ابو وليد البحيرى
2020-10-06, 03:48 AM
المقصود بنكاح الشغار وحكمه
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهدِهِ الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ أما بعد:
المقصود بنكاح الشِّغار لُغةً واصطلاحًا:
الشِّغار في اللغة هو: الخلوُّ، وأصله مأخوذ من شغور الكلب، يُقال: شَغَرَ الكلب، إذا رفع إحدى رجليه للبول لخلو الأرض منها، وسُمِّيَ بهذا الاسم تقبيحًا له.
ومنه شغر المكان: إذا خلا ولم يكن فيه أحد.
ومنه بلد شاغر: إذا خلا من سلطان، وأمرٌ شاغرٌ: إذا خلا من مُدبِّر.
ومنه قول: وظيفة شاغرة؛ أي: وظيفة خالية.
ولذلك سُمِّيَ نكاح الشِّغار بهذا الاسم لخُلوِّه عن المهر.
قال ابن قدامة رحمه الله: "إنما سُمِّيَ شِغارًا لقُبْحِهِ؛ تشبيهًا برفع الكلب رجله ليبول في القُبح، يُقال: شغر الكلب: إذا رفع رجله ليبول.
وحُكي عن الأصمعي أنه قال: الشِّغار: الرَّفع، فكأن كل واحد منهما رفع رجله للآخر عما يُريد"[1].
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "الشِّغار مصدر شاغر يُشاغر شغارًا، ونظيره في التصريف: قاتل يُقاتل قتالًا، إذًا لا بد من طرفين، وهو مُشتق؛ إما من الشُّغور وهو الخُلوُّ، وإما من شغرَ الكلب إذا رفع رجله ليبول، ويمكن أن يُقال: لا مانع من أن يكون مُشتقًّا من المعنيين جميعًا؛ لأن فيه شغورًا وشغرًا، فلا مانع من أن يكون مُشتقًّا منها جميعًا"[2].
أما نكاح الشِّغار أو ما يُسمِّيه الناس (زواج البدل)، فهو في اصطلاح العلماء: أن يزوِّج الرجل ابنته أو أخته أو غيرهما ممن له الولاية عليها، بشرط أن يُزوِّجه الآخر ابنته أو أخته، وليس بينهما صَدَاقٌ.
ومعنى "ليس بينهما صداق"؛ أي: يكون تزويج كلٍّ منهما مهرًا للأخرى؛ أي: جعل بُضْعَ كلٍّ منهما صداقًا للأخرى، والبُضْعُ هو الفَرْجُ.
قال الجوهري: "والشِّغار بكسر الشين: نكاح كان في الجاهلية، وهو أن يقول الرجل لآخر: زوِّجني ابنتك أو أختك على أن أُزوِّجك أختي أو ابنتي، على أن صداق كل واحدة منهما بضع الأخرى، كأنهما رفعا المهر، وأخليا البضع عنه"[3].
قال ابن الأثير رحمه الله: "وهو نكاح معروف في الجاهلية، كان يقول الرجل للرجل: شاغرني؛ أي: زوجني أختك أو بنتك أو مَن تلي أمرها، حتى أُزوِّجك أختي أو بنتي أو من أَلِي أمره،ا ولا يكون بينهما مهر، ويكون بُضْعُ كل واحدة منهما في مقابلة بضع الأخرى، وقيل له الشِّغار؛ لارتفاع المهر بينهما، ولأن كل واحد منهما يسفر أي: يرفع الرجل للوطْءِ، من شغر الكلب: إذا رفع إحدى رجليه ليبول"[4].
وقد اتفق العلماء على هذا المعنى لنكاح الشِّغار.
قال النووي رحمه الله: "وأجمع العُلماء على أنه منهِيٌّ عنه".
وقال ابن عبدالبر رحمه الله: "وأما معناه في الشريعة: فهو أن ينكح الرجل وليَّتَه رجلًا، على أن يُنكِحَهُ الآخر وليَّتَهُ، ولا صداق بينهما إلا بضع هذه ببضع هذه، على ما فسره مالك وجماعة الفقهاء"[5].
وقال أيضًا رحمه الله: "وهذا ما لا خلاف بين العلماء فيه أنه الشِّغار المنهي عنه في هذا الحديث"[6].
