مشاهدة النسخة كاملة : أثـار الفتـن
ابو وليد البحيرى
2021-09-30, 09:41 PM
أثـار الفتـن (1)
الشيخ عبدالرزاق بن عبدالمحسن البدر
إن الحمد لله، نحمده ونستعين به ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فهذا موضوع نحتاج إلى مذاكرته والوقوف على طرف من جوانبه، وذلك من باب الحيطة؛ لأن معرفة آثار الشيء وعواقبه وأضراره تعطي العبد شيئاً من الحصانة منه والحذر من الوقوع فيه، وقد قيل قديماً: «كيف يتقي من لا يدري ما يتقي؟!».
الذي لا يعرف الفتن ولا يعرف آثارها وعواقبها وعوائدها، ربما دخل في شيء منها وتلطخ بها وأضرت بحياته، ثم بعد ذلك يلحقه من الندم ما يلحقه.
ومعرفة آثار الفتن نافعة للعبد نفعاً كبيراً، ومفيدة له فائدة عظيمة؛ لأنها من باب النظر في العواقب ومآلات الأمور، وهذا يعد من حصافة العبد، أي: إنه قبل أن يقدم على أمر من الأمور، ينظر في عواقبه وآثاره.
ولهذا جاء في سيرة الإمام أحمد -رحمه الله- أن نفراً من علماء بغداد جاؤوا إليه في بيته، فقالوا: يا أبا عبدالله هذا الأمر قد تفاقم وفشا - يعنون إظهار القول بخلق القرآن وغير ذلك - فقال لهم أبو عبدالله: فما تريدون؟ قالوا: أن نشاورك في أنا لسنا نرضى بإمرته ولا سلطانه! فناظرهم أبو عبدالله ساعة وقال لهم: «عليكم بالنكرة بقلوبكم ولا تخلعوا يداً من طاعة ولا تشقوا عصا المسلمين ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين معكم، انظروا في عاقبة أمركم واصبروا حتى يستريح بر أو يستراح من فاجر»(1).
فهذه دعوة منه -رحمه الله- للنظر في آثار الفتن وعواقبها وأي شيء سيعود على أهلها منها.
وأخذ يحدثهم في ذلك، ثم إنهم خرجوا من عنده ولم يتلقوا كلامه بالقبول، بل ما زالوا على رأيهم مصرين، ودعوا إلى مسلكهم ابن أخي الإمام أحمد -رحمه الله- دعوه إلى المسلك نفسه، فنهاه والده، وقال: احذر أن تصاحبهم؛ فإن الإمام أحمد لم ينههم إلا عن شر، فاعتذر، ثم كانت نهاية قصتهم أن خرجوا على السلطان، فكانت العاقبة التي حذرهم منها الإمام أحمد -رحمه الله- قُتل من قُتل، وسُجن من سُجن دون أن يقدموا شيئاً في باب الإصلاح.
فالشاهد أن النظر في عواقب الأمور ومآلات الأشياء وعدم التعجل والتسرع من أنفع ما يكون للعبد.
ولهذا جاء عن الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: إنها ستكون أمور مشتبهات؛ فعليكم بالتؤدة؛ فإنك أن تكون تابعاً في الخير، خير من أن تكون رأساً في الشر(2).
فأوصى بالتؤدة وهي الأناة وعدم التعجل.
وروى الإمام البخاري -رحمه الله- في كتابه «الأدب المفرد» عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنه قال: «لا تكونوا عُجلاً مذاييع بُذرا؛ فإن من ورائكم بلاء مبرحا أو مكلحا، وأمور متماحلة رُدُحا»(3)، أي: ثقيلة وشديدة.
فنهى عن أمور ثلاثة، قال: «لا تكونوا عجلاً مذاييع بذرا»؛ فنهى عن العجلة، وهي التسرع، بل ينبغي على الإنسان أن يتأنى ويتروى وينظر في العواقب والآثار، ثم بعد ذلك يقدم بعد روية وأناة.
والأمر الثاني الذي نهى عنه أن يكونوا «مذاييع»، وهذا أمر يحذر منه غاية التحذير، فعندما تلتهب الفتن وتشتد لا ينبغي للإنسان أن يكون ساعيا في اشتدادها واشتعالها بكلامه ومقاله، بأن يكون مذياعاً للفتنة ومذياعاً للشر ومذكياً لناره.
وذكر الأمر الثالث، فقال: «بَذَرا»، أي: من بذرة الفتن والسعاة في نشرها، والنبي صلى الله عليه وسلم حذر الأمة وأخبر أن الفتن توجد وستكون وحذرهم من السعي فيها، كما في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال صلى الله عليه وسلم : «ستكون فتن القاعد فيها خير من الماشي، والماشي خير من الساعي»(4)، أي: إن المرء كلما كان بعيداً عن تحريك الفتنة وإشعالها وإيقادها وإضرامها، كان خيراً له وأصلح، يبتعد عنها ويسأل الله تبارك وتعالى أن يعيذه ويعيذ المسلمين من شرها، لا أن يكون أداة في اشتعالها وانتشارها.
وقد جاء في «صحيح مسلم»(5) من حديث زيد بن ثابت عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: «تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن»، فقال الصحابة -رضي الله عنهم: «نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن».
فالفتن يُتعوذ منها، ويطلب من الله -تبارك وتعالى- أن يعيذ المسلمين منها، وأن يحميهم من غوائلها وآثارها وأخطارها وأضرارها.
