقدمة (1)
فهد بن عبد العزيز الشويرخ
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد: فإن مما يجعل بعض الأشياء تشتبه على بعض الناس, اشتمالها على حق وباطل, وخير وشر, ونفع وضر, وبعض الكتب المصنفة قديماً وحديثاً تشتمل على ذلك, لذا ينبغي التنبه لها, والحذر منها, وعدم الاقتصار على رؤية الأشياء الحسنة فيها, وإغفال ما فيها من مفاسد وأضرار, ومن تلك الكتب, كتاب " إحياء علوم الدين" للإمام أبي حامد الغزالي المتوفى سنة (505 هـ) رحمه الله وعفا عنه, قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: كلامه في الإحياء غالبه جيد...وفيه مواد فاسدة مادة فلسفية, ومادة كلامية, ومادة من ترهات الصوفية, ومادة من الأحاديث الموضوعة...وما في الإحياء من الكلام في المهلكات, مثل الكلام على الكبر والعجب والرياء والحسد, فغالبه منقول من كلام الحارث المحاسبي في الرعاية, ومنه ما هو مقبول, ومنه ما هو مردود, ومنه ما هو متنازع فيه, والإحياء فيه فوائد كثيرة, لكن فيه مواد فاسدة, من كلام الفلاسفة ,تتعلق بالتوحيد والنبوة والمعاد, فإذا ذكر معارف الصوفية كان بمنزلة من أخذ عدواً للمسلمين ألبسه ثياب المسلمين...وفيه أحاديث وآثار ضعيفة, بل موضوعة كثيرة, وفيه أشياء من أغاليط الصوفية وترهاتهم, وفيه مع ذلك من كلام المشايخ الصوفية العارفين المستقيمين في أعمال القلوب, الموافق للكتاب والسنة, ومن غير ذلك من العبادات والأدب ما هو موافق للكتاب والسنة ما هو أكثر مما يُردُّ منه, فلهذا اختلف فيه اجتهاد الناس وتنازعوا فيه.
وقال العلامة عبدالعزيز بن عبدالله ابن باز رحمه الله: كتاب فيه شر كثير وإن كان من أجل كتبه كما قال الشارح لما فيه من بعض الفوائد ولكنه فيه شر كثير...من البدع الكثيرة وتأييد مذهب الأشاعرة في نفي الصفات وتأويلها, وإذا تأمله طالب العلم وجد شراً كثيراً, ووجد فيه فوائد جمة, فيه فوائد عن أحوال القلوب, وعن كثير من الأعمال, ولكن مشحون أيضاً بأشياء تضر طالب العلم.
وقال العلامة صالح بن فوزان الفوزان : فيه طوام وفيه بلايا, وإن كان فيه شيء من الخير والفوائد, لكن فيه من المهلكات, والسموم الشيء الكثير, وهو كتاب مختلط, شره أكثر من نفعه.
ولوجود هذه الأضرار والمفاسد في كتاب "إحياء علوم الدين" فقد حذر أهل العلم منه, وصنف بعضهم في ذلك, منهم: الإمام المازري قال شيخ الإسلام ابن تيمية: رد عليه المازري في كتاب أفرده. وقال الحافظ الذهبي: رأيت كتاب " الكشف والإنباء عن كتاب الإحياء " للمازري. ومنهم: الإمام ابن الجوزي قال: جمعتُ أغلاط الكتاب وسميته " إعلام الأحياء بأغلاط الإحياء " ,وأشرت إلى بعض ذلك في كتابي " تلبيس إبليس ". ومنهم: العلامة عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ, في كتابه " القول المبين في التحذير من كتاب إحياء علوم الدين "
وحتى يستفيد الناس مما في الكتاب من فوائد, ويسلموا مما فيه من مفاسد, فقد قام بعض العلماء باختصاره, كالإمام ابن الجوزي, والشيخ أحمد المقدسي الذي اختصر كتاب ابن الجوزي, وكالشيخ القاسمي, رحمهم الله جميعاً.
وقد قمتُ بانتقاء بعض ما يوجد في الكتاب من مواد نافعة, أسال الله الكريم أن ينفع بها الجميع, وأن يتجاوز عني فيما قصّرت فيه.
ابو وليد البحيرى
2021-12-20, 10:52 PM
فضيلة العلم والتعليم (2)
فهد بن عبد العزيز الشويرخ
فضيلة العلم والتعلم والتعليم:
شواهدها من القرآن قوله عز وجل: { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات}[المجادلة:11]وقال عز وجل {هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} [الزمر:9] وقال تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} [فاطر:28]
وأما الأخبار: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من يرد الله به خيراً يفقه في الدين ) وقال صلى الله عليه وسلم: ( العلماء ورثة الأنبياء )
وقال صلى الله عليه وسلم: «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب» .
وقال صلى الله عليه وسلم: ( «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به» ....الحديث)
وقال عليه الصلاة والسلام: ( « الدال على الخير كفاعله» )
وقال صلى الله عليه وسلم: ( « لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله عز وجل حكمة, فهو يقضي بها, ويعلمها الناس , ورجل آتاه الله مالاً, فسلطه على هلكته في الخير» )
وأما الآثار: فقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: العلم خير من المال, العلم يحرسك وأنت تحرس المال. والعلم حاكم والمال محكوم عليه, والمال تنقصه النفقة والعلم يزكو بالإنفاق.
وقال العالم أفضل من الصائم القائم المجاهد, وإذا مات العالم ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها إلا خلف منه.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ذللت طالباً فعززت مطلوباً.
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: تذاكر العلم بعض ليلة أحب إلي من إحيائها.
وقال ابن المبارك: عجبت لمن لم يطب العلم كيف تدعوه نفسه إلى مكرمة ؟
وقال فتح الموصلي: أليس المريض إذا منع الطعام والشراب والدواء ثلاثة أيام يموت؟ قالوا: بلى. قال: كذلك القلب إذا منع الحكمة عنه والعلم ثلاثة أيام يموت.
ولقد صدق فإن غذاء القلب: العلم والحكمة وبهما حياته, كما أن غذاء الجسد الطعام, ومن فقد العلم فقلبه مريض وموته لازم ولكنه لا يشعر به, إذ حب الدنيا وشغله بها أبطل إحساسه.
وقيل لبعض الحكماء: أي الأشياء تقتني ؟ قال: الأشياء التي إذا غرقت سفينتك سبحت معك. يعني: العلم.
وقال بعضهم: من اتخذ الحكمة لجاماً اتخذه الناس إماماً. ومن عرف بالحكمة لاحظته العيون بالوقار.
وقال الشافعي: من شرف العلم أن كل من نُسب إليه ولو في شيء حقير فرح, ومن رفع عنه حزن.
وقال الزبير بن أبي بكر: كتب إلي أبي بالعراق: عليك بالعلم فإنك إن افتقرت كان لك مالاً, وإن استغنيت كان لك جمالاً.
وقال لقمان لابنه: يا بني, جالس العلماء وزاحمهم بركبتك, فإن الله سبحانه يحيى القلوب بنور الحكمة كما يحيى الأرض بوابل السماء.
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: كن عالماً, أو متعالماً, أو مستمعاً, ولا تكن الرابع فتهلك.
وقال الشافعي: طلب العلم أفضل من النافلة.
وقيل أول العلم: الصمت ثم الاستماع ثم الحفظ ثم العمل ثم نشره.
وقال يحيى بن معاذ: العلماء أرحم بأمة محمد صلى الله عليه وسلم من آبائهم وأمهاتهم.
قيل: كيف ذلك. ؟
قال: لأن آبائهم وأمهاتهم يحفظونهم من نار الدنيا وهم يحفظونهم من نار الآخرة.
وقال بعضهم: العلماء سرج الأزمنة, كل واحد مصباح زمانه, يستضيء به أهل عصره.
وسئل ابن المبارك: من الناس ؟ فقال: العلماء.
فلم يجعل غير العالم من الناس, لأن الخاصية التي يتميز بها الناس عن سائر البهائم هو العلم, فالإنسان إنسان بما هو شريف لأجله, وليس ذلك بقوة شخصه, فإن الجمل أقوى منه, ولا بعظمه فإن الفيل أعظم منه, ولا بشجاعته فإن السبع أشجع منه, ولا بأكله فإن الثور أوسع بطناً منه, ولا ليجامع فإن أخسّ العصافير أقوى على السفاد منه.
إن أدنى درجات الفقيه أن يعلم أن الآخرة خير من الدنيا, وهذه المعرفة إذا صدقت وغلبت عليه برئ بها من النفاق والرياء.
والعلم حياة القلوب من العمى, ونور الأبصار من الظلم, وقوة الأبدان من الضعف, يبلغ به العبد منازل الأبرار والدرجات العلى,...به يعرف الحلال والحرام, وهو إمام والعمل تابعه, يلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء,
نسأل الله حسن التوفيق.
آداب المتعلم:
1-طهارة النفس عن رذائل الأخلاق ومذموم الأوصاف والصفات الرديئة مثل: الغضب والشهوة والحقد والحسد والكبر والعجب وأخواتها.
2- أن يقلل علائقه من الاشتغال بالدنيا.
3- أن لا يتكبر على العلم ولا يتأمر على معلم.
4- أن لا يخوض في فن من فنون العلم دفعة بل يراعي الترتيب ويبتدئ بالأهم.
5- أن لا يخوض في فن حتى يستوفي الفن الذي قبله, فإن العلوم بعضها طريق إلى بعض, والموفق من راعى ذلك الترتيب والتدرج.
6- أن لا يقصد الرياسة والمال والجاه ومماراة السفهاء ومباهاة الأقران
العلامات الفارقة بين علماء الدنيا وعلماء الآخرة:
من المهمات العظيمة معرفة العلامات الفارقة بين علماء الدنيا, وعلماء الآخرة, ونعنى بعلماء الدنيا علماء السوء الذين قصدهم من العلم التنعم بالدنيا, والتوصل إلى الجاه والمنزلة عند أهلها. قال الفضيل بن عياض رحمه الله: إني لأرحم ثلاثة: عزيز قوم ذل, وغني قوم افتقر, وعالماً تلعب به الدنيا.
وقال الحسن عقوبة العلماء موت القلب, وموت القلب طلب الدنيا بعمل الآخرة.
وعلماء الآخرة لهم علامات:
فمنها: أن لا يخالف فعله قوله, بل لا يأمر بالشيء ما لم يكن هو أول عامل به. قال الله تعالى: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم } [البقرة:44]
ومنها: أن تكون عنايته بتحصيل العلم النافع في الآخرة المرغب في الطاعات مجتنباً للعلوم التي يقل نفعها.
ومنها: أن لا يطلب الدنيا بعلمه.
ومنها: أن يكون مستقصياً عن السلاطين فلا يدخل عليهم ألبته مادام يجد إلى الفرار عنهم سبيلاً. بل ينبغي أن يحترز من مخالطتهم وإن جاءوا إليه, فإن الدنيا حلوة خضرة وزمانها بأيدي السلاطين.
ومنها: لا يكون مسارعاً إلى الفتيا بل يكون متوقفاً ومحترزاً ما وجد إلى الخلاص سبيلاً ومنها: أن يكون غير مائل إلى الترفه والتنعم. والتجمل بل يؤثر الاقتصاد
ومنها: أن يظهر أثر الخشية على هيئته وسيرته وحركته وسكونه ونطقه وسكوته, فعلماء الآخرة يعرفون بسيماهم في السكينة والتواضع.
ومنها: أن يكون شديد التوقي من محدثات الأمور, وليكن حريصاً على التفتيش عن أحوال الصحابة وسيرتهم وأعمالهم.
وظائف المعلم:
1-الشفقة على المتعلمين, وأن يجريهم مجرى بنيه...بأن يقصد إنقاذهم من نار الآخرة, وهو أهم من إنقاذ الوالدين ولدهما من نار الدنيا.
2- لا يطلب على إفادة العلم أجراً, ولا يقصد به جزاء ولا شكراً, بل يعلم لوجه الله تعالى وطلباً للتقرب إليه.
3- أن لا يدع من نصح المتعلم شيئاً...فينبه على أن الغرض بطلب العلوم القرب إلى الله تعالى دون الرياسة والمباهاة والمنافسة.
4- أن يزجر المتعلم عن سوء الأخلاق بطريق التعريض ما أمكن ولا يصرح. وبطريق الرحمة لا بطريق التوبيخ.
5- أن يقتصر بالمتعلم على قدر فهمه فلا يلقى إليه ما لا يبلغه عقله فينفره.
ابو وليد البحيرى
2021-12-25, 01:26 PM
كتاب أسرار الطهارة (3)
فهد بن عبد العزيز الشويرخ
المنتقى من إحياء علوم الدين للإمام الغزالي: كتاب أسرار الطهارة والصلاة والصوم
الحمد لله الذي تلطف بعباده فتعبدهم بالنظافة, قال الله تعالى: {فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين} [التوبة:108] وقال تعالى: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم} [المائدة:6]
يبعد أن يكون المراد بقوله عليه الصلاة والسلام: ( «الطهور نصف الإيمان» ) عمارة الظاهر بالتنظيف بإفاضة الماء وإلقائه, وتخريب الباطن وإبقائه مشحوناً بالأخباث والأقذار هيهات هيهات.
مراتب الطهارة:
المرتبة الأولى: تطهير الظاهر عن الأحداث وعن الأخباث والفضلات.
المرتبة الثانية: تطهير الجوارح عن الجرائم والآثام.
المرتبة الثالثة: تطهير القلب عن الأخلاق المذمومة والرذائل الممقوتة.
فضيلة الوضوء:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من توضأ فأحسن الوضوء وصلى ركعتين لم يحدث نفسه فيهما بشي من الدنيا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه»
وقال عليه الصلاة والسلام: « ألا أنبئكم بما يكفر الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ إسباغ الوضوء على المكاره, ونقل الأقدام إلى المساجد, وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط ثلاث مرات»
وقال عمر رضي الله عنه: إن الوضوء الصالح يطرد عنك الشيطان.
وقال مجاهد: من استطاع أن لا يبيت إلا طاهراً ذاكراً مستغفراً فليفعل, فإن الأرواح تبعث على ما قبضت عليه.
كتاب أسرار الصلاة
الصلاة عماد الدين, ورأس القربات, وغرة الطاعات.
فضيلة المكتوبة:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « خمس صلوات كتبهن الله على العباد, فمن جاء بهن ولم يضيع منهن شيئاً استخفافاً بحقهن, كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة, ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد, إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة»
وقال عليه الصلاة والسلام: « مثل الصلوات الخمس كمثل نهر عذب غمر بباب أحدكم يقتحم فيه كل يوم خمس مرات, فما ترون ذلك يبقى من درنه, قالوا: لا شيء, قال: فإن الصلوات الحمس تذهب الذنوب كما يذهب الماء الدرن»
وسئل صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل ؟ قال: الصلاة على وقتها.
فضيلة الجماعة:
قال صلى الله عليه وسلم: ( صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة)
وروى أبو هريرة أنه صلى الله عليه وسلم فقد ناساً في بعض الصلوات فقال: «لقد هممت أن آمر رجلاً يصلي بالناس ثم أخالف إلى رجال يتخلفون عنها فأحرق عليهم بيوتهم»
قال سعيد بن المسيب: ما أذن مؤذن منذ عشرين سنة إلا وأنا في المسجد.
فضيلة الخشوع وحضور القلب:
اعلم أن أدلة ذلك كثيرة فمن ذلك قوله تعالى: {وأقم الصلاة لذكري} [طه:14] وظاهر الأمر الوجوب, والغفلة تضاد الذكر, فمن عفل في جميع صلاته فكيف يكون مقيماً للصلاة لذكره.
كتاب أسرار الصوم
الحمد لله الذي أعظم على عباده المنة, بما دفع عنهم كيد الشيطان,...إذ جعل الصوم حصناً لأوليائه وجُنّة, وفتح لهم به أبواب الجنة. قال الله تعالى: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} [الزمر:10] والصوم نصف الصبر.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك, يقول الله عز وجل: إنما يذر شهوته وطعامه وشرابه لأجلي, فالصوم لي وأنا أجزي به»
وقال صلى الله عليه وسلم: « للجنة باب يقان له الريان, لا يدخله إلا الصائمون» وقال عليه الصلاة والسلام: «للصائم فرحتان, فرحة عند إفطاره, وفرحة عند لقاء ربه»
صوم الصالحين:
صوم الصالحين...تمامه بستة أمور:
الأول: غض البصر...إلى كل ما يذم ويكره, وإلى كل ما يشغل القلب عن ذكر الله.
الثاني: حفظ اللسان عن الهذيان والكذب والغيبة والنميمة والفحش والخصومة
الثالث: كف السمع عن الإصغاء إلى كل مكروه لأن كل ما حرم قوله حرم الإصغاء إليه
الرابع: كف الجوارح عن الآثام من اليد والرجل, وكف البطن عن الشبهات وقت الإفطار فلا معنى للصوم وهو الكف عن الطعام الحلال ثم الإفطار على الحرام.
الخامس: أن لا يستكثر من الطعام الخلال وقت الإفطار بحيث يمتلئ جوفه.
السادس: أن يكون قلبه معلقاً بين الخوف والرجاء, إذ ليس يدري أيقبل صومه فهو من المقربين, أو يرد عليه فهو من الممقوتين.
ابو وليد البحيرى
2022-01-05, 04:37 PM
كتاب أسرار الزكاة (4)
فهد بن عبد العزيز الشويرخ
الله تعالى جعل الزكاة إحدى مباني الإسلام....وشدد الوعيد على المقصرين فيها, فقال: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم} [التوبة:34] ومعنى الإنفاق في سبيل الله إخراج حق الزكاة.
آداب المزكي:
اعلم أن على مريد طريق الآخرة بزكاته وظائف:
الوظيفة الأولى: التطهير من صفة البخل, فإنه من المهلكات, قال تعالى: { ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} [الحشر:9]
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث مهلكات: شح مطاع, وهوى متبع, وإعجاب المرء بنفسه»
الوظيفة الثانية: التعجيل عن وقت الوجوب إظهاراً للرغبة في الامتثال بإيصال السرور إلى قلوب الفقراء, ومبادرة لعوائق الزمان أن تعوق عن الخيرات
الوظيفة الثالثة: الإسرار, فإن في ذلك أبعد عن الرياء والسمعة. قال تعالى: « وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم» [البقرة:271]
الوظيفة الرابعة: أن يظهر حيث يعلم أن في إظهاره ترغيباً للناس في الاقتداء, قال الله عز وجل: « إن تبدوا الصدقات فنعما هي» [البقرة:271]
الوظيفة الخامسة: أن لا يفسد صدقته بالمن والأذى, قال الله تعالى: { لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} [البقرة:264]
الوظيفة السادسة: شكر النعمة, فإن لله عز وجل على عبده نعمة في نفسه, وفي ماله.
الوظيفة السادسة: أن يستصغر العطية, فإنه إن استعظمها أُعجب بها, والعجب من المهلكات, وهو محبط للأعمال, قال تعالى: {ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً } [التوبة:25]
ويُقال إن الطاعة كلما استصغرت عظمت عند الله عز وجل, والمعصية كلما استعظمت صغرت عند الله عز وجل.
وقيل: لا يتم المعروف إلا بثلاثة أمور: تصغيره, وتعجليه, وستره.
الوظيفة السابعة: أن ينتقى من ماله...أطيبه فإن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيب
وظائف القابض:
الأولى: أن يعلم أن الله عز وجل أوجب صرف الزكاة إليه ليكفي همه,...فليأخذ ما يأخذه...رزقاً له وعوناً على الطاعة,...فإن استعان به معصية الله كان كافراً لأنعم الله عزوجل, مستحقاً للبعد والمقت من الله سبحانه.
الثانية: أن يشكر المعطي ويدعو له, ويثني عليه.
الثالثة: أن ينظر فيما يأخذه, فإن لم يكن من حل تورع عنه.{ومن يتق الله يجعل له مخرجاً * ويرزقه من حيث لا يحتسب} [الطلاق:2_3] ولن يعدم المتورع عن الحرام فتوحاً من الحلال.
الرابعة: أن يتوقى مواقع الريبة والاشتباه في مقدار ما يأخذه, فلا يأخذ إلا المقدار المباح, ولا يأخذ إلا إذا تحقق أنه موصوف بصفة الاستحقاق.
فضل صدقة التطوع:
قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: «اتقوا النار ولو بشق تمرة, فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة »
وقال صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد مسلم يتصدق بصدقة من كسب طيب, ولا يقبل الله إلا طيباً إلا كان الله أخذها بيمينه فيربيها كما يربي أحدكم فصيله حتى تبلغ التمرة مثل أحد»
قال لقمان لابنه: إذا أخطأت خطيئة فأعط الصدقة.
قال عبدالعزيز بن أبي رواد: كان يقال ثلاثة من كنوز الجنة: كتمان المرض, وكتمان الصدقة, وكتمان المصيبة.
إخفاء الصدقة:
الإخفاء فيه معان:
الأول: أنه أبقى للستر على الآخذ, فإن أخذه ظاهراً, هتك لستر المروءة, وكشف عن الحاجة, وخروج عن هيئة التعفف والتصون المحبوب, الذي يحسب الجاهل أهله أغنياء من التعفف.