وقال ابن رشد رحمه الله: "فأما نكاح الشِّغار، فإنهم اتفقوا على أن صفته هو أن ينكح الرجل وليته رجلًا آخر، على أن يُنكحه الآخر وليته، ولا صداق بينهما إلا بضع هذه ببضع الأخرى، واتفقوا على أنه نكاح غير جائز؛ لثبوت النهي عنه"[7].
والمذهب عند الحنفية يُوافق ما عليه جُمهور العُلماء على أن هذه الصورة من النكاح منهيٌّ عنها ولا تجوز، إلا أنهم يُصححون النكاح، ويُوجِبون فيه مهر المثل لكل واحدة منهما[8].
وهذا النكاح ورد فيه النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فعن ابن عمر رضي الله عنهما: (( «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشِّغار، والشِّغار أن يُزوِّجَ الرجل ابنته على أن يُزوِّجه الآخر ابنته ليس بينهما صداق» ))[9].
وفي لفظ: ((لا شِّغار في الإسلام))[10].
تنبيه: قول: (والشِّغار أن يُزوج الرجل ابنته على أن يُزوجه الآخر ابنته ليس بينهما صداق) ليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من قول أحد الرواة، قيل: هو من تفسير ابن عمر، وقيل: هو من تفسير نافع، وقيل: هو من تفسير الإمام مالك، على خلاف بين العُلماء.
والراجح أنه من تفسير نافع رحمه الله لحديث عبيدالله بن عمر العمري، قال: حدثني نافع عن عبدالله رضي الله عنه: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشِّغار))، قلت لنافع: ما الشِّغار؟ قال: "ينكح ابنة الرجل ويُنكحه ابنته بغير صداق، وينكح أخت الرجل ويُنكحه أخته بغير صداق"[11].
وعن عبيدالله بن عمر العمري عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشِّغار - زاد ابن نمير: والشِّغار أن يقول الرجل للرجل: زوِّجنى ابنتك وأُزوجك ابنتي، أو زوجني أختك وأُزوجك أختي))[12].
وأيضًا تفسير الشِّغار في هذا الحديث ليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من قول أحد الرواة؛ قيل: هو من تفسير عبيدالله بن عمر العمري أحد رواة الحديث.
وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشِّغار))[13].
علَّةُ النهي عن نكاح الشِّغار:
اختلف العُلماء في علة النهي:
فقيل: إن العِلة هي خلوُّه من ذكر الصداق، وجعل بضع كل واحدة مهرًا للأخرى.
ويترتب على ذلك أنها لا تنتفع بصداقها؛ لأن نفعه عاد إلى الولي، وهو ملكه لبضع زوجته بتمليكه لبضع موليته، وهذا فيه ظُلمٌ لكل واحدة من المرأتين؛ لخلوِّ النكاح عن مهرها الذي تنتفع به.
وقيل: إن علة النهي أنه إنكاح مُشترط؛ أي: إن كل واحد من الرجلين مُشترط فيه أن ينكحه الآخر موليته، وكأنه يقول: لا ينعقد زواج ابنتي حتى ينعقد زواج ابنتك.
قال ابن القيم رحمه الله: "واختُلف في علة النهي؛ فقيل: هي جَعْلُ كل واحد من العقدين شرطًا في الآخر.
وقيل: العلة التشريك في البضع، وجعل بضع كل واحدة مهرًا للأخرى، وهي لا تنتفع به، فلم يرجع إليها المهر، بل عاد المهر إلى الولي، وهو مُلكه لبضع زوجته بتمليكه لبضع موليته، وهذا ظلم لكل واحدة من المرأتين، وإخلاء لنكاحهما عن مهر تنتفع به، وهذا هو الموافق للغة العرب؛ فإنهم يقولون: بلد شاغر من أمير، ودار شاغرة من أهلها: إذا خلت، وشغر الكلب: إذا رفع رجله وأخلى مكانها، فإذا سمَّوا مهرًا مع ذلك، زال المحذور ولم يبقَ إلا اشتراط كل واحد على الآخر شرطًا لا يُؤثر في فساد العقد، فهذا منصوص أحمد"[14].