ويكثُر في الدعوات المأثورة: التعوذ بالله من سوء الفتن، والتعوذ بالله من مضلات الفتن.
وهذا أمر ينبغي أن يكون المسلم على عناية به، وأن يحافظ عليه؛ لأن الحافظ هو الله -تبارك وتعالى- والمعيذ هو الله، فيلجأ العبد إلى الله -تبارك وتعالى- لجوءاً صادقاً، يسأل ربه -جل وعلا- أن يعيذه وأن يقيه، وأن يحميه والمسلمين من الفتن، هذا الذي يجب على كل مسلم.
وباب فقه آثار الفتن يفيد الإنسان؛ لأن النظر في العواقب -عواقب الفتن- ومعرفة مآلاتها قبل تقحمها ودخولها يفيد الإنسان حصانة منها وحذرا من الوقوع فيها، وكما قيل: «السعيد من اتعظ بغيره» فينظر ويتأمل ويتروى ويتفقه في الآثار، ويسأل أهل العلم وأهل الذكر قبل أن يتقحم فتنة، ربما كان فيها رأسا، وربما كان فيها فاتحا لباب شر عليه وعلى غيره.
وقد جاء في الحديث في «سنن ابن ماجه» و«السنة» لابن أبي عاصم من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن النبي[ قال: «إن من الناس ناسا مفاتيح للخير مغاليق للشر، وإن من الناس ناسا مفاتيح للشر مغاليق للخير؛ فطوبى لمن جعل الله مفتاح الخير على يديه، وويل لمن جعل الله مفتاح الشر على يديه»(6).
يجب على المسلم أن يربأ بنفسه عن أن يكون مفتاحاً للشر ورأساً فيه وداعية من دعاته، يورط نفسه ويورط غيره ويقحمهم في ورطات لا يحمد هو ولا هم عواقبها، لا في الدنيا ولا في الآخرة.
فالشاهد أن باب فقه عواقب الفتن وآثارها وما ينجم عنها من أضرار وأخطار، يفيد المسلم فائدة كبيرة.
وآثار الفتن كثيرة وعديدة، ويطول عدها والكلام عليها.
لكنني أشير في الحلقات القادمة إلى جملة من الآثار وشيء من العواقب، راجياً من الله -تبارك وتعالى- أن يكون في ذلك خير ونفع لنا أجمعين.
الهوامش:
1 - رواه أبو بكر الخلال في السنة رقم (90).
2 - أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (38343)، والبيهقي في الشعب (9886).
3 - الأدب المفرد (327)، قال الألباني: صحيح.
4 - البخاري (3406)، ومسلم: (2886).
5 - برقم (2867).
6 - سنن ابن ماجة: (237)، وابن أبي عاصم في السنة: (297)، والطيالسي في مسنده: (2082)، والبيهقي في شعب الإيمان: (698)، وحسنه الألباني في الصحيحة: (1332).
ابو وليد البحيرى
2021-09-30, 09:46 PM
أثـار الفتـن (2)
انصراف الناس عن العبادة
الشيخ عبدالرزاق بن عبدالمحسن البدر
من آثار الفتن أنها سبب لانصراف العبد عن العبادة التي خُلق لأجلها والطاعة التي أوجد لتحقيقها والاشتغال بها وينصرف عن ذكر الله تبارك وتعالى، وتصبح حياته وأيامه وأوقاته مشغولة بالقيل والقال والأمور التي تُثار والفتن التي تتأجج وقلبه يكون مشوشاً مضطرباً مشغولاً، فلا يهدأ ولا يطمئن ولا يتحقق منه ذكر لله تبارك وتعالى على وجه الطمأنينة فيكون مضطرب القلب، مشوش البال، منشغل الخاطر؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: «عبادة في الهرج كهجرة إلي» (1).
و«الهرج»: هو ما يكون في الناس من اضطراب، وعندما تموج الأمور وتضطرب، وينشب بين الناس الفتن والقتل ونحو ذلك، فالذي يكون في مثل هذا الوقت مشتغلاً بعبادة الله تبارك وتعالى هو كالمهاجر إلى النبي عليه الصلاة والسلام.
وهذا يبين أن من كان في الهرج مشتغلاً بالعبادة فإنه موفق سالم من أوضار الفتنة.
وأيضاً في الوقت نفسه يدل على أن الذي ينبغي على الإنسان في الفتن هو الإقبال على العبادة، وتجنب الفتن؛ ليفوز بالسعادة والراحة والطمأنينة، ولهذا جاء في الحديث الصحيح عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: «إن السعيد لمن جُنِّبَ الفتن» (2)، وكررها عليه الصلاة والسلام ثلاث مرات.
فالسعادة في تجنب الفتن، والاشتغال بالعبادة والذكر، والطاعة لله سبحانه وتعالى، والتقرب إليه جلَّ وعلا بما شرع من أنواع العبادات، وأنواع الأذكار، وأنواع القربات.
وقد جاء في الصحيح من حديث أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فزعاً يقول: «سبحان الله! ماذا أنزل الله من الخزائن؟ ماذا أنزل الله من الفتن؟! من يوقظ صواحب الحجرات -يعني: أزواجه- يصلين»(3).
فأرشد عليه الصلاة والسلام عند نزول الفتن إلى الصلاة، إلى عبادة الله تبارك وتعالى، إلى التقرب إليه، قال: «من يوقظ صواحب الحجرات يصلين، رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة».
وأيضاً: يدل على هذا المعنى قوله عليه الصلاة والسلام: «بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم»(4)، فأرشد إلى الأعمال الصالحة، بأن يُقبل الإنسان على طاعة الله، على الصلاة، على الذكر، على الدعاء، على تلاوة القرآن.
وعندما تموج الفتن يُشغل الناس عن الأعمال وعن العبادات إلا القليل ممن يكتب لهم تبارك وتعالى توفيقاً وتسديداً وتأييداً.
لما وقعت الفتنة في زمن التابعين قال الحسن البصري رحمه الله - وهو ممن اعتزل الفتن -: «يأيها الناس! إنه والله ما سلط الله الحجاج عليكم إلا عقوبة؛ فلا تعارضوا عقوبة الله بالسيف، ولكن عليكم بالسكينة والتضرع»؛ فإن الله يقول: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} (المؤمنون: 76) (5)».
أي إن الواجب على الإنسان هو الاستكانة إلى الله، والتضرع إليه، وملازمة ذكره، وأن يُصلح حاله ونفسه وبيته، وأن يستقيم على طاعة ربه على الوجه الذي يُرضي الله تبارك وتعالى.
وجاء عن أبي هريرة رضي الله عنه في هذا المعنى أنه قال: «تكون فتنة لا يُنجِي منها إلا دعاءٌ كدعاء الغريق» (6).
ويعرف كل منا كيف يكون دعاء الغريق الذي أدركه الغرق، كيف يكون دعاؤه؟! يقول: «تكون فتنة لا يُنجِي منها إلا دعاء الغريق»، أنت تُقبل على الله تبارك وتعالى إقبالاً صادقاً بأن ينجيك ويجيرك ويسلمك ويحفظك.
صرف الناس عن العلم والعلماء
من آثار الفتن وعواقبها: أنها تصرف الناس عن مجالس العلم ومجالسة العلماء وتعلم الأحكام ومعرفة الدين، وتكون القلوب مشغولة، وفيها نار الفتنة متأججة، فلا يطمئن القلب لطلب علم، ولا يقبل على مجالسة العلماء، بل يكون منصرفاً عن ذلك كله.
بل أزيد من ذلك وأعظم أنها تفضي بكثير من الناس إلى انتقاص العلماء واحتقارهم، وعدم معرفة أقدارهم، والوقيعة فيهم، وفي أعراضهم، والنيل منهم.
وقد جاء في الحديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: «ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا، ويعرف لعالمنا حقه» (7).
ففي الفتنة يقع كثير من الناس في انتقاص العلماء واحتقارهم ولمزهم وهمزهم والطعن فيهم والتقليل من شأنهم ورميهم بالأوصاف العظيمة، ويتجرأ على مقام العلماء جرأة سافرة سيئة، وذلك كله من آثار الفتن، والعياذ بالله.
ومما جاء في هذا المعنى من الأخبار التي تُروى في التاريخ: أنه لما كانت فتنة عبد الرحمن بن الأشعث، وقد دخل في هذه الفتنة عدد من القراء وكثير من الناس، لما كانت هذه الفتنة انطلق نفر من الناس، فدخلوا على الحسن البصري، وهو إمام من أجلّة أهل العلم، وفقيه من كبار فقهاء الإسلام، فقالوا: ما تقول في هذا الطاغية - أي الحجاج - الذي سفك الدم الحرام وأخذ المال الحرام وترك الصلاة وفعل وفعل؟! وذكروا له من أفعال الحجاج، فقال الحسن البصري رحمه الله تعالى: «أرى ألا تقاتلوه؛ فإنها إن تكن عقوبة من الله - أي تسليط الحجاج - فما أنتم برادي عقوبة الله بأسيافكم، وإن يكن بلاء فاصبروا حتى يحكم الله، وهو خير الحاكمين»، فخرجوا من عنده وهم يقولون: نطيع هذا العلج؟! (8).
فلما تأججت الفتنة في نفوسهم؛ عندما يقول العالم قولاً لا يوافق أهواءهم ولا يمشي مع ميولاتهم وتوجهاتهم، رأساً يطعنون فيه.
والطعون ممن أُشربوا الفتنة في أهل العلم لا حد لها في قديم الزمان وحديثه، وربما رموه بمداهنة، وربما رموه بعمالة، وربما رموه بأوصاف وألقاب لا حد لها.
فالفتن تجريء الناس على مقام العلماء، وانتقاصهم، وتحقيرهم، والوقيعة في أهل العلم، وهذا من أخطر ما يكون على الإنسان، حمانا الله جميعاً من ذلك.
ثم إن هؤلاء النفر الذين قالوا للحسن هذه المقالة ولم يستجيبوا لنصححه خرجوا مع ابن الأشعث فقُتِلوا جميعاً، ولم يحصلوا خيراً، ولم يستفيدوا أيضاً من نصائح أهل العلم؛ لأن أهل العلم لم يعد لهم مقام عندهم، وليس لكلامهم أي اعتبار أو أي شأن.
الهوامش:
1- أخرجه الطبراني في الكبير (20/213) من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3974).
2- أخرجه أبو داود (4263) من حديث المقداد بن الأسود رضي الله عنه، وصححه الألباني في الصحيحة (975).
