ابو وليد البحيرى
2020-11-02, 03:18 AM
الاحتِفالُ بالمَولِد النَّبويِّ - شُبهاتٌ ورُدودٌ
علوي عبد القادر السقاف
الحمدُ للهِ ربِّ العالَمِين، القائِلِ في مُحكَمِ التَّنزيلِ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
والصَّلاةُ والسَّلامُ على سيِّدِنا، وقدْوَتِنا، وحبِيبِنا وحبِيبِ ربِّنا، وقرَّةِ أعيُنِنا، وشفِيعِنا يومَ القِيَامة، محمَّدٍ بن عبدِالله وعلى آلِه وصَحْبِه ومَن تبِع هُداه إلى يومِ الدِّين.
أمَّا بعدُ:
فإنَّ ممَّا أحْدَثه الناسُ في القُرونِ المتأخِّرةِ بعدَ القرونِ الثَّلاثةِ الأُولى المُفضَّلةِ: الاحتفالَ بيومِ وِلادةِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وأمَّا قرنُ الصَّحابةِ والتابِعين ومَن جاءَ بعدَهم، فلم يكُن أحدٌ فيه يَحتفِلُ بمولدِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، لا صحابتُه الأبرار، ولا مَن جاء بَعدَهم مِن العُلماءِ والأئمَّةِ المتبوعِين الأخيار، لا مِن أئمَّة الفِقهِ كأبي حَنيفةَ ومالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ، ولا مِن المُحدِّثين كالبُخاريِّ ومُسلِمٍ وغيرِهما، وإنَّما أُحدِثَ هذا الاحتِفالُ البِدعيُّ في أواخِر القرنِ الرابعِ الهِجريِّ، وأوَّلُ مَن أحْدَثه وابتدَعه هم الرافضةُ العُبَيديُّون (الذين يُسمَّوْن زُورًا وتَلبيسًا بالفاطميِّين)؛ ابْتَدعوه مع ما ابْتَدعوه في يَومِ عاشوراءَ- من ضَرْبِ الصُّدورِ، ولطْمِ الخُدودِ، وشَجِّ الرُّؤوسِ وغيرِ ذلك من البِدَعِ؛ إظهارًا للحُزنِ على مَقتْلِ الحُسَينِ بنِ عليٍّ رضِيَ اللهُ عنهما- في عامٍ واحدٍ، وهذه حَقيقةٌ تاريخيَّةٌ لا يُنكِرُها إلا جاهلٌ بالتاريخِ؛ فقدَ سَطَّرها المَقريزيُّ المتوفى عام 845هـ في كِتابه ((الخِطط)) (2/436)، وذكَر أنَّهم أحْدَثوا عددًا من الموالدِ والاحتفالاتِ البِدعيَّة؛ منها: مولِدُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ومولِدُ عليٍّ وفاطمةَ والحَسنِ والحُسَينِ، وغيرُها من الموالدِ، حتى عدَّد سَبعةً وعِشرين احتفالًا لهم، كلُّها انقرضتْ بسُقُوط الدولةِ العُبيديَّة عام 567هـ على يدِ صلاح الدِّين الأَيوبيِّ رحِمَه الله.
ثُمَّ أحيا الصوفيةُ مِن بعدِ ذلِك بِدعةَ الاحتِفالِ بيومِ مولدِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم، وأحيا الرافضةُ بِدعَ يومِ عاشُوراءَ من جَديدٍ، وما زالتْ هذِه البِدعُ مُستمِرَّةً إلى يومِ الناسِ هذا.
ولَمَّا ثقُل على المُغرَمِينَ بالاحتِفالِ بالمولدِ أنْ يكونَ أوَّلَ مَن أحْدَثه رافضيٌّ خبيثٌ، زَعَموا أنَّ أوَّلَ مَن أحْدَثه صاحِبُ إربل المَلِكُ المظفَّرُ أبو سعيد كوكبرى المتوفى عام 630هـ، ونَسَبوا ذلك لابن كَثيرٍ في كتابِه ((البداية والنهاية)) (13/136- 137)، وهذا غيرُ صحيح؛ فنصُّ كلامِ ابنِ كَثيرٍ هو: (وكان يَعمَلُ المولِدَ الشريفَ في ربيعٍ الأوَّل، ويحتفِلُ به احتفالًا هائلًا)؛ فابنُ كَثيرٍ لم يقُلْ: إنَّه أوَّلُ مَن أحْدَثه، وإنَّما قال: إنَّه كان يَحتفِلُ به في رَبيع الأوَّل.
والحقيقةُ التاريخيَّةُ الثانيةُ التي لا تَقبَلُ الشكَّ أيضًا: أنه لم يَثبُتْ أنَّ الثاني عَشرَ من ربيعٍ الأوَّل هو يومُ وِلادةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّمَ، بل الأرجحُ والأصحُّ: أنَّه ليس يومَ مَولدِه، والثابتُ الذي عليه أكثرُ المؤرِّخين أنَّه يومُ وفاتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وكان ذلك يومَ الإثنين، ودُفِنَ يومَ الثلاثاء، فِداه أبي وأُمِّي ونفْسي.
ثم انتَشرَ هذا الاحتفالُ في بِقاعِ الأرضِ واستحسنَه بعضُ العُلماءِ والوُعَّاظ؛ لِمَا فيه من ذِكرٍ لسِيرةِ النبيِّ صلَّى الله عليه وآلِه وسلَّم، ولبَّس الشيطانُ على بعضِهم وأنساهُم مُبتدأَه وخُلوَّ القرونِ الأولى منه؛ فبَدؤوا يَستدلُّون على جوازِه، بل على مَشروعيَّتِه واستحسانِه بأدلَّةٍ مُشرِّقةٍ ومغرِّبةٍ لا عَلاقةَ لها البتَّةَ بهذا الاحتِفال! فانبرَى لهم العُلماءُ ليردُّوا عليهم استِدلالاتِهم، بَلْهَ شُبهاتِهم.
