ابو وليد البحيرى
2020-06-27, 03:30 PM
دلالات الإيجاز والإطناب في البيان القرآني
الدكتور محمد بن محمد الحجوي
(قد جاءكم من اللّه نور وكتاب مبين· يهدي به اللّه من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه) المائدة،:15-16<·
تتميز اللغة العربية بمجموعة من الخصائص التركيبية والصوتية التي تجعل طرق الدلالة تتنوع بحسب المقامات، وهي دليل على غنى اللغة وسعتها، وقدرتها على التطور، وتحقيق التواصل، وتنظيم الفكر في القضايا ذات الطابع العلمي والأدبي والفلسفي·
وإذا كان الإيجاز عند أصحاب البيان يعد بلاغة لكونه يعتمد أسلوبا معيناً، وطريقة خاصة في الأداء يطلبها المقام، فإن الإطناب يعتبر كذلك بلاغة إذا كان الموضوع يحتاج للإسهاب والتفصيل والبسط، والنوعان معاً ضروريان في تنويع التواصل·
والعرب كانوا في خطبهم الجامعة، وأقوالهم المأثورة، وأمثالهم السائرة، وحكمهم الطريفة، يجمعون بين هذين اللونين من التعبير، قال الشاعر:
صموتا في المجالس غير عي،
جديراً حين ينطق بالصواب
والقرآن الكريم خاطب العرب بأسلوبهم، >قرآنا عربياً غير ذي عوج لعلهم يتقون< >الزمر،-27<، فمن الطبيعي أن تكون الآيات البينات جامعة للخصائص البيانية، ومنها الإيجاز والإطناب، إن منهج أسلوب القرآن كان يروم تحقيق غايات بيانية سامية، منها:
أولا- إفحام العرب في البلاغة، وهم فرسان ميدانها، فلا يجدون تعليلاً بحجة أن أسلوبه غريب عنهم، فيكون التحدي، بالنسبة إليهم باطلاً·
ثانيا- تحقيق التلاؤم مع الأغراض والمضامين التي دعا إليها·
ثالثا- إن طبيعة الأغراض التي ذكرها كتاب اللّه تقتضي تنوعاً في الأسلوب، فمعاني الوعد والوعيد تحتاج الى التفصيل والبسط لهداية الناس، وبيان عاقبة ضلالهم وتماديهم في الكفر والجحود، ومعاني الأحكام والشرائع والقوانين التي تنظم العلاقات بين أفراد المجتمع الإسلامي وبين المجتمعات الأخرى تتطلب دقة العبارة·
رابعا- راعى أسلوب القرآن الأعراف، والعلاقات الاجتماعية،والن ظام الاقتصادي، وأحوال المخاطبين النفسية والفكرية، فلذلك جاء كل ضرب من أسلوبه متميزا بخصائص معينة·
خصائص أسلوب الإيجاز
لقد حصر البلاغيون ضروب الأساليب في ثلاثة أنواع·
الأول- الأسلوب المتساوي في لفظه ومعناه، ووضعوه في الدرجة العالية من البيان صياغة ومعنى·
الثاني- أسلوب يفضل فيه المعنى على اللفظ، وهو أسلوب بليغ لا يقل عن الأول في الجودة والإحساس·
الثالث- أسلوب يفضل فيه اللفظ عن المعنى، وهو مرذول، وبعيد عن سمات البيان·
وإذا بحثنا عن موضع أسلوب الإيجاز بين هذه الأصناف فإننا نجده يقع في الضرب الثاني، وقد جاء في الشعر والأمثال والأقوال المأثورة، مثل عبارة >قيد الأوابد< في شعر امرئ القيس:
بمنجرد قيد الأوابد هيكل
هذه العبارة الموجزة تبرز أصالة الفرس الذي يجعل طريدته مقيدة ، لا تستطيع النجاة منه· بمثل هذا التعبير قدَّم النقاد >أمرأ القيس< قال >ابن سلام<: >ماقال مالم يقولوا، ولكنه سبق العرب إلى أشياء ابتدعها، واستحسنتها العرب، واتبعته فيها الشعراء< >2<·
أما الأقوال المأثورة، والأمثال السائرة، والحكم الدالة، فهي في حد ذاتها ايجاز بليغ، لأنها صيغت للتمثل بها، ولتقويم السلوك والأخلاق والمعاملات·
وسنتناول أسلوب الايجاز في كتاب اللّه من خلال ضربين من التعبير، الأول:التعبير بالنكرة، والثاني: التعبير بالحذف·
أولاً: التعبير بالنكرة:
يختلف التعبير بالنكرة في تركيبه ومضمونه عن التعبير بالمعرفة، وكانت العرب تستعمل بالنكرة لتحقيق مزيتين أسلوبيتين ، الأولى: الإيجاز، والثانية: فسح المجال للمتلقي قصد تأويل المعاني·
وأسلوب القرآن الذي بلغ مرتبة عالية في البلاغة جدير باستعمال بالنكرة لتحقيق هاتين المزيتين، وقد جاء للتعبيرعن أغراض متعددة شملت العقيدة، والغيبيات، والتشريعات والقوانين التي سنها الإسلام،وكل هذه الأساليب كانت -ومازالت- ميدانا يجول فيها الكفر ليسبح في عوالم من التأويلات والرؤى والمفاهيم قصد تصور الأشياء على حقيقتها، أو تقدير حجمها، قال تعالى:>أدخلوها بسلام ذلك يوم الخلود· لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد< >ق :34-35<·
إن اللّه أخبر المؤمنين بالنعيم المادي والمعنوي من أطعمة وأشربة ولباس وحياة زوجية ناعمة، لكن هناك نعيم لايدركه الإنسان، ولا يعرف مقداره، وأثره الطيب·
فلذلك جاءت لفظة >مزيد< وبالنكرة لتدل على هذا العطاء الواسع الذي لا يعرف الإنسان شكله وحجمه ومقداره، وهذا ما يجعله يستعمل فكره لمحاولة الإحاطة بجزء من هذا المزيد·
وكذلك عبرت الآية الكريمة عن مثل هذا المعنى في قوله تعالى: (وعد اللّه المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن، ورضوان من اللّه أكبر) >التوبة:72<·
إن الرضى الذي يناله المؤمنون قد حدثنا عنه الكتاب العزيز في إقامتهم في جنة الخلد، وفي لقائهم بالسرور والحفاوة يوم الحشر، وقد أبيضت وجوهم، لكن تبقى أشياء كثيرة لا يتعلمونها، إنها رضوان الله الواسع العريض الذي يفوق حجم السماء والأرض، ولذلك جاءت عبارة >رضوان من الله أكبر< لكي لا تبقى الأذهان مرتبطة بأجزاء محدودة من النعيم والرضى، وفي تنظيم المجتمع الإسلامي على أساس توافر الأمن لجميع الأفراد قال تعالى: >ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب< >البقرة 179<·
هذه الآية الكريمة أشارت إلى ظاهرة اجتماعية لا يخلو منها مجتمع بشري، لأنها تتعلق أساساً بالصراع من أجل المصالح· ومن هنا تجد فئة من الناس لا تتقيد بالأعراف السائدة، والقوانين التي يضعها المجتمع من أجل العيش في استقرار يكفل الأمن للجميع، فتراهم يحدثون الفتن والاضطرابات بقتل الناس، وبالاستيلاء على أموالهم، والاعتداء على أعراضهم، وإذا لم يطبق قانون يحد من هذا السلوك الشاذ فإن المجتمع لن يعرف الاستقرار والأمن، والآية الكريمة أشارت الى هذا الداء، وإلى أسباب علاجه باعتماد قانون القصاص الذي يوقف تكاثر هؤلاء الجناة كيفما كانت مكانتهم الاجتماعية، ولأمر مّا في بلاغة القرآن السامي جاء طباق خفي بين اللفظين، فالقصاص جزاء ونهاية للظلمة، و>حياة< هي عبارة عن تفاؤل وأمل واستمرار وتجدد· وهذا ما جعل لفظة القصاص تكون معّرفة، لأنها لا تحتاج الى تأويل، بينما حياة تقتضي أن تكون نكرة لتتيح للفكر مجالاً واسعا لتأويل المعاني، والبحث عن أنواع الحيوات التي تسعد الناس في مجمتع آمن بفضل تطبيق القانون·
هذا هو العدل المطلق الذي قصده التعبير القرآني البليغ، تجد فيه مصلحة العباد والبلاد فوق الأغراض الذاتية والمنافع الشخصية، ومن هنا جاءت تعابير كتاب اللّه دقيقة ومحكمة، فلا غموض ولا إيهام يؤديان الى التأويلات البعيدة، والتمحلات المتكلفة التي تخرجه عن سياقه السامي·
قال اللّه تعالى:>فأذنوا بحرب من اللّه ورسوله< >البقرة 279 · الخطاب موجه للذين تمادوا في العصيان، فجاء الإنذار بـ >حرب<، وهي صيغة نكرة مشحونة بالدلالات القوية حيث تجعل الفكر يؤول المعاني، ويغوص باحثاً عن حجم خسارة هذه الحرب، وبما تحدثه في النفوس من هول وفزع· وإذا عرفنا أنها جاءت مقرونة بغرض معين، وهو تحريم الربا، أدركنا هذا الهول·
إن العمل بالربا في أي مجتمع استغلال فظيع لفئة الفقراء والمحتاجين من الأغنياء· فلذلك جعلها الله حربا غير معلومة في زمان أو مكان، وإذا كانت المجتمعات في تعاملها التجاري والمالي مرتبطة بنظام المصارف حيث تجني أرباحاً كثيرة عن طريق الفوائد، فإن هذا النظام المالي يجعل فئة قليلة تحتكر الثروة بحجة تنمية الاقتصاد الوطني، والمجتمعات الإسلامية يمكن لها أن تبقي على المصارف على أساس مراجعة تعاملها المالي بما يلائم المنهج الإسلامي الذي يحارب الظلم والاستغلال، واللّه سبحانه وتعالى أعلم منا بمصالح العباد، وما نهانا عن الربا إلا لكون ضررها أكثر من نفعها·
إن النظام المالي القائم على التعامل بالربا لم يستطع أن يحل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والنفسية، فها هم الفقراء في الدول الكبرى يموتون جوعاء ولا يجدون سكنا، ونسبة الجريمة والسرقة والدعارة وتناول المخدرات وشرب الخمر ترتفع في أوساطهم، ومنهم من يقدم على الانتحار ليجعل نهاية لحياته البئيسة·
إذا كان هذا هوحال الدول الكبرى فكيف نتخذها مثالا في النموذج الاقتصادي الذي يجعل الربا ظاهرة مألوفة؟ إن النموذج بين أيدينا في كتابنا العزيز، وفي سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام، وصحابته رضوان الله عليهم الذين كانوا يضعون كل ما يملكون بين يدي الرسول [لإىمانهم بأن نصرة الإسلام فوق النفس والأولاد والمصالح الفردية، إن ثبات المسلم على المبدأ، واستجابته لنداء اللّه برهان على صدق إيمانه، وقوة الإيمان كفيلة بأن تحقق للفرد كل ما يطمح إليه مهما كانت الصعوبات والمعوقات المادية، إن تطبيق الأمر الإلهي واجب ديني، وموقف أخلاقي وإنساني·
وجاء التنكير في تراكيب القرآن في موضع يحث فيه اللّه رسوله الكريم على مواصلة الدعوة، والصبر على المكاره، وتثبيت فؤاد الرسول [ في هذه المرحلة له دلالة كبيرة، إذ يشعره الله بأنه ليس بدعا من الرسل، فما يتعرض له من أذى وجحود وسخرية ومكر من أعداء الدعوة قد تعرض له رسل قبله، ونالوا ألوانا من الأذى كانت أشد وأنكى، قال تعالى:>وