ابو وليد البحيرى
2020-07-12, 05:04 AM
المعايشة التربوية
سالم أحمد البطاطي
إن التربية المنتجة عملية صعبة ومستمرة تحتاج إلى معايشة مع المتربين ،والتربية التي تعتمد على لقاء عابر أو جلسة أسبوعية أو مناسبة عامة فقط تربية فيها نقص وخلل ، ومن ثَمَّ لا يكون البناء متكاملاً ، فلا نستغرب بعد ذلك من تلك المخرجات المتذبذبة والمتهلهلة التي من أبرز سماتها الالتزام الأجوف . والناظر في سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - يجد أن قضية المعايشة قضية بارزة في حياته - صلى الله عليه وسلم - . يؤكد هذا المعنى عبد الله بن شقيق - رضي الله عنه - عندما سأل عائشة - رضي الله عنها - : هل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي وهو قاعد ؟ قالت : « نعم ! بعدما حطمه الناس » [1].
فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يتصدى للناس ، ويعايشهم ، ويخالطهم ، يستقبلهم ويودعهم ، ويتحمل أخطاءهم ؛ لذلك حطمه الناس ، وأثَّروا في بدنه - صلى الله عليه وسلم - حتى أصبح يصلي جالساً ، وأسرع إليه الشيب بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم - . ويؤكد هذا المعنى أيضاً حديث أنس - رضي الله عنه - حيث قال : « إن كان رسول الله ليخالطنا حتى يقول لأخ لي صغير : يا أبا عمير ! ما فعل النغير ؟ » [2].
ويؤيد هذا المعنى أيضاً حديث سماك بن حرب ؛ حيث قال : قلت لجابر بن سمرة : كنت تجالس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : نعم ! كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى الفجر جلس في مصلاَّه حتى تطلع الشمس ، فيتحدث أصحابه يذكرون حديث الجاهلية،ينشدون الشعر،ويضحكون،و يبتسم صلى الله عليه وسلم » [3].
وحسبنا في هذه الورقات أن نلقي الضوء على هذا المفهوم التربوي المهم ،وأنا مؤمن بأنها لن تشبع هذا الموضوع حقه ، ولكن هي إشارات عابرة ، وفتح باب للباحثين حول هذا المفهوم .
1 - مفهوم المعايشة : إن مفهوم المعايشة هو : أن يُظهِر المربي استعداده لمعايشة المتربين واستقبالهم والجلوس معهم ، وأن يُشعِرَهم بتوفر الوقت والمكان لديه لمعالجة قضاياهم وحل مشكلاتهم ، وتتمثل أيضاً في إظهار أوقات الاستقبال وتحديدها ؛ كالساعات المكتبية ، والساعات المنزلية ، والأيام ، والأوقات المتوفرة للخروج مع المتربين في نشاطاتهم ورحلاتهم ، وزياراتهم ، وتيسير سبل الاتصال به ؛ كالاتصال الشخصي ، والكتابي ، والهاتفي ، ومدى الاستعداد لتذليل وسيلة النقل ؛ كالسيارة ونحوها عند الحاجة . والخلاصة : أن كل ما يُظهِرُه المربي من استعداد ليكون قريباً من تلاميذه ؛ لتربيتهم ، والعناية بحاجاتهم ، وحل مشكلاتهم فهو من خاصية المعايشة .
2 - لماذا المعايشة في العمل التربوي ؟إن من أعظم المسوِّغات والدوافع التي تدفعنا لتحقيق هذا المبدأ في واقعنا التربوي وتطبيقه ثقلَ الأمانة المنوطة بعاتق المربين . إن عظيم الموقع الذي تبوأه المربي ، وثقلَ الأمانة التي تحملها تجعله يجتهد غاية الاجتهاد في نصح من يربيهم ، وتوجيههم ، والارتقاء بهم ، كيف لا ؟ وهو المعنيُّ بتلك النصوص العظيمة التي يقول فيها - صلى الله عليه وسلم - : « ما من رجل يلي أمر عشرة فما فوق ذلك إلا أتى الله مغلولاً يده إلى عنقه ، فكه بِرُّه ، أو أوثقه إثمه ، أولها ملامة ، وأوسطها ندامة ، وآخرها خزي يوم القيامة » [4]. ويقول - صلى الله عليه وسلم - أيضاً : « ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاشٌّ لرعيته ؛ إلا حرم الله عليه الجنة » [5]، ويقول - صلى الله عليه وسلم - أيضاً : « كلكم راع ، وكلكم مسؤول عن رعيته ... » [6]ويقول - صلى الله عليه وسلم - أيضاً : « ما من أمير عشرة إلا وهو يؤتى به يوم القيامة مغلولاً حتى يفكه العدل ، أو يوبقه الجور » [7].
