ابو وليد البحيرى
2021-12-08, 08:55 PM
فتح فارس.. الوعد المبين وشروط التمكين
أحمد الشجاع
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/12/20.jpg
أعظم البشائر هي التي تأتي في أوقات الشدة؛ لأنها خير ما ينتظر، وعزاء للنفس الحزينة، وبلسم من آلام الإحباط.. وأفضل البشائر وأكثرها تأثيراً هي بشارة من لا يخلف وعده.
في غزوة الخندق كان المسلمون في أضعف حال وأصعب موقف.. ثم جاءت أغلى بشارة وأعزها على نفوسهم عندما بشرهم رسول الله بالتمكين في الأرض، وأن ضعفهم هذا سيتحول إلى قوة لا تقهر.. ومن بعد ضعفهم هذا سيكونون أقوى أمة على وجه الأرض.. ومن بعد فقرهم هذا ستؤول إليهم كنوز وقصور أغنى وأعظم الممالك والدول.
[ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ] [القصص: 5].
وفعلاً تحقق موعود الله للصحابة، ورفعهم فوق الأمم وأورثهم الأرض ومكنهم فيها، وفي تاريخ فتوحات المسلمين تتجلى كل معاني النصر والتمكين.
وفي هذا التقرير نتعرف على بعض معالم وعد الله ورسوله بفتح مملكة فارس العظمى على يد [ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ]، وكيف تحقق ذلك الوعد الإلهي، وما هي صفات الذين استحقوا ذلك الوعد.
عقبة (بَهُرْسير)
أقام سعد بالقادسية شهرين ينتظر أمر عمر، حتى جاءه بالتوجه لفتح المدائن، وتخليف النساء والعيال بالعتيق مع جند كثيف يحوطهم، وعهد إليه أن يشركهم في كل مغنم ماداموا يخلفون المسلمين في عيالاتهم، ففعل وسار بالجيش لأيام بقين من شوال، وكان فَلّ المنهزمين لحق ببابل، وفيهم بقايا الرؤساء مصمِّمين على المدافعة، وبدأت مدن وقرى الفرس تسقط واحدة بعد واحدة، ففتح المسلمون البُرس ثم بابل بعد أن عبروا نهر الفرات ثم كُوثي ثم ساباط بعضهما عنوة والبعض الآخر صلحاً، واستمرت حملات المسلمين المنظمة حتى وصلوا إلى المدائن.
وأمر عمر سعداً بأن يحسن إلى الفلاحين، وأن يوفي لهم عهودهم، ودخلت جموع هائلة من الفلاحين في ذمة المسلمين، وتأثر الفلاحون بأخلاق جيش المسلمين وبعدلهم ومساواتهم المنبثقة من دينهم العظيم، فأميرهم كأصغر الرعية أمام الحق الأكبر، ولا ظلم، ولا فساد في الأرض، خفت عنهم وطأة الكبرياء والعبودية التي كانوا يسامونها؛ فصاروا عباداً لله وحده.
وقد توجه سعد نحو المدائن بعد أمر أمير المؤمنين، فبعث مقدمة الجيش بقيادة زهرة بن الحَوِيَّة، وأتبعه بعبد الله بن المعتَّم في طائفة من الجيش ثم بشرحبيل بن السمط في طائفة أخرى، ثم بهاشم بن عتبة بن أبي وقاص، وقد جعله على خلافته بدلاً من خالد بن عرفطة، ثم لحق سعد بهم ببقية الجيش، وقد جعل على المؤخرة خالد بن عرفطة، وقد توجه زهرة قائد المقدمات إلى المدائن، والمدائن هي عاصمة دولة الفرس، وتقع شرق نهر دجلة وغربه، فالجزء الذي يقع غربه يسمى "بَهُرْسير"، والذي يقع شرقه يسمى "أسبانير" و"طيسفون".
وقد وصل زهرة إلى بَهُرْسير، وبدأ حصار المدينة، ثم سار سعد بن بي وقاص بالجيش الإسلامي، ومعه قائد قواته ابن أخيه هاشم بن عتبة بن أبي وقاص إلى المدائن الغربية " بَهُرْسير"، وفيها ملك الفرس (يَزْدَجرد)، فحاصرها المسلمون شهرين، وكان الفرس يخرجون أحياناً لقتال المسلمين، ولكنهم لا يثبتون لهم، وقد أصيب زهرة بن الحوية بسهم، وذلك أنه كان عليه درع مفصومة، فقيل له: لو أمرت بهذا الفصم فسُرد (حتى لا تبقى فيها فتحة تصل منها السهام) فقال: ولِمَ؟ قالوا: نخاف عليك منه، قال: إني لكريم على الله إن تَرك سهم فارس الجند كلَّه ثم أتاني من هذا الفصم حتى يثبت فيَّ وكان كريماً على الله كما أمَّل، فكان أولَ رجل من المسلمين أصيب يومئذ بسهم، فثبت فيه من ذلك الفصم، فقال بعضهم: انزعوها منه، فقال: دعوني فإن نفسي معي ما دامت فيَّ لعلي أن أصيب منهم بطعنة أو ضربة أو خطوة. فمضى نحو العدو فضرب بسيفه شهريار من أهل اصطخر فقتله، وقد بقي المسلمون في حصار (بَهُرْسير) شهرين.
وبعد شهرين من الحصار توصل المسلمون إلى سلاح جديد يعينهم على فتح هذه المدينة الصعبة؛ فقد أشار بعض الفرس المسلمين على سعد بن أبي وقاص بأن يستعمل سلاح المنجنيق (والمنجنيق لم يكن معروفًا عند العرب)، فصنع المسلمون أكثر من منجنيق، ووضعوها جنباً إلى جنب على حدود مدينة بَهُرَسِير، وبدءوا في جمع الحجارة الضخمة ووضعها في مقلاع المنجنيق ورميها على مدينة بهرسير، وبدأت هذه الحجارة تتخطى السور، وتقع على أهل بهرسير.
وفي هذا دلالة على أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا لا يهملون تحصيل أسباب النصر المادية إذا قدروا عليها، وأنهم كانوا على ذكر تام لقول الله تعالى: [ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ] [الأنفال:60]، إلى جانب تفوقهم في أسباب النصر المعنوية التي انفردوا بأهمها وأبرزها وهو الاعتماد على الله وذكره ودعاؤه.
صبر أهل بهرسير بعض الوقت، ولكن بعد أن زاد عليهم الضرب، وكثرت أسهم المسلمين المطلقة عليهم بدءوا يفكرون في الاستسلام، وبالفعل بعدما اقترب الشهران من نهايتهما، خرج رسول منهم يطلب الاستسلام، ولكن على أساس أن يصبح للمسلمين كل ما هو في غرب دجلة، وألا يقاتل الفرسُ المسلمين على هذه المنطقة بعد ذلك، وللفرس ما في شرق دجلة.
وهذا لأنهم لم يفهموا الرسالة التي جاء بها المسلمون، فالمسلمون جاءوا لكي يفتحوا هذه البلاد حتى ينشروا الإسلام في كل الأرض؛ فحدود الفتح الإسلامي لن تقف عند دجلة، ولن تقف عند العراق، ولن تقف عند فارس، ولن تقف عند أية حدود، حتى يَعُمَّ الإسلام الأرض كلها.
وكان من الطبيعي أن يرفض المسلمون هذا العرض، فقال لهم الفرس: أما شبعتم، لا أشبعكم الله؟!، فبدأ المسلمون يستكملون الضرب بالمجانيق والسهام على الفرس، فما كان من الفرس إلا أن تسللوا خلسة من مدينة بهرسير على هذا الجسر العائم من بهرسير إلى أسبانير، وتركوا المدينة خالية، والمسلمون مستمرون في ضرب المدينة، ولم يعلموا أن المدينة خالية حتى خرج لهم أحد الفرس طالباً الأمان، فأمَّنه المسلمون، فقال لهم: إن المدينة أصبحت خالية.
وبالفعل تسلق المسلمون الأسوار، ودخلوا مدينة بهرسير؛ فوجدوها – فعلاً – خالية، وبها كميات ضخمة من الأسلحة، وكميات ضخمة من العتاد، كان من الممكن أن تعين الفرس على الصبر على القتال والحصار، لكنهم فقدوا حمية القتال وفقدوا الروح القتالية، وانهزموا هزيمة نفسية شديدة أمام المسلمين المصِرِّين على هذا الحصار؛ وهربوا جميعاً إلى منطقه أسبانير.
- الآيات التي قرأها سعد في مظلم ساباط:
نزل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في (مظلم ساباط) بعد أن قدم هاشماً ومن معه نحو بهرَ سير، وهي الجزء الغربي من المدائن، ولما نزل سعد ذلك المكان قرأ قول الله تعالى: [ وَأَنذِرْ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعْ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ ] [إبراهيم:44]. وإنما تلا هذه الآية لأن في ذلك المكان كتائب لكسرى تُدعى بوران، وكانوا يحلفون بالله كل يوم: لا يزول ملك فارس ما عشنا، وقد هزمهم وفرقهم زهرة بن الحوية قبل استشهاده.
أبيض كسرى
دخل المسلمون بهرسير بعد أن تسلقوا الأسوار، فدخلت الجيوش الإسلامية الواحد تلو الآخر قرب منتصف الليل، وكان جيش المسلمين قد وصل في هذه الفترة إلى أكبر قوة إسلامية على وجه الأرض في هذه اللحظة، حيث بلغ قوامه ستين ألف جنديٍّ مقاتل مسلم، وقد كان أكبر جيش للمسلمين قبل ذلك جيش أبي عبيدة بن الجراح في موقعة اليرموك حيث كان 38 ألفًاً.
