ابو وليد البحيرى
2020-07-18, 04:39 PM
نظرية صدام الحضارات والمشاريع المنبثقة عنها
كتبه/ عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
مقدمات تاريخية:
فهذه دراسة مختصرة لنظرية “صدام الحضارات” التي يتبناها الغرب الآن، وبيان لأهم المشاريع التي دشَّنها الغرب متأثرًا بهذه النظرية، والتي تمثـِّل أهم الأخطار التي تهدد العالم الإسلامي بصفةٍ عامةٍ، والصحوة الإسلامية بصفةٍ خاصةٍ.
ونتناول في هذا المقال المقدمات التاريخية منذ بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى احتلت هذه النظرية موقعها في قيادة الفكر الغربي.
1- معنى الحضارة:
“الحضارة، والثقافة، والهوية”: مصطلحات تُطلق ويختلف العلماء فيما يعد منها أعم مِن الآخر، وغالبًا ما يتم استعمالها جميعًا بمعنى واحدٍ، وإن كان الأشهر في هذا أن يستعمل لفظ: “الحضارة” على أنه أعم مِن غيره، ولا يقصد به بطبيعة الحال المعنى اللغوي المباشِر وهو “العيش في الحضر”، وإنما يعنون به كل جوانب النشاط الإنساني: “العقلي والخلقي”، وما قام به في شأن الدين والدنيا، إلخ.
وغالبًا ما تُنسب الحضارة إلى الأمم التي تركتْ أثرًا كبيرًا في تاريخ البشرية فيُقال: “الحضارة اليونانية، الحضارة الرومانية، الحضارة الفارسية، والحضارة الإسلامية”.
2- الحضارة الإسلامية:
وبناءً على التعريف السابق يمكن أن نقرر أن الحضارة الإسلامية تشمل مِن الناحية المنهجية جميع شرائع الإسلام، وتشمل مِن الناحية المادية جميع ما أبدعه المجتمع المسلم في علوم الدنيا وتطبيقاتها، ويدخل في هذا الجانب المادي ما أنتجه المسلمون أو ما أنتجه أهل الذمة؛ لأن هذا الإبداع المادي لا يتأتى إلا بجهود المجتمع كله، ومِن باب أولى فلا بأس بأن يُضم في حضارة المسلمين جهودٌ علمية لأفرادٍ مسلمين، ولكنهم لم يكونوا على عقيدة أهل السُّنة.
ورغم أن المسلمين قدَّموا للدنيا خدماتٍ جليلة في العلوم المادية، إلا أنه يبقى أن السمة الأكثر بروزًا في الحضارة الإسلامية أن “الإنسان” يحتل بؤرة الاهتمام بينما تأتي وسائل حياة الإنسان في مرتبة تالية بخلاف الحضارات التي توصف بأنها مادية حيث تأخذ وسائل الحياة جانبًا أكبر مِن الاهتمام.
وحضارة الإسلام تنطلق مِن أساسٍ عقلي يُستعمل للدلالة على وجود الله، وعلى وجود الوحي، وعلى أننظرية صدام الحضارات والمشاريع المنبثقة عنها محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- رسول مِن عند الله، مرسل بالقرآن وبالسنة شارحة له، ومنهما يبني المسلم تصورًا كاملًا عن نفسه مِن أين جاء؟ ولماذا جاء؟ وإلى أين المصير؟ ويبني تصورًا عن الكون مِن حوله بدايته ونهايته، ويتبع تشريعًا يضع الإطار الذي يمكنه مِن حسن توظيف الكون لمصلحته، ويبين له الطريق لإدارة العلاقات الإنسانية بكل صورها سواء ما يتعلق منها بتكوين الأسرة، أو بالمعاملات المدنية أو الجنائية.
ثم إن حضارة الإسلام فيما يتعلق بوسائل الحياة مِن زراعة وصناعة وطب وهندسة حضارة منفتحة تترك الباب لكي تنقل وينقل عنها، ولذلك نجح المسلمون في استخلاص علوم الأمم التي سبقتهم، ثم طوروها وذهبوا بها عدة قفزات للأمام وبذلوها لكل الأمم الأخرى، وعنهم أخذت أوروبا أساس نهضتها المعاصرة.
3- موقف الإسلام مِن الحضارات الأخرى:
مما سبق يتضح أن الحضارة الإسلامية ليست كلها على درجة واحدة مِن اللزوم، وأن ما يتعلق منها بالمنهج يعتقد المسلمون فيه بطلان ما يخالف دين الإسلام، (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) [آل عمران:19]، (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) [النساء:82].
ويجب على المسلمين أن ينشروا هذا المنهج، وأن يدعوا جميع الأمم إليه، وأن الوسيلة الرئيسية في ذلك هي الحوار: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل:125].
وأما المخالفون منهم، فنوعان:
– النوع الأول: “رعايا الدولة الإسلامية”: وهؤلاء نظَّمت الشريعة الإسلامية أحكامًا تضمن لهم الإقامة في دار الإسلام متى أرادوا دونما إكراهٍ على الدخول فيه، (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) [البقرة:256].
– النوع الثاني: “الدول التي ترفض -ممثلة في نظام الحكم فيها- الدخول في الإسلام”: وهؤلاء شرع الإسلام جهادهم، ولكن اشترط له الحوار أولًا؛ بالإضافة إلى أن الشريعة أجازت المعاهدات والصلح، وأوكلت هذا للقيادة السياسية للدولة المسلمة؛ مما يعني أن الإسلام جاء بمبدأ الجهاد مِن أجل نشر الحق، كما جاء بآليات للتعايش مع دول غير مسلمة متى كانت المصلحة تقتضي هذا، والذي يهم الطرف الآخر هو وضوح الرؤية حول متى يمكن للمسلمين أن يحاربوا، ومِن جهة أخرى للالتزام بالعهد متى عاهدوا، وهذا حاصل في دين الإسلام.
3- الحضارة الغربية الحديثة:
– الحضارة الغربية الحديثة هي حضارة امتزجتْ فيها عدة حضارات، وهي: الحضارة اليونانية القديمة، وهي حضارة اهتمت بالإنسان وبمحاولة الوصول إلى إجابة شافية عنه وعن الكون مِن حوله، وعن معايير الإنسان الصالح والمجتمع الصالح “المدينة الفاضلة”، وهي بهذا تلتقي مع الحضارة الإسلامية، وإن كانت تفارقها في أن نتاجها في ذلك كان نتاجًا بشريًّا فلسفيًّا، بينما حضارة المسلمين قائمة في هذا الجانب بالذات على “الوحي”.
