ابو وليد البحيرى
2021-12-03, 11:58 PM
سقوط دولة المرابطين.. مشهد في مسلسل سقوط الأمم - تقرير
أحمد الشجاع
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/12/15.jpg
سقوط الدول والأمم يبدأ من الداخل.. من داخل النفوس والعقول والقلوب، ومن داخل البلاد..فالفكر والمنهج هو الأساس الأول والأهم الذي يحدد معالم الأسس الباقية، ويضع معايير وقواعد بناء الدولة والمجتمع.
وكلما كانت ومكونات المنهج أكثر تقارباً مع واقع الناس، وأدق تطبيقاً لحاجتهم كانت المجتمعات أكثر استقراراً وثباتاً وقوة وتماسكاً..وبقاء ذلك يحتاج إلى محافظة على هذا المنهج من أي خطر خارجي وخلل داخلي؛ لأن أي استهداف للمنهج هو استهداف للأسس والقواعد؛ والنتيجة الحتمية: السقوط والانهيار الذي سيشمل كل جوانب المجتمع الحسية والمعنوية.
وبعد أن تحدثنا في تقارير سابقة عن دولة المرابطين وكيف نشأت وأصبحت قوية سيتحدث هذا التقرير عن سقوط هذه الدولة..وسنجد أن عوامل البناء والقوة لم تعد موجود عندما سقطت، بل حل محلها ما يخالفها ويتناقض معها.
وسيركز التقرير على مظاهر السقوط وأسبابه، ونظرة الشريعة الإسلامية لأسباب انهيار الدول والمجتمعات.
معالم الانهيار
مضت فترة القوة في هذه دولة المرابطين عندما مات أكبر شخصية فيها يوسف بن تاشفين على رأس المائة الخامسة، وبالتحديد سنة 500 من الهجرة.
وبعد يوسف ورغم الجهود الكبيرة التي بذلها خليفته وابنه علي بن يوسف - بدأت دولة المرابطين تدخل طور الأفول..وكان ذلك بتأثير سبب قوي غريب؛ كان ذلك لأن علي بن يوسف هذا قد انصرف عن شؤون الحكم إلى حد كبير، ولم يتحرك إلا في مرات قليلة لم تكن كافية لسد الثغرات التي فتحت على الدولة في المغرب والأندلس، وراح هذا الأمير المرابطي يصوم النهار ويقوم الليل ويعكس بزهده وإهماله لشؤون دولته فهماً مغلوطاً للإسلام بل إنه وقع في خطأ كبير حين وقع تحت تأثير مجموعة كبار الفقهاء البارزين في دولته، وكان لا يزيد عن كونه لعبة صغيرة في أيديهم.
ونتيجة غفلة علي بن يوسف هذا، وانصراف الفقهاء إلى جمع الثروات، بدأت مظاهر التحلل تسود قطاعات كبيرة من الدولة.
كانت الخمر تباع علناً في الأسواق، وكان النبيذ يشرب دون حرج، وكانت الخنازير تمرح في الأسواق كالأغنام، واستولى أكابر المرابطين على إقطاعات كبيرة وذهبوا إلى الاستبداد فيها.
وقد أمات الفقهاء واجب "الحسبة"، وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلم يقوموا بتغيير نواحي التحلل التي ظهرت في الدولة، وكان بإمكانهم لتمكنهم من الحكم أن يقوموا على تغييرها، لكنهم جاروا العامة في غرائزها وبحثوا عن أنفسهم، بل قاوموا المخلصين الذين حاولوا التغيير ورموهم بالتكفير والمروق.
ويصف المؤرخ المراكشي مظاهر اختلال المرابطين، وملخص ما ذكره:
ظهرت في بلاد المرابطين مناكر كثيرة؛ وذلك لاستيلاء أكابر المرابطين على البلاد ودعواهم الاستبداد، وانتهوا في ذلك إلى التصريح، فصار كل منهم يصرح بأنه خير من أمير المسلمين علي بن يوسف وأحق بالأمر منه.
واستولى النساء على الأحوال وأسندت إليهن الأمور، وصارت كل امرأة من أكابر لمتونة ومسوفة مشتملة على كل مفسد وشرير وقاطع سبيل وصاحب خمر وماخور، وأمير المسلمين في ذلك كله يتزيد تغافله ويقوى ضعفه، وقنع باسم إمرة المسلمين، وبما يرفع إليه من الخراج.