3- صحيح البخاري (115، 1126، 3599، 5844، 6218، 7069 ).
4- أخرجه مسلم (118) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
5- أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (7/164)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (12/178).
6- أخرجه ابن أبي شيبة (7/531)، وجاء نحوه عن حذيفة رضي الله عنه، أخرجه ابن أبي شيبة (6/22)، والحاكم ( 1/687) وصححه.
7- أخرجه أحمد (22755)، والحاكم (1/211) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وقال الألباني في صحيح الجامع (1/211): حسن.
8- الطبقات الكبرى لابن سعد (7/163-164)، والكنى والأسماء للدولابي (3/1035)، وتاريخ دمشق (12/178).
ابو وليد البحيرى
2021-09-30, 09:51 PM
أثـار الفتـن (3)
تصـــدر السفــــهاء
الشيخ عبدالرزاق بن عبدالمحسن البدر
ومن آثار الفتن أيضاً: أنها يترتب عليها تصدر السفهاء، ومن لا علم عندهم، ومن لا فقه لهم في دين الله يتصدرون بالحماسة فقط من غير فقه في دين الله ومن غير دراية وبدون أناة ولا تؤدة، فيلقون الأحكام جزافاً، ويقررون الأقوال، ويرجفون ويتدخلون في أمر الفتيا وغيرها، وهم لا يعرفون بعلم ولا يعرفون بحلم ولا يعرفون بروية، لكنهم يدفعهم في ذلك حماسة تجرهم إليها الفتن. ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في كتابه «المنهاج»(1): والفتنة إذا وقعت عجز العقلاء فيها عن دفع السفهاء.
وهذا شأن الفتن كما قال الله تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} (الأنفال: 25).
وإذا وقعت الفتنة، لم يسلم من التلوث بها إلا من عصمه الله، نسأل الله عز وجل أن يسلمنا أجمعين.
الانتهاء إلى العواقب المردية والمآلات السيئة
من آثار الفتن وعواقبها: أن منى دخل الفتنة وتورط فيها باء بالعواقب المردية والمآلات السيئة، ولا ينال منها خيراً، وفي الوقت نفسه لا يحصل خيرا وشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - تتبع جملة من الفتن التي ثارت في أزمنة قبله ورصدها - رحمه الله - وذكر في كتابه «منهاج السنة» خلاصة جميلة نافعة مفيدة لمآلات تلك الفتن، فقال - رحمه الله-: «كل من خرج على إمام ذي سلطان إلا كان ما تولد على فعله من الشر أعظم مما تولد من الخير» وذكر أمثلة كثيرة لفتن حصلت، ثم لخص نتاج وآثار تلك الفتن، فقال - رحمه الله-: فلا أقاموا دينا ولا أبقوا دنيا(2).
أي: من تصدروا في تلك الفتن وسعوا فيها، ما أقاموا دينا، وما أبقوا دنيا؛ لأن الفتنة إذا ثارت يقع القتل ويكثر الهرج ويموج الناس وتحصل الفتن والعواقب السيئة، ولا يحصل مثيرو الفتنة أي خير.
ومر قريباً معنا قصة النفر الذين لم يعبؤوا بنصيحة الإمام أحمد، وكذلك قصة النفر الذين لم يعبؤوا بنصيحة الحسن البصري - رحمه الله - فكانت النتيجة أنهم ما أقاموا دينا، وكانت مآلاتهم، إما إلى حبس أو إلى قتل أو هروب أو غير ذلك من المآلات والنهايات، وهذا متكرر في التاريخ.
وفي المجلد الثامن من «سير أعلام النبلاء» في ترجمة الحكم بن هشام الداخل الأموي وكان أمير الأندلس، يقول الذهبي في قصة طويلة لا يسع المقام لذكرها، ولكن يمكن أن تراجع في «سير أعلام النبلاء»(3)، بدأها الذهبي - رحمه الله - بقوله: «كثرت العلماء بالأندلس في دولته - أي دولة الحكم - حتى قيل: إنه كان بقرطبة أربعة آلاف متقلس متزيين بزي العلماء، يعني: كثر أهل العلم وطلبة العلم والمتزيين بزي أهل العلم، قال: فلما أراد الله فناءهم، عز عليهم انتهاك الحكم للحرمات، وائتمروا ليخلعوه، ثم جيشوا لقتاله، وجرت بالأندلس فتنة عظيمة على الإسلام وأهله، فلا قوة إلا بالله»، ثم سرد القصة - رحمه الله - وفي نهايتها أن كثيرا من هؤلاء قتلوا، ومنهم من فر، ومنهم من سجن دون أن يقيموا دينا بمثل هذه الفتن التي تشعل وتؤجج، والسعيد - كما يقال - من اتعظ بغيره، بل إن عددا كبيرا ممن شاركوا في الفتن ودخلوا فيها كانت نهايتهم فيها الندم وتمنوا أن لو لم يدخلوا في تلك الفتن.
وسطر من ذلك شيء كثير في كتب التاريخ والتراجم، أخبار لأولئك الذين شاركوا في الفتن كانت نهاياتهم الندم على ذلك.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله-: «وهكذا عامة السابقين ندموا على ما دخلوا فيه من القتال»(4).
ويقول أيوب السختياني - رحمه الله- وقد ذكر القراء الذين خرجوا مع ابن الأشعث، فقال: «لا أعلم أحدا منهم قتل إلا قد رغب له عن مصرعه، ولا نجا منهم أحد إلا حمد الله الذي سلمه»(5)، أي: أنه ندم على ما كان منه.