فبعد انتصار القادسية تَوَالى المدد على سعد بن أبي وقاص من المدينة ومن كل الجزيرة العربية بعد أن كُسِرَت شوكة الفرس، وعلا شأن المسلمين، وبدأ المسلمون الذين كانوا مترددين في الخروج لقتال الفرس يخرجون للقتال مع الجيش الإسلامي، 60 ألف مقاتلٍ مسلمٍ عبروا هذا السور تسلقًاً ودخلوا بهرسير، ولم يجدوا فارسيّاً واحداً في المنطقة بأكملها، وأخذوا يزحفون على كل المدينة حتى وصلوا إلى شاطئ دجلة الغربي، ونظروا منه في منتصف الليل إلى الناحية الأخرى من الشاطئ، فوجدوا مدينة أسبانير، فصاح ضرار بن الخطاب: الله أكبر هذا أبيض كسرى، هذا ما وعد اللهُ ورسولُه.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/12/21.jpg
فقد رأوا من هذه المنطقة على الناحية الأخرى إيوان كسرى، وهو بناء ضخم ارتفاعه ما بين 28 إلى 29 متراً، وقبته البيضاوية كانت ضخمة للغاية، ويحيط بالبناء كله أشجار، لكن القبة تعلو فوق هذه الأشجار؛ لذلك رآها المسلمون وهم على شاطئ دجلة الغربي، وقد أوقد الفرس حولها المصابيح، فظهر إيوان كسرى أبيض متلألئاً وسط الجهة الأخرى؛ فصاح ضرار بن الخطاب: هذا ما وعد الله ورسوله. يتذكر ما وعد به الله ورسوله المسلمين في غزوة الخندق.
وكان ضرار بن الخطاب – وقتئذٍ - مشركاً، وكان في جيش قريش الذي يحاصر المدينة، ولكن ضراراً علم بعد ذلك بهذا الوعد بعد أن أسلم.
بعد أن وافق رسول الله على اقتراح سلمان الفارسيِّ بحفر الخندق حول المدينة، بدأ المسلمون جميعاً يحفرون في هذا الخندق حتى وصلوا إلى صخرة ضخمة استعصت على المسلمين، وكانت هذه الصخرة من نصيب سلمان الفارسي، فاستعصت عليه وكان شديد الساعد قوي البنيان، ومع ذلك لم يستطع تحطيم هذه الصخرة؛ فذهب إلى رسول الله يستأذنه في تغيير اتجاه الحفر ليتجنب هذه الصخرة، ولكن الرسول ذهب بنفسه وعاين الموقف والمكان، ثم طلب معولاً، وبدأ يحطم هذه الصخرة بنفسه؛ فضرب الصخرة ضربة شديدة بالمعول، فبدأت الصخرة تتفتت وخرج منها وهج شديد أضاء - كما يقول سلمان الفارسي - ما بين لابتي المدينة، يعني نوَّر المدينة كلها؛ فصاح الرسول: "الله أكبر أُعطِيتُ مفاتيح الروم، هذه قصورها الحمراء"، ثم ضرب ضربة ثانية فأضاء المكان بشرر عظيم، فقال: "الله أكبر أُعْطِيتُ مفاتيح كسرى، هذا أبيض كسرى".
وهذا الذي نحن بصدد الحديث عنه الآن؛ ثم ضرب الضربة الثالثة، فقال: "الله أكبر أعطيت لي مفاتيح اليمن، هذه قصور صنعاء".
وبشَّر المسلمين في هذا الوقت وهم محاصَرون من قريش من كل جانب، والمسلمون يتخطفهم الخوف والجزَع والرعب من دخول المشركين عليهم المدينة، ومع ذلك - في هذا الوقت - يبشرهم أنهم سيفتحون بلاد الروم أعظم قوة على الأرض، ويفتحون فارس، ويفتحون اليمن؛ فيقول المؤمنون في هذا الوقت: هذا ما وعد اللهُ ورسولُه.
ثم كرر المقولة ضرار بن الخطاب بعد أن أسلم: الله أكبر هذا ما وعد الله ورسوله.
تأتي هذه المقولة منه، فتُذكِّر المسلمين بهذه البشرى العظيمة، ويبدءون في تكبير الفتح، وهو: "الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد. الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً. لا إله إلا الله، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون".
هذا هو تكبير الفتح، وهذه الصيغة سنة عن الرسول أن تُقال في الفتح، وليس سنة أن تُقالَ في العيد؛ لأن تكبير العيد هو: الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر ولله الحمد فقط؛ ولكن المسلمين - لعذوبة هذه الكلمات - تعوّدوا أن يقولوها في العيد، وليس هذا هو الأصل، حسب قول الدكتور
بدأ ستون ألف مسلم يكبرون هذا التكبير في صوت واحد استبشاراً بفتح المدائن، وحتى الآن لم يعبر المسلمون إلى الناحية المقابلة، ويصل هذا التكبير إلى الناحية الأخرى إلى يزدجرد كسرى فارس، وإلى جنود فارس؛ فيزيدهم رعباً فبدءوا يفكرون، فالمسلمون على الأبواب، وصوتهم صوت التكبير يرعب الفرس رعباً شديداً، وقد نُصِرَ رسول الله ونُصِرَ أصحابُه بالرعب.
فتح مدينة أسفانبر
بدأ الفرس يُصابون بالرعب رغم أنهم كانوا مستعدين لملاقاة المسلمين، فقد جمعوا السفن الموجودة في دجلة على مسافة 150 كيلو متراً من المدائن جنوباً، و170 كيلو متراً من المدائن شمالاً على شاطئ دجلة أمام المدائن على الناحية الشرقية؛ حتى لا يستطيع المسلمون أن يسيطروا على أية سفينة من الشمال أو الجنوب، ليعبروا بها إلى الضفة الأخرى، كما قطع الفرس الجسر العائم عند عبورهم من مدينة بَهُرَسير إلى مدينة أسبانير.
هذا العبور كان - تقريباً - في شهر مارس، وشهر مارس بداية الفيضان في نهر دجلة، ولكنه لم يكن قد وصل بعدُ إلى النهر، وكان في نهر دجلة بعض المخاضات التي من الممكن أن يسير فيها المسلمون؛ فأشار بعض الفرس على سعد بن أبي وقاص أن يعبر بالجيش الإسلامي نهر دجلة من إحدى هذه المخاضات، لكن سعد بن أبي وقاص يتصف بالتريث والتمهل والحرص على الجيش الإسلامي؛ لذلك كان متردداً تردداً شديداً في عبور هذا النهر العظيم بهذا الجيش، فلا سفينة ولا جسر ولا شيء يعينهم على العبور، ثم استخار الله، ونام ليلة، فرأى رؤيا مفادها أن خيول المسلمين قد عبرت النهر، فعزم لتأويل رؤياه على العبور، وجمع الناس فحمد الله تعالى وأثنى عليه وقال: "إن أعداءكم قد اعتصموا منكم بهذا البحر فلا تخلصون إليهم معه وهم يخلصون إليكم إذا شاؤوا فَيُنَاوشونكم في سفنهم وليس وراءكم شيء تخافون أن تؤتوا منه، قد كفاكموهم أهل الأيام، وعطلوا ثغورهم وأفنوا ذادتهم، وقد رأيت من الرأي أن تبادروا جهاد عدوكم بنياتكم قبل أن تحصركم الدنيا، ألا إني قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم".
فقالوا جميعاً: عزم الله لنا ولك على الرشد فافعل.. وهذا الموقف يشبه موقف العلاء بن الحضرمي قائد الجيش السابع من جيوش الردة، حيث كان قد فتح البحرين عبوراً كذلك على الخيول من غير سفن ولا شيء.
وفي هذا الموقف دروس وعبر وفوائد، منها:
- تذكُّر معية الله جل وعلا لأوليائه المؤمنين بالنصر، والتأييد فهذه الرؤيا الصادقة التي رآها سعد رضي الله عنه من الله جل وعلا لتثبيت قلبه ليُقدم على هذا الأمر المجهول العاقبة.
- أن الله تعالى يُجري الأمور لصالح المؤمنين، فالنهر جرى بكثافة مفاجئة على غير المعتاد، وظاهر هذا أنه لصالح الفرس؛ حيث إنه سيمنع أي محاولة لعبور المسلمين، ولكن حقيقته أنه لصالح المسلمين، حيث أعطى ذلك الكفار طمأنينة؛ فلم يستعدوا لقدوم المسلمين المفاجئ لهم، ولم يستطيعوا أن يحملوا معهم كل ما يريدون حمله من الفرار.
- أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتفاءلون خيراً بالرؤيا من الرجل الصالح، ويعتبرونها مُرجحاً للإقدام على العمل، وكانوا رضي الله عنهم يحسنون الظن بالله تعالى، ويعتبرون أن رُؤَى الخير تثبيت وتأييد منه تعالى.
- أن قادة المسلمين في العهد الراشدي كانوا يتصفون غالباً بالحزم واغتنام الفرص وتفجير طاقة الجنود، وهم في حماسهم وقوة إيمانهم، فهذا سعد رضي الله عنه يأمر جيشه بأن يعبروا إلى الأعداء بسلاح الإخلاص والتقوى، وقد كان مطمئناً إلى مستوى جيشه الإيماني؛ فأقدم على ما أقدم عليه مستعيناً بالله تعالى، ثم بذلك المستوى الرفيع.
- اتصاف الصحابة رضي الله عنهم ومن معهم من التابعين بالطاعة التامة لقادتهم، وكانوا يعتبرون هذه الطاعة واجباً شرعياً وعملاً صالحاً يتقربون به إلى الله تعالى.
كان هذا قراراً عجيباً أن يعبر بـ60 ألفاً بالخيول؛ فالخيول تجيد السباحة، لكن المسلمين أنفسهم لا يجيدونها في غالبيتهم؛ لأنهم يعيشون في الصحراء، ففي العبور - إذن - مخاطرة شديدة، لكن لم يكن أمام المسلمين حَلّ آخر يوصِّلُهم للناحية الثانية للمدائن وهم مصممون على فتح المدائن؛ فقرر سعد بن أبي وقاص العبور، بينما كان يزدجرد في الناحية الأخرى مطمئنًّا تمام الاطمئنان أن المسلمين لن يعبروا هذه المنطقة قبل أربعة أو خمسة شهور على الأقل؛ لأن الفيضان ينتهي في أوائل أكتوبر وتبدأ المياه عندها في التراجع.