وعكف على العبادة والتبتل فكان يقوم الليل ويصوم النهار مشتهراً عنه ذلك، وأهمل أمور الرعية غاية الإهمال؛ فاختل لذلك عليه كثير من بلاد الأندلس وكادت تعود إلى حالها الأول لاسيما منذ قامت دعوة ابن تومرت بالسوس.
وكان آخر ما استولي عليه من البلاد التي يملكها المرابطون مدينة مراكش دار ملك أمير المسلمين وناصر الدين علي بن يوسف بن تاشفين، وكان هذا بعد وفاة أمير المسلمين المذكور حتف أنفه في شهور سنة 537، وكان قد عهد في حياته إلى ابنه تاشفين فعاقته الفتنة عن تمام أمره، ولم يتفق له ما أمله من استقلال ابنه تاشفين المذكور بشيء من الأمور.
وخرج تاشفين بعد وفاة أبيه قاصداً تلمسان فلم يتفق له من أهلها ما يريد فقصد مدينة وهران وهي على ثلاث مراحل من تلمسان فحاصره الموحدون بها فلما اشتد عليه الحصار خرج راكباً فرساً شهباء عليه سلاحه فاقتحم البحر حتى هلك ويقال إنهم أخرجوه من البحر وصلبوه ثم أحرقوه، فالله أعلم بصحة ذلك.
فكانت ولاية تاشفين هذا من يوم وفاة أبيه إلى أن قتل بمدينة وهران ثلاثة أعوام إلا شهرين وكان قتله سنة 540، وكان طول هذه الولاية لا يستقر به قرار ولا تستقيم له حال، تنبو به البلاد وتتنكر له الرعية.
وبعد دخول عبد المؤمن - رحمه الله - مراكش طلب قبر أمير المسلمين وبحث عنه عبد المؤمن أشد البحث فأخفاه الله وستره بعد وفاته كما ستره في أيام حياته وتلك عادة الله الحسنى مع الصالحين المصلحين.
وانقطعت الدعوة بالمغرب لبني العباس بموت أمير المسلمين وابنه فلم يذكروا على منبر من منابرها إلى الآن خلا أعوام يسيرة بأفريقية كان قد ملكها يحيى بن غانية الثائر من جزيرة ميرقة.
أسباب سقوط دولة المرابطين
1- ظهور روح الدعة والانغماس في الملذَّات والشهوات عند حُكَّام المرابطين وأمرائهم في أواخر عصر علي بن يوسف.
وكان للمجتمع الأَنْدَلُسي تأثير لا ينكر في قادة وأمراء وحكام دولة المرابطين الذين استجابوا لنزوات شهواتهم وانغمسوا في الحياة الدنيا، فتحقَّق قول الله تعالى: }وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا{ [الإسراء:16].
يقول سيِّد قطب رحمه الله: "والمترفون في كلِّ أمَّة هم طبقة الكبراء الناعمين الذين يجدون المال، ويجدون الخدم، ويجدون الراحة، فينعمون بالدعة والراحة، وبالسيادة حتى تترهل نفوسهم وتأسن، وترتع في الفسق والمجانة وتستهتر بالقيم والمقدسات والكرامات، وتلغ في الأرض والحرمات. وهم إذا لم يجدوا مَنْ يَضْرِبُ على أيديهم عاثوا في الأرض فساداً، ونشروا الفاحشة في الأمة وأشاعوها، وأرخصوا القيم العليا التي لا تعيش الشعوب إلا بها ولها، ومن ثَمَّ تتحلل الأمة وتسترخي، وتفقد حيويتها وعناصر قوتها وأسباب بقائها فتهلك وتطوى صفحتها. والآية تقرر سنة الله هذه، فإذا قدر الله لقرية أنها هالكة؛ لأنها أخذت بأسباب الهلاك، فكثر فيها المترفون، فلم تدافعهم ولم تضرب على أيديهم، سلط الله هؤلاء المترفين ففسقوا فيها، فعم فيها الفسق، فتحللت وترهلت، فحقت عليها سنة الله، وأصابها الدمار والهلاك. وهي المسؤولة عما يحل بها؛ لأنها لم تضرب على أيدي المترفين، ولم تصلح من نظامها الذي يسمح بوجود المترفين. فوجود المترفين ذاته هو السبب الذي من أجله سلطهم الله عليها ففسقوا، ولو أخذت عليهم الطريق فلم تسمح لهم بالظهور فيها ما استحقت الهلاك، وما سلط الله عليها من يفسق فيها ويفسد فيقودها إلى الهلاك.