الثاني: أنه أسلم لقلوب الناس وألسنتهم, فإنهم ربما يحسدون, أو ينكرون عليه أخذه, ويظنون أنه آخذ مع الاستغناء, أو ينسبونه إلى أخذ زيادة, والحسد وسوء الظن والغيبة من كبائر الذنوب, وصيانتهم عن هذه الجرائم أولى.
الثالث: إعانة المعطي على إسرار العمل, فإن فضل السر على الجهر في الإعطاء أكثر, والإعانة على إتمام المعروف معروف.
الرابع: أن في إظهاره الأخذ ذلاً وامتهاناً, وليس للمؤمن أن يذل نفسه.
ابو وليد البحيرى
2022-01-05, 04:40 PM
كتاب أسرار الحج (5)
فهد بن عبد العزيز الشويرخ
آداب الحاج:
الأول: أن تكون النفقة حلالاً, وتكون اليد خالية من تجارة تشغل القلب وتفرق الهم, حتى يكون القلب مطمئناً منصرفاً إلى ذكر الله تعالى, وتعظيم شعائره.
الثاني: التوسع في الزاد, وطيب النفس بالبذل, والإنفاق, من غير تقتير, ولا إسراف, وأعنى بالإسراف: التنعم بأطيب الأطعمة, والترفه بشرب أنواعها, على عادة المترفين. فأما كثرة البذل فلا سرف فيه, إذ لا خير في السرف, ولا سرف في الخير, كما قيل.
الثالث: ترك الرفث والفسوق والجدال. والرفث: اسم جامع لكل لغو وخنى, وفحش في الكلام, ويدخل فيه مغازلة النساء ومداعبتهن, والتحدث بشأن الجماع ومقدماته.
والفسق: اسم جامع لكل خروج عن طاعة الله عز وجل.
والجدال: هو المبالغة في الخصومة والمماراة بما يورث الضغائن,...فلا ينبغي أن يكون كثير الاعتراض على رفيقه, وعلى غيره, بل يلين جناحه, ويخض جناحه, للسائرين إلى بيت الله عز وجل, ويلزم حسن الخلق, وليس حسن الخلق كف الأذى, بل احتمال الأذى.
الرابع: أن يكون غير مستكثر من الزينة, ولا مائل إلى أسباب التفاخر والتكاثر.
الخامس: أن يكون طيب النفس بما أنفقه من نفقة وهدي....فكل خسران أصابه ثواب فلا يضيع منه شيء عند الله عز وجل.
من علامة قبول الحج:
يقال إن من علامة قبول الحج ترك ما كان عليه من المعاصي, وأن يتبدل بإخوانه البطالين إخواناً صالحين, وبمجالس اللهو والغفلة مجالس الذكر واليقظة.
الاعتبار بأعمال الحج:
لا تغفل عن أمور الآخرة في شيء مما تراه, فإن كل أحوال الحاج دليل على أحوال الآخرة.
وليعظم في نفسه قدر البيت, وقدر رب البيت, وليعلم أنه عزم على أمر رفيع شأنه, خطير أمره....وليجعل عزمه خالصاً لوجه الله سبحانه, بعيداً عن شوائب الرياء والسمعة, وليتحقق أنه لا يقبل من قصده وعمله إلا الخالص.
فإن كنت راغباً في قبول زيارتك, فنفذ أوامره, وردّ المظالم, وتب إليه أولاً من جميع المعاصي,....وتذكر عند....السفر للحج....السفر للآخرة فإن ذلك بين يديه على القرب,...فلا ينبغي أن تغفل عن ذلك السفر عند الاستعداد لهذا السفر.
الزاد:
ليطلبه من موضع حلال...وليتذكر أن سفر الآخرة أطول من هذا السفر, وأن زاده التقوى وأن ما عداه مما يظن أنه زاده يتخلف عنه عند الموت, ويخونه فلا يبقى معه...فليحذر أن تكون أعماله التي هي زاده إلى الآخرة لا تصحبه بعد الموت, بل يفسدها شوائب الرياء وكدورات التقصير.
الراحلة:
ليشكر الله بقلبه على تسخير الله عز وجل له لتحمل عنه الأذى وتخفف عنه المشقة, وليتذكر عنده المركب الذي يركبه إلى دار الآخرة, وهي الجنازة التي يحمل عليها.
ثوبي الإحرام:
ليتذكر عنده الكفن, ولفه فيه.
الخروج من البلد:
ليعلم عنده أنه فارق الأهل والوطن....في سفر لا يضاهي أسفار الدنيا, فليحضر في قلبه ماذا يريد, وأين يتجه, وزيارة من يقصد ؟ وأنه متوجه إلى ملك الملوك في زمرة الزائرين له, الذين نودوا فأجابوا وليحضر في قلبه رجاء الوصول والقبول لا إدلالاً بأعماله.
وليرج أنه إن لم يصل إليه وأدركته المنية في الطريق, لقي الله عز وجل وافداً إليه, إذ قال جل جلاله: ( ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله ) [النساء:100]
الإحرام والتلبية من الميقات:
ليعلم أن معناه إجابة نداء الله عز وجل, فارج أن تكون مقبولاً, واخش أن يقال لك لا لبيك, ولا سعديك, فكن بين الرجاء والخوف متردداً, وعن حولك وقوتك متبرئاً, وعلى فضل الله عز وجل وكرمه متكلاً.
الطواف بالبيت:
أحضر في قلبك فيه التعظيم, والخوف, والرجاء, والمحبة.
الوقوف بعرفة:
اذكر بما ترى من ازدحام الخلق وارتفاع الأصوات واختلاف اللغات عرصات القيامة, واجتماع الأمم مع الأنبياء, واقتفاء كل أمة بنبيها....وإذ تذكرتك ذلك فالزم قلبك الضراعة والابتهال إلى الله عز وجل.
رمي الجمار:
اقصد به الانقياد للأمر إظهاراً للرق والعبودية.
ابو وليد البحيرى
2022-01-13, 12:02 PM
كتاب آداب تلاوة القرآن (6)
فهد بن عبد العزيز الشويرخ
الحمد لله الذي امتن على عباده بنبيه المرسل صلى الله عليه وسلم وكتابه المنزل, { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيمٍ حميدٍ} [فصلت:42] وقال تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر:9] ومن أسباب حفظه في القلوب والمصاحف استدامة تلاوته, والمواظبة على دراسته.
آداب التلاوة:
الأول: التعظيم للمتكلم, فالقارئ عند البداية بتلاوة القرآن ينبغي أن يحضر في قلبه عظمة المتكلم, ويعلم أن ما يقرؤه ليس من كلام البشر.
الثاني: حضور القلب, وترك حديث النفس, وكان بعض السلف إذا قرأ آية لم يكن قلبه فيها أعادها ثانية.
الثالث: التدبر, فالمقصود من القراءة التدبر,...وإذا لم يتمكن من التدبر إلا بترديد فليردد.
الرابع: التخلي عن موانع الفهم, فإن أكثر الناس منعوا من تفهم معاني القرآن لأسباب وحجب أسدلها الشيطان على قلوبهم...منها: أن يكون مصراً على ذنب, أو متصفاً بكبر, أو مبتلى في الجملة بهوى الدنيا مطاع, فإن ذلك سبب ظلمة القلب وصدئه....وهو أعظم حجاب للقلب, وبه حجب الأكثرون.
الخامس: أن يقدر أنه المقصود بكل خطاب في القرآن, فإن سمع أمراً أو نهياً, قدّر أنه المنهي والمأمور, وإن سمع وعداً أو وعيداً فكمثل ذلك.
السادس: أن يتأثر قلبه. قال وهيب بن الورد: نظرنا في هذه الأحاديث والمواعظ, فلم نجد شيئاً أرق للقلوب...من قراءة القرآن وتفهمه وتدبره.
كتاب الأذكار والدعوات
ليس بعد تلاوة كتاب الله عز وجل عبادة تؤدى باللسان أفضل من ذكر الله تعالى, ورفع الحاجات بالأدعية الخالصة إلى الله تعالى.
آداب الدعاء:
الأول: أن يترصد لدعائه الأوقات الشريفة, كيوم عرفة من السنة, ورمضان من الأشهر, ويوم الجمعة من الأسبوع, ووقت السحر من ساعات الليل, قال تعالى: {وبالأسحار هم يستغفرون} [الذاريات:18] وقال صلى الله عليه وسلم: «ينزل الله تعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير, فيقول عز وجل: من يدعوني فأستجيب له, من يسألني فأعطيه, من يستغفرني فأغفر له »
الثاني: أن يغتنم الأحوال الشريفة. قال صلى الله عليه وسلم: « الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد » وقال عليه الصلاة والسلام: «الصائم لا ترد دعوته»
وقال صلى الله عليه وسلم: «أقرب ما يكون العبد من ربه عز وجل وهو ساجد فأكثروا فيه من الدعاء»
قال أبو هريرة رضي الله عنه: إن أبواب السماء تفتح عند زحف الصفوف في سبيل الله, وعند نزول الغيث وعند إقامة الصلوات المكتوبة, فاغتنموا الدعاء فيها
الثالث: أن يدعو مستقبل القبلة, ويرفع يديه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن ربكم حيي كريم, يستحي من عبيده إذا رفعوا أيديهم إليه أن يردها صفراً»
الرابع: خفض الصوت بين المخافتة والجهر, قال عز وجل: {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها } [الإسراء:110] أي: بدعائك, وقد أثنى الله عز وجل على نبيه زكريا عليه السلام, حيث قال: {إذ نادى ربه نداءً خفياً} [مريم:3]
الخامس: أن لا يتكلف السجع في الدعاء, فإن حال الداعي ينبغي أن يكون حال متضرع, والتكلف لا يناسبه. قال بعضهم: ادع بلسان الذلة والافتقار, لا بلسان الفصاحة والانطلاق.
السادس: التضرع والخشوع, والرغبة والرهبة, قال الله تعالى: { إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً [الأنبياء:90] وقال عز وجل: { ادعوا ربكم تضرعاً وخفيةً} [الأعراف:55]
السابع: أن يجزم بالدعاء, ويوقن بالإجابة, ويصدق رجاءه فيه, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يقل أحدكم إذا دعا: اللهم اغفر لي إن شئت, اللهم ارحمني إن شئت, ليعزم المسألة, فإنه لا مكره له»
الثامن: أن يلح في الدعاء, ويكرر ثلاثاً. قال ابن مسعود رضي الله عنه: كان عليه السلام إذا دعا, دعا ثلاثاً, وإذا سأل, سأل ثلاثاً.) وينبغي أن لا يستبطئ الإجابة لقوله صلى الله عليه وسلم: «يستجاب لأحدكم ما لم يعجل, يقول: قد دعوت فلم يستجب لي»
التاسع: أن يفتتح الدعاء بذكر الله عز وجل, فلا يبدأ بالسؤال, قال أبو سلمة الدارني رحمه الله: من أراد أن يسأل الله حاجة فليبدأ بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم, ثم يسأله حاجته, ثم يختم بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
العاشر: وهو الأصل في الإجابة: التوبة, وردّ المظالم, والإقبال على الله عز وجل فلذلك هو السبب القريب في الإجابة. قال العباس رضي الله عنه: لم ينزل بلاء من السماء إلا بذنب, ولم يكشف إلا بتوبة.
ابو وليد البحيرى
2022-01-13, 12:05 PM
الأوراد وقيام الليل (7)
فهد بن عبد العزيز الشويرخ
الله تعالى جعل الأرض ذلولاً لعباده لا ليستقروا في مناكبها, بل ليتخذوها منزلاً فيتزودوا منها زاداً يحملهم في سفرهم إلى أوطانهم, ويكتنزون منها تحفاً لنفوسهم عملاً وفضلاً, محترزين من مصايدها ومعاطبها, ويتحققون أن العمر يسير بهم سير السفينة براكبها. فالناس في هذا العالم سفر, وأول منازله المهد, وآخرها اللحد, والوطن هو الجنة والنار. والعمر مسافة السفر, فسنوه مراحله, وشهوره فراسخه, وأيامه أمياله, وأنفاسه خطواته, وطاعته بضاعته, وأوقاته رءوس أمواله, وشهواته وأغراضه قطاع طريقه, وربحه الفوز بلقاء الله تعالى في دار السلام, مع الملك الكبير, والنعيم المقيم, وخسرانه البعد من الله تعالى مع الأنكال والأغلال والعذاب الأليم في دركات الجحيم
فالغافل في غير طاعة تقرّبه إلى الله زلفى, متعرض في يوم التغابن لغبينة, وحسرة ما لها منتهى, ولهذا الخطر العظيم, والخطب الهائل, شمر الموفقون عن ساق الجدّ, وودعوا بملاذ النفس, واغتنموا بقايا العمر, حرصاً في طلب القرب من الملك الجبار, والسعي إلى دار القرار.
واعلم...أنه لا نجاة إلا في لقاء الله تعالى, وأنه لا سبيل إلى اللقاء إلا بأن يموت العبد محباً لله تعالى, وعارفاً بالله سبحانه. وأن المحبة والأنس لا تحصل إلا من دوام الذكر والمواظبة عليه....فمن أراد....أن تترجح كفة حسناته, وتثقل موازين خيراته فليستوعب في الطاعة أكثر أوقاته, فإن خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً فأمره مخطر, ولكن الرجا غير منقطع, والعفو من كرم الله منتظر, فعسى الله تعالى أن يغفر له بجوده وكرمه.
فضيلة قيام الليل:
أما الآيات: فقوله تعالى: {( إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل)} [المزمل:20] وقوله سبحانه وتعالى: ( {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} ) [السجدة:16] وقوله تعالى: ( {استعينوا بالصبر والصلاة } ) [البقرة:153]
ومن الأخبار: قوله صلى الله عليه وسلم: «( يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد, يضرب مكان كل عقدة عليك ليل طويل فارقد, فإن استيقظ وذكر الله تعالى انحلت عقدة, فإن توضأ انحلت عقدة, فإن صلى انحلت عقدة, فأصبح نشيطاً طيب النفس, وإلا أصبح خبيث النفس كسلان )» وفي الخبر أنه ذكر عنده رجل ينام كل الليل حتى يصبح فقال: «( ذاك رجل بال الشيطان في أذنه ) »
وفي الصحيح عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن من الليل ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله تعالى خيراً إلا أعطاه الله إياه»
وقال صلى الله عليه وسلم: «( من استيقظ من الليل وأيقظ امرأته فصليا ركعتين, كتبا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات ) »
وقال علية الصلاة والسلام : «( أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل ) »
قال المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تفطرت قدماه, فقيل له: أما قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال: أفلا أكون عبداً شكوراً.
ومن الآثار: كان ابن مسعود رضي الله عنه, إذا هدأت العيون قام فيسمع له دوي كدوي النحل. قيل للحسن: ما بال المتهجدين من أحسن الناس وجوها ؟ قال: لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم نوراً من نوره.
الأسباب الميسرة لقيام الليل:
الأول: أن لا يكثر الأكل, فيكثر الشرب, فيغلبه النوم, ويثقل عليه القيام.
الثاني: أن لا يتعب نفسه بالنهار في الأعمال التي تعيا بها الجوارح, وتضعف بها الأعصاب, فإن ذلك أيضاً مجلبة للنوم.
الثالث: أن لا يترك القيلولة بالنهار, فإنها سنة للاستعانة على قيام الليل.
الرابع: أن لا يحتقب الأوزار بالنهار, فإن ذلك مما يقسي القلب, ويحول بينه وبين أسباب الرحمة. قال رجل للحسن: يا أبا سعيد, إني أبيت معافي, وأحب قيام الليل, وأعدّ طهوري, فما لي لا أقوم ؟ قال: ذنوبك قيدتك.
فالذنوب كلها تورث قساوة القلب, وتمنع من قيام الليل, وأخصها بالتأثير تناول الحرام. قال بعضهم: كم من أكلة منعت من قيام الليل.
وكما أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر, فكذلك الفحشاء تنهى عن الصلاة وسائر الخيرات.
الخامس: سلامة القلب من الحقد على المسلمين, وعن البدع, وعن فضول هموم الدنيا, فالمستغرق الهم بتدبير الدنيا لا يتيسر له القيام.
السادس: خوف يلزم القلب, مع قصر الأمل, فإنه إذا تفكر في أهوال الآخرة, ودركات جهنم طار نومه, وعظم حذره.
السابع: أن يعرف فضل قيام الليل بسماع الآيات والأخبار والآثار حتى يستحكم به رجاؤه وشوقه إلى ثوابه, فيهيجه الشوق لطلب المزيد والرغبة في درجات الجنان.
الثامن: وهو أشرف البواعث الحب لله...فإذا أحب الله تعالى أحب لا محالة...التلذذ بالمناجاة, فتحمله لذة المناجاة...على طول القيام.
ابو وليد البحيرى
2022-01-15, 03:29 PM
آداب الأكل (8)
العلم والعمل لا تمكن المواظبة عليهما إلا بسلامة البدن, ولا تصفو سلامة البدن إلا بالأطعمة والأقوات, والتناول بقدر الحاجة على تكرر الأوقات.
فمن يقدم على الأكل ليستعين به على العلم والعمل, ويقوى به على التقوى, فلا ينبغي أن يترك نفسه مهملاً سدى, يسترسل في الأكل استرسال البهائم في المرعى.
الآداب التي تتقدم الأكل:
الأول: أن يكون الطعام بعد كونه حلالاً في نفسه, طيباً في جهة مكسبه.
الثاني: غسل اليد...لأن اليد لا تخلو عن لوث في تعاطي الأعمال فغسلها أقرب إلى النظافة والنزاهة.
الثالث: أن يوضع الطعام على السفرة الموضوعة على الأرض فهو أقرب إلى فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من رفعه على المائدة.
الرابع: أن يحسن الجلسة على السفرة, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا أكل متكئاً )
الخامس: أن ينوى بأكله أن يتقوى به على طاعة الله تعالى. ويعزم مع ذلك على تقليل الأكل.
السادس: أن يرضي بالموجود من الرزق, والحاضر من الطعام, ولا يجتهد في التنعم.
السابع: أن يجتهد في تكثير الأيدي على الطعام قال رسول الله علية الصلاة والسلام: « اجتمعوا على طعامكم يبارك لكم فيه»
الآداب حال الأكل:
أن يبدأ بـــــ " بسم الله " في أوله, وبــــــ " الحمد لله " في آخره, ويجهر بذلك ليذكر به غيره. وأن يأكل باليمنى. ويصغر اللقمة, ويجود مضغها. وما لم يبتلعها لم يمد اليد إلى الأخرى, فإن في ذلك عجلة في الأكل. وأن لا يذم مأكولاً, كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعيب مأكولاً, كان إذا أعجبه أكله, وإلا تركه. وأن يأكل مما يليه, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( «كل مما يليك» ), وأن لا يأكل من وسط الطعام. ولا ينفخ في الطعام الحار, بل يصبر إلى أن يسهل أكله. وأن لا يكثر الشرب في أثناء الطعام. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا وقعت لقمة أحدكم فليأخذها, وليمط ما كان بها من أذى, ولا يدعها للشيطان»
وأما الشرب, فأدبه أن يأخذ الكوز بيمينه, ويقول: " بسم الله " ولا يشرب قائماً, ولا مضطجعاً, فإنه صلى الله عليه وسلم: " نهى عن الشرب قائماً ", وروى أنه صلى الله عليه وسلم " شرب قائماً ", ولعله كان لعذر. ولا يتنفس في الكوز, ويشرب في ثلاثة أنفاس, يحمد الله في أواخرها, ويسمى الله في أوائلها.
والكوز يدار على القوم يمنة, وقد شرب النبي صلى الله عليه وسلم لبناً, وأبو بكر رضي الله عنه عن شماله, وأعرابي عن يمينه, فناوله الأعرابي, وقال: ( الأيمن فالأيمن )
ما يستحب بعد الطعام:
يمسك قبل الشبع, ويلعق أصابعه, ثم يمسح بالمنديل, ثم يغسلها, ويشكر الله تعالى بقلبه على ما أطعمه, فيرى الطعام نعمة منه, قال الله تعالى: ({كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله} [البقرة:172] فإن أكل طعام الغير فليدع له, وإن أفطر عند قوم فليقل: أفطر عند الصائمون, وأكل طعامكم الأبرار, وصليت عليكم الملائكة.
ابو وليد البحيرى
2022-01-15, 03:32 PM
آداب النكاح (9)
فهد بن عبد العزيز الشويرخ
الترغيب في النكاح:
أما من الآيات: فقد قال الله تعالى: ( { وأنكحوا الأيامى منكم} ) [النور:32] وقال تعالى في وصف الرسل ومدحهم: ( {ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذريةً } ) [الرعد:38] ومدح أولياءه بسؤال ذلك في الدعاء, فقال: ( {والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قُرة أعين}ٍ ) [الفرقان:74]
وأما الأخبار: فقوله صلى الله عليه وسلم: ( من استطاع منكم الباءة فليتزوج, فإنه أغضُّ للبصر, وأحصن للفرج, ومن لا, فليصم فإن الصوم له وجاء) وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا جاءكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه, إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض, وفساد كبير»
وأما الآثار: فقال عمر رضي الله عنه: لا يمنع من النكاح إلا عجز أو فجور.
