مشاهدة النسخة كاملة : مقاطع سورة البقرة
أبو مالك المعتز بالله
2021-09-07, 06:00 PM
المقطع الأول:
{ الم (1)}
وسنؤجل الحديث عن هذا المقطع في أخر السورة
المقطع الثاني:
{ ذلك الكتاب .... (2)}، حتى قوله تعالى: { ... إن الله على كل شيء قدير (20)}.
وعنوان هذا المقطع: (( أقسام الناس من حيث القلوب )).
فقد صرحت الآية الثامنة فقالت: { ومن الناس ... } فالواو عطفت القسم الثالث على القسمين الأولين ليعلم أنهم أقسام للناس.
وقلنا: (( من حيث القلوب )). لأن الله في القسم الأول وصفهم أول ما وصفهم بالمتقين، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم التقوى ها هنا وأشار صلى الله عليه وسلم إلى صدره الشريف.
ثم القسم الثاني: { ... الذين ... (6) ختم الله على قلوبهم ... (7)}، في مقابلة المتقين.
ثم عطف عليهما القسم الثالث: الذين { ... في قلوبهم مرض ... (10)}، وهم صنفان: الأول { ... لا يرجعون (18)}، والثاني {يكاد ... (20)}، إلا يرجع صاحبه، { ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم ... (20)}.
أبو مالك المعتز بالله
2021-09-12, 10:50 AM
فإن قال قائل إن أكثر كتب التفسير قسمت الناس هنا إلى: مؤمنين، وكافرين، ومنافقين.
نقول هذا خلاف لفظي لا يضر، فإن المتقين مؤمنون، والذين ختم الله على قلوبهم كافرون، والذين في قلوبهم مرض منافقون، لكن نحن نحاول أن نتقيد بألفاظ القرآن هنا، ولذلك هذا التقسيم أدق.
أبو مالك المعتز بالله
2021-09-18, 10:10 AM
فإن قال قائل إن الآيات صرحت بالإيمان كما صرحت بالتقوى، وصرحت بالكفر كما صرحت بالذين ختم الله على قلوبهم، فلماذا عدلت عن هذه الألفاظ واخترت بعضها وتركت بعضها.
نقول إن القسم الثالث لم يصرح بالنقاق حتى سورة البقرة كلها لم تصرح بالنفاق إلا في آية واحدة في آخر السورة، فكان لزاما علينا أن نختار قسيم الذين في قلوبهم مرض، فخرج لنا في القسم الأول صفات تتعلق بالقلوب وهي التقوى واليقين، وخرج لنا في القسم الثاني صفات تتعلق بالقلوب وهي الذين ختم الله على قلوبهم.
ولو تمعنت في الأمر فإن الناس كما قسم الرسول صلى الله عليه وسلم إما قلب أبيض ليس فيه أدنى سواد وإما قلب أسود ليس فيه بياض وإما القسم الثالث وهم الأكثرية فقلوبهم فيها نكت سوداء فكل من نكت في قلبه نكتة أو أكثر، فهو من الذين في قلوبهم مرض، ولا نستطيع أن نسمي كل من كان في قلبه مرض منافق نفاق أكبر وحتى نفاق أصغر، فكثير من المؤمنين في قلوبهم مرض ولو كان مرض ضعيف، لكن يبقى أنه مريض، ويحتاج إلى علاج، وتتفاوت درجة خطورة هذا المرض من مؤمن لآخر، والسورة الكريمة كما سيأتي – بإذن الله تعالى – تعمل على معالجة هذه الأمراض كلها.
أبو مالك المعتز بالله
2021-09-19, 11:24 AM
وقد يعترض البعض اعتراضا شديدا لأن أغلب المفسرين ذكروا أن القسم الثالث هم المنافقون، فهو قول مشهور ومتفق عليه بين أغلب المفسرين، ثم يقول: فأنت هنا تخرج عن هذا الاتفاق المعتبر، وتقول إن الكلام أعم؟
والجواب إن أغلب أقوال المفسرين هو تفسير بالمثال، وليس تفسيرا جامعا مانعا، فقولهم لا يتعارض مع قولنا فكل منافق هو من الذين في قلوبهم مرض بلا شك، ولكننا نقول أن القسم أعم يشمل المنافقون وغيرهم، فلو رجعنا في كتب التفسير لوجدنا من يفسر الذين في قلوبهم مرض في هذا الموضع بالزنا مثلا والزنا من الذنوب فكل الذنوب أمراض سواء كانت أمراض وخصال نفاق أو غيرها من الذنوب والخصال.