إن هذه النصوص لتدفع كل مربِّ صادق إلى الاجتهاد فيمن يربيهم ، والنصح لهم ، والسعي الجاد في برهم والإحسان إليهم ، وإن تطبيق هذا المفهوم التربوي في الواقع لهو سبيل لتحقيق تلك الأمور المنشودة .
3 - المربي الأول - صلى الله عليه وسلم - والمعايشة : يقول - صلى الله عليه وسلم - : « المؤمن الذي يخالط الناس ، ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ، ولا يصبر على أذاهم » [8] .
لقد كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - أوفر الحظ والنصيب من هذا الحديث ، وكان الرائد في هذا المجال ؛ فقد بُعِثَ معلماً،يتوفر لطلابه في معظم أحيانه ، فهم يجدونه في المسجد،فإن لم يكن ففي السوق أو الطريق،فإن لم يكن ذهبوا إلى بيته،وكان - صلى الله عليه وسلم - يستقبلهم ويعلمهم ويجيب عن أسئلتهم ، ولم يكن من عادته حجب الناس عنه أو ردهم بل كان يستقبلهم ، ويبتسم لهم دائماً .
عن جرير بن عبدالله البجلي - رضي الله عنه - قال : « ما حجبني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منذ أسلمت ، ولا رآني إلا ابتسم في وجهي » [9].
وكان - صلى الله عليه وسلم - يعتمد اعتماداً كبيراً على هذه الخاصية ( المعايشة ) في الاتصال بالمدعوين والمتربين ، والتعرف عليهم والتقرب إليهم ، والتأثير فيهم . فهو يعرف أسماءهم ، وبعض خصائصهم ، وأسماء قبائلهم،وتاريخ تلك القبائل،وأسماء بلدانهم،وخصائص تلك البلدان،ويعرف مستوياتهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية .
هذا فيما يتعلق بالأبعدين والمستجدين،أما أصحابه ممن حوله،والمقربون منه ، فيعرف كل شيء عنهم تقريباً ، حاجتَهم واستكفاءَهم ، مرضهم وصحتهم ، سفرهم وإقامتهم ، ويعرف مستوياتهم الإيمانية والعقلية والنفسية ، ويعرف قدراتهم وحظوظهم في المجالات التربوية والقيادية والمالية والحكمية والدعوية ، ويتحدث مع كلٍ بما يناسبه ، ويكلف كلاً منهم وفق خصائصه وقدراته .
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « أرحم أمتي بأمتي أبو بكر ، وأشدهم في دين الله عمر ، وأصدقهم حياء عثمان ، وأقضاهم علي بن أبي طالب ، وأقرؤهم لكتاب الله أُبَيُّ بن كعب ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ، وأفرضهم زيد بن ثابت ، ألا وإن لكل أمة أميناً وأمين هذه الأمة أبو عبيدة ابن الجراح » [10].
4 - فوائد المعايشة : للمعايشة فوائد كثيرة يجنيها المربي متى ما طبق هذا المفهوم على أرض الواقع ، ولعلنا نشير إلى أهم هذه الفوائد والثمار .
أ - الحصول على الأجر والثواب من عند الله - عز وجل - : قال - صلى الله عليه وسلم - : « المؤمن الذي يخالط الناس ، ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ، ولا يصبر على أذاهم » [11].