وتمكن المسلمون من عبور النهر على الخيول، وعندما بدأ الجيش بالعبور فاجأهم الفيضان قبل موعده بأسبوعين أو ثلاثة، ولكن سعد بن أبي وقاص لم يمنعه هذا الفيضان أن ينفذ وعده للمسلمين بعبور هذا النهر؛ فجمع المسلمين كلهم، وقال لهم:
بدأ الجيش في العبور وعلم سعد بن أبي وقاص أن الفرس قد وضعوا على حدود مدينة أسبانير خارج السور على شاطئ نهر دجلة قوات فارسية للدفاع عن مدينة أسبانير، وهو يريد أن تصل أقوى فرقة من فرق المسلمين إلى شاطئ دجلة في الناحية الثانية حتى تلاقي هذا الحرس الفارسي لقاءً قويّاً عنيفاً، وكان عند سعد بن أبي وقاص كتيبة تسمى الخرساء وهي أقوى كتائب المسلمين، وكان سعد يوكل لها المهام الصعبة، وتُسَمَّى الخرساء؛ لأنها كانت تخرج على الجيوش المعادية بدون صوت غير الهجوم المفاجئ على الجيوش المعادية دون أي تنبيه أو إنذار بالهجوم، وكان قائد هذه الكتيبة القعقاع بن عمرو التميمي.
لم يرضَ سعد أن يأمر كتيبته الخرساء بالهجوم في أول دجلة؛ لأنه يعلم أن الأمر في منتهى الصعوبة، فآثر أن يكون هذا الأمر تطوعاً، وأعلن في المسلمين أنه من يريد أن يتطوع لعبور دجلة في مقدمة الصفوف فليتطوع؛ فتقدم له من المسلمين 600 متطوع تقدموا ليكونوا أول أناس تعبر دجلة، فأطلق عليهم سعد بن أبي وقاص "كتيبة الأهوال"، وأي هولٍ أكثر من أن يعبروا نهر دجلة على الخيول وفي مقابلتهم الجيش الفارسي على الضفة الأخرى في وقت الفيضان؟.
وبالفعل بدأ الـ 600 يجهزون أنفسهم للعبور، وأُمِّرَ عليهم عاصم بن عمرو التميمي. وأَمَرَ عاصم كتيبته أن يتخذوا من أنفسهم 60 فرداً؛ ليكونوا في مقدمة الـ 600، وهؤلاء الـ 600 في مقدمة الـ 60000؛ فخرج له ستون فارساً من فرسان المسلمين الأشداء، وطلبوا أن يكونوا على مقدمة الصفوف، فخرج بهم عاصم بن عمرو التميمي، واقتحم بهم دجلة، وأمر الجيش بأن يشرع الرماح، ويلقي بالرماح في عيون الفرس، ويقول لهم: لا تضربوا الفرس في أي مكان، ولكن اضربوهم في العيون.
وهذا الأمر قد تكرر من قبل في موقعة الأنبار، فقد أمر خالد بن الوليد الجيوش الإسلامية في هذه الموقعة أن تلقي بالسهام في عيون الفرس؛ فأصابوا منهم في ذلك الوقت ألف عين، وسميت موقعة الأنبار بذات العيون؛ لأنه فُقِئَ فيها ألف عين للفرس، فأراد عاصم بن عمرو التميمي أن يلقي الرعب والرهبة في قلوب الفرس من مهارة المسلمين في رمي السهام والرماح، كما يريد أن يعطل قدراتهم القتالية، فإذا لم يُقْتل الواحد منهم، فإنه يصير أعور، ويترك القتال.
وتقدم الستون وتبعهم الستمائة، وبقي الستون ألفاً واقفين على الشاطئ ينظرون: ماذا سيفعل هؤلاء الأبطال الستمائة؟!، وبدأ عاصم يقتحم دجلة بالخيول، وأذهلت المفاجأة الفرس؛ إذ كيف يأخذ المسلمون خيولهم مقتحمين دجلة وسط الفيضان.
هذا شيء لم يكن يخطر لهم على بالٍ أبداً، وبدءوا في إنزال قوات فارسية على خيول أيضاً؛ لتقاتل المسلمين في المياه.
فرقٌ كبير جدّاً بين القوات المسلمة على الخيول، وبداخلهم روح عظيمة جدّاً؛ فهم منتصرون في موقعة القادسية، وعندهم إيمان شديد بأن الله سيفتح عليهم هذه البلاد، ويفتح عليهم أبيض كسرى الذي وعد اللهُ به ورسولُه، وبين الفرس الذين تملؤهم هزيمة نفسية قاسية؛ فهم قد هُزِمُوا هزيمةً شديدةً في موقعة القادسية، كما هربوا من مدينة بهرسير ذات الأسوار العظيمة، وتجمعوا في مدينة المدائن منتظرين الجيوش الإسلامية، إحساس المنتصر يختلف عن إحساس المنهزم، أضف إلى ذلك أن المهارة الإسلامية تفوق المهارة الفارسية في القتال، وكذلك تفوق الخيول الإسلامية على الخيول الفارسية؛ فاجتمعت هذه العوامل جميعاً، ودخل الفرس في حرب خاسرة منذ البداية مع المسلمين وسط المياه، والتقى المسلمون مع الفرس بالرماح، وشهروا الرماح في أعين الفرس؛ ففقئوا منهم العيون، وصار الفرس بين قتيل وأعور وفارٍّ من المسلمين، وكان الأولى والأكثر حكمة في القتال أن يصبرَ الفُرْسُ على وجودهم على الشاطئ ليُلْقُوا على المسلمين السهام، ويتريثوا بعدم الدخول مع المسلمين في موقعة بعد أن أدركوا قيمة المقاتل المسلم.
وقد جعل اختلاط المسلمين بالفرس في القتال داخل المياه القوات الفارسية - التي على الشاطئ - عاجزةً عن رمي الأسهم على الجيش المسلم؛ فانتصر المسلمون عليهم انتصاراً عظيماً، وعبر عاصم بن عمرو التميمي والستمائة مقاتل الذين معه نهر دجلة، ووصلوا الشاطئ الشرقي لنهر دجلة؛ ليقاتلوا القوات الفارسية الموجودة على الجهة الأخرى، وسعد بن أبي وقاص على الناحية الأخرى يراقب الموقف، ويكبر هو والمسلمون كلما زاد تقدم المسلمون، وذلك يزيد حميَّة وحماسة الجيش المسلم، ويَفُتُّ في عَضُدِ الجيش الفارسي، وبدأ المسلمون يُعمِلُون سُيُوفَهم في الرقاب الفارسية خارج أسوار "أسفانبر" على الشاطئ الشرقي لنهر دجلة، حتى أتاهم رجل من داخل مدينة أسفانبر من داخل السور، ونادى على الفرس قائلاً: علامَ تقتلون أنفسَكم؟!، ليس في المدينة أحد، كل من بالمدينة هربوا. وعندما سمع الفرس هذا الكلام انهزموا هزيمة نفسية شديدة، وبدءوا يفِرُّون من أمام القوات الإسلامية.
وشاهد ذلك سعد بن أبي وقاص فأمر الستين ألفًا بعبور دجلة على خيولهم، وبدأت القوات الإسلامية تعبر دجلة، وسعد يقول لهم: اعبروا مَثْنَى مَثْنَى. أي اثنين اثنين؛ وذلك حتى يكونا عونًا لبعضهما البعض؛ فإذا سقط أحدهما في الماء، أو غرق يستطيع الآخر أن يساعده، أو يخبر المسلمين عنه، وأمرهم أن يقولوا: "نستعين بالله، ونتوكل عليه، حسبنا الله ونِعْمَ الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".
فهذا دَيْدَنُ الجيش الإسلامي وهو يعبر دجلة، وكان في موقعة القادسية قد أوصاهم أن يقولوا: "لا حول ولا قوة إلا بالله"، فهم في كل موقعة لهم ذِكْرٌ لله، يستشعرون به مساعدة الله ونصره لهم.
هروب كسرى
عبر المسلمون مثنى مثنى في هذا الوقت إلى مدينة أسفانبر، وقصرها الأبيض قصرٌ بوابته شرقية مواجهة لدجلة، وفي هذا الوقت كان كسرى فارس يهرب من هذا الموقف الرهيب، حيث هرَّبوه في زبيل (وهو شيء مثل القفة أو يشبه الجوال، يدخلوه فيه حتى لا يراه أحد)، من الباب الخلفي لقصره، ويهرب خارج الأسوار إلى مدينة حلوان على بُعْدِ 200 كيلو مترٍ من المدائن، وهذه هي المرة الثانية التي يُوضع فيها كسرى فارس في زبيل أو قُفَّة؛ فالمرة الأولى عندما كان صغيراً، فقد كان كسرى أنوشروان يقتل كل الناس الذين يستحقون الملك حتى لا ينافسه أحد في ملك فارس، فهربت به أمه ووضعته في قُفّة، وخرجت به من هذا القصر نفسه، وهربت به واختفت في أهل فارس حتى أَتَى به أهل فارس، وعيَّنوه كسرى فارس ولم يكن يرغب في ذلك؛ فقد كان عمره 23 سنة عندما ملّكوه عليهم.
وعبر الستون ألفًا نهر دجلة، ولم يفقد المسلمون جنديّاً واحداً في العبور، وإنما سقط أحدهم في المياه، فأدركه القعقاع بن عمرو التميمي وجذبه، ثم وضعه على حصانه ثانيةً؛ فقال له هذا الرجل: يا قعقاع، أعجزت النساء أن يلدن مثلك؟. وهذا من فضل الله أن يدخل ستون ألفًا المياه ويخرجوا مثلما دخلوا.
وأول من دخل مدينة أسفانبر كتيبة الأهوال، حيث عبرت السور إلى داخل المدينة وفتحت الأبواب الضخمة للمسلمين، ودخلت خلفَ كتيبةَ الأهوالِ كتيبةُ الخرساء، ثم تبع كتيبة الخرساء جيش المسلمين بالكامل فدخل مدينة أسفانبر ذات الشوارع العريضة والبيوت الضخمة العظيمة، ويتجولون في المنطقة فلا يجدون أحداً من الفرس مطلقاً باستثناء اثنين من الفرس فقط، يبدو أن الحمية أخذتهما فمنعتهما من الهرب، أو أنهما قد جُنَّا، وكانا مستغرقَيْنِ في استعراضات أمام المسلمين؛ فواحد منهما بيده كرة يرميها لأعلى، والثاني يضرب الكرة بالسهم، فيصيب الكرة في السماء؛ فهذا استعراض يَشِي بالمهارة والدقة في الرمي، فتقدم رجل من المسلمين اسمه أبو اليزيد المضَارِب، ودخل عليهما فأطلق الفارسيان عليه السهام فلم يصيباه، وهو أقرب من الكرة الطائرة؛ وهذا من اضطراب أعصابهم، وتوفيق الله حتى وصل إليهم أبو اليزيد المضارب وقتل الاثنين بضربة واحدة، ثم تجول المسلمون حتى وصلوا إلى القصر الأبيض إلى حدود إيوان كسرى، وكان سعد بن أبي وقاص أثناء سيره يردّد قول الله: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَ ا قَوْمًا آَخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان: 25-29]، فيتلو هذه الآيات، وهو مستشعر تمام الاستشعار أن الله تعالى أذلَّ الفرس لعدم طاعتهم لله، ونَصَرَ المسلمين لتمسكهم بدين الله، يتلو هذه الآيات من منطلق هذه العزة، ويتقدم نحو القصر الأبيض.
دخول المسلمين إيوان كسرى
القصر الأبيض كان الحصن الوحيد الذي يوجد بداخله بعض الفرس المتحصنين الذين لم يشتركوا في القتال، عز عليهم أن يفارقوه، وربما لم يستطيعوا الهرب منه، هذا القصر الأبيض كما مر من قبل ارتفاع سوره من 28 إلى 29 متراً، والقبة البيضاوية التي كانت في وسطه أبعادها 25 متراً × 43 متراً. والمبنى كان كله أبيض، وعليه نقوش كثيرة، ورخام وفسيفساء وأحجار كريمة، وكان مزينًا بزينة عظيمة، وحول هذه القبة الكبيرة قباب كثيرة على الجانبين، والسور كله ليس به أية نوافذ، بل كان مُصْمَتًا؛ وذلك تأميناً للقصر.
حاصر المسلمون القصر حصاراً بسيطًا؛ لأنه لا يوجد بداخله أحد يضرب عليهم بالسهام أو غيره، لكن بداخله بعض الفرس، فذهب إليهم سلمان الفارسي، وقال لهم: أنا منكم، اقبلوا واحدة من ثلاث: إما الإسلام وتكونون منَّا؛ لكم ما لنا، وعليكم ما علينا، وإما الجزية ونمنعكم، وإما المنابذة. وأعطاهم مهلةً ثلاثة أيام كما علَّمهم رسولُ الله.
وفي اليوم الثالث خرج هؤلاء الفرس، وقبلوا دفع الجزية للمسلمين؛ فدخل سعد بن أبي وقاص بعد فتح القصر، وتبعه المسلمون داخل القصر الأبيض أو قصر إيوان كسرى، الذي لم يدخله أحد قبل ذلك غير الوفد المكون من أربعة عشر الذين ذهبوا لزيارة كسرى منذ فترة يدعونه إلى الإسلام.
وقام سعد بن أبي وقاص بمجرد دخوله القصر بأداء صلاة الفتح، وهي ثماني ركعات متصلة لا يفصلها تسليم، ولا تُصلَّى جماعة، وإنما تُصلَّى فرادى، وكان دخول القصر في يوم الجمعة 19 من صفر سنة 16هـ، وكان المسلمون قد أَذَّنوا لإقامة صلاة الجمعة، وهذه أول مرة يصلي فيها المسلمون صلاة الجمعة منذ دخولهم أرض العراق، فمنذ مَقْدِم خالد بن الوليد سنة 12هـ حتى هذه اللحظة لم يصلوا الجمعة، وإنما كانوا يُصلُّون دائماً الظهر قصراً، أي جمع الظهر مع العصر، والمغرب مع العشاء؛ لأنهم كانوا دائماً على سفر، ولكن سعد بن أبي وقاص بمجرد دخوله المدائن اعتبر نفسه مقيماً، وأن المدائن هي البلد التي سيتخذها المسلمون مقاماً بعد أن كُسِرَتْ شوكة الفرس، وبذلك أصبحت المدائنُ مدينة للمسلمين، يقيمون فيها كبقية بلادهم مثل المدينة المنورة ومكة المكرمة، وكسائر بلاد المسلمين؛ ولذا أتم الصلاة في ذلك اليوم، وصلَّى الجمعة، كما صلَّى المغرب والعشاء كل فرض في وقته دون جمع أو قصر.. كانت هذه أول مرة بعد أربع سنوات من الجهاد المستمر.
ثم بدأ سعد بن أبي وقاص في جمع الغنائم، وكانت مهمة شاقة جدّاً على المسلمين؛ لأن الغنائم ليس لها حصر، وكمياتها ضخمة، كما أن الفرس قد هربوا ببعض الغنائم، فأمّر سعد على إحضار هذه الغنائم عمرو بن عمرو بن مقرن المزني، كما أطلق زهرة بن الحُوِيَّة قائد مقدمة المسلمين في متابعة الفرق الفارَّة من الفرس للقبض عليهم، وإحضار الغنائم التي هربوا بها، وبدأ المسلمون يجمعون الغنائم، ولم يكن سعد يرغب في تقسيم الغنائم إلا عندما تكتمل كلها، وهذه الغنائم في الحقيقة كان لها ذكر طويل في كتب التاريخ، ووُصِفت بصفاتٍ عظيمة. وبسقوط المدائن استسلمت بقية المدن بدون قتال.
https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
مواقف من أمانة المسلمين:
أ - لما هبط المسلمون المدائن وجمعوا الأقباض، أقبل رجل يحُف معه، فدفعه إلى صاحب الأقباض، فقال: ما رأينا مثل هذا قط،
ما يعد له ما عندنا ولا يقاربه، فقالوا: هل أخذت منه شيئاً؟، فقال: أما والله لولا الله ما أتيتكم به، فعرفوا أن للرجل شأناً، فقالوا: من أنت؟، فقال: لا والله لا أخبركم لتحمدوني، ولا غيركم ليقِّرظوني، ولكنني أحمد الله وأرضى بثوابه، فأتبعوه رجلاً حتى انتهى إلى أصحابه، فسال عنه فإذا هو عامر بن عبد قيس.
ب - قال عصمة بن الحاث الض*َّبِّي: خرجت فيمن خرج يطلب فأخذت طريقاً مسلوكاً، وإذا عليه حَمَّار، فلما رآني حثَّه فلحق بآخر قُدّامه، فمالا وحثَّا حماريهما، فانتهيا إلى جدول قد كُسر جسره فثبتا حتى أتيتهما ، ثم تفرقا، ورماني أحدهما فألظْظت به (يعني تبعته) فقتلته، وأفلت الآخر، ورجعت إلى الحمارين، فأتيت بهما صاحب الأقباض، فنظر فيما على أحدهما فإذا سَفَطان في أحدهما فرس من ذهب مسرج بسرج من فضة على ثغْر ولبَبَه الياقوت والزمرُّد منظوم على الفضة ولجام كذلك، وفارس من فضة مكلَّل بالجواهر، وإذا في الآخر ناقة من فضة عليها شليل من ذهب وبطان من ذهب ولها زمام من ذهب، وكل ذلك منظوم بالياقوت، وإذا عليها رجل من ذهب مكلل بالجوهر، كان كسرى يضعها إلى إسطوانتي التاريخ.
ج - لحق القعقاع بن عمرو بفارسي يحمي الناس فقتله، وإذا معه غلافان وعيبتان، وإذا في أحد الغلافين خمسة أسياف وفي الآخر ستة، وهي من أسياف الملوك من الفرس ومن الملوك الذين جرت بينهم وبين الفرس حروب وفيها سيف كسرى وسيف هرقل وإذا في العيبيتين أدراع من أدراع الملوك وفيها درع كسرى ودرع هرقل، فجاء بها إلى سعد، فقال: اختر أحد هذه الأسياف فاختار سيف هرقل وأعطاه درع بهرام، وأما سائرها فنفلها كتيبة الخرساء التي هي بقيادة القعقاع، إلا سيف كسرى والنعمان، فقد رأى أن يبعثهما إلى أمير المؤمنين لتسمع بذلك العرب لمعرفتهم بهما.
ثناء الصحابة على أفراد الجيش
أثنى أكابر الصحابة رضي الله عنهم على ذلك الجيش، ومن ذلك قول سعد بن أبي وقاص: والله إن الجيش لذو أمانة، ولولا ما سبق لأهل بدر لقلت على فضل أهل بدر.
وقال جابر بن عبدالله: والله الذي لا إله إلا هو ما اطلعنا على أحد من أهل القادسية أنه يريد الدنيا مع الآخرة، ولقد اتهمنا ثلاثة نفر فما رأينا كالذي هجمنا عليه من آمانتهم وزهدهم: طليحة بن خويلد، وعمرو بن معد يكرب، وقيس بن المكشوح.
وأكبر من ذلك ثناء أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه لما رأى خُمس تلك الغنائم، وكان معها سيف كسرى ومنطقته وزبرجده، فقال: إن قوماً أدَّوا هذا لذَوو أمانة، فقال علي رضي الله عنه: إنك عففت فعفَّت الرعية ولو رتعت لرتعت.
موقف الخليفة من نوادر الغنائم
بعث سعد بن أبي وقاص إلى عمر بقباء كسرى وسيفه ومنطقته وسواريه وسراويله وقميصه وتاجه وخفِّيه، وقد كانت غالية الثمن كالحرير والذهب والجوهر، فنظر عمر في وجوه القوم، وكان أجسمهم وأبدنهم قامة سراقة بن مالك بن جعثم، فقال: يا سُراقة قم فالبس، قال سراقة: فطمعت فيه، فقمت فلبست، فقال: أدبر فأدبرت، ثم قال: أقبل فأقبلت، ثم قال: بخٍ بخٍ، أعرابي من مدلج عليه قباء كسرى وسراويله وسيفه ومنطقته وتاجه وخفاه، رب يوم يا سراقه بن مالك لو كان عليك فيه هذا من متاع كسرى وآل كسرى كان شرفاً لك ولقومك، انزع، فنزع، فقال: اللهم إنك منعت هذا رسولك ونبيك، وكان أحب إليك مني وأكرم عليك مني، ومنعته أبا بكر، وكان أحب إليك مني وأكرم عليك مني، وأعطيتنيه، فأعوذ بك أن تكون أعطيتنيه لتمكر بي، ثم بكى حتى رحمه من كان عنده. ثم قال لعبد الرحمن بن عوف: أقسمت عليك لما بِعتْه ثم قسمته قبل أن تمسي.