والله تعالى أعلم وأعلى وأحكم.
أبو مالك المعتز بالله
2021-09-19, 11:31 AM
المقطع الثالث:
بداية من قوله تعالى: { يا أيها الناس ... (21)}، حتى قوله تعالى: { ... ثم إليه ترجعون (28)}.
وعنوان هذا المقطع: (( تعقيب على المقطع السابق )).
وفي هذا المقطع إجابات شتى لأسئلة شتى قد ترد إلى ذهن بعض الناس عند قراءة المقطع السابق.
فمثلا عندما قال تعالى: { ذلك الكتاب ... هدى للمتقين (2)}، عُلِم بذلك أن هذه تقوى مكتسبة من علم الوحي إذا عمل صاحبها بهذا العلم، وسنسميها التقوى الشرعية نسبة إلى أنه اكتسبها بعد العمل بوحي الشريعة.
فهل هناك تقوى مكتسبة من علوم أخرى؟
فكان الجواب: { يا أيها الناس ... (21)}، فبما ركب الله في كل إنسان من علوم مخلوقة أو مكتسبة، هذه العلوم تستلزم وتدعو صاحبها إلى فطرة الله التي فطر الناس عليها، تستلزم العبادة، فإذا عبد الله وعمل بما اكتسب من علوم، اكتسب بذلك تقوى إنسانية أو فطرية أو علمية حسب العلم المكتسب، مثلا تقوى مكتسبة من علوم التبصر في الخلق العظيم الذي خلقة الله، كعلم الأحياء أو الفلك وغير ذلك كثير.
ومثلا عندما قال الله تعالى: { ... لا ريب فيه ... (2)}، قد يسأل سائل، والذي يرتاب ماذا عليه أن يفعل، كان الجواب: { وإن كنتم في ريب مما نزلنا ... (23)}.
ومثلا عندما يسأل سائل أو يستنكر أن يكون الله قد فطره وخلق فيه علوم فطرية تدعو للعبادة، فكان السؤال الاستنكاري: { كيف تكفرون بالله .... (28)}
وهذه أمثلة على سبيل المثال لا الحصر،
والله تعالى أعلم وأعلى وأحكم.
ويلاحظ أن استدراك أية لاحقة على آية سابقة موجود في كثير من سور القرآن وهناك سور كاملة أو جزء منها يأتي ليجيب عن سؤال قد يتبادر إلى الذهن، وعلى سبيل المثال الآية في سورة النساء التي تقول: { ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم ... (127)}، فهي جواب وتعقيب عن قوله في أول السورة : { وإن خفتم إلا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ... (3)}، وأمثال ذلك كثير جدا.
أبو مالك المعتز بالله
2021-09-19, 03:13 PM
المقطع الرابع:
{ هو الذي خلق ... (29)}، حتى قوله تعالى: { ... هم فيها خالدون (39)}.
وعنوان هذا المقطع: (( أنواع العلوم مستوحاة من قصة آدم )).
في هذا المقطع تأكيد لما يفهم من التقسيم السابق الذي ذكرناه وهو العلم الفطري والعلم المكتسب.
وقسم الله سبحانه وتعالى أنواع العلوم إلى:
العلوم الفطرية، { وعلم آدم الأسماء كلها ... (34)}.
العلوم الإلهامية بما ألهم الله به الخلق جميعا، { فتلقى آدم من ربه كلمات ... (37)}.
العلوم الشرعية بما أوحى الله به إلى الأنبياء، { ... فإما يأتينكم مني هدى ... (38)}
فساق الله قصة آدم بألفاظ وحوارات تدور كلها حول العلم
{ خلق لكم ... جميعا ... وهو بكل شيء عليم (29) ... قال إني أعلم ما لا تعلمون (30) وعلَّم ... (31) ... لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم (32) إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ... (33) ... (34) ... (35) فأزلهما ... (36) فتلقى آدم من ربه كلمات ... (37) ... فإما يأتينكم مني هدى ... (38) ... بآياتنا ... (39)}
ولاحظ كلمة: { فأزلهما ... عنها فأخرجهما مما كانا فيه ... (36)}، فأزلهما أي كانا على منهاج صالح وعلى بصيرة فنقلهما الشيطان إلى منهاج غير مستقيم، فكانا على منهاج الحذر مما حذرهم الله منه، ثم نقلهما الشيطان إلى تعدي حدود الله سبحانه وتعالى.
بخلاف كلمة فوسوس أو غيرها من الكلمات، فإنها لا تتناسب هنا في هذا السياق.
أبو مالك المعتز بالله
2021-09-20, 05:34 PM
المقطع الخامس:
{ يا بني إسرائيل ... (40)}، حتى قوله تعالى: { ... وأنهم إليه راجعون (46)}.
وعنوان هذا المقطع: (( نموذج مختصر ومنتقى من الوحي الذي نزل على بني إسرائيل )).
وبِدايةً من هذا المقطع فإن الله يحذر علماء المسلمين مما أفسد بني إسرائيل حتى نهاية الآية 176.
فبعد قول الله سبحانه: { ... فإما يأتينكم مني هدى ... (38)}، يقص لنا ربنا طرفا من موقف بني إسرائيل من هذا الهدى الذي نزل عليهم، فبدأه سبحانه بهذا النموذج المختصر المنتقى من الوحي الذي نزل عليهم.
أبو مالك المعتز بالله
2021-09-21, 03:32 PM
المقطع السادس:
{ يا بني إسرائيل ... (47)}، حتى قوله تعالى: { ... ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (61)}.
وعنوان هذا المقطع: (( شكر النعم أول سبب لتحصيل التقوى، وكفر النعم أول سبب لقسوة القلوب )).
في هذا المقطع يعدد الله لبني إسرائيل عددا من النعم فقال: { ... نعمتي، ... فضلتكم على العالمين، ... نجيناكم من آل فرعون، ... فرقنا بكم البحر، ... فأنجيناكم، ... وأغرقنا آل فرعون، ... ثم عفونا عنكم، ... آتينا موسى الكتاب والفرقان، ... فتاب عليكم، ... ثم بعثناكم من بعد موتكم، ... وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى، ... من طيبات ما رزقناكم، ... كلوا منها حيث شئتم رغدا، ... نغفر لكم خطاياكم، ... سنزيد المحسنين، ... كلوا واشربوا من رزق الله، ... لكم ما سألتم ... }.
وأمرهم لشكر هذه النعم بأوامر، فقال تعالى: { ... اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم، ... اتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا، ... لعلكم تشكرون، ... لعلكم تهتدون، ... توبوا إلى بائكم، ... لعلكم تشكرون، ... قولوا حطة، ... ولا تعثوا في الأرض مفسدين ... }.
فبدلوا نعم الله إلى الكفر بدلا من الشكر، فقال: { ... ثم اتخذتم العجل من بعده، ... وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، ... كانوا أنفسهم يظلمون، ... فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم، ... كانوا يفسقون، ... وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد، ... أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، ... كانوا يكفرون بآيات الله، ويقتلون النبيين بغير الحق، ... ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون... }.
فكتب الله عليهم بهذه المعاصي وبهذا العدوان والظلم والكفر كتب عليهم الإصر والخزي، فقال سبحانه: أنه لن يقبل منهم الشفاعة ولا يؤخذ منهم عدل ولا ينصرون، وأنهم في الدنيا أخذتهم الصاعقة، وقال: { ... فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء، ... ضربت عليهم الذلة والمسكنة، وباءوا بغضب من الله ... }.
فشكر النعم أول درجة من درجات تحصيل التقوى، وهو أمر فطر الله عليه عباده، وأمر به في جميع الشرائع، فهو علم فطري وعلم شرعي، ويلهم الله من يشاء إلى شكره، فكان حق على الله لمن شكر نعمه أن يرتقى في درجات التقوى.