فمتى ما استشعر المربي هذا الحديث ، واستشرف لهذا الأجر العظيم كان ذلك دافعاً له لتحقيق هذا المفهوم مع من يربيهم ، فتجده لا يألو جهداً في معايشة ومخالطة المتربين ، والصبر عليهم في تربيتهم ، والصبر على ما يجده من أذى منهم مقابل ذلك الفضل العظيم .
ب - تهذيب أخلاق المربي : فالمعايشة تهيئ المربي أن يكون قدوة حسنة يقتدى به ، ويؤخذ هذا من قوله - صلى الله عليه وسلم - : « ويصبر على أذاهم » ففي المعايشة نوع من تحسين المربي لذاته ، وتهذيب لخُلُقه وسلوكه خاصةً أنه في مصاف القدوة . إنه لا يكفي أن يكون عند المربي ما يعطيه ؛ بل لا بد أن يكون حَسَنَ العطاء حتى يترك عطاؤه أثراً في نفس المتربي .
ج - معرفة طاقات المتربين وقدراتهم : يستطيع المربي من خلال معايشته ومخالطته لمن يربيهم اكتشاف طاقاتهم وقدراتهم ومؤهلاتهم ؛ ومن ثَم يستطيع توجيه هذه الطاقات فيما يناسبها ، ويوجه هذه القدرات في مظانها ، ويضع الشخص المناسب في المكان المناسب من خلال تلك المؤهلات ، ولهذا شاهد من السيرة ؛ كما في حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - الذي مر قبل قليل : « أرحم أمتي بأمتي أبو بكر ... » [12].
وقال - صلى الله عليه وسلم - : « خذوا القرآن عن أربعة : عن ابن مسعود ، و أُبيِّ بن كعب ، و معاذ بن جبل ، و سالم مولى أبي حذيفة » [13].
د - معرفة جوانب الضعف في المتربين ومن ثَمَّ معالجتها : يجتهد المربي ويسعى في تطوير المتربي والارتقاء به . ومن محاور التطوير والارتقاء معرفة ضعفه ؛ وذلك من أجل تزويده بالعلاجات المناسبة فيتجاوز هذا الضعف ويرتقي . ومخالطة المتربين ومعايشتهم توفر للمربي ذلك كله .
ولقد استطاع - صلى الله عليه وسلم - بمعايشته لأصحابه معرفة نقاط القوة لديهم ونقاط الضعف أيضاً ، فأثنى على نقاط القوة خيراً كما مر معنا وحذر ونصح وحث في نقاط الضعف من أجل تجاوزها ، وإليك هذا الشاهد : عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : كان الرجل في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا رأى رؤيا قصها على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فتمنيت أن أرى رؤيا أقصها على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكنت غلاماً أعزب ، وكنت أنام في المسجد على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فرأيت في المنام مَلَكين أخذاني فذهبا بي إلى النار ، فإذا هي مطوية كطي البئر ، وإذا فيها ناس قد عرفتهم ، فجعلت أقول : أعوذ بالله من النار ، أعوذ بالله من النار . فلقيهما ملك خر ، فقال لي : لم تراعَ . فقصصتها على حفصة ، فقصتها حفصة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : نِعْمَ الرجل عبد الله لو كان يصلي بالليل . قال سالم : فكان عبدالله لا ينام من الليل إلا قليلاً [14].
هـ - التقويم الصحيح للمتربين :يحتاج المربي في مسيرته التربوية إلى وقفات تقويمية لمن يربيهم ؛ من أجل الارتقاء بهم وإصلاحهم ، ولا يستطيع شخص غير المربي أن يصيب التقييم الصحيح في المتربين ؛ إذ هو أقرب الناس للمتربين من غيره ؛ وذلك بمعايشته لهم ، ومخالطته إياهم ، والقرب منهم . ولهذا شاهِدٌ من السيرة النبوية ؛ فعن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب : أن رجلاً على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كان اسمه عبد الله ، وكان يلقب حماراً ، وكان يُضحِكُ النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد جلده في الشراب ، فأُتيَ به يوماً ، فأَمَرَ به ، فجُلد ، فقال رجل من القوم : اللهم العنه ، ما أكثر ما يؤتى به ! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا تلعنوه ! فوالله ما علمت : إنه يحب الله ورسوله » [15].
لقد زجر النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي سب ولعن حماراً - رضي الله عنه - مع أن حماراً كان يشرب الخمر ، إلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أقرب الناس إليه بمعايشته له ، وكان أعلم بأعمال حمار من غيره ؛ لذا قال - صلى الله عليه وسلم - : « لا تلعنوه ! فوالله ما علمت إنه يحب الله ورسوله » وهذا يعني أن لحمارٍ محاسنَ وحسنات في الإسلام قد لا يعلمها البعيد عنه ، لا يعلمها إلا من كان معايشاً ومخالطاً له ، وقريباً منه ، وهذا كان متمثلاً في النبي - صلى الله عليه وسلم - .
و - معرفة الخصائص النفسية للمتربين : النفوس تختلف وتتباين ، ولكل نفس خصائصها المجبولة عليها ، والمربي الفطن هو الذي يتعرف على خصائص النفوس المتربية ، فيبني عليها ماهية التعامل والأسلوب المناسب لكل نفسية ، ولا يكون ذلك إلا بالمعايشة والمخالطة مع المتربين ؛ إذ يستطيع المربي معرفة تلك الخصائص ، ومن ثَمَّ معرفة الأسلوب المناسب في التعامل مع تلك النفسيات ، ولهذا شاهد من السيرة النبوية ؛ فعن عمرو بن تغلب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُتِيَ بمال أو سبي ، فقسمه ، فأعطى رجالاً ، وترك رجالاً ، فبلغه أن الذين ترك عتبوا ، فحمد الله ، ثم أثنى عليه ، ثم قال : « أما بعد : فوالله ! إني لأعطي الرجل وأدَعُ الرجل ، والذي أدع أحب إليَّ من الذي أعطي ، ولكني إنما أعطي أقواماً لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع ، وأَكِلُ أقواماً إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير ، منهم عمرو بن تغلب » . قال عمرو بن تغلب : « فوالله ما أحب أن لي بكلمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمر النعم » [16].
فتأمل نفاذ نظر الرسول - صلى الله عليه وسلم - في معرفة خصائص أتباعه ، وتربية كل منهم بما يناسب طرته وميوله ودوافعه الخاصة به . وعلى ذلك فالمربي ملزم بمعرفة أتباعه وخصائصهم النفسية عن قرب ؛ حتى يستطيع التعامل معهم والقيام بتربيتهم على أكمل وجه ، ولا يكون ذلك إلا بمعايشتهم ومخالطتهم .
ز - حل مشاكل المتربين الخاصة والأسرية : يسعى المربي الناصح في برنامجه التربوي أن يوفر للمتربي الاستقرار النفسي الذي يساعده على الاستجابة ، ومن ثم العطاء والإنتاجية ، ولكن تبقى المشاكل الخاصة أو الأسرية في المتربين عائقاً لهذا الاستقرار . وبإمكان المربي من خلال معايشته ، ومخالطته لمن يربيهم ، وبقربه منهم ، واهتمامه بهم حل تلك المشكلات وتذليلها ، وتجاوز تلك العقبات .
ولقد كان - صلى الله عليه وسلم - كذلك معايشاً لأصحابه قريباً منهم مهتماً بهم وبحل مشاكلهم ، يسأل عن أحوالهم ، وعما يكدر خواطرهم ، ويظهر ذلك مما يلي : عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : « دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم المسجد ، فإذا هو برجل من الأنصار يقال له : أبو أمامة ، فقال : يا أبا أمامة ! ما لي أراكَ جالساً في المسجد في غير وقت صلاة ؟ قال : هموم لزمتني وديون يا رسول الله ! قال : أفلا أعلمك كلاماً إذا قلته أذهب الله همك ، وقضى عنك دينك ؟ قلت : بلى يا رسول الله ! قال : « قل إذا أصبحت وإذا أمسيت : اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ، وأعوذ بك من العجز والكسل ، وأعوذ بك من الجبن والبخل ، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال » . قال : ففعلت ذلك ، فأذهب الله همي وغمي ، وقضى عني ديني » [17].