يتبع
أحمد الشجاع
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/12/20.jpg
أعظم البشائر هي التي تأتي في أوقات الشدة؛ لأنها خير ما ينتظر، وعزاء للنفس الحزينة، وبلسم من آلام الإحباط.. وأفضل البشائر وأكثرها تأثيراً هي بشارة من لا يخلف وعده.
في غزوة الخندق كان المسلمون في أضعف حال وأصعب موقف.. ثم جاءت أغلى بشارة وأعزها على نفوسهم عندما بشرهم رسول الله بالتمكين في الأرض، وأن ضعفهم هذا سيتحول إلى قوة لا تقهر.. ومن بعد ضعفهم هذا سيكونون أقوى أمة على وجه الأرض.. ومن بعد فقرهم هذا ستؤول إليهم كنوز وقصور أغنى وأعظم الممالك والدول.
[ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ] [القصص: 5].
وفعلاً تحقق موعود الله للصحابة، ورفعهم فوق الأمم وأورثهم الأرض ومكنهم فيها، وفي تاريخ فتوحات المسلمين تتجلى كل معاني النصر والتمكين.
وفي هذا التقرير نتعرف على بعض معالم وعد الله ورسوله بفتح مملكة فارس العظمى على يد [ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ]، وكيف تحقق ذلك الوعد الإلهي، وما هي صفات الذين استحقوا ذلك الوعد.
عقبة (بَهُرْسير)
أقام سعد بالقادسية شهرين ينتظر أمر عمر، حتى جاءه بالتوجه لفتح المدائن، وتخليف النساء والعيال بالعتيق مع جند كثيف يحوطهم، وعهد إليه أن يشركهم في كل مغنم ماداموا يخلفون المسلمين في عيالاتهم، ففعل وسار بالجيش لأيام بقين من شوال، وكان فَلّ المنهزمين لحق ببابل، وفيهم بقايا الرؤساء مصمِّمين على المدافعة، وبدأت مدن وقرى الفرس تسقط واحدة بعد واحدة، ففتح المسلمون البُرس ثم بابل بعد أن عبروا نهر الفرات ثم كُوثي ثم ساباط بعضهما عنوة والبعض الآخر صلحاً، واستمرت حملات المسلمين المنظمة حتى وصلوا إلى المدائن.
وأمر عمر سعداً بأن يحسن إلى الفلاحين، وأن يوفي لهم عهودهم، ودخلت جموع هائلة من الفلاحين في ذمة المسلمين، وتأثر الفلاحون بأخلاق جيش المسلمين وبعدلهم ومساواتهم المنبثقة من دينهم العظيم، فأميرهم كأصغر الرعية أمام الحق الأكبر، ولا ظلم، ولا فساد في الأرض، خفت عنهم وطأة الكبرياء والعبودية التي كانوا يسامونها؛ فصاروا عباداً لله وحده.
وقد توجه سعد نحو المدائن بعد أمر أمير المؤمنين، فبعث مقدمة الجيش بقيادة زهرة بن الحَوِيَّة، وأتبعه بعبد الله بن المعتَّم في طائفة من الجيش ثم بشرحبيل بن السمط في طائفة أخرى، ثم بهاشم بن عتبة بن أبي وقاص، وقد جعله على خلافته بدلاً من خالد بن عرفطة، ثم لحق سعد بهم ببقية الجيش، وقد جعل على المؤخرة خالد بن عرفطة، وقد توجه زهرة قائد المقدمات إلى المدائن، والمدائن هي عاصمة دولة الفرس، وتقع شرق نهر دجلة وغربه، فالجزء الذي يقع غربه يسمى "بَهُرْسير"، والذي يقع شرقه يسمى "أسبانير" و"طيسفون".
وقد وصل زهرة إلى بَهُرْسير، وبدأ حصار المدينة، ثم سار سعد بن بي وقاص بالجيش الإسلامي، ومعه قائد قواته ابن أخيه هاشم بن عتبة بن أبي وقاص إلى المدائن الغربية " بَهُرْسير"، وفيها ملك الفرس (يَزْدَجرد)، فحاصرها المسلمون شهرين، وكان الفرس يخرجون أحياناً لقتال المسلمين، ولكنهم لا يثبتون لهم، وقد أصيب زهرة بن الحوية بسهم، وذلك أنه كان عليه درع مفصومة، فقيل له: لو أمرت بهذا الفصم فسُرد (حتى لا تبقى فيها فتحة تصل منها السهام) فقال: ولِمَ؟ قالوا: نخاف عليك منه، قال: إني لكريم على الله إن تَرك سهم فارس الجند كلَّه ثم أتاني من هذا الفصم حتى يثبت فيَّ وكان كريماً على الله كما أمَّل، فكان أولَ رجل من المسلمين أصيب يومئذ بسهم، فثبت فيه من ذلك الفصم، فقال بعضهم: انزعوها منه، فقال: دعوني فإن نفسي معي ما دامت فيَّ لعلي أن أصيب منهم بطعنة أو ضربة أو خطوة. فمضى نحو العدو فضرب بسيفه شهريار من أهل اصطخر فقتله، وقد بقي المسلمون في حصار (بَهُرْسير) شهرين.
وبعد شهرين من الحصار توصل المسلمون إلى سلاح جديد يعينهم على فتح هذه المدينة الصعبة؛ فقد أشار بعض الفرس المسلمين على سعد بن أبي وقاص بأن يستعمل سلاح المنجنيق (والمنجنيق لم يكن معروفًا عند العرب)، فصنع المسلمون أكثر من منجنيق، ووضعوها جنباً إلى جنب على حدود مدينة بَهُرَسِير، وبدءوا في جمع الحجارة الضخمة ووضعها في مقلاع المنجنيق ورميها على مدينة بهرسير، وبدأت هذه الحجارة تتخطى السور، وتقع على أهل بهرسير.
وفي هذا دلالة على أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا لا يهملون تحصيل أسباب النصر المادية إذا قدروا عليها، وأنهم كانوا على ذكر تام لقول الله تعالى: [ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ] [الأنفال:60]، إلى جانب تفوقهم في أسباب النصر المعنوية التي انفردوا بأهمها وأبرزها وهو الاعتماد على الله وذكره ودعاؤه.
صبر أهل بهرسير بعض الوقت، ولكن بعد أن زاد عليهم الضرب، وكثرت أسهم المسلمين المطلقة عليهم بدءوا يفكرون في الاستسلام، وبالفعل بعدما اقترب الشهران من نهايتهما، خرج رسول منهم يطلب الاستسلام، ولكن على أساس أن يصبح للمسلمين كل ما هو في غرب دجلة، وألا يقاتل الفرسُ المسلمين على هذه المنطقة بعد ذلك، وللفرس ما في شرق دجلة.
وهذا لأنهم لم يفهموا الرسالة التي جاء بها المسلمون، فالمسلمون جاءوا لكي يفتحوا هذه البلاد حتى ينشروا الإسلام في كل الأرض؛ فحدود الفتح الإسلامي لن تقف عند دجلة، ولن تقف عند العراق، ولن تقف عند فارس، ولن تقف عند أية حدود، حتى يَعُمَّ الإسلام الأرض كلها.
وكان من الطبيعي أن يرفض المسلمون هذا العرض، فقال لهم الفرس: أما شبعتم، لا أشبعكم الله؟!، فبدأ المسلمون يستكملون الضرب بالمجانيق والسهام على الفرس، فما كان من الفرس إلا أن تسللوا خلسة من مدينة بهرسير على هذا الجسر العائم من بهرسير إلى أسبانير، وتركوا المدينة خالية، والمسلمون مستمرون في ضرب المدينة، ولم يعلموا أن المدينة خالية حتى خرج لهم أحد الفرس طالباً الأمان، فأمَّنه المسلمون، فقال لهم: إن المدينة أصبحت خالية.
وبالفعل تسلق المسلمون الأسوار، ودخلوا مدينة بهرسير؛ فوجدوها – فعلاً – خالية، وبها كميات ضخمة من الأسلحة، وكميات ضخمة من العتاد، كان من الممكن أن تعين الفرس على الصبر على القتال والحصار، لكنهم فقدوا حمية القتال وفقدوا الروح القتالية، وانهزموا هزيمة نفسية شديدة أمام المسلمين المصِرِّين على هذا الحصار؛ وهربوا جميعاً إلى منطقه أسبانير.
- الآيات التي قرأها سعد في مظلم ساباط:
نزل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في (مظلم ساباط) بعد أن قدم هاشماً ومن معه نحو بهرَ سير، وهي الجزء الغربي من المدائن، ولما نزل سعد ذلك المكان قرأ قول الله تعالى: [ وَأَنذِرْ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعْ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ ] [إبراهيم:44]. وإنما تلا هذه الآية لأن في ذلك المكان كتائب لكسرى تُدعى بوران، وكانوا يحلفون بالله كل يوم: لا يزول ملك فارس ما عشنا، وقد هزمهم وفرقهم زهرة بن الحوية قبل استشهاده.
أبيض كسرى
دخل المسلمون بهرسير بعد أن تسلقوا الأسوار، فدخلت الجيوش الإسلامية الواحد تلو الآخر قرب منتصف الليل، وكان جيش المسلمين قد وصل في هذه الفترة إلى أكبر قوة إسلامية على وجه الأرض في هذه اللحظة، حيث بلغ قوامه ستين ألف جنديٍّ مقاتل مسلم، وقد كان أكبر جيش للمسلمين قبل ذلك جيش أبي عبيدة بن الجراح في موقعة اليرموك حيث كان 38 ألفًاً.
فبعد انتصار القادسية تَوَالى المدد على سعد بن أبي وقاص من المدينة ومن كل الجزيرة العربية بعد أن كُسِرَت شوكة الفرس، وعلا شأن المسلمين، وبدأ المسلمون الذين كانوا مترددين في الخروج لقتال الفرس يخرجون للقتال مع الجيش الإسلامي، 60 ألف مقاتلٍ مسلمٍ عبروا هذا السور تسلقًاً ودخلوا بهرسير، ولم يجدوا فارسيّاً واحداً في المنطقة بأكملها، وأخذوا يزحفون على كل المدينة حتى وصلوا إلى شاطئ دجلة الغربي، ونظروا منه في منتصف الليل إلى الناحية الأخرى من الشاطئ، فوجدوا مدينة أسبانير، فصاح ضرار بن الخطاب: الله أكبر هذا أبيض كسرى، هذا ما وعد اللهُ ورسولُه.