ومن الأخبار المفيدة واللطيفة في هذا الباب قصة زبيد ابن الحارث اليامي، وهو من رجال الكتب الستة، ومن علماء الإسلام، وهو ممن دخل في فتنة ابن الأشعث، ولكنه سلم منها وسلم من القتل، قال محمد بن طلحة: «رآني زبيد مع العلاء بن عبدالكريم ونحن نضحك، فقال: لو شهدت الجماجم ما ضحكت»، «والجماجم» التي يشير إليها: جماجم المسلمين ورؤوسهم تتساقط بأيدي المسلمين أنفسهم، يقتل بعضهم بعضا، ثم قال زبيد: «ولوددت أن يدي - أو قال: يميني - قطعت من العضد ولم أكن شهدت ذلك»(6).
ثم جاءت فتنة بعد ذلك ودعي إلى المشاركة فيها، لكنه رأى الآثار والعواقب وانتبه، فتأمل جوابه الطريف اللطيف الذي هو جواب مجرب، جاء في بعض الروايات أن منصور ابن المعتمر كان يختلف إلى زبيد، فذكر أن أهل البيت يقتلون ويريد من زبيد أن يخرج مع زيد بن علي في فتنة أخرى، فقال زبيد - رحمه الله-: «ما أنا بخارج إلا مع نبي، وما أنا بواجده» (7)، أي: لن أجد نبياً أخرج معه، هذه قالها عن معرفة وتجربة ومعاينة للآثار التي حصدت من تلك الفتن.
الهوامش:
1- (4/187).
2 - منهاج السنة: (4/527 - 528).
3 - : (8/253 - 260).
4 - منهاج السنة: (4/316).
5 - أخرجه خليفة بن خياط في تاريخه: (ص: 76).
6 - تاريخ خليفة: (ص: 76).
7 - أخرجه يعقوب بن سفيان في «تاريخه» (3/107)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (19/473).
ابو وليد البحيرى
2021-09-30, 09:55 PM
آثار الفتن (4)
من دخل في الفتن انحط قدره
الشيخ عبدالرزاق بن عبدالمحسن البدر
من آثار الفتن وعواقبها: أن الأمور تشتبه فيها على الناس وتختلط، ولا يميز كثير من الناس بين حق وباطل، ويُقتل الرجل ولا يَدري فيما قُتل!
يقول سعد ابن أبي وقاص في فتنة على ومعاوية: «لا أقاتل حتى تأتوني بسيف له عينان، ولسان وشفتان، يعرف المؤمن من الكافر»
أيضا من آثارها: أن من يدخل فيها وهو من أهل العلم، ربما أدت به إلى انتقاص قدره، وسقوط شأنه، ومن سلم من تلك الفتن، تكون سلامته منها رفعة له، وسببا لانتفاع الناس بعلمه، ومضي الخير وجريانه على يديه بتوفيق من الله -تبارك وتعالى-، ولهذا قال عبد الله بن عون: «كان مسلم بن يسار عند الناس أرفع من الحسن - أي البصري - فلما وقعت الفتنة، خف مسلم فيها، وأبطأ عنها الحسن - أي: تأخر واعتزل الفتن -، فأما مسلم فإنه اتضع -أي عند الناس-، وأما الحسن فإنه ارتفع» (1).
مسلم بن يسار، قال عنه عبد الله بن عون: ما سمعنا، وهو ممن دخل في فتنة ابن الأشعث، لكنه لما انتهت، كان يحمد الله ويقول في حمده لله -تبارك وتعالى-: «يا أبا قلابة، إني أحمد الله إليك؛ أني لم أرم فيها بسهم، ولم أطعن فيها برمح، ولم أضرب فيها بسيف» معنى كلامه: أنا مشيت معهم؛ لكنني ما رميت بسهم ولا ضربت بسيف، فكان يقول هذا الكلام، يحمد الله، وكان عنده أبو قلابة رحمه الله، فقال له أبو قلابة: يا أبا عبد الله: «فكيف بمن رآك واقفا في الصف؟» أنت عالم معروف بين الناس، ومكانتك معروفة؛ فكيف بمن رآك بين الصفين؟ فقال: «هذا مسلم بن يسار، والله! ما وقف هذا الموقف إلا وهو على الحق!» وقوفك بين الصفين، وحضورك بنفسك، وقيامك مع هؤلاء، وجودك نفسه هذا مما يزيد الفتنة.
فبكى مسلم بن يسار؛ لما نبهه على هذا الأمر، فقال أبو قلابة: «فبكى، وبكى، حتى تمنيت أني لم أكن قلت له شيئا» (2).
يعني: تأثر للحال التي آل إليها أمر مسلم، عندما ذكره بخطورة وقوفه حتى بدون مشاركة، فكيف بمن شارك؟!
الأثر السادس:
اشتباه الأمور واختلاط الحق بالباطل
من آثار الفتن وعواقبها: أن الأمور تشتبه فيها على الناس وتختلط، ولا يميز كثير من الناس بين حق وباطل، ويُقتل الرجل ولا يَدري فيما قُتل! ويقتله قاتله ولا يدري فيما قتله!! لكنها فتنة مضطرمة، ويموج الناس، وتتغير النفوس، وتعظم الأخطار، وتحدق الشرور بالناس، وتصبح الأمور مشتبهة. يقول أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: «إن الفتنة إذا أقبلت شُبِّهتْ، وإذا أدبرت تبينت»(3)، فالفتنة إذا أقبلت على الناس شبهت: يصبح أمرها مشتبها على الناس غير متضح، وإذا أدبرت عرف الناس حالها وتبين لهم أمرها.
ويقول مطرف بن عبد الله بن الشخير: «إن الفتنة لا تجيء حين تجيء لتهدي الناس، ولكن لتقارع المؤمن على دينه»(4).
ولنعتبر في هذا الباب بفتنة المسيح الدجال التي هي أعظم الفتن، والنبي عليه الصلاة والسلام ذكر لأمته فيها حقائق جلية، وأموراً واضحة، تكشف عوار الدجال وتبين حقيقته، ومع ذلك يتبعه خلق لا يحصيهم إلا الله.
يقول عليه الصلاة والسلام: «من سمع بالدجال، فلينأ عنه - أي: يبتعد عنه ولا يقترب من مكانه - فوالله! إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن، فيتبعه مما يبعث به من الشبهات»(5). «فيتبعه» أي: يتبع الدجال؛ مما يبعث به من الشبهات، أي: مما يثيره الدجال من الشبهات التي تخطف القلوب وتأسر النفوس.
وجاء في الحديث -في «صحيح مسلم»(6)- أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: «من قاتل تحت راية عمية، يغضب لعصبة أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبة؛ فقتل، فقتلة جاهلية».
وقوله: «عمية»؛ أي: الأمر الأعمى لا يستبين حاله ولا يتضح أمره. وهذا حال الفتن، وشأنها أن يصبح الناس يموجون فيها ولا يتضح لهم فيها أمر ولا تستبين لهم فيها جادة.
ومن لطيف ما يذكر في هذا المقام: قصة الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه.
يقول ابن سيرين: «قيل لسعد بن أبي وقاص: ألا تقاتل؟! - يقصدون في الفتنة التي كانت، والقتال الذي كان بين معاوية وبين علي بن أبي طالب، وكان سعد ممن اعتزل ذلك وابتعد عنه - فقالوا له: ألا تقاتل؟! فإنك من أهل الشورى، وأنت أحق بهذا الأمر من غيرك؟!
فقال: «لا أقاتل حتى تأتوني بسيف له عينان، ولسان وشفتان، يعرف المؤمن من الكافر».
يعني تأتوني بسيف يعرف المؤمن من الكافر، إن ضربت مسلما، نبا عنه لا يقتله، وإن ضربت كافرا، قتله. ثم قال: «فقد جاهدت وأنا أعرف الجهاد» (7).
يعني: مثل هذا القتال الذي تتساقط فيه رؤوس المسلمين، ويقتل بعضهم بعضا، لا أدخل في ذلك إلا أن تأتوني بسيف هذه صفته، ثم ضرب مثلا عجيبا قال فيه -رضي الله عنه-: «مثلنا ومثلكم، كمثل قوم كانوا على محجة بيضاء، فبينما هم كذلك يسيرون، هاجت ريح عجاجة، فضلوا الطريق - اشتبه الطريق بسبب العجاج والريح والتبس عليهم - فقال بعضهم: الطريق، ذات اليمين؛ فأخذوا فيها فتاهوا وضلوا، وقال آخرون: الطريق ذات الشمال؛ فأخذوا فيها فتاهوا وضلوا، وقال آخرون: كنا في الطريق حيث هاجت الريح فننيخ؛ فأناخوا فأصبحوا، فذهب الريح وتبين الطريق نقطة فهؤلاء هم الجماعة، قالوا: نلزم ما فارقنا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نلقاه، ولا ندخل في شيء من الفتن» (8).
وكان منهج سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وجماعة من الصحابة أن الحل في الأمر الذي كان بين معاوية وبين علي ليس السيف؛ وإنما الحل السعي في الصلح، والتروي في الأمور، ونحو ذلك، وعلي رضي الله عنه كان له اجتهاده، ومعاوية رضي الله عنه كان له اجتهاده، ولا يعدم من كان مجتهدا متحريا الحق والصواب من أجر الاجتهاد والإصابة، أو أجر الاجتهاد والخطأ وذنبه مغفور، كما قال عليه الصلاة والسلام: «إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب، فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ، فله أجر» (9)، لكن جماعة من الصحابة رأوا أن الحل في مثل ذلك ليس بالسيف والقتال، وإنما بالسعي في الصلح، والبعد عن القتال، وجمع الكلمة، إلى غير ذلك من المسالك.
الهوامش:
1- أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (11/128)، وابن سعد في «الطبقات» (7/165)، وابن عساكر في «تاريخه» (58/146).
2- أخرجه ابن سعد في «الطبقات» (7/187)، وخليفة في «تاريخه» (ص:52) وابن عساكر في «تاريخه» (58/146).
3- «تاريخ الطبري» (3/26- دار الكتب العلمية).
4- أخرجه ابن سعد في «الطبقات» (7/142)، وأبو نعيم في «الحلية» (2/204).
5- أخرجه أحمد (19968)، وأبو داود (4319)، والحاكم (4/576) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه، وقال الألباني في «صحيح الجامع» (6301): «صحيح».
6- برقم (1848) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
7- أخرجه عبدالرزاق في «المصنف» (20736)، وابن سعد في «الطبقات» (3/143)، وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (1/135).
8- أخرجه بهذا التمام ابن الأعرابي في «معجمه» (713)، والخطابي في «الغزلة» (ص72)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (39/496).
9- أخرجه البخاري (7352)، ومسلم (1716) من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه.
ابو وليد البحيرى
2021-09-30, 10:00 PM
أثـار الفتـن (5)
التغرير بالناشئة والشباب
الشيخ عبدالرزاق بن عبدالمحسن البدر
في الفتن وما يترتب عليها: إن الفتن تكون سبباً ووسيلة لاستدراج الناس وصغار الأسنان، والتغرير بهم من خلال خطوط وقنوات ومسارات، إلى أن يصلوا إلى عواقب وخيمة ونهايات مؤلمة.
وهنا ينبغي على الشاب ألا يغتر بالدعايات التي تُرفع، والشعارات التي تُثار ونحو ذلك، بل إذا دُعي إلى شيء يُرجع إلى أكابر أهل العلم، فقد قال صلى الله عليه وسلم : «البركة مع أكابركم» (1).
فإذا دُعي إلى طريق أو مسار أو مسلك يرجع إلى أكابر أهل العلم، الراسخين فيه، المعروفين بالتحقيق فيه، الذين رسخت قدمهم في العلم ومدارسته ومذاكرته، ورسخت قدمهم في الفتوى والبيان والتوجيه والنصيحة والتعليم.
لكن في الفتن قد يُستدرج بعض الناشئة ويُؤخذون عبر خطوات، إلى أن يدخلوا في أمور عظيمة، وورطات جسيمة، ربما لا يجدون لأنفسهم منها مخرجاً، وتكون البدايات مع الصغار من مثيري الفتن في أشياء مألوفة، وأمور معروفة، مثل أن يجتمع جماعة ويتعاهدون على أشياء معروفة ومتقررة، فيقولون مثلاً: نجتمع على الإيمان بالله وملائكته وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ونتعاهد على ذلك، ويضيفون لها بعض الأشياء التي تجعل الشاب فيما بعد يجد أنه التزم بعهد، وربما دخل في حزب أو سلك أو في تنظيم أو دخل في بيعة أو نحو ذلك، ويجد نفسه في مسار يحتار فيه، وربما يصعب عليه الرجوع، وقد قطع فيه شوطاً وتورط في ذلك المسلك والمسار، بينما إذا كان الشاب موفقاً ومن الله تعالى؛ فإنه يسلم من ذلك، ومثل هذه الأمور كانت توجد من قديم.
في زمن التابعين، يروي لنا مطرف بن عبد الله بن الشخير قصة له لما كان صغيراً، يقول: كنا نأتي زيد بن صوحان فكان يقول: يا عباد الله: أكرموا وأجملوا فإنما وسيلة العباد الى الله بخصلتين: الخوف والطمع، -كان واعظا يعظ ويذكر ويخوفهم بالله، ويرغبهم في العبادة والطاعة.
فيقول: فأتيته ذات يوم وقد كتبوا كتاباً فنسقوا كلاماً من هذا النحو: إن الله ربنا، ومحمد نبينا صلى الله عليه وسلم ، والقرآن إمامنا، ومن كان معنا كنا وكنا، ومن خالفنا كانت يدنا عليه وكنا وكنا، -كتبوا كتاباً بهذه المعاني وبهذه المضامين التي في ظاهرها أنها أمر لا إشكال فيه عند كثير من الناس.
قال: فجعل يعرض الكتاب عليهم رجلاً رجلاً، كلما عرضوا على رجل يقولون له: أقررت يا فلان؟! فيقول: نعم أقررت.
قال: حتى انتهوا إلي؛ فقالوا: أقررت يا غلام؟! - يعني: بهذه الأمور - قلت: لا، ما أقررت.
قال زيد -أي: ابن صوحان-: لا تعجلوا على الغلام، قال: ما تقول يا غلام؟
قال: قلت: إن الله قد أخذ عليَّ عهداً في كتابه فلن أُحْدِث عهداً سوى العهد الذي أخذه الله عليَّ في كتابه.
قال: فرجع القوم عن آخرهم، ما أقر منهم أحد، وكانوا زهاء ثلاثين نفساً(2)؛ أي قرابة الثلاثين نفسا.
الشاهد: أن الفتن ربما يُستدرج فيها كثير من الشباب وصغار السن في تنظيمات أو في تحزبات أو في بيعات أو في نحو ذلك من الأمور، مما يترتب عليه ما لا تحمد عاقبته.
الأثر الثامن:
إضعاف الأخوة الإيمانية والرابطة الدينية:
أيضاً من آثار الفتن ومآلاتها المردية: أنها تفكك المجتمعات، وتضعف الأخوة الإيمانية والرابطة الدينية، وتنشر بين الناس الضغائن والأحقاد والعداوات، ولهذا جاء في الحديث الذي في «الصحيحين»، حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: « كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله! إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، فقلت: يا رسول الله وهل بعد هذا الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن»، وجاء في بعض الروايات أنه قال: «بقية- وفي رواية: جماعة- على أقذاء، وهدنة على دخن»، وفي رواية قال: «لا ترجع قلوب أقوام على الذي كانت عليه» (4).