يتبع
سالم أحمد البطاطي
إن التربية المنتجة عملية صعبة ومستمرة تحتاج إلى معايشة مع المتربين ،والتربية التي تعتمد على لقاء عابر أو جلسة أسبوعية أو مناسبة عامة فقط تربية فيها نقص وخلل ، ومن ثَمَّ لا يكون البناء متكاملاً ، فلا نستغرب بعد ذلك من تلك المخرجات المتذبذبة والمتهلهلة التي من أبرز سماتها الالتزام الأجوف . والناظر في سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - يجد أن قضية المعايشة قضية بارزة في حياته - صلى الله عليه وسلم - . يؤكد هذا المعنى عبد الله بن شقيق - رضي الله عنه - عندما سأل عائشة - رضي الله عنها - : هل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي وهو قاعد ؟ قالت : « نعم ! بعدما حطمه الناس » [1].
فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يتصدى للناس ، ويعايشهم ، ويخالطهم ، يستقبلهم ويودعهم ، ويتحمل أخطاءهم ؛ لذلك حطمه الناس ، وأثَّروا في بدنه - صلى الله عليه وسلم - حتى أصبح يصلي جالساً ، وأسرع إليه الشيب بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم - . ويؤكد هذا المعنى أيضاً حديث أنس - رضي الله عنه - حيث قال : « إن كان رسول الله ليخالطنا حتى يقول لأخ لي صغير : يا أبا عمير ! ما فعل النغير ؟ » [2].
ويؤيد هذا المعنى أيضاً حديث سماك بن حرب ؛ حيث قال : قلت لجابر بن سمرة : كنت تجالس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : نعم ! كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى الفجر جلس في مصلاَّه حتى تطلع الشمس ، فيتحدث أصحابه يذكرون حديث الجاهلية،ينشدون الشعر،ويضحكون،و يبتسم صلى الله عليه وسلم » [3].
وحسبنا في هذه الورقات أن نلقي الضوء على هذا المفهوم التربوي المهم ،وأنا مؤمن بأنها لن تشبع هذا الموضوع حقه ، ولكن هي إشارات عابرة ، وفتح باب للباحثين حول هذا المفهوم .
1 - مفهوم المعايشة : إن مفهوم المعايشة هو : أن يُظهِر المربي استعداده لمعايشة المتربين واستقبالهم والجلوس معهم ، وأن يُشعِرَهم بتوفر الوقت والمكان لديه لمعالجة قضاياهم وحل مشكلاتهم ، وتتمثل أيضاً في إظهار أوقات الاستقبال وتحديدها ؛ كالساعات المكتبية ، والساعات المنزلية ، والأيام ، والأوقات المتوفرة للخروج مع المتربين في نشاطاتهم ورحلاتهم ، وزياراتهم ، وتيسير سبل الاتصال به ؛ كالاتصال الشخصي ، والكتابي ، والهاتفي ، ومدى الاستعداد لتذليل وسيلة النقل ؛ كالسيارة ونحوها عند الحاجة . والخلاصة : أن كل ما يُظهِرُه المربي من استعداد ليكون قريباً من تلاميذه ؛ لتربيتهم ، والعناية بحاجاتهم ، وحل مشكلاتهم فهو من خاصية المعايشة .
2 - لماذا المعايشة في العمل التربوي ؟إن من أعظم المسوِّغات والدوافع التي تدفعنا لتحقيق هذا المبدأ في واقعنا التربوي وتطبيقه ثقلَ الأمانة المنوطة بعاتق المربين . إن عظيم الموقع الذي تبوأه المربي ، وثقلَ الأمانة التي تحملها تجعله يجتهد غاية الاجتهاد في نصح من يربيهم ، وتوجيههم ، والارتقاء بهم ، كيف لا ؟ وهو المعنيُّ بتلك النصوص العظيمة التي يقول فيها - صلى الله عليه وسلم - : « ما من رجل يلي أمر عشرة فما فوق ذلك إلا أتى الله مغلولاً يده إلى عنقه ، فكه بِرُّه ، أو أوثقه إثمه ، أولها ملامة ، وأوسطها ندامة ، وآخرها خزي يوم القيامة » [4]. ويقول - صلى الله عليه وسلم - أيضاً : « ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاشٌّ لرعيته ؛ إلا حرم الله عليه الجنة » [5]، ويقول - صلى الله عليه وسلم - أيضاً : « كلكم راع ، وكلكم مسؤول عن رعيته ... » [6]ويقول - صلى الله عليه وسلم - أيضاً : « ما من أمير عشرة إلا وهو يؤتى به يوم القيامة مغلولاً حتى يفكه العدل ، أو يوبقه الجور » [7].