حكم نكاح الشغار:
اختلف العُلماء في هذا النهي الوارد في الأحاديث السابقة: هل هو للتحريم أو للكراهة؟ وهل يبطل النكاح بذلك ويجب فسخه أو لا؟ على قولين:
القول الأول:
أنه نكاح مُحرَّم وباطل، ويجب فسخه قبل الدخول وبعده، وهو قول جُمهور العُلماء من المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية.
واستدلوا بالنهي الوارد في الأحاديث السابقة؛ حديث ابن عمر، وحديث أبي هريرة، وحديث جابر رضي الله عنهم.
وقالوا: نهيه صلى الله عليه وسلم عن الشِّغار في هذه الأحاديث يدل على فساده قبل الدخول وبعده، ما دام لم يُسَمَّ الصداق؛ لأن النهي يقتضي فساد المنهِيِّ عنه.
سُئل الإمام مالك رحمه الله: "أرأيت نكاح الشِّغار إذا وقع فدخلا بالنساء، وأقاما معهما حتى ولدتا أولادًا، أيكون ذلك جائزًا أم يُفسخ؟ قال: قال مالك: يُفسخ على كل حال"[15].
وقال الشافعي رحمه الله: "فإذا أنكح الرجل ابنته أو المرأة يلي أمرها من كانت، على أن ينكحه ابنته أو المرأة يلي أمرها من كانت، على أن صداق كل واحدة منهما بضع الأخرى، ولم يُسِمَّ لواحدة منهما صداق - فهذا الشِّغار الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يحل النكاح، وهو مفسوخ"[16].
وقال ابن قدامة رحمه الله: "ولا تختلف الرواية عن أحمد في أن نكاح الشِّغار فاسد"[17].
وقال ابن عبدالبر رحمه الله: "ولا يصح عقد هذا النكاح ويُفسخ قبل البناء وبعده"[18].
وقال ابن حزم رحمه الله: "لا يحلُّ نكاح الشِّغار: وهو أن يتزوج هذا ولية هذا، على أن يُزوجه الآخر وليَّته أيضًا؛ سواء ذكرا في كل ذلك صداقًا لكل واحدة منهما، أو لإحداهما دون الأخرى، أو لم يذكرا في شيء مِن ذلك صداقًا، كل ذلك سواء يُفسخ أبدًا، ولا نفقة فيه، ولا ميراث، ولا صداق"[19].
القول الثاني:
أنه نكاح صحيح غير أنه مكروه تحريمًا، وللمرأة مهر المثل، وهو قول الحنفية، وبه قال الزهري والثوري.
وحملوا النهي الوارد على الكراهة، والكراهة لا تُوجِب فساد العقد.
أي: إن النهي فيه متوجِّهٌ إلى الصداق دون النكاح، وفساد الصداق لا يوجب فساد النكاح.
قال ابن عابدين رحمه الله: "أن مُتعلق النهي مُسمَّى الشِّغار المأخوذ في مفهومه خلوه عن المهر، وكون البضع صداقًا، ونحن قائلون بنفي هذه الماهية، وما يصدق عليها شرعًا، فلا نُثبِتُ النكاح كذلك، بل نُبطله فيبقى نكاحًا مسمًّى فيه ما لا يصلح مهرًا، فينعقد موجبًا لمهر المثل كالمُسمَّى فيه خمر أو خنزير؛ لأن ما هو مُتعلق النهي به لم نُثبته، وما أثبتناه لم يتعلق به، بل اقتضت العمومات صحته"[20].
وقد رد ابن قدامة رحمه الله على هذا التعليل بأن المُفسِدَ في نكاح الشِّغار ليس عدم التسوية، بدليل نكاح المُفوضة، فدل على أن المُفسد هو الشرط وقد وُجد، ولأنه سلف في عقد فلم يصح.
الترجيح:
الراجح في هذه المسألة هو ما ذهب إليه جمهور العلماء من بطلان نكاح الشِّغار ووجوب فسخه؛ لأن النهي في الأحاديث يعود على نفس العقد بالإبطال، والعلة في النهي هي خلو العقد من المهر.
قال الترمذي رحمه الله: "والعمل على هذا عند عامة أهل العلم، لا يَرَون نكاح الشِّغار، والشِّغار: أن يُزوِّج الرجل ابنته على أن يُزوِّجه الآخر ابنته أو أخته ولا صداق بينهما.
وقال بعض أهل العلم: نكاح الشِّغار مفسوخ ولا يحل، وإن جعلا بينهما صداقًا، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق، ورُوي عن عطاء بن أبي رباح أنه قال: يُقرَّان على نكاحهما، ويُجعل لهما صداق المثل، وهو قول أهل الكوفة"[21].
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "قوله: وإذا زوجه وليته على أن يزوجه الآخر وليته، ففعلا ولا مهرَ، بطل النكاحان، هذا من الشروط الفاسدة المُفسِدة، (إذا زوجه وليته)؛ أي: من له ولاية عليها، ففعيل هنا بمعنى مفعول؛ أي: موليته، (على أن يزوجه الآخر وليته)؛ يعني: من له ولاية عليها من بنت، وأخت، وعمة، والجدة إن كانت من جهة الأم فلا ولاية له عليها، وإن كانت من جهة الأب فهو ابنُ ابنٍ، فله ولاية عليها.
وقوله: (على): أي: بشرط، (أن يُزوجه الآخر وليته ولا مهر بينهما)، والمهر هو الصداق الذي يدفع بعقد النكاح، (بطل النكاحان): كلٌّ منهما يبطل، والدليل أثر ونظر؛ أما الأثر: فهو ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح الشِّغار))، وفسر الشِّغار بأن يُزوجه موليته على أن يُزوجه الآخر موليته، ولا مهر بينهما، وأما التعليل فمن ثلاثة أوجه:
أولًا: أنه في هذه الحال جعل مهر كل واحدة بضع الأخرى، فهل هذا ابتغى بماله أو ابتغى بفَرْجِ موليته؟
الجواب: ابتغى بفرج موليته؛ والله تعالى يقول: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ } [النساء: 24]؛ يعني: أن تطلبوا النكاح بأموالكم، وهذا الرجل طلب النكاح بفرج موليته، فجعل فرج موليته هو المهر.
يتبع
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهدِهِ الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ أما بعد:
المقصود بنكاح الشِّغار لُغةً واصطلاحًا:
الشِّغار في اللغة هو: الخلوُّ، وأصله مأخوذ من شغور الكلب، يُقال: شَغَرَ الكلب، إذا رفع إحدى رجليه للبول لخلو الأرض منها، وسُمِّيَ بهذا الاسم تقبيحًا له.
ومنه شغر المكان: إذا خلا ولم يكن فيه أحد.
ومنه بلد شاغر: إذا خلا من سلطان، وأمرٌ شاغرٌ: إذا خلا من مُدبِّر.
ومنه قول: وظيفة شاغرة؛ أي: وظيفة خالية.
ولذلك سُمِّيَ نكاح الشِّغار بهذا الاسم لخُلوِّه عن المهر.
قال ابن قدامة رحمه الله: "إنما سُمِّيَ شِغارًا لقُبْحِهِ؛ تشبيهًا برفع الكلب رجله ليبول في القُبح، يُقال: شغر الكلب: إذا رفع رجله ليبول.
وحُكي عن الأصمعي أنه قال: الشِّغار: الرَّفع، فكأن كل واحد منهما رفع رجله للآخر عما يُريد"[1].
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "الشِّغار مصدر شاغر يُشاغر شغارًا، ونظيره في التصريف: قاتل يُقاتل قتالًا، إذًا لا بد من طرفين، وهو مُشتق؛ إما من الشُّغور وهو الخُلوُّ، وإما من شغرَ الكلب إذا رفع رجله ليبول، ويمكن أن يُقال: لا مانع من أن يكون مُشتقًّا من المعنيين جميعًا؛ لأن فيه شغورًا وشغرًا، فلا مانع من أن يكون مُشتقًّا منها جميعًا"[2].
أما نكاح الشِّغار أو ما يُسمِّيه الناس (زواج البدل)، فهو في اصطلاح العلماء: أن يزوِّج الرجل ابنته أو أخته أو غيرهما ممن له الولاية عليها، بشرط أن يُزوِّجه الآخر ابنته أو أخته، وليس بينهما صَدَاقٌ.
