ابو وليد البحيرى
2021-06-20, 05:32 PM
الفكر المقاصدي عند علال الفاسي
سمير رحمانى
يعد المجهود الذي قام به الشاطبي رحمه الله في الموافقات، طفرة نوعية كبيرة، تنظيرا وتقعيدا، ورسما لأهم أبعاد “النظرة المقاصدية”؛ فهو المعلم الأول على صعيد النظر المنهجي والتأسيس العلمي، وهو شيخ المقاصديين بدون منازع، فلا يمكن أن يكتب كاتب في المقاصد شيئا إلاّ وتجده يشير إلى الشاطبي. وقد كان من فضل الله على أهل الغرب الإسلامي أن يبقى لواء المقاصد معقودا بأيديهم، إذ قيّد الله عالمين جليلين أكملا طريق الشاطبي، وبنيا على مجهوده، وهما الطاهر ابن عاشور وعلال الفاسي رحمهما الله.
ولم يبدأ المشارقة التأليف في الموضوع إلاّ في السنوات الأخيرة، وهنا يطرح سؤال نفسه بإلحاح، ما سر انفراد علماء الغرب الإسلامي وسبقهم إلى التأليف في ميدان المقاصد؟ للإجابة عن هذا السؤال ننظر القاسم المشترك الذي يجمع العلماء الثلاثة، فنجدهم ينتسبون إلى المذهب المالكي. وبنظرة سريعة على أصول هذا المذهب نقف على خصائص ومميّزات هذا المذهب، التي جعلته مذهب المقاصد الأول.
فمن بين أهمّ الأصول المالكية التي لها علاقة بالمقاصد “المصلحة المرسلة” ذلك أن النظر المصلحي هو من أهم مميزات المذهب المالكي، ومعلوم أن جماع المقاصد هو “جلب المصالح ودرء المفاسد”. أمّا الأصل الثاني الذي له علاقة بالمقاصد فهو”سد الذرائع” والذي يعتبر المذهب المالكي من أهمّ القائلين به، وهو وجه آخر من وجوه رعاية مقصود الشارع في حفظ المصالح ودرء المفاسد، هذا بالإضافة إلى أصول أخرى، وقواعد تميزها بها المذهب المالكي، والتي كانت السبب المباشر في ولوع علمائه بالمقاصد.
أما فيما يخص تناول علال الفاسي لموضوع المقاصد، فقد تميّز بالاختلاف عمّا دأب عليه الأصوليون، حين يكتبون في المقاصد؛ وهذا أمر نلاحظه بوضوح عبر فصول كتابه الموسوم ب”مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها”.
ففي البداية قام علال الفاسي بتحديد المراد بمقاصد الشريعة، فقال: «الغاية منها، والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها» تطرق بعد ذلك لمسألة التعليل، فذكر مجموعة من الآيات التي توضح بجلاء أمر التعليل ثم قال: «ولا يضرّ التنزيه الإلهي أن يكون لحكمه غاية، لأنّه المدبّر لشؤون الكون، فلا بدّ أن يكون التدبير على أحسن ما يريده هو» ثم استرسل في عرض مضامين كتابه والتي يمكننا تحديدها فيما يلي:
ـ مقدّمات حول تاريخ القانون ووسائل تطوره.
ـ العدل بين الشرائع الوضعية والشرائع السماوية.
ـ أصول الشرعة الإسلامية، رؤية مقاصدية.
ـ الاجتهاد المقاصدي.
ـ بعض مقاصد الشريعة الإسلامية الخاصة.
وكان للطريقة التي تناول بها علال الفاسي مضامين كتابه بعض المؤاخذات من قبل بعض الباحثين بدعوى أن «… تركيز المؤلف لم يكن على مسألة المقاصد في ذاتها، تعميقا لمعانيها، وتأصيلا لمفاهيمها، أو تطوير لقواعدها…» إلاّ أنّ الواقع أنّ علال الفاسي تناول روح المقاصد في كتابه، وأتى بتطبيقات حيّة ومباشرة على الواقع، وقدّم اجتهادات وحلولا مقاصدية في مجموعة من القضايا، وكان غرضه رحمه الله من الطريقة التي تناول بها كتابه، المساعدة على فهم الإسلام وبذل الجهد في تعرّف أحكامه مباشرة من مصادره الأصلية.
ونعرج فيما يلي على أهم النظرات المقاصدية عند علال الفاسي:
الإسلام دين الفطرة
لمّا كانت شريعة الإسلام هي آخر الشرائع وكانت مرسلة للنّاس كافة في كل زمان ومكان، فإنّه تعين أن تكون مبنية على وصف يشترك فيه سائر البشر، وترتضيه العقول السليمة، هذا الوصف هو الفطرة؛ ذلك لأن شريعة الإسلام جاءت مصدّقة وموافقة لمقتضيات الفطرة التي جبل عليها الإنسان، ومكملة لها وآخذة بيدها إلى ما فيه سعادتها الدنيوية والأخروية.. قال تعالى: )إنَّ هذا القرآنَ يهدي للتي هيَ أقومُ( يعلّق المرحوم علاّل الفاسي قائلا: «أي أنه يساعد الإنسان على إدراك أقوم الطرق وأنجعها لتحقيق ما تتطلبه فطرته الإنسانية من سعادة روحية ومادية، وهو يهديه لذلك لأنه يضع بين يديه التعاليم التي يدركها كلّ إنسان، بمقتضى فطرته كإنسان، ويجد فيها ما يحتاج إليه من دين وشريعة ومنهاج للحياة».
ولما كانت التعاليم التي جاءت بها شريعة الإسلام هي تعاليم الفطرة فإن علاّل الفاسي يرى: «أن اتباع الطاعة في الأعمال الإنسانية يجعلها أعمالا شرعية، والخروج عنها يجعل العمل الإنساني في إطار خارج عن الشريعة، من ثمّ فهو خارج عن الفطرة».
ويزيد الأمر توضيحا فيقول: «وإذن فلا بد من أن يكون الإسلام فيما جاء به ضامنا لسدّ الحاجيات التي يتوقف عليها الإنسان لتكون مدنيته كإنسان، ولذلك فلن تجد في الشريعة الإسلامية شيئا منافيا للفطرة الإنسانية … وإذا قلنا أن الإنسانية مجبولة على حب من أحسن إليها، فلا بدّ أن يكون الإسلام الذي هو دين الفطرة، مقرّا لهذه الجبلّة الإنسانية وفارضا وجوب شكر المنعم، وإذا قلنا أنها مجبولة على بغض المسيء فلا بدّ من تحريم التشريع للإساءة…» وعن الفطرة التي فطر الناس عليها في نظره: «هي فطرة الإنسان بصفته إنسانا، أي مطلق الإنسان الذي يملك جملة من العقل وقدرة على اكتساب المعرفة، واستعداد للمدنية، ومرونة عل الطاعة، إلى جانب ماله من حواس، يدرك بها المرئيات والمسموعات والمتصورات…».
وخلاصة القول؛ إن الشريعة إنّما جاءت تدعو لتقويم الفطرة والحفاظ على أعمالها وإحياء ما اندرس منها، لذلك نجد الشيخ ابن عاشور رحمه الله يذهب إلى القول بأن المقصد العام من الشريعة هو حفظ هذه الفطرة : «ونحن إذا أجدنا النظر في المقصد العام من التشريع، الذي سيأتي بحثه، نجده لا يعدو أن يساير حفظ الفطرة، والحذر من خرقها واختلالها».
وبالتالي فإن أي مقصد للشريعة الإسلامية لن يخرج عن سمت الفطرة، وأي اجتهاد على ضوء هذه المقاصد لابد أن يراعي مقتضيات هذه الفطرة.
المصلحة والمفسدة
لقد أجمع جمهور العلماء على أن شريعة الإسلام، إن ما جاءت لرعاية مصالح النّاس، ورفع المشقة عنهم، وتحقيق السعادة لهم دنيا وأخرى. قال تعالى: )وما أرسلناكَ إلاّ رحمةً للعالمينَ»
(الأنبياء :107) «وإنّما يكون إرسال الرسول رحمة لهم، إذا كانت الشريعة التي بعث بها إليهم وافية بمصالحهم متكفلة بإسعادهم، وإلاّ لم تكن بعثته رحمة بهم، بل نقمة عليهم، فكأنه عز وجل يقول لنبيه: إنّ ما بعث به سبب لسعادة الدارين ومنشأ لانتظام مصالحهم، فمن قبل هذه الرحمة وشكر النعمة، سعد في الدنيا ولآخرة، ومن ردّها وجحدها، خسر الدنيا والآخرة».
و لم يحرص الأستاذ علاّل الفاسي عندما تطرّق إلى المصلحة، على إعطاء تعريف محدّد لها من عنده، وإنّما اكتفى بذكر اختلاف الأصوليين حول تعريفها، وأتى بتعريفيين محدّدين لها لكلّ من الإمام الغزالي والخوارزمي. فقال: «وقد عرّفها الغزالي بأنّها عبارة عن جلب منفعة أو دفع مضرّة، وقال أنّه لا يعني بها ذلك وإنّما يعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع».
نفس التعريف تقريبا نجده عند الخوارزمي: «المصلحة هي المحافظة على مقصود الشّرع بدفع المفاسد عن الخلق».
والملاحظ في كلام علمائنا الأفاضل عن المصلحة، أنها لا تتجزأ بين الدنيا والآخرة، بل هي شيء واحد، وأمرها مرتبط لا ينفك. وهو ما نجد علاّل الفاسي يؤكد عليه فيقول: «لاشكّ أنّ الشريعة الإسلامية مبنية على مراعاة قواعد المصلحة العامة في جميع ما يرجع للمعاملات الإنسانية لأنّ غايتها تحقيق السّعادة الدنيوية والأخروية لسكان البسيطة عن طريق هدايتهم لوسائل المعاش، وطرق الهناءة، ولكن مفهوم المصلحة في الإسلام لا يعني مجرّد النّفع الذي يناله الفرد أو الجماعة من عمل ما، ولو كان مناقضا لأسس الدين وقواعد الأخلاق فهناك مصالح لا شكّ فيها يلقيها النظر الإسلامي، ويضحّي بها في سبيل مصلحة أسمى وأهم، لابدّ منها لقيام المجتمع على الأنظمة التي يريدها الدين». إذن فعلاّل الفاسي رحمه اللّه يرى أنّه يمكننا التضحية بمجموعة من المصالح في سبيل قيام مصلحة يرتضيها الدين ويحث عليها.
ومن المعلوم أنّ المصلحة بحدّ ذاتها ليست دليلا مستقلاّ من الأدلّة الشرعية شأنها شأن الكتاب والسنة والإجماع، وبالتالي فإنّه لا يصح بناء الأحكام عليها، واتّخاذها مصدرا من مصادر التشريع الإسلامي، كما يحاول بعض من سفهاء العقول أن يفعلوا. ومن ثمّ فإنّه لاعتبار مصلحة ما، يجب أن تخضع لمقاييس وضوابط محدّدة تخرجها من فوضى المدلولات التي تدل عليها كلمة المصلحة، وهذا ما يؤكد عليه الأستاذ علاّل الفاسي رحمه الله، حيث يقول: «..فالمقاصد الشرعية تعمل على تحقيق المصلحة ولكن لا تخرج عن المقاييس التي وضعها الإسلام لمعرفة المصلحة الحقيقية من المصلحة المتوهّمة أو المرجوحة، ولا شكّ أنّ وضع الإسلام لمقياس تقاس به المصالح ضروري لعدم الوقوع في فوضى المدلولات التي تدل عليها كلمة المصلحة، والتي يفهم منها كلّ واحد بحسب ما يشتمله من أفكار أو مذاهب اجتماعية واقتصادية، وعدم اعتبار هذه المقاييس هو الذي أوقع العالم اليوم في هذا الاصطدام الهائل في الميادين…».
هذا وقد نقل علاّل الفاسي عن الشاطبي ما اشترطه المالكية للعمل بالمصلحة المرسلة، وهي شروط ثلاثة:
الشـرط الأول: أن تكون متفقة مع مقاصد الشرع فلا تنافي أصلا من أصوله ولا دليلا من أدلته.
الشرط الثاني: أن تكون معقولـة في ذاتها، تتلقـاها العـقول بالقبـول متـى عرضـت عليها.
الشرط الثالث: أن يكون في الأخذ بها حفظ أمر ضروري، أو رفع حرج لازم في الدين لقوله تعالى: )وما جَعلَ عليكُم في الدينِ منْ حرجٍ(.
بالإضافة إلى هذه الشروط الثلاثة، التي تبناها علاّل الفاسي في تقييد المصلحة، فإنّه يضيف شرطا آخر يعتمد بالأساس على الأخلاق، يقول: «مقياس كل مصلحة، الخلق المستمدّ من الفطرة، والقائم على أساس العمل لمرضاة مثل أعلى هو غاية الإنسان في الحياة، ومن العمل».
يتبع
سمير رحمانى
يعد المجهود الذي قام به الشاطبي رحمه الله في الموافقات، طفرة نوعية كبيرة، تنظيرا وتقعيدا، ورسما لأهم أبعاد “النظرة المقاصدية”؛ فهو المعلم الأول على صعيد النظر المنهجي والتأسيس العلمي، وهو شيخ المقاصديين بدون منازع، فلا يمكن أن يكتب كاتب في المقاصد شيئا إلاّ وتجده يشير إلى الشاطبي. وقد كان من فضل الله على أهل الغرب الإسلامي أن يبقى لواء المقاصد معقودا بأيديهم، إذ قيّد الله عالمين جليلين أكملا طريق الشاطبي، وبنيا على مجهوده، وهما الطاهر ابن عاشور وعلال الفاسي رحمهما الله.
ولم يبدأ المشارقة التأليف في الموضوع إلاّ في السنوات الأخيرة، وهنا يطرح سؤال نفسه بإلحاح، ما سر انفراد علماء الغرب الإسلامي وسبقهم إلى التأليف في ميدان المقاصد؟ للإجابة عن هذا السؤال ننظر القاسم المشترك الذي يجمع العلماء الثلاثة، فنجدهم ينتسبون إلى المذهب المالكي. وبنظرة سريعة على أصول هذا المذهب نقف على خصائص ومميّزات هذا المذهب، التي جعلته مذهب المقاصد الأول.
فمن بين أهمّ الأصول المالكية التي لها علاقة بالمقاصد “المصلحة المرسلة” ذلك أن النظر المصلحي هو من أهم مميزات المذهب المالكي، ومعلوم أن جماع المقاصد هو “جلب المصالح ودرء المفاسد”. أمّا الأصل الثاني الذي له علاقة بالمقاصد فهو”سد الذرائع” والذي يعتبر المذهب المالكي من أهمّ القائلين به، وهو وجه آخر من وجوه رعاية مقصود الشارع في حفظ المصالح ودرء المفاسد، هذا بالإضافة إلى أصول أخرى، وقواعد تميزها بها المذهب المالكي، والتي كانت السبب المباشر في ولوع علمائه بالمقاصد.
أما فيما يخص تناول علال الفاسي لموضوع المقاصد، فقد تميّز بالاختلاف عمّا دأب عليه الأصوليون، حين يكتبون في المقاصد؛ وهذا أمر نلاحظه بوضوح عبر فصول كتابه الموسوم ب”مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها”.
ففي البداية قام علال الفاسي بتحديد المراد بمقاصد الشريعة، فقال: «الغاية منها، والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها» تطرق بعد ذلك لمسألة التعليل، فذكر مجموعة من الآيات التي توضح بجلاء أمر التعليل ثم قال: «ولا يضرّ التنزيه الإلهي أن يكون لحكمه غاية، لأنّه المدبّر لشؤون الكون، فلا بدّ أن يكون التدبير على أحسن ما يريده هو» ثم استرسل في عرض مضامين كتابه والتي يمكننا تحديدها فيما يلي:
ـ مقدّمات حول تاريخ القانون ووسائل تطوره.
ـ العدل بين الشرائع الوضعية والشرائع السماوية.
ـ أصول الشرعة الإسلامية، رؤية مقاصدية.
ـ الاجتهاد المقاصدي.
ـ بعض مقاصد الشريعة الإسلامية الخاصة.
وكان للطريقة التي تناول بها علال الفاسي مضامين كتابه بعض المؤاخذات من قبل بعض الباحثين بدعوى أن «… تركيز المؤلف لم يكن على مسألة المقاصد في ذاتها، تعميقا لمعانيها، وتأصيلا لمفاهيمها، أو تطوير لقواعدها…» إلاّ أنّ الواقع أنّ علال الفاسي تناول روح المقاصد في كتابه، وأتى بتطبيقات حيّة ومباشرة على الواقع، وقدّم اجتهادات وحلولا مقاصدية في مجموعة من القضايا، وكان غرضه رحمه الله من الطريقة التي تناول بها كتابه، المساعدة على فهم الإسلام وبذل الجهد في تعرّف أحكامه مباشرة من مصادره الأصلية.
ونعرج فيما يلي على أهم النظرات المقاصدية عند علال الفاسي:
الإسلام دين الفطرة
لمّا كانت شريعة الإسلام هي آخر الشرائع وكانت مرسلة للنّاس كافة في كل زمان ومكان، فإنّه تعين أن تكون مبنية على وصف يشترك فيه سائر البشر، وترتضيه العقول السليمة، هذا الوصف هو الفطرة؛ ذلك لأن شريعة الإسلام جاءت مصدّقة وموافقة لمقتضيات الفطرة التي جبل عليها الإنسان، ومكملة لها وآخذة بيدها إلى ما فيه سعادتها الدنيوية والأخروية.. قال تعالى: )إنَّ هذا القرآنَ يهدي للتي هيَ أقومُ( يعلّق المرحوم علاّل الفاسي قائلا: «أي أنه يساعد الإنسان على إدراك أقوم الطرق وأنجعها لتحقيق ما تتطلبه فطرته الإنسانية من سعادة روحية ومادية، وهو يهديه لذلك لأنه يضع بين يديه التعاليم التي يدركها كلّ إنسان، بمقتضى فطرته كإنسان، ويجد فيها ما يحتاج إليه من دين وشريعة ومنهاج للحياة».
ولما كانت التعاليم التي جاءت بها شريعة الإسلام هي تعاليم الفطرة فإن علاّل الفاسي يرى: «أن اتباع الطاعة في الأعمال الإنسانية يجعلها أعمالا شرعية، والخروج عنها يجعل العمل الإنساني في إطار خارج عن الشريعة، من ثمّ فهو خارج عن الفطرة».
ويزيد الأمر توضيحا فيقول: «وإذن فلا بد من أن يكون الإسلام فيما جاء به ضامنا لسدّ الحاجيات التي يتوقف عليها الإنسان لتكون مدنيته كإنسان، ولذلك فلن تجد في الشريعة الإسلامية شيئا منافيا للفطرة الإنسانية … وإذا قلنا أن الإنسانية مجبولة على حب من أحسن إليها، فلا بدّ أن يكون الإسلام الذي هو دين الفطرة، مقرّا لهذه الجبلّة الإنسانية وفارضا وجوب شكر المنعم، وإذا قلنا أنها مجبولة على بغض المسيء فلا بدّ من تحريم التشريع للإساءة…» وعن الفطرة التي فطر الناس عليها في نظره: «هي فطرة الإنسان بصفته إنسانا، أي مطلق الإنسان الذي يملك جملة من العقل وقدرة على اكتساب المعرفة، واستعداد للمدنية، ومرونة عل الطاعة، إلى جانب ماله من حواس، يدرك بها المرئيات والمسموعات والمتصورات…».
وخلاصة القول؛ إن الشريعة إنّما جاءت تدعو لتقويم الفطرة والحفاظ على أعمالها وإحياء ما اندرس منها، لذلك نجد الشيخ ابن عاشور رحمه الله يذهب إلى القول بأن المقصد العام من الشريعة هو حفظ هذه الفطرة : «ونحن إذا أجدنا النظر في المقصد العام من التشريع، الذي سيأتي بحثه، نجده لا يعدو أن يساير حفظ الفطرة، والحذر من خرقها واختلالها».
وبالتالي فإن أي مقصد للشريعة الإسلامية لن يخرج عن سمت الفطرة، وأي اجتهاد على ضوء هذه المقاصد لابد أن يراعي مقتضيات هذه الفطرة.
المصلحة والمفسدة
لقد أجمع جمهور العلماء على أن شريعة الإسلام، إن ما جاءت لرعاية مصالح النّاس، ورفع المشقة عنهم، وتحقيق السعادة لهم دنيا وأخرى. قال تعالى: )وما أرسلناكَ إلاّ رحمةً للعالمينَ»
(الأنبياء :107) «وإنّما يكون إرسال الرسول رحمة لهم، إذا كانت الشريعة التي بعث بها إليهم وافية بمصالحهم متكفلة بإسعادهم، وإلاّ لم تكن بعثته رحمة بهم، بل نقمة عليهم، فكأنه عز وجل يقول لنبيه: إنّ ما بعث به سبب لسعادة الدارين ومنشأ لانتظام مصالحهم، فمن قبل هذه الرحمة وشكر النعمة، سعد في الدنيا ولآخرة، ومن ردّها وجحدها، خسر الدنيا والآخرة».
و لم يحرص الأستاذ علاّل الفاسي عندما تطرّق إلى المصلحة، على إعطاء تعريف محدّد لها من عنده، وإنّما اكتفى بذكر اختلاف الأصوليين حول تعريفها، وأتى بتعريفيين محدّدين لها لكلّ من الإمام الغزالي والخوارزمي. فقال: «وقد عرّفها الغزالي بأنّها عبارة عن جلب منفعة أو دفع مضرّة، وقال أنّه لا يعني بها ذلك وإنّما يعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع».
نفس التعريف تقريبا نجده عند الخوارزمي: «المصلحة هي المحافظة على مقصود الشّرع بدفع المفاسد عن الخلق».
والملاحظ في كلام علمائنا الأفاضل عن المصلحة، أنها لا تتجزأ بين الدنيا والآخرة، بل هي شيء واحد، وأمرها مرتبط لا ينفك. وهو ما نجد علاّل الفاسي يؤكد عليه فيقول: «لاشكّ أنّ الشريعة الإسلامية مبنية على مراعاة قواعد المصلحة العامة في جميع ما يرجع للمعاملات الإنسانية لأنّ غايتها تحقيق السّعادة الدنيوية والأخروية لسكان البسيطة عن طريق هدايتهم لوسائل المعاش، وطرق الهناءة، ولكن مفهوم المصلحة في الإسلام لا يعني مجرّد النّفع الذي يناله الفرد أو الجماعة من عمل ما، ولو كان مناقضا لأسس الدين وقواعد الأخلاق فهناك مصالح لا شكّ فيها يلقيها النظر الإسلامي، ويضحّي بها في سبيل مصلحة أسمى وأهم، لابدّ منها لقيام المجتمع على الأنظمة التي يريدها الدين». إذن فعلاّل الفاسي رحمه اللّه يرى أنّه يمكننا التضحية بمجموعة من المصالح في سبيل قيام مصلحة يرتضيها الدين ويحث عليها.
ومن المعلوم أنّ المصلحة بحدّ ذاتها ليست دليلا مستقلاّ من الأدلّة الشرعية شأنها شأن الكتاب والسنة والإجماع، وبالتالي فإنّه لا يصح بناء الأحكام عليها، واتّخاذها مصدرا من مصادر التشريع الإسلامي، كما يحاول بعض من سفهاء العقول أن يفعلوا. ومن ثمّ فإنّه لاعتبار مصلحة ما، يجب أن تخضع لمقاييس وضوابط محدّدة تخرجها من فوضى المدلولات التي تدل عليها كلمة المصلحة، وهذا ما يؤكد عليه الأستاذ علاّل الفاسي رحمه الله، حيث يقول: «..فالمقاصد الشرعية تعمل على تحقيق المصلحة ولكن لا تخرج عن المقاييس التي وضعها الإسلام لمعرفة المصلحة الحقيقية من المصلحة المتوهّمة أو المرجوحة، ولا شكّ أنّ وضع الإسلام لمقياس تقاس به المصالح ضروري لعدم الوقوع في فوضى المدلولات التي تدل عليها كلمة المصلحة، والتي يفهم منها كلّ واحد بحسب ما يشتمله من أفكار أو مذاهب اجتماعية واقتصادية، وعدم اعتبار هذه المقاييس هو الذي أوقع العالم اليوم في هذا الاصطدام الهائل في الميادين…».
هذا وقد نقل علاّل الفاسي عن الشاطبي ما اشترطه المالكية للعمل بالمصلحة المرسلة، وهي شروط ثلاثة:
الشـرط الأول: أن تكون متفقة مع مقاصد الشرع فلا تنافي أصلا من أصوله ولا دليلا من أدلته.
الشرط الثاني: أن تكون معقولـة في ذاتها، تتلقـاها العـقول بالقبـول متـى عرضـت عليها.
الشرط الثالث: أن يكون في الأخذ بها حفظ أمر ضروري، أو رفع حرج لازم في الدين لقوله تعالى: )وما جَعلَ عليكُم في الدينِ منْ حرجٍ(.
بالإضافة إلى هذه الشروط الثلاثة، التي تبناها علاّل الفاسي في تقييد المصلحة، فإنّه يضيف شرطا آخر يعتمد بالأساس على الأخلاق، يقول: «مقياس كل مصلحة، الخلق المستمدّ من الفطرة، والقائم على أساس العمل لمرضاة مثل أعلى هو غاية الإنسان في الحياة، ومن العمل».
يتبع