ابو وليد البحيرى
2021-11-24, 10:48 PM
المماليك.. مستضعفون أعزهم الله بالإسلام - تقرير
أحمد الشجاع
"إنا قوم أعزنا الله بالإسلام، فمهما طلبنا العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله".. بتلك المقولة الشهيرة وضع الخليفة الراشد الفاروق عمر بن الخطاب قاعدة تلخص العلاقة بين حال الأمة الإسلامية ودينها؛ لأن تلك المقولة استندت إلى مبادئ الإسلام وغايته.
وقد أكد التاريخ الإسلامي صحة تلك المقولة.. حيث ظهر جلياً وعملياً أنه كلما كانت العلاقة بين الأمة ودينها قوية كان حالها أفضل، والعكس صحيح.
ومن أبرز الأمثلة على هذه العلاقة قصة دولة المماليك التي ظهرت على يد قوم كانوا مستعبدين، وذلك قبل أن يحررهم الإسلام وينطلق بهم نحو القمة، ويضعهم على رأس هرم الأمة وقهر بهم أعتى جيوش زمانهم وأخطرها على الأمة، ألا وهم التتار.
وكانت قوة المماليك مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالإسلام، فكلما أصاب دولتهم وهن ينهض بها قادة جعلوا من الإسلام مناراً في البناء والإصلاح..ولكن عندما افتقرت هذه الدولة إلى من يجدد لها إيمانها ويعيد لها عزتها وقوتها على أسس إسلامية راسخة كان مصيرها السقوط والانهيار.
في السطور التالية ملامح من قصة المماليك، ومسيرة دولتهم.. وفي تقرير قادم إن شاء الله سنتحدث عن جهود المماليك في الدفاع عن الأمة.
المماليك
المماليك في اللغة العربية هم الذين سُبُوا ولم يُسْبَ آباؤهم ولا أمهاتهم.
ومفرد المماليك مملوك، وهو العبد الذي يباع ويشترى.. (العبد الذي سُبِي أبواه يعرف بالعبد القن وليس المملوك).
ومع أن لفظ المماليك بهذا التعريف يعتبر عاماً على معظم الرقيق، إلا أنه اتخذ مدلولاً اصطلاحياً خاصاً في التاريخ الإسلامي، وذلك منذ أيام الخليفة العباسي الشهير المأمون الذي حكم من سنة 198هـ إلى 218هـ، وأخيه المعتصم الذي حكم من سنة 218هـ إلى 227هـ، حسب ما جاء في موقع قصة الإسلام.
ففي فترة حكم هذين الخليفتين استجلبا أعداداً ضخمة من الرقيق عن طريق الشراء، واستخدموهم كفرق عسكرية بهدف الاعتماد عليهم في تدعيم نفوذهما.
فقد استخدم المعتصم من الأتراك خلقاً عظيماً، كان له من المماليك التُرك قريب من عشرين ألفاً، حسب رواية الإمام ابن كثير.
وبذلك - ومع مرور الوقت - أصبح المماليك هم الأداة العسكرية الرئيسية - وأحيانًا الوحيدة - في كثير من البلاد الإسلامية.. وعندما قامت الدولة الأيوبية كان أمراؤها يعتمدون على المماليك الذين يمتلكونهم في تدعيم قوتهم، ويستخدمونهم في حروبهم، لكن كانت أعدادهم محدودة إلى حدٍّ ما، إلى أن جاء الملك الصالح أيوب، وحدثت فتنة خروج الخوارزمية من جيشه، فاضطُرَّ -رحمه الله- إلى الإكثار من المماليك حتى يقوي جيشه ويعتمد عليهم، وبذلك تزايدت أعداد المماليك، وخاصة في مصر.
تاريخ المماليك
كان الملك الأيوبي الصالح يستعين بالجنود الخوارزمية الذين كانوا قد فرُّوا من قبلُ من منطقة خوارزم بعد الاجتياح التتري لها، وكان هؤلاء الجنود الخوارزمية جنودًا مرتزقة.. بمعنى أنهم يتعاونون مع من يدفع أكثر، ويعرضون خدماتهم العسكرية في مقابل المال، فاستعان بهم الملك الصالح أيوب بالأجرة، ودارت موقعة كبيرة بين جيش الملك الصالح أيوب وبين قوى التحالف الأيوبية الصليبية، وعُرِفَت هذه الموقعة باسم موقعة غزة، وكانت في سنة642هـ، وكانت هذه الموقعة قد وقعت بالقرب من مدينة غزة الفلسطينية، وانتصر فيها الملك الصالح انتصاراً باهراً، حرَّر بيت المقدس نهائياً، ثم أكمل طريقه في اتجاه الشمال، ودخل دمشق، ووحّد مصر والشام من جديد، بل اتجه إلى تحرير بعض المدن الإسلامية الواقعة تحت السيطرة الصليبية، فحرر بالفعل طبرية وعسقلان وغيرهما.
غير أنه حدث تطور خطير جداً في جيش الصالح أيوب رحمه الله، حيث انشقت عن جيشه فرقة الخوارزمية المأجورة؛ وذلك بعد أن استمالها أحد الأمراء الأيوبيين بالشام مقابل دفع مال أكثر من المال الذي يدفعه لهم الصالح أيوب، ولم تكتفِ هذه الفرقة بالخروج، بل حاربت الصالح أيوب نفسه، ولم يثبت معه في هذه الحرب إلا جيشه الأساسي الذي أتى به من مصر، وعلى رأسه قائده المحنَّك ركن الدين بيبرس.
وخرج الصالح أيوب من هذه الحرب المؤسفة وقد أدرك أنه لا بد أن يعتمد على الجيش الذي يدين له بالولاء لشخصه لا لماله. فبدأ في الاعتماد على طائفة جديدة من الجنود بدلاً من الخوارزمية، وكانت هذه الطائفة هي "المماليك".
كان المصدر الرئيسي للمماليك إما بالأسر في الحروب، أو الشراء من أسواق النخاسة.. ومن أكثر المناطق التي كان يُجلَب منها المماليك بلاد ما وراء النهر، وكانت الأعراق التي تعيش خلف هذا النهر أعراقاً تركيةً في الأغلب؛ لذا كان الأصل التركي هو الغالب على المماليك، وإن كان لا يمتنع أن يكون هناك مماليك من أصول أرمينية، أو مغولية، أو أوروبية، وكان هؤلاء الأوربيون يُعرَفون بالصقالبة، وكانوا يُستَقدَمون من شرق أوروبا بوجه خاص.
التربية على المقاصد الإسلامية
معاملة خاصة
وقد كانت الرابطة بين المملوك وأستاذه من طرازٍ خاص يعتمد على مبادئ الإسلام ومقاصده الإنسانية السامية العادلة، فقد كان السلطان الصالح نجم الدين أيوب - ومن تبعه من الأمراء - لا يتعاملون مع المماليك باعتبارهم رقيقاً، بل على العكس من ذلك تماماً، فقد كانوا يقربونهم جداً منهم لدرجة تكاد تقترب من درجة أبنائهم. ولم تكن الرابطة التي تربط بين المالك والمملوك هي رابطة السيد والعبد، بل رابطة المعلم والتلميذ، أو رابطة الأب والابن، أو رابطة كبير العائلة وأبناء عائلته.. وهذه كلها روابط تعتمد على الحب في الأساس، لا على القهر أو المادة، حتى إنهم كانوا يطلقون على السيد الذي يشتريهم لقب "الأستاذ"، وليس لقب "السيد".
تربية متميزة
ونفس المقاصد الإسلامية كانت بارزة في التربية المتميزة التي تلقاها المماليك، ففيها يمتزج تعليم الشرع بفنون الفروسية، بالمحاسبة على السلوك والآداب.
ويشرح المقريزي كيف كان يتربى المملوك الصغير الذي يُشترى وهو ما زال في طفولته المبكرة فيقول: "إن أول المراحل في حياة المملوك هي أن يتعلم اللغة العربية قراءة وكتابة، ثم بعد ذلك يُدفع إلى من يعلمه القرآن الكريم، ثم يبدأ في تعلم مبادئ الفقه الإسلامي، وآداب الشريعة الإسلامية.. ويُهتم جداً بتدريبه على الصلاة، وكذلك على الأذكار النبوية، ويُراقب المملوك مراقبة شديدة من مؤدبيه ومعلميه، فإذا ارتكب خطأً يمس الآداب الإسلامية نُبه إلى ذلك، ثم عُوقِب.".
ثم إذا وصل المملوك بعد ذلك إلى سن البلوغ جاء معلمو الفروسية ومدربو القتال فيعلمونهم فنون الحرب والقتال وركوب الخيل والرمي بالسهام والضرب بالسيوف، حتى يصلوا إلى مستويات عالية جداً في المهارة القتالية، والقوة البدنية، والقدرة على تحمل المشاق والصعاب.
ثم يتدربون بعد ذلك على أمور القيادة والإدارة ووضع الخطط الحربية، وحل المشكلات العسكرية، والتصرف في الأمور الصعبة، فينشأ المملوك وهو متفوق تماماً في المجال العسكري والإداري، وذلك بالإضافة إلى حمية دينية كبيرة، وغيرة إسلامية واضحة.. وهذا كله كان يثبت أقدام المماليك تماماً في أرض القتال.
لهذه التربية المتميزة كان أطفال المماليك ينشؤون عادة وهم يعظمون أمر الدين الإسلامي جدًا، وتتكون لديهم خلفية واسعة جداً عن الفقه الإسلامي، وتظل مكانة العلم والعلماء عالية عند المماليك طيلة حياتهم.
وكل ما سبق يشير إلى دور من أعظم أدوار المربين والآباء والدعاة، وهو الاهتمام الدقيق بالنشء الصغير، فهو عادة ما يكون سهل التشكيل، ليس في عقله أفكار منحرفة، ولا عقائد فاسدة، كما أنه يتمتع بالحمية والقوة والنشاط، وكل ذلك يؤهله لتأدية الواجبات الصعبة والمهام الضخمة على أفضل ما يكون الأداء.
اهتمام خاص من سيدهم
وفي كل هذه المراحل من التربية كان السيد الذي اشتراهم يتابع كل هذه الخطوات بدقة، بل أحياناً كان السلطان الصالح أيوب رحمه الله يطمئن بنفسه على طعامهم وشرابهم وراحتهم، وكان كثيراً ما يجلس للأكل معهم، ويكثر من التبسط إليهم، وكان المماليك يحبونه حباً كبيراً حقيقياً، ويدينون له بالولاء التام.
وكان المملوك إذا أظهر نبوغاً عسكرياً ودينياً فإنه يترقى في المناصب من رتبة إلى رتبة، فيصبح قائداً لغيره من المماليك، ثم إذا نبغ أكثر أُعطِي بعض الإقطاعات في الدولة فيمتلكها، فتدر عليه أرباحاً وفيرة، وقد يُعطى إقطاعات كبيرة، بل قد يصل إلى درجة أمير، وهم أمراء الأقاليم المختلفة، وأمراء الفرق في الجيش، وهكذا.
وهكذا دائماً إذا كان القائد يخالط شعبه، ويشعر بهم، ويفرح لفرحهم، ويحزن لحزنهم، ويتألم لألمهم، فإنهم يحبونه ويعظمونه، ولا شك أيضاً أنهم يثقون به، وإذا أمرهم بجهاد استجابوا سريعاً، وإذا كلفهم أمراً تسابقوا لتنفيذه، وبذلوا أرواحهم لتحقيقه.
أما إذا كان القائد في حالة انفصال عن شعبه، وكان يعيش حياته المترفة بعيداً عن رعيته، يتمتع بكل ملذات الحياة وهم في كدحهم يعانون ويتألمون، فإنهم لا يشعرون ناحيته بأي انتماء، بل إنهم قد يفقدون الانتماء إلى أوطانهم نفسها، ويصبح الإصلاح والبناء في هذه الحالة ضرباً من المستحيل،
وكان المماليك في الاسم ينتسبون عادة إلى السيد الذي اشتراهم؛ فالمماليك الذين اشتراهم الملك الصالح يعرفون بالصالحية أو البحرية؛ لأنه بنى لهم قلعة في إحدى الجزر، والذين اشتراهم الملك الكامل يعرفون بالكاملية، وهكذا.
المماليك في مصر
بدأ ظهور المماليك القوي على مسرح العالم الإسلامي في مصر في عصر الملك الصالح نجم الدين أيوب.. ففي سنة ٦٤٧هـ - ١٢٤٩م تواترت الأنباء عن قرب قدوم حملة جديدة تحت راية الصليب ضد مصر بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا بهدف احتلال مصر. وبسرعة عاد الملك الصالح نجم الدين أيوب من الشام إلى مصر لكي ينظم وسائل الدفاع.
وفي العشرين من شهر صفر سنة ٦٤٧هـ - ٤ يونيو ١٢٤٩م نزل الصليبيون قبالة دمياط، وأمامهم لويس التاسع يخوض المياه الضحلة، وهو يرفع سيفه ودرعه فوق رأسه. وانسحب الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ قائد المدافعين عن المدينة بسرعة بعد أن ظن أن سلطانه المريض قد مات، وفي أعقابه فرَّ الجنود، وفي أعقاب الجنود والفرسان فرَّ السكان المذعورون، وهكذا سقطت دمياط دون قتال.
وفي ليلة النصف من شعبان سنة 647هـ وفي خضم هذه الأحداث توفي السلطان الصالح نجم الدين أيوب في يوم الاثنين ١٤ من شعبان سنة ٦٤٧هـ - ٢٠ نوفمبر ١٢٤٩م، وأخفت زوجته شجرة الدر نبأ وفاته لكي لا تتأثر معنويات الجيش، وأرسلت في استدعاء ابنه توران شاه من إمارته على حدود العراق.
واشتدت المقاومة المصرية ضد القوات الصليبية، وبعد عدة تطورات كانت القوات الصليبية تتقدم نحو مدينة المنصورة في سرعة، ولكن الأمير بيبرس البندقداري كان قد نظَّم الدفاع عن المدينة بشكل جيد، وانقشع غبار المعركة عن عدد كبير من قتلى الصليبيين بينهم عدد كبير من النبلاء، ولم ينجح في الهرب سوى عدد قليل من الفرسان هربوا على أقدامهم تجاه النيل ليلقوا حتفهم غرقًا في مياهه، أمّا الجيش الصليبي الرئيسي بقيادة لويس التاسع فكان لا يزال في الطريق دون أن يعلم بما جرى على الطليعة الصليبية التي اقتحمت المنصورة في ٤ من ذي القعدة ٦٤٧هـ - فبراير ١٢٥٠م.
وفي المحرم من سنة ٦٤٨هـ - ١٢٥٠م دارت معركة رهيبة قرب فارسكور قضت على الجيش الصليبي، وتم أسر لويس التاسع نفسه في قرية منية عبد الله شمالي المنصورة، ثم نقل إلى دار ابن لقمان القاضي بالمنصورة؛ حيث بقي سجينًا فترة من الزمان حتى أُفرِجَ عنه لقاء فدية كبيرة، ومقابل الجلاء عن دمياط.
انتهاء حكم الأيوبيين في مصر
بعد عهد الصالح أيوب، تولَّى ابنه توران شاه الذي لم يكن على قدر المسؤولية؛ فانشغل باللهو بعد انتصاره على الصليبيين، وأساء معاملة قادة الجيش من المماليك، وكذلك أساء إلى زوجة أبيه شجرة الدر؛ فتآمرت هذه مع فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس وقلاوون الصالحي وأيبك التركماني وهم من المماليك الصالحية البحرية على قتل توران شاه، وتمت العملية في 27 محرم سنة 648هـ، أي بعد سبعين يوماً فقط من قدومه من حصن كيفا واعتلائه عرش مصر.
وبمقتل توران شاه انتهى حكم الأيوبيين تماماً في مصر، وبذلك أغلقت صفحة مهمة من صفحات التاريخ الإسلامي.
وحدث فراغ سياسي كبير بعد قتل توران شاه، فليس هناك أيوبي في مصر مؤهل لقيادة الدولة، ومن ناحية أخرى فإن الأيوبيين في الشام مازالوا يطمعون في مصر، وحتماً سيجهزون أنفسهم للقدوم إليها لضمها إلى الشام.. والمماليك كانوا يدركون أن الأيوبيين سيحرصون على الثأر منهم، كما أنهم كانوا يدركون أن قيمتهم في الجيش المصري كبيرة جداً، وأن القوة الفعلية في مصر ليست لأيوبي أو لغيره إنما هي لهم، وأنهم قد ظُلِموا بعد موقعة المنصورة وفارسكور؛ لأنهم كانوا السبب في الانتصار ومع ذلك هُمِّش دورهم.
كل هذا الخلفيات جعلت المماليك - ولأول مرة في تاريخ مصر- يفكرون في أن يمسكوا هم بمقاليد الأمور مباشرة..
لكن صعود المماليك مباشرة إلى الحكم سيكون مستهجنًا في مصر، فالناس لا تنسى أن المماليك - في الأساس - عبيد، يباعون ويشترون، وشرط الحرية من الشروط الأساسية للحاكم المسلم.. وحتى لو أُعتِقوا فإن تقبُّل الناس لهم باعتبارهم (حُكاماً) سيكون صعباً.. وحتى لو كثرت في أيديهم الأموال، وتعددت الكفاءات، وحكموا الأقاليم والإقطاعات، فهم في النهاية مماليك.. وصعودهم إلى الحكم يحتاج إلى حُجَّة مقنعة للشعب الذي لم يألفهم في كراسي السلاطين.
كل هذا دفع المماليك البحرية الصالحية إلى أن يرغبوا بعد مقتل توران شاه في "فترة انتقالية" تمهد الطريق لحكم المماليك الأقوياء، وفي ذات الوقت لا تقلب عليهم الدنيا في مصر أو في العالم الإسلامي.
كانت هذه هي حسابات المماليك الصالحية البحرية.. فماذا كانت حسابات شجرة الدر؟.
شجرة الدر تحكم
لقد فكرت شجرة الدر في الصعود إلى كرسي الحكم في مصر.. وفي ذات الوقت وجد المماليك البحرية في شجرة الدرّ الفترة الانتقالية التي يريدون.. إنها زوجة الملك الصالح أيوب الذي يُكِنّون له كامل الوفاء والاحترام والحب، وهي في نفس الوقت تعتبر من المماليك؛ لأن أصلها جارية وأعتقت، كما أنها في النهاية امرأة، ويستطيع المماليك من خلالها أن يحكموا مصر، وأن يوفروا الأمان لأرواحهم.