والحضارة الرومانية: وهي حضارة مادية تعشق القوة، وتفرط في العصبية، وتعتبر “اللذة” هي أسمى الأهداف، وبالتالي فحينما سيطرتْ على أوروبا بعد الحضارة اليونانية، استعملت الفلسفة كأداة لتقرير هذه النظريات.
والحضارة الرومانية “في عصر النصرانية”: وهي مرحلة تم فيها التزاوج على يد “بولس” بيْن تعاليم عيسى -عليه السلام- وبين الحضارة الرومانية، والذي أسفر دينًا جديدًا كما اعترف بذلك “بندكت” -البابا السابق للفاتيكان-، وإن كان قد قال هذا في سياق الفخر!
والحضارة الرومانية “في عصر العالمانية”: وكنتيجة لادعاء الكنيسة أن ما أدخلته على دين عيسى -عليه السلام- جاء بوحي مِن الروح القدس؛ فقد أغراها هذا بتكرار هذا الادعاء في العلوم الدنيوية، وهو ما قاد إلى صدام بيْن الدين والعلم، والذي صاحبه مظاهر أخرى مِن الفساد الكنسي، والذي أدَّى بدوره إلى انفجار تيار العلمانية أي فصل الدين عن الحياة.
وقد قسَّمها أصحابها إلى ثلاثة أنماط:
الأول: ضد الدين (وهي أكثر انتشارًا في الدول الشرقية)، وفي فرنسا مِن الدول الغربية.
الثاني: لا دينية، وهي الأكثر انتشارًا في معظم أوروبا.
الثالث: عالمانية تفصل الدين عن الحياة، ولكنها تحترم الدين، وهي الأكثر شيوعًا في الأوساط الأمريكية.
وغني عن الذكر أن كل هذه الأنواع لا تصلح للمسلمين، ولا تلتقي مع الإسلام الذي يأمر أتباعه: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام:162].
4- سيادة النمط الأمريكي:
بعد اكتشاف “كولومبوس” للقارة الأمريكية نزح الكثير مِن الأوروبيين إلى القارة الجديدة، وأسسوا مستعمراتٍ؛ كلٌ منها تتبع الدولة الأم التي جاءوا منها، وظل الأمر كذلك حتى نشبت حربٌ بيْن المستعمرات الإنجليزية والمستعمرات الفرنسية انتهت بهيمنة الإنجليز على وسط القارة، ثم تعارضت مصالح زعماء الأرض الجديدة مع سياسات إنجلترا؛ فخاضوا حرب استقلال ساعدتهم فيها فرنسا، ومِن ثَمَّ اقترنت الثورة الفرنسية وحرب الاستقلال الأمريكية، وكانت الحرية أحد أهم شعارات الحدثين، لا سيما وأنهما كانا متزامنين، وتحررت كل الولايات الأمريكية والتي دشنت اتحادًا فيما بينها كان هشًّا في بدايته، وحاولت الولايات الجنوبية تكوين اتحاد خاص بها، فنشبت حرب الشمال والجنوب، وأسفرت عن قيام دولة اتحادية ذات نظام رئاسي؛ خلافًا لما كان سائدًا مِن سيطرة البرلمانات في أوروبا.
ودخلت أمريكا إلى الساحة الدولية برفق، وكانت هي مَن دعت إلى إنشاء عصبة الأمم في أواخر الحرب العالمية الأولى، ثم كانت هي مَن تزعمت تطويرها إلى “الأمم المتحدة” في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
وقد أسهمت الحرب العالمية الثانية في أن تكون أمريكا حامية أوروبا الغربية والدولة الإسلامية التي كانت واقعة تحت احتلال أوروبا الغربية قبْل الحرب، بينما أصبحت روسيا هي حامية أوروبا الشرقية، وحاولت التواجد في بعض البلاد الإسلامية ونجحت في ذلك إلى حدٍ كبيرٍ.
وتبنى الإتحاد السوفيتي سياسات غاية في التطرف حيث اعتنقت الدولة الإلحاد، ومِن ثَمَّ طبَّقت أكثر صور العلمانية تطرفًا كما طبقت أقصى درجات “الدولة البوليسية”، واعتنقت أكثر المذاهب الاقتصادية شمولية؛ مما جعلها تهوي في تسعينيات القرن الماضي، وهو ما فتح شهية أمريكا لكي تنفرد بصدارة العالم.
وساعدها على ذلك عدة أمور، منها:
– أنها تبنتْ أكثر صور العالمانية تصالحًا مع الدين؛ مما جعلها تبدو عالمانية متى أرادت، ودينية إذا رغبت!
– أنها عظَّمت الحريات الشخصية، وحققت درجة جيدة مِن المساواة وتكافؤ الفرص في حين أنها أبقت على ضوابط لا بأس بها “بالنسبة للغرب طبعًا” لممارسة الحريات.
– أنها تبنت المذهب الاقتصادي الحر مع الاهتمام بالعدالة الاجتماعية واعتباره أحد مهام الدولة؛ مما جعلها تبدو اقتصاديًّا أكثر عدالة مِن كلٍّ مِن روسيا، وأوروبا.
وهي في ذلك تقترب بعض الشيء مِن الإسلام، ولكن مع وجود فوارق جوهرية، مِن أهمها: أن العدالة الاجتماعية عندهم مرهونة بموارد الدولة، ولا يحمل الأغنياء أي جزءٍ منها حتى ولو عجزت موارد الدولة، وأن الضرائب التي يدفعها الأغنياء هي نظير خدمات تقدمها الدولة لهم، وليس لتمويل مصارف العدالة الاجتماعية، بالإضافة إلى أنها حافظت على مشروعية (الربا – الميسر) ولم تقترب منهما، وإن كانت قد عرفتْ تجارب ناضجة في مقاومة الاحتكار، وفي وضع ضوابط أخلاقية للإعلانات عن السلع وغيرها.
