ابو وليد البحيرى
2020-09-30, 07:56 PM
التعامل مع الواقع بين اعتزاله والغلو فيه
ارتضى الله تعالى لهذه الأمة دينًا يَصونها ويَحفظها مِن الانزلاق في هوَّة الشائعات، ونشر الفوضى، وتناول الأخبار والنقولات دون تثبُّت أو توثيق، وكذلك صيانتها من الغلوِّ في الاستسلام للعواطف دون لاجمٍ من دين أو عقل.
مِن محاسن الإسلام صيانته للمجتمع المسلم من الانزلاق في هوَّة الشائعات، ونشر الفوضى، وتناول الأخبار والنقولات دون توثيق، وكذلك صيانته من الغلوِّ في الاستسلام للعواطف دون لاجمٍ مِن قُرآن أو سنَّة، وصيانته كذلك بالتحذير من اعتزال أحوال المسلمين وهمومهم برُمَّتها، أو انفلات الحَماسة دون عقال مِن عقْل أو دين، كل ذلك عُدَّ حفظًا للدِّين والأعراض، وحفظًا للأمة مِن الضعف وتَسرُّب الوهن إلى أفرادها؛ فإن هذه الآفات تُوهن الأمَّةَ، وتُضعف العلاقات، وتُوغر الصدور، وقد جاءت معالجة هذه القضيَّة في الإسلام وفق قواعد شرعيَّة واضحة، ولا شكَّ أن أصحاب هذه المهمَّة المعنيين بهذا الدَّور هم أهل العلم والغيرة على هذا الدِّين، وكلُّ مَن نحا نحوهم.
ولو أُفرد لكلِّ آفة مِن هذه الآفات حديث، لطال المقام جدًّا، ولكن حسبنا مِن ذلك المرور بما يُناسب المختصر.
أما الخَوض في الشائعات، فهو محرَّم بأصل الشرع، فقد أخرج مُسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء كَذبًا أن يُحدِّثَ بكُلِّ ما سَمِعَ» [1]، وقد ألزم الشرعُ المسلمَ التؤدة وعدم العجلة في نقل الأخبار، وجعل ذلك أمرًا مفروضًا، وجعل الله تعالى إذاعة الشائعات صفةً مِن صفات المنافقين، فقال جل شأنه في كتابه: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَ هُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]، فالتسابق إلى نقل الأخبار السيئة وإشاعتها ليس مِن صفة المؤمنين، بل وصَفَهم الله تعالى بالفسق، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]، والتبيُّن هنا في حق مَن يَعنيه الأمر، فليس على المجتمع أن يَنشغِل في البحث والتحقُّق والتبيُّن مِن كلِّ مسألة وخبر.
وتكفي نظرة على صفحات ووسائل التواصل الاجتماعي، ليُدرك المنصف أن ثَمة خللًا كبيرًا في تناول الأخبار المظنونة، وتلقي الأنباء مجهولة المصدر، فلا تثبُّت تراه عند القوم ولا تؤدة، بل تجد تبادُلَ النقولات من المكتوب والمصوَّر والمرئي دون توثيق أو تثبُّت.
فيتكلَّم الإنسان بكل قول سمعَه، يتلقَّاه لسانه قبل أن تتلقاه أذنُه، وقبل أن يَعرضه على قلبه، حتى يعلم هل هو صحيح أم باطل؟ ومما يَزيد الأمرَ دهشةً أن مِن هؤلاء من يعلم تمام العلم أن كثيرًا من هذه المنشورات مزيَّفة وملفَّقة وخدَّاعة، لا سيما وقد أصبح التلاعُب بالصور والمرئيات أمرًا سهلًا ميسورًا بما يُوهم أنه حقيقة، وما هو إلا أكاذيب محضَة، وسرابٌ بِقِيعة يَحسبُه الظمآن ماءً، والواقع يَشهد بذلك.
ومن نظر إلى العالَم اليوم ومشكلاته ووقوع التنافر بين أبناء البلد الواحد وصراعاته، سيجد جُلَّها من وراء تلك الأكاذيب، ولو أنهم رَدُّوا ذلك إلى ما أمر الله ورسوله به من التبيُّن والتثبُّت، لسُدَّت أبواب شرٍّ كثيرة، ولكان خيرًا لهم وأقوَم.
بلإنَّ الانزلاق وراء تلك الشائعات يُفضي ولا بدَّ إلى التَّجسُّس وتتبُّع العورات، والتجسُّسُ هو: البحثُ عن عيوبِ المسلمين وعَورتهم؛ قال تعالى: {وَلَا تَجَسَّسُوا}، فقد رُوي عن معاوية رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّك إن اتَّبعت عَوْرَاتِ النَّاس، أفسدتهم، أو كدتَ أن تُفسدَهم» [2].
ولو كان ذلك في أعراض أهل العلم، لكان أشدَّ إثمًا وأعظم بهتانًا؛ إذ لُحومهم مسمومة، وسنة الله في منتقصِهم معلومة، فعلى أولئك الذين يتتبَّعون الشائعات والمثالب، ويَبحثون عن الأخطاء والمَعايب، أن يتَّقوا الله، ويَعلموا أن الله بكلِّ شيء محيط.
••
أما عن اعتِزال أمور المسلمين، والتنكُّر لآمالهم وآلامِهم وهُمومهم، وكأنَّ القوم لا يَعنيهم الأمر، فهو في الحقيقة نقْصٌ عندهم في التربية، وخللٌ في انتمائهم لأمتهم.
"فلا تَجد في تصرُّفاتهم وأفعالهم عنايةً بهذا الشأن العام، فلا هم يَهتمون بآمالهم، ولا يتألمون لآلامِهم، ولا يذكرون ما هم فيه مِن المشكلات والأزمات، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتأثر عندما يبلغه ضرر يَصلُ إلى مسلم، حتى إنه صلى الله عليه وسلم لما جاءت الدافَّة إلى المدينة جعل يَدخُل ويَخرُج وقد احمرت وجنتاه واغرورقت عيناه، ثم صعد المنبر فقال: «تصدَّق امرؤ مِن درهمه، مِن ديناره، مِن صاع بُرِّه، مِن صاع تَمره»، حتى جمع لأولئك الدافَّة مالًا عظيمًا فقسمه بينهم، فكان صلى الله عليه وسلم يهتمُّ بأمر الضعَفة والمُستضعَفين من المسلمين[3].
يتبع
كتبه: شتا محمد
ارتضى الله تعالى لهذه الأمة دينًا يَصونها ويَحفظها مِن الانزلاق في هوَّة الشائعات، ونشر الفوضى، وتناول الأخبار والنقولات دون تثبُّت أو توثيق، وكذلك صيانتها من الغلوِّ في الاستسلام للعواطف دون لاجمٍ من دين أو عقل.
مِن محاسن الإسلام صيانته للمجتمع المسلم من الانزلاق في هوَّة الشائعات، ونشر الفوضى، وتناول الأخبار والنقولات دون توثيق، وكذلك صيانته من الغلوِّ في الاستسلام للعواطف دون لاجمٍ مِن قُرآن أو سنَّة، وصيانته كذلك بالتحذير من اعتزال أحوال المسلمين وهمومهم برُمَّتها، أو انفلات الحَماسة دون عقال مِن عقْل أو دين، كل ذلك عُدَّ حفظًا للدِّين والأعراض، وحفظًا للأمة مِن الضعف وتَسرُّب الوهن إلى أفرادها؛ فإن هذه الآفات تُوهن الأمَّةَ، وتُضعف العلاقات، وتُوغر الصدور، وقد جاءت معالجة هذه القضيَّة في الإسلام وفق قواعد شرعيَّة واضحة، ولا شكَّ أن أصحاب هذه المهمَّة المعنيين بهذا الدَّور هم أهل العلم والغيرة على هذا الدِّين، وكلُّ مَن نحا نحوهم.
ولو أُفرد لكلِّ آفة مِن هذه الآفات حديث، لطال المقام جدًّا، ولكن حسبنا مِن ذلك المرور بما يُناسب المختصر.
أما الخَوض في الشائعات، فهو محرَّم بأصل الشرع، فقد أخرج مُسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء كَذبًا أن يُحدِّثَ بكُلِّ ما سَمِعَ» [1]، وقد ألزم الشرعُ المسلمَ التؤدة وعدم العجلة في نقل الأخبار، وجعل ذلك أمرًا مفروضًا، وجعل الله تعالى إذاعة الشائعات صفةً مِن صفات المنافقين، فقال جل شأنه في كتابه: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَ هُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]، فالتسابق إلى نقل الأخبار السيئة وإشاعتها ليس مِن صفة المؤمنين، بل وصَفَهم الله تعالى بالفسق، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]، والتبيُّن هنا في حق مَن يَعنيه الأمر، فليس على المجتمع أن يَنشغِل في البحث والتحقُّق والتبيُّن مِن كلِّ مسألة وخبر.
وتكفي نظرة على صفحات ووسائل التواصل الاجتماعي، ليُدرك المنصف أن ثَمة خللًا كبيرًا في تناول الأخبار المظنونة، وتلقي الأنباء مجهولة المصدر، فلا تثبُّت تراه عند القوم ولا تؤدة، بل تجد تبادُلَ النقولات من المكتوب والمصوَّر والمرئي دون توثيق أو تثبُّت.
فيتكلَّم الإنسان بكل قول سمعَه، يتلقَّاه لسانه قبل أن تتلقاه أذنُه، وقبل أن يَعرضه على قلبه، حتى يعلم هل هو صحيح أم باطل؟ ومما يَزيد الأمرَ دهشةً أن مِن هؤلاء من يعلم تمام العلم أن كثيرًا من هذه المنشورات مزيَّفة وملفَّقة وخدَّاعة، لا سيما وقد أصبح التلاعُب بالصور والمرئيات أمرًا سهلًا ميسورًا بما يُوهم أنه حقيقة، وما هو إلا أكاذيب محضَة، وسرابٌ بِقِيعة يَحسبُه الظمآن ماءً، والواقع يَشهد بذلك.
ومن نظر إلى العالَم اليوم ومشكلاته ووقوع التنافر بين أبناء البلد الواحد وصراعاته، سيجد جُلَّها من وراء تلك الأكاذيب، ولو أنهم رَدُّوا ذلك إلى ما أمر الله ورسوله به من التبيُّن والتثبُّت، لسُدَّت أبواب شرٍّ كثيرة، ولكان خيرًا لهم وأقوَم.
بلإنَّ الانزلاق وراء تلك الشائعات يُفضي ولا بدَّ إلى التَّجسُّس وتتبُّع العورات، والتجسُّسُ هو: البحثُ عن عيوبِ المسلمين وعَورتهم؛ قال تعالى: {وَلَا تَجَسَّسُوا}، فقد رُوي عن معاوية رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّك إن اتَّبعت عَوْرَاتِ النَّاس، أفسدتهم، أو كدتَ أن تُفسدَهم» [2].
ولو كان ذلك في أعراض أهل العلم، لكان أشدَّ إثمًا وأعظم بهتانًا؛ إذ لُحومهم مسمومة، وسنة الله في منتقصِهم معلومة، فعلى أولئك الذين يتتبَّعون الشائعات والمثالب، ويَبحثون عن الأخطاء والمَعايب، أن يتَّقوا الله، ويَعلموا أن الله بكلِّ شيء محيط.
••
أما عن اعتِزال أمور المسلمين، والتنكُّر لآمالهم وآلامِهم وهُمومهم، وكأنَّ القوم لا يَعنيهم الأمر، فهو في الحقيقة نقْصٌ عندهم في التربية، وخللٌ في انتمائهم لأمتهم.
"فلا تَجد في تصرُّفاتهم وأفعالهم عنايةً بهذا الشأن العام، فلا هم يَهتمون بآمالهم، ولا يتألمون لآلامِهم، ولا يذكرون ما هم فيه مِن المشكلات والأزمات، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتأثر عندما يبلغه ضرر يَصلُ إلى مسلم، حتى إنه صلى الله عليه وسلم لما جاءت الدافَّة إلى المدينة جعل يَدخُل ويَخرُج وقد احمرت وجنتاه واغرورقت عيناه، ثم صعد المنبر فقال: «تصدَّق امرؤ مِن درهمه، مِن ديناره، مِن صاع بُرِّه، مِن صاع تَمره»، حتى جمع لأولئك الدافَّة مالًا عظيمًا فقسمه بينهم، فكان صلى الله عليه وسلم يهتمُّ بأمر الضعَفة والمُستضعَفين من المسلمين[3].
يتبع
كتبه: شتا محمد