المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الشكر والصبر والتوبة... أحوال للعبد مع الله



ابو وليد البحيرى
2021-12-15, 10:27 PM
الشكر والصبر والتوبة... أحوال للعبد مع الله
د. عاطف الرفاعي



هذه هي المسألة المهمة، التي ينبغي التفكر فيها، فكُلُّنا -إلا من رحم الله تعالى- مُفَرِّط، لا يتفكر في أحواله، ومعاده، وكيف يصلح حاله مع الله -تعالى؟ وكيف يثبت على هذه الحال؟ وكيف يترقى في سيره إلى الله -تعالى؟ وكيف يصير على الهيئة المثلى، التي كان عليها النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه المكرمون، فذلك الذي ينبغي، ولعل الله -تعالى- أن يطلع عليه، وهو متفكر مهموم بإصلاح أحواله؛ فيفتح له بابه، ويوسع له طريقه -سبحانه وتعالى-، وينيره له، وأعلى من ذلك أن يأخذ بيده إليه -سبحانه وتعالى-، فيعينه، ويقويه على سلوك هذا الطريق.

الصدق والإخلاص

واعلم أنك إن بذلت لله -تعالى- شيئًا، أو تركت من الشهوات الزائلة ابتغاء مرضاته، وعملت ذلك كله على الصدق والإخلاص، عوضك الله -تعالى- أحسن منه وأعظم، ورزقك حلاوة الإيمان، ونور المجاهدة، وحسن الطاعة، والإقبال على الله -تعالى-؛ بحيث ينسيك هذه الشهوات الزائلة، ويقويك -سبحانه وتعالى-، ويأخذ بيديك إلى ما يحبه ويرضاه قولاً، وعملاً وحالاً.

من أبواب السعادة

ومن الأمور التي تحقق السعادة للعبد في الدنيا والآخرة ما يلي:

الباب الأول: شكر النعم

نعم الله -تعالى- تترادف على العبد، فهو غارق فيها، لا يستطيع لها عدًّا، ولا إحصاءً، قال -سبحانه-: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (إبراهيم/ 34)، وعلى كثرة هذه النعم والعطايا، أنت بخيل بها على نفسك أولا، وعلى الله -تعالى- الذي أعطاك إياها ثانيًا.

تقييد النعم بالشكر

من أبصر نعم الله عليه، وأدرك فضله -سبحانه وتعالى-، وأراد أن تبقى هذه النعم بين يديه، فلابد أن يقيدها بشكر الله -جلَّ ثناؤه-؛ حتى لا تضيع منه نعمة الطاعة، ونعمة الإيمان، ونعمة العمل الصالح، ونعمة الإقبال على الله -تبارك وتعالى- ونعمة الوقوف بين يديه، ونعمة الصيام والقيام والذكر وقراءة القرآن، كل هذه النعم كيف تمسك بها، وتحافظ عليها؟ إن قيد هذه النعم لا يُستطاع إلا بالشكر.

كيف يشكر العبد هذه النعم؟

والسؤال الآن: كيف يشكر العبد هذه النعم؟

يصل المرء إلى نعمة الشكر عندما يشعر بالعجز عن الشكر، فيعلم أن نعم الله عليه لا يستطيع إحصاءها، زمن ثم لا يمكن شكرها؛ فيبذل أقصى ما يستطيع من شكر هذه النعم، ثم يقف عاجزا عن أن يتم هذا الشكر، لذلك قيل له: الآن شكرتني... لماذا؟ لأن شكر النعم نفسه نعمة من الله -تعالى-، فيحتاج إلى شكر أيضاً، وهكذا تشكر، وتستشعر أن شكرك لا يبلغ حق الوفاء بالفضل والإنعام، وذلك أن شكرك للنعم مهما بلغ محدود، وفضل ربك، وإنعامه بلا حدود.

ثلاثة أركان

وشكر النعمة مبني على ثلاثة أركان: الاعتراف بها باطنًا، والتحدث بها ظاهرًا، ثم تصريفها في مرضاة وليها ومسديها ومعطيها، فإذا سكن القلب شكر المنعم، وأقر له بالفضل، مع شكر اللسان بالحمد والثناء، وانشغال الجوارح بطاعة ولي النعم، وطلب مرضاته؛ تحقق الشكر.

الباب الثاني: الصبر عند البلاء

الحال الثانية من أحوال المرء: أن تنزل عليه مصيبة في ماله، أو في جسمه من مرض، أو حادث، أو تنزل عليه مصيبة في ولده، أو أهله، أو عمله أو غير ذلك مما يحدث للمرء من المصائب، التي لا يخلو منها إنسان في حياته ففرضه فيها الصبر، كما قلنا في النعم: يقيد النعم ويحفظها بالشكر، فهذه الابتلاءات، والمحن، يقابلها بالصبر، وبالصبر ينالون خير عيش الدنيا والآخرة يقول -تعالى- {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (الزمر:10). وهذه هي عاقبة الصابرين الحسنة، في قوله -سبحانه-: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (يوسف:90). وماذا يعني الصبر؟ الصبر هو حبس النفس عن التسخط للمقدور، فلا يتسخط لما نزل به، وحبس اللسان كذلك عن الشكوى للمخلوقين، وحبس الجوارح عن المعصية كشق الثياب وغيره.