وثمة عوامل كثيرة أخرى جعلت المفكرين الأمريكيين يحلمون بأن دولتهم لن تسقط كما سقطت مِن قبلها إنجلترا، وفرنسا، ومِن قبلهما الدولة العثمانية، والنمسا، وإسبانيا، ومِن قبلهم: الفرس، والروم، وهكذا؛ فبدأوا يضعون النظريات التي تؤكد هذا المعنى، وإن لم يفتهم أن يقدموا النصائح اللازمة لكي يتحول هذا الحلم إلى حقيقة، ومِن هنا نشأت نظرية “صدام الحضارات”، والتي تولد عنها مشاريع قدمتها المراكز البحثية لضمان حصول النتائج التي توقعوها (أو بالأحرى تمنوها) مِن هيمنة الحضارة الغربية في طبعتها الأمريكية، ودوام تلك الهيمنة إلى ما لا نهاية!
5- مختصر تاريخ الصدام بيْن الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية:
جاء الإسلام بدعوة عبَّر عنها “ربعي بن عامر” -رضي الله عنه- في حواره مع “رستم” قائد الفرس بقوله: “إن الله ابتعثنا لإخراج العباد مِن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومِن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومِن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة”، وواجَه المسلمون الإمبراطورية الفارسية والتي سقطت في عقر دارها؛ فانتهى أمرها وتشتت شملها؛ عقوبة لملكهم الذي مزَّق كتابَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فمزَّق الله ملكه!
ولم يبقَ أمام الفرس إلا تكوين “حركات باطنية”، منها: “الشيعة، والصوفية الفلسفية” -ولهذا قصة أخرى ليس هذا مجالها-، بينما أخذت المواجهة مع الروم طابعًا عسكريًّا محضًا في بعض الأحيان، وضمت إليه الطابع الفكري في أحيانٍ أخرى، وأنه في هذه الأحوال تمت الاستعانة بالحركات الباطنية “ولو كانت ذات أصول شرقية”؛ للطعن في منهج الإسلام الصافي، والذي يمثـِّل أهم دعائم “الحضارة الإسلامية”.
ويطول بنا المقام لو أردنا أن نتتبع تاريخ الصراع بيْن المسلمين والروم، ولكن يمكن إيجازه في أن المسلمين الأوائل قد استطاعوا هزيمة الروم في مصر والشام؛ مما يعني إعادتهم إلى حدود وطنهم الأصلي، وهذا بخلاف الفرس الذين سقطوا في عقر دار دولتهم، ومنذ الفتح الإسلامي لمصر، وبدأت مراحل مِن الصراع لخصها الأستاذ “محمود شاكر” -رحمه الله- في رسالة: “الطريق إلى ثقافتنا” في أربع مراحل:
– مرحلة غضب مكتوم ممزوج بخوفٍ مِن الاقتراب مِن تخوم الإسلام.
– مرحلة غضب متفجر مثمثلة في الحروب الصليبية “ولعل مما ساهم في إغرائها بغزو ديار الإسلام ثم في نجاحها في بادئ الأمر سيطرة الحركات الباطنية على سواحل الشام”.
– مرحلة غضب مكتوم وخوف أشد بعد انكسار الحملات الصليبية.
– مرحلة فتح القسطنطينية، وهي التي دفعت الغرب إلى تعلم علوم المسلمين، وإلى إرسال المستشرقين؛ لأنهم شعروا أن وجودهم كأمة صار مهددًا، وأيقنوا أن الحملات العسكرية لن تجدي نفعًا، واعترفوا أنهم أمام حضارة فيها أسرار للقوة لابد مِن دراستها قبْل المواجهة.
ونتج عن المرحلة الرابعة التي ذكرها الأستاذ “محمود شاكر” أن نقل الغرب كل ما يستطيع مِن حضارة المسلمين، وشمل هذا العلوم التجريبية كما شمل الكثير مِن النواحي التشريعية “ما تماشى منها مع ماديتهم”، وصادف هذا اغترارًا بالنصر في الدولة العثمانية؛ بالإضافة إلى عوامل ضعفٍ كثيرةٍ جدًّا، أدتْ إلى انهيار الدولة العثمانية، وتوزيع تركتها على الدول الأوروبية.
6- انهيار الدولة العثمانية ولعبة التقسيم:
مرَّت الدولة العثمانية بمراحل قوة ثم ضعف ثم انهيار، وكانت مرحلة القوة هي المراحل التي واجهت تحديات النشأة، وحماية بلاد الإسلام مِن خطر الصليبيين، وقطع آمالهم في العودة مرة أخرى، وفي تأديب الصفويين، وفي إيقاف التفاف البرتغاليين بحريًّا حول العالم الإسلامي ثم توج ذلك بفتح القسطنطينية، ومعها بدأت مراحل الضعف.
والتي كان مِن أهم أسبابها:
– زوال الدوافع التي كانت قاطرة مرحلة القوة.
– ضعف العلم الشرعي في الدولة العثمانية، وانتشار الطرق الصوفية.
– إقدام الخلفاء على قتل إخوتهم؛ لمنع النزاع على الخلافة، وهو ظلم رأت الأمة عاقبته في إدالة أعدائها عليها.
– جمود حركة العلوم التجريبية.
– مناوئة الفرسان لتحديث الجيوش العثمانية بالأسلحة النارية “البارود – الديناميت”، والتي كانت الفجوة فيها بيْن أوروبا والدولة العثمانية آخذة في الاتساع.
وثمة عامل أخرى غاية الأهمية، وهو تأثر الدولة العثمانية بالتيارات الفكرية الواردة مِن الغرب، وأهمها: الإعجاب بالنظام “الدستوري”، والتأثر بنمط “الدولة القومية”.
7- الاتحاد والترقي مِن مطالب “الدستور” إلى إلغاء الخلافة:
مع بداية دخول الصحافة إلى الدول العثمانية؛ بدأت الصحف تنقل ما يدور مِن حركات إصلاح سياسي في أوروبا منذ الثورة الفرنسية، ومنها الدعوة إلى الدولة القومية كبديل للتوسع الإمبراطوري الذي كان سببًا في عدة حروب داخلية في أوروبا، ولكن هذه الدعوى لم تلقَ القبول الكافي في بداية الأمر؛ لأن الإمبراطورية العثمانية لم تكن تعاني مما تعاني منه الإمبراطوريات الأوروبية التي لا يمكن لواحدةٍ منها أن تتوسع إلا على حساب الأخرى، بينما كانت كل بلاد المسلمين تشعر بوحدةٍ حقيقيةٍ.