فوائد النكاح:
الفائدة الأولى: الولد, والمقصود إبقاء النسل, وأن لا يخلو العالم من جنس الإنس. وفي التوصل إلى الولد قربة من أربعة أوجه:
الأول: موافقة محبة الله بالسعي في تحصيل الولد إبقاء جنس الإنسان.
الثاني: السعي في محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم, ورضاه بتكثير ما به مباهاته.
الثالث: أن يبقى بعده ولداً صالحاً يدعو له.
الرابع: أن يموت الولد قبله فيكون شفيعاً له, قال صلى الله عليه وسلم: «( من مات له ثلاثة لم يبلغوا الحلم, أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم ) قيل: يا رسول واثنان ؟ قال: ( واثنان )»
الفائدة الثانية: التحصن من الشيطان, ودفع غوائل الشهوة, وغض البصر, وحفظ الفرج...فالنكاح سبب دفع غائلة الشهوة, فإن الشهوة إذا غلبت, ولم يقاومها قوة التقوى جرت إلى اقتحام الفواحش. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعائه: «( اللهم أعوذ بك من شر سمعي وبصري وقلبي وشر منيي )» فما يستعيذ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يجوز التساهل فيه لغيره.
ومن الطباع ما تغلب عليه الشهوة بحيث لا تحصنه المرأة الواحدة, فيستحب لصاحبها الزيادة على الواحدة إلى الأربع, وكان من الصحابة من له الثلاث والأربع, ومن كان له اثنتان لا يحصى, ومهماً كان الباعث معلوماً فينبغي أن يكون العلاج بقدر العلة, فالمراد تسكين النفس, فلينظر إليه في الكثرة والقلة.
الفائدة الثالثة: ترويح النفس وإيناسها بالمجالسة والنظر والملاعبة, وإراحة للقلب, وتقوية له على العبادة, فإن النفس ملول, وهي عن الحق نفور لأنه خلاف طبعها, فلو كلفت المداومة بالإكراه على ما يخالفها جمحت, وإذا روحت باللذات في بعض الأوقات قويت ونشطت.
الفائدة الرابعة: تفريغ القلب عن تدبير المنزل...فإن الإنسان...لو تكفل بجميع أشغال المنزل لضاع أكثر أوقاته, ولم يتفرغ للعلم والعمل, فالمرأة الصالحة المصلحة للمنزل عون على الدين بهذه الطريق.
الفائدة الخامسة: مجاهدة النفس بالرعاية والولاية والقيام بحقوق الأهل, والصبر على أخلاقهن, واحتمال الأذى منهن, والسعي في إصلاحهن, وإرشادهن إلى طريق الدين, والاجتهاد في كسب الحلال لأجلهن, والقيام بتربيته الأولاده, فكل هذه أعمال عظيمة الفضل.
الخصال المطيبة للعيش:
الخصال المطيبة للعيش التي لا بد من مراعاتها في المرأة ليدوم العقد وتتوفي مقاصده:
الأولى: أن تكون صالحة ذات دين, فهذا هو الأصل, وبه ينبغي الاعتناء, فإنها إن كانت ضعيفة الدين في صيانة نفسها وفرجها, أزرت بزوجها, وسودت بين الناس وجهه, وشوشت بالغيرة قلبه, وتنغص بذلك عيشه, فإن سلك سبيل الحمية والغيرة لم يزل في بلاء ومحنة, وإن سلك سبيل التساهل كان متهاوناً بدينه وعرضه, ومنسوباً إلى قلة الحمية والأنفة.
الثانية حُسن الخُلق وذلك أصل مهم, فإنها إذا كانت سليطة بذيئة اللسان, سيئة الخلق, كافرة للنعم, كان الضرر منها أكثر من النفع.
الثالثة: حسن الوجه, فذلك أيضاً مطلوب, إذ به يحصل التحصن, والطبع لا يكتفى بالذميمة غالباً, وما نقلناه من الحث على الدين, وأن المرأة لا تنكح لجمالها ليس زاجر عن رعاية الجمال, بل هو زجر عن النكاح لأجل الجمال المحض مع الفساد في الدين. قال عليه الصلاة والسلام: ( خير نسائكم من إذا نظر إليها زوجها سرته, وإذا أمرها أطاعته, وإذا غاب عنها حفظته في نفسها وماله.)
الرابعة: أن تكون خفيفة المهر وفي الخبر (من بركة المرأة, سرعة تزويجها, وسرعة رحمها [أي الولادة] ويسر مهرها) وكان عمر رضي الله عنه ينهى عن المغالاة في الصداق.
الخامسة: أن تكون المرأة ولوداً قال عليه الصلاة والسلام: ( عليكم بالولود الودود )
السادسة: أن تكون بكراً, قال عليه الصلاة والسلام لجابر رضي الله عنه, وقد تزوج ثيباً: (هلا بكراً تلاعبها وتلاعبك)
السابعة: أن تكون من أهل البيت والصلاح...فإنها ستربى بناتها وبنيها.
آداب المعاشرة وما يجري في دوام النكاح:
على الزوج مراعاة الاعتدال والأدب:
فالأدب الأول: حسن الخلق معهن, واحتمال الأذى منهن, ترحماً عليهن, لقصور عقلهن, قال الله تعالى: { ( وعاشروهن بالمعروف )} [النساء:19] واعلم أنه ليس حسن الخلق معها كف الأذى عنها, بل احتمال الأذى منها, والحلم عند طيشها وغضبها. اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كانت أزواجه تراجعنه الكلام, وتهجره الواحدة منهن يوماً إلى الليل.
الثاني: أن يزيد على احتمال الأذى بالمداعبة, والمزح, والملاعبة, فهي التي تطيب قلوب النساء. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمزح معهن, روي أنه عليه الصلاة والسلام كان يسابق عائشة في العدو, فسبقته يوماً, وسبقها في بعض الأيام, فقال عليه الصلاة والسلام: ( هذه بتلك ) وقال صلى الله عليه وسلم: ( أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وألطفهم بأهله ) وقال لقمان رحمه الله: ينبغي للعاقل أن يكون في أهله كالصبي, وإذا كان في القوم وجد رجلاً.
الثالث: أن لا ينبسط في الدعابة, وحسن الخلق, والموافقة باتباع هواها إلى حد يفسد خلقها, ويسقط بالكلية هيبته عندها, بل يراعي الاعتدال فيه, فلا يدع الهيبة والانقباض مهما رأى منكراً, ولا يفتح باب المساعدة على المنكرات ألبته, بل مهما رأى ما يخالف الشرع والمروءة تنمر وامتعض.
الرابع: الاعتدال في الغيرة, وهو أن لا يتغافل عن مبادى الأمور التي تخشى غوائلها, ولا يبالغ في إساءة الظن والتعنت وتجسس البواطن. قال عليه الصلاة والسلام: ( إن من الغيرة غيرة يبغضها الله عز وجل, وهي غيرة الرحل على أهله في غير ريبة)
الخامس: الاعتدال في الإنفاق, فلا ينبغي أن يقتر عليهن في الإنفاق, ولا ينبغي أن يسرف, بل يقتصد, قال تعالى: {( وكلوا واشربوا ولا تسرفوا )} [الأعراف:31] وقال عز وجل: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط ) [الإسراء:29]
وقال عليه الصلاة والسلام: «( دينار أنفقته في سبيل الله, ودينار أنفقته في رقبة, ودينار تصدقت به على مسكين, ودينار أنفقته على أهلك, أعظمها أجراً: الذي أنفقته على أهلك)»
وأهم ما يجب مراعاته في الإنفاق أن يطعمها من الحلال, ولا يدخل مداخل السوء لأجلها, فإن في ذلك جناية عليها, لا مراعاة لها.
السادس: أن يتعلم المتزوج من علم الحيض, وأحكامه ما يحترز به الاحتراز الواجب, ويعلم زوجته أحكام الصلاة....وأن يلقنها اعتقاد أهل السنة, ويزيل عن قلبها كل بدعة إن استمعت إليها, ويخوفها في الله إن تساهلت في أمر الدين, ويعلمها من أحكام الحيض والاستحاضة ما تحتاج إليه.
السابع: أن كان له نسوة فينبغي أن يعدل بينهن, ولا يميل إلى بعضهن, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «( من كان له امرأتان فمال إلى إحداهما دون الأخرى _ وفي لفظ _ ولم يعدل بينهما, جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل) » وإنما عليه العدل في العطاء والمبيت, وأما في الحب والوقاع فذلك لا يدخل تحت الاختيار, قال الله تعالى: {(ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم )} [النساء:129] أي: أن تعدلوا في شهوة القلب, وميل النفس, ويتبع ذلك التفاوت في الوقاع. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعدل بينهن في العطاء, والبيتوتة في الليالي, ويقول «( اللهم هذا جهدي فيما أملك ولا طاقة لي فيما تملك, ولا أملك) » يعني: الحب
الثامن: النشوز, فإذا وقع بينهما خصام ولم يلتئم أمرهما, فإن كان من جانبهما جميعاً, أو من الرجل...فلا بد من حكمين, أحدهما من أهله, والآخر من أهلها, لينظرا بينهما ويصلح أمرهما قال تعالى: { (إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما )} [النساء:35]
وأما إذا كان النشوز من المرأة خاصة فالرجال قوامون على النساء, فله أن يؤدبها ويحملها على الطاعة, ولكن ينبغي أن يتدرج في تأديبها, وهو أن يقدم أولاً الوعظ والتحذير والتخويف, فإن لم ينجح ولاها ظهره في المضجع, فإن لم ينجح ذلك فيها ضربها ضرباً غير مبرح, ولا يضرب وجهها فذلك منهي عنه, وقد قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حق المرأة على الرجل ؟ قال: ( يطعمها إذا طعم, ويكسوها إذا اكتسى ولا يقبح الوجه ولا يضرب إلا ضرباً غير مبرح ولا يهجرها إلا في البيت.)
التاسع: في الطلاق, وليعلم أنه مباح, وإنما يكون مباحاً إذا لم يكن فيه إيذاء بالباطل, ومهما طلقها فقد آذاها, ولا يباح له إيذاء الغير إلا بجناية من جانبها أو بضرورة من جانبه. قال ابن مسعود في قوله تعالى: { ( ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشةٍ مبينةٍ )} [الطلاق:1] مهما بذت على أهله, وآذت زوجها فهو فاحشة. ثم ليراع الزوج في الطلاق أربعة أمور:
الأول: أن يطلقها في طهر لم يجامعها فيه.
الثاني: أن يقتصر على طلقة واحدة فلا يجمع بين الثلاث.
الثالث: أن يتلطف في التعلل بتطليقها من غير تعنيف واستخفاف.
الرابع: أن لا يفشي سرها لا في الطلاق ولا في النكاح, يروى عن بعض الصالحين أنه أراد طلاق امرأة فقيل له: ما الذي يريبك منها ؟ فقال: العاقل لا يهتك ستر امرأته فلما طلقها قيل له: لم طلقتها ؟ فقال: ما لي ولامرأةِ غيري.
حقوق الزوج على الزوجة:
عليها طاعة زوجها في كل ما طلب منها في نفسها مما لا معصية فيه, وقد ورد في تعظيم حق الزوج عليها أخبار كثيرة, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا صلت المرأة خمسها, وصامت شهرها, وحفظت فرجها, وأطاعت زوجها دخلت جنة ربها)
وحقوق الزوج على الزوجة كثيرة, وأهمها أمران:
أحدهما: الصيانة والستر.
والآخر: ترك المطالبة بما وراء الحاجة, والتعفف عن كسبه إذا كان حراماً, وهكذا كانت عادة النساء في السلف, كان الرجل إذا خرج من منزلة, تقول له امرأته أو ابنته: إياك وكسب الحرام, فإنا نصبر على الجوع والضر, ولا نصبر على النار.
والقول الجامع في آداب المرأة من غير تطويل: أن تكون قاعدة في قعر بيتها...تحفظ بعلها في غيبته, وتطلب مسرته في جميع أمورها, ولا تخونه في نفسها وماله, ولا تخرج من بيتها إلا بأذنه, همها صلاح شأنها, وتدبير بيتها, مقبلة على صلاتها وصيامها, وتكون قانعة من زوجها بما رزق الله, وتقدم حقه على حقها وحق سائر أقاربها, متنظفة في نفسها, مستعدة في الأحوال كلها للتمتع بها إن شاء, مشفقة على أولادها, حافظة للستر عليهم, قصيرة اللسان عن سب الأولاد, ومراجعة الزوج.
ومن آدابها: أن لا تتفاخر على زوجها بجمالها, ولا تزدري زوجها لقبحه.
ومن آدابها: ملازمة الصلاح, واللعب والانبساط في حضور زوجها. ولا ينبغي أن تؤذي زوجها بحال.
ومن آدابها: أن تقوم بكل خدمة في الدار تقدر عليها.
ابو وليد البحيرى
2022-01-19, 07:39 AM
آداب الكسب والمعاش
فهد بن عبد العزيز الشويرخ
نحمد الله الذي...كور الليل على النهار, فجعل الليل لباساً, والنهار معاشاً, لينتشروا في ابتغاء فضله...فالدنيا دار التشمير والاكتساب, وليس التشمير في الدنيا مقصوراً على المعاد دون المعاش, بل المعاش ذريعة إلى المعاد ومعين عليه, فالدنيا مزرعة الآخرة, ومدرجة إليها.
فضل الكسب والحث عليه:
أما من الكتاب: فقوله تعالى: ( { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم} ) [البقرة:198] وقوله تعالى: ( { وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله} ) [المزمل:20] وقوله : ( { فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله} ) [الجمعة:10]
أما من الأخبار: فقوله صلى الله عليه وسلم: « لأن يأخذ أحدكم حبلة فيحتطب بها على ظهره, خير من يأتي رجلاً أعطاه الله من فضله, فيسأله أعطاه ,أو منعه»
وأما الآثار: فقد لقمان لابنه: يا بني, استغن بالكسب الحلال عن الفقر, فإنه ما افتقر أحد قط إلا أصابه ثلاث خصال: رقة في دينه, وضعف في عقله, وذهاب مروءته, وأعظم من هذا استخفاف الناس به.
وقال عمر رضي الله عنه: لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق, يقول: اللهم ارزقني, فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إني لأكره أن أرى الرجل فارغاً لا في أمر دنياه, ولا في أمر آخرته.
وقيل لأحمد: ما تقول فيمن جلس في بيته أو مسجده, وقال: لا أعمل شيئاً حتى يأتيني رزقي ؟ فقال أحمد: هذا رجل جهل العلم, ألم يسمع قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( إن الله جعل رزقي تحت ظل رمحي )
العدل واجتناب الظلم في المعاملة:
العدل ألا يضر بأخيه المسلم, والضابط الكلي فيه: أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه, فكل ما لو عُومِل به شقَّ عليهُ, وثقل على قلبه, فينبغي أن لا يعامل غيره به, بل ينبغي أن يستوي عنده درهمه ودرهم غيره قال بعضهم: من باع أخاه شيئاً بدرهم, وليس يصلح لو اشتراه لنفسه إلا بخمسة دوانق, فإنه قد ترك النصح المأمور به في المعاملة, ولم يحب لأخيه ما يحب لنفسه, هذه جملته.
فأما تفصيله في أربعة أمور: أن لا يثنى على السلعة بما ليس فيها, وأن لا يكتم من عيوبها وخفايا صفاتها شيئاً أصلاً, وأن لا يكتم في وزنها ومقدارها شيئاً, وأن لا يكتم من سعرها ما لو عرفه المعامل لامتنع عنه.
الأول: فهو ترك الثناء, فإن وصفه للسلعة إن كان بما ليس فيها فهو كذب, فإن قبل المشتري ذلك فهو تلبيس وظلم مع كونه كذباً, وإن لم يقبل فهو كذب وإسقاط مروءة. وهو محاسب على كلمة تصدر منه, {ما يلفظ من قولٍ إلا لديه رقيب عتيد}[ق:18]
ولا ينبغي أن يحلف عليه ألبته, فإنه إن كان كاذباً فقد جاء باليمين الغموس, وهي من الكبائر التي تذر الديار بلاقع, وإن كان صادقاً فقد جعل الله تعالى عرضة لأيمانه, وقد أساء فيه, إذ الدنيا أخس من أن يقصد ترويجها بذكر اسم الله من غير ضرورة. وفي الخبر: ( اليمين الكاذبة منفقة للسلعة ممحقة للبركة ) وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ثلاثة لا ينظر الله يوم القيامة: عائل مستكبر, ومنان بعطيته, ومنفق سلعته بيمينه )
الثاني: أن يظهر جميع عيوب المبيع خفيها وجليها, ولا يكتم منها شيئاً, فذلك واجب, فإن أخفاه كان ظالماً غاشاً, والغش حرام, وكان تاركاً للنصح في المعاملة, والنصح واجب. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «( من غشنا فليس منا )» ويدل على وجوب النصح بإظهار العيوب ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بايع جريراً على الإسلام, ذهب لينصرف, فجذب ثوبه, واشترط عليه النصح لكل مسلم.
إن القيام بحقوق الله مع المخالطة والمعاملة لا يقوم بها إلا الصديقون, ولن يتيسر ذلك على العبد إلا بأن يعتقد أمرين:
أحدهما: أن تلبيسه العيوب وترويجه السلع لا يزيد في رزقه, بل يمحقه ويذهب ببركته وما يجمعه من مفرقات التلبيسات يهلكه الله دفعة واحدة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «( البيعان إذا صدقا ونصحا, بورك لهما في بيعهما, وإن كتما وكذبا نزعت بركة بيعهما)»
ومن عرف أن الدرهم الواحد قد يبارك فيه حتى يكون سبباً لسعادة الإنسان في الدنيا والدين, والآلاف المؤلفة قد ينزع الله البركة منها, حتى تكون سبباً لهلاك مالكها, بحيث يتمنى الإفلاس منها, ويراه أصلح له في بعض أحواله, فيعرف معنى قولنا: إن الخيانة لا تزيد في المال, والصدقة لا تنقص منه.
المعنى الثاني: الذي لا بد من اعتقاده, ليتم له النصح ويتيسر عليه: أن يعلم أن ربح الآخرة وغناها خير من ربح الدنيا, وأن فوائد أموال الدنيا تنقضي بانقضاء العمر, وتبقى مظالمها وأوزارها, فكيف يستجيز العاقل أن يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير, والخير كله في سلامة الدين.
الثالث: ألا يكتم في المقدار شيئاً, وذلك بتعديل الميزان, والاحتياط فيه وفي الكيل, فينبغي أن يكيل كما يكتال, قال الله تعالى: {( ويل للمطففين * الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون * وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون)} [المطففين:1_3] ولا يخلص من هذا إلا بأن يرجح إذا أعطى. قال بعض السلف: عجبت للتاجر والبائع كيف ينجو, يزن ويحلف بالنهار, وينام بالليل.
الرابع: أن يصدق في سعر الوقت, ولا يخفي منه شيئاً, فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تلقى الركبان, ونهى عن النجش.
الإحسان في المعاملة:
أمر الله تعالى بالعدل والإحسان جميعاً, والعدل سبب النجاة فقط, وهو يجري من التجارة مجرى رأس المال. والإحسان سبب الفوز ونيل السعادة, وهو يجري من التجارة مجرى الربح, ولا يعد من العقلاء من قنع في معاملات الدنيا برأس ماله, فكذا في معاملات الآخرة, فلا ينبغي للمتدين أن يقتصر على العدل واجتناب الظلم, ويدع أبواب الإحسان, وقد قال الله: { ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان )} [النحل:90] ونعنى بالإحسان: فعل ما ينتفع به المعامل, وهو غير واجب عليه, ولكنه تفضل منه...وتنال مرتبة الإحسان بواحد من أمور:
الأول: أن لا يغبن صاحبه بما لا يتغابن به في العادة.
الثاني: في استيفاء الثمن وسائر الديون مرة بالمسامحة وحط البعض, ومرة بالتأخير. قال عليه الصلاة والسلام: ( رحم الله امرأً سهل البيع, سهل الشراء سهل القضاء)
الثالث: في توفية الدين. ومن الإحسان فيه حسن القضاء. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خيركم أحسنكم قضاء»
شفقة التاجر على دينه:
تتم شفقة التاجر على دينه بمراعاة أمور:
الأول: حسن النية في ابتداء التجارة, فلينو بها الاستعفاف عن السؤال.
الثاني: أن يقصد القيام في صنعته أو تجارته بفرض من فروض الكفايات.
الثالث: أن لا يمنعه سوق الدنيا عن سوق الآخرة, وأسواق الآخرة المساجد, قال الله تعالى: { ( رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيعُ عن ذكرِ الله وإقامِ الصلاة وإيتاءِ الزكاةِ)} [النور:37] وقال الله تعالى: {( في بيوتٍ أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمُهُ ) } [النور:36] فينبغي أن يجعل أول النهار إلى وقت دخول السوق لآخرته, فيلازم المسجد, ويواظب على الأوراد. وكان عمر رضي الله عنه يقول للتجار: اجعلوا أول نهاركم لآخرتكم, وما بعده لدنياكم. وكان صالحو السلف يجعلون أول النهار وآخره للآخرة والوسط للدنيا. فما يفوته من فضيلة التكبيرة الأولى مع الإمام في أول الوقت لا توازيها الدنيا بما فيها وقد كان السلف يبتدرون عند الآذان ويخلون الأسواق
الرابع: أن لا يقتصر على هذا, بل يلازم ذكر الله سبحانه في السوق, ويشتغل بالتهليل والتسبيح, فذكر الله في السوق بين الغافلين أفضل.
الخامس: أن لا يكون شديد الحرص على السوق والتجارة, وذلك بأن يكون أول داخل وآخر خارج.
السادس: أن لا يقتصر على اجتناب الحرام, بل يتقى مواقع الشبهات ومواطن الريب.
السابع: ينبغي أن يراقب جميع مجارى معاملته...فإنه مراقب ومحاسب, فليعد الجواب ليوم الحساب والعقاب, في كل فعله وقوله, لِمَ أقدم عليها ؟ ولأجل ماذا ؟
ابو وليد البحيرى
2022-01-19, 07:42 AM
الحلال والحرام, آداب السفر (11)
فهد بن عبد العزيز الشويرخ
كتاب الحلال والحرام
قال الله تعالى: ( كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً ) [المؤمنون:51] قيل إن المراد به: الحلال, وقال تعالى: {( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل )} [البقرة:188] والآيات الواردة في الحلال والحرام لا تحصى. الدين للإمام
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « رب أشعث أغبر مشرد في الأسفار, مطعمه حرام, وملبسه حرام, وغذي بالحرام, يرفع يديه, فيقول: يا رب, يا رب, فأنى يستجاب له »
وقال عليه الصلاة والسلام: « كل لحم نبت من حرام فالنار أولى به »
وورد أن الصديق رضي الله عنه شرب لبناً من كسب عبده, ثم سأل عبده فقال: تكهنت لقوم فأعطوني, فأدخل أصبعه في فيه, وجعل يقيء.
وقالت عائشة رضي الله عنها: إنكم تغفلون عن أفضل العبادة, وهو الورع.
وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: ما أدرك من أدرك, إلا من كان يعقل ما يدخل جوفه.
وقال يحيى بن معاذ: الطاعة خزانه من خزائن الله, إلا أن مفاتحها الدعاء, وأسنانه لقم الحلال.
وقال سهل رحمه الله: من أكل الحرام عصت جوارحه, شاء أم أبى, علم أو لم يعلم, ومن كانت طعمته حلالاً أطاعته جوارحه, ووفقت للخيرات.
وعن علي رضي الله عنه قال: إن الدنيا حلالها حساب, وحرامها عذاب.
وروى أن بعض الصالحين قال: نحن لا نأكل إلا حلالاً, فلذلك تستقيم قلوبنا.
كتاب آداب السفر
السفر وسيلة إلى الخلاص عن مهروب, أو الوصول إلى مطلوب ومرغوب فيه...فإن كان مطلبه العلم والدين, أو الكفاية للاستعانة على الدين, كان من سالكي سبيل الآخرة.
والسفر نوع حركة ومخالطة, وفيه فوائد وله آفات.
أقسام السفر:
القسم الأول: السفر في طلب العلم, قال عليه الصلاة والسلام: ( من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة.)
ورحل جابر بن عبدالله رضي الله عنه, من المدينة إلى مصر, شهراً في حديث بلغه, وكان سعيد بن المسيب يسافر الأيام في طلب الحديث الواحد.
القسم الثاني: أن يسافر لأجل العبادة, إما لحج, أو جهاد.
القسم الثالث: أن يكون السفر للهرب من سبب مشوش للدين.
القسم الرابع: السفر هرباً مما يقدح في البدن, أو في المال.
فهذه أقسام الأسفار...ولتكن نيته الأخرة في جميع أسفاره...فلا يسافر إلا إذا كان زيادة دينه في سفره, ومهما وجد قلبه متغيراً إلى نقصان فيقف ولينصرف.
وينوي في دخول كل بلدة أن يرى شيوخها, ويجتهد في أن يستفيد من كل واحد منهم أدباً, أو كلمة لينتفع بها.
ويلازم في الطريق الذكر, وقراءة القرآن.
ابو وليد البحيرى
2022-01-20, 09:46 PM
الأخوة والصحبة (1)
(12)
فهد بن عبد العزيز الشويرخ
التحاب في الله تعالى, والأخوة في دينه من أفضل القربات, وألطف ما يستفاد من الطاعات, ولها شروط بها يلتحق المتصاحبون بالمتحابين في الله تعالى, وفيها حقوق بمراعاتها تصفو الأخوة عن شوائب الكدورات, ونزغات الشيطان.
فضيلة الألفة والأخوة:
أعلم أن الألفة ثمرة حسن الخلق, والتفرق ثمرة سوء الخلق, فحسن الخلق يوجب التآلف, والتوافق, وسوء الخلق يثمر التباغض, والتحاسد, والتدابر.
وقد ورد الثناء على الألفة, سيما إذا كانت الرابطة هي التقوى, والدين, وحب الله, من الآيات والأخبار والآثار ما فيه كفاية ومقنع. قال الله تعالى مظهراً عظيم منته على الخلق بنعمة الألفة: { لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم } [الأنفال:63] وقال: { فأصبحتم بنعمته إخواناً } [آل عمران:103] أي بالألفة, وقال صلى الله عليه وسلم: « إن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي, اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي » وقال علي رضي الله عنه: عليكم بالإخوان, فإنهم عدة في الدنيا والآخرة, ألا تسمع إلى قول أهل النار: {(فما لنا من شافعين*ولا صديق حميم)} [الشعراء:100_101]
البغض في الله:
اعلم أن كل من يحب في الله, لا بد أن يبغض في الله, فإنك إن أحببت إنساناً لأنه مطيع لله, ومحبوب عند الله, فإن عصاه فلا بد أن تبغضه, لأنه عاص لله, وممقوت عند الله, ومن أحب بسبب, فبالضرورة يبغض لضده, وهذا متلازمان لا ينفصل أحدهما عن الآخر.
الصفات المشروطة فيمن تختار صحبته:
اعلم أنه لا يصلح للصحبة كل إنسان. قال صلى الله عليه وسلم: المرء على دين خليله, فلينظر أحدكم من يخالل ) ولا بد أن يتميز بخصال وصفات يرغب بسببها في صحبته.....فينبغي أن يكون فيمن تؤثر صحبته خمس خصال: أن يكون عاقلاً, حسن الخلق, غير فاسق, ولا مبتدع, ولا حريص على الدنيا.
أما العقل فهو رأس المال, وهو الأصل فلا خير في صحبة الأحمق, فإلى الوحشة والقطيعة ترجع عاقبتها وإن طالت, فالأحمق قد يضرك وهو يريد نفعك وإعانتك من حيث لا يدري.
وأما حسن الخلق, فلا بد منه, إذ ربّ عاقل يدرك الأشياء على ما هي عليه, ولكن إذا غلبه غضب, أو شهوة, أو بخل, أو جبن أطاع هواه, وخالف ما هو المعلوم عنده لعجزه عن قهر صفاته وتقويم أخلاقه, فلا خير في صحبته. قال بعض الأدباء: لا تصحب إلا من يكتم سرك ويستر عيبك ويكون معك في النوائب ويؤثرك بالرغائب
وأما الفاسق المصر على الفسق, فلا فائدة في صحبته, لأن من يخاف الله لا يصرّ على كبيرة, ومن لا يخاف الله لا تؤمن غائلته, ولا يوثق بصداقته, بل يتغير بتغير الأغراض. قال عمر رضي الله عنه: فلا تصحب الفاجر فتتعلم من فجوره, ولا تطلعه على سرك, واستشر في أمرك الذين يخشون الله تعالى.
وأما المبتدع ففي صحبته خطر سراية البدعة, وتعدى شؤمها إليه, فالمبتدع مستحق للهجر والمقاطعة, فكيف تؤثر صحبته ؟ قال عمر رضي الله عنه في الحث على طلب التدين في الصديق: عليك بإخوان الصدق تعش في أكنافهم, فإنهم زينة في الرخاء, وعدة في البلاء,...واحذر صديقك إلا الأمين من القوم, ولا أمين إلا من خشى الله.
وأما الحريص على الدنيا, فصحبته سم قاتل, لأن الطباع مجبولة على التشبه والاقتداء, بل الطبع يسرق من الطبع من حيث لا يدري صاحبه, فمجالسة الحريص على الدنيا تحرك الحرص, ومجالسة الزاهد تزهد في الدنيا, فلذلك تكره صحبة طلاب الدنيا, ويستحب صحبة الراغبين في الآخرة.
قال بعض العلماء: لا تصحب إلا أحد رجلين: رجل تتعلم منه شيئاً في أمر دينك فينفعك, أو رجل تُعلّمهُ شيئاً في أمرِ دينه فيقبلُ منك, والثالث فاهرب منه.
وقال بعضهم: الناس أربعة: فواحد حلو كله فلا يشبع منه, وآخر مرّ كله فلا يؤكل منه, وآخر فيه حموضة فخذ من هذا قبل أن يأخذ منك, وآخر فيه ملوحة فخذ منه وقت الحاجة فقط.
وقال جعفر الصادق رضي الله عنه: لا تصحب خمسة: الكذاب فإنك منه على غرور, وهو مثل السراب يقرب منك البعيد, ويبعد منك القريب, والأحمق فإنك لست منه على شيء, يريد أن ينفعك فيضرك, والبخيل فإنه يقطع بك أحوج ما تكون أحوج إليه, والجبان فإنه يسلمك ويفر عند الشدة, والفاسق فإنه يبيعك بأكلة أو أقل منها. فقيل: وما أقل منها ؟ قال: الطمع فيها ثم لا ينالها.
قال المأمون: الإخوان ثلاثة: أحدهم مثله مثل الغذاء لا يستغنى عنه, والآخر مثله مثل الدواء يحتاج إليه في وقت دون وقت, والثالث: مثل الداء, لا يحتاج إليه قط.
قال أبو ذر رضي الله عنه: الوحدة خير من جليس السوء, والجليس الصالح خير من الوحدة.
قال لقمان: يا بني جالس العلماء, وزاحمهم بركبتيك, فإن القلوب لتحيا بالحكمة, كما تحيا الأرض الميتة بوابل المطر.
ابو وليد البحيرى
2022-01-20, 09:49 PM
الأخوة والصحبة والمعاشرة(2)
(13)
فهد بن عبد العزيز الشويرخ
حقوق الأخوة والصحبة:
الحق الأول: المواساة بالمال.
الحق الثاني: الإعانة بالنفس في قضاء الحاجات, ولها درجات فأدناها القيام بالحاجة عند السؤال والقدرة, لكن مع البشاشة والاستبشار, وإظهار الفرح وقبول المنة.
الحق الثالث: السكوت عن ذكر عيوبه في غيبته وحضرته, إلا إذا وجب عليه النطق في أمر بمعروف, أو نهي عن منكر, ولم يجد رخصة في السكوت, فإذ ذلك لا يبالي بكراهته, فإن ذلك إحسان إليه في التحقيق, وإن كان يظن أنها إساءة في الظاهر.
أما ذكر مساوئه وعيوبه ومساوئ أهله, فهو من الغيبة, وذلك حرام في حق كل مسلم, ويزجرك عنه أمران:
الأول: أن تطالع أحوال نفسك, فإن وجدت فيها شيئاً واحداً مذموماً, فهوّن على نفسك ما تراه من أخيك, وقدّر أنه عاجز عن قهر نفسه في تلك الخصلة الواحدة, كما أنك عاجز عما أنت مبتلى به.
الثاني: أن تعلم أنك لو طلبت منزهاً من كل عيب اعتزلت عن الخلق كافة, ولن تجد من تصحبه أصلاً, فما من أحد من الناس إلا وله محاسن ومساوئ, فإذا غلبت المحاسن المساوئ فهو الغاية والمنتهى. قال ابن المبارك: المؤمن يطلب المعاذير, والمنافق يطلب العثرات.
وكما يجب عليك السكوت بلسانك عن مساويه فيجب عليك ترك إساءة الظن به, وحدّه أن لا تحمل فعله على وجه فاسد, ما أمكن أن تحمله على وجه حسن, فأما ما انكشف بيقين ومشاهدة...فعليك أن تحمل ما تشاهد على سهو ونسيان ما أمكن.
وستر العيوب والتجاهل والتغافل عنها شيمة أهل الدين.
الحق الرابع: التعليم والنصيحة: فإذا كنت غنياً بالعلم فعليك مواساته من فضلك وإرشاده إلى كل ما ينفعه في الدين والدنيا, فإن علمته وأرشدته ولم يعمل بمقتضى العلم, فعليك النصيحة, ولكن ينبغي أن يكون ذلك في سر, لا يطلع عليه أحد, فما كان على الملأ فهو توبيخ وفضيحة, وما كان في السر فهو شفقة ونصيحة, إذا قال صلى الله عليه وسلم: « المؤمن مرآة المؤمن » أي: يرى منه ما لا يرى من نفسه, فيستفيد المر بأخيه معرفة عيوب نفسه, ولو انفرد لم يستفيد, كما يستفيد بالمرآة الوقوف على عيوب صورته الظاهرة. وقال الشافعي رحمه الله: من وعظ أخاه سراً فقد نصحه وزانه, ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه. وقيل لمسعر: أتحب من يخبرك بعيوبك ؟ قال: إن نصحني فيما بيني وبينه فنعم, وإن قرعني بين الملأ فلا.
فإن قلت: فإذا كان في النصح ذكر عيوب ففيه إيحاش القلب, فكيف يكون ذلك من حق الأخوة ؟ فاعلم أن تنبيه عين الشفقة, وهو استمالة القلوب, أعنى قلوب العقلاء, وأما الحمقى فلا يلتفت إليهم, فإن من نبهك على فعل مذموم تعاطيته, أو صفة مذمومة اتصفت بها لتزكى نفسك عنها, كان كمن نبهك على حية أو عقرب تحت ذيلك, وقد همت بإهلاكك, فإن كنت تكره ذلك فما أشد حمقك, فالصفات الذميمة عقارب, وحيات, وهي في الآخرة مهلكات, فإنها تلدغ القلوب والأرواح, وألمها أشدُّ مما يلدغ الظواهر والأجساد. ولذلك كان عمر رضي الله عنه يقول: رحم الله امرأً أهدى إلى أخيه عيوبه.
وهذا في عيب هو غافل عنه, فأما ما علمت أنه يعلمه من نفسه, فإنما هو مقهور عليه من طبعه, فلا ينبغي أن يكشف فيه ستره إن كان يخفيه, وإن كان يظهره فلا بد من التلطف في النصح بالتعريض وبالتصريح إلى حد لا يؤدي إلى الإيحاش.
الحق الخامس: الأخوة كما تقتضي السكوت عن المكاره تقتضي أيضاً النطق بالمحاب, وقد قال عليه الصلاة والسلام: « إذا أحب أحدكم أخاه فليخبره » وإنما أمر بالأخبار لأن ذلك يوجب زيادة حب, فإنه إذا عرف أنك تحبه أحبك بالطبع, لا محاله, فإذا عرفت أنه أيضاً يحبك, زاد حبك لا محالة, فلا يزال الحب يتزايد من الجانبين ويتضاعف. ومن ذلك: أن يدعوه بأحب أسمائه إليه في غيبته وحضوره, قال عمر رضي الله عنه: ثلاث يصفين لك ود أخيك: أن تسلم عليه إذا لقيته, وتوسع له في المجلس, وأن تدعوه بأحب أسمائه إليه. ومن ذلك: أن تثنى عليه بما تعرف من محاسن أحواله عند من يؤثر هو الثناء عنده, فإن ذلك من أعظم الأسباب في جلب المحبة....من غير إفراط أو كذب. ومن ذلك: أن تبلغه ثناء من أثنى عليه مع إظهار الفرح, فإن إخفاء ذلك محض الحسد. وأعظم من ذلك تأثيراً في المحبة: الذب عنه في غيبته مهما قصد بسوء....فحق الأخوة التشمير في الحماية والنصرة.
الحق السادس: العفو عن الزلات والهفوات, وهفوة الصديق لا تخلو إما أن تكون في دينه بارتكاب معصية, أو في حقك بتقصيره في الأخوة, أما ما يكون في الدين من ارتكاب معصية والإصرار عليها, فعليك بالتلطف في نصحه بما يقوم أوده, ويجمع شمله, ويعيد إلى الصلاح والورع حاله. حكي عن أخوين من السلف انقلب أحدهما عن الاستقامة فقيل لأخيه: ألا تقطعه وتهجره فقال: أجوج ما كان إليّ في هذا الوقت
أما زلته في حقه, بما يوجب إيحاشه, فلا خلاف أن الأولى العفو والاحتمال, ومهما اعتذر إليك أخوك كاذباً كان أو صادقاً, فاقبل عذره.
قال بعضهم: الصبر على مضض الأخ خير من معاتبته, والمعاتبة خير من القطيعة, والقطيعة خير من الوقيعة, وينبغي أن لا يبلغ في البغضة عند الوقيعة.
الحق السابع: الدعاء للأخ في حياته وبعد مماته بكل ما يحبه لنفسه, ولأهله, فتدعو له كما تدعو لنفسك لا تفرق بين نفسك وبينه, فإن دعاءك له دعاء لنفسك على التحقيق, فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا دعا الرجل لأخيه في ظهر الغيب, قال الملك: ولك مثل.) وكان أبو الدرداء يقول: إني أدعو لسبعين من إخواني في سجودي وكان محمد بن يوسف الأصفهاني يقول: وأين مثل الأخ الصالح ؟ يدعو لك في ظلمة الليل, وأنت تحت أطباق الثرى.
الحق الثامن: الوفاء والإخلاص, ومعنى الوفاء: الثبات على الحب, وإدامته إلى الموت معه ,وبعد الموت مع أولاده وأصدقائه, فإن الحب إنما يراد للآخرة, قال عليه الصلاة والسلام في السبعة الذين يظلهم الله في ظله: « ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه » قال بعضهم: قليل وفاء بعد الوفاة خير من كثيره في حال الحياة.
ومن الوفاء: أن لا يتغير حاله في التواضع مع أخيه وإن ارتفع شأنه, واتسعت ولايته, وعظم جاهه, فالترفع على الإخوان بما يتجدد من الأحوال لؤم.
وأوصى بعض السلف ابنه فقال: يا بني, لا تصحب من الناس إلا من إذا افتقرت إليه قرب منك, وإن استغنيت عنه لم يطمع فيك, وإن علت مرتبته لم يرتفع عليك.
واعلم أنه ليس من الوفاء: موافقة الأخ فيما يخالف الحق, في أمر يتعلق بالدين, بل الوفاء له المخالفة.
ومن آثار الصدق والإخلاص وتمام الوفاء: أن تكون شديد الجزع من المفارقة, نفور الطبع عن أسبابها.
ومن الوفاء: أن لا يسمع بلاغات الناس على صديقه
ومن الوفاء: أن لا يصادق عدو صديقه.
الحق التاسع: التخفيف وترك التكلف والتكليف, وذلك بأن لا يكلف أخاه ما يشق عليه, فلا يستمد منه من جاه ومال, ولا يكلفه التواضع له, والتفقد لأحواله, والقيام بحقوقه, بل لا يقصد بمحبته إلا الله تعالى. قال الفضيل: إنما تقاطع الناس بالتكلف, يزور أحدهم أخاه فيتكلف له, فيقطعه ذلك عنه. قيل لبعضهم: من تصحب ؟ قال: من يرفع عنك ثقل التكلف, وتسقط بينك وبينه مؤنة التحفظ. وكان جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنهما يقول: أثقل إخواني عليّ من يتكلف لي, وأتحفظ منه, وأخفهم عليّ من أكون معه كما أكون وحدي. وقد قيل: من سقطت كلفته دامت ألفته, ومن خفت مؤنته دامت مودته.
ابو وليد البحيرى
2022-01-20, 09:52 PM
الأخوة والصحبة (3)
(14)
فهد بن عبد العزيز الشويرخ
حقوق المسلم:
منها: أن يحب للمؤمنين ما يحب لنفسه ويكره لهم ما يكره لنفسه, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد, إذا اشتكى عضو منه تداعى سائره بالسهر الحمى»
ومنها: أن لا يؤذي أحداً من المسلمين بفعل ولا قول, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده »
ومنها: أن يتواضع لكل مسلم ولا يتكبر عليه, فإن الله لا يحب كل مختال فخور, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد»
ومنها: أن لا يسمع بلاغات الناس بعضهم على بعض, ولا يبلغ بعضهم ما يسمع من بعض, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة قتات» وقال الخليل بن أحمد: من نمّ لك نمّ عليك, ومن أخبرك بخبر غيرك, أخبر غيرك بخبرك.
ومنها: أن لا يزيد في الهجر على ثلاثة أيام مهما غضب عليه, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث, يلتقيان فيعرض هذا, ويعرض هذا, وخيرهما الذي يبدأ بالسلام »
ومنها أن لا يدخل على أحد منهم إلا بأذنه بل يستأذن ثلاثاً فإن لم يؤذن له انصرف
ومنها: أن يوقر المشايخ ويرحم الصبيان, قال صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من لم يوقر كبيرنا, ولم يرحم صغيرنا » وأن يكون مع كافة الخلق مستبشراً طلق الوجه رفيقاً, قال عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: إن البرَّ شيء هين, وجه طليق, وكلام لين.
ومنها: أن لا يعد مسلماً بوعد إلا ويفي به, قال صلى الله عليه وسلم: « ثلاث في المنافق: إذا حدث كذب, وإذا وعد أخلف, وإذا ائتمن خان»
ومنها: أن يصلح ذات البين بين المسلمين مهما وجد إليه سبيلاً, قال صلى الله عليه وسلم: « ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة ؟ قالوا: بلى, قال: إصلاح ذات البين, وفساد ذات البين هي الحالقة»
ومنها: أن يستر عورات المسلمين قال صلى الله عليه وسلم: « من ستر على مسلم, ستره الله تعالى في الدنيا والآخرة »
ومنها: أن يبدأ كل مسلم منهم بالسلام قبل الكلام ويصافحه عند السلام.
ومنها: أن يصون عرض أخيه المسلم ونفسه وماله من ظلم غيره مهما قدر.
ومنها: تشميت العاطس.
ومنها: النصيحة لكل مسلم والجهد في إدخال السرور عليه.
ومنها: أن ينزل الناس منازلهم.
ومنها: أن يحسن إلى كل من قدر عليه منهم.
ومنها: أن يعود مرضاهم.
ومنها: أن يشيع جنائزهم.
ومنها: أن ينصف الناس من نفسه.
ومنها: أن يشفع لكل من له حاجة من المسلمين إلى من له عنده منزله ويسعى في قضاء حاجته بما يقدر عليه.
ومنها: أن لا تستصغر منهم أحداً فتهلك, لأنك لا تدري لعله خير منك, فإنه وإن كان فاسقاً فلعله يختم لك بمثل حاله, ويختم له بالصلاح.
ومنها: أن لا تنظر إليهم بعين التعظيم لهم في حال دنياهم, فالدنيا صغيرة عند الله, صغير ما فيها.
ومنها: أن لا تبذل لهم دينك من دنياهم, فتصغر في أعينهم, ثم تحرم دنياهم, فإن لم تحرم, كنت قد استبدلت الذي هو أدنى بالذي هو خير.
ومنها: أن لا تعادهم بحيث تظهر العداوة, فيطول الأمر عليك في المعاداة, ويذهب دينك ودنياك فيهم, ويذهب دينهم فيك, إلا إذا رأيت منكراً في الدين, فتعادى أفعالهم القبيحة, وتنظر إليهم بعين الرحمة, لتعرضهم لمقت الله وعقوبته بعصيانهم.
ومنها: أن لا تسكن إليهم في مودتهم لك, وثنائهم عليك في وجهك, وحسن بشرهم لك, فإنك إن طلبت حقيقة ذلك لم تجد في المائة إلا واحداً, وربما لا تجده.
ومنها: أن لا تشك إليهم أحوالك فيكلك الله إليهم.
ومنها: أن لا تطمع أن يكونوا لك في الغيب والسر كما في العلانية, فذلك طمع كاذب وأنى تظفر به ؟
ومنها: أن لا تطمع فيما في أيديهم فتستعجل الذل, ولا تنال الغرض.
ومنها: أن لا تعلُ عليهم تكبراً لاستغنائك عنهم, فإن الله يلجئك إليهم عقوبة على التكبر.
ومنها: أنك إذا سألت أخاً منهم حاجة فقضاها, فهو أخ مستفاد, وإن لم يقض فلا تعاتبه, فيصير عدواً تطول عليك مقاسته.
ومنها: أنك مهما رأيت منهم كرامة وخيراً فاشكر الله الذي سخرهم لك, واستعذ بالله أن يكلك إليهم.
حقوق الجوار:
اعلم أن الجوار يقتضي حقاً وراء ما تقتضيه أخوة الإسلام, فيستحق الجار المسلم ما يستحقه كل مسلم وزيادة, قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه»
وقال عليه الصلاة والسلام: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره»
وقال صلى الله عليه وسلم: « لا يؤمن عبد حتى يأمن جاره بوائقه »
واعلم أنه ليس حق الجوار كف الأذى فقط, بل احتمال الأذى, ولا يكفى احتمال الأذى بل لا بد من الرفق, وإسداء الخير والمعروف.
شكا بعضهم كثرة الفار في داره, فقيل له: لو اقتنيت هراً ؟ فقال: أخشى أن يسمع الفار صوت الهر, فيهرب إلى بيوت الجيران, فأكون قد أحببت لهم ما لا أحب لنفسي.
وجملة حق الجار: أن يبدأه بالسلام, ويعوده في المرض, ويعزيه في المصيبة, ويهنئه في الفرح ويظهر السرور معه ويصفح عن زلاته ولا يتطلع إلى عوراته, ويستر ما ينكشف له من عوراته, ويغض بصره عن حرمته, ويرشده إلى ما يجهله في أمور دينه ودنياه.
حقوق الوالدين والولد:
لا يخفى أنه إذا تأكد حق القرابة والرحم, فأخص الأرحام وأمسها الولادة, فيتضاعف حق تأكد الحق فيها. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: « لن يجزي ولد والده حتى يجده مملوكاً فيشتريه ويعتقه»
وجاء رجل فقال: يا رسول الله, هل بقي علي من بر أبوي شيء أبرهما بعد وفاتهما ؟ قال: «نعم, الصلاة عليهما » _ أي الدعاء لهما _ والاستغفار لهما, وانفاذ عهدهما, وإكرام صديقهما, وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما )
وجاء رجل إلى عبدالله بن المبارك فشكا إليه بعض ولده, فقال: هل دعوت عليه ؟ قال: نعم, قال: أنت أفسدته.
ويستحب الرفق بالولد, رأى الأقرع بن حابس النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقبل ولده الحسن, فقال: إن لي عشرة من الولد, ما قبلت واحداً منهم ! فقال عليه الصلاة والسلام: «( من لا يرحم لا يرحم )»
حقوق الأقارب والرحم:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «( يقول الله تعالى: أنا الرحمن, وهذه الرحم شققت لها اسماً من اسمي, فمن وصلها وصلته, ومن قطعها بتته ) وقال عليه الصلاة والسلام: ( من سره أن ينسأ له في أثره, ويوسع عليه رزقه, فليصل رحمه ) وقال صلى الله عليه وسلم: ( ليس الواصل بالمكافئ, ولكن الواصل إذا قطعت رحمه وصلها) وقال صلى الله عليه وسلم: ( الصدقة على المسكين صدقة, وعلى ذي الرحم اثنتان.)»
حقوق المملوك:
ملك اليمين يقتضي حقوقاً في المعاشرة لا بد من مراعاتها, فقد كان أخر ما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقد قال عليه الصلاة والسلام : « للمملوك طعامه, وكسوته بالمعروف, ولا يكلف من العمل ما لا يطيق » وكان عمر رضي الله عنه يذهب إلى العوالي في كل يوم سبت, فإذا وجد عبداً في عمل لا يطيقه, وضع عنه.
فجملة حق المملوك أن يشركه في طعمته وكسوته, ولا يكلفه فوق طاقته, ولا ينظر إليه بعين الكبر والازدراء, وأن يعفو عن زلته, وأن يتفكر عند غضبه عليه, معاصيه وجنايته في حق الله تعالى وتقصيره في طاعته, مع أن قدرة الله عليه فوق قدرته.
ابو وليد البحيرى
2022-02-08, 10:38 PM
آداب العزلة(15)
فهد بن عبد العزيز الشويرخ
للناس اختلاف كثير في العزلة والخلطة, وتفضيل إحداهما على الأخرى, ومع أن كل واحدة منهما لا تنفك عن غوائل تنفر عنها, وفوائد تدعو إليها, ومال أكثر العباد والزهاد إلى اختيار العزلة وتفصيلها على المخالطة, وقال أكثر التابعين باستحباب المخالطة, واستكثار المعارف الإخوان, والتألف والتحبب إلى المؤمنين, والاستعانة بهم في الدين تعاوناً على البر والتقوى, ومال إلى هذا: سعيد بن المسيب, والشعبي, وشريح, وابن المبارك, والشافعي, وأحمد بن حنبل, وجماعة.
فوائد العزلة:
الفائدة الأولى: التفرغ للعبادة.
الفائدة الثانية: التخلص بالعزلة عن المعاصي التي يتعرض الإنسان لها غالباً بالمخالطة, ويسلم منها في الخلوة, وهي: الغيبة والنميمة, والرياء, والسكوت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, ومسارقة الطبع من الأخلاق الرديئة والأعمال الخبيثة التي يوجبها الحرص على الدنيا.
الفائدة الثالثة: الخلاص من الفتن والخصومات, وصيانة الدين والنفس عن الخوض فيها, والتعرض لأخطارها, وقلما تخلو البلاد عن تعصبات وفتن وخصومات, فالمعتزل عنهم في سلامة منها.
الفائدة الرابعة: الخلاص من شر الناس, فإنهم يؤذونك مرة بالغيبة, ومرة بسوء الظن, وتارة بالنميمة أو الكذب, فإذا اعتزلتهم استغنيت من التحفظ عن جميع ذلك.
الفائدة الخامسة: أن ينقطع الناس عنك, وينقطع طمعك عن الناس.
الفائدة السادسة: الخلاص من مشاهدة الثقلاء والحمقى ومقاساة حمقهم وأخلاقهم.
فوائد المخالطة:
الفائدة الأولى: التعليم والتعلم وهما أعظم العبادات في الدنيا, ولا يتصور ذلك إلا بالمخالطة.
الفائدة الثانية: النفع والانتفاع, أما الانتفاع بالناس فبالكسب والمعاملة, وذلك لا يتأتى إلا بالمخالطة, وأما النفع فهو أن ينفع الناس إما بماله, أو ببدنه فيقوم بحاجتهم على سبيل الحسبة. ففي النهوض بحوائج المسلمين ثواب وذلك لا ينال إلا بالمخالطة
الفائدة الثالثة: التأديب والتأدب, ونعنى به الارتياض بمقاساة الناس, والمجاهدة في تحمل أذاهم كسراً للنفس, وقهراً للشهوات, وهي من الفوائد التي تستفاد بالمخالطة, وهي أفضل من العزلة في حق من لم تتهذب أخلاقه, ولم تذعن لحدود الشرع شهواته.
الفائدة الرابعة: الاستئناس والإيناس, وهو غرض من يحضر الولائم والدعوات ومواضع العشرة والإنس. وقد يكون ذلك على وجه حرام...أو على وجه مباح
ويستحب ذلك إذا كان الغرض منه ترويح القلب لتهيج دواعي النشاط في العبادة.
الفائدة الخامسة: في نيل الثواب وإنالته, أما النيل فبحضور الجنائز وعيادة المريض وحضور العيدين, وأما إنالته فهو أن يفتح الباب لتعوده الناس, أو ليعزوه في المصائب, أو يهنوه على النعم, فإنهم ينالون بذلك ثواباً.
الفائدة السادسة: التواضع, من أفضل المقامات, ولا يقدر عليه في الوحدة, وقد يكون الكبر سبباً في اختيار العزلة.
الفائدة السابعة: التجارب, فإنها تستفاد من المخالطة للخلق ومجارى أحوالهم, والعقل الغريزي ليس كافياً في تفهم مصالح الدين والدنيا, وإنما تفيدها التجربة والممارسة, ولا خير في عزلة من لم تحنكه التجارب.
ابو وليد البحيرى
2022-02-08, 10:40 PM
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
(16)
فهد بن عبد العزيز الشويرخ
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لو طوى بساطه وأهمل علمه وعمله لتعطلت النبوة واضمحلت الديانة, وعمت الفترة, وفشت الضلالة, وشاعت الجهالة, واستشرى الفساد, وخربت البلاد, وهلك العباد, فإنا لله وإنا إليه راجعون, إذ قد اندرس من هذا القطب عمله وعلمه, وانمحق بالكلية حقيقته ورسمه, فاستولت على القلوب مداهنة الخلق وانمحت عنها مراقبة الخالق, واسترسل الناس في اتباع الهوى والشهوات
وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
يدل على ذلك بعد إجماع الأمة عليه, وإشارات العقول السليمة إليه: الآيات والأخبار والآثار.
أما الآيات: فيقول الله تعالى: { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون } [آل عمران:104] وقال تعالى: { ليسوا سواءً من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليلِ وهم يسجدون * يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروفِ وينهون عن المنكرِ ويسارعون في الخيراتِ وأولئك من الصالحين } [آل عمران:113_114] فلم يشهد لهم بالصلاح بمجرد الإيمان بالله واليوم الآخر, حتى أضاف إليه الأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر, وقال تعالى: { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة } [التوبة:71] فقد نعت المؤمنين بأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر, فالذي هجر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خارج عن هؤلاء المنعوتين في هذه الآية, وقال تعالى: {كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } [آل عمران:110]
وأما الأخبار: فمنها: ما روى عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه, أنه قال في خطبة خطبها: أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية وتؤولونها على خلاف تأويلها, { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } [المائدة:105] وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من قوم عملوا بالمعاصي, وفيهم من يقدر أن ينكر عليهم, فلم يفعل إلا يوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «( إياكم والجلوس في الطرقات ) قالوا: ما لنا بدّ, إنما هي مجالسنا نتحدث فيها, قال: ( فإذا أبيتم إلا ذلك, فأعطوا الطريق حقها) قالوا: وما حق الطريق ؟ قال: ( غض البصر, وكف الأذى, ورد السلام, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر )»
وأما الآثار: فقد قال أبو الدرداء رضي الله عنه: لتأمرن بالمعروف, ولتنهن عن المنكر, أو ليسلطن الله عليكم سلطاناً ظالماً, لا يجل كبيركم, ولا يرحم صغيركم, ويدعو عليه خياركم فلا يستجاب لهم, وتستنصرون فلا تنصرون, وتستغفرون فلا يغفر لكم.
وسئل حذيفة رضي الله عنه عن ميت الأحياء, فقال: الذي لا ينكر المنكر بيده, ولا بلسانه, ولا بقلبه.
وقال بلال بن سعيد: إن المعصية إذا أخفيت لم تضر إلا صاحبها, فإذا أعلنت ولم تغير أضرت العامة.
وكان عبدالله بن عمر رضي الله عنهما يأتي العمال, ثم قعد عنهم, فقيل له: لو أتيتهم فلعلهم يجدون في أنفسهم, فقال: أرهب أن تكلمت أن يروا أن الذي بي غير الذي بي, وإن سكتُ رهبة أن آثم.
وهذا يدل على أن من عجز عن الأمر بالمعروف فعليه أن يبعد عن ذلك الموضع
ابو وليد البحيرى
2022-02-08, 10:43 PM
أخلاق النبوة
(17)
فهد بن عبد العزيز الشويرخ
الحمد لله الذي خلق كل شيء فأحسن خلقه وترتيبه, وأدب نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم فأحسن تأديبه, وزكى أوصافه وأخلاقه, ووفق للاقتداء به من أراد تهذيبه,
وحرم من التخلق بأخلاقه من أراد تخيبه.
جملة من محاسن أخلاقه صلى الله عليه وسلم :
كان صلى الله الله عليه وسلم أحلم الناس, وأشجع الناس, وأعدل الناس, وأعف الناس لم تمس يده قط يد امرأة لا يملك رقها, أو عصمة أمرها, أو تكون ذات محرم منه, وكان أسخى الناس لا يبيت عنده دينار ولا درهم, لا يُسأل عن شيء إلا أعطاه
وكان يخصف النعل, ويرقع الثوب, ويخدم في مهنة أهله, ويجب دعوة العبد والحر, ويقبل الهدايا ولو أنها جرعة لبن ويكافئ عليها, ولا يستكبر عن إجابة الأرملة والمسكين, يغضب لربه ولا يغضب لنفسه, وكان يعصب الحجر على بطنه من الجوع,
إن وجد تمراً أكله, وإن وجد خبر بر أو شعير أكله, لا يأكل متكئاً, ولا على خوان, لم يشبع من خبز ثلاثة أيام متوالية حتى لقى الله تعالى إيثاراً على نفسه, لا فقراً ولا بخلاً, يجيب الوليمة, ويعود المرضى, ويشهد الجنائز, أشدّ الناس تواضعاً, وأسكنهم في غير كبر, وأبلغهم في غير تطويل, وأحسنهم بشراً, لا يهوله شيء من أمور الدنيا, ويلبس ما وجد من المباح, يردف خلفه عبده أو غيره, يركب ما أمكنه, مرة فرساً ومرة بعيراً ومرة بغلة ومرة حماراً, يحب الطيب, ويكره الرائحة الرديئة, ويجالس الفقراء, ويؤاكل المساكين, ويكرم أهل الفضل, ويتألف أهل الشرف, يصل رحمه, ولا يجفو على أحد, يقبل معذرة من المعتذر إليه, يمزح ولا يقول إلا حقاً, يضحك من غير قهقهه, يرى اللعب المباح فلا ينكره, يسابق أهله, ترفع الأصوات عليه فيصبر. ـ
ما ضرب بيده أحد قط إلا أن يضرب بها في سبيل الله تعالى, وما انتقم من شيء صنع إليه قط إلا أن تنتهك حرمة الله, وما خير بين أمرين قط إلا اختار أيسرهما إلا أن يكون فيه إثم أو قطيعة رحم فيكون أبعد الناس من ذلك, وما أخذ أحد بيده فيرسل يده حتى يرسلها الآخر, وكان إذا لقى أحداً من أصحابه بدأه بالمصافحة, وكان لا يقوم ولا يجلس إلا على ذكر الله, وحيث انتهى به المجلس جلس, وكان أبعد الناس غضباً وأسرعهم رضا, وكان أرأف الناس بالناس, وخير الناس للناس, وأنفع الناس للناس, ولم تكن ترفع في مجلسه الأصوات, كان أفصح الناس منطقاً وأحلاهم كلاماً, وكان نزر الكلام وسمح المقالة, إذا نطق ليس بمهذار, وكان أوجز الناس كلاماً, وكان يتكلم بجوامع الكلام لا فضول ولا تقصير, وكان طويل السكوت لا يتكلم في غير حاجة, ولا يقول المنكر, ولا يقول في الرضا والغضب إلا الحق, ويكنى عما اضطر الكلام إليه مما يكره, وكان أكثر الناس تبسماً وضحكاً في وجوه أصحابه, وإن غضب _ وليس يغضب إلا لله _ لم يقم لغضبه شيء.
كان صلى الله عليه وسلم أحلم الناس, وأرغبهم في العفو, كان رفيق البشرة, لطيف الظاهر والباطن, يعرف في وجه غضبه ورضاه, وكان أجود الناس وأسخاهم, وكان في شهر رمضان كالريح المرسلة لا يمسك شيئاً, وكان أنجد الناس وأشجعهم, وكان أشد الناس تواضعاً في علو منصبه.
قد جمع الله تعالى له السيرة الفاضلة, والسياسة التامة, وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب, علمه الله تعالى جميع محاسن الأخلاق والطرق الحميدة, وأخبار الأولين والآخرين, وفقنا الله لطاعته في أمره, والتأسي به في فعله. آمين يا رب العالمين.
ابو وليد البحيرى
2022-02-10, 01:05 PM
عجائب القلب(18)
فهد بن عبد العزيز الشويرخ
اعلم أن مثال القلب مثال حصن, والشيطان عدو يريد أن يدخل الحصن, فيملكه ويستولي عليه, ولا يقدر على حفظ الحصن إلا بحراسة أبواب الحصن ومداخله, ولا يقدر على حراسة أبوابه من لا يدري أبوابه. ومن أبواب الشيطان:
الغضب, والحسد:
الغضب هو غول العقل, وإذا ضعف جند العقل هجم جند الشيطان, ومهما غضب لعب الشيطان به, كما يلعب الصبي بالكرة.
والحسد من أعظم مداخله.
الشبع على الطعام:
وإن كان حلالاً صافياً, فإن الشبع يقوي الشهوات, والشهوات أسلحة الشيطان. ويقال في كثرة الأكل ست خصال مذمومة:
أولها: أن يذهب خوف الله من قلبه.
الثاني: أن يذهب رحمة الخلق من قلبه, لأنه يظن أنهم كلهم شباع.
الثالث: أنه يثقل عن الطاعة.
الرابع: أنه إذا سمع كلام الحكمة لا يجد له رقة.
الخامس: إذا تكلم بالموعظة والحكمة لا يقع في قلوب الناس.
السادس: أنه يهيج الأمراض.
البخل وخوف الفقر:
فإن ذلك هو الذي يمنع الإنفاق والتصدق, ويدعو إلى الادخار والكنز.
الطمع في الناس:
إذا غلب الطمع على القلب لم يزل الشيطان يحبب إليه التصنع والتزين لمن طمع فيه بأنواع الرياء والتلبيس,...وأقل أحواله الثناء عليه بما ليس فيه, والمداهنة له بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
العجلة وترك التثبت في الأمور:
قال عز وجل: { وكان الإنسان عجولاً} [الإسراء:11] وهذا لأن الأعمال ينبغي أن تكون بعد التبصرة والمعرفة, والتبصرة تحتاج إلى تأمل وتمهل, والعجلة تمنع ذلك, وعند الاستعجال يروج الشيطان شره على الإنسان من حيث لا يدري.
سوء الظن بالمسلمين:
قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم} [الحجرات:12] فمن يحكم بشرٍ على غيره بالظن, يحثه الشيطان أن يطول فيه اللسان بالغيبة, وينظر إليه بعين الاحتقار ويرى نفسه خيراً منه.
العلاج في سدِّ مداخل الشيطان:
فإن قلت: فما العلاج في دفع الشيطان ؟
فاعلم أن علاج القلب في ذلك: سد هذه المداخل بتطهير القلب من هذه الصفات المذمومة, لأن حقيقة الذكر لا تتمكن من القلب إلا بعد عمارة القلب بالتقوى, وتطهيره من الصفات المذمومة فإن أردت الخلاص من الشيطان فقدّم الاحتماء بالتقوى ثم أردفه بدواء الذكر يفرُّ الشيطان منك ولذلك قال وهب بن منبه اتق الله, ولا تسب الشيطان في العلانية وأنت صديقه في السرّ أي: أنت مطيع له وقيل: يا عجباً لمن يعصى المحسن بعد معرفته بإحسانه, ويطيع اللعين بعد معرقته بطغيانه.
ابو وليد البحيرى
2022-02-10, 01:09 PM
رياضة النفس (1)
(19)
فهد بن عبد العزيز الشويرخ
الخلق الحسن صفة سيد المرسلين, وأفضل أعمال الصديقين, والأخلاق السيئة هي السموم القاتلة, والمهلكات الدامغة, والمخازى الفاضحة, والرذائل الواضحة, والخبائث المبعدة عن جوار رب العالمين, المنخرطة بصاحبها في سلك الشياطين.
والأخلاق الجميلة هي الأبواب المفتوحة من القلب إلى نعيم الجنان, وجوار الرحمن, والأخلاق الخبيثة أمراض القلوب وأسقام النفوس.
فضيلة حسن الخلق ومذمة سوء الخلق:
قال الله تعالى لنبيه مثنياً عليه ومظهراً نعمته لديه: ( { وإنك لعلى خلق عظيم )} [القلم:4] وقالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خلقه القرآن. وقال عليه الصلاة والسلام: «( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق )» وقال صلى الله عليه وسلم: «( أثقل ما يوضع في الميزان يوم القيامة تقوى الله وحسن الخلق ) » وقال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أوصني, فقال : «( اتق الله حيثما كنت, وأتبع السيئة الحسنة تمحها, وخالق الناس بخلق حسن)» وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: «( اللهم حسنت خلقي, فحسن خُلقي) »
قال الحسن: من ساء خلقه عذب نفسه.
وقال أنس بن مالك: إن العبد ليبلغ بحسن خلقه أعلى درجة في الجنة وهو غير عابد, ويبلغ بسوء خلقه أسفل درك في جهنم وهو عابد.
وقال يحيى بن عاذ: في سعة الأخلاق كنوز الأرزاق.
وصحب ابن المبارك رجلاً سيء الخلق في سفر, فكان يحتمل منه, ويداريه, فلما فارقه بكى, فقيل له في ذلك, فقال: بكيته رحمة له, فارقته وخلقه معه لم يفارقه.
بيان حقيقة حسن الخلق وسوء الخلق
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: حسن الخلق في ثلاث خصال: اجتناب المحارم, وطلب الحلال, والتوسعة على العيال.
وقال الحسن: حسن الخلق: بسط الوجه, وبذل الندى, وكف الأذى.
أمهات الأخلاق أصولها أربعة: الحكمة, والشجاعة, والعفة, والعدل.
ونعنى بالحكمة: حالة للنفس بها يدرك الصواب من الخطأ في جميع الأفعال الاختيارية
ونعنى بالعدل حالة للنفس وقوة بها تسوس الغضب والشهوة وتحملها على مقتضى الحكمة, وتضبطها في الاسترسال والانقباض على حسب مقتضاها.
ونعنى بالشجاعة كون قوة الغضب منقادة للعقل في إقدامها وإحجامها.
ونعنى بالعفة تأديب قوة الشهوة بتأديب العقل والشرع.
فمن اعتدال هذه الأصول الأربعة تصدر الأخلاق الجميلة كلها.
إذ من اعتدال قوة العقل يحصل حسن التدبير, وجودة الذهن, وثقابة الرأي
وأما خلق الشجاعة: فيصدر منه الكرم والنجدة والشهامة وكسر النفس والاحتمال والحلم والثبات وكظم الغيظ والوقار
وأما خلق العفة فيصدر منه السخاء والحياء والصبر والمسامحة والقناعة والورع واللطافة والمساعدة والظرف وقلة الطمع.
فأمهات محاسن الأخلاق هذه الفضائل الأربعة والباقي فروعها.
ولم يبلغ كمال الاعتدال في هذه الأربع إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم, والناس بعده متفاوتون في القرب والبعد منه....وكل من جمع كمال هذه الأخلاق استحق أن يكون بين الخلق ملكاً مطاعاً.
قبول الأخلاق للتغير بالرياضة:
اعلم أن بعض من غلبت عليه البطالة استثقل المجاهدة والرياضة, والاشتغال بتزكية النفس وتهذيب الأخلاق, فلم تسمح نفسه بأن يكون ذلك لقصوره, ونقصه, فزعم أن الأخلاق لا يتصور تغيرها فإن الطباع لا تتغير.
فنقول: لو كانت الأخلاق لا تقبل التغير, لبطلت الوصايا والمواعظ والتأديبات ...وكيف ينكر هذا في حق الأدمي, وتغيير خلق البهيمة ممكن, إذ ينقل الباري من الاستحياش إلى الإنس, والكلب من شره الأكل إلى التأدب والإمساك والتخلية, والفرس من الجماح إلى السلامة والانقياد, وكل ذلك تغيير للأخلاق.
الأسباب التي ينال به حسن الخلق:
الأول: جود إلهي, وكمال فطري, بحيث يخلق الإنسان ويولد كامل العقل, حسن الخلق قد كفى سلطان الشهوة والغضب فيصير عالماً بغير تعليم مؤدباً من غير تأديب
الثاني: اكتساب هذه الأخلاق بالمجاهدة والرياضة, وأعنى حمل النفس على الأعمال التي يقتضيها الخلق المطلوب
الثالث: مشاهدة أرباب الفعال الحميدة, ومصاحبتهم, وهم قرنا الخير, وإخوان الصلاح, إذ الطبع يسرق من الطبع الشر والخير جميعاً.
فمن تظاهرت في حقه الجهات الثلاث حتى صار ذا فضيلة طبعاً واعتياداً وتعلماً فهو في غاية الفضيلة.
ومن كان رذلاً بالطبع, واتفق له قرناء السوء, فتعلم منهم, وتيسرت له أسباب الشر, حتى اعتادها فهو غاية البعد من الله عز وجل, وبين الرتبتين من اختلفت فيه من هذه الجهات, ولكل درجة في القرب والبعد بحسب ما تقتضيه صورته وحالته.
الطريق إلى تهذيب الأخلاق:
النفس في علاجها بمحو الرذائل والأخلاق الرذيلة عنها, وجلب الفضائل والأخلاق الجميلة لها, مثال البدن في علاجه بمحو العلل عنه, وكسب الصحة له, وجلبها إليه, وكما أن البدن في الابتداء لا يخلق كاملاً وإنما يكمل ويقوى بالنشوء والتربية بالغذاء, فكذلك النفس تخلق ناقصة قابلة للكمال, وإنما تكمل بالتربية وتهذيب الأخلاق والتغذية بالعلم. وكما أن العلة المغيرة لاعتدال البدن الموجبة للمرض, لا تعالج إلا بضدها, فإن كانت من حرارة فبالبرودة. وإن كانت من برودة فبالحرارة, فكذلك الرذيلة التي هي مرض القلب, علاجها بضدها, فيعالج مرض الجهل بالتعلم, ومرض البخل بالتسخي, ومرض الكبر بالتواضع, ومرض الشره بالكف عن المشتهى تكلفاً.
وكما أنه لا بد من الاحتمال لمرارة الدواء, وشدة الصبر عن المشتهيات لعلاج الأبدان المريضة, فكذلك لا بد من احتمال مرارة المجاهدة, والصبر لمداوة مرض القلب بل أولى. فإن مرض البدن يخلص منه بالموت, ومرض القلب والعياذ بالله تعالى مرض يدوم بعد الموت.
الطرق الذي يعرف به الإنسان عيوب نفسه:
اعلم أن الله عز وجل إذا أراد بعبده خيراً بصره بعيوب نفسه, فمن كانت له بصيرة نافذة لم تخف عليه عيوبه, فإذا عرف العيوب أمكنه العلاج, فمن أراد أن يعرف عيوب نفسه فله طرق:
الأول: أن يطلب صديقاً صدوقاً ديناً فما كره من أخلاقه وأفعاله وعيوبه ينبه عليه.
الثاني: أن يستفيد معرفة عيوبه من ألسنة أعدائه فإن عين السخط تبدى المساوي.
الثالث: أن يخالط الناس فكل ما رآه مذموماً فليتفقد نفسه ويطهرها من كل ما يذمه
ابو وليد البحيرى
2022-02-10, 01:13 PM
رياضة النفس (2)
(20)
فهد بن عبد العزيز الشويرخ
علامات حسن الخلق:
اعلم أن كل إنسان جاهل بعيوب نفسه, فإذا جاهد نفسه أدنى مجاهدة حتى ترك فواحش المعاصي ربما ظن بنفسه أنه هذب نفسه وحسن خلقه واستغنى عن المجاهدة, فلابد من إيضاح علامة حسن الخلق, فإن حسن الخلق هو الإيمان, وقد ذكر الله صفات المؤمنين في كتابه, وهي بجملتها حسن الخلق, فلنورد جملة من ذلك لتعلم آية حسن الخلق. قال الله تعالى: {قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون} [ المؤمنون:1_2] إلى قوله { أولئك هم الوارثون} [المؤمنون:10] وقال عز وجل: {التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين } [التوبة:112] وقال عز وجل: { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون * الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم} [الأنفال:2-3_4] وقال تعالى: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما} [الفرقان: 63] إلى آخر السورة.
فمن أشكل عليه حاله, فليعرض نفسه على هذه الآيات, فوجود جميع الصفات علامة حسن الخلق, وفقد جميعها علامة سوء الخلق, ووجود بعضها دون بعض, يدل على البعض دون البعض, فليشتغل بتحصيل ما فقده, وحفظ ما وجده.
وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن بصفات كثيرة, وأشار بجميعها إلى محاسن الأخلاق, فقال عليه الصلاة والسلام: ( « المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه» ) وقال: ( «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر, فليكرم ضيفه» )
وقال: ( «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر, فليكرم جاره» ) وقال: ( « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت » ) وذكر أن صفات المؤمنين هي حسن الخلق, فقال صلى الله عليه وسلم: ( «أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم أخلاقاً » ) وقال: ( «من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن» ) وجمع بعضهم علامات حسن الخلق فقال: هو أن يكون كثير الحياء, قليل الأذى, كثير الصلاح, صدوق اللسان, قليل الكلام, كثير العمل, قليل الزلل, قليل الفضول, براً, وصولاً, صبوراً, شكوراً, رضياً, حليماً, رفيقاً, عفيفاً شفيقاً, لا لعاناً, ولا ساباً, ولا نماماً, ولا مغتاباً, ولا عجولاً, ولا حقوداً, ولا بخيلاً, ولا حسوداً, بشاشاً, هشاشاً, يحب في الله, ويبغض في الله, ويرضى في الله, ويبغض في الله, فهذا هو حسن الخلق.
رياضة الصبيان وتأديبهم وتحسين أخلاقهم:
الصبي أمانة عند والديه, وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة, خالية من كل نقش وصورة, وهو قابل لكل ما نقش, ومائل إلى كل ما يمال به إليه, فإن عود الخير وعلمه نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة, وشاركه في ثوابه أبوه وكل معلم له ومؤدب وإن عود الشر وأهمل شقي وهلك, وكان الوزر في رقبة القيم عليه, والوالي له.
ومهما كان الأب يصونه عن نار الدنيا فلأن يصونه عن نار الآخرة أولى, وصيانته بأن يؤدبه ويهذبه ويعلمه محاسن الأخلاق, ويحفظه من قرناء السوء, ولا يعوده التنعم, ولا يجبب إليه الزينة والرفاهية, فيضيع عمره في طلبها إذا كبر فيهلك.
والصبي...إذا كان يستحى, ويترك بعض الأفعال, حتى يرى بعض الأفعال قبيحاً, فهذه بشارة تدل على اعتدال الأخلاق, وصفاء القلب, ومبشر بكمال العقل عند البلوغ.
وأول ما يغلب عليه من الصفات: شره الطعام فينبغي أن يؤدب فيه مثل أن لا يأخذ الطعام إلا بيمينه, وأن يقول: بسم الله عند أخذه, وأن يأكل مما يليه, وأن لا يبادر إلى الطعام قبل غيره, وأن لا يحدق النظر إلى من يأكل, وأن لا يسرع في الأكل.
ويحفظ الصبي عن الصبيان الذين عودوا التنعم والرفاهية, ولبس الثياب الفاخرة.
والصبي إذا أهمل في ابتداء نشوه خرج في الأغلب ردئ الأخلاق, كذاباً, حسوداً, سروقاً, نماماً, لحوحاً, ذا فضول, وضحك, وكيد, ومجانة, وإنما يحفظ عن جميع ذلك بحسن التأديب, ثم يشغل في المكتب, فيتعلم القرآن, وأحاديث الأخبار, وحكايات الأبرار وأحوالهم لينغرس في نفسه حب الصالحين, ويُحفظ من الأشعار التي فيها ذكر العشق وأهله, ويُحفظ من مخالطة الأدباء الذين يزعمون أن ذلك من الظرف ورقة الطبع, فإن ذلك يغرس في قلوب الصبيان بذر الفساد.
ثم مهما ظهر من الصبي خلق جميل وفعل محمود فينبغي أن يكرم عليه, ويجازي عليه بما يفرح به, ويمدح بين أظهر الناس, فإن خالف في ذلك في بعض الأحوال مرة واحدة فينبغي أن يتغافل عنه, ولا يهتك ستره...ولا سيما إذا ستره الصبي واجتهد في إخفائه, فإن إظهار ذلك عليه ربما يفيده جسارة حتى لا يبالي بالمكاشفة, فعند ذلك إن عاد ثانياً فينبغي أن يعاتب سراً, ويعظم الأمر فيه, ويقال: إياك أن تعود بعد ذلك لمثل هذا, ولا تكثر القول عليه بالعتاب في كل حين فإنه يهون عليه سماع الملامة وركوب القبائح, ويسقط وقع الكلام من قلبه, وليكن الأب حافظاً هيبة الكلام معه فلا يوبخه إلا أحياناً, والأم تخوفه بالأب, وتزجره عن القبائح.
ويمنع من أن يفتخر على أقرانه بشيء مما يملكه والداه, ويمنع أن يأخذ من الصبيان شيئاً بدا له, وأصل تأديب الصبيان الحفظ من قرناء السوء.
وينبغي أن يؤذن له بعد الانصراف من الكتاب أن يلعب لعباً جميلاً يستريح إليه من تعب المكتب, بحيث لا يتعب في اللعب, فإن منع الصبي من اللعب وإرهاقه إلى التعلم دائماً يميت قلبه, ويبطل ذكاءه, وينغص عليه العيش, حتى يطلب الحيلة في الخلاص منه رأساً.
وينبغي أن يعلم طاعة والديه, ومعلمه, ومؤدبه, ومن هو أكبر منه سناً من قريب وأجنبي, وأن يترك اللعب بين أيديهم.
ومهما بلغ سن التميز, فينبغي أن لا يسامح في ترك الطهارة والصلاة, ويؤمر بالصوم في بعض أيام رمضان, ويجنب لبس الديباج والحرير والذهب, ويعلم كل ما يحتاج إليه من حدود الشرع.
ويخوف من السرقة, وأكل الحرام, ومن الخيانة, والكذب, والفحش, وكل ما يغلب على الصبيان.
فإذا وقع نشوءه كذلك في الصبا فمهما قارب البلوغ أمكن أن يعرف أسرار هذه الأمور, فيذكر له أن الأطعمة أدوية, وإنما المقصود منها أن يقوى الإنسان بها على طاعة الله عز وجل, وأن الدنيا كلها لا بقاء لها, وأن الموت يقطع نعيمها, وأنها دار ممر لا دار مقر, وأن الآخرة دار مقر لا دار ممر, وأن الموت منتظر في كل ساعة, وأن الكيس العاقل من تزود من الدنيا للآخرة, حتى تعظم درجته عند الله تعالى, ويتسع نعيمه في الجنان, فإذا كان النشو صالحاً كان هذا الكلام عند البلوغ واقعاً مؤثراً ناجعاً, يثبت في قلبه كما يثبت النقش في الحجر.
وإن وقع النشوء بخلاف ذلك حتى ألف الصبي اللعب والفحش والوقاحة وشره الطعام واللباس, والتزين والتفاخر, نبا قلبه عن قبول الحق
ابو وليد البحيرى
2022-02-13, 10:06 PM
شهوة البطن(21)
فهد بن عبد العزيز الشويرخ
المنتقى من كتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن يأكل في معي واحد, والمنافق يأكل في سبعة أمعاء » أي: يأكل سبعة أضعاف ما يأكل المؤمن, أو تكون شهوته سبعة أضعاف شهوته.
وقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: ( أطول الناس جوعاً يوم القيامة أكثرهم شبعاً في الدنيا )
وقال عمر رضي الله عنه: إياكم والبطنة, فإنها ثقل في الحياة, ونتن في الممات.
وقال لقمان لابنه: يا بني, إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة, وخرست الحكمة, وقعدت الأعضاء عن العبادة.
فوائد قلة الأكل:
الفائدة الأولى: صفاء القلب, وإيقاد القريحة, وإنفاذ البصيرة, فإن الشبع يورث البلادة, والصبي إذا أكثر الأكل, بطل حفظه, وفسد ذهنه, وصار بطئ الفهم والإدراك
الفائدة الثانية: رقة القلب, الذي به يتهيأ لإدراك لذة التأثر بالذكر, فكم من ذكر يجري على اللسان, ولكن القلب لا يلتذ به, ولا يتأثر حتى كأن بينه وبينه حجاباً من قسوة القلب, وقد يرق في بعض الأحوال فيعظم تأثره بالذكر, وتلذذه بالمناجاة, وخلو المعدة هو السبب الأظهر فيه.
الفائدة الثالثة: الانكسار والذل, وزوال البطر والفرح والأشر, الذي هو مبدأ الطغيان, والغفلة عن الله تعالى.
الفائدة الرابعة: أن لا ينسى بلاء الله وعذابه, ولا ينسى أهل البلاء, فإن الشبعان ينسى الجائع, وينسى الجوع, والعبد الفطن لا يشاهد بلاء من غيره إلا ويتذكر بلاء الآخرة.
الفائدة الخامسة: وهي من أكبر الفوائد, كسر شهوات المعاصي كلها, والاستيلاء على النفس الأمارة بالسوء, فإن منشأ المعاصي كلها الشهوات والقوى, ومادة القوى والشهوات لا محالة الأطعمة, فتقليلها يضعف كل شهوة وقوة.
الفائدة السادسة: دفع النوم, فإن من شبع شرب كثيراً, ومن كثر شربه كثر نومه, والنوم موت فتكثيره ينقص العمر, ثم فضيلة التهجد لا تخفى, وفي النوم فواتها, ومهما غلب النوم فإن تهجد لم يجد حلاوة العبادة.
الفائدة السابعة: تيسير المواظبة على العبادة.
الفائدة الثامنة: يستفيد من قلة الأكل صحة البدن, ودفع الأمراض, فإن سببها كثرة الأكل, وحصول فضلة الأخلاط في المعدة والعروق. ثم المرض يمنع من العبادات, ويشوش القلب, ويمنع من الذكر والفكر, وينغص العيش.
الفائدة التاسعة: خفة المؤنة, فإن من تعود قلة الأكل كفاه من المال قدر يسير, والذي تعود الشبع صار بطنه غريماً ملازماً له.
الفائدة العاشرة: أن يتمكن من الإيثار والتصدق بما فضل من الأطعمة على اليتامى والمساكين, فيكون يوم القيامة في ظل صدقته, كما ورد به الخبر.
فهذه عشر فوائد, يتشعب من كل فائدة فوائد, لا ينحصر عددها ولا تتناهى فوائدها.
ابو وليد البحيرى
2022-02-13, 10:09 PM
آفات اللسان (1)
(22)
فهد بن عبد العزيز الشويرخ
اللسان من النعم العظيمة, صغير جرمه, عظيم طاعته وجرمه, رحب الميدان ليس له مرد, ولا لمجاله منتهى وحدّ, له في الخير مجال, وله في الشر ذيل سحب, فمن أطلق عذبة اللسان وأهمله مرخى العنان, سلك به الشيطان في كل ميدان, وساقه إلى شفا جرف هار, إلى أن يضطره إلى البوار, ولا يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم, ولا ينجو من شر اللسان إلا من قيده بلجام الشرع, فلا يطلقه إلا فيما ينفعه في الدنيا والآخرة, ويكفه عن كل ما يخشى غائلته في عاجله وآجله.
عظيم خطر اللسان:
خطر اللسان عظيم, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «( أمسك عليك لسانك, وليسعك بيتك, وبكِ على خطيئتك ) » وقال عليه الصلاة والسلام: «( من يتكفل لي بما بين لحييه ورجليه أتكفل له بالجنة) » وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل النار, فقال: «( الفم والفرج )»
«قال معاذ بن جبل: قلت يا رسول الله: أنؤاخذ بما نقول ؟ قال: ثكلتك أمك, يا بن جبل, وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم ؟ ) » وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يشير إلى لسانه, ويقول: هذا الذي أوردني المهالك.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: والله الذي لا إله إلا هو, ما شيء أحوج إلى طول سجن من لسان.
وقال طاوس: لساني سبع إن أرسلته أكلني.
وقال الحسن: ما عقل دينه من لم يحفظ لسانه.
الكلام فيما لا يعنيك:
اعلم أن أحسن أحوالك أن تحفظ ألفاظك....ولا تتكلم بما أنت نستغن عنه, ولا حاجة بك إليه, فإنك مضيع به زمانك, ومحاسب على عمل لسانك, وتستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير, لأنك لو....هللت الله سبحانه وذكرته وسبحته, لكان خيراً لك, فكم من كلمة يبنى بها قصراً في الجنة ؟ ومن قدر أن يأخذ كنزاً من الكنوز فأخذ مكانه مدرة لا ينتفع بها كان خاسرا خسرنا مبيناً. وهذا مثال من ترك ذكر الله تعالى, واشتغل بمباح لا يعنيه, فإنه وإن لم يأثم فقد خسر حيث فاته الربح العظيم بذكر الله.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه )»
وقال مجتهد: سمعت ابن عباس يقول: لا تتكلم فيما لا يعنيك, فإنه فضل, ولا آمن عليك الوزر. وقيل للقمان الحكيم: ما حكمتك ؟ قال: لا أسأل عما كفيت, ولا أتكلف ما لا يعنيني. وقال مورق العجلي: أمر أنا في طلبه منذ عشرين سنة, لم أقدر عليه, ولست بتارك طلبه, قالوا: وما هو ؟ قال: السكوت عما لا يعنيني.
وحدّ الكلام فيما لا يعنيك أن تتكلم بكلام لو سكت عنه لم تأثم, ولم تستضر به في حال و لا مال, مثاله أن تجلس مع قوم فتذكر لهم أسفارك, وما رأيت فيها من جبال وأنهار, وما وقع لك من الوقائع, وما استحسنته من الأطعمة والثياب, وما تعجبت منه. فهذه أمور لو سكت عنها لم تأثم, ولم تستضر.
ومن جملتها: أن تسأل غيرك عما لا يعنيك, فأنت بالسؤال مضيع وقتك, وقد ألجأت صاحبك أيضاً بالجواب إلى التضييع.
والعلاج أن يعلم أن الموت بين يديه, وأنه مسئول عن كل كلمة, وأن أنفاسه رأس ماله, وأن يلزم نفسه السكوت عن بعض ما يعنيه حتى يعتاد اللسان ترك ما لا يعنيه.
فضول الكلام:
فضول الكلام...مذموم, وهذا يتناول الخوض فيما لا يعني, والزيادة فيما يعني على قدر الحاجة. فإن من يغنيه أمر يمكنه أن يذكره بكلام مختصر, ومهما تأتى مقصوده بكلمة واحدة فذكر كلمتين, فالثانية فضول, أي: فضل عن الحاجة, وهو أيضاً مذموم _ لما سبق _ وإن لم يكن فيه إثم ولا ضرر. قال عطاء بن رباح: إن من كان قبلكم كانوا يكرهون فضول الكلام, وكانوا يعدون فضول الكلام ما عدا كتاب الله تعالى, وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم, أو أمرا بمعروف, أو نهياً عن منكر, أو أن تنطق بحاجتك في معيشتك التي لا بد لك منها, أتنكرون أن عليكم حافظين كراماً كاتبين عن اليمين وعن الشمال قعيد, ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد, أما يستحي أحدكم إذا نشرت صحيفته التي أملاها صدر نهاره, كان أكثر ما فيها ليس من أمر دينه ولا دنياه.
واعلم أن فضول الكلام لا ينحصر, بل المهم محصور في كتاب الله تعالى, قال الله عز وجل: { ( لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقةٍ أو معروفٍ أو إصلاح بين الناس ) } [النساء:114]
وقال ابن مسعود: أنذركم فضول كلامكم, حسب امرئ من الكلام ما بلغ به حاجته
وقال الحسن: ابن آدم بسطت لك صحيفتك, ووكل بها ملكان كريمان, يكتبان أعمالك, فاعمل ما شئت وأكثر وأقلّ.
وقال إبراهيم التيمي: إذا أراد المؤمن أن يتكلم نظر فإن كان له تكلم, وإلا أمسك, والفاجر إنما لسانه رسلا, رسلا.
وقال الحسن: من كثر كلامه كثر كذبه, ومن كثر كذبه كثرت ذنوبه.
الخوض في الباطل:
وهو الكلام في المعاصي, كحكاية أحوال النساء, ومجالس الخمر, ومقامات الفساق,
وتنعم الأغنياء, وتجبر الملوك, ومراسمهم المذمومة, وأحوالهم المكروهة, فإن كل ذلك بما لا يحل الخوض فيه, وهو حرام.
ومن يكثر الكلام فيما لا يعني لا يؤمن عليه الخوض في الباطل. وأنواع الباطل لا يمكن حصرها لكثرتها وتفننها, فلذلك لا مخلص منها إلا بالاقتصار على ما يعني من مهمات الدين والدنيا. وفي هذا الجنس تقع كلمات يهلك بها صاحبها وهو يستحقرها, فقد قال بلال بن الحارث: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «( إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ بها ما بلغت فيكتب الله بها رضوانه إلى يوم القيامة, وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله, ما يظن أن تبلغ به ما بلغت, فيكتب الله عليه سخطه إلى يوم القيامة.)» وكان علقمة يقول: كم من كلام منعنيه حديث بلاب بن الحارث.
وقال أبو هريرة رضي الله عنه: إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يلقى لها بالاً يرفعه الله بها في أعلى الجنة.
وقال سلمان: أكثر الناس ذنوباً يوم القيامة أكثرهم كلاماً في معصية الله.
وقال ابن سيرين: كان رجل من الأنصار يمر بمجلس لهم, فيقول: توضئوا, فإن بعض ما تقولون شر من الحدث.
فهذا هو الخوض بالباطل, ويدخل فيه: حكاية ما جرى بين من قتال الصحابة, على وجه يوهم الطعن في بعضهم. وكل هذا باطل, والخوض فيه خوض في الباطل, نسأل الله حسن العون بلطفه وكرمه.
المراء والجدال:
وهو منهي عنه, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «( ما ضل قوم بعد أن هداهم الله تعالى إلا أوتوا الجدل)»
قال مسلم بن يسار: إياكم والمراء فإنه ساعة جهل العالم وعندها يبتغي الشيطان زلته وقال مالك بن أنس رحمه الله: ليس هذا الجدال من الدين في شيء. وقال: المراء يقسي القلوب, ويورث الضغائن. وقال لقمان يا بني, لا تجادل العلماء فيمقوتك. وقال بلال بن سعد: إذا رأيت الرجل لجوجاً ممارياً معجباً برأيه فقد تمت خسارته.
وحدّ المراء هو كل اعتراض على كلام الغير بإظهار خلل فيه, إما في اللفظ, وإما في المعنى, وإما في قصد المتكلم. وترك المراء بترك الإنكار والاعتراض, فكل كلام سمعته فإن كان حقاً فصدّق به, وإن كان باطلاً أو كذباً ولم يكن متعلقاً بأمور الدين فاسكت عنه. وأما المجادلة فعبارة عن قصد إفحام الغير وتعجيزه, وتنقيصه بالقدح في كلامه, ونسبته إلى القصور والجهل فيه.
وينبغي للإنسان أن يكف لسانه عن أهل القبلة, وإذا رأى مبتدعاً تلطف في نصحه في خلوة لا بطريق الجدال.
وأما الباعث على هذا فهو الترفع بإظهار العلم والفضل, والتهجم على الغير بإظهار نقصه. وهما شهوتان باطنتان للنفس قويتان لها. وأما علاجه: فهو بأن يكسر الكبر الباعث له على إظهار نفسه. وكل من اعتاد المجادلة مدة, وأثنى الناس عليه, ووجد لنفسه بسببه عزاً وقبولاً, قويت فيه هذه المهلكات, ولا يستطيع عنها نزوحاً إذا اجتمع عليه سلطان الغضب والكبر والرياء وحب الجاه والتعزز بالفضل, وآحاد هذه الصفات يشق مجاهدتها فكيف بمجموعها ؟
ابو وليد البحيرى
2022-02-13, 10:13 PM
آفات اللسان (2)
(23)
فهد بن عبد العزيز الشويرخ
الخصومة:
وهي أيضاً مذمومة, والخصومة لجاج في الكلام ليستوفي به مال, أو حق مقصود, وذلك تارة يكون ابتداء, وتارة يكون اعتراضاً.
قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «( إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم )»
فإن قلت: إذا كان للإنسان حق فلا بد له من الخصومة في طلبه, فكيف يكون حكمه وكيف تذم خصومته ؟ فاعلم أن هذا الذم يتناول الذي يخاصم بالباطل, والذي يخاصم بغير علم. فأما المظلوم الذي ينصر حجته بطريق الشرع من غير لدد وإسراف وزيادة لجاج على قدر الحاجة, ومن غير قصد عناد وإيذاء ففعله ليس بحرام ولكن الأولى تركه ما وجد إليه سبيلاً, فإن ضبط اللسان في الخصومة على حد الاعتدال متعذر, والخصومة توغر الصدر, وتهيج الغضب, وإذا هاج الغضب نسي المتنازع فيه, وبقى الحقد بين المتخاصمين, حتى يفرح كل واحد بمساءة صاحبه ويحزن بمسرته, ويطلق اللسان في عرضه, فمن بدأ بالخصومة فقد تعرض لهذه المحذورات, وأقل ما فيه تشويش خاطره, حتى إنه في صلاته, يشتغل بمحاجة خصمه, فلا يبقى الأمر على حد الواجب. فالخصومة مبدأ كل شر, وكذا المراء والجدال, فينبغي إلا يفتح بابه إلا لضرورة, وعند الضرورة ينبغي أن يحفظ اللسان والقلب عن تبعات الخصومة, وذلك متعذر جداً, فمن اقتصر على الواجب في خصومته سلم من الإثم, ولا تذم خصومته, إلا أنه إن كان مستغنياً عن الخصومة فيما خاصم فيه, لأن عنده ما يكفيه, فيكون تاركاً للأولى, ولا يكون أثماً, نعم أقل ما يفوته في الخصومة والمراء والجدال طيب الكلام, وما ورد فيه من الثواب.
التقعر في الكلام:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «( إن أبغضكم إلى وأبعدكم مني مجلساً الثرثارون, المتفيهقون, المتشدقون في الكلام )» وقال فاطمة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «( شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم, يأكلون ألوان الطعام, ويلبسون ألوان الثياب, ويتشدقون في الكلام.)»
وقال عمر رضي الله عنه: شقائق الكلام من شقائق الشيطان.
التقعر في الكلام بالتشدق, وتكلف السجع والفصاحة, كل ذلك من المذموم, ومن التكلف الممقوت...فينبغي أن يقتصر في كل شيء على مقصوده, ومقصود الكلام التفهيم للغرض, وما وراء ذلك تصنع مذموم, ولا يدخل في هذا تحسين ألفاظ الخطابة والتذكير, من غير إفراط أو إغراب, فإن المقصود منها تحريك القلوب وتشويقها...فلرشا ة اللفظ تأثير فيه, فهو لائق به.
الفحش وبذاءة اللسان:
وهو مذموم منهي عنه, ومصدره الخبث واللؤم, قال صلى الله عليه وسلم: «( إياكم والفحش, فإن الله تعالى لا يحب الفحش ولا التفحش ) وقال عليه الصلاة والسلام: ( ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذي )»
فأما حده وحقيقته فهو التعبير عن الأمور المستقبحة بالعبارات الصريحة, وأكثر ذلك يجري في ألفاظ الوقاع, وما يتعلق به, فإن لأهل الفساد عبارات صريحة فاحشة يستعملونها, وأهل الصلاح يتحاشون عنها, بل يكنون عنها.
والباعث على الفحش إما قصد الإيذاء, وإما الاعتياد الحاصل من مخالطة الفساق, وأهل الخبث واللؤم.
المزاح:
وأصله مذموم منهي عنه, إلا قدراً يسيراً يستثنى منه, فإن قلت: المزاح فيه انبساط وطيب قلب فلم ينهى عنه ؟ فاعلم أن المنهي عنه الإفراط فيه, أو المداومة عليه. أما المداومة فلأنه اشتغال باللعب والهزل فيه, واللعب مباح, ولكن المواظبة عليه مذمومة, وأما الإفراط فيه فإنه يورث كثرة الضحك, وكثرة الضحك تميت القلب, وتورث الضغينة في بعض الأحوال, وتسقط المهابة والوقار. فما يخلو من هذه الأمور فلا يذم, كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «( إني لأمزح ولا أقول إلا حقاً.)» إلا أن مثله يقدر أن يمزح, ولا يقول إلا حقاً, وأما غيره إذا فتح باب المزاح كان غرضه أن يُضحك الناس كيفما كان.
فإن قلت: قد نقل المزاح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فكيف ينهى عنه ؟ فأقول: إن قدرت على ما قدر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه, وهو أن تمزح, ولا تقول إلا حقاً, ولا تؤذي قلباً, ولا تفرط فيه, وتقتصر عليه أحياناً على الندور فلا حرج عليك.
الشعر:
الشعر كلامه حسنه حسن, وقبيحه قبيح, إلا أن التجرد له مذموم, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ( لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه, خير له من أن يمتلئ شعراً.)»
وسئل بعضهم عن شيء من الشعر, فقال: اجعل مكان هذا ذكراً, فإن ذكر الله خير من الشعر. وعلى الجملة فإنشاء الشعر ونظمه ليس بحرام إذا لم يكن فيه كلام مستكره.
اللعن:
إما لحيوان أو جماد أو إنسان, كل ذلك مذموم, قال صلى الله عليه وسلم : « ( لا تلاعنوا بلعنة الله ولا بغضبه ولا بجهنم )» واللعن عبارة عن الطرد والإبعاد من الله تعالى, وذلك غير جائز إلا على من اتصف بصفة تبعده من الله عز وجل, وهو الكفر والظلم, بأن يقول: لعنة الله على الظالمين وعلى الكافرين.
السب:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «( سباب المؤمن فسوق, وقتاله كفر ) » وقال أعرابي لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أوصني, فقال: ( عليك بتقوى الله, وإن أمرؤ عيرك بشيء يعلمه فيك, فلا تعيره بشيء فيه, يكن وباله عليه, وأجره لك, ولا تسبن شيئاً ) قال: فما سببت شيئاً بعد.
السخرية والاستهزاء:
وهذا محرم مهما كان مؤذياً كما قال تعالى: {( أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قومٍ عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساءٍ عسى أن يكن خيراً منهن)} [الحجرات:11] ومعنى السخرية: الاستهانة والتحقير, والتنبيه على العيوب والنقائض على وجه يضحك منه, وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول, وقد يكون بالإشارة والإيماء.
إفشاء السر:
وهو منهي عنه لما فيه من الإيذاء والتهاون بحق المعارف, قال عليه الصلاة والسلام: «( إذا حدث الرجل الحديث ثم التفت فهي أمانة ) » وهو حرام إذا كان فيه إضرار, ولؤم إن لم يكن فيه إضرار. قال الحسن: إن من الخيانة أن تحدث بسر أخيك.
الوعد الكاذب:
فإن اللسان سباق إلى الوعد, ثم النفس ربما لا تسمح بالوفاء, فيصير الوعد خلفاً, وذلك من أمارات النفاق, قال الله تعالى: «( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود )» [المائدة:1] وكان ابن مسعود لا يعد وعداً, إلا ويقول: إن شاء الله. وهو الأولى.
ثم إذا فهم مع ذلك الجزم في الوعد فلا بدَّ من الوفاء إلا أن يتعذر, فإن كان عند الوعد عازماً على أن لا يفي, فهذا هو النفاق, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «( أربع من كن فيه كان منافقاً, ومن كانت فيه خلة منهن كان فيه خلة من نفاق حتى يدعها, إذا حدث كذب, وإذا وعد أخلف, وإذا عاهد غدر, وإذا خاصم فجر )» وهذا ينزل على عزم الخلف, أو ترك الوفاء من غير عذر.
الكذب في القول واليمين:
وهو من قبائح الذنوب وفواحش العيوب, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «( لا يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً ) » وقال عليه الصلاة والسلام: «( من حدث عني بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين )»
وقال صلى الله عليه وسلم «( إن التجار هم الفجار ) فقيل: يا رسول الله, أليس الله قد أحل البيع ؟ قال: ( نعم, ولكنهم يحلفون فيأثمون, ويحدثون فيكذبون ) وقال صلى الله عليه وسلم: ( ويل للذي يحدث فيكذب, ليضحك به القوم, ويل له, ويل له ) وقال عليه الصلاة والسلام: ( من حلف على يمين بإثم ليقتطع بها مال امرئ مسلم بغير حق, لقي الله عز وجل وهو عليه غضبان )»
قال علي رضي الله عنه: أعظم الخطايا عند الله: اللسان الكذوب.
قال عمر بن عبدالعزيز: والله ما كذبت منذ علمت أن الكذب يشين صاحبه.
ابو وليد البحيرى
2022-02-16, 12:52 PM
آفات اللسان (3)
(24)
فهد بن عبد العزيز الشويرخ
الغيبة:
قد نص الله سبحانه على ذمها في كتابه, وشبه صاحبها بآكل لحم الميتة, فقال تعالى: ( { ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتُمُوهُ} ) [الحجرات:12] وقال عليه الصلاة والسلام: ( «كل المسلم على المسلم حرام, دمه, وماله, وعرضه » ) وقال صلى الله عليه وسلم: ( « لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تفاحشوا ولا تدابروا, ولا يغتب بعظكم بعضاً, وكونوا عباد الله إخواناً» ) وقال عليه الصلاة والسلام: ( «مررت ليلة أسري بي على أقوام يخمشون وجوههم بأظافيرهم, فقلت: يا جبريل من هؤلاء ؟ قال: هؤلاء الذين يغتابون الناس ويقعون في أعراضهم » )
قال عمر رضي الله عنه: عليكم بذكر الله تعالى فإنه شفاء, وإياكم وذكر الناس فإنه داء. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إذا أردت أن تذكر عيوب صاحبك فاذكر عيوب نفسك. وقال أبو هريرة رضي الله عنه: يبصر أحدكم القذى في عين أخيه, ولا يبصر الجذع في عين نفسه. وقال بعضهم: أدركنا السلف وهم لا يعدرون العبادة في الصوم ولا في الصلاة, ولكن في الكف عن أعراض عن الناس.
حدّ الغيبة:
اعلم أن حدَّ العيبة أن تذكر أخاك بما يكرهه لو بلغه, سواء ذكرته بنقص في بدنه, أو نسبه, أو في خلقه, أو في فعله, أو في قوله, أو في دينه, أو في دنياه, حتى في ثوبه وداره ودابته.
واعلم أن الذكر باللسان إنما حرم لأنه فيه تفهيم الغير نقصان أخيك وتعريفه بما يكرهه, فالتعريض به كالتصريح, والفعل فيه كالقول, والإشارة والإيماء والغمز والهمز والكتابة والحركة, وكل ما يفهم فهو داخل في الغيبة وهو حرام.
البواعث على الغيبة:
الأول: أن يشفي الغيظ, وذلك أنه إذا جرى سبب غضب به عليه, فإنه إذا هاج غضبه يشفيه بذكر مساويه, فيسبق لسانه إليه بالطبع إن لم يكن ثمّ دين وازع, وقد يمتنع الغيظ عند الغضب, فيحتقن الغضب في الباطن, فيصير حقداً ثابتاً, فيكون سبباً دائماً لذكر المساوي, فالحقد والغضب من البواعث العظيمة على الغيبة.
الثاني: موافقة الأقران ومجاملة الرفقاء, ومساعدتهم على الكلام, فإنهم إذا كانوا يتفكهون بذكر الأعراض, فيرى أنه لو أنكر عليهم استثقلوه, ونفروا منه, فيساعدهم ويرى أن ذلك من حسن العشرة, ويظن أنه مجاملة في الصحبة.
الثالث: أن يستشعر من إنسان أنه سيقصده, ويطول لسانه عليه, أو يقبح حاله عند محتشم, أو يشهد عليه بشهادة, فيبادره قبل أن يقبح هو حاله, ويطعن فيه.
الرابع: أن ينسب إلى شيء, فيريد أن يتبرأ منه فيذكر الذي فعله, وكان من حقه أن يبرئ نفسه, ولا يذكر الذي فعل.
الخامس: إرادة التصنع والمباهاة, وهو أن يرفع نفسه بتنقيص غيره, فيقول فلان جاهل, وفهمه ركيك, وكلامه ضعيف. وغرضه أن يثبت في ضمن ذلك فضل نفسه.
السادس: الحسد: وهو أنه ربما يحسد من يثني الناس عليه, ويحبونه ويكرمونه, فيريد زوال تلك النعمة عنه, فلا يجد سبيلاً إليه إلا القدح فيه.
السابع: اللعب والهزل وتزجية الوقت بالضحك, فيذكر عيوب غيره بما يضحك الناس على سبيل المحاكاة.