فمدار الصبر على هذه الثلاثة، فإذا قام بها العبد كما ينبغي، انقلبت المحنة في حقه منحة، واستحالت البلية عطية، وصار المكروه محبوبا.، لماذا؟ لأن الله -تعالى- لم يبتله ليهلكه، وإنما ابتلاه ليمتحن صبره، وتسليمه؛ ليمحص أهل الإيمان، وليميز الخبيث من الطيب.

عبودية لله في المَكاره

وحين يَثْبُت المرء على عبوديته لله -تعالى- في المكاره، ساعة الشدة، حينها يتميز المرء المتمسك بربه، المقبل عليه، الواقف ببابه لا يتزحزح، الراضي بربه -سبحانه وتعالى- في السراء والضراء، حينها تتفاوت مراتب العباد؛ لأن الناس في الرخاء متساوون، كلهم يتعبدون، ويصلون، ويصومون، ويعتكفون، وغير ذلك، وإنما تأتي الشدة فتمايز من يصبر عليها، ويتمسك بربه، وبسنة نبيه في الشدائد، ومن ينفك عن ذلك، ويرجع القهقرى ويرتد على عقبيه، وبحسب صبرهم في ثباتهم في المحن والمصائب كانت منازلهم عند الله.

الباب الثالث: التوبة من الذنوب والأوزار

التوبة هي رجوع العبد إلى الله، ومفارقته لصراط المغضوب عليهم، والضالين، وذلك لا يحصل إلا بهداية الله إلى الصراط المستقيم، ولا تحصل هدايته إلا بإعانته -سبحانه-، والهداية التامة إلى الصراط المستقيم لا تكون مع الجهل بالذنوب، ولا مع الإصرار عليها، فإن الأول جهل ينافي معرفة الهُدَى، والثاني غَيٌّ ينافي قصده، وإرادته؛ فلذلك لا تصح التوبة إلا بعد معرفة الذنب، والاعتراف به، وطلب التخلص من سوء عواقبه أولا وآخرًا.

والعبد المؤمن -مهما بلغ في الإيمان والتقوى- ليس معصومًا، فلابد أن تجد عنده شيئًا من الغفلة، أو الشهوة أو الغضب، وتلك أبواب الشيطان التي يدخل منها على العبد حين يغفل، أو تغلبه شهوته، أو يستولي عليه غضبه، حينئذ ينتهز الشيطان تلك الغرة، فيوقعه فيما يغضب ربه ومولاه، فإن كان من عباد الله الصادقين، أصحاب العبودية التامة، تداركته رحمة الغفور الرحيم، فيفتح له من أبواب التوبة، والندم، والانكسار، والذل، والافتقار، والاستعانة بالله، ودوام التضرع، والدعاء، والتقرب إليه بما أمكن من الحسنات؛ حتى تكون سبب نجاته، وغفران ذنوبه، وسبب إقباله على الله -تعالى-، ورجوعه للاستقامة على طريقه؛ حتى يتمنى شيطانه لو لم يكن أغواه، واستزله، ويقول لنفسه: ليتني لم أوقعه فيها، ليتني تركته وحاله.


أهل الكفاية من رب العالمين

هؤلاء هم عباد الله المخلَصون، المستقيمون، وقد قال -تعالى- في كتابه {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} (الحجر / 42). هؤلاء هم أهل الكفاية من رب العالمين، إذا غفلوا، أو قصروا، أو أذنبوا سرعان ما ينتبهون، فيجددون التوبة، ويسارعون في الإنابة، مستعينين بربهم، مستعيذين بمولاهم؛ فيعينهم، ويعيذهم ويتوب عليهم، ويُحْدِثُ لهم من الأحوال الجميلة، والأعمال الصالحة ما يكون سبباً في محو ما سلف من السيئات، بل والترقي بالحسنات ورفعة الدرجات، وهذا هو عين قول السلف -رضوان الله عليهم-: « إن العبد ليعمل الذنب فيدخل به الجنة»، يعني: يعمل الذنب، فلا يزال نصب عينيه، خائفا منه، مشفقا، وجلا، باكيا، نادما، مستحيا من ربه، ناكس الرأس بين يديه، منكسر القلب له؛ فيكون ذلك الذنب أنفع له من طاعات كثيرة، بما ترتب عليه من هذه الأمور التي بها سعادته، وفلاحه، حتى يكون ذلك الذنب سبب دخوله الجنة.