بينما لقيت الدعوة إلى إقامة حكم دستوري قبولًا عامًّا لدى عامة المصلحين مِن أتراكٍ وعربٍ، ومِن هنا نشأت “جمعية الاتحاد والترقي” ونادت بالحكم الدستوري، لكنها ضمت بيْن عناصرها دعاة للقومية التركية إلا أنهم تستروا بهذا الفكر في بادئ الأمر، وقد اتضح فيما بعد أن عددًا غير قليل منهم على علاقة بالمخابرات الإنجليزية.
وقد استطاع هؤلاء أن يحققوا أحلامهم، وصدر الدستور العثماني سنة 1908م، وهي الخطوة التي اعتبرها معظم الإصلاحيين في العالم الإسلامي آنذاك إنجازًا عظيمًا، ولكنَّ الاتحاديين الذين وصلوا إلى البرلمان والوزارة وفق الدستور الجديد قاموا بأمرين كان لهما أكبر الأثر في انهيار الدولة العثمانية:
الأول: إظهار الدعوة إلى القومية التركية واحتقار العرب حتى المشاركين لهم في برلمان الخلافة، ومنهم “الشريف حسين” الذي عُيَّن فيما بعد أميرًا لمكة؛ فقام بالدعوة إلى القومية العربية، وحارب الدولة العثمانية جنبًا إلى جنب مع الإنجليز كرد فعل لدعاة القومية التركية.
الثاني: أجبر الاتحاديون السلطان على دخول الحرب العالمية الأولى بجوار ألمانيا رغم أنه كان يسعه الوقوف على الحياد، وهو الموقف الذي أخذته الدولة العثمانية مِن الحروب الأوروبية التي سبقت الحرب العالمية الأولى، بل إن أمريكا رغم أنها جزءٌ مِن العالم الغربي إلا أنها اختارت الحياد في الحرب العالمية الأولى، واختارته كذلك في الحرب العالمية الثانية إلى أن اضطرتها اليابان على خوض الحرب.
وبعد الحرب العالمية الأولى وهزيمة ألمانيا والدولة العثمانية؛ استثمر الاتحاديون مفاوضات الصلح مع الحلفاء لإعلان سقوط الخلافة، والاتفاق على ترسيم حدود تركيا تاركين باقي الدولة “ولايات الدولة العثمانية”.
ومِن جهة أخرى: فقد كانت إنجلترا وحلفاؤها قد وعدوا “الشريف حسين” بإقامة دولة عربية، كما كانوا قد اتفقوا على إلحاق الدول العربية في الشمال الإفريقي بالدول الأوروبية.
وفي سبيل ذلك: اخترعتْ “عصبة الأمم” نظام الانتداب كمرحلة تأهيلية لاستقلال هذه الدول؛ ففرضت على كل دولة وصاية مِن إحدى الدول، ولما كانت معظم ولايات الدولة العثمانية واقعة تحت احتلال فعلي؛ فقد تم تغيير مسماه إلى “انتداب” كما في حالة مصر مع إنجلترا.
8- الثورة العربية ضد الدولة العثمانية:
سوف يظل التاريخ يذكر هذه الثورة كنموذجٍ للغفلة المفرطة والثقة البلهاء في الأعداء، مدفوعة بالكراهية المتبادلة بيْن بعض أبناء الأمة، وقد ذكرنا أن “الشريف حسين” كان في غاية الاستياء فترة وجوده في الأستانة مِن ازدراء الكماليين للعرب، ولما عُيِّن شريفًا لمكة “ويُقال: إن هذا التعيين جاء بضغوط مِن الكماليين على الخليفة؛ مما يفتح بابًا لتطبيق نظرية المؤامرة”؛ أظهر عداءً للخليفة العثماني، والتقطته المخابرات الإنجليزية “أو قل: إنها هي مَن أعدت السيناريو مسبقًا”؛ فأرسلتْ أحد رجالها ليتقرب منه ومِن ابنه “فيصل”، وهو رجل عُرف فيما بعد بلقب: “لورانس العرب”؛ لأنه تعلم العربية وتزيا بزي الأعراب فلم يكن يَعرف حقيقة أمره إلا القليلون، وقد أقنع لورانس العرب الشريف حسين بأن إنجلترا عازمة حال خروجها مِن الحرب العالمية منتصرة أن تنصبه خليفة على الجزيرة العربية والعراق والشام؛ لأنه مستحق للخلافة لكونه هاشميًّا، وأن بريطانيا تريد مساعدته على استعادة حق سلبه العثمانيون الظلمة مِن البيت النبوي الشريف.
وهذا يعني تقسيم الدولة العثمانية إلى:
– دولة تركية.
– دولة عربية تشمل الجزء الأسيوي من العالم العربي.
– توزيع الجزء الأفريقي مِن العالم العربي على الدول الأوربية لكي يلتحم بها.
وغالب الظن أن هذا القدر مِن التقسيم كان أقصى طموحات إنجلترا آنذاك؛ إلا أنها وبعد ضغوط ورشاوى مِن يهود أوروبا أصدرت “وعد بلفور”؛ مما يعني استقطاع فلسطين مِن الدولة العربية التي وعدوا بها “الشريف حسين” والذي انزعج فأرسل مستفسرًا؛ فأجابوه أنه لا يعني إلا حرية إقامة اليهود في فلسطين دون أن يكون لهم الدولة “فرَّقوا له بيْن مصطلح الدولة والوطن!”، ومرة أخرى يبدو أن هذا كان هو سقف آمالهم؛ إلا أن الكرم الحاتمي للشريف حسين قد أغراهم برفع سقف الآمال.
ويبدو أن صِدام المصالح بيْن إنجلترا وروسيا وفرنسا وسعة صدر “الشريف حسين” قد أغرى إنجلترا بأن تعيد النظر في التقسيم المزمع، فاتفقوا على أن تتقاسم بريطانيا وفرنسا بلاد الشام، لتتقلص الدولة العربية إلى الأردن، والعراق، والحجاز “والتي انتزعتها الدولة السعودية لاحقًا” كما كان الإنجليز مسيطرين بالفعل على معظم سواحل الخليج.
ونأخذ مِن هذا: أن الحرص على تقطيع أوصال البلاد الإسلامية لا يقف عند حدٍّ، وأن الذي يحكمه فقط هي حدود الممكن، وقد وقـَّعت إنجلترا وفرنسا هذا الاتفاق بواسطة روسيا بما عُرف باتفاقية (سايكس – بيكو) نسبة إلى الرجلين اللذين عقداها.