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/12/21.jpg
فقد رأوا من هذه المنطقة على الناحية الأخرى إيوان كسرى، وهو بناء ضخم ارتفاعه ما بين 28 إلى 29 متراً، وقبته البيضاوية كانت ضخمة للغاية، ويحيط بالبناء كله أشجار، لكن القبة تعلو فوق هذه الأشجار؛ لذلك رآها المسلمون وهم على شاطئ دجلة الغربي، وقد أوقد الفرس حولها المصابيح، فظهر إيوان كسرى أبيض متلألئاً وسط الجهة الأخرى؛ فصاح ضرار بن الخطاب: هذا ما وعد الله ورسوله. يتذكر ما وعد به الله ورسوله المسلمين في غزوة الخندق.
وكان ضرار بن الخطاب – وقتئذٍ - مشركاً، وكان في جيش قريش الذي يحاصر المدينة، ولكن ضراراً علم بعد ذلك بهذا الوعد بعد أن أسلم.
بعد أن وافق رسول الله على اقتراح سلمان الفارسيِّ بحفر الخندق حول المدينة، بدأ المسلمون جميعاً يحفرون في هذا الخندق حتى وصلوا إلى صخرة ضخمة استعصت على المسلمين، وكانت هذه الصخرة من نصيب سلمان الفارسي، فاستعصت عليه وكان شديد الساعد قوي البنيان، ومع ذلك لم يستطع تحطيم هذه الصخرة؛ فذهب إلى رسول الله يستأذنه في تغيير اتجاه الحفر ليتجنب هذه الصخرة، ولكن الرسول ذهب بنفسه وعاين الموقف والمكان، ثم طلب معولاً، وبدأ يحطم هذه الصخرة بنفسه؛ فضرب الصخرة ضربة شديدة بالمعول، فبدأت الصخرة تتفتت وخرج منها وهج شديد أضاء - كما يقول سلمان الفارسي - ما بين لابتي المدينة، يعني نوَّر المدينة كلها؛ فصاح الرسول: "الله أكبر أُعطِيتُ مفاتيح الروم، هذه قصورها الحمراء"، ثم ضرب ضربة ثانية فأضاء المكان بشرر عظيم، فقال: "الله أكبر أُعْطِيتُ مفاتيح كسرى، هذا أبيض كسرى".
وهذا الذي نحن بصدد الحديث عنه الآن؛ ثم ضرب الضربة الثالثة، فقال: "الله أكبر أعطيت لي مفاتيح اليمن، هذه قصور صنعاء".
وبشَّر المسلمين في هذا الوقت وهم محاصَرون من قريش من كل جانب، والمسلمون يتخطفهم الخوف والجزَع والرعب من دخول المشركين عليهم المدينة، ومع ذلك - في هذا الوقت - يبشرهم أنهم سيفتحون بلاد الروم أعظم قوة على الأرض، ويفتحون فارس، ويفتحون اليمن؛ فيقول المؤمنون في هذا الوقت: هذا ما وعد اللهُ ورسولُه.
ثم كرر المقولة ضرار بن الخطاب بعد أن أسلم: الله أكبر هذا ما وعد الله ورسوله.
تأتي هذه المقولة منه، فتُذكِّر المسلمين بهذه البشرى العظيمة، ويبدءون في تكبير الفتح، وهو: "الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد. الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً. لا إله إلا الله، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون".
هذا هو تكبير الفتح، وهذه الصيغة سنة عن الرسول أن تُقال في الفتح، وليس سنة أن تُقالَ في العيد؛ لأن تكبير العيد هو: الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر ولله الحمد فقط؛ ولكن المسلمين - لعذوبة هذه الكلمات - تعوّدوا أن يقولوها في العيد، وليس هذا هو الأصل، حسب قول الدكتور
بدأ ستون ألف مسلم يكبرون هذا التكبير في صوت واحد استبشاراً بفتح المدائن، وحتى الآن لم يعبر المسلمون إلى الناحية المقابلة، ويصل هذا التكبير إلى الناحية الأخرى إلى يزدجرد كسرى فارس، وإلى جنود فارس؛ فيزيدهم رعباً فبدءوا يفكرون، فالمسلمون على الأبواب، وصوتهم صوت التكبير يرعب الفرس رعباً شديداً، وقد نُصِرَ رسول الله ونُصِرَ أصحابُه بالرعب.
فتح مدينة أسفانبر
بدأ الفرس يُصابون بالرعب رغم أنهم كانوا مستعدين لملاقاة المسلمين، فقد جمعوا السفن الموجودة في دجلة على مسافة 150 كيلو متراً من المدائن جنوباً، و170 كيلو متراً من المدائن شمالاً على شاطئ دجلة أمام المدائن على الناحية الشرقية؛ حتى لا يستطيع المسلمون أن يسيطروا على أية سفينة من الشمال أو الجنوب، ليعبروا بها إلى الضفة الأخرى، كما قطع الفرس الجسر العائم عند عبورهم من مدينة بَهُرَسير إلى مدينة أسبانير.
هذا العبور كان - تقريباً - في شهر مارس، وشهر مارس بداية الفيضان في نهر دجلة، ولكنه لم يكن قد وصل بعدُ إلى النهر، وكان في نهر دجلة بعض المخاضات التي من الممكن أن يسير فيها المسلمون؛ فأشار بعض الفرس على سعد بن أبي وقاص أن يعبر بالجيش الإسلامي نهر دجلة من إحدى هذه المخاضات، لكن سعد بن أبي وقاص يتصف بالتريث والتمهل والحرص على الجيش الإسلامي؛ لذلك كان متردداً تردداً شديداً في عبور هذا النهر العظيم بهذا الجيش، فلا سفينة ولا جسر ولا شيء يعينهم على العبور، ثم استخار الله، ونام ليلة، فرأى رؤيا مفادها أن خيول المسلمين قد عبرت النهر، فعزم لتأويل رؤياه على العبور، وجمع الناس فحمد الله تعالى وأثنى عليه وقال: "إن أعداءكم قد اعتصموا منكم بهذا البحر فلا تخلصون إليهم معه وهم يخلصون إليكم إذا شاؤوا فَيُنَاوشونكم في سفنهم وليس وراءكم شيء تخافون أن تؤتوا منه، قد كفاكموهم أهل الأيام، وعطلوا ثغورهم وأفنوا ذادتهم، وقد رأيت من الرأي أن تبادروا جهاد عدوكم بنياتكم قبل أن تحصركم الدنيا، ألا إني قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم".
فقالوا جميعاً: عزم الله لنا ولك على الرشد فافعل.. وهذا الموقف يشبه موقف العلاء بن الحضرمي قائد الجيش السابع من جيوش الردة، حيث كان قد فتح البحرين عبوراً كذلك على الخيول من غير سفن ولا شيء.
وفي هذا الموقف دروس وعبر وفوائد، منها:
- تذكُّر معية الله جل وعلا لأوليائه المؤمنين بالنصر، والتأييد فهذه الرؤيا الصادقة التي رآها سعد رضي الله عنه من الله جل وعلا لتثبيت قلبه ليُقدم على هذا الأمر المجهول العاقبة.
- أن الله تعالى يُجري الأمور لصالح المؤمنين، فالنهر جرى بكثافة مفاجئة على غير المعتاد، وظاهر هذا أنه لصالح الفرس؛ حيث إنه سيمنع أي محاولة لعبور المسلمين، ولكن حقيقته أنه لصالح المسلمين، حيث أعطى ذلك الكفار طمأنينة؛ فلم يستعدوا لقدوم المسلمين المفاجئ لهم، ولم يستطيعوا أن يحملوا معهم كل ما يريدون حمله من الفرار.
- أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتفاءلون خيراً بالرؤيا من الرجل الصالح، ويعتبرونها مُرجحاً للإقدام على العمل، وكانوا رضي الله عنهم يحسنون الظن بالله تعالى، ويعتبرون أن رُؤَى الخير تثبيت وتأييد منه تعالى.
- أن قادة المسلمين في العهد الراشدي كانوا يتصفون غالباً بالحزم واغتنام الفرص وتفجير طاقة الجنود، وهم في حماسهم وقوة إيمانهم، فهذا سعد رضي الله عنه يأمر جيشه بأن يعبروا إلى الأعداء بسلاح الإخلاص والتقوى، وقد كان مطمئناً إلى مستوى جيشه الإيماني؛ فأقدم على ما أقدم عليه مستعيناً بالله تعالى، ثم بذلك المستوى الرفيع.
- اتصاف الصحابة رضي الله عنهم ومن معهم من التابعين بالطاعة التامة لقادتهم، وكانوا يعتبرون هذه الطاعة واجباً شرعياً وعملاً صالحاً يتقربون به إلى الله تعالى.
كان هذا قراراً عجيباً أن يعبر بـ60 ألفاً بالخيول؛ فالخيول تجيد السباحة، لكن المسلمين أنفسهم لا يجيدونها في غالبيتهم؛ لأنهم يعيشون في الصحراء، ففي العبور - إذن - مخاطرة شديدة، لكن لم يكن أمام المسلمين حَلّ آخر يوصِّلُهم للناحية الثانية للمدائن وهم مصممون على فتح المدائن؛ فقرر سعد بن أبي وقاص العبور، بينما كان يزدجرد في الناحية الأخرى مطمئنًّا تمام الاطمئنان أن المسلمين لن يعبروا هذه المنطقة قبل أربعة أو خمسة شهور على الأقل؛ لأن الفيضان ينتهي في أوائل أكتوبر وتبدأ المياه عندها في التراجع.