وكما هي عادةُ البِدعِ، لا تقِفُ عند حدٍّ؛ فقد دخلتْ على هذه الموالدِ بِدعٌ مُنكَرةٌ وأعمالٌ قبيحةٌ أخرى كالطَّبلِ والتمايُلِ والرَّقص، واختلاطِ الرِّجالِ بالنِّساءِ في بعض البلدان، وغيرِها من المعَاصي، وإلْقاءِ القَصائدِ الشِّركيَّةِ التي فيها استِغاثةٌ بغيرِ اللهِ تعالى، وإطراءٌ للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم كإطراءِ النَّصارَى لعيسى ابنِ مَريمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ.
وفي هذا المقالِ لن أتحدَّث عن تِلكَ المُنكراتِ التي تقَعُ في بعضِ هذه الموالِدِ على تفاوُتٍ بينها، لوضوحِ أمرِها، بل سيكونُ الحديثُ عن شُبهاتِ المُجوِّزِينَ للاحتِفالِ بالموالِدِ والرُّدودِ عليها، ولو فُرِضَ خُلوُّها من المُنكراتِ والمعاصِي؛ فإنَّ تغييرَ ما أنزلَ اللهُ تعالى على نبيِّه مُحمَّدٍ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وإضافةَ شعائرَ وأعمالٍ له، وإدخالَها في الدِّينِ بشُبهاتٍ يَدَّعيها أصحابُها، أخطرُ مِن تِلكُم المنكراتِ.
ومن هذه الشُّبهات:
الشُّبهة الأُولى:
استِشهادُهم بقولِه تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 58]، حيثُ زَعَموا أنَّ أعظمَ فرَحٍ هو الفَرَحُ بمولدِه صلَّى الله عليه وسلَّم، وأنَّ الاحتِفالَ به تعبيرٌ عن هذا الفَرَحِ، وهذا قولٌ لم يقُلْه أحدٌ من أئمَّة الإسلامِ، وما أعظمَ فَضلَ اللهِ علينا ونِعمَه! فمولِدُه نِعمةٌ، ومَبعَثُه نِعمةٌ، وهِجرتُه نِعمةٌ؛ أوَ كُلَّما تفضَّل اللهُ وأنعَمَ علينا نِعمةً جَعَلْنا ذلك اليومَ احتفالًا؟!
ثم إنَّ فَضْلَ اللهِ ورَحْمتَه المأمورَ بالفرَحِ بهما في هذِه الآيةِ ليس هو يومَ وِلادتِه، وإنَّما هو القُرآنُ وما نزَلَ به مِن شرائِعِ الإسلامِ، كما في الآية التي قَبْلَها: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 57- 58]، والرَّحمةُ هي البعثَةُ والرِّسالةُ كما قال اللهُ تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «إنِّي لم أُبعَثْ لعَّانًا، وإنما بُعثتُ رحمةً» (رواه مسلم). ولم يَذكُرْ أيُّ مُفسِّرٍ للقُرآنِ الكريمِ هذا المعنى الذي ذَكَرُوه.
ثمَّ كيفَ غاب هذا المعنى الغريبُ عن صاحبِ الرِّسالةِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ كونُ الآيةِ نزلتْ في مولدِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، ثم هو صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يَحتفِلُ بميلادِه، ولا يُبلِّغُنا بهذا المعنى؟!.
وأعجبُ مِن استشهادِهم بهذه الآيةِ: استشهادُهم بقولِه تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157]، حيث زَعَموا أنَّ الاحتِفالَ بالمولدِ هو مِن إكرامِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وتَبجيلِه وتَعظيمِ شأنِه، وقد أثْنَى اللهُ سُبحانَه في هذِه الآيةِ على مَن يَفعلُ ذلك! وهذا كلُّه من الجَهلِ والتَّلبيسِ على العامَّة؛ فليسَ في الآيةِ ما يدلُّ على أنَّ الاحتِفالَ بمولدِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ تعزيرٌ وتوقيرٌ له، وهذا هو محلُّ النِّزاع. وليس كلُّ شيءٍ ظنَّ صاحبُه أنه تعزيرٌ وتوقيرٌ له صلَّى الله عليه وسلَّم يجوزُ فِعلُه لمجرَّدِ ظنِّه؛ فلا يجوزُ توقيرُه بآلاتِ العَزْفِ كالطَّبلِ وغيرِه، ولا بإطراءٍ كإطراءِ النصارَى لعيسى ابنِ مَريمَ عليه الصَّلاةُ والسلامُ، وقد نهَى النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أُمَّتَه عن ذلك؛ فالاحتفالُ بالمولدِ مِن هذا البابِ.
الشُّبهةُ الثانيةُ:
استِدلالُهم بالحَديثِ الذي أخرَجَه مُسلِمٌ عن أبي قَتادَة الأنصاريِّ رضِي اللهُ عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «سُئلَ عن صَومِ الإثنَينِ؟ قال: ذاك يومٌ وُلدتُ فيه» حيثُ زَعَموا أنَّ هذا احتفالٌ منه بيومِ وِلادتِه! وهذا تَفسيرٌ للحديثِ لم يقُلْ به أحدٌ من العُلماءِ وشُرَّاحِ الحديثِ الأوائِل؛ فالإمامُ النوويُّ- وهو أشهرُ مَن شرَح أحاديثَ صحيحِ مُسلِمٍ- لم يستدلَّ بهذا الحديثِ على الاحتِفالِ بمولِدِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فشُكرُ اللهِ على وِلادةِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم إنَّما يكونُ بصِيامِ اليومِ الذي وُلِدَ فيه وهو يومُ الإثنينِ مِن كلِّ أسبوعٍ، كما فَعَل ذلك النبيُّ صلَّى الله عليه وآلِه وسلَّمَ وجعَلَه سُنَّةً لأُمَّتِه باقِيَةً إلى يومِ الِقيامَةِ، وهذا ما يَقتَضِيه المعقولُ والمنقولُ، وهو أنْ يكونَ الشكرُ من نوْعِ ما شَكَرَ الرسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم به ربَّه، وليس بالاحتِفالِ والنَّشيد، والقَصائِد والمَديح، ممَّا لم يَفعلْه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم ولا أمَرَ به، ولا فَعَله أحدٌ مِن الصَّحابةِ ولا التابِعين وتابعِيهم، والنبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم هو أحرصُ النَّاسِ على شُكرِ ربِّه؛ وأعْلمُهم بكيفيَّةِ ذلِك؛ وهذا الشُّكر كشُكرِ اللهِ على نَجاةِ نبيِّ اللهِ موسى عليه الصَّلاةُ والسلامُ بصِيامِ يومِ عاشوراءَ، وهو اليومُ الذي نَجَّاه اللهُ فيه مِن فِرعونَ، كما فعَل ذلك النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم، وجعَلَه سُنَّةً لأمَّتِه إلى يومِ القِيامَةِ.
الشُّبهةُ الثالثةُ:
استدلالُهم بالحديثِ الذي رواه أحمدُ وأبو دَاودَ والنَّسائيُّ وغيرُهم، عن أَوْسِ بنِ أَوسٍ رضِي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: «مِن أفْضلِ أيَّامِكم يومُ الجُمُعة؛ فيه خُلِقَ آدَمُ، وفيه قُبِضَ، وفيه النَّفخةُ وفيه الصَّعقةُ؛ فأكثِروا عليَّ من الصَّلاةِ فيه؛ فإنَّ صَلاتَكُم مَعروضةٌ عليَّ... » (الحديثَ)، حيثُ قالوا: إذا كان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم قدْ شرَعَ لنا الصَّلاةَ عليه يومَ أنْ خَلَق اللهُ نبيَّه آدَمَ عليه السَّلامُ؛ فالصلاةُ على نبيِّنا محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم يومَ وِلادتِه أَوْلَى وأحْرَى، وزَعَموا أنَّ الاحتِفالَ بالمولِدِ ما هو إلَّا اجتِماعٌ للصَّلاةِ عليه. وهذا منهم استِدراكٌ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولا يقولُ هذا مَن وقَر حُبُّ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في قَلبِه، ولو زعَم ذلك، ولو كان هذا الاستدلالُ صحيحًا لرَأيْنا تسابُقَ الصحابةِ فمَن بعدَهم في تَخصيصِ يومَ الإثنينِ بالصَّلاةِ عليه، غير أنَّ الواقِعَ أنَّهم لم يَخصُّوا ذلك اليومَ بصَلاةٍ، فضلًا عن الاحتِفالِ والاجتماعِ فيه؛ ممَّا يدلُّ قطعًا على أنَّ الاستدلالَ به في غيرِ محلِّه، بلْ ولم يقُلْ أحدٌ مِن العُلماءِ بفَضلِ الصَّلاةِ على النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ يومَ ولادتِه حقًّا، وهو يومُ الإثنينِ، فضلًا عن أنْ يكونَ ذلك يومَ الثاني عَشرَ مِن ربيع الأوَّل، وهو لم يَثبُتْ، وحتَّى ما ورَد في فَضلِ يومِ الجُمُعة فهو أولًا ليس فقط لخلْقِ آدَمَ فيه، بل كما هو نصُّ الحديثِ؛ لأنَّ فيه النفخةَ والصَّعقةَ، وفي رواية مسلمٍ: «أنَّ فيه أُدْخِلَ آدمُ الجنَّةَ، وفيه أُخرِجَ منها، وفيه تقومُ الساعةُ»، وثانيًا: ليس فيه الاحتِفالُ والاجتماعُ للصَّلاةِ عليه، وذِكرِ سِيرتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ.
الشُّبهةُ الرَّابعةُ:
ومِن الشُّبهِ العجيبةِ التي يَذكُرونها: أنَّهم يَستدِلُّون بنُصوصِ الأمرِ بالصَّلاةِ والسَّلامِ على النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأحاديثِ مدْحِ النبيِّ نفْسَه، ومدْحِ الصحابةِ رضِيَ اللهُ عنهم له بحَضرتِه، فيقولون: المولِدُ ليس فيه إلَّا صلاةٌ وسلامٌ على النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ومدحٌ له؛ فلماذا تُنكِرونَ علينا ذلِك؟! ورغْمَ أنَّ هذا غيرُ صحيحٍ وفيه مُغالطةٌ؛ فالمولِدُ فيه أفعالٌ كثيرةٌ أخرى مُحرَّمَةٌ كما سبَق الإشارةُ إليه، إلَّا أنَّ المُغالطةَ الكُبرى هي أنَّ هذا ليس هو مَحَلَّ النِّزاعِ أصلًا؛ فإنَّ مُنكِري المولِدِ لا يُنكِرونَ الصلاةَ على النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ولا مَدْحَه، بل هم يُصلُّون عليه دائمًا وأبدًا، وبخاصَّةٍ يومَ الجُمُعة، لكنْ إنكارُهم هو على الاجتِماعِ لذلك في يومٍ أو أيامٍ مَخصوصةٍ؛ لأنَّه لم يَرِدْ في السُّنَّةِ مطلقًا ولا مرَّةً واحدةً أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم اجتمَعَ مع أصحابِه رضِيَ اللهُ عنهم، أو اجتمَع أصحابُه مع بعضِهم في أيِّ مُناسَبةٍ مِن أجلِ الصلاةِ عليه أو مَدْحِه، فضلًا عن أنْ يكونَ ذلك في ليلةٍ مَخصوصةٍ.