يتبع
كتبه/ عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
مقدمات تاريخية:
فهذه دراسة مختصرة لنظرية “صدام الحضارات” التي يتبناها الغرب الآن، وبيان لأهم المشاريع التي دشَّنها الغرب متأثرًا بهذه النظرية، والتي تمثـِّل أهم الأخطار التي تهدد العالم الإسلامي بصفةٍ عامةٍ، والصحوة الإسلامية بصفةٍ خاصةٍ.
ونتناول في هذا المقال المقدمات التاريخية منذ بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى احتلت هذه النظرية موقعها في قيادة الفكر الغربي.
1- معنى الحضارة:
“الحضارة، والثقافة، والهوية”: مصطلحات تُطلق ويختلف العلماء فيما يعد منها أعم مِن الآخر، وغالبًا ما يتم استعمالها جميعًا بمعنى واحدٍ، وإن كان الأشهر في هذا أن يستعمل لفظ: “الحضارة” على أنه أعم مِن غيره، ولا يقصد به بطبيعة الحال المعنى اللغوي المباشِر وهو “العيش في الحضر”، وإنما يعنون به كل جوانب النشاط الإنساني: “العقلي والخلقي”، وما قام به في شأن الدين والدنيا، إلخ.
وغالبًا ما تُنسب الحضارة إلى الأمم التي تركتْ أثرًا كبيرًا في تاريخ البشرية فيُقال: “الحضارة اليونانية، الحضارة الرومانية، الحضارة الفارسية، والحضارة الإسلامية”.
2- الحضارة الإسلامية:
وبناءً على التعريف السابق يمكن أن نقرر أن الحضارة الإسلامية تشمل مِن الناحية المنهجية جميع شرائع الإسلام، وتشمل مِن الناحية المادية جميع ما أبدعه المجتمع المسلم في علوم الدنيا وتطبيقاتها، ويدخل في هذا الجانب المادي ما أنتجه المسلمون أو ما أنتجه أهل الذمة؛ لأن هذا الإبداع المادي لا يتأتى إلا بجهود المجتمع كله، ومِن باب أولى فلا بأس بأن يُضم في حضارة المسلمين جهودٌ علمية لأفرادٍ مسلمين، ولكنهم لم يكونوا على عقيدة أهل السُّنة.
ورغم أن المسلمين قدَّموا للدنيا خدماتٍ جليلة في العلوم المادية، إلا أنه يبقى أن السمة الأكثر بروزًا في الحضارة الإسلامية أن “الإنسان” يحتل بؤرة الاهتمام بينما تأتي وسائل حياة الإنسان في مرتبة تالية بخلاف الحضارات التي توصف بأنها مادية حيث تأخذ وسائل الحياة جانبًا أكبر مِن الاهتمام.
وحضارة الإسلام تنطلق مِن أساسٍ عقلي يُستعمل للدلالة على وجود الله، وعلى وجود الوحي، وعلى أننظرية صدام الحضارات والمشاريع المنبثقة عنها محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- رسول مِن عند الله، مرسل بالقرآن وبالسنة شارحة له، ومنهما يبني المسلم تصورًا كاملًا عن نفسه مِن أين جاء؟ ولماذا جاء؟ وإلى أين المصير؟ ويبني تصورًا عن الكون مِن حوله بدايته ونهايته، ويتبع تشريعًا يضع الإطار الذي يمكنه مِن حسن توظيف الكون لمصلحته، ويبين له الطريق لإدارة العلاقات الإنسانية بكل صورها سواء ما يتعلق منها بتكوين الأسرة، أو بالمعاملات المدنية أو الجنائية.
ثم إن حضارة الإسلام فيما يتعلق بوسائل الحياة مِن زراعة وصناعة وطب وهندسة حضارة منفتحة تترك الباب لكي تنقل وينقل عنها، ولذلك نجح المسلمون في استخلاص علوم الأمم التي سبقتهم، ثم طوروها وذهبوا بها عدة قفزات للأمام وبذلوها لكل الأمم الأخرى، وعنهم أخذت أوروبا أساس نهضتها المعاصرة.
3- موقف الإسلام مِن الحضارات الأخرى:
مما سبق يتضح أن الحضارة الإسلامية ليست كلها على درجة واحدة مِن اللزوم، وأن ما يتعلق منها بالمنهج يعتقد المسلمون فيه بطلان ما يخالف دين الإسلام، (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) [آل عمران:19]، (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) [النساء:82].
ويجب على المسلمين أن ينشروا هذا المنهج، وأن يدعوا جميع الأمم إليه، وأن الوسيلة الرئيسية في ذلك هي الحوار: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل:125].
وأما المخالفون منهم، فنوعان:
– النوع الأول: “رعايا الدولة الإسلامية”: وهؤلاء نظَّمت الشريعة الإسلامية أحكامًا تضمن لهم الإقامة في دار الإسلام متى أرادوا دونما إكراهٍ على الدخول فيه، (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) [البقرة:256].
– النوع الثاني: “الدول التي ترفض -ممثلة في نظام الحكم فيها- الدخول في الإسلام”: وهؤلاء شرع الإسلام جهادهم، ولكن اشترط له الحوار أولًا؛ بالإضافة إلى أن الشريعة أجازت المعاهدات والصلح، وأوكلت هذا للقيادة السياسية للدولة المسلمة؛ مما يعني أن الإسلام جاء بمبدأ الجهاد مِن أجل نشر الحق، كما جاء بآليات للتعايش مع دول غير مسلمة متى كانت المصلحة تقتضي هذا، والذي يهم الطرف الآخر هو وضوح الرؤية حول متى يمكن للمسلمين أن يحاربوا، ومِن جهة أخرى للالتزام بالعهد متى عاهدوا، وهذا حاصل في دين الإسلام.
3- الحضارة الغربية الحديثة:
– الحضارة الغربية الحديثة هي حضارة امتزجتْ فيها عدة حضارات، وهي: الحضارة اليونانية القديمة، وهي حضارة اهتمت بالإنسان وبمحاولة الوصول إلى إجابة شافية عنه وعن الكون مِن حوله، وعن معايير الإنسان الصالح والمجتمع الصالح “المدينة الفاضلة”، وهي بهذا تلتقي مع الحضارة الإسلامية، وإن كانت تفارقها في أن نتاجها في ذلك كان نتاجًا بشريًّا فلسفيًّا، بينما حضارة المسلمين قائمة في هذا الجانب بالذات على “الوحي”.