وهذا المقطع تمهيد للمقطع الرئيس والذي هو محور السورة والذي ينتهي بالآية { ثم قست قلوبكم فهي كالحجارة أو أشد... (74)}.
أبو مالك المعتز بالله
2021-09-22, 12:06 PM
المقطع السابع:
{ إن الذين آمنوا والذين هادوا ... (62)}، حتى آخر الآية، قوله تعالى: { ... ولا هم يحزنون (62)}.
وعنوان هذا المقطع: (( من حقق أول درجات التقوى كان من أهل الجنة )).
في هذه الآية يخبرنا ربنا عز وجل أن هذا الأمر غير مقتصر على أمة دون أمة بل كل من شكر نعم الله بعد الإيمان بالله واليوم الآخر فهو من أصحاب الجنة، وهنا عموم بعد خصوص، فبعد أن قص طرفا من قصة بني إسرائيل مع كفر النعم عمم الأمر وسحبه على باقي الأمم أولها وآخرها. ويلاحظ أن الخطاب في المقطع السابق كان بضمير الخطاب، أما هنا فبعد التأكيد بـ { إن الذين .... (62)}، جعل الخطاب بضمير الغيبة، والغرض من هذا الالتفات والتحول من ضمير المخاطب إلى ضمير الغيبة هو التعميم بعد التخصيص، فالله سبحانه كما أنعم على بني إسرائيل، فكذلك نعمه ظاهرة على كل خلقه، فمن شكر هذه النعم كان ثوابه الجنة.
أبو مالك المعتز بالله
2021-09-22, 12:45 PM
فإن قال قائل إن الآية قالت: { وعمل صالحا }، فذلك يشمل شكر النعم وغيره من الأعمال، فلماذا خصصت الآية في الشكر دون غيره من الأعمال، وأقول وبالله التوفيق إن أسلوب القرآن في كثير من الآيات يأتي بألفاظ العموم في سياق مخصوص، ويكون ذلك عندما لا يكون هناك تعارض أو توهم لشيء غير موجود.
فالسياق هنا بعد حديث طويل عن النعم كما أسلفنا جعلنا نقول إن مقصود الآية شكر النعم بصفة خاصة، فضلا عن غيرها من الأعمال، فلا تعارض إذن، فلو وضعت هذه الآية في سياق آخر من الأعمال الصالحة لاستقام الكلام، وذلك من عظمة القرآن والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السياق، فمن آمن وعمل صالحا فهو من أهل الجنة، وكذلك من آمن وشكر نعم الله فهو من أهل الجنة.
وكذلك فإن أي عمل هو شكر لنعمة أو أكثر فمثلا كما سيأتي الدعوة إلى الله هي شكر لنعمة العلم، والكلام الطيب هو شكر لنعمة الكلام، وغض البصر شكر لنعمة العين، بل كل عمل هو شكر لنعم كثيرة لا يحصيها إلا الله سبحانه وتعالى.
والله تعالى أعلم وأعلى وأحكم،،،
أبو مالك المعتز بالله
2021-09-22, 02:52 PM
المقطع الثامن:
{ وإذ أخذنا ميثاقكم ... (63)}، حتى قوله تعالى: { ... وموعظة للمتقين (66)}.
وعنوان هذا المقطع: ((الدعوة إلى الله من شكر نعمة القرآن )).
في هذه الآيات يحدثنا ربنا عن فئة من بني إسرائيل الذين رفع الله عليهم الطور، ثم يقول سبحانه بضمير المخاطب: { ثم توليتم ... ()}، ولم يقل تولوا، فالمقصود أن الله أخذ ميثاق كل أهل الكتب السماوية، فهم جميعا داخلون في هذه الموعظة والتحذير، فقال: { ... واذكروا ما فيه لعلكم تتقون (63)}، فالدعوة إلى الله نوع من أنواع شكر النعمة، خاصة بمن آتاه الله الكتاب، ثم يخاطب ربنا أهل الكتب السماوية جميعا، فقال سبحانه: { ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين (65) فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين (66)}. فالذين علموا هذه القصة هم أهل القرآن.