ومعنى "ليس بينهما صداق"؛ أي: يكون تزويج كلٍّ منهما مهرًا للأخرى؛ أي: جعل بُضْعَ كلٍّ منهما صداقًا للأخرى، والبُضْعُ هو الفَرْجُ.
قال الجوهري: "والشِّغار بكسر الشين: نكاح كان في الجاهلية، وهو أن يقول الرجل لآخر: زوِّجني ابنتك أو أختك على أن أُزوِّجك أختي أو ابنتي، على أن صداق كل واحدة منهما بضع الأخرى، كأنهما رفعا المهر، وأخليا البضع عنه"[3].
قال ابن الأثير رحمه الله: "وهو نكاح معروف في الجاهلية، كان يقول الرجل للرجل: شاغرني؛ أي: زوجني أختك أو بنتك أو مَن تلي أمرها، حتى أُزوِّجك أختي أو بنتي أو من أَلِي أمره،ا ولا يكون بينهما مهر، ويكون بُضْعُ كل واحدة منهما في مقابلة بضع الأخرى، وقيل له الشِّغار؛ لارتفاع المهر بينهما، ولأن كل واحد منهما يسفر أي: يرفع الرجل للوطْءِ، من شغر الكلب: إذا رفع إحدى رجليه ليبول"[4].
وقد اتفق العلماء على هذا المعنى لنكاح الشِّغار.
قال النووي رحمه الله: "وأجمع العُلماء على أنه منهِيٌّ عنه".
وقال ابن عبدالبر رحمه الله: "وأما معناه في الشريعة: فهو أن ينكح الرجل وليَّتَه رجلًا، على أن يُنكِحَهُ الآخر وليَّتَهُ، ولا صداق بينهما إلا بضع هذه ببضع هذه، على ما فسره مالك وجماعة الفقهاء"[5].
وقال أيضًا رحمه الله: "وهذا ما لا خلاف بين العلماء فيه أنه الشِّغار المنهي عنه في هذا الحديث"[6].
وقال ابن رشد رحمه الله: "فأما نكاح الشِّغار، فإنهم اتفقوا على أن صفته هو أن ينكح الرجل وليته رجلًا آخر، على أن يُنكحه الآخر وليته، ولا صداق بينهما إلا بضع هذه ببضع الأخرى، واتفقوا على أنه نكاح غير جائز؛ لثبوت النهي عنه"[7].
والمذهب عند الحنفية يُوافق ما عليه جُمهور العُلماء على أن هذه الصورة من النكاح منهيٌّ عنها ولا تجوز، إلا أنهم يُصححون النكاح، ويُوجِبون فيه مهر المثل لكل واحدة منهما[8].
وهذا النكاح ورد فيه النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فعن ابن عمر رضي الله عنهما: (( «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشِّغار، والشِّغار أن يُزوِّجَ الرجل ابنته على أن يُزوِّجه الآخر ابنته ليس بينهما صداق» ))[9].
وفي لفظ: ((لا شِّغار في الإسلام))[10].
تنبيه: قول: (والشِّغار أن يُزوج الرجل ابنته على أن يُزوجه الآخر ابنته ليس بينهما صداق) ليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من قول أحد الرواة، قيل: هو من تفسير ابن عمر، وقيل: هو من تفسير نافع، وقيل: هو من تفسير الإمام مالك، على خلاف بين العُلماء.
والراجح أنه من تفسير نافع رحمه الله لحديث عبيدالله بن عمر العمري، قال: حدثني نافع عن عبدالله رضي الله عنه: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشِّغار))، قلت لنافع: ما الشِّغار؟ قال: "ينكح ابنة الرجل ويُنكحه ابنته بغير صداق، وينكح أخت الرجل ويُنكحه أخته بغير صداق"[11].
وعن عبيدالله بن عمر العمري عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشِّغار - زاد ابن نمير: والشِّغار أن يقول الرجل للرجل: زوِّجنى ابنتك وأُزوجك ابنتي، أو زوجني أختك وأُزوجك أختي))[12].