والحضارة الرومانية: وهي حضارة مادية تعشق القوة، وتفرط في العصبية، وتعتبر “اللذة” هي أسمى الأهداف، وبالتالي فحينما سيطرتْ على أوروبا بعد الحضارة اليونانية، استعملت الفلسفة كأداة لتقرير هذه النظريات.
والحضارة الرومانية “في عصر النصرانية”: وهي مرحلة تم فيها التزاوج على يد “بولس” بيْن تعاليم عيسى -عليه السلام- وبين الحضارة الرومانية، والذي أسفر دينًا جديدًا كما اعترف بذلك “بندكت” -البابا السابق للفاتيكان-، وإن كان قد قال هذا في سياق الفخر!
والحضارة الرومانية “في عصر العالمانية”: وكنتيجة لادعاء الكنيسة أن ما أدخلته على دين عيسى -عليه السلام- جاء بوحي مِن الروح القدس؛ فقد أغراها هذا بتكرار هذا الادعاء في العلوم الدنيوية، وهو ما قاد إلى صدام بيْن الدين والعلم، والذي صاحبه مظاهر أخرى مِن الفساد الكنسي، والذي أدَّى بدوره إلى انفجار تيار العلمانية أي فصل الدين عن الحياة.
وقد قسَّمها أصحابها إلى ثلاثة أنماط:
الأول: ضد الدين (وهي أكثر انتشارًا في الدول الشرقية)، وفي فرنسا مِن الدول الغربية.
الثاني: لا دينية، وهي الأكثر انتشارًا في معظم أوروبا.
الثالث: عالمانية تفصل الدين عن الحياة، ولكنها تحترم الدين، وهي الأكثر شيوعًا في الأوساط الأمريكية.
وغني عن الذكر أن كل هذه الأنواع لا تصلح للمسلمين، ولا تلتقي مع الإسلام الذي يأمر أتباعه: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام:162].
4- سيادة النمط الأمريكي:
بعد اكتشاف “كولومبوس” للقارة الأمريكية نزح الكثير مِن الأوروبيين إلى القارة الجديدة، وأسسوا مستعمراتٍ؛ كلٌ منها تتبع الدولة الأم التي جاءوا منها، وظل الأمر كذلك حتى نشبت حربٌ بيْن المستعمرات الإنجليزية والمستعمرات الفرنسية انتهت بهيمنة الإنجليز على وسط القارة، ثم تعارضت مصالح زعماء الأرض الجديدة مع سياسات إنجلترا؛ فخاضوا حرب استقلال ساعدتهم فيها فرنسا، ومِن ثَمَّ اقترنت الثورة الفرنسية وحرب الاستقلال الأمريكية، وكانت الحرية أحد أهم شعارات الحدثين، لا سيما وأنهما كانا متزامنين، وتحررت كل الولايات الأمريكية والتي دشنت اتحادًا فيما بينها كان هشًّا في بدايته، وحاولت الولايات الجنوبية تكوين اتحاد خاص بها، فنشبت حرب الشمال والجنوب، وأسفرت عن قيام دولة اتحادية ذات نظام رئاسي؛ خلافًا لما كان سائدًا مِن سيطرة البرلمانات في أوروبا.
ودخلت أمريكا إلى الساحة الدولية برفق، وكانت هي مَن دعت إلى إنشاء عصبة الأمم في أواخر الحرب العالمية الأولى، ثم كانت هي مَن تزعمت تطويرها إلى “الأمم المتحدة” في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
وقد أسهمت الحرب العالمية الثانية في أن تكون أمريكا حامية أوروبا الغربية والدولة الإسلامية التي كانت واقعة تحت احتلال أوروبا الغربية قبْل الحرب، بينما أصبحت روسيا هي حامية أوروبا الشرقية، وحاولت التواجد في بعض البلاد الإسلامية ونجحت في ذلك إلى حدٍ كبيرٍ.
وتبنى الإتحاد السوفيتي سياسات غاية في التطرف حيث اعتنقت الدولة الإلحاد، ومِن ثَمَّ طبَّقت أكثر صور العلمانية تطرفًا كما طبقت أقصى درجات “الدولة البوليسية”، واعتنقت أكثر المذاهب الاقتصادية شمولية؛ مما جعلها تهوي في تسعينيات القرن الماضي، وهو ما فتح شهية أمريكا لكي تنفرد بصدارة العالم.
وساعدها على ذلك عدة أمور، منها:
– أنها تبنتْ أكثر صور العالمانية تصالحًا مع الدين؛ مما جعلها تبدو عالمانية متى أرادت، ودينية إذا رغبت!
– أنها عظَّمت الحريات الشخصية، وحققت درجة جيدة مِن المساواة وتكافؤ الفرص في حين أنها أبقت على ضوابط لا بأس بها “بالنسبة للغرب طبعًا” لممارسة الحريات.
– أنها تبنت المذهب الاقتصادي الحر مع الاهتمام بالعدالة الاجتماعية واعتباره أحد مهام الدولة؛ مما جعلها تبدو اقتصاديًّا أكثر عدالة مِن كلٍّ مِن روسيا، وأوروبا.
وهي في ذلك تقترب بعض الشيء مِن الإسلام، ولكن مع وجود فوارق جوهرية، مِن أهمها: أن العدالة الاجتماعية عندهم مرهونة بموارد الدولة، ولا يحمل الأغنياء أي جزءٍ منها حتى ولو عجزت موارد الدولة، وأن الضرائب التي يدفعها الأغنياء هي نظير خدمات تقدمها الدولة لهم، وليس لتمويل مصارف العدالة الاجتماعية، بالإضافة إلى أنها حافظت على مشروعية (الربا – الميسر) ولم تقترب منهما، وإن كانت قد عرفتْ تجارب ناضجة في مقاومة الاحتكار، وفي وضع ضوابط أخلاقية للإعلانات عن السلع وغيرها.
وثمة عوامل كثيرة أخرى جعلت المفكرين الأمريكيين يحلمون بأن دولتهم لن تسقط كما سقطت مِن قبلها إنجلترا، وفرنسا، ومِن قبلهما الدولة العثمانية، والنمسا، وإسبانيا، ومِن قبلهم: الفرس، والروم، وهكذا؛ فبدأوا يضعون النظريات التي تؤكد هذا المعنى، وإن لم يفتهم أن يقدموا النصائح اللازمة لكي يتحول هذا الحلم إلى حقيقة، ومِن هنا نشأت نظرية “صدام الحضارات”، والتي تولد عنها مشاريع قدمتها المراكز البحثية لضمان حصول النتائج التي توقعوها (أو بالأحرى تمنوها) مِن هيمنة الحضارة الغربية في طبعتها الأمريكية، ودوام تلك الهيمنة إلى ما لا نهاية!
5- مختصر تاريخ الصدام بيْن الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية:
جاء الإسلام بدعوة عبَّر عنها “ربعي بن عامر” -رضي الله عنه- في حواره مع “رستم” قائد الفرس بقوله: “إن الله ابتعثنا لإخراج العباد مِن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومِن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومِن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة”، وواجَه المسلمون الإمبراطورية الفارسية والتي سقطت في عقر دارها؛ فانتهى أمرها وتشتت شملها؛ عقوبة لملكهم الذي مزَّق كتابَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فمزَّق الله ملكه!
ولم يبقَ أمام الفرس إلا تكوين “حركات باطنية”، منها: “الشيعة، والصوفية الفلسفية” -ولهذا قصة أخرى ليس هذا مجالها-، بينما أخذت المواجهة مع الروم طابعًا عسكريًّا محضًا في بعض الأحيان، وضمت إليه الطابع الفكري في أحيانٍ أخرى، وأنه في هذه الأحوال تمت الاستعانة بالحركات الباطنية “ولو كانت ذات أصول شرقية”؛ للطعن في منهج الإسلام الصافي، والذي يمثـِّل أهم دعائم “الحضارة الإسلامية”.
ويطول بنا المقام لو أردنا أن نتتبع تاريخ الصراع بيْن المسلمين والروم، ولكن يمكن إيجازه في أن المسلمين الأوائل قد استطاعوا هزيمة الروم في مصر والشام؛ مما يعني إعادتهم إلى حدود وطنهم الأصلي، وهذا بخلاف الفرس الذين سقطوا في عقر دار دولتهم، ومنذ الفتح الإسلامي لمصر، وبدأت مراحل مِن الصراع لخصها الأستاذ “محمود شاكر” -رحمه الله- في رسالة: “الطريق إلى ثقافتنا” في أربع مراحل:
– مرحلة غضب مكتوم ممزوج بخوفٍ مِن الاقتراب مِن تخوم الإسلام.
– مرحلة غضب متفجر مثمثلة في الحروب الصليبية “ولعل مما ساهم في إغرائها بغزو ديار الإسلام ثم في نجاحها في بادئ الأمر سيطرة الحركات الباطنية على سواحل الشام”.
– مرحلة غضب مكتوم وخوف أشد بعد انكسار الحملات الصليبية.
– مرحلة فتح القسطنطينية، وهي التي دفعت الغرب إلى تعلم علوم المسلمين، وإلى إرسال المستشرقين؛ لأنهم شعروا أن وجودهم كأمة صار مهددًا، وأيقنوا أن الحملات العسكرية لن تجدي نفعًا، واعترفوا أنهم أمام حضارة فيها أسرار للقوة لابد مِن دراستها قبْل المواجهة.
ونتج عن المرحلة الرابعة التي ذكرها الأستاذ “محمود شاكر” أن نقل الغرب كل ما يستطيع مِن حضارة المسلمين، وشمل هذا العلوم التجريبية كما شمل الكثير مِن النواحي التشريعية “ما تماشى منها مع ماديتهم”، وصادف هذا اغترارًا بالنصر في الدولة العثمانية؛ بالإضافة إلى عوامل ضعفٍ كثيرةٍ جدًّا، أدتْ إلى انهيار الدولة العثمانية، وتوزيع تركتها على الدول الأوروبية.
6- انهيار الدولة العثمانية ولعبة التقسيم:
مرَّت الدولة العثمانية بمراحل قوة ثم ضعف ثم انهيار، وكانت مرحلة القوة هي المراحل التي واجهت تحديات النشأة، وحماية بلاد الإسلام مِن خطر الصليبيين، وقطع آمالهم في العودة مرة أخرى، وفي تأديب الصفويين، وفي إيقاف التفاف البرتغاليين بحريًّا حول العالم الإسلامي ثم توج ذلك بفتح القسطنطينية، ومعها بدأت مراحل الضعف.
والتي كان مِن أهم أسبابها:
– زوال الدوافع التي كانت قاطرة مرحلة القوة.
– ضعف العلم الشرعي في الدولة العثمانية، وانتشار الطرق الصوفية.
– إقدام الخلفاء على قتل إخوتهم؛ لمنع النزاع على الخلافة، وهو ظلم رأت الأمة عاقبته في إدالة أعدائها عليها.
– جمود حركة العلوم التجريبية.
– مناوئة الفرسان لتحديث الجيوش العثمانية بالأسلحة النارية “البارود – الديناميت”، والتي كانت الفجوة فيها بيْن أوروبا والدولة العثمانية آخذة في الاتساع.
وثمة عامل أخرى غاية الأهمية، وهو تأثر الدولة العثمانية بالتيارات الفكرية الواردة مِن الغرب، وأهمها: الإعجاب بالنظام “الدستوري”، والتأثر بنمط “الدولة القومية”.
7- الاتحاد والترقي مِن مطالب “الدستور” إلى إلغاء الخلافة:
مع بداية دخول الصحافة إلى الدول العثمانية؛ بدأت الصحف تنقل ما يدور مِن حركات إصلاح سياسي في أوروبا منذ الثورة الفرنسية، ومنها الدعوة إلى الدولة القومية كبديل للتوسع الإمبراطوري الذي كان سببًا في عدة حروب داخلية في أوروبا، ولكن هذه الدعوى لم تلقَ القبول الكافي في بداية الأمر؛ لأن الإمبراطورية العثمانية لم تكن تعاني مما تعاني منه الإمبراطوريات الأوروبية التي لا يمكن لواحدةٍ منها أن تتوسع إلا على حساب الأخرى، بينما كانت كل بلاد المسلمين تشعر بوحدةٍ حقيقيةٍ.