وتمكن المسلمون من عبور النهر على الخيول، وعندما بدأ الجيش بالعبور فاجأهم الفيضان قبل موعده بأسبوعين أو ثلاثة، ولكن سعد بن أبي وقاص لم يمنعه هذا الفيضان أن ينفذ وعده للمسلمين بعبور هذا النهر؛ فجمع المسلمين كلهم، وقال لهم:
بدأ الجيش في العبور وعلم سعد بن أبي وقاص أن الفرس قد وضعوا على حدود مدينة أسبانير خارج السور على شاطئ نهر دجلة قوات فارسية للدفاع عن مدينة أسبانير، وهو يريد أن تصل أقوى فرقة من فرق المسلمين إلى شاطئ دجلة في الناحية الثانية حتى تلاقي هذا الحرس الفارسي لقاءً قويّاً عنيفاً، وكان عند سعد بن أبي وقاص كتيبة تسمى الخرساء وهي أقوى كتائب المسلمين، وكان سعد يوكل لها المهام الصعبة، وتُسَمَّى الخرساء؛ لأنها كانت تخرج على الجيوش المعادية بدون صوت غير الهجوم المفاجئ على الجيوش المعادية دون أي تنبيه أو إنذار بالهجوم، وكان قائد هذه الكتيبة القعقاع بن عمرو التميمي.
لم يرضَ سعد أن يأمر كتيبته الخرساء بالهجوم في أول دجلة؛ لأنه يعلم أن الأمر في منتهى الصعوبة، فآثر أن يكون هذا الأمر تطوعاً، وأعلن في المسلمين أنه من يريد أن يتطوع لعبور دجلة في مقدمة الصفوف فليتطوع؛ فتقدم له من المسلمين 600 متطوع تقدموا ليكونوا أول أناس تعبر دجلة، فأطلق عليهم سعد بن أبي وقاص "كتيبة الأهوال"، وأي هولٍ أكثر من أن يعبروا نهر دجلة على الخيول وفي مقابلتهم الجيش الفارسي على الضفة الأخرى في وقت الفيضان؟.
وبالفعل بدأ الـ 600 يجهزون أنفسهم للعبور، وأُمِّرَ عليهم عاصم بن عمرو التميمي. وأَمَرَ عاصم كتيبته أن يتخذوا من أنفسهم 60 فرداً؛ ليكونوا في مقدمة الـ 600، وهؤلاء الـ 600 في مقدمة الـ 60000؛ فخرج له ستون فارساً من فرسان المسلمين الأشداء، وطلبوا أن يكونوا على مقدمة الصفوف، فخرج بهم عاصم بن عمرو التميمي، واقتحم بهم دجلة، وأمر الجيش بأن يشرع الرماح، ويلقي بالرماح في عيون الفرس، ويقول لهم: لا تضربوا الفرس في أي مكان، ولكن اضربوهم في العيون.
وهذا الأمر قد تكرر من قبل في موقعة الأنبار، فقد أمر خالد بن الوليد الجيوش الإسلامية في هذه الموقعة أن تلقي بالسهام في عيون الفرس؛ فأصابوا منهم في ذلك الوقت ألف عين، وسميت موقعة الأنبار بذات العيون؛ لأنه فُقِئَ فيها ألف عين للفرس، فأراد عاصم بن عمرو التميمي أن يلقي الرعب والرهبة في قلوب الفرس من مهارة المسلمين في رمي السهام والرماح، كما يريد أن يعطل قدراتهم القتالية، فإذا لم يُقْتل الواحد منهم، فإنه يصير أعور، ويترك القتال.
وتقدم الستون وتبعهم الستمائة، وبقي الستون ألفاً واقفين على الشاطئ ينظرون: ماذا سيفعل هؤلاء الأبطال الستمائة؟!، وبدأ عاصم يقتحم دجلة بالخيول، وأذهلت المفاجأة الفرس؛ إذ كيف يأخذ المسلمون خيولهم مقتحمين دجلة وسط الفيضان.
هذا شيء لم يكن يخطر لهم على بالٍ أبداً، وبدءوا في إنزال قوات فارسية على خيول أيضاً؛ لتقاتل المسلمين في المياه.
فرقٌ كبير جدّاً بين القوات المسلمة على الخيول، وبداخلهم روح عظيمة جدّاً؛ فهم منتصرون في موقعة القادسية، وعندهم إيمان شديد بأن الله سيفتح عليهم هذه البلاد، ويفتح عليهم أبيض كسرى الذي وعد اللهُ به ورسولُه، وبين الفرس الذين تملؤهم هزيمة نفسية قاسية؛ فهم قد هُزِمُوا هزيمةً شديدةً في موقعة القادسية، كما هربوا من مدينة بهرسير ذات الأسوار العظيمة، وتجمعوا في مدينة المدائن منتظرين الجيوش الإسلامية، إحساس المنتصر يختلف عن إحساس المنهزم، أضف إلى ذلك أن المهارة الإسلامية تفوق المهارة الفارسية في القتال، وكذلك تفوق الخيول الإسلامية على الخيول الفارسية؛ فاجتمعت هذه العوامل جميعاً، ودخل الفرس في حرب خاسرة منذ البداية مع المسلمين وسط المياه، والتقى المسلمون مع الفرس بالرماح، وشهروا الرماح في أعين الفرس؛ ففقئوا منهم العيون، وصار الفرس بين قتيل وأعور وفارٍّ من المسلمين، وكان الأولى والأكثر حكمة في القتال أن يصبرَ الفُرْسُ على وجودهم على الشاطئ ليُلْقُوا على المسلمين السهام، ويتريثوا بعدم الدخول مع المسلمين في موقعة بعد أن أدركوا قيمة المقاتل المسلم.
وقد جعل اختلاط المسلمين بالفرس في القتال داخل المياه القوات الفارسية - التي على الشاطئ - عاجزةً عن رمي الأسهم على الجيش المسلم؛ فانتصر المسلمون عليهم انتصاراً عظيماً، وعبر عاصم بن عمرو التميمي والستمائة مقاتل الذين معه نهر دجلة، ووصلوا الشاطئ الشرقي لنهر دجلة؛ ليقاتلوا القوات الفارسية الموجودة على الجهة الأخرى، وسعد بن أبي وقاص على الناحية الأخرى يراقب الموقف، ويكبر هو والمسلمون كلما زاد تقدم المسلمون، وذلك يزيد حميَّة وحماسة الجيش المسلم، ويَفُتُّ في عَضُدِ الجيش الفارسي، وبدأ المسلمون يُعمِلُون سُيُوفَهم في الرقاب الفارسية خارج أسوار "أسفانبر" على الشاطئ الشرقي لنهر دجلة، حتى أتاهم رجل من داخل مدينة أسفانبر من داخل السور، ونادى على الفرس قائلاً: علامَ تقتلون أنفسَكم؟!، ليس في المدينة أحد، كل من بالمدينة هربوا. وعندما سمع الفرس هذا الكلام انهزموا هزيمة نفسية شديدة، وبدءوا يفِرُّون من أمام القوات الإسلامية.
وشاهد ذلك سعد بن أبي وقاص فأمر الستين ألفًا بعبور دجلة على خيولهم، وبدأت القوات الإسلامية تعبر دجلة، وسعد يقول لهم: اعبروا مَثْنَى مَثْنَى. أي اثنين اثنين؛ وذلك حتى يكونا عونًا لبعضهما البعض؛ فإذا سقط أحدهما في الماء، أو غرق يستطيع الآخر أن يساعده، أو يخبر المسلمين عنه، وأمرهم أن يقولوا: "نستعين بالله، ونتوكل عليه، حسبنا الله ونِعْمَ الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".
فهذا دَيْدَنُ الجيش الإسلامي وهو يعبر دجلة، وكان في موقعة القادسية قد أوصاهم أن يقولوا: "لا حول ولا قوة إلا بالله"، فهم في كل موقعة لهم ذِكْرٌ لله، يستشعرون به مساعدة الله ونصره لهم.
هروب كسرى
عبر المسلمون مثنى مثنى في هذا الوقت إلى مدينة أسفانبر، وقصرها الأبيض قصرٌ بوابته شرقية مواجهة لدجلة، وفي هذا الوقت كان كسرى فارس يهرب من هذا الموقف الرهيب، حيث هرَّبوه في زبيل (وهو شيء مثل القفة أو يشبه الجوال، يدخلوه فيه حتى لا يراه أحد)، من الباب الخلفي لقصره، ويهرب خارج الأسوار إلى مدينة حلوان على بُعْدِ 200 كيلو مترٍ من المدائن، وهذه هي المرة الثانية التي يُوضع فيها كسرى فارس في زبيل أو قُفَّة؛ فالمرة الأولى عندما كان صغيراً، فقد كان كسرى أنوشروان يقتل كل الناس الذين يستحقون الملك حتى لا ينافسه أحد في ملك فارس، فهربت به أمه ووضعته في قُفّة، وخرجت به من هذا القصر نفسه، وهربت به واختفت في أهل فارس حتى أَتَى به أهل فارس، وعيَّنوه كسرى فارس ولم يكن يرغب في ذلك؛ فقد كان عمره 23 سنة عندما ملّكوه عليهم.
وعبر الستون ألفًا نهر دجلة، ولم يفقد المسلمون جنديّاً واحداً في العبور، وإنما سقط أحدهم في المياه، فأدركه القعقاع بن عمرو التميمي وجذبه، ثم وضعه على حصانه ثانيةً؛ فقال له هذا الرجل: يا قعقاع، أعجزت النساء أن يلدن مثلك؟. وهذا من فضل الله أن يدخل ستون ألفًا المياه ويخرجوا مثلما دخلوا.
وأول من دخل مدينة أسفانبر كتيبة الأهوال، حيث عبرت السور إلى داخل المدينة وفتحت الأبواب الضخمة للمسلمين، ودخلت خلفَ كتيبةَ الأهوالِ كتيبةُ الخرساء، ثم تبع كتيبة الخرساء جيش المسلمين بالكامل فدخل مدينة أسفانبر ذات الشوارع العريضة والبيوت الضخمة العظيمة، ويتجولون في المنطقة فلا يجدون أحداً من الفرس مطلقاً باستثناء اثنين من الفرس فقط، يبدو أن الحمية أخذتهما فمنعتهما من الهرب، أو أنهما قد جُنَّا، وكانا مستغرقَيْنِ في استعراضات أمام المسلمين؛ فواحد منهما بيده كرة يرميها لأعلى، والثاني يضرب الكرة بالسهم، فيصيب الكرة في السماء؛ فهذا استعراض يَشِي بالمهارة والدقة في الرمي، فتقدم رجل من المسلمين اسمه أبو اليزيد المضَارِب، ودخل عليهما فأطلق الفارسيان عليه السهام فلم يصيباه، وهو أقرب من الكرة الطائرة؛ وهذا من اضطراب أعصابهم، وتوفيق الله حتى وصل إليهم أبو اليزيد المضارب وقتل الاثنين بضربة واحدة، ثم تجول المسلمون حتى وصلوا إلى القصر الأبيض إلى حدود إيوان كسرى، وكان سعد بن أبي وقاص أثناء سيره يردّد قول الله: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَ ا قَوْمًا آَخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان: 25-29]، فيتلو هذه الآيات، وهو مستشعر تمام الاستشعار أن الله تعالى أذلَّ الفرس لعدم طاعتهم لله، ونَصَرَ المسلمين لتمسكهم بدين الله، يتلو هذه الآيات من منطلق هذه العزة، ويتقدم نحو القصر الأبيض.