الثامن: السخرية والاستهزاء, استحقاراً له, فإن ذلك يجرى في الحضور, وفي الغيبة. ومنشؤه التكبر.
علاج الغيبة:
أن يعلم أنها محبطة لحسناته يوم القيامة, فإنها تنقل حسناته يوم القيامة إلى من اغتابه, فإن لم تكن له حسنات نقل إليه من سيئات خصمه, وهو مع ذلك متعرض لمقت الله عز وجل, ومشبه عنده بآكل الميتة, بل العبد يدخل النار بأن تترجح كفة سيئاته على كفة حسناته, وربما تنقل إليه سيئة واحدة ممن اغتابه فيحصل بها الرجحان, ويدخل بها النار. وإنما أقل الدرجات أن تنقص من ثواب أعماله, وذلك بعد المخاصمة والمطالبة والسؤال والجواب والحساب.
الأعذار المرخصة في الغيبة:
الأول: التظلم, فالمظلوم له أن يتظلم إلى السلطان, إذ لا يمكنه استيفاء حقه إلا به, قال عليه الصلاة والسلام: ( إن لصاحب الحق مقالاً )
الثاني: الاستعانة على تغير المنكر, ورد العاصي إلى منهج الصلاح.
الثالث: الاستفتاء كما يقول للمفتي: ظلمني أبي, أو زوجتي, أو أخي, فكيف طريقي في الخلاص ؟
الرابع: تحذير المسلم من الشر, فإذا رأيت فقهياً يتردد إلى مبتدع, أو فاسق, وخفت أن تتعدى إليه بدعته, وفسقه, مهما كان الباعث لك الخوف عليه من سراية البدعة والفسق, لا غيره.
الخامس: أن يكون الإنسان معروفاً بلقب يعرب عن عيبه, كالأعرج, والأعمش, فلا إثم على من يقول: روى أبو الزناء عن الأعرج, وسلمان عن الأعمش.
السادس: أن يكون مجاهراً بالفسق كالمخنث وصاحب المخور والمجاهر بشرب الخمر, بحيث لا يستنكف من أن يذكر به, فإذا ذكرت فيه ما يتظاهر به فلا إثم عليك
النميمة:
قال الله تعالى: {( ويل لكل همزةٍ لمزةٍ ) } [الهمزة:1] قيل الهمزة: النمام.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «( لا يدخل الجنة نمام ) »
حدّ النميمة:
اعلم أن اسم النميمة إنما يطلق في الأكثر على من ينمّ قول الغير إلى المقول فيه, كما تقول: فلان كان يتكلم فيك بكذا وكذا, وليست النميمة مختصة به, بل حدها كشف ما كره كشفه, سواء كرهه المنقول عنه, أو المنقول إليه, أو كرهه ثالث. وسواء كان الكشف بالقول, أو بالكتابة, أو بالرمز, أو بالإيماء, وسواء كان المنقول من الأعمال أو من الأقوال.
ما يجب على من نقلت إليه النميمة:
كل من حملت إليه النميمة, وقيل له: إن فلانا قال فيك كذا وكذا, فعليه ستة أمور:
الأول: أن لا يصدقه, لأن النمام فاسق, وهو مردود الشهادة, قال الله تعالى: {( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإٍ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالةٍ ) } [الحجرات:6]
الثاني: أن ينهاه عن ذلك, وينصح له, ويقبح عليه فعله, قال الله تعالى: {( وأمر بالمعروف وانه عن المنكر ) } [لقمان:17]
الثالث: أن يبغضه في الله تعالى, فإنه بغيض عند الله تعالى, ويجب بغض من يبغضه الله
الرابع: أن لا تظن بأخيك الغائب السوء لقول الله تعالى: {( اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم )} [الحجرات:12]
الخامس: أن لا يحملك ما حكي لك على التجسس, والبحث للتحقق, اتباعاً لقول الله تعالى: {( ولا تجسسوا ) } [الحجرات:12]
السادس: أن لا ترضي لنفسك ما نهيت النمام عنه, فلا تحكى نميمته فتقول: فلان قد حكى لي كذا وكذا, فتكون به نماماً ومغتاباً, وتكون قد أتيت ما عنه نهيت.
ذكر أن حكيماً زاره بعض إخوانه فأخبره بخبر عن بعض أصدقائه فقال له: قد أبطأت في الزيارة, وأتيت بثلاث جنايات: بغضت أخي إلي, وشغلت قلبي الفارغ, واتهمت نفسك الأمينة.
قال بعضهم: النميمة مبنية على الكذب والحسد والنفاق وهي أثافي الذل
كلام ذي اللسانين:
كلام ذي اللسانين الذي يتردد بين المتعادين, ويكلم كل واحد منهما بكلام يوافقه, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «( من كان له وجهان في الدنيا, كان له لسانان من نار يوم القيامة ) » وقال عليه الصلاة والسلام: «تجدون من شر عباد الله يوم القيامة ذا الوجهين, الذي يأتي هؤلاء بحديث, وهؤلاء بحديث»
المدح:
والمدح يدخله ست آفات, أربع في المادح, واثنتان في الممدوح. فأما المادح:
فالأولى: أنه قد يفرط فينتهي به إلى الكذب.
الثانية: أنه قد يدخله الرياء, فإنه بالمدح مُظهر للحب.
الثالثة: أنه قد يقول ما لا يتحققه ولا سبيل له إلى الاطلاع عليه.
الرابعة: أنه قد يفرح الممدوح, وهو ظالم أو فاسق, وذلك غير جائز.
وأما الممدوح فيضره من وجهين:
أحدهما: أنه يحدث فيه كبراً وإعجاباً وهما مهلكان.
الثاني: أنه إذا أثنى عليه الخير فرح به, وفتر ورضي عن نفسه, وقل تشميره.
ابو وليد البحيرى
2022-02-16, 12:58 PM
ذم الغضب
(25)
فهد بن عبد العزيز الشويرخ
الغضب شعلة نار, ويستكبرها الكبر الدفين في قلب كل جبار عنيد, كاستخراج الحجر النار من الحديد, ومن نتائج الغضب: الحقد, والحسد, وبهما هلك من هلك, وفسد من فسد. وإذا كان الحقد والحسد والغضب, مما يسوق العبد إلى مواطن العطب, فما أحوجه إلى معرفة معاطبه ومساويه ! ليحذر ذلك ويتقيه, ويميطه عن القلب إن كان وينفيه, ويعالجه إن رسخ في قلبه ويداويه, فإن من لا يعرف الشر يقع فيه, ومن عرفة فالمعرفة لا تكفيه, ما لم يعرف الطريق الذي به يدفع الشر ويقصيه.
الغضب:
عن عكرمة في قوله تعالى: {(وسيداً وحصوراً ) } [آل عمران:39] قال: السيد الذي لا يغلبه الغضب
«روى أبو هريرة أن رجلاً قال: يا رسول الله, مرني بعمل وأقلل, فقال: ( لا تغضب ) ثم أعاد عليه, فقال: ( لا تغضب ) وقال عليه الصلاة والسلام: ( ليس الشديد بالصرعة, وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ) »
وقال سليمان بن داود عليهما السلام: يا بني, إياك وكثرة الغضب, فإن كثرة الغضب تستخف فؤاد الرجل الحليم.
قال بعضهم: إياك والغضب, فإنه يصيرك إلى ذلة الاعتذار.
قيل لعبدالله بن المبارك: أجمل لنا حسن الخلق في كلمة. قال: لا تغضب.
وقد قيل: الغضب عدو العقل, والغضب غول العقل.
قيل لحكيم: ما أملك فلانا لنفسه ! قال: إذا لا تذله الشهوة, ولا يصرعه الهوى, ولا يغلبه الغضب.
حقيقة الغضب ودرجاته:
قوة الغضب محلها القلب, ومعناها غليان دم القلب بطلب الانتقام, والناس في هذه القوة على درجات ثلاث, من: التفريط, والإفراط, والاعتدال.
أما التفريط: فبفقد هذه القوة أو ضعفها, وذلك مذموم, وهو الذي يُقال فيه: إنه لا حمية له. ولذلك قال الشافعي رحمه الله: من استغضب فلم يغضب فهو حمار.
وأما الإفراط: فهو أن تغلب هذه الصفة حتى تخرج عن سياسة العقل والدين وطاعته ولا يبقى للمرء معها بصيرة ونظر وفكرة ولا اختيار.
وسبب غلبته أمور غريزية, وأمور اعتياديه, فرب إنسان هو بالفطرة مستعد لسرعة الغضب, حتى كأن صورته في الفطرة صورة غضبان, ويعين على ذلك حرارة مزاج القلب, لأن الغضب من النار. وأما الأسباب الاعتيادية: فهو أن يخالط قوما يتبجحون بتشفي الغيظ, وطاعة الغضب, ويسمون ذلك شجاعة ورجولة.
ومن آثار هذا الغضب في الظاهر: تغير اللون, وشدة الرعدة في الأطراف, وخروج الأفعال عن الترتيب والنظام, واضطراب الحركة والكلام, حتي يظهر الزبد على الأشداق, وتحمر الأحداق, وتنقلب المناخر, وتستحيل الخلقة, ولو رأى الغضبان في حالة غضبه قبح صورته لسكن غضبه, حياء من قبح صورته, واستحالة خلقته, وقبح باطنه أعظم من قبح ظاهره, فإن الظاهر عنوان الباطن.
وأما أثره في اللسان فانطلاقه بالشتم والفحش من الكلام الذي يستحيى منه ذو العقل. ويستحيى منه قائله عند فتور الغضب.
وأما أثره على الأعضاء فالضرب والتهجم والتمزيق والقتل والجرح عند التمكن.
وأما أثره في القلب مع المغضوب عليه فالحقد والحسد وإضمار السوء.
فمن مال غضبه إلى الفتور حتى أحس من نفسه بضعف الغيرة, وخسة النفس في احتمال الذل والضيم في غير محله, فينبغي أن يعالج نفسه حتى يقوى غضبه. ومن مال غضبه إلى لإفراط حتى جره إلى التهور, واقتحام الفواحش, فينبغي أن يعالج نفسه لينقص من سورة الغضب, ويقف على الوسط بين الطرفين, فهو الصراط المستقيم, فإن عجز عنه فليطلب القرب منه, فليس كل من عجز عن الاتيان بالخير كله, ينبغي أن يأتي بالشر, ولكن بعض الشر أهون من بعض, وبعض الخير أرفع من بعض, فهذه حقيقة الغضب, ودرجاته, نسال الله حسن التوفيق لما يرضيه.
بيان الأسباب المهيجة للغضب وطرق علاجها:
الأسباب المهيجة للغضب: الزهو, والعجب, والمزاح, والمماراة, والغدر, وشدة الحرص على فضول المال والجاه, وهي بأجمعها أخلاق رديئة, ومذمومة شرعاً, ولا خلاص من الغضب مع بقاء هذه الأسباب فلا بد من إزالة هذه الأسباب بأضدادها
وكل خلق من هذه الأخلاق, وصفة من هذه الصفات, يفتقر في علاجه إلى رياضة وتحمل مشقة, والمواظبة على مباشرة أضدادها مدة مديدة حتى تصير بالعادة مألوفة هينة على النفس, فإذا انمحت عن النفس فقد زكت وتطهرت عن هذه الرذائل, وتخلصت من الغضب الذي يتولد منها.
علاج الغضب بعد هيجانه:
يعالج الغضب بعد هيجانه بمعجون العلم والعمل, أما العلم فبأمور:
الأول: أن يتفكر في الأخبار في فضل كظم الغيظ, والحلم, والاحتمال, والعفو, فيرغب في ثوابه, فتمنعه شدة الحرص على ثواب الكظم عن التشفي, والانتقام, وينطفئ عنه غيظه.
الثاني: أن يخوف نفسه بعقاب الله, وهو أن يقول: قدرة الله علي أعظم من قدرتي على هذا الإنسان, فلو أمضيت غضبي عليه, لم آمن أن يمضي الله غضبه عليّ يوم القيامة أحوج ما أكون إلى العفو.
الثالث: أن يحذر نفسه عاقبة العداوة والانتقام, وتشمر العدو لمقابلته, والسعي في هدم أغراضه, والشماتة بمصائبه, وهو لا يخلو من المصائب, فيخوف نفسه بعواقب الغضب في الدنيا إن كان لا يخاف من الآخرة.
الرابع: أن يتفكر في قبح صورته عند الغضب, بأن يتذكر صورة غيره عند الغضب.
الخامس: أن يتفكر في السبب الذي يدعوه إلى الانتقام, ويمنعه من كظم الغيظ, ولا بد أن يكون له سبب, مثل: قول الشيطان له: إن هذا يحمل منك على العجز, وصغر النفس, والذل, والمهانة, وتصير حقيراً في أعين الناس ! فيقول لنفسه: ما أعجبك !, تأنفين من الاحتمال الآن, ولا تأنفين من خزى يوم القيامة.
أما العمل: فأن تقول بلسانك: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم, فإن لم يزل بذلك فاجلس إن كنت قائماً, واضطجع إن كنت جالساً, واقرب من الأرض التي منها خلقت لتعرف بذلك ذل نفسك, واطلب بالجلوس والاضطجاع السكون, فإن سبب الغضب الحرارة, وسبب الحرارة الحركة.
فضيلة كظم الغيظ:
قال الله تعالى: ( والكاظمين الغيظ ) [آل عمران: 134] وذكر ذلك في معرض المدح.
وقال لقمان لابنه: يا بني, لا تذهب ماء وجهك بالمسألة, ولا تشف غيظك بفضيحتك, واعرف قدرك تنفعك معيشتك.
بيان فضيلة الحلم:
اعلم أن الحلم أفضل من كظم الغيظ, لأن كظم الغيظ عبارة عن التحلم إلى تكلف الحلم, ولا يحتاج إلى كظم الغيظ إلا من هاج غيظه, ويحتاج فيه إلى مجاهدة شديدة, ولكن إذا تعود ذلك مدة, صار ذلك اعتياداً, فلا يهيج الغيظ, وإن هاج فلا يكون في كظمه تعب, وهو الحلم الطبيعي. وهو دلالة كمال العقل, واستيلائه وانكسار قوة الغضب وخضوعها للعقل.
وعن الحسن في قوله تعالى: ( وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً ) [الفرقان:63] قال: حلماء, إن جهل عليهم لم يجهلوا.
قال أبو هريرة: إن رجلاً قال: يا رسول, إن لي قرابة أصلهم ويقطعون, وأحسن إليهم ويسيئون, ويجهلون علي وأحلم عنهم. قال: ( إن كان كما تقول, فكأنما تسفهم المل, ولا يزال معك من الله ظهير ما دمت على ذلك.) وقال عليه الصلاة والسلام: ( إن فيك يا أشج خلقين يحبهما الله ورسوله, الحلم والأناة)
وقال عمر رضي الله عنه: تعلموا العلم, وتعلموا للعلم السكينة والحلم.
وقال علي رضي الله عنه: ليس الخير أن يكثر مالك وولدك, ولكن الخير أن يكثر علمك ويعظم حلمك. وقال: إن أول عوض الحليم من حلمه, أن الناس كلهم أعوانه على الجاهل. وقال معاوية رضي الله عنه: لا يبلغ العبد مبلغ الرأي حتى يغلب حلمه جهله. وقال أكثم بن صيفي: دعامة العقل الحلم, وجماع الأمر الصبر.
وقال أيوب: حلم ساعة يدع شراً كثيراً.
وقال الأحنف بن قيس: لست بحليم, ولكني أتحلم.
وقال بعض العلماء: إن الحلم أرفع من العقل, لأن الله تعالى تسمى به.
ابو وليد البحيرى
2022-02-16, 01:01 PM
ذم الحقد
(26)
فهد بن عبد العزيز الشويرخ
اعلم أن الغضب إذا لزم كظمه لعجزه عن التشفي في الحال, رجع إلى الباطن, واحتقن فيه فصار حقداً. ومعنى الحقد أن يلزم قلبه استثقاله, والبغضة له, والنفار عنه, وأن يدوم ذلك ويبقى. فالحقد ثمرة الغضب.
ثمار الحقد:
الحقد يثمر ثمانية أمور:
الأول: الحسد, وهو أن يحملك الحقد على أن تتمنى زوال النعمة عنه, فتغتم بنعمة إن أصابها, وتسر بمصيبة إن نزلت به.
الثاني: أن تزيد على إضمار الحسد في الباطن, فتشمت بما أصابه من البلاء.
الثالث: أن تهجره وتصارمه وتنقطع عنه, وإن طلبك وأقبل عليك.
الرابع: وهو أن تعرضه عنه استصغاراً له.
الخامس: أن تتكلم فيه بما لا يحل من كذب وغيبة وإفشاء سر, وهتك ستر, وغيره.
السادس: أن تحاكيه استهزاء به, وسخرية منه.
السابع: إيذاؤه بالضرب, وما يؤلم بدنه.
الثامن: أن تمنعه حقه من قضاء دين, أو صلة رحم, أو رد مظلمة, وكل ذلك حرام.
أحوال المحقود عليه عند القدرة:
الأول: أن يستوفي حقه الذي يستحقه, من غير زيادة, أو نقصان, وهو العدل.
الثاني: أن يحسن إليه بالعفو, والصلة, وذلك هو الفضل.
الثالث: أن يظلمه بما لا يستحقه, وذلك هو الجور, وهو اختيار الأراذل, والثاني هو اختيار الصديقين, والأول هو منتهى درجات الصالحين.
فضيلة العفو والإحسان:
اعلم أن معنى العفو أن يستحق حقاً فيسقطه, ويبرى عنه من قصاص أو غرامة, وهو غير الحلم وكظم الغيد, فلذلك أفردناه, قال الله تعالى: ( { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } ) [الأعراف:199] وقال الله تعالى: ( {وأن تعفوا أقرب للتقوى} ) [البقرة:237]
وقال رسول الله صلى الله عليه وسل: «( ثلاث والذي نفسي بيده, لو كنت حلافاً لحلفت عليهن: ما نقص مال من صدقة فتصدقوا, ولا عفا رجل عن مظلمة يبتغي بها وجه الله إلا زاده الله بها عزاً يوم القيامة, ولا فتح رجل على نفسه باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر )»
سئل أبو الدرداء: عن أعزّ الناس, قال: الذي يعفو إذا قدر, فاعفوا يعزكم الله.
قال إبراهيم التيمي: إن الرجل ليظلمني فأرحمه. ودخل رجل على عمر بن عبدالعزيز رحمه الله, فجعل يشكو إليه رجلاً ظلمه, ويقع فيه, فقال له عمر: إنك أن تلقى الله, ومظلمتك كما هي, خير لك من أن تلقاه وقد اقتصصتها.
وقال بعضهم: ليس الحليم من ظُلِمَ فحلم, حتى إذا قدر انتقم, ولكن الحليم من ظُلِمَ فحلم, حتى إذا قدر عفا. وقال زياد: القدرة تذهب الحفيظة, يعني: الحقد والغضب.
وجلس ابن مسعود يبتاع طعاماً, فابتاع, ثم طلب الدراهم, وكانت في عمامته, فوجدها قد حلت, فقال: لقد جلست وإنها لمعي, فجعلوا يدعون على من أخذها, ويقولون: اللهم اقطع يد السارق, الذي أخذها, اللهم افعل به كذا. فقال ابن مسعود: اللهم إن كان حمله على أخذها حاجة, فبارك له فيها, وإن كان حملته جراءة على الذنب, فاجعله آخر ذنوبه.
فضيلة الرفق:
اعلم أن الرفق محمود, ويضاد العنف والحدة, والعنف نتيجة الغضب والفظاظة, والرفق واللين نتيجة حسن الخلق والسلامة, فالرفق في الأمور ثمرة لا يثمرها إلا حسن الخلق.
وقد أثني النبي صلى الله عليه وسلم على الرفق, فقال عليه الصلاة والسلام: «( إن الله رفيق يحب الرفق, ويعطي عليه ما لا يعطى على العنف ) » وقال صلى الله عليه وسلم: «( من يحرم الرفق, يحرم الخير كله )»
وقال عليه الصلاة والسلام: ( أتدرون من يحرم على النار يوم القيامة: كل هين, لين, سهل, قريب.)
وقال بعضهم: ما أحسن الإيمان يزينه العلم, وما أحسن العلم يزينه العمل, وما أحسن العمل يزينه الرفق.
وقال عمر بن العاص لابنه عبدالله: ما الرفق ؟ فقال: تكون ذا أناة فتلاين الولاة. قال: فما الخرق ؟ قال: معاداة إمامك, ومناوأة من يقدر على ضررك.
وعن أبي عون الأنصاري قال: ما تكلم الناس بكلمة صعبة, إلا وإلى جانبها كلمة ألين منها, تجرى مجراها.
وقال الحسن: المؤمن وقاف متأن, وليس حاطب ليل.
فهذا ثناء أهل العلم على الرفق, وذلك لأنه محمود ومفيد في أكثر الأحوال, وأغلب الأمور, والحاجة إلى العنف قد تقع ولكن على الندور, وإنما الكامل من يميز مواقع الرفق عن مواقع العنف, فيعطى كل أمر حقه, فإن كان قاصر البصيرة, أو أشكل عليه حكم واقعة من الوقائع, فليكن ميله إلى الرفق, فإن النجح معه في الأكثر.
Powered by vBulletin® Version 4.2.2 Copyright © 2025 vBulletin Solutions، Inc. All rights reserved.