وبذلك توافقت رغبات المماليك مع رغبة شجرة الدر.. وقرروا جميعاً إعلان شجرة الدرّ حاكمة لمصر بعد مقتل توران شاه بأيام، وذلك في أوائل صفر سنة 648هـ.
ولكن الجو العام في مصر، وعند أمراء الأيوبيين في الشام، وكذلك الخليفة العباسي المستعصم لم يكن يقبل بولاية امرأة فتزوجت من أحد قادة المماليك وهو عز الدين أيبك، ثم أصبح سلطاناً على مصر، وبذلك وصل المماليك إلى حكم مصر خلفاً للأيوبيين.
وتلقب عز الدين أيبك بالملك المعز وأُخِذت له البيعة في مصر.
حكم المملوك عز الدين أيبك
كان الملك المعز عز الدين أيبك من الذكاء بحيث إنه لم يصطدم بشجرة الدر ولا بزعماء المماليك البحرية في أول أمره.. بل بدأ يقوي من شأنه ويعد عدته تدريجياً، فبدأ يشتري المماليك الخاصة به، ويعد قوى مملوكية عسكرية تدين له هو شخصياً بالولاء، وانتقى من مماليك مصر من يصلح لهذه المهمة، وكوَّن ما يُعرَف في التاريخ بالمماليك المعزية (نسبة إليه)، ووضع على رأس هذه المجموعة أبرز رجاله وأقوى فرسانه وأعظم أمرائه: سيف الدين قطز رحمه الله.
وكان هذا هو أول ظهور للبطل الإسلامي الشهير: سيف الدين قطز قائد مجموعة المماليك الخاصة بالملك المعز عز الدين أيبك.
ومع أن الملك المعز عز الدين أيبك نفسه من المماليك البحرية إلا أنه بدأ يحدث بينه وبينهم نفور شديد.. أمّا هو فيعلم مدى قوتهم وارتباطهم بكلمة زوجته شجرة الدر التي لا تريد أن تعامله كملك بل كصورة ملك.. وأما هم فلا شك أن عوامل شتى من الغيرة والحسد كانت تغلي في قلوبهم على هذا المملوك صاحب الكفاءات المحدودة في نظرهم الذي يجلس على عرش مصر ويلقب بالملك، أما هم فيُلَقَّبون بالمماليك.
لكن الملك المعز عز الدين أيبك لم يستنفر مبكراً، بل ظل هادئًا يعد عدته في هدوء، ويكثر من مماليكه في صمت.
ثم حدث أن تجمعت قوى الأمراء الأيوبيين لغزو مصر لاسترداد حكم الأيوبيين بها، وكانت الشام قد خرجت من حكم ملك مصر بعد وفاة توران شاه مباشرة.
والتقى معهم الملك المعز عز الدين أيبك بنفسه في موقعة فاصلة عند منطقة تسمى العباسية (حوالي عشرين كيلو متر شرق الزقازيق الآن) في 10 من ذي القعدة سنة 648هـ (بعد أربعة أشهر فقط من حكمه). وانتصر الملك المعز عز الدين أيبك، ولا شك أن هذا الانتصار رفع أسهمه عند الشعب، وثبَّت من أقدامه على العرش.
اعتراف الخليفة بالمعز
وفي سنة 651هـ (بعد 3 سنوات من حكم أيبك) حدث خلاف جديد بين أمراء الشام والملك المعز عز الدين أيبك، ولكن قبل أن تحدث الحرب تدخَّل الخليفة العباسي المستعصم بالله للإصلاح بين الطرفين، وكان من جرَّاء هذا الصلح أن دخلت فلسطين بكاملها حتى الجليل شمالًا تحت حكم مصر.. فكانت هذه إضافة لقوة الملك المعز عز الدين أيبك، ثم حدث تطور خطير لصالحه وهو اعتراف الخليفة العباسي بزعامة الملك المعز عز الدين أيبك على مصر، والخليفة العباسي وإن كان ضعيفًا وليست له سلطة فعلية إلا أن اعترافه يعطي للملك المعز صبغة شرعية مهمة.
كل هذه الأحداث مكَّنت الملك المعز عز الدين أيبك من التحكم في مقاليد الأمور في مصر.. ومن ثَمَّ زاد نفور زعماء المماليك البحرية منه، وبالذات فارس الدين أقطاي الذي كان يبادله كراهية معلنة، لا يخفيها بل يتعمد إبرازها.. هذه المعاملة من أقطاي، وإحساس أيبك من داخله أن المماليك البحرية - وقد يكون الشعب - ينظرون إليه على أنه مجرد زوج للملكة المتحكمة في الدولة، جعله يفكر جدياً في التخلص من أقطاي؛ ليضمن الأمان لنفسه وليثبت قوته للجميع. وهكذا لا يحب الملوك عادة أن يبرز إلى جوارهم زعيم يعتقد الشعب في قوته أو حكمته.
تزايد الصراعات ومقتل أقطاي
انتظر أيبك الفرصة المناسبة، إلى أن علم أن أقطاي يتجهز للزواج من إحدى الأميرات الأيوبيات، فعلم أن أقطاي يحاول أن يضفي على نفسه صورة جميلة أمام الشعب، وأن يجعل له انتماءً واضحاً للأسرة الأيوبية التي حكمت مصر قرابة الثمانين سنة، وإذا كانت شجرة الدر حكمت مصر لكونها زوجة الصالح أيوب، فلماذا لا يحكم أقطاي لكونه زوجاً لأميرة أيوبية فضلاً عن قوته وبأسه.
هنا شعر الملك المعز عز الدين أيبك بالخطر الشديد، وأن هذه بوادر انقلاب عليه، والانقلاب عادة يكون بالسيف، فاعتبر أن ما فعله أقطاي سابقًاً وما يفعله الآن هي مؤامرة لتنحية أيبك عن الحكم، ومن ثَمَّ أصدر أوامره بقتل زعيم المماليك البحرية فارس الدين أقطاي.
وبالفعل تم قتل فارس الدين أقطاي بأوامر الملك المعز، وبتنفيذ المماليك المعزية الذين كانوا يقودهم كبير قادة الملك المعز، وتم ذلك في 3 شعبان سنة 652هـ.
وبقتل فارس الدين أقطاي خلت الساحة لعز الدين أيبك، وبدأ يظهر قوته ويبرز كلمته، وبدأ دور الزوجة شجرة الدر يقل ويضمحلّ، فقد اكتسب الملك المعز الخبرة اللازمة وزادت قوة مماليكه المعزية، واستقرت الأوضاع في بلده فرضي عنه شعبه، واعترف له الخليفة العباسي بالسيادة، ورضي منه أمراء الشام الأيوبيون بالصلح.
وبقتل فارس الدين أقطاي انقسم المماليك إلى جزئيين كبيرين: المماليك البحرية الذين يدينون بالولاء لشجرة الدر، والمماليك المعزية الذين يدينون بالولاء للملك المعز عز الدين أيبك.
وهنا قرر زعماء المماليك البحرية الهروب إلى الشام خوفًا من الملك المعز عز الدين أيبك، وكان على رأس الهاربين ركن الدين بيبرس، الذي ذهب إلى الناصر يوسف، هذا الخائن الذي كان يحكم حلب ثم دمشق ودخل في طاعته.
وهكذا صفا الجو في مصر تماماً للملك المعز عز الدين أيبك، وتوسط الخليفة العباسي من جديد ليضمن استقرار الأوضاع، فاتفقوا على أن يعيش المماليك البحرية في فلسطين، ويبقى الملك المعز في مصر، إلا أن ركن الدين بيبرس آثر أن يبقى في دمشق عند الناصر يوسف الأيوبي.
مقتل أيبك وتنصيب ابنه المنصور
وما كان للأوضاع أن تستقر على هذه الحال؛ فشجرة الدر التي شُغِفَت بالحُكم، وخاب ظنها في ضعف المعز أيبك الذي ظهرت قوته، وأخذ يقلِّل من دورها حتى قضى عليه، هذه المرأة قررت التخلص من زوجها أيبك؛ فدبرت له مكيدةً، وقتلته بمساعدة مماليكها؛ فما كان من المماليك المعزية إلا أن قتلوها قصاصاً لأستاذهم.
وقعت البلاد في أزمة؛ فاجتمع أمراء المماليك، ونصَّبوا نور الدين علي بن أيبك من زوجته الأولى، وبُويع له، ولم يكن قد بلغ الخامسة عشرة من عمره، وهذه مخالفة كبيرة ولا شك، ولكن لعله قد وضع في هذا التوقيت لكي يوقف النزاع المتوقع بين زعماء المماليك على الحكم.. وتلقَّب السلطان الصغير بلقب "المنصور"، وتولى الوصاية الكاملة عليه أقوى الرجال في مصر وهو سيف الدين قطز قائد الجيش وزعيم المماليك المعزية، وأكثر الناس ولاءً للملك السابق المعز عز الدين أيبك.
وكانت هذه البيعة لهذا السلطان الطفل في ربيع الأول من سنة 655هـ، وأصبح الحاكم الفعلي لمصر هو سيف الدين قطز رحمه الله.
سيف الدين قطز
سيف الدين قطز هو واحد من أعظم الشخصيات في تاريخ المسلمين.. اسمه الأصلي محمود بن ممدود، وهو من بيت مسلم ملكي.. وهو ابن أخت جلال الدين الخوارزمي ملك الخوارزميين المشهور، الذي قاوم التتار فترة وانتصر عليهم ثم هُزِمَ منهم، وفرَّ إلى الهند، وعند فراره إلى الهند أمسك التتار بأسرته فقتلوا بعضهم واسترَقّوا بعضهم.
وكان محمود بن ممدود أحد أولئك الذين استرقَّهم التتار، وأطلقوا عليه اسماً مغولياً هو قطز، وهي كلمة تعني "الكلب الشرس"، ويبدو أنه كانت تبدو عليه من صغره علامات القوة والبأس، ثم باعه التتار في أسواق الرقيق في دمشق واشتراه أحد الأيوبيين، وجاء به إلى مصر، ثم انتقل من سيد إلى غيره حتى وصل في النهاية إلى الملك المعز عز الدين أيبك ليصبح أكبر قواده.
نشأ قطز رحمه الله كبقية المماليك على التربية الدينية والحمية الإسلامية، وتدرب منذ صغره على فنون الفروسية وأساليب القتال، وأنواع الإدارة، وطرق القيادة.. فنشأ شاباً فتياً أبياً محباً للدين معظماً له قوياً جلداً صبوراً.. فإذا أضفت إلى ذلك كونه ولد في بيت ملكي، وكانت طفولته طفولة الأمراء وهذا أعطاه ثقة كبيرة بنفسه، إضافة إلى ذلك أن أسرته هلكت تحت أقدام التتار؛ وهذا جعله يفقه جيداً مأساة التتار.
كل هذه العوامل صنعت رجلاً ذا طراز خاص جداً، يستهين بالشدائد، ولا يرهب أعداءه مهما كثرت أعدادهم أو تفوقت قوتهم.
التربية الإسلامية العسكرية، والتربية على الثقة بالله، والثقة بالدين، والثقة بالنفس كانت لها أثر كبير في حياة قطز رحمه الله.
عصرا الدولة المملوكية
العصر الأول: المماليك البحرية (648- 792هـ).
المماليك البحرية: هم مماليك السلطان الصالح نجم الدين أيوب الذين كثر عددهم، وزادت تعدياتهم فضج منهم السكان فبنى لهم قلعة في جزيرة الروضة عام 638هـ، فعُرِفُوا بالمماليك البحرية.
حكم هؤلاء المماليك البحرية مصر مدة أربع وأربعين ومائة سنة (648- 792هـ)، بدأت بحكم عز الدين أيبك. وقد تمثل هذا الحكم في أسرتين فقط، وهما أسرة الظاهر بيبرس البندقداري، وقد دام حكمها مدة عشرين سنة (658- 678هـ).
أمّا الأسرة الثانية فهي أسرة المنصور قلاوون، وقد استمر أمرها أربع عشرة ومائة سنة (678 - 792هـ) وحكم هو وأولاده وأحفاده، لم يتخللها سوى خمس سنوات خرج أمر مصر من أيديهم، إذ تسلم العادل كتبغا والمنصور لاجين والمظفر بيبرس الجاشنكير وقد قُتِلَ ثلاثتهم. حكم الأوليان منهم مدة أربع سنوات (694 - 698هـ)، وحكم الثالث ما يقرب من سنة (708- 709هـ).
العصر الثاني: المماليك الجراكسة أو البرجية (792- 923هـ).
موطن الجراكسة هو الأرض المشرفة على البحر الأسود من جهة الشمال الشرقي، وتشكل أرضهم الجزء الشمالي الغربي من بلاد القفقاس الممتدة بين بحري الأسود والخزر، والتي كانت تعرف يومذاك باسم بلاد القفجاق، وغدت تلك الجهات آنذاك مسرحاً للصراع بين مغول فارس أو الدولة الإيلخانية، ومغول القفجاق أو الأسرة الذهبية، وهذا الصراع جعل أعداداً من أبناء الجراكسة تدخل سوق النخاسة، وتنتقل إلى مصر، فاشترى السلطان المنصور قلاوون أعداداً؛ منهم ليتخلص من صراع المماليك البحرية، وليضمن الحفاظ على السلطنة له ولأبنائه من بعده، وقد أطلق على هؤلاء المماليك الجدد المماليك الجراكسة نسبة إلى أصولهم التي ينتمون إليها، كما أطلق عليهم اسم المماليك البرجية نسبة إلى القلعة التي وضعوا فيها.
لقد حكم المماليك الجراكسة مصر والشام والحجاز مدة تزيد على إحدى وثلاثين ومائة سنة (792- 923هـ)، وتعاقب في هذه المدة أكثر من سبعة وعشرين سلطانًا، لم تزد مدة الحكم على خمسة عشر عاماً، إلا لأربعة منهم وهم: الأشرف قايتباي، وقد حكم 29 سنة (872- 901هـ)، والأشرف قانصوه الغوري وقد حكم 17 سنة (906- 922هـ)، والأشرف برسباي وحكم 16 سنة (825- 841هـ)، والظاهر جقمق وحكم 15 سنة (842- 857هـ).
وهناك ست سلاطين حكموا عدة سنوات أو أكثر من سنة وهم: الظاهر برقوق وحكم تسع سنوات (792- 801 هـ)، وهي المرة الثانية بعد خلع المنصور حاجي، وابنه الناصر فرج وقد حكم مرتين في كل مرة سبع سنوات (801- 808 هـ) (808 – 815 هـ)، والمؤيد وحكم تسع سنوات (815- 824 هـ)، والأشرف إينال وحكم سبع سنوات (857- 865 هـ)، والظاهر خشقدم وحكم سبع سنوات أيضاً (865- 872 هـ).
أما السلاطين الخمسة عشرة الباقون فكانت مدة حكم الواحد أقل من سنة بل إن بعضهم لم تزد مدة حكمه على الليلة الواحدة إذ أن خير بك قد تسلم السلطنة مساءً وخُلِعَ صباحًا وذلك عام 872 هـ.
وقد برز في العصر المملوكي كثير من سلاطين المماليك كان لهم دور كبير في تغيير كثير من صفحات التاريخ، كما تركوا بصمات واضحة في التاريخ الإسلامي، منهم الظاهر بيبرس:
الظاهر بيبرس:
اتصف بيبرس بالحزم، والبأس الشديد، وعلو الهمة، وبعد النظر، وحسن التدبير، واجتمعت فيه صفات العدل والفروسية والإقدام، فلم يكد يستقر في الحكم حتى اتخذ عدة إجراءات تهدف إلى تثبيت أقدامه في الحكم، منها: التقرب من الخاصة والعامة؛ بتخفيف الضرائب عن السكان، كما عفا عن السجناء السياسيين، وأفرج عنهم، كما عمل على الانفتاح على العالم الإسلامي لكسب ود زعمائه.
وقام كذلك بالقضاء على الحركات المناهضة لحكمه، وأعاد الأمن والسكينة إلى البلاد.. إضافةً إلى ذلك أعاد إحياء الخلافة العباسية.
وعندما توطدت دعائم سلطة المماليك، وقويت شوكتهم، نتيجة الإجراءات التي اتخذها بيبرس، رأى هذا السلطان ضرورة متابعة سياسة صلاح الدين الأيوبي وخلفائه في طرد الصليبيين، وإجلائهم عن البلاد الإسلامية، ولم يكن ذلك بالأمر السهل، فقد كان لزاماً عليه أن يجابه ما تبقى من الإمارات الصليبية، وهي أنطاكية، وطرابلس، والجزء الباقي من مملكة بيت المقدس، وحتى يحقق هدفه اتبع إستراتيجية عسكرية قائمة على ضرب هذه الإمارات الواحدة تلو الأخرى، ولم تنقضِ سنة من السنوات العشر الواقعة بين عامي (659- 669هـ - 1261- 1271م) دون أن يوجه إليهم حملة صغيرة أو كبيرة، وكان ينتصر عليهم في كل مرة.
العلم والحضارة
تُتَّهم الدولة المملوكية كثيراً بالضعف الحضاري، والهزال العلمي الفكري، ولكن التاريخ الصحيح يُكذِّب ذلك، فقد كان لفنون الحضارة مكان عزيز عند المماليك.
لقد ظهر في العصر المملوكي كثير من المنشآت الدينية من مساجد وتكايا ومدارس وأربطة وحلقات العلم، تقوم على تدريس العلوم الدينية، وتقديم الخدمات لطلبة العلم، هذا إضافة إلى الكتب الدينية التي صدرت آنذاك.
ويقول الدكتور محمد السيد علي بلاسي إن الله حبب إلى سلاطين المماليك أن يميلوا إلى العلم، وأن يقربوا العلماء ويغدقوا عليهم، فتخرج في الأزهر علماء أجلاء لا نزال ننعم بما خلفوه من دراسات واسعة شاملة في شتى ميادين المعرفة، كالسيوطي، وابن منظور، وابن هشام، والسبكي، وابن حجر.
ومن بين العلماء المشاهير: الإمام النووي، والعز بن عبد السلام، وابن تيمية، وابن قيم الجوزية، والمزي، والذهبي، وابن جماعة، وابن كثير، والمقريزي، وابن تغري بردي، والقلقشندي، وابن قدامة المقدسي، والمزي الفلكي.
يتبع
أحمد الشجاع
"إنا قوم أعزنا الله بالإسلام، فمهما طلبنا العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله".. بتلك المقولة الشهيرة وضع الخليفة الراشد الفاروق عمر بن الخطاب قاعدة تلخص العلاقة بين حال الأمة الإسلامية ودينها؛ لأن تلك المقولة استندت إلى مبادئ الإسلام وغايته.
وقد أكد التاريخ الإسلامي صحة تلك المقولة.. حيث ظهر جلياً وعملياً أنه كلما كانت العلاقة بين الأمة ودينها قوية كان حالها أفضل، والعكس صحيح.
ومن أبرز الأمثلة على هذه العلاقة قصة دولة المماليك التي ظهرت على يد قوم كانوا مستعبدين، وذلك قبل أن يحررهم الإسلام وينطلق بهم نحو القمة، ويضعهم على رأس هرم الأمة وقهر بهم أعتى جيوش زمانهم وأخطرها على الأمة، ألا وهم التتار.
وكانت قوة المماليك مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالإسلام، فكلما أصاب دولتهم وهن ينهض بها قادة جعلوا من الإسلام مناراً في البناء والإصلاح..ولكن عندما افتقرت هذه الدولة إلى من يجدد لها إيمانها ويعيد لها عزتها وقوتها على أسس إسلامية راسخة كان مصيرها السقوط والانهيار.
في السطور التالية ملامح من قصة المماليك، ومسيرة دولتهم.. وفي تقرير قادم إن شاء الله سنتحدث عن جهود المماليك في الدفاع عن الأمة.
المماليك
المماليك في اللغة العربية هم الذين سُبُوا ولم يُسْبَ آباؤهم ولا أمهاتهم.
ومفرد المماليك مملوك، وهو العبد الذي يباع ويشترى.. (العبد الذي سُبِي أبواه يعرف بالعبد القن وليس المملوك).
ومع أن لفظ المماليك بهذا التعريف يعتبر عاماً على معظم الرقيق، إلا أنه اتخذ مدلولاً اصطلاحياً خاصاً في التاريخ الإسلامي، وذلك منذ أيام الخليفة العباسي الشهير المأمون الذي حكم من سنة 198هـ إلى 218هـ، وأخيه المعتصم الذي حكم من سنة 218هـ إلى 227هـ، حسب ما جاء في موقع قصة الإسلام.
ففي فترة حكم هذين الخليفتين استجلبا أعداداً ضخمة من الرقيق عن طريق الشراء، واستخدموهم كفرق عسكرية بهدف الاعتماد عليهم في تدعيم نفوذهما.
فقد استخدم المعتصم من الأتراك خلقاً عظيماً، كان له من المماليك التُرك قريب من عشرين ألفاً، حسب رواية الإمام ابن كثير.
وبذلك - ومع مرور الوقت - أصبح المماليك هم الأداة العسكرية الرئيسية - وأحيانًا الوحيدة - في كثير من البلاد الإسلامية.. وعندما قامت الدولة الأيوبية كان أمراؤها يعتمدون على المماليك الذين يمتلكونهم في تدعيم قوتهم، ويستخدمونهم في حروبهم، لكن كانت أعدادهم محدودة إلى حدٍّ ما، إلى أن جاء الملك الصالح أيوب، وحدثت فتنة خروج الخوارزمية من جيشه، فاضطُرَّ -رحمه الله- إلى الإكثار من المماليك حتى يقوي جيشه ويعتمد عليهم، وبذلك تزايدت أعداد المماليك، وخاصة في مصر.
تاريخ المماليك
كان الملك الأيوبي الصالح يستعين بالجنود الخوارزمية الذين كانوا قد فرُّوا من قبلُ من منطقة خوارزم بعد الاجتياح التتري لها، وكان هؤلاء الجنود الخوارزمية جنودًا مرتزقة.. بمعنى أنهم يتعاونون مع من يدفع أكثر، ويعرضون خدماتهم العسكرية في مقابل المال، فاستعان بهم الملك الصالح أيوب بالأجرة، ودارت موقعة كبيرة بين جيش الملك الصالح أيوب وبين قوى التحالف الأيوبية الصليبية، وعُرِفَت هذه الموقعة باسم موقعة غزة، وكانت في سنة642هـ، وكانت هذه الموقعة قد وقعت بالقرب من مدينة غزة الفلسطينية، وانتصر فيها الملك الصالح انتصاراً باهراً، حرَّر بيت المقدس نهائياً، ثم أكمل طريقه في اتجاه الشمال، ودخل دمشق، ووحّد مصر والشام من جديد، بل اتجه إلى تحرير بعض المدن الإسلامية الواقعة تحت السيطرة الصليبية، فحرر بالفعل طبرية وعسقلان وغيرهما.
غير أنه حدث تطور خطير جداً في جيش الصالح أيوب رحمه الله، حيث انشقت عن جيشه فرقة الخوارزمية المأجورة؛ وذلك بعد أن استمالها أحد الأمراء الأيوبيين بالشام مقابل دفع مال أكثر من المال الذي يدفعه لهم الصالح أيوب، ولم تكتفِ هذه الفرقة بالخروج، بل حاربت الصالح أيوب نفسه، ولم يثبت معه في هذه الحرب إلا جيشه الأساسي الذي أتى به من مصر، وعلى رأسه قائده المحنَّك ركن الدين بيبرس.
وخرج الصالح أيوب من هذه الحرب المؤسفة وقد أدرك أنه لا بد أن يعتمد على الجيش الذي يدين له بالولاء لشخصه لا لماله. فبدأ في الاعتماد على طائفة جديدة من الجنود بدلاً من الخوارزمية، وكانت هذه الطائفة هي "المماليك".
كان المصدر الرئيسي للمماليك إما بالأسر في الحروب، أو الشراء من أسواق النخاسة.. ومن أكثر المناطق التي كان يُجلَب منها المماليك بلاد ما وراء النهر، وكانت الأعراق التي تعيش خلف هذا النهر أعراقاً تركيةً في الأغلب؛ لذا كان الأصل التركي هو الغالب على المماليك، وإن كان لا يمتنع أن يكون هناك مماليك من أصول أرمينية، أو مغولية، أو أوروبية، وكان هؤلاء الأوربيون يُعرَفون بالصقالبة، وكانوا يُستَقدَمون من شرق أوروبا بوجه خاص.
التربية على المقاصد الإسلامية
معاملة خاصة
وقد كانت الرابطة بين المملوك وأستاذه من طرازٍ خاص يعتمد على مبادئ الإسلام ومقاصده الإنسانية السامية العادلة، فقد كان السلطان الصالح نجم الدين أيوب - ومن تبعه من الأمراء - لا يتعاملون مع المماليك باعتبارهم رقيقاً، بل على العكس من ذلك تماماً، فقد كانوا يقربونهم جداً منهم لدرجة تكاد تقترب من درجة أبنائهم. ولم تكن الرابطة التي تربط بين المالك والمملوك هي رابطة السيد والعبد، بل رابطة المعلم والتلميذ، أو رابطة الأب والابن، أو رابطة كبير العائلة وأبناء عائلته.. وهذه كلها روابط تعتمد على الحب في الأساس، لا على القهر أو المادة، حتى إنهم كانوا يطلقون على السيد الذي يشتريهم لقب "الأستاذ"، وليس لقب "السيد".
تربية متميزة
ونفس المقاصد الإسلامية كانت بارزة في التربية المتميزة التي تلقاها المماليك، ففيها يمتزج تعليم الشرع بفنون الفروسية، بالمحاسبة على السلوك والآداب.
ويشرح المقريزي كيف كان يتربى المملوك الصغير الذي يُشترى وهو ما زال في طفولته المبكرة فيقول: "إن أول المراحل في حياة المملوك هي أن يتعلم اللغة العربية قراءة وكتابة، ثم بعد ذلك يُدفع إلى من يعلمه القرآن الكريم، ثم يبدأ في تعلم مبادئ الفقه الإسلامي، وآداب الشريعة الإسلامية.. ويُهتم جداً بتدريبه على الصلاة، وكذلك على الأذكار النبوية، ويُراقب المملوك مراقبة شديدة من مؤدبيه ومعلميه، فإذا ارتكب خطأً يمس الآداب الإسلامية نُبه إلى ذلك، ثم عُوقِب.".
ثم إذا وصل المملوك بعد ذلك إلى سن البلوغ جاء معلمو الفروسية ومدربو القتال فيعلمونهم فنون الحرب والقتال وركوب الخيل والرمي بالسهام والضرب بالسيوف، حتى يصلوا إلى مستويات عالية جداً في المهارة القتالية، والقوة البدنية، والقدرة على تحمل المشاق والصعاب.
ثم يتدربون بعد ذلك على أمور القيادة والإدارة ووضع الخطط الحربية، وحل المشكلات العسكرية، والتصرف في الأمور الصعبة، فينشأ المملوك وهو متفوق تماماً في المجال العسكري والإداري، وذلك بالإضافة إلى حمية دينية كبيرة، وغيرة إسلامية واضحة.. وهذا كله كان يثبت أقدام المماليك تماماً في أرض القتال.
لهذه التربية المتميزة كان أطفال المماليك ينشؤون عادة وهم يعظمون أمر الدين الإسلامي جدًا، وتتكون لديهم خلفية واسعة جداً عن الفقه الإسلامي، وتظل مكانة العلم والعلماء عالية عند المماليك طيلة حياتهم.
وكل ما سبق يشير إلى دور من أعظم أدوار المربين والآباء والدعاة، وهو الاهتمام الدقيق بالنشء الصغير، فهو عادة ما يكون سهل التشكيل، ليس في عقله أفكار منحرفة، ولا عقائد فاسدة، كما أنه يتمتع بالحمية والقوة والنشاط، وكل ذلك يؤهله لتأدية الواجبات الصعبة والمهام الضخمة على أفضل ما يكون الأداء.
اهتمام خاص من سيدهم
وفي كل هذه المراحل من التربية كان السيد الذي اشتراهم يتابع كل هذه الخطوات بدقة، بل أحياناً كان السلطان الصالح أيوب رحمه الله يطمئن بنفسه على طعامهم وشرابهم وراحتهم، وكان كثيراً ما يجلس للأكل معهم، ويكثر من التبسط إليهم، وكان المماليك يحبونه حباً كبيراً حقيقياً، ويدينون له بالولاء التام.
وكان المملوك إذا أظهر نبوغاً عسكرياً ودينياً فإنه يترقى في المناصب من رتبة إلى رتبة، فيصبح قائداً لغيره من المماليك، ثم إذا نبغ أكثر أُعطِي بعض الإقطاعات في الدولة فيمتلكها، فتدر عليه أرباحاً وفيرة، وقد يُعطى إقطاعات كبيرة، بل قد يصل إلى درجة أمير، وهم أمراء الأقاليم المختلفة، وأمراء الفرق في الجيش، وهكذا.
وهكذا دائماً إذا كان القائد يخالط شعبه، ويشعر بهم، ويفرح لفرحهم، ويحزن لحزنهم، ويتألم لألمهم، فإنهم يحبونه ويعظمونه، ولا شك أيضاً أنهم يثقون به، وإذا أمرهم بجهاد استجابوا سريعاً، وإذا كلفهم أمراً تسابقوا لتنفيذه، وبذلوا أرواحهم لتحقيقه.
أما إذا كان القائد في حالة انفصال عن شعبه، وكان يعيش حياته المترفة بعيداً عن رعيته، يتمتع بكل ملذات الحياة وهم في كدحهم يعانون ويتألمون، فإنهم لا يشعرون ناحيته بأي انتماء، بل إنهم قد يفقدون الانتماء إلى أوطانهم نفسها، ويصبح الإصلاح والبناء في هذه الحالة ضرباً من المستحيل،
وكان المماليك في الاسم ينتسبون عادة إلى السيد الذي اشتراهم؛ فالمماليك الذين اشتراهم الملك الصالح يعرفون بالصالحية أو البحرية؛ لأنه بنى لهم قلعة في إحدى الجزر، والذين اشتراهم الملك الكامل يعرفون بالكاملية، وهكذا.
المماليك في مصر
بدأ ظهور المماليك القوي على مسرح العالم الإسلامي في مصر في عصر الملك الصالح نجم الدين أيوب.. ففي سنة ٦٤٧هـ - ١٢٤٩م تواترت الأنباء عن قرب قدوم حملة جديدة تحت راية الصليب ضد مصر بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا بهدف احتلال مصر. وبسرعة عاد الملك الصالح نجم الدين أيوب من الشام إلى مصر لكي ينظم وسائل الدفاع.
وفي العشرين من شهر صفر سنة ٦٤٧هـ - ٤ يونيو ١٢٤٩م نزل الصليبيون قبالة دمياط، وأمامهم لويس التاسع يخوض المياه الضحلة، وهو يرفع سيفه ودرعه فوق رأسه. وانسحب الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ قائد المدافعين عن المدينة بسرعة بعد أن ظن أن سلطانه المريض قد مات، وفي أعقابه فرَّ الجنود، وفي أعقاب الجنود والفرسان فرَّ السكان المذعورون، وهكذا سقطت دمياط دون قتال.
وفي ليلة النصف من شعبان سنة 647هـ وفي خضم هذه الأحداث توفي السلطان الصالح نجم الدين أيوب في يوم الاثنين ١٤ من شعبان سنة ٦٤٧هـ - ٢٠ نوفمبر ١٢٤٩م، وأخفت زوجته شجرة الدر نبأ وفاته لكي لا تتأثر معنويات الجيش، وأرسلت في استدعاء ابنه توران شاه من إمارته على حدود العراق.
واشتدت المقاومة المصرية ضد القوات الصليبية، وبعد عدة تطورات كانت القوات الصليبية تتقدم نحو مدينة المنصورة في سرعة، ولكن الأمير بيبرس البندقداري كان قد نظَّم الدفاع عن المدينة بشكل جيد، وانقشع غبار المعركة عن عدد كبير من قتلى الصليبيين بينهم عدد كبير من النبلاء، ولم ينجح في الهرب سوى عدد قليل من الفرسان هربوا على أقدامهم تجاه النيل ليلقوا حتفهم غرقًا في مياهه، أمّا الجيش الصليبي الرئيسي بقيادة لويس التاسع فكان لا يزال في الطريق دون أن يعلم بما جرى على الطليعة الصليبية التي اقتحمت المنصورة في ٤ من ذي القعدة ٦٤٧هـ - فبراير ١٢٥٠م.
وفي المحرم من سنة ٦٤٨هـ - ١٢٥٠م دارت معركة رهيبة قرب فارسكور قضت على الجيش الصليبي، وتم أسر لويس التاسع نفسه في قرية منية عبد الله شمالي المنصورة، ثم نقل إلى دار ابن لقمان القاضي بالمنصورة؛ حيث بقي سجينًا فترة من الزمان حتى أُفرِجَ عنه لقاء فدية كبيرة، ومقابل الجلاء عن دمياط.
انتهاء حكم الأيوبيين في مصر
بعد عهد الصالح أيوب، تولَّى ابنه توران شاه الذي لم يكن على قدر المسؤولية؛ فانشغل باللهو بعد انتصاره على الصليبيين، وأساء معاملة قادة الجيش من المماليك، وكذلك أساء إلى زوجة أبيه شجرة الدر؛ فتآمرت هذه مع فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس وقلاوون الصالحي وأيبك التركماني وهم من المماليك الصالحية البحرية على قتل توران شاه، وتمت العملية في 27 محرم سنة 648هـ، أي بعد سبعين يوماً فقط من قدومه من حصن كيفا واعتلائه عرش مصر.
وبمقتل توران شاه انتهى حكم الأيوبيين تماماً في مصر، وبذلك أغلقت صفحة مهمة من صفحات التاريخ الإسلامي.
وحدث فراغ سياسي كبير بعد قتل توران شاه، فليس هناك أيوبي في مصر مؤهل لقيادة الدولة، ومن ناحية أخرى فإن الأيوبيين في الشام مازالوا يطمعون في مصر، وحتماً سيجهزون أنفسهم للقدوم إليها لضمها إلى الشام.. والمماليك كانوا يدركون أن الأيوبيين سيحرصون على الثأر منهم، كما أنهم كانوا يدركون أن قيمتهم في الجيش المصري كبيرة جداً، وأن القوة الفعلية في مصر ليست لأيوبي أو لغيره إنما هي لهم، وأنهم قد ظُلِموا بعد موقعة المنصورة وفارسكور؛ لأنهم كانوا السبب في الانتصار ومع ذلك هُمِّش دورهم.
كل هذا الخلفيات جعلت المماليك - ولأول مرة في تاريخ مصر- يفكرون في أن يمسكوا هم بمقاليد الأمور مباشرة..
لكن صعود المماليك مباشرة إلى الحكم سيكون مستهجنًا في مصر، فالناس لا تنسى أن المماليك - في الأساس - عبيد، يباعون ويشترون، وشرط الحرية من الشروط الأساسية للحاكم المسلم.. وحتى لو أُعتِقوا فإن تقبُّل الناس لهم باعتبارهم (حُكاماً) سيكون صعباً.. وحتى لو كثرت في أيديهم الأموال، وتعددت الكفاءات، وحكموا الأقاليم والإقطاعات، فهم في النهاية مماليك.. وصعودهم إلى الحكم يحتاج إلى حُجَّة مقنعة للشعب الذي لم يألفهم في كراسي السلاطين.
كل هذا دفع المماليك البحرية الصالحية إلى أن يرغبوا بعد مقتل توران شاه في "فترة انتقالية" تمهد الطريق لحكم المماليك الأقوياء، وفي ذات الوقت لا تقلب عليهم الدنيا في مصر أو في العالم الإسلامي.
كانت هذه هي حسابات المماليك الصالحية البحرية.. فماذا كانت حسابات شجرة الدر؟.
شجرة الدر تحكم
لقد فكرت شجرة الدر في الصعود إلى كرسي الحكم في مصر.. وفي ذات الوقت وجد المماليك البحرية في شجرة الدرّ الفترة الانتقالية التي يريدون.. إنها زوجة الملك الصالح أيوب الذي يُكِنّون له كامل الوفاء والاحترام والحب، وهي في نفس الوقت تعتبر من المماليك؛ لأن أصلها جارية وأعتقت، كما أنها في النهاية امرأة، ويستطيع المماليك من خلالها أن يحكموا مصر، وأن يوفروا الأمان لأرواحهم.