دخول المسلمين إيوان كسرى
القصر الأبيض كان الحصن الوحيد الذي يوجد بداخله بعض الفرس المتحصنين الذين لم يشتركوا في القتال، عز عليهم أن يفارقوه، وربما لم يستطيعوا الهرب منه، هذا القصر الأبيض كما مر من قبل ارتفاع سوره من 28 إلى 29 متراً، والقبة البيضاوية التي كانت في وسطه أبعادها 25 متراً × 43 متراً. والمبنى كان كله أبيض، وعليه نقوش كثيرة، ورخام وفسيفساء وأحجار كريمة، وكان مزينًا بزينة عظيمة، وحول هذه القبة الكبيرة قباب كثيرة على الجانبين، والسور كله ليس به أية نوافذ، بل كان مُصْمَتًا؛ وذلك تأميناً للقصر.
حاصر المسلمون القصر حصاراً بسيطًا؛ لأنه لا يوجد بداخله أحد يضرب عليهم بالسهام أو غيره، لكن بداخله بعض الفرس، فذهب إليهم سلمان الفارسي، وقال لهم: أنا منكم، اقبلوا واحدة من ثلاث: إما الإسلام وتكونون منَّا؛ لكم ما لنا، وعليكم ما علينا، وإما الجزية ونمنعكم، وإما المنابذة. وأعطاهم مهلةً ثلاثة أيام كما علَّمهم رسولُ الله.
وفي اليوم الثالث خرج هؤلاء الفرس، وقبلوا دفع الجزية للمسلمين؛ فدخل سعد بن أبي وقاص بعد فتح القصر، وتبعه المسلمون داخل القصر الأبيض أو قصر إيوان كسرى، الذي لم يدخله أحد قبل ذلك غير الوفد المكون من أربعة عشر الذين ذهبوا لزيارة كسرى منذ فترة يدعونه إلى الإسلام.
وقام سعد بن أبي وقاص بمجرد دخوله القصر بأداء صلاة الفتح، وهي ثماني ركعات متصلة لا يفصلها تسليم، ولا تُصلَّى جماعة، وإنما تُصلَّى فرادى، وكان دخول القصر في يوم الجمعة 19 من صفر سنة 16هـ، وكان المسلمون قد أَذَّنوا لإقامة صلاة الجمعة، وهذه أول مرة يصلي فيها المسلمون صلاة الجمعة منذ دخولهم أرض العراق، فمنذ مَقْدِم خالد بن الوليد سنة 12هـ حتى هذه اللحظة لم يصلوا الجمعة، وإنما كانوا يُصلُّون دائماً الظهر قصراً، أي جمع الظهر مع العصر، والمغرب مع العشاء؛ لأنهم كانوا دائماً على سفر، ولكن سعد بن أبي وقاص بمجرد دخوله المدائن اعتبر نفسه مقيماً، وأن المدائن هي البلد التي سيتخذها المسلمون مقاماً بعد أن كُسِرَتْ شوكة الفرس، وبذلك أصبحت المدائنُ مدينة للمسلمين، يقيمون فيها كبقية بلادهم مثل المدينة المنورة ومكة المكرمة، وكسائر بلاد المسلمين؛ ولذا أتم الصلاة في ذلك اليوم، وصلَّى الجمعة، كما صلَّى المغرب والعشاء كل فرض في وقته دون جمع أو قصر.. كانت هذه أول مرة بعد أربع سنوات من الجهاد المستمر.
ثم بدأ سعد بن أبي وقاص في جمع الغنائم، وكانت مهمة شاقة جدّاً على المسلمين؛ لأن الغنائم ليس لها حصر، وكمياتها ضخمة، كما أن الفرس قد هربوا ببعض الغنائم، فأمّر سعد على إحضار هذه الغنائم عمرو بن عمرو بن مقرن المزني، كما أطلق زهرة بن الحُوِيَّة قائد مقدمة المسلمين في متابعة الفرق الفارَّة من الفرس للقبض عليهم، وإحضار الغنائم التي هربوا بها، وبدأ المسلمون يجمعون الغنائم، ولم يكن سعد يرغب في تقسيم الغنائم إلا عندما تكتمل كلها، وهذه الغنائم في الحقيقة كان لها ذكر طويل في كتب التاريخ، ووُصِفت بصفاتٍ عظيمة. وبسقوط المدائن استسلمت بقية المدن بدون قتال.
https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
مواقف من أمانة المسلمين:
أ - لما هبط المسلمون المدائن وجمعوا الأقباض، أقبل رجل يحُف معه، فدفعه إلى صاحب الأقباض، فقال: ما رأينا مثل هذا قط،
ما يعد له ما عندنا ولا يقاربه، فقالوا: هل أخذت منه شيئاً؟، فقال: أما والله لولا الله ما أتيتكم به، فعرفوا أن للرجل شأناً، فقالوا: من أنت؟، فقال: لا والله لا أخبركم لتحمدوني، ولا غيركم ليقِّرظوني، ولكنني أحمد الله وأرضى بثوابه، فأتبعوه رجلاً حتى انتهى إلى أصحابه، فسال عنه فإذا هو عامر بن عبد قيس.
ب - قال عصمة بن الحاث الض*َّبِّي: خرجت فيمن خرج يطلب فأخذت طريقاً مسلوكاً، وإذا عليه حَمَّار، فلما رآني حثَّه فلحق بآخر قُدّامه، فمالا وحثَّا حماريهما، فانتهيا إلى جدول قد كُسر جسره فثبتا حتى أتيتهما ، ثم تفرقا، ورماني أحدهما فألظْظت به (يعني تبعته) فقتلته، وأفلت الآخر، ورجعت إلى الحمارين، فأتيت بهما صاحب الأقباض، فنظر فيما على أحدهما فإذا سَفَطان في أحدهما فرس من ذهب مسرج بسرج من فضة على ثغْر ولبَبَه الياقوت والزمرُّد منظوم على الفضة ولجام كذلك، وفارس من فضة مكلَّل بالجواهر، وإذا في الآخر ناقة من فضة عليها شليل من ذهب وبطان من ذهب ولها زمام من ذهب، وكل ذلك منظوم بالياقوت، وإذا عليها رجل من ذهب مكلل بالجوهر، كان كسرى يضعها إلى إسطوانتي التاريخ.
ج - لحق القعقاع بن عمرو بفارسي يحمي الناس فقتله، وإذا معه غلافان وعيبتان، وإذا في أحد الغلافين خمسة أسياف وفي الآخر ستة، وهي من أسياف الملوك من الفرس ومن الملوك الذين جرت بينهم وبين الفرس حروب وفيها سيف كسرى وسيف هرقل وإذا في العيبيتين أدراع من أدراع الملوك وفيها درع كسرى ودرع هرقل، فجاء بها إلى سعد، فقال: اختر أحد هذه الأسياف فاختار سيف هرقل وأعطاه درع بهرام، وأما سائرها فنفلها كتيبة الخرساء التي هي بقيادة القعقاع، إلا سيف كسرى والنعمان، فقد رأى أن يبعثهما إلى أمير المؤمنين لتسمع بذلك العرب لمعرفتهم بهما.
ثناء الصحابة على أفراد الجيش
أثنى أكابر الصحابة رضي الله عنهم على ذلك الجيش، ومن ذلك قول سعد بن أبي وقاص: والله إن الجيش لذو أمانة، ولولا ما سبق لأهل بدر لقلت على فضل أهل بدر.
وقال جابر بن عبدالله: والله الذي لا إله إلا هو ما اطلعنا على أحد من أهل القادسية أنه يريد الدنيا مع الآخرة، ولقد اتهمنا ثلاثة نفر فما رأينا كالذي هجمنا عليه من آمانتهم وزهدهم: طليحة بن خويلد، وعمرو بن معد يكرب، وقيس بن المكشوح.
وأكبر من ذلك ثناء أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه لما رأى خُمس تلك الغنائم، وكان معها سيف كسرى ومنطقته وزبرجده، فقال: إن قوماً أدَّوا هذا لذَوو أمانة، فقال علي رضي الله عنه: إنك عففت فعفَّت الرعية ولو رتعت لرتعت.
موقف الخليفة من نوادر الغنائم
بعث سعد بن أبي وقاص إلى عمر بقباء كسرى وسيفه ومنطقته وسواريه وسراويله وقميصه وتاجه وخفِّيه، وقد كانت غالية الثمن كالحرير والذهب والجوهر، فنظر عمر في وجوه القوم، وكان أجسمهم وأبدنهم قامة سراقة بن مالك بن جعثم، فقال: يا سُراقة قم فالبس، قال سراقة: فطمعت فيه، فقمت فلبست، فقال: أدبر فأدبرت، ثم قال: أقبل فأقبلت، ثم قال: بخٍ بخٍ، أعرابي من مدلج عليه قباء كسرى وسراويله وسيفه ومنطقته وتاجه وخفاه، رب يوم يا سراقه بن مالك لو كان عليك فيه هذا من متاع كسرى وآل كسرى كان شرفاً لك ولقومك، انزع، فنزع، فقال: اللهم إنك منعت هذا رسولك ونبيك، وكان أحب إليك مني وأكرم عليك مني، ومنعته أبا بكر، وكان أحب إليك مني وأكرم عليك مني، وأعطيتنيه، فأعوذ بك أن تكون أعطيتنيه لتمكر بي، ثم بكى حتى رحمه من كان عنده. ثم قال لعبد الرحمن بن عوف: أقسمت عليك لما بِعتْه ثم قسمته قبل أن تمسي.
يتبع