إن هذه النصوص لتدفع كل مربِّ صادق إلى الاجتهاد فيمن يربيهم ، والنصح لهم ، والسعي الجاد في برهم والإحسان إليهم ، وإن تطبيق هذا المفهوم التربوي في الواقع لهو سبيل لتحقيق تلك الأمور المنشودة .
3 - المربي الأول - صلى الله عليه وسلم - والمعايشة : يقول - صلى الله عليه وسلم - : « المؤمن الذي يخالط الناس ، ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ، ولا يصبر على أذاهم » [8] .
لقد كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - أوفر الحظ والنصيب من هذا الحديث ، وكان الرائد في هذا المجال ؛ فقد بُعِثَ معلماً،يتوفر لطلابه في معظم أحيانه ، فهم يجدونه في المسجد،فإن لم يكن ففي السوق أو الطريق،فإن لم يكن ذهبوا إلى بيته،وكان - صلى الله عليه وسلم - يستقبلهم ويعلمهم ويجيب عن أسئلتهم ، ولم يكن من عادته حجب الناس عنه أو ردهم بل كان يستقبلهم ، ويبتسم لهم دائماً .
عن جرير بن عبدالله البجلي - رضي الله عنه - قال : « ما حجبني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منذ أسلمت ، ولا رآني إلا ابتسم في وجهي » [9].
وكان - صلى الله عليه وسلم - يعتمد اعتماداً كبيراً على هذه الخاصية ( المعايشة ) في الاتصال بالمدعوين والمتربين ، والتعرف عليهم والتقرب إليهم ، والتأثير فيهم . فهو يعرف أسماءهم ، وبعض خصائصهم ، وأسماء قبائلهم،وتاريخ تلك القبائل،وأسماء بلدانهم،وخصائص تلك البلدان،ويعرف مستوياتهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية .
هذا فيما يتعلق بالأبعدين والمستجدين،أما أصحابه ممن حوله،والمقربون منه ، فيعرف كل شيء عنهم تقريباً ، حاجتَهم واستكفاءَهم ، مرضهم وصحتهم ، سفرهم وإقامتهم ، ويعرف مستوياتهم الإيمانية والعقلية والنفسية ، ويعرف قدراتهم وحظوظهم في المجالات التربوية والقيادية والمالية والحكمية والدعوية ، ويتحدث مع كلٍ بما يناسبه ، ويكلف كلاً منهم وفق خصائصه وقدراته .
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « أرحم أمتي بأمتي أبو بكر ، وأشدهم في دين الله عمر ، وأصدقهم حياء عثمان ، وأقضاهم علي بن أبي طالب ، وأقرؤهم لكتاب الله أُبَيُّ بن كعب ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ، وأفرضهم زيد بن ثابت ، ألا وإن لكل أمة أميناً وأمين هذه الأمة أبو عبيدة ابن الجراح » [10].
4 - فوائد المعايشة : للمعايشة فوائد كثيرة يجنيها المربي متى ما طبق هذا المفهوم على أرض الواقع ، ولعلنا نشير إلى أهم هذه الفوائد والثمار .
أ - الحصول على الأجر والثواب من عند الله - عز وجل - : قال - صلى الله عليه وسلم - : « المؤمن الذي يخالط الناس ، ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ، ولا يصبر على أذاهم » [11].