الشُّبهةُ الخامِسةُ:
استِشهادُهم بالحديثِ الذي رواه التِّرمذيُّ وغيرُه عن بُريدةَ رضِيَ اللهُ عنه، وفيه: أنَّ جاريةً نذَرتْ أن تَضرِبَ بالدُّفِّ وتَتغنَّى بَينَ يَدَيِ رَسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم إنْ رَدَّه اللهُ سالِمًا من إحْدَى غَزواتِه، وأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال لها: «إنْ كُنتِ نَذرْتِ فاضْرِبي وإلَّا فَلا...» الحديثَ، وقالوا: هذا احتفالٌ وإعلانٌ للفرَحِ بقُدومِه صلَّى الله عليه وسلَّم من الغزوِ، وقد أَقرَّها النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم، والفرحُ بقُدومِه إلى الدُّنيا أعظمُ. فيا سُبحانَ اللهِ! ما أعظمَ كيدَ إبليسَ لهذه الأمَّةِ وتَلبيسَه عليها! يَستشهِدون بحادثةٍ واحدةٍ لم تَتكرَّرْ طِيلةَ حياةِ النبيِّ صلَّى الله عليه وآلِه وسلَّمَ ويَغفُلون عن ترْكِه وترْكِ صَحابتِه مِن بَعدِه للاحتفالِ بيومِ وِلادتِه مع تَكرارِه وعَودتِه مَرَّاتٍ كَثيرةً، ثم أهُمْ أعلمُ بفَضلِ قُدومِه إلى الدُّنيا على نجاتِه في الغزوةِ أم هذِه الصحابيةُ؟! لِمَ لَمْ تَنْذِرْ أن تَحتفِلَ وتفرَحَ بيومِ قُدومِه للدُّنيا بدلَ أن تَفرَحَ بيومِ نجاتِه وعودتِه من الغَزو؟! ثُمَّ إنَّ هذا ليس احتفالًا منها جمَعتْ له الناس، بل هو وفاءٌ لنذرٍ نَذَرتْه على نفْسِها فأوفَتْ بنذرِها، ولو كان احتِفالًا كاحتفِالِ المولِد لأعادَتْه كلَّ عامٍ كما يَفعَلُ أصحابُ الموالدِ.
الشُّبهةُ السَّادسةُ:
أنَّهم يَستدِلُّون على جوازِ الاحتفالِ بيومِ مولدِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم بما رواه البيهقيُّ في سُننه، عن أنسٍ رضِيَ الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم عقَّ عن نفْسِه بعدَ النُّبوَّة، ويقولون: هذا رسولُ الله قد عقَّ عن نفْسِه فرَحًا بمولدِه، مع أنَّ أبا طالبٍ قد عقَّ عنه يومَ وِلادتِه، وفي ذلك دَليلٌ على جوازِ تَكرارِ الفرحِ مَرَّةً بعدَ مرَّةٍ.
وهذا الحديثُ كما ذَكر البيهقيُّ نفْسُه عَقِبَه: (حديثٌ مُنكَر)، وقال النوويُّ في ((المجموع)) (8/431): (باطلٌ). وقال ابنُ حَجرٍ العسقلانيُّ في ((الفتح)) (9/509): (لا يَثبُت)؛ فسَقطَ الاحتجاجُ به أصلًا، على أنَّه لو ثبَتَ لم يكُن فيه دليلٌ أيضًا لهم؛ لاختِلافِ ما بين هذا الفِعلِ وما بَينَ الاحتِفالِ بالمولِدِ كلَّ عامٍ؛ فهو قياسٌ مع الفارِقِ.
وأعجَبُ من ذلك: استدلالُهم بعِتقِ أبي لَهَبٍ لمولاتِه ثُوَيبةَ الأَسلميَّةِ لَمَّا بشَّرتْه بمولدِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وأنَّه يُخفَّفُ عنه العذابُ بذلك، وقالوا: فإذا كان هذا في حقِّ الذي جاء القرآنُ بذَمِّه؛ يُخفَّفُ عنه العذابُ لفَرحِه بمولدِ المصطفَى؛ فما بالُك بمَن يَفرَحُ به صلَّى الله عليه وسلَّم وهو مُؤمِنٌ مُوحِّد؟!
وما أقبحَ أن يُستشهَدَ بفِعلِ كافرٍ في الجاهليَّةِ فرِحَ بمولدِ ابنِ أخٍ له في زَمنٍ كانوا يَفرَحون بالذَّكرِ ويَدفِنون الأُنثى خشيةَ العارِ! وهل فرِحَ به لأنَّه نبيُّ الله؟! وهل كان يَعلمُ أن سيُبعَثُ فيهم؟! وأنَّه سيَنزِلُ فيه قولُه تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1]؟!
ويُقالُ فيه ما قِيل فيما قَبْلَه: ليس النِّزاعُ في فَضلِ الفَرَحِ به صلَّى الله عليه وسلَّم وحبِّه وتوقيرِه، ولكنَّ النِّزاعَ في مشروعيَّةِ ما تَزعُمونَه حبًّا، وتُخالفون فيه هَدْيَه صلَّى الله عليه وسلَّم.
وأسوأُ من ذلك ما نقَله السَّخَاويُّ في ((الأجْوبة المَرْضِيَّة)) (3/ 1117) عن أحدِهم قائلًا: (إذا كان أهلُ الصَّليب اتَّخَذوا ليلةَ مَولِد نبيِّهم عيدًا أكبَر، فأهْلُ الإسْلامِ أَوْلَى بالتَّكريم وأجْدر)، ولا أجدُ في الرَّدِّ على هذا القَوْل أبلغَ ممَّا رواهُ البُخاريُّ ومُسلِمٌ في صحيحَيهما من حديثِ أبي سعيدٍ الخُدريِّ رضِيَ اللهُ عنه، عن رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قال: «لتتَّبعُنُّ سَننَ الَّذين من قبلِكم شِبرًا بشبرٍ، وذراعًا بذراعٍ، حتَّى لو دَخلوا في جُحرِ ضبٍّ لاتَّبعتموهم! قُلنا: يا رسولَ اللهِ، اليهودُ والنَّصارَى؟ قال: فمَن»؟!.
يتبع
علوي عبد القادر السقاف
الحمدُ للهِ ربِّ العالَمِين، القائِلِ في مُحكَمِ التَّنزيلِ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
والصَّلاةُ والسَّلامُ على سيِّدِنا، وقدْوَتِنا، وحبِيبِنا وحبِيبِ ربِّنا، وقرَّةِ أعيُنِنا، وشفِيعِنا يومَ القِيَامة، محمَّدٍ بن عبدِالله وعلى آلِه وصَحْبِه ومَن تبِع هُداه إلى يومِ الدِّين.
أمَّا بعدُ:
فإنَّ ممَّا أحْدَثه الناسُ في القُرونِ المتأخِّرةِ بعدَ القرونِ الثَّلاثةِ الأُولى المُفضَّلةِ: الاحتفالَ بيومِ وِلادةِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وأمَّا قرنُ الصَّحابةِ والتابِعين ومَن جاءَ بعدَهم، فلم يكُن أحدٌ فيه يَحتفِلُ بمولدِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، لا صحابتُه الأبرار، ولا مَن جاء بَعدَهم مِن العُلماءِ والأئمَّةِ المتبوعِين الأخيار، لا مِن أئمَّة الفِقهِ كأبي حَنيفةَ ومالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ، ولا مِن المُحدِّثين كالبُخاريِّ ومُسلِمٍ وغيرِهما، وإنَّما أُحدِثَ هذا الاحتِفالُ البِدعيُّ في أواخِر القرنِ الرابعِ الهِجريِّ، وأوَّلُ مَن أحْدَثه وابتدَعه هم الرافضةُ العُبَيديُّون (الذين يُسمَّوْن زُورًا وتَلبيسًا بالفاطميِّين)؛ ابْتَدعوه مع ما ابْتَدعوه في يَومِ عاشوراءَ- من ضَرْبِ الصُّدورِ، ولطْمِ الخُدودِ، وشَجِّ الرُّؤوسِ وغيرِ ذلك من البِدَعِ؛ إظهارًا للحُزنِ على مَقتْلِ الحُسَينِ بنِ عليٍّ رضِيَ اللهُ عنهما- في عامٍ واحدٍ، وهذه حَقيقةٌ تاريخيَّةٌ لا يُنكِرُها إلا جاهلٌ بالتاريخِ؛ فقدَ سَطَّرها المَقريزيُّ المتوفى عام 845هـ في كِتابه ((الخِطط)) (2/436)، وذكَر أنَّهم أحْدَثوا عددًا من الموالدِ والاحتفالاتِ البِدعيَّة؛ منها: مولِدُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ومولِدُ عليٍّ وفاطمةَ والحَسنِ والحُسَينِ، وغيرُها من الموالدِ، حتى عدَّد سَبعةً وعِشرين احتفالًا لهم، كلُّها انقرضتْ بسُقُوط الدولةِ العُبيديَّة عام 567هـ على يدِ صلاح الدِّين الأَيوبيِّ رحِمَه الله.
ثُمَّ أحيا الصوفيةُ مِن بعدِ ذلِك بِدعةَ الاحتِفالِ بيومِ مولدِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم، وأحيا الرافضةُ بِدعَ يومِ عاشُوراءَ من جَديدٍ، وما زالتْ هذِه البِدعُ مُستمِرَّةً إلى يومِ الناسِ هذا.
ولَمَّا ثقُل على المُغرَمِينَ بالاحتِفالِ بالمولدِ أنْ يكونَ أوَّلَ مَن أحْدَثه رافضيٌّ خبيثٌ، زَعَموا أنَّ أوَّلَ مَن أحْدَثه صاحِبُ إربل المَلِكُ المظفَّرُ أبو سعيد كوكبرى المتوفى عام 630هـ، ونَسَبوا ذلك لابن كَثيرٍ في كتابِه ((البداية والنهاية)) (13/136- 137)، وهذا غيرُ صحيح؛ فنصُّ كلامِ ابنِ كَثيرٍ هو: (وكان يَعمَلُ المولِدَ الشريفَ في ربيعٍ الأوَّل، ويحتفِلُ به احتفالًا هائلًا)؛ فابنُ كَثيرٍ لم يقُلْ: إنَّه أوَّلُ مَن أحْدَثه، وإنَّما قال: إنَّه كان يَحتفِلُ به في رَبيع الأوَّل.
والحقيقةُ التاريخيَّةُ الثانيةُ التي لا تَقبَلُ الشكَّ أيضًا: أنه لم يَثبُتْ أنَّ الثاني عَشرَ من ربيعٍ الأوَّل هو يومُ وِلادةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّمَ، بل الأرجحُ والأصحُّ: أنَّه ليس يومَ مَولدِه، والثابتُ الذي عليه أكثرُ المؤرِّخين أنَّه يومُ وفاتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وكان ذلك يومَ الإثنين، ودُفِنَ يومَ الثلاثاء، فِداه أبي وأُمِّي ونفْسي.
ثم انتَشرَ هذا الاحتفالُ في بِقاعِ الأرضِ واستحسنَه بعضُ العُلماءِ والوُعَّاظ؛ لِمَا فيه من ذِكرٍ لسِيرةِ النبيِّ صلَّى الله عليه وآلِه وسلَّم، ولبَّس الشيطانُ على بعضِهم وأنساهُم مُبتدأَه وخُلوَّ القرونِ الأولى منه؛ فبَدؤوا يَستدلُّون على جوازِه، بل على مَشروعيَّتِه واستحسانِه بأدلَّةٍ مُشرِّقةٍ ومغرِّبةٍ لا عَلاقةَ لها البتَّةَ بهذا الاحتِفال! فانبرَى لهم العُلماءُ ليردُّوا عليهم استِدلالاتِهم، بَلْهَ شُبهاتِهم.