إن إرادة الله قد جعلت للحياة البشرية نواميس لا تتخلف، وسنناً لا تتبدل. وحين توجد الأسباب تتبعها النتائج، فتنفذ إرادة الله وتحق كلمته. والله لا يأمر بالفسق؛ لأن الله لا يأمر بالفحشاء. لكن وجود المترفين في ذاته دليل على أن الأمة قد تخلخل بناؤها، وسارت في طريق الانحلال، وأن قدر الله سيصيبها جزاء وفاقاً".
2- ظهور السفور والاختلاط بين النساء والرجال، وبدأت دولة المرابطين في آخر عهد الأمير على بن يوسف تفقد طُهرَها وصفاءَها الذي اتصف به جيلهم الأول؛ مما جعل الرعية المسلمة تتذمر من هذا الانحراف والفساد، وتستجيب لدعوة مُحَمَّد بن تومرت الذي أظهر نفسه للناس بالزاهد والنَّاسك والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر.
3- انحراف نظام الحكم عن نظام الشورى إلى الوراثي الذي سبب نزاعاً عنيفاً على منصب ولاية العهد بين أولاد علي بن يوسف، كما تطلع مجموعة مِن الأمراء إلى منصب الأمير على ونازعوه في سلطانه؛ مما سبب تمزقاً داخلياً، ففقدت الدولة المرابطية وحدتها الأولى، وكثرت الجيوب الداخلية في كيان الدولة، وتفجرت ثورات عنيفة في قرطبة، وفي فاس وغيرهما، ساهمت في إضعاف الوحدة السياسية وإسقاط هيبة الدولة المرابطية.
4- الضيق الفكري الذي أصاب فقهاء المرابطين وحجرهم على أفكار النَّاس، ومحاولة إلزامهم بفروع مذهب الإمام مالك وحده، وعملوا على منع بقية المذاهب السنية تعصباً لمذهبهم، وكان لفقهاء المالكية نفوذ كبير؛ مما جعلهم يوسعون تعصبهم وتحجرهم الفكري.
ويرى بعض المؤرخين أن التعصب الأعمى عند فقهاء المرابطين في زمن الأمير علي ابن يوسف كان السبب الأول في سقوط دولة المرابطين.
لقد استغل بعض الفقهاء نفوذهم من أجل جمع المال وبناء الدور، وامتلاك الأرض، وعاشوا حياة البذخ والرفاهية المفرطة؛ وكان ذلك سبباً في إيجاد ردة فعل عنيفة عند أفراد المجتمع المرابطي، وانبرى الشعراء في تصوير حال الفقهاء في تلك الفترة، فقال أبو جعفر أحمد بن مُحَمَّد المعروف بابن البني:
أهل الرياء لبستـم ناموسكــم
كالذئب أدلج في الظلام العاتم
فملكتـــم الدنيـــا بمذهب مالك
وقسمتم الأموال بابن القاســم
وركبتم شهب الدواب بأشهب
وبأصبغ صبغت لكم في العالم
5- ومن أهم العوامل التي أسقطت دولة المرابطين: فقدها لكثير من قياداتها وعلمائها العظام أمثال سير بن أبي بكر، ومُحَمَّد بن مزدلي، ومُحَمَّد ابن فاطمة، ومُحَمَّد بن الحاج، وأبي إسحاق بن دانية، وأبي بكر بن واسينو.
فمن لم يستشهد من كبار رجال الدولة أدركه الموت الطبيعي، ولم يستطع ذلك الجيل أن يغرس المبادئ والقيم التي حملها في الجيل الذي بعده، فاختلفت قدرات الجيل الذي بعدهم واستعداداتهم، وهذا درس مهم لأبناء الحركات الإسلامية في أهمية توريث التجارب والخبرات المتنوعة والمتعددة للأجيال المتلاحقة.