وأيضًا تفسير الشِّغار في هذا الحديث ليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من قول أحد الرواة؛ قيل: هو من تفسير عبيدالله بن عمر العمري أحد رواة الحديث.
وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشِّغار))[13].
علَّةُ النهي عن نكاح الشِّغار:
اختلف العُلماء في علة النهي:
فقيل: إن العِلة هي خلوُّه من ذكر الصداق، وجعل بضع كل واحدة مهرًا للأخرى.
ويترتب على ذلك أنها لا تنتفع بصداقها؛ لأن نفعه عاد إلى الولي، وهو ملكه لبضع زوجته بتمليكه لبضع موليته، وهذا فيه ظُلمٌ لكل واحدة من المرأتين؛ لخلوِّ النكاح عن مهرها الذي تنتفع به.
وقيل: إن علة النهي أنه إنكاح مُشترط؛ أي: إن كل واحد من الرجلين مُشترط فيه أن ينكحه الآخر موليته، وكأنه يقول: لا ينعقد زواج ابنتي حتى ينعقد زواج ابنتك.
قال ابن القيم رحمه الله: "واختُلف في علة النهي؛ فقيل: هي جَعْلُ كل واحد من العقدين شرطًا في الآخر.
وقيل: العلة التشريك في البضع، وجعل بضع كل واحدة مهرًا للأخرى، وهي لا تنتفع به، فلم يرجع إليها المهر، بل عاد المهر إلى الولي، وهو مُلكه لبضع زوجته بتمليكه لبضع موليته، وهذا ظلم لكل واحدة من المرأتين، وإخلاء لنكاحهما عن مهر تنتفع به، وهذا هو الموافق للغة العرب؛ فإنهم يقولون: بلد شاغر من أمير، ودار شاغرة من أهلها: إذا خلت، وشغر الكلب: إذا رفع رجله وأخلى مكانها، فإذا سمَّوا مهرًا مع ذلك، زال المحذور ولم يبقَ إلا اشتراط كل واحد على الآخر شرطًا لا يُؤثر في فساد العقد، فهذا منصوص أحمد"[14].
حكم نكاح الشغار:
اختلف العُلماء في هذا النهي الوارد في الأحاديث السابقة: هل هو للتحريم أو للكراهة؟ وهل يبطل النكاح بذلك ويجب فسخه أو لا؟ على قولين:
القول الأول:
أنه نكاح مُحرَّم وباطل، ويجب فسخه قبل الدخول وبعده، وهو قول جُمهور العُلماء من المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية.
واستدلوا بالنهي الوارد في الأحاديث السابقة؛ حديث ابن عمر، وحديث أبي هريرة، وحديث جابر رضي الله عنهم.
وقالوا: نهيه صلى الله عليه وسلم عن الشِّغار في هذه الأحاديث يدل على فساده قبل الدخول وبعده، ما دام لم يُسَمَّ الصداق؛ لأن النهي يقتضي فساد المنهِيِّ عنه.
سُئل الإمام مالك رحمه الله: "أرأيت نكاح الشِّغار إذا وقع فدخلا بالنساء، وأقاما معهما حتى ولدتا أولادًا، أيكون ذلك جائزًا أم يُفسخ؟ قال: قال مالك: يُفسخ على كل حال"[15].
وقال الشافعي رحمه الله: "فإذا أنكح الرجل ابنته أو المرأة يلي أمرها من كانت، على أن ينكحه ابنته أو المرأة يلي أمرها من كانت، على أن صداق كل واحدة منهما بضع الأخرى، ولم يُسِمَّ لواحدة منهما صداق - فهذا الشِّغار الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يحل النكاح، وهو مفسوخ"[16].
وقال ابن قدامة رحمه الله: "ولا تختلف الرواية عن أحمد في أن نكاح الشِّغار فاسد"[17].
وقال ابن عبدالبر رحمه الله: "ولا يصح عقد هذا النكاح ويُفسخ قبل البناء وبعده"[18].