فمتى ما استشعر المربي هذا الحديث ، واستشرف لهذا الأجر العظيم كان ذلك دافعاً له لتحقيق هذا المفهوم مع من يربيهم ، فتجده لا يألو جهداً في معايشة ومخالطة المتربين ، والصبر عليهم في تربيتهم ، والصبر على ما يجده من أذى منهم مقابل ذلك الفضل العظيم .
ب - تهذيب أخلاق المربي : فالمعايشة تهيئ المربي أن يكون قدوة حسنة يقتدى به ، ويؤخذ هذا من قوله - صلى الله عليه وسلم - : « ويصبر على أذاهم » ففي المعايشة نوع من تحسين المربي لذاته ، وتهذيب لخُلُقه وسلوكه خاصةً أنه في مصاف القدوة . إنه لا يكفي أن يكون عند المربي ما يعطيه ؛ بل لا بد أن يكون حَسَنَ العطاء حتى يترك عطاؤه أثراً في نفس المتربي .
ج - معرفة طاقات المتربين وقدراتهم : يستطيع المربي من خلال معايشته ومخالطته لمن يربيهم اكتشاف طاقاتهم وقدراتهم ومؤهلاتهم ؛ ومن ثَم يستطيع توجيه هذه الطاقات فيما يناسبها ، ويوجه هذه القدرات في مظانها ، ويضع الشخص المناسب في المكان المناسب من خلال تلك المؤهلات ، ولهذا شاهد من السيرة ؛ كما في حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - الذي مر قبل قليل : « أرحم أمتي بأمتي أبو بكر ... » [12].
وقال - صلى الله عليه وسلم - : « خذوا القرآن عن أربعة : عن ابن مسعود ، و أُبيِّ بن كعب ، و معاذ بن جبل ، و سالم مولى أبي حذيفة » [13].
د - معرفة جوانب الضعف في المتربين ومن ثَمَّ معالجتها : يجتهد المربي ويسعى في تطوير المتربي والارتقاء به . ومن محاور التطوير والارتقاء معرفة ضعفه ؛ وذلك من أجل تزويده بالعلاجات المناسبة فيتجاوز هذا الضعف ويرتقي . ومخالطة المتربين ومعايشتهم توفر للمربي ذلك كله .
ولقد استطاع - صلى الله عليه وسلم - بمعايشته لأصحابه معرفة نقاط القوة لديهم ونقاط الضعف أيضاً ، فأثنى على نقاط القوة خيراً كما مر معنا وحذر ونصح وحث في نقاط الضعف من أجل تجاوزها ، وإليك هذا الشاهد : عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : كان الرجل في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا رأى رؤيا قصها على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فتمنيت أن أرى رؤيا أقصها على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكنت غلاماً أعزب ، وكنت أنام في المسجد على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فرأيت في المنام مَلَكين أخذاني فذهبا بي إلى النار ، فإذا هي مطوية كطي البئر ، وإذا فيها ناس قد عرفتهم ، فجعلت أقول : أعوذ بالله من النار ، أعوذ بالله من النار . فلقيهما ملك خر ، فقال لي : لم تراعَ . فقصصتها على حفصة ، فقصتها حفصة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : نِعْمَ الرجل عبد الله لو كان يصلي بالليل . قال سالم : فكان عبدالله لا ينام من الليل إلا قليلاً [14].
هـ - التقويم الصحيح للمتربين :يحتاج المربي في مسيرته التربوية إلى وقفات تقويمية لمن يربيهم ؛ من أجل الارتقاء بهم وإصلاحهم ، ولا يستطيع شخص غير المربي أن يصيب التقييم الصحيح في المتربين ؛ إذ هو أقرب الناس للمتربين من غيره ؛ وذلك بمعايشته لهم ، ومخالطته إياهم ، والقرب منهم . ولهذا شاهِدٌ من السيرة النبوية ؛ فعن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب : أن رجلاً على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كان اسمه عبد الله ، وكان يلقب حماراً ، وكان يُضحِكُ النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد جلده في الشراب ، فأُتيَ به يوماً ، فأَمَرَ به ، فجُلد ، فقال رجل من القوم : اللهم العنه ، ما أكثر ما يؤتى به ! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا تلعنوه ! فوالله ما علمت : إنه يحب الله ورسوله » [15].
لقد زجر النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي سب ولعن حماراً - رضي الله عنه - مع أن حماراً كان يشرب الخمر ، إلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أقرب الناس إليه بمعايشته له ، وكان أعلم بأعمال حمار من غيره ؛ لذا قال - صلى الله عليه وسلم - : « لا تلعنوه ! فوالله ما علمت إنه يحب الله ورسوله » وهذا يعني أن لحمارٍ محاسنَ وحسنات في الإسلام قد لا يعلمها البعيد عنه ، لا يعلمها إلا من كان معايشاً ومخالطاً له ، وقريباً منه ، وهذا كان متمثلاً في النبي - صلى الله عليه وسلم - .
و - معرفة الخصائص النفسية للمتربين : النفوس تختلف وتتباين ، ولكل نفس خصائصها المجبولة عليها ، والمربي الفطن هو الذي يتعرف على خصائص النفوس المتربية ، فيبني عليها ماهية التعامل والأسلوب المناسب لكل نفسية ، ولا يكون ذلك إلا بالمعايشة والمخالطة مع المتربين ؛ إذ يستطيع المربي معرفة تلك الخصائص ، ومن ثَمَّ معرفة الأسلوب المناسب في التعامل مع تلك النفسيات ، ولهذا شاهد من السيرة النبوية ؛ فعن عمرو بن تغلب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُتِيَ بمال أو سبي ، فقسمه ، فأعطى رجالاً ، وترك رجالاً ، فبلغه أن الذين ترك عتبوا ، فحمد الله ، ثم أثنى عليه ، ثم قال : « أما بعد : فوالله ! إني لأعطي الرجل وأدَعُ الرجل ، والذي أدع أحب إليَّ من الذي أعطي ، ولكني إنما أعطي أقواماً لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع ، وأَكِلُ أقواماً إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير ، منهم عمرو بن تغلب » . قال عمرو بن تغلب : « فوالله ما أحب أن لي بكلمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمر النعم » [16].
فتأمل نفاذ نظر الرسول - صلى الله عليه وسلم - في معرفة خصائص أتباعه ، وتربية كل منهم بما يناسب طرته وميوله ودوافعه الخاصة به . وعلى ذلك فالمربي ملزم بمعرفة أتباعه وخصائصهم النفسية عن قرب ؛ حتى يستطيع التعامل معهم والقيام بتربيتهم على أكمل وجه ، ولا يكون ذلك إلا بمعايشتهم ومخالطتهم .
ز - حل مشاكل المتربين الخاصة والأسرية : يسعى المربي الناصح في برنامجه التربوي أن يوفر للمتربي الاستقرار النفسي الذي يساعده على الاستجابة ، ومن ثم العطاء والإنتاجية ، ولكن تبقى المشاكل الخاصة أو الأسرية في المتربين عائقاً لهذا الاستقرار . وبإمكان المربي من خلال معايشته ، ومخالطته لمن يربيهم ، وبقربه منهم ، واهتمامه بهم حل تلك المشكلات وتذليلها ، وتجاوز تلك العقبات .
ولقد كان - صلى الله عليه وسلم - كذلك معايشاً لأصحابه قريباً منهم مهتماً بهم وبحل مشاكلهم ، يسأل عن أحوالهم ، وعما يكدر خواطرهم ، ويظهر ذلك مما يلي : عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : « دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم المسجد ، فإذا هو برجل من الأنصار يقال له : أبو أمامة ، فقال : يا أبا أمامة ! ما لي أراكَ جالساً في المسجد في غير وقت صلاة ؟ قال : هموم لزمتني وديون يا رسول الله ! قال : أفلا أعلمك كلاماً إذا قلته أذهب الله همك ، وقضى عنك دينك ؟ قلت : بلى يا رسول الله ! قال : « قل إذا أصبحت وإذا أمسيت : اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ، وأعوذ بك من العجز والكسل ، وأعوذ بك من الجبن والبخل ، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال » . قال : ففعلت ذلك ، فأذهب الله همي وغمي ، وقضى عني ديني » [17].
يتبع