وبذلك توافقت رغبات المماليك مع رغبة شجرة الدر.. وقرروا جميعاً إعلان شجرة الدرّ حاكمة لمصر بعد مقتل توران شاه بأيام، وذلك في أوائل صفر سنة 648هـ.
ولكن الجو العام في مصر، وعند أمراء الأيوبيين في الشام، وكذلك الخليفة العباسي المستعصم لم يكن يقبل بولاية امرأة فتزوجت من أحد قادة المماليك وهو عز الدين أيبك، ثم أصبح سلطاناً على مصر، وبذلك وصل المماليك إلى حكم مصر خلفاً للأيوبيين.
وتلقب عز الدين أيبك بالملك المعز وأُخِذت له البيعة في مصر.
حكم المملوك عز الدين أيبك
كان الملك المعز عز الدين أيبك من الذكاء بحيث إنه لم يصطدم بشجرة الدر ولا بزعماء المماليك البحرية في أول أمره.. بل بدأ يقوي من شأنه ويعد عدته تدريجياً، فبدأ يشتري المماليك الخاصة به، ويعد قوى مملوكية عسكرية تدين له هو شخصياً بالولاء، وانتقى من مماليك مصر من يصلح لهذه المهمة، وكوَّن ما يُعرَف في التاريخ بالمماليك المعزية (نسبة إليه)، ووضع على رأس هذه المجموعة أبرز رجاله وأقوى فرسانه وأعظم أمرائه: سيف الدين قطز رحمه الله.
وكان هذا هو أول ظهور للبطل الإسلامي الشهير: سيف الدين قطز قائد مجموعة المماليك الخاصة بالملك المعز عز الدين أيبك.
ومع أن الملك المعز عز الدين أيبك نفسه من المماليك البحرية إلا أنه بدأ يحدث بينه وبينهم نفور شديد.. أمّا هو فيعلم مدى قوتهم وارتباطهم بكلمة زوجته شجرة الدر التي لا تريد أن تعامله كملك بل كصورة ملك.. وأما هم فلا شك أن عوامل شتى من الغيرة والحسد كانت تغلي في قلوبهم على هذا المملوك صاحب الكفاءات المحدودة في نظرهم الذي يجلس على عرش مصر ويلقب بالملك، أما هم فيُلَقَّبون بالمماليك.
لكن الملك المعز عز الدين أيبك لم يستنفر مبكراً، بل ظل هادئًا يعد عدته في هدوء، ويكثر من مماليكه في صمت.
ثم حدث أن تجمعت قوى الأمراء الأيوبيين لغزو مصر لاسترداد حكم الأيوبيين بها، وكانت الشام قد خرجت من حكم ملك مصر بعد وفاة توران شاه مباشرة.
والتقى معهم الملك المعز عز الدين أيبك بنفسه في موقعة فاصلة عند منطقة تسمى العباسية (حوالي عشرين كيلو متر شرق الزقازيق الآن) في 10 من ذي القعدة سنة 648هـ (بعد أربعة أشهر فقط من حكمه). وانتصر الملك المعز عز الدين أيبك، ولا شك أن هذا الانتصار رفع أسهمه عند الشعب، وثبَّت من أقدامه على العرش.
اعتراف الخليفة بالمعز
وفي سنة 651هـ (بعد 3 سنوات من حكم أيبك) حدث خلاف جديد بين أمراء الشام والملك المعز عز الدين أيبك، ولكن قبل أن تحدث الحرب تدخَّل الخليفة العباسي المستعصم بالله للإصلاح بين الطرفين، وكان من جرَّاء هذا الصلح أن دخلت فلسطين بكاملها حتى الجليل شمالًا تحت حكم مصر.. فكانت هذه إضافة لقوة الملك المعز عز الدين أيبك، ثم حدث تطور خطير لصالحه وهو اعتراف الخليفة العباسي بزعامة الملك المعز عز الدين أيبك على مصر، والخليفة العباسي وإن كان ضعيفًا وليست له سلطة فعلية إلا أن اعترافه يعطي للملك المعز صبغة شرعية مهمة.
كل هذه الأحداث مكَّنت الملك المعز عز الدين أيبك من التحكم في مقاليد الأمور في مصر.. ومن ثَمَّ زاد نفور زعماء المماليك البحرية منه، وبالذات فارس الدين أقطاي الذي كان يبادله كراهية معلنة، لا يخفيها بل يتعمد إبرازها.. هذه المعاملة من أقطاي، وإحساس أيبك من داخله أن المماليك البحرية - وقد يكون الشعب - ينظرون إليه على أنه مجرد زوج للملكة المتحكمة في الدولة، جعله يفكر جدياً في التخلص من أقطاي؛ ليضمن الأمان لنفسه وليثبت قوته للجميع. وهكذا لا يحب الملوك عادة أن يبرز إلى جوارهم زعيم يعتقد الشعب في قوته أو حكمته.
تزايد الصراعات ومقتل أقطاي
انتظر أيبك الفرصة المناسبة، إلى أن علم أن أقطاي يتجهز للزواج من إحدى الأميرات الأيوبيات، فعلم أن أقطاي يحاول أن يضفي على نفسه صورة جميلة أمام الشعب، وأن يجعل له انتماءً واضحاً للأسرة الأيوبية التي حكمت مصر قرابة الثمانين سنة، وإذا كانت شجرة الدر حكمت مصر لكونها زوجة الصالح أيوب، فلماذا لا يحكم أقطاي لكونه زوجاً لأميرة أيوبية فضلاً عن قوته وبأسه.
هنا شعر الملك المعز عز الدين أيبك بالخطر الشديد، وأن هذه بوادر انقلاب عليه، والانقلاب عادة يكون بالسيف، فاعتبر أن ما فعله أقطاي سابقًاً وما يفعله الآن هي مؤامرة لتنحية أيبك عن الحكم، ومن ثَمَّ أصدر أوامره بقتل زعيم المماليك البحرية فارس الدين أقطاي.
وبالفعل تم قتل فارس الدين أقطاي بأوامر الملك المعز، وبتنفيذ المماليك المعزية الذين كانوا يقودهم كبير قادة الملك المعز، وتم ذلك في 3 شعبان سنة 652هـ.
وبقتل فارس الدين أقطاي خلت الساحة لعز الدين أيبك، وبدأ يظهر قوته ويبرز كلمته، وبدأ دور الزوجة شجرة الدر يقل ويضمحلّ، فقد اكتسب الملك المعز الخبرة اللازمة وزادت قوة مماليكه المعزية، واستقرت الأوضاع في بلده فرضي عنه شعبه، واعترف له الخليفة العباسي بالسيادة، ورضي منه أمراء الشام الأيوبيون بالصلح.
وبقتل فارس الدين أقطاي انقسم المماليك إلى جزئيين كبيرين: المماليك البحرية الذين يدينون بالولاء لشجرة الدر، والمماليك المعزية الذين يدينون بالولاء للملك المعز عز الدين أيبك.
وهنا قرر زعماء المماليك البحرية الهروب إلى الشام خوفًا من الملك المعز عز الدين أيبك، وكان على رأس الهاربين ركن الدين بيبرس، الذي ذهب إلى الناصر يوسف، هذا الخائن الذي كان يحكم حلب ثم دمشق ودخل في طاعته.
وهكذا صفا الجو في مصر تماماً للملك المعز عز الدين أيبك، وتوسط الخليفة العباسي من جديد ليضمن استقرار الأوضاع، فاتفقوا على أن يعيش المماليك البحرية في فلسطين، ويبقى الملك المعز في مصر، إلا أن ركن الدين بيبرس آثر أن يبقى في دمشق عند الناصر يوسف الأيوبي.
مقتل أيبك وتنصيب ابنه المنصور
وما كان للأوضاع أن تستقر على هذه الحال؛ فشجرة الدر التي شُغِفَت بالحُكم، وخاب ظنها في ضعف المعز أيبك الذي ظهرت قوته، وأخذ يقلِّل من دورها حتى قضى عليه، هذه المرأة قررت التخلص من زوجها أيبك؛ فدبرت له مكيدةً، وقتلته بمساعدة مماليكها؛ فما كان من المماليك المعزية إلا أن قتلوها قصاصاً لأستاذهم.
وقعت البلاد في أزمة؛ فاجتمع أمراء المماليك، ونصَّبوا نور الدين علي بن أيبك من زوجته الأولى، وبُويع له، ولم يكن قد بلغ الخامسة عشرة من عمره، وهذه مخالفة كبيرة ولا شك، ولكن لعله قد وضع في هذا التوقيت لكي يوقف النزاع المتوقع بين زعماء المماليك على الحكم.. وتلقَّب السلطان الصغير بلقب "المنصور"، وتولى الوصاية الكاملة عليه أقوى الرجال في مصر وهو سيف الدين قطز قائد الجيش وزعيم المماليك المعزية، وأكثر الناس ولاءً للملك السابق المعز عز الدين أيبك.
وكانت هذه البيعة لهذا السلطان الطفل في ربيع الأول من سنة 655هـ، وأصبح الحاكم الفعلي لمصر هو سيف الدين قطز رحمه الله.