وقال ابن حزم رحمه الله: "لا يحلُّ نكاح الشِّغار: وهو أن يتزوج هذا ولية هذا، على أن يُزوجه الآخر وليَّته أيضًا؛ سواء ذكرا في كل ذلك صداقًا لكل واحدة منهما، أو لإحداهما دون الأخرى، أو لم يذكرا في شيء مِن ذلك صداقًا، كل ذلك سواء يُفسخ أبدًا، ولا نفقة فيه، ولا ميراث، ولا صداق"[19].
القول الثاني:
أنه نكاح صحيح غير أنه مكروه تحريمًا، وللمرأة مهر المثل، وهو قول الحنفية، وبه قال الزهري والثوري.
وحملوا النهي الوارد على الكراهة، والكراهة لا تُوجِب فساد العقد.
أي: إن النهي فيه متوجِّهٌ إلى الصداق دون النكاح، وفساد الصداق لا يوجب فساد النكاح.
قال ابن عابدين رحمه الله: "أن مُتعلق النهي مُسمَّى الشِّغار المأخوذ في مفهومه خلوه عن المهر، وكون البضع صداقًا، ونحن قائلون بنفي هذه الماهية، وما يصدق عليها شرعًا، فلا نُثبِتُ النكاح كذلك، بل نُبطله فيبقى نكاحًا مسمًّى فيه ما لا يصلح مهرًا، فينعقد موجبًا لمهر المثل كالمُسمَّى فيه خمر أو خنزير؛ لأن ما هو مُتعلق النهي به لم نُثبته، وما أثبتناه لم يتعلق به، بل اقتضت العمومات صحته"[20].
وقد رد ابن قدامة رحمه الله على هذا التعليل بأن المُفسِدَ في نكاح الشِّغار ليس عدم التسوية، بدليل نكاح المُفوضة، فدل على أن المُفسد هو الشرط وقد وُجد، ولأنه سلف في عقد فلم يصح.
الترجيح:
الراجح في هذه المسألة هو ما ذهب إليه جمهور العلماء من بطلان نكاح الشِّغار ووجوب فسخه؛ لأن النهي في الأحاديث يعود على نفس العقد بالإبطال، والعلة في النهي هي خلو العقد من المهر.
قال الترمذي رحمه الله: "والعمل على هذا عند عامة أهل العلم، لا يَرَون نكاح الشِّغار، والشِّغار: أن يُزوِّج الرجل ابنته على أن يُزوِّجه الآخر ابنته أو أخته ولا صداق بينهما.
وقال بعض أهل العلم: نكاح الشِّغار مفسوخ ولا يحل، وإن جعلا بينهما صداقًا، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق، ورُوي عن عطاء بن أبي رباح أنه قال: يُقرَّان على نكاحهما، ويُجعل لهما صداق المثل، وهو قول أهل الكوفة"[21].
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "قوله: وإذا زوجه وليته على أن يزوجه الآخر وليته، ففعلا ولا مهرَ، بطل النكاحان، هذا من الشروط الفاسدة المُفسِدة، (إذا زوجه وليته)؛ أي: من له ولاية عليها، ففعيل هنا بمعنى مفعول؛ أي: موليته، (على أن يزوجه الآخر وليته)؛ يعني: من له ولاية عليها من بنت، وأخت، وعمة، والجدة إن كانت من جهة الأم فلا ولاية له عليها، وإن كانت من جهة الأب فهو ابنُ ابنٍ، فله ولاية عليها.
وقوله: (على): أي: بشرط، (أن يُزوجه الآخر وليته ولا مهر بينهما)، والمهر هو الصداق الذي يدفع بعقد النكاح، (بطل النكاحان): كلٌّ منهما يبطل، والدليل أثر ونظر؛ أما الأثر: فهو ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح الشِّغار))، وفسر الشِّغار بأن يُزوجه موليته على أن يُزوجه الآخر موليته، ولا مهر بينهما، وأما التعليل فمن ثلاثة أوجه:
أولًا: أنه في هذه الحال جعل مهر كل واحدة بضع الأخرى، فهل هذا ابتغى بماله أو ابتغى بفَرْجِ موليته؟
الجواب: ابتغى بفرج موليته؛ والله تعالى يقول: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ } [النساء: 24]؛ يعني: أن تطلبوا النكاح بأموالكم، وهذا الرجل طلب النكاح بفرج موليته، فجعل فرج موليته هو المهر.
يتبع