6- ومن أهم العوامل التي أنهكت دولة المرابطين، أنها مرَّت بأزمة اقتصادية حادة، نتيجة لانحباس المطر عدة سنوات، وحلول الجفاف والقحط بالأَنْدَلُس والمغرب، وزاد من حدة الأزمة الاقتصادية أن أسراب الجراد هاجمت ما بقي مِن الأخضر على وجه البلاد؛ مما هيأ الظروف لانتشار مختلف الأوبئة بين كثير مِن السكان، ووقعت هذه الأزمة في الفترة الواقعة ما بين أعوام 524هـ -530م.
7- ومن أهم الأسباب الرئيسية: صدامها المسلح مع جيوش المُوَحِّدِين.
فقد كان ظهور دولة المُوَحِّدِين وانقضاضها بعنف على دولة المرابطين سبباً في ضعف النواحي الحضارية والثقافية والسياسية والعسكرية عند المغاربة عموماً، وفتحت مجالاً لملوك النصارى للقضاء على الإسلام في الأَنْدَلُس فيما بعد.
أحوال الأندلس بعد سقوط دولة المرابطين
أما عن أحوال جزيرة الأندلس فيقول المراكشي: فإنه لما كان آخر دولة أمير المسلمين أبي الحسن علي بن يوسف اختلت أحوالها اختلالاً مفرطاً أوجب ذلك تخاذل المرابطين وتواكلهم وميلهم إلى الدعة وإيثارهم الراحة وطاعتهم النساء فهانوا على أهل الجزيرة، وقلوا في أعينهم واجترأ عليهم العدو واستولى النصارى على كثير من الثغور المجاورة لبلادهم، وكان أيضاً من أسباب ما ذكرناه من اختلالها قيام ابن تومرت بسوس، واشتغال علي بن يوسف به عن مراعاة أحوال الجزيرة.
ولما رأى أعيان بلاد تلك الجزيرة ما ذكرناه من ضعف أحوال المرابطين أخرجوا من كان عندهم من الولاة، واستبد كل منهم بضبط بلده، وكادت الأندلس تعود إلى سيرتها الأولى بعد انقطاع دولة بني أمية.
فأما بلاد أفراغة فاستولى عليها ملك ارغن - لعنه الله - وملك مع ذلك سرقسطة، وكثيراً من أعمال تلك الجهات.
واتفق أمر أهل بلنسية ومرسية وجميع شرق الأندلس على تقديم رجل من أعيان الجند اسمه عبد الرحمن بن عياض، وكان عبد الرحمن هذا من صلحاء أمة محمد وخيارهم.
وقام بأمر تلك الجهات بعده رجل اسمه محمد بن سعد المعروف عندهم بابن مردنيش، وكان محمد هذا خادماً لابن عياض يحمل له السلاح ويتصرف بين يديه في حوائجه، فلما حضرته الوفاة اجتمع إليه الجند وأعيان البلاد فقالوا له: إلى من تسند أمورنا وبمن تشير علينا؟، وكان له ولد فأشاروا به عليه، فقال: إنه لا يصلح؛ لأني سمعت أنه يشرب الخمر، ويغفل عن الصلاة، فإن كان ولا بد فقدموا عليكم هذا - وأشار إلى محمد بن سعد - فإنه ظاهر النجدة كثير الغناء، ولعل الله أن ينفع به المسلمين..فاستمر ت ولاية ابن سعد على البلاد إلى أن مات في شهور سنة 568هـ.
وأما أهل المرية فأخرجوا من كان عندهم أيضاً من المرابطين، واختلفوا فيمن يقدمونه على أنفسهم، فندبوا إليها القائد أبا عبد الله بن ميمون، ولم يكن منهم إنما هو من أهل مدينة دانية، فأبى عليهم، وقال: إنما أنا رجل منكم ووظيفتي البحر وبه عرفت، فكل عدو جاءكم من جهة البحر فأنا لكم به، فقدموا على أنفسكم من شئتم غيري. فقدموا على أنفسهم رجلاً منهم اسمه عبد الله بن محمد يعرف بابن الرميمي، فلم يزل عليها إلى أن دخلها عليه النصارى من البر والبحر، فقتلوا أهلها وسبوا نساءهم وبنيهم وانتهبوا أموالهم.
وملك جيان وأعمالها إلى حصن شقورة وما والى تلك الثغور رجل اسمه عبد الله، لا أعرف اسم أبيه، هو معروف عندهم بابن همشك، وربما ملك عبد الله هذا قرطبة أياماً يسيرة.