سيف الدين قطز
سيف الدين قطز هو واحد من أعظم الشخصيات في تاريخ المسلمين.. اسمه الأصلي محمود بن ممدود، وهو من بيت مسلم ملكي.. وهو ابن أخت جلال الدين الخوارزمي ملك الخوارزميين المشهور، الذي قاوم التتار فترة وانتصر عليهم ثم هُزِمَ منهم، وفرَّ إلى الهند، وعند فراره إلى الهند أمسك التتار بأسرته فقتلوا بعضهم واسترَقّوا بعضهم.
وكان محمود بن ممدود أحد أولئك الذين استرقَّهم التتار، وأطلقوا عليه اسماً مغولياً هو قطز، وهي كلمة تعني "الكلب الشرس"، ويبدو أنه كانت تبدو عليه من صغره علامات القوة والبأس، ثم باعه التتار في أسواق الرقيق في دمشق واشتراه أحد الأيوبيين، وجاء به إلى مصر، ثم انتقل من سيد إلى غيره حتى وصل في النهاية إلى الملك المعز عز الدين أيبك ليصبح أكبر قواده.
نشأ قطز رحمه الله كبقية المماليك على التربية الدينية والحمية الإسلامية، وتدرب منذ صغره على فنون الفروسية وأساليب القتال، وأنواع الإدارة، وطرق القيادة.. فنشأ شاباً فتياً أبياً محباً للدين معظماً له قوياً جلداً صبوراً.. فإذا أضفت إلى ذلك كونه ولد في بيت ملكي، وكانت طفولته طفولة الأمراء وهذا أعطاه ثقة كبيرة بنفسه، إضافة إلى ذلك أن أسرته هلكت تحت أقدام التتار؛ وهذا جعله يفقه جيداً مأساة التتار.
كل هذه العوامل صنعت رجلاً ذا طراز خاص جداً، يستهين بالشدائد، ولا يرهب أعداءه مهما كثرت أعدادهم أو تفوقت قوتهم.
التربية الإسلامية العسكرية، والتربية على الثقة بالله، والثقة بالدين، والثقة بالنفس كانت لها أثر كبير في حياة قطز رحمه الله.
عصرا الدولة المملوكية
العصر الأول: المماليك البحرية (648- 792هـ).
المماليك البحرية: هم مماليك السلطان الصالح نجم الدين أيوب الذين كثر عددهم، وزادت تعدياتهم فضج منهم السكان فبنى لهم قلعة في جزيرة الروضة عام 638هـ، فعُرِفُوا بالمماليك البحرية.
حكم هؤلاء المماليك البحرية مصر مدة أربع وأربعين ومائة سنة (648- 792هـ)، بدأت بحكم عز الدين أيبك. وقد تمثل هذا الحكم في أسرتين فقط، وهما أسرة الظاهر بيبرس البندقداري، وقد دام حكمها مدة عشرين سنة (658- 678هـ).
أمّا الأسرة الثانية فهي أسرة المنصور قلاوون، وقد استمر أمرها أربع عشرة ومائة سنة (678 - 792هـ) وحكم هو وأولاده وأحفاده، لم يتخللها سوى خمس سنوات خرج أمر مصر من أيديهم، إذ تسلم العادل كتبغا والمنصور لاجين والمظفر بيبرس الجاشنكير وقد قُتِلَ ثلاثتهم. حكم الأوليان منهم مدة أربع سنوات (694 - 698هـ)، وحكم الثالث ما يقرب من سنة (708- 709هـ).
العصر الثاني: المماليك الجراكسة أو البرجية (792- 923هـ).
موطن الجراكسة هو الأرض المشرفة على البحر الأسود من جهة الشمال الشرقي، وتشكل أرضهم الجزء الشمالي الغربي من بلاد القفقاس الممتدة بين بحري الأسود والخزر، والتي كانت تعرف يومذاك باسم بلاد القفجاق، وغدت تلك الجهات آنذاك مسرحاً للصراع بين مغول فارس أو الدولة الإيلخانية، ومغول القفجاق أو الأسرة الذهبية، وهذا الصراع جعل أعداداً من أبناء الجراكسة تدخل سوق النخاسة، وتنتقل إلى مصر، فاشترى السلطان المنصور قلاوون أعداداً؛ منهم ليتخلص من صراع المماليك البحرية، وليضمن الحفاظ على السلطنة له ولأبنائه من بعده، وقد أطلق على هؤلاء المماليك الجدد المماليك الجراكسة نسبة إلى أصولهم التي ينتمون إليها، كما أطلق عليهم اسم المماليك البرجية نسبة إلى القلعة التي وضعوا فيها.
لقد حكم المماليك الجراكسة مصر والشام والحجاز مدة تزيد على إحدى وثلاثين ومائة سنة (792- 923هـ)، وتعاقب في هذه المدة أكثر من سبعة وعشرين سلطانًا، لم تزد مدة الحكم على خمسة عشر عاماً، إلا لأربعة منهم وهم: الأشرف قايتباي، وقد حكم 29 سنة (872- 901هـ)، والأشرف قانصوه الغوري وقد حكم 17 سنة (906- 922هـ)، والأشرف برسباي وحكم 16 سنة (825- 841هـ)، والظاهر جقمق وحكم 15 سنة (842- 857هـ).
وهناك ست سلاطين حكموا عدة سنوات أو أكثر من سنة وهم: الظاهر برقوق وحكم تسع سنوات (792- 801 هـ)، وهي المرة الثانية بعد خلع المنصور حاجي، وابنه الناصر فرج وقد حكم مرتين في كل مرة سبع سنوات (801- 808 هـ) (808 – 815 هـ)، والمؤيد وحكم تسع سنوات (815- 824 هـ)، والأشرف إينال وحكم سبع سنوات (857- 865 هـ)، والظاهر خشقدم وحكم سبع سنوات أيضاً (865- 872 هـ).
أما السلاطين الخمسة عشرة الباقون فكانت مدة حكم الواحد أقل من سنة بل إن بعضهم لم تزد مدة حكمه على الليلة الواحدة إذ أن خير بك قد تسلم السلطنة مساءً وخُلِعَ صباحًا وذلك عام 872 هـ.
وقد برز في العصر المملوكي كثير من سلاطين المماليك كان لهم دور كبير في تغيير كثير من صفحات التاريخ، كما تركوا بصمات واضحة في التاريخ الإسلامي، منهم الظاهر بيبرس:
الظاهر بيبرس:
اتصف بيبرس بالحزم، والبأس الشديد، وعلو الهمة، وبعد النظر، وحسن التدبير، واجتمعت فيه صفات العدل والفروسية والإقدام، فلم يكد يستقر في الحكم حتى اتخذ عدة إجراءات تهدف إلى تثبيت أقدامه في الحكم، منها: التقرب من الخاصة والعامة؛ بتخفيف الضرائب عن السكان، كما عفا عن السجناء السياسيين، وأفرج عنهم، كما عمل على الانفتاح على العالم الإسلامي لكسب ود زعمائه.
وقام كذلك بالقضاء على الحركات المناهضة لحكمه، وأعاد الأمن والسكينة إلى البلاد.. إضافةً إلى ذلك أعاد إحياء الخلافة العباسية.
وعندما توطدت دعائم سلطة المماليك، وقويت شوكتهم، نتيجة الإجراءات التي اتخذها بيبرس، رأى هذا السلطان ضرورة متابعة سياسة صلاح الدين الأيوبي وخلفائه في طرد الصليبيين، وإجلائهم عن البلاد الإسلامية، ولم يكن ذلك بالأمر السهل، فقد كان لزاماً عليه أن يجابه ما تبقى من الإمارات الصليبية، وهي أنطاكية، وطرابلس، والجزء الباقي من مملكة بيت المقدس، وحتى يحقق هدفه اتبع إستراتيجية عسكرية قائمة على ضرب هذه الإمارات الواحدة تلو الأخرى، ولم تنقضِ سنة من السنوات العشر الواقعة بين عامي (659- 669هـ - 1261- 1271م) دون أن يوجه إليهم حملة صغيرة أو كبيرة، وكان ينتصر عليهم في كل مرة.
العلم والحضارة
تُتَّهم الدولة المملوكية كثيراً بالضعف الحضاري، والهزال العلمي الفكري، ولكن التاريخ الصحيح يُكذِّب ذلك، فقد كان لفنون الحضارة مكان عزيز عند المماليك.
لقد ظهر في العصر المملوكي كثير من المنشآت الدينية من مساجد وتكايا ومدارس وأربطة وحلقات العلم، تقوم على تدريس العلوم الدينية، وتقديم الخدمات لطلبة العلم، هذا إضافة إلى الكتب الدينية التي صدرت آنذاك.
ويقول الدكتور محمد السيد علي بلاسي إن الله حبب إلى سلاطين المماليك أن يميلوا إلى العلم، وأن يقربوا العلماء ويغدقوا عليهم، فتخرج في الأزهر علماء أجلاء لا نزال ننعم بما خلفوه من دراسات واسعة شاملة في شتى ميادين المعرفة، كالسيوطي، وابن منظور، وابن هشام، والسبكي، وابن حجر.
ومن بين العلماء المشاهير: الإمام النووي، والعز بن عبد السلام، وابن تيمية، وابن قيم الجوزية، والمزي، والذهبي، وابن جماعة، وابن كثير، والمقريزي، وابن تغري بردي، والقلقشندي، وابن قدامة المقدسي، والمزي الفلكي.
يتبع