فالشاهد: أن الفتن عندما تتأجج؛ تغير النفوس وربما تخلخلت معاني الأخوة والرابطة الإيمانية، والله -تبارك وتعالى- يقول:{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(الح جرات:10)، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم، لا يخذله، ولا يظلمه، ولا يحقره، التقوى ها هنا، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم»(5)، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
الهوامش:
1- أخرجه ابن حبان (559)، والطبراني في الأوسط (8991)، والحاكم (1/131) وصححه، ووافقه الذهبي، وأقرهما الألباني في الصحيحة (1778).
2- «حلية الأولياء» (2/204)، «تاريخ دمشق» (58/313).
3- البخاري (7084،3606)، ومسلم (1874).
4- أخرجه أحمد (23282)، وأبو داوود (4246)، وابن حبان (5963)، وانظر: «الصحيحة» للألباني (2739).
5- أخرجه مسلم (3564) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
ابو وليد البحيرى
2021-09-30, 10:05 PM
أثـار الفتـن (6)
الجرأة على القتل وسفك الدماء
الشيخ عبدالرزاق بن عبدالمحسن البدر
أيضاً من عواقب الفتن ومآلاتها: أنها ترخص فيها دماء المسلمين -أي بينهم-، وتتجرأ النفوس على القتل، ويستحل الناس دماء بعضهم بعضاً، وقد جاء عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: «في الفتنة لا ترون القتل شيئاً» (1)، وكان رضي الله عنه عظيم النهي عن الدخول في إراقة الدماء، واستلاب الأموال، والتعدي على الأعراض، وله في هذا كلمة عظيمة جميلة ينبغي أن تُحفظ ويُحافظ عليها ألا وهي: أن رجلاً كتب إلى ابن عمر رضي الله عنهما أن اكتب إليّ بالعلم؛ فكتب إليه: «إن العلم كثير؛ -يابن أخي- ولكن إن استطعت أن تلقى الله خفيف الظهر من دماء المسلمين، خميص البطن من أموالهم، كاف اللسان عن أعراضهم، لازماً لجماعتهم، فافعل» (2).
وهي وصية من أعظم الوصايا وأجمعها للعلم كله والخير كله.
اختلال الأمن
أيضاً من آثار الفتن: أنها تؤدي إلى اختلال الأمن، والأمن من أعظم النعم التي منَّ الله سبحانه وتعالى بها على أمة الإيمان: {الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} (قريش: 4).
فالأمن نعمة عظيمة، أمن الإنسان على دمه، وأمنه على ماله، وأمنه على نفسه، وعرضه، إلى غير ذلك، هذه من النعم الكبار، لكن إذا اضطربت الأمور وشبت الفتن واشتعلت؛ أُرِيقت دماء، وأُتلِفت أموال، وأُزهِقت أرواح، ويُتِّم أطفال، ورُمِّل نساء، إلى غير ذلك من العواقب التي لا تحمد.
الحادي عشر:تجرؤ أهل الانحلال على نشر باطلهم
أيضاً من آثار الفتن: أنها تفتح على الناس أبواباً من الانحراف، سواء من الجوانب العقدية أم الجوانب الأخلاقية، ويتجرأ أهل الانحلال والفساد في نشر باطلهم وفسادهم؛ لأن أصحاب الحق شغلتهم الفتنة، واشتغلوا بها، وضيعت أوقاتهم، وصرفتهم عن باب الإفادة والنفع والانتفاع، فيستغل أهل الفساد وأهل الشر ذلك؛ فيبدؤون في بث باطلهم، ونشر شرهم ودعوتهم للرذيلة والفساد، أو دعوتهم إلى الانحلال العقدي والمذاهب الفاسدة المنحرفة، يجدون لأنفسهم فرصة عند اشتغال الناس وأهل الخير بالفتن، وهذا مما يؤكد على كل مسلم أن يكون في غاية الحذر من الفتن وعوائدها.
الثاني عشر والأخير:تسلط الأعداء
أيضاً من الآثار: أنها تؤدي أو تفضي إلى تسلط الأعداء؛ عندما يتنازع أهل الحق، ويفشو فيهم الهرج والقتل، ويموج أمرهم وتضطرب كلمتهم؛ يستغل الأعداء هذه الفرصة، ويتسلطون على أهل الإيمان، ويضغطون عليهم بأنواع من الضغوطات؛ والله تبارك وتعالى يقول: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } (الأنفال: 46).
فالواجب على أهل الإيمان أن يكونوا في غاية الحذر من الفتن وأخطارها، وأن يكونوا في حيطة من ذلك، وأن يقبلوا على الله سبحانه وتعالى إقبالاً صادقاً بأن يعيذهم من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يصلح لهم أحوالهم، وأن يجمع كلمتهم على الحق والهدى.
ونسأل الله الكريم رب العرش العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، وبأنه الله الذي لا إله إلا هو الذي وسع كل شيء رحمة وعلماً، أن يعيذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يجيرنا من الفتن، وأن يسلمنا من غوائلها، وأن يحفظنا بحفظه، إنه تبارك وتعالى سميع مجيب.
وصلى الله وسلم وبارك وأنعم على عبد الله ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
الهوامش:
1- أخرجه أحمد (4871).
2- تاريخ دمشق (31/170 و 52/256)، وسير أعلام النبلاء (3/222).
Powered by vBulletin® Version 4.2.2 Copyright © 2025 vBulletin Solutions، Inc. All rights reserved.