يتبع
أحمد الشجاع
https://majles.alukah.net/imgcache/2021/12/15.jpg
سقوط الدول والأمم يبدأ من الداخل.. من داخل النفوس والعقول والقلوب، ومن داخل البلاد..فالفكر والمنهج هو الأساس الأول والأهم الذي يحدد معالم الأسس الباقية، ويضع معايير وقواعد بناء الدولة والمجتمع.
وكلما كانت ومكونات المنهج أكثر تقارباً مع واقع الناس، وأدق تطبيقاً لحاجتهم كانت المجتمعات أكثر استقراراً وثباتاً وقوة وتماسكاً..وبقاء ذلك يحتاج إلى محافظة على هذا المنهج من أي خطر خارجي وخلل داخلي؛ لأن أي استهداف للمنهج هو استهداف للأسس والقواعد؛ والنتيجة الحتمية: السقوط والانهيار الذي سيشمل كل جوانب المجتمع الحسية والمعنوية.
وبعد أن تحدثنا في تقارير سابقة عن دولة المرابطين وكيف نشأت وأصبحت قوية سيتحدث هذا التقرير عن سقوط هذه الدولة..وسنجد أن عوامل البناء والقوة لم تعد موجود عندما سقطت، بل حل محلها ما يخالفها ويتناقض معها.
وسيركز التقرير على مظاهر السقوط وأسبابه، ونظرة الشريعة الإسلامية لأسباب انهيار الدول والمجتمعات.
معالم الانهيار
مضت فترة القوة في هذه دولة المرابطين عندما مات أكبر شخصية فيها يوسف بن تاشفين على رأس المائة الخامسة، وبالتحديد سنة 500 من الهجرة.
وبعد يوسف ورغم الجهود الكبيرة التي بذلها خليفته وابنه علي بن يوسف - بدأت دولة المرابطين تدخل طور الأفول..وكان ذلك بتأثير سبب قوي غريب؛ كان ذلك لأن علي بن يوسف هذا قد انصرف عن شؤون الحكم إلى حد كبير، ولم يتحرك إلا في مرات قليلة لم تكن كافية لسد الثغرات التي فتحت على الدولة في المغرب والأندلس، وراح هذا الأمير المرابطي يصوم النهار ويقوم الليل ويعكس بزهده وإهماله لشؤون دولته فهماً مغلوطاً للإسلام بل إنه وقع في خطأ كبير حين وقع تحت تأثير مجموعة كبار الفقهاء البارزين في دولته، وكان لا يزيد عن كونه لعبة صغيرة في أيديهم.
ونتيجة غفلة علي بن يوسف هذا، وانصراف الفقهاء إلى جمع الثروات، بدأت مظاهر التحلل تسود قطاعات كبيرة من الدولة.
كانت الخمر تباع علناً في الأسواق، وكان النبيذ يشرب دون حرج، وكانت الخنازير تمرح في الأسواق كالأغنام، واستولى أكابر المرابطين على إقطاعات كبيرة وذهبوا إلى الاستبداد فيها.
وقد أمات الفقهاء واجب "الحسبة"، وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلم يقوموا بتغيير نواحي التحلل التي ظهرت في الدولة، وكان بإمكانهم لتمكنهم من الحكم أن يقوموا على تغييرها، لكنهم جاروا العامة في غرائزها وبحثوا عن أنفسهم، بل قاوموا المخلصين الذين حاولوا التغيير ورموهم بالتكفير والمروق.
ويصف المؤرخ المراكشي مظاهر اختلال المرابطين، وملخص ما ذكره:
ظهرت في بلاد المرابطين مناكر كثيرة؛ وذلك لاستيلاء أكابر المرابطين على البلاد ودعواهم الاستبداد، وانتهوا في ذلك إلى التصريح، فصار كل منهم يصرح بأنه خير من أمير المسلمين علي بن يوسف وأحق بالأمر منه.
واستولى النساء على الأحوال وأسندت إليهن الأمور، وصارت كل امرأة من أكابر لمتونة ومسوفة مشتملة على كل مفسد وشرير وقاطع سبيل وصاحب خمر وماخور، وأمير المسلمين في ذلك كله يتزيد تغافله ويقوى ضعفه، وقنع باسم إمرة المسلمين، وبما يرفع إليه من الخراج.