ويلاحظ أنه في بداية المقطع كان الكلام موجه لمن رفع عليهم الطور، وظل الخطاب لهم وقال لهم ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت ومعلوم أن بين أهل الطور وأهل السبت زمان بعيد وأهل الطور ماتوا قبل قصة السبت بزمن بعيد جدا، فعلم بذلك أن الكلام والميثاق الذي أخذ عليهم هو ميثاق علينا بالتبعية، ولذلك ختم المقطع فقال: { ... وموعظة للمتقين }.
ويلاحظ أن الله في المقطع السادس كان يخاطب بني إسرائيل بضمير المخاطب، ثم التفت في المقطع السابق فخاطب كل الأمم بضمير الغائب وهنا التفت لفئة مخصوصة منهم وهم أهل الكتب الذين علموا التوارة والانجيل والقرآن فخاطبهم بضمير الخطاب.
وبذلك يعلم أن شكر النعمة يختلف من شخص إلى شخص حسب رزق كل واحد، فمن رزق قليلا فالواجب عليه من الشكر قليل، ومن رزق كثيرا فالواجب عليه من الشكر كثير، فكل يكلف ويطلب منه حسب ما آتاه الله من الرزق.
أبو مالك المعتز بالله
2021-09-25, 11:39 AM
المقطع التاسع:
{ وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم ... (67)}، حتى قوله تعالى: { وما الله بغافل عما تعملون ... (74)}.
وعنوان هذا المقطع: (( الصدقات تحيى القلب ولو كان ميتا -محور السورة- )).
في هذا المقطع يظهر لنا أثر النفقة وشكر النعمة في حياة القلوب.
فعندما فعلوا ما أمرهم به الله وتصدقوا بالبقرة أحيا الله قلوبهم ثم طال عليهم الأمد فقست قلوبهم، وعادت لما كانت عليه، لنعلم أن الصدقة حياة للقلوب.
ونلاحظ الضمائر: { ... قالـ(ـوا) أتتخذنا هزوا ... (67) قالـ(ـوا) ادع لنا ربك ... (68) قالـ(ـوا) ادع لنا ربك ... (69) قالـ(ـوا) ادع لنا ربك ... (70) ... قالـ(ـوا) الآن جئت بالحق ، فذبحـ(ـو)ها ، وما كاد(وا) (يـ)ـفعلون (71) } ، فهذه كلها ضمائر الغائب ، فكان الأصل أن يكون الكلام وإذا قتلوا وإنما حدث التفات وخاطبنا ربنا فقال بضمير المخاطب: { إذ قتلـ(ـتم) نفسا ، فادارأ(تم) فيها والله مخرج ما (كنتم) (تـ)ـكتمون (72) ... ويريـ(كم) آياته لعلـ(ـكم) (تـ)ـعقلون (73) ثم قست قلوبـ(ـكم) ... وما الله بغافل عما (تـ)ـعملون (74)}، فهذه كلهما ضمائر المخاطب، والغرض هنا من هذا الالتفات هو العموم بعد الخصوص ليشمل كل من قسى قلبه.
وهذا المقطع هو محور سورة البقرة، على اعتبار أن كل عمل هو شكر لنعم الله، ونفقة من رزق الله، وكل رزق له طريقة في شكره، بأن تنفق منها، أي تضحي بجزء منها، فالوقت نعمة من نعم الله، عليك أن تتصدق بجزء من وقتك لله، والصحة رزق عليك أن تتصدق بجزء من صحتك لله، والعلم رزق عليك أن تدعو به إلى الله، وهكذا في كل نعم الله.
وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المعنى فقال: (( كل معروف صدقة )).
فمحور سورة البقرة هو الموعظة البالغة المستوحاة من هذه القصة، وذلك أن الصدقة تحيى القلب ولو كان ميتا، وأن من طال عليه الأمد فلم يتصدق فإن قلبه يقسو حتى يكون كالحجر، ولكن الله قادر على إحياء هذه القلب بفضله ومنته، بسبب قبول الصدقات.
وأكاد أجزم بأن كل سورة محورها متعلق باسمها، ولعلنا نثبت ذلك بعد وقت طويل إن مد الله في عمرنا.
والله أعلى وأعلم وأحكم.
أبو مالك المعتز بالله
2021-09-25, 12:08 PM
فإن قال قائل أن الله أحيا القتيل الذي قتل فيهم ويبين ذلك أسباب النزول، ولم يصرح هنا بأنه أحيا قلوبهم، فكيف أعرضت عن سبب نزول الآية، وذهبت لمعن لم تصرح به الآيات ولم ينقله لنا أهل كتب التفسير.
نقول وبالله التوفيق إن قصة القتيل وإحيائه المدونة في كتب التفسير والمتفق عليها بين أهل التفسير لا تتعارض مع ما ذهبنا إليه.
ذلك أنك لو تدبرت الآيات لظهر لك أشياء كثرة، فالله سبحانه وتعالى يقول: { وإذ قتلتم نفسا }، والقاتل واحد أو بعض منهم وليسوا كلهم، فلماذا خاطبهم الله جميعا بأنهم جميعا قتلوا هذه النفس، ولماذا أبهمت الآيات سبب طلب موسى لقومه لذبح البقرة، والإبهام هنا لإرادة العموم فإن كل فرد فيهم قتل نفسه، بشحه وبخله، ويؤكد هذا المعنى في قوله تعالى: { والله مخرج ما كنتم تكتمون }، فهذا الشح والبخل ظهر وخرج في أقوالهم وعند مخاطبتهم لنبيهم موسى عليه السلام، فمن قسوة القلوب تعنتوا ولم يسارعوا إلى إجابة دعوة الله إلى ذبح البقرة، فالله أخرج ما في قلوبهم من قسوة وتعنت، ثم إن قوله تعالى: { ثم قست قلوبكم ... } ، دليل واضح على أن سبب هذا التعنت مع نبيهم هو قسوة القلوب، وكلمة { ثم ...} تفيد أنه قد حدث حياة لهذه القلوب بعد التصدق بالبقرة أو ببعض منها، ثم بعد فترة وطول الأمد قست القلوب مرة أخرى، وهذه هي الموعظة المستوحاة من القصة، وأما سبب أن موسى عليه السلام طلب منهم ذبح البقرة فالقرآن الكريم أبهم هذا السبب حتى تلتفت إلى التعنت والقسوة التي تعيق الإنسان عن المسارعة إلى الطاعات، والعلاج هو التصدق ولو ببعض من المتيسر.
أبو مالك المعتز بالله
2021-09-27, 11:59 AM
وراجع رحمك الله الآيات القرآنية في سورة الحديد: { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر والله وما نزل من الحق...
ثم قال تعالى في الآية التالية: { اعلموا أن الله يحيى الأرض بعد موتها...
أي أن الله قادر على احياء القلب ولو كان ميتا...
ثم قال: { إن المصدقين والمصدقات...
فجعل الصدقة للقلب كالماء للأرض الميتة...
وهنا نفس المعنى فإن الله في سورة البقرة قال: { وإنها لكبيرة إلى على الخاشعين...
ثم حدثنا ربنا عن شكر النعمة في المقطع السادس والسابع والثامن،
ثم هنا في المقطع التاسع ذكر لنا أثر الصدقة في حياة القلوب ولو كانت ميتة،
ثم قال لعلكم تعقلون كما قال في سورة الحديد لعلكم تعقلون،
فالمتدبر عند مقارنة الآيات الثلاثة في سورة الحديد المشار إليها وتدبرها ثم يقارنها بالمقاطع السابقة بعد الحديث عن الخشوع في الصلاة { وأنها لكبيرة إلى على الخاشعين }، يدرك تمام الإدراك أن ما ذهبنا إليه من المناسبات ليس كما يظن البعض أنه تكلف بل هناك من الشواهد والبراهين والدلائل والألفاظ ما يؤيده وينتصر لما ذهبنا إليه من أن الصدقة تحيى القلب ولو كان ميتا.
والله تعالى أعلى وأعلم وأحكم،
Powered by vBulletin® Version 4.2.2 Copyright © 2025 vBulletin Solutions، Inc. All rights reserved.