وكما هي عادةُ البِدعِ، لا تقِفُ عند حدٍّ؛ فقد دخلتْ على هذه الموالدِ بِدعٌ مُنكَرةٌ وأعمالٌ قبيحةٌ أخرى كالطَّبلِ والتمايُلِ والرَّقص، واختلاطِ الرِّجالِ بالنِّساءِ في بعض البلدان، وغيرِها من المعَاصي، وإلْقاءِ القَصائدِ الشِّركيَّةِ التي فيها استِغاثةٌ بغيرِ اللهِ تعالى، وإطراءٌ للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم كإطراءِ النَّصارَى لعيسى ابنِ مَريمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ.
وفي هذا المقالِ لن أتحدَّث عن تِلكَ المُنكراتِ التي تقَعُ في بعضِ هذه الموالِدِ على تفاوُتٍ بينها، لوضوحِ أمرِها، بل سيكونُ الحديثُ عن شُبهاتِ المُجوِّزِينَ للاحتِفالِ بالموالِدِ والرُّدودِ عليها، ولو فُرِضَ خُلوُّها من المُنكراتِ والمعاصِي؛ فإنَّ تغييرَ ما أنزلَ اللهُ تعالى على نبيِّه مُحمَّدٍ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وإضافةَ شعائرَ وأعمالٍ له، وإدخالَها في الدِّينِ بشُبهاتٍ يَدَّعيها أصحابُها، أخطرُ مِن تِلكُم المنكراتِ.
ومن هذه الشُّبهات:
الشُّبهة الأُولى:
استِشهادُهم بقولِه تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 58]، حيثُ زَعَموا أنَّ أعظمَ فرَحٍ هو الفَرَحُ بمولدِه صلَّى الله عليه وسلَّم، وأنَّ الاحتِفالَ به تعبيرٌ عن هذا الفَرَحِ، وهذا قولٌ لم يقُلْه أحدٌ من أئمَّة الإسلامِ، وما أعظمَ فَضلَ اللهِ علينا ونِعمَه! فمولِدُه نِعمةٌ، ومَبعَثُه نِعمةٌ، وهِجرتُه نِعمةٌ؛ أوَ كُلَّما تفضَّل اللهُ وأنعَمَ علينا نِعمةً جَعَلْنا ذلك اليومَ احتفالًا؟!
ثم إنَّ فَضْلَ اللهِ ورَحْمتَه المأمورَ بالفرَحِ بهما في هذِه الآيةِ ليس هو يومَ وِلادتِه، وإنَّما هو القُرآنُ وما نزَلَ به مِن شرائِعِ الإسلامِ، كما في الآية التي قَبْلَها: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 57- 58]، والرَّحمةُ هي البعثَةُ والرِّسالةُ كما قال اللهُ تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «إنِّي لم أُبعَثْ لعَّانًا، وإنما بُعثتُ رحمةً» (رواه مسلم). ولم يَذكُرْ أيُّ مُفسِّرٍ للقُرآنِ الكريمِ هذا المعنى الذي ذَكَرُوه.
ثمَّ كيفَ غاب هذا المعنى الغريبُ عن صاحبِ الرِّسالةِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ كونُ الآيةِ نزلتْ في مولدِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، ثم هو صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يَحتفِلُ بميلادِه، ولا يُبلِّغُنا بهذا المعنى؟!.
وأعجبُ مِن استشهادِهم بهذه الآيةِ: استشهادُهم بقولِه تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157]، حيث زَعَموا أنَّ الاحتِفالَ بالمولدِ هو مِن إكرامِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وتَبجيلِه وتَعظيمِ شأنِه، وقد أثْنَى اللهُ سُبحانَه في هذِه الآيةِ على مَن يَفعلُ ذلك! وهذا كلُّه من الجَهلِ والتَّلبيسِ على العامَّة؛ فليسَ في الآيةِ ما يدلُّ على أنَّ الاحتِفالَ بمولدِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ تعزيرٌ وتوقيرٌ له، وهذا هو محلُّ النِّزاع. وليس كلُّ شيءٍ ظنَّ صاحبُه أنه تعزيرٌ وتوقيرٌ له صلَّى الله عليه وسلَّم يجوزُ فِعلُه لمجرَّدِ ظنِّه؛ فلا يجوزُ توقيرُه بآلاتِ العَزْفِ كالطَّبلِ وغيرِه، ولا بإطراءٍ كإطراءِ النصارَى لعيسى ابنِ مَريمَ عليه الصَّلاةُ والسلامُ، وقد نهَى النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أُمَّتَه عن ذلك؛ فالاحتفالُ بالمولدِ مِن هذا البابِ.
الشُّبهةُ الثانيةُ:
استِدلالُهم بالحَديثِ الذي أخرَجَه مُسلِمٌ عن أبي قَتادَة الأنصاريِّ رضِي اللهُ عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «سُئلَ عن صَومِ الإثنَينِ؟ قال: ذاك يومٌ وُلدتُ فيه» حيثُ زَعَموا أنَّ هذا احتفالٌ منه بيومِ وِلادتِه! وهذا تَفسيرٌ للحديثِ لم يقُلْ به أحدٌ من العُلماءِ وشُرَّاحِ الحديثِ الأوائِل؛ فالإمامُ النوويُّ- وهو أشهرُ مَن شرَح أحاديثَ صحيحِ مُسلِمٍ- لم يستدلَّ بهذا الحديثِ على الاحتِفالِ بمولِدِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فشُكرُ اللهِ على وِلادةِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم إنَّما يكونُ بصِيامِ اليومِ الذي وُلِدَ فيه وهو يومُ الإثنينِ مِن كلِّ أسبوعٍ، كما فَعَل ذلك النبيُّ صلَّى الله عليه وآلِه وسلَّمَ وجعَلَه سُنَّةً لأُمَّتِه باقِيَةً إلى يومِ الِقيامَةِ، وهذا ما يَقتَضِيه المعقولُ والمنقولُ، وهو أنْ يكونَ الشكرُ من نوْعِ ما شَكَرَ الرسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم به ربَّه، وليس بالاحتِفالِ والنَّشيد، والقَصائِد والمَديح، ممَّا لم يَفعلْه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم ولا أمَرَ به، ولا فَعَله أحدٌ مِن الصَّحابةِ ولا التابِعين وتابعِيهم، والنبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم هو أحرصُ النَّاسِ على شُكرِ ربِّه؛ وأعْلمُهم بكيفيَّةِ ذلِك؛ وهذا الشُّكر كشُكرِ اللهِ على نَجاةِ نبيِّ اللهِ موسى عليه الصَّلاةُ والسلامُ بصِيامِ يومِ عاشوراءَ، وهو اليومُ الذي نَجَّاه اللهُ فيه مِن فِرعونَ، كما فعَل ذلك النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم، وجعَلَه سُنَّةً لأمَّتِه إلى يومِ القِيامَةِ.