وعكف على العبادة والتبتل فكان يقوم الليل ويصوم النهار مشتهراً عنه ذلك، وأهمل أمور الرعية غاية الإهمال؛ فاختل لذلك عليه كثير من بلاد الأندلس وكادت تعود إلى حالها الأول لاسيما منذ قامت دعوة ابن تومرت بالسوس.
وكان آخر ما استولي عليه من البلاد التي يملكها المرابطون مدينة مراكش دار ملك أمير المسلمين وناصر الدين علي بن يوسف بن تاشفين، وكان هذا بعد وفاة أمير المسلمين المذكور حتف أنفه في شهور سنة 537، وكان قد عهد في حياته إلى ابنه تاشفين فعاقته الفتنة عن تمام أمره، ولم يتفق له ما أمله من استقلال ابنه تاشفين المذكور بشيء من الأمور.
وخرج تاشفين بعد وفاة أبيه قاصداً تلمسان فلم يتفق له من أهلها ما يريد فقصد مدينة وهران وهي على ثلاث مراحل من تلمسان فحاصره الموحدون بها فلما اشتد عليه الحصار خرج راكباً فرساً شهباء عليه سلاحه فاقتحم البحر حتى هلك ويقال إنهم أخرجوه من البحر وصلبوه ثم أحرقوه، فالله أعلم بصحة ذلك.
فكانت ولاية تاشفين هذا من يوم وفاة أبيه إلى أن قتل بمدينة وهران ثلاثة أعوام إلا شهرين وكان قتله سنة 540، وكان طول هذه الولاية لا يستقر به قرار ولا تستقيم له حال، تنبو به البلاد وتتنكر له الرعية.
وبعد دخول عبد المؤمن - رحمه الله - مراكش طلب قبر أمير المسلمين وبحث عنه عبد المؤمن أشد البحث فأخفاه الله وستره بعد وفاته كما ستره في أيام حياته وتلك عادة الله الحسنى مع الصالحين المصلحين.
وانقطعت الدعوة بالمغرب لبني العباس بموت أمير المسلمين وابنه فلم يذكروا على منبر من منابرها إلى الآن خلا أعوام يسيرة بأفريقية كان قد ملكها يحيى بن غانية الثائر من جزيرة ميرقة.
أسباب سقوط دولة المرابطين
1- ظهور روح الدعة والانغماس في الملذَّات والشهوات عند حُكَّام المرابطين وأمرائهم في أواخر عصر علي بن يوسف.
وكان للمجتمع الأَنْدَلُسي تأثير لا ينكر في قادة وأمراء وحكام دولة المرابطين الذين استجابوا لنزوات شهواتهم وانغمسوا في الحياة الدنيا، فتحقَّق قول الله تعالى: }وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا{ [الإسراء:16].
يقول سيِّد قطب رحمه الله: "والمترفون في كلِّ أمَّة هم طبقة الكبراء الناعمين الذين يجدون المال، ويجدون الخدم، ويجدون الراحة، فينعمون بالدعة والراحة، وبالسيادة حتى تترهل نفوسهم وتأسن، وترتع في الفسق والمجانة وتستهتر بالقيم والمقدسات والكرامات، وتلغ في الأرض والحرمات. وهم إذا لم يجدوا مَنْ يَضْرِبُ على أيديهم عاثوا في الأرض فساداً، ونشروا الفاحشة في الأمة وأشاعوها، وأرخصوا القيم العليا التي لا تعيش الشعوب إلا بها ولها، ومن ثَمَّ تتحلل الأمة وتسترخي، وتفقد حيويتها وعناصر قوتها وأسباب بقائها فتهلك وتطوى صفحتها. والآية تقرر سنة الله هذه، فإذا قدر الله لقرية أنها هالكة؛ لأنها أخذت بأسباب الهلاك، فكثر فيها المترفون، فلم تدافعهم ولم تضرب على أيديهم، سلط الله هؤلاء المترفين ففسقوا فيها، فعم فيها الفسق، فتحللت وترهلت، فحقت عليها سنة الله، وأصابها الدمار والهلاك. وهي المسؤولة عما يحل بها؛ لأنها لم تضرب على أيدي المترفين، ولم تصلح من نظامها الذي يسمح بوجود المترفين. فوجود المترفين ذاته هو السبب الذي من أجله سلطهم الله عليها ففسقوا، ولو أخذت عليهم الطريق فلم تسمح لهم بالظهور فيها ما استحقت الهلاك، وما سلط الله عليها من يفسق فيها ويفسد فيقودها إلى الهلاك.
إن إرادة الله قد جعلت للحياة البشرية نواميس لا تتخلف، وسنناً لا تتبدل. وحين توجد الأسباب تتبعها النتائج، فتنفذ إرادة الله وتحق كلمته. والله لا يأمر بالفسق؛ لأن الله لا يأمر بالفحشاء. لكن وجود المترفين في ذاته دليل على أن الأمة قد تخلخل بناؤها، وسارت في طريق الانحلال، وأن قدر الله سيصيبها جزاء وفاقاً".
2- ظهور السفور والاختلاط بين النساء والرجال، وبدأت دولة المرابطين في آخر عهد الأمير على بن يوسف تفقد طُهرَها وصفاءَها الذي اتصف به جيلهم الأول؛ مما جعل الرعية المسلمة تتذمر من هذا الانحراف والفساد، وتستجيب لدعوة مُحَمَّد بن تومرت الذي أظهر نفسه للناس بالزاهد والنَّاسك والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر.
3- انحراف نظام الحكم عن نظام الشورى إلى الوراثي الذي سبب نزاعاً عنيفاً على منصب ولاية العهد بين أولاد علي بن يوسف، كما تطلع مجموعة مِن الأمراء إلى منصب الأمير على ونازعوه في سلطانه؛ مما سبب تمزقاً داخلياً، ففقدت الدولة المرابطية وحدتها الأولى، وكثرت الجيوب الداخلية في كيان الدولة، وتفجرت ثورات عنيفة في قرطبة، وفي فاس وغيرهما، ساهمت في إضعاف الوحدة السياسية وإسقاط هيبة الدولة المرابطية.
4- الضيق الفكري الذي أصاب فقهاء المرابطين وحجرهم على أفكار النَّاس، ومحاولة إلزامهم بفروع مذهب الإمام مالك وحده، وعملوا على منع بقية المذاهب السنية تعصباً لمذهبهم، وكان لفقهاء المالكية نفوذ كبير؛ مما جعلهم يوسعون تعصبهم وتحجرهم الفكري.
ويرى بعض المؤرخين أن التعصب الأعمى عند فقهاء المرابطين في زمن الأمير علي ابن يوسف كان السبب الأول في سقوط دولة المرابطين.
لقد استغل بعض الفقهاء نفوذهم من أجل جمع المال وبناء الدور، وامتلاك الأرض، وعاشوا حياة البذخ والرفاهية المفرطة؛ وكان ذلك سبباً في إيجاد ردة فعل عنيفة عند أفراد المجتمع المرابطي، وانبرى الشعراء في تصوير حال الفقهاء في تلك الفترة، فقال أبو جعفر أحمد بن مُحَمَّد المعروف بابن البني:
أهل الرياء لبستـم ناموسكــم
كالذئب أدلج في الظلام العاتم
فملكتـــم الدنيـــا بمذهب مالك
وقسمتم الأموال بابن القاســم
وركبتم شهب الدواب بأشهب
وبأصبغ صبغت لكم في العالم
5- ومن أهم العوامل التي أسقطت دولة المرابطين: فقدها لكثير من قياداتها وعلمائها العظام أمثال سير بن أبي بكر، ومُحَمَّد بن مزدلي، ومُحَمَّد ابن فاطمة، ومُحَمَّد بن الحاج، وأبي إسحاق بن دانية، وأبي بكر بن واسينو.
فمن لم يستشهد من كبار رجال الدولة أدركه الموت الطبيعي، ولم يستطع ذلك الجيل أن يغرس المبادئ والقيم التي حملها في الجيل الذي بعده، فاختلفت قدرات الجيل الذي بعدهم واستعداداتهم، وهذا درس مهم لأبناء الحركات الإسلامية في أهمية توريث التجارب والخبرات المتنوعة والمتعددة للأجيال المتلاحقة.
6- ومن أهم العوامل التي أنهكت دولة المرابطين، أنها مرَّت بأزمة اقتصادية حادة، نتيجة لانحباس المطر عدة سنوات، وحلول الجفاف والقحط بالأَنْدَلُس والمغرب، وزاد من حدة الأزمة الاقتصادية أن أسراب الجراد هاجمت ما بقي مِن الأخضر على وجه البلاد؛ مما هيأ الظروف لانتشار مختلف الأوبئة بين كثير مِن السكان، ووقعت هذه الأزمة في الفترة الواقعة ما بين أعوام 524هـ -530م.
7- ومن أهم الأسباب الرئيسية: صدامها المسلح مع جيوش المُوَحِّدِين.
فقد كان ظهور دولة المُوَحِّدِين وانقضاضها بعنف على دولة المرابطين سبباً في ضعف النواحي الحضارية والثقافية والسياسية والعسكرية عند المغاربة عموماً، وفتحت مجالاً لملوك النصارى للقضاء على الإسلام في الأَنْدَلُس فيما بعد.
أحوال الأندلس بعد سقوط دولة المرابطين
أما عن أحوال جزيرة الأندلس فيقول المراكشي: فإنه لما كان آخر دولة أمير المسلمين أبي الحسن علي بن يوسف اختلت أحوالها اختلالاً مفرطاً أوجب ذلك تخاذل المرابطين وتواكلهم وميلهم إلى الدعة وإيثارهم الراحة وطاعتهم النساء فهانوا على أهل الجزيرة، وقلوا في أعينهم واجترأ عليهم العدو واستولى النصارى على كثير من الثغور المجاورة لبلادهم، وكان أيضاً من أسباب ما ذكرناه من اختلالها قيام ابن تومرت بسوس، واشتغال علي بن يوسف به عن مراعاة أحوال الجزيرة.
ولما رأى أعيان بلاد تلك الجزيرة ما ذكرناه من ضعف أحوال المرابطين أخرجوا من كان عندهم من الولاة، واستبد كل منهم بضبط بلده، وكادت الأندلس تعود إلى سيرتها الأولى بعد انقطاع دولة بني أمية.
فأما بلاد أفراغة فاستولى عليها ملك ارغن - لعنه الله - وملك مع ذلك سرقسطة، وكثيراً من أعمال تلك الجهات.
واتفق أمر أهل بلنسية ومرسية وجميع شرق الأندلس على تقديم رجل من أعيان الجند اسمه عبد الرحمن بن عياض، وكان عبد الرحمن هذا من صلحاء أمة محمد وخيارهم.
وقام بأمر تلك الجهات بعده رجل اسمه محمد بن سعد المعروف عندهم بابن مردنيش، وكان محمد هذا خادماً لابن عياض يحمل له السلاح ويتصرف بين يديه في حوائجه، فلما حضرته الوفاة اجتمع إليه الجند وأعيان البلاد فقالوا له: إلى من تسند أمورنا وبمن تشير علينا؟، وكان له ولد فأشاروا به عليه، فقال: إنه لا يصلح؛ لأني سمعت أنه يشرب الخمر، ويغفل عن الصلاة، فإن كان ولا بد فقدموا عليكم هذا - وأشار إلى محمد بن سعد - فإنه ظاهر النجدة كثير الغناء، ولعل الله أن ينفع به المسلمين..فاستمر ت ولاية ابن سعد على البلاد إلى أن مات في شهور سنة 568هـ.
وأما أهل المرية فأخرجوا من كان عندهم أيضاً من المرابطين، واختلفوا فيمن يقدمونه على أنفسهم، فندبوا إليها القائد أبا عبد الله بن ميمون، ولم يكن منهم إنما هو من أهل مدينة دانية، فأبى عليهم، وقال: إنما أنا رجل منكم ووظيفتي البحر وبه عرفت، فكل عدو جاءكم من جهة البحر فأنا لكم به، فقدموا على أنفسكم من شئتم غيري. فقدموا على أنفسهم رجلاً منهم اسمه عبد الله بن محمد يعرف بابن الرميمي، فلم يزل عليها إلى أن دخلها عليه النصارى من البر والبحر، فقتلوا أهلها وسبوا نساءهم وبنيهم وانتهبوا أموالهم.
وملك جيان وأعمالها إلى حصن شقورة وما والى تلك الثغور رجل اسمه عبد الله، لا أعرف اسم أبيه، هو معروف عندهم بابن همشك، وربما ملك عبد الله هذا قرطبة أياماً يسيرة.
يتبع