بينما لقيت الدعوة إلى إقامة حكم دستوري قبولًا عامًّا لدى عامة المصلحين مِن أتراكٍ وعربٍ، ومِن هنا نشأت “جمعية الاتحاد والترقي” ونادت بالحكم الدستوري، لكنها ضمت بيْن عناصرها دعاة للقومية التركية إلا أنهم تستروا بهذا الفكر في بادئ الأمر، وقد اتضح فيما بعد أن عددًا غير قليل منهم على علاقة بالمخابرات الإنجليزية.
وقد استطاع هؤلاء أن يحققوا أحلامهم، وصدر الدستور العثماني سنة 1908م، وهي الخطوة التي اعتبرها معظم الإصلاحيين في العالم الإسلامي آنذاك إنجازًا عظيمًا، ولكنَّ الاتحاديين الذين وصلوا إلى البرلمان والوزارة وفق الدستور الجديد قاموا بأمرين كان لهما أكبر الأثر في انهيار الدولة العثمانية:
الأول: إظهار الدعوة إلى القومية التركية واحتقار العرب حتى المشاركين لهم في برلمان الخلافة، ومنهم “الشريف حسين” الذي عُيَّن فيما بعد أميرًا لمكة؛ فقام بالدعوة إلى القومية العربية، وحارب الدولة العثمانية جنبًا إلى جنب مع الإنجليز كرد فعل لدعاة القومية التركية.
الثاني: أجبر الاتحاديون السلطان على دخول الحرب العالمية الأولى بجوار ألمانيا رغم أنه كان يسعه الوقوف على الحياد، وهو الموقف الذي أخذته الدولة العثمانية مِن الحروب الأوروبية التي سبقت الحرب العالمية الأولى، بل إن أمريكا رغم أنها جزءٌ مِن العالم الغربي إلا أنها اختارت الحياد في الحرب العالمية الأولى، واختارته كذلك في الحرب العالمية الثانية إلى أن اضطرتها اليابان على خوض الحرب.
وبعد الحرب العالمية الأولى وهزيمة ألمانيا والدولة العثمانية؛ استثمر الاتحاديون مفاوضات الصلح مع الحلفاء لإعلان سقوط الخلافة، والاتفاق على ترسيم حدود تركيا تاركين باقي الدولة “ولايات الدولة العثمانية”.
ومِن جهة أخرى: فقد كانت إنجلترا وحلفاؤها قد وعدوا “الشريف حسين” بإقامة دولة عربية، كما كانوا قد اتفقوا على إلحاق الدول العربية في الشمال الإفريقي بالدول الأوروبية.
وفي سبيل ذلك: اخترعتْ “عصبة الأمم” نظام الانتداب كمرحلة تأهيلية لاستقلال هذه الدول؛ ففرضت على كل دولة وصاية مِن إحدى الدول، ولما كانت معظم ولايات الدولة العثمانية واقعة تحت احتلال فعلي؛ فقد تم تغيير مسماه إلى “انتداب” كما في حالة مصر مع إنجلترا.
8- الثورة العربية ضد الدولة العثمانية:
سوف يظل التاريخ يذكر هذه الثورة كنموذجٍ للغفلة المفرطة والثقة البلهاء في الأعداء، مدفوعة بالكراهية المتبادلة بيْن بعض أبناء الأمة، وقد ذكرنا أن “الشريف حسين” كان في غاية الاستياء فترة وجوده في الأستانة مِن ازدراء الكماليين للعرب، ولما عُيِّن شريفًا لمكة “ويُقال: إن هذا التعيين جاء بضغوط مِن الكماليين على الخليفة؛ مما يفتح بابًا لتطبيق نظرية المؤامرة”؛ أظهر عداءً للخليفة العثماني، والتقطته المخابرات الإنجليزية “أو قل: إنها هي مَن أعدت السيناريو مسبقًا”؛ فأرسلتْ أحد رجالها ليتقرب منه ومِن ابنه “فيصل”، وهو رجل عُرف فيما بعد بلقب: “لورانس العرب”؛ لأنه تعلم العربية وتزيا بزي الأعراب فلم يكن يَعرف حقيقة أمره إلا القليلون، وقد أقنع لورانس العرب الشريف حسين بأن إنجلترا عازمة حال خروجها مِن الحرب العالمية منتصرة أن تنصبه خليفة على الجزيرة العربية والعراق والشام؛ لأنه مستحق للخلافة لكونه هاشميًّا، وأن بريطانيا تريد مساعدته على استعادة حق سلبه العثمانيون الظلمة مِن البيت النبوي الشريف.
وهذا يعني تقسيم الدولة العثمانية إلى:
– دولة تركية.
– دولة عربية تشمل الجزء الأسيوي من العالم العربي.
– توزيع الجزء الأفريقي مِن العالم العربي على الدول الأوربية لكي يلتحم بها.
وغالب الظن أن هذا القدر مِن التقسيم كان أقصى طموحات إنجلترا آنذاك؛ إلا أنها وبعد ضغوط ورشاوى مِن يهود أوروبا أصدرت “وعد بلفور”؛ مما يعني استقطاع فلسطين مِن الدولة العربية التي وعدوا بها “الشريف حسين” والذي انزعج فأرسل مستفسرًا؛ فأجابوه أنه لا يعني إلا حرية إقامة اليهود في فلسطين دون أن يكون لهم الدولة “فرَّقوا له بيْن مصطلح الدولة والوطن!”، ومرة أخرى يبدو أن هذا كان هو سقف آمالهم؛ إلا أن الكرم الحاتمي للشريف حسين قد أغراهم برفع سقف الآمال.
ويبدو أن صِدام المصالح بيْن إنجلترا وروسيا وفرنسا وسعة صدر “الشريف حسين” قد أغرى إنجلترا بأن تعيد النظر في التقسيم المزمع، فاتفقوا على أن تتقاسم بريطانيا وفرنسا بلاد الشام، لتتقلص الدولة العربية إلى الأردن، والعراق، والحجاز “والتي انتزعتها الدولة السعودية لاحقًا” كما كان الإنجليز مسيطرين بالفعل على معظم سواحل الخليج.
ونأخذ مِن هذا: أن الحرص على تقطيع أوصال البلاد الإسلامية لا يقف عند حدٍّ، وأن الذي يحكمه فقط هي حدود الممكن، وقد وقـَّعت إنجلترا وفرنسا هذا الاتفاق بواسطة روسيا بما عُرف باتفاقية (سايكس – بيكو) نسبة إلى الرجلين اللذين عقداها.
يتبع