الشُّبهةُ الثالثةُ:
استدلالُهم بالحديثِ الذي رواه أحمدُ وأبو دَاودَ والنَّسائيُّ وغيرُهم، عن أَوْسِ بنِ أَوسٍ رضِي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: «مِن أفْضلِ أيَّامِكم يومُ الجُمُعة؛ فيه خُلِقَ آدَمُ، وفيه قُبِضَ، وفيه النَّفخةُ وفيه الصَّعقةُ؛ فأكثِروا عليَّ من الصَّلاةِ فيه؛ فإنَّ صَلاتَكُم مَعروضةٌ عليَّ... » (الحديثَ)، حيثُ قالوا: إذا كان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم قدْ شرَعَ لنا الصَّلاةَ عليه يومَ أنْ خَلَق اللهُ نبيَّه آدَمَ عليه السَّلامُ؛ فالصلاةُ على نبيِّنا محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم يومَ وِلادتِه أَوْلَى وأحْرَى، وزَعَموا أنَّ الاحتِفالَ بالمولِدِ ما هو إلَّا اجتِماعٌ للصَّلاةِ عليه. وهذا منهم استِدراكٌ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولا يقولُ هذا مَن وقَر حُبُّ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في قَلبِه، ولو زعَم ذلك، ولو كان هذا الاستدلالُ صحيحًا لرَأيْنا تسابُقَ الصحابةِ فمَن بعدَهم في تَخصيصِ يومَ الإثنينِ بالصَّلاةِ عليه، غير أنَّ الواقِعَ أنَّهم لم يَخصُّوا ذلك اليومَ بصَلاةٍ، فضلًا عن الاحتِفالِ والاجتماعِ فيه؛ ممَّا يدلُّ قطعًا على أنَّ الاستدلالَ به في غيرِ محلِّه، بلْ ولم يقُلْ أحدٌ مِن العُلماءِ بفَضلِ الصَّلاةِ على النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ يومَ ولادتِه حقًّا، وهو يومُ الإثنينِ، فضلًا عن أنْ يكونَ ذلك يومَ الثاني عَشرَ مِن ربيع الأوَّل، وهو لم يَثبُتْ، وحتَّى ما ورَد في فَضلِ يومِ الجُمُعة فهو أولًا ليس فقط لخلْقِ آدَمَ فيه، بل كما هو نصُّ الحديثِ؛ لأنَّ فيه النفخةَ والصَّعقةَ، وفي رواية مسلمٍ: «أنَّ فيه أُدْخِلَ آدمُ الجنَّةَ، وفيه أُخرِجَ منها، وفيه تقومُ الساعةُ»، وثانيًا: ليس فيه الاحتِفالُ والاجتماعُ للصَّلاةِ عليه، وذِكرِ سِيرتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ.
الشُّبهةُ الرَّابعةُ:
ومِن الشُّبهِ العجيبةِ التي يَذكُرونها: أنَّهم يَستدِلُّون بنُصوصِ الأمرِ بالصَّلاةِ والسَّلامِ على النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأحاديثِ مدْحِ النبيِّ نفْسَه، ومدْحِ الصحابةِ رضِيَ اللهُ عنهم له بحَضرتِه، فيقولون: المولِدُ ليس فيه إلَّا صلاةٌ وسلامٌ على النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ومدحٌ له؛ فلماذا تُنكِرونَ علينا ذلِك؟! ورغْمَ أنَّ هذا غيرُ صحيحٍ وفيه مُغالطةٌ؛ فالمولِدُ فيه أفعالٌ كثيرةٌ أخرى مُحرَّمَةٌ كما سبَق الإشارةُ إليه، إلَّا أنَّ المُغالطةَ الكُبرى هي أنَّ هذا ليس هو مَحَلَّ النِّزاعِ أصلًا؛ فإنَّ مُنكِري المولِدِ لا يُنكِرونَ الصلاةَ على النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ولا مَدْحَه، بل هم يُصلُّون عليه دائمًا وأبدًا، وبخاصَّةٍ يومَ الجُمُعة، لكنْ إنكارُهم هو على الاجتِماعِ لذلك في يومٍ أو أيامٍ مَخصوصةٍ؛ لأنَّه لم يَرِدْ في السُّنَّةِ مطلقًا ولا مرَّةً واحدةً أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم اجتمَعَ مع أصحابِه رضِيَ اللهُ عنهم، أو اجتمَع أصحابُه مع بعضِهم في أيِّ مُناسَبةٍ مِن أجلِ الصلاةِ عليه أو مَدْحِه، فضلًا عن أنْ يكونَ ذلك في ليلةٍ مَخصوصةٍ.
الشُّبهةُ الخامِسةُ:
استِشهادُهم بالحديثِ الذي رواه التِّرمذيُّ وغيرُه عن بُريدةَ رضِيَ اللهُ عنه، وفيه: أنَّ جاريةً نذَرتْ أن تَضرِبَ بالدُّفِّ وتَتغنَّى بَينَ يَدَيِ رَسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم إنْ رَدَّه اللهُ سالِمًا من إحْدَى غَزواتِه، وأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال لها: «إنْ كُنتِ نَذرْتِ فاضْرِبي وإلَّا فَلا...» الحديثَ، وقالوا: هذا احتفالٌ وإعلانٌ للفرَحِ بقُدومِه صلَّى الله عليه وسلَّم من الغزوِ، وقد أَقرَّها النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم، والفرحُ بقُدومِه إلى الدُّنيا أعظمُ. فيا سُبحانَ اللهِ! ما أعظمَ كيدَ إبليسَ لهذه الأمَّةِ وتَلبيسَه عليها! يَستشهِدون بحادثةٍ واحدةٍ لم تَتكرَّرْ طِيلةَ حياةِ النبيِّ صلَّى الله عليه وآلِه وسلَّمَ ويَغفُلون عن ترْكِه وترْكِ صَحابتِه مِن بَعدِه للاحتفالِ بيومِ وِلادتِه مع تَكرارِه وعَودتِه مَرَّاتٍ كَثيرةً، ثم أهُمْ أعلمُ بفَضلِ قُدومِه إلى الدُّنيا على نجاتِه في الغزوةِ أم هذِه الصحابيةُ؟! لِمَ لَمْ تَنْذِرْ أن تَحتفِلَ وتفرَحَ بيومِ قُدومِه للدُّنيا بدلَ أن تَفرَحَ بيومِ نجاتِه وعودتِه من الغَزو؟! ثُمَّ إنَّ هذا ليس احتفالًا منها جمَعتْ له الناس، بل هو وفاءٌ لنذرٍ نَذَرتْه على نفْسِها فأوفَتْ بنذرِها، ولو كان احتِفالًا كاحتفِالِ المولِد لأعادَتْه كلَّ عامٍ كما يَفعَلُ أصحابُ الموالدِ.
الشُّبهةُ السَّادسةُ:
أنَّهم يَستدِلُّون على جوازِ الاحتفالِ بيومِ مولدِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم بما رواه البيهقيُّ في سُننه، عن أنسٍ رضِيَ الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم عقَّ عن نفْسِه بعدَ النُّبوَّة، ويقولون: هذا رسولُ الله قد عقَّ عن نفْسِه فرَحًا بمولدِه، مع أنَّ أبا طالبٍ قد عقَّ عنه يومَ وِلادتِه، وفي ذلك دَليلٌ على جوازِ تَكرارِ الفرحِ مَرَّةً بعدَ مرَّةٍ.
وهذا الحديثُ كما ذَكر البيهقيُّ نفْسُه عَقِبَه: (حديثٌ مُنكَر)، وقال النوويُّ في ((المجموع)) (8/431): (باطلٌ). وقال ابنُ حَجرٍ العسقلانيُّ في ((الفتح)) (9/509): (لا يَثبُت)؛ فسَقطَ الاحتجاجُ به أصلًا، على أنَّه لو ثبَتَ لم يكُن فيه دليلٌ أيضًا لهم؛ لاختِلافِ ما بين هذا الفِعلِ وما بَينَ الاحتِفالِ بالمولِدِ كلَّ عامٍ؛ فهو قياسٌ مع الفارِقِ.
وأعجَبُ من ذلك: استدلالُهم بعِتقِ أبي لَهَبٍ لمولاتِه ثُوَيبةَ الأَسلميَّةِ لَمَّا بشَّرتْه بمولدِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وأنَّه يُخفَّفُ عنه العذابُ بذلك، وقالوا: فإذا كان هذا في حقِّ الذي جاء القرآنُ بذَمِّه؛ يُخفَّفُ عنه العذابُ لفَرحِه بمولدِ المصطفَى؛ فما بالُك بمَن يَفرَحُ به صلَّى الله عليه وسلَّم وهو مُؤمِنٌ مُوحِّد؟!
وما أقبحَ أن يُستشهَدَ بفِعلِ كافرٍ في الجاهليَّةِ فرِحَ بمولدِ ابنِ أخٍ له في زَمنٍ كانوا يَفرَحون بالذَّكرِ ويَدفِنون الأُنثى خشيةَ العارِ! وهل فرِحَ به لأنَّه نبيُّ الله؟! وهل كان يَعلمُ أن سيُبعَثُ فيهم؟! وأنَّه سيَنزِلُ فيه قولُه تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1]؟!
ويُقالُ فيه ما قِيل فيما قَبْلَه: ليس النِّزاعُ في فَضلِ الفَرَحِ به صلَّى الله عليه وسلَّم وحبِّه وتوقيرِه، ولكنَّ النِّزاعَ في مشروعيَّةِ ما تَزعُمونَه حبًّا، وتُخالفون فيه هَدْيَه صلَّى الله عليه وسلَّم.
وأسوأُ من ذلك ما نقَله السَّخَاويُّ في ((الأجْوبة المَرْضِيَّة)) (3/ 1117) عن أحدِهم قائلًا: (إذا كان أهلُ الصَّليب اتَّخَذوا ليلةَ مَولِد نبيِّهم عيدًا أكبَر، فأهْلُ الإسْلامِ أَوْلَى بالتَّكريم وأجْدر)، ولا أجدُ في الرَّدِّ على هذا القَوْل أبلغَ ممَّا رواهُ البُخاريُّ ومُسلِمٌ في صحيحَيهما من حديثِ أبي سعيدٍ الخُدريِّ رضِيَ اللهُ عنه، عن رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قال: «لتتَّبعُنُّ سَننَ الَّذين من قبلِكم شِبرًا بشبرٍ، وذراعًا بذراعٍ، حتَّى لو دَخلوا في جُحرِ ضبٍّ لاتَّبعتموهم! قُلنا: يا رسولَ اللهِ، اليهودُ والنَّصارَى؟ قال: فمَن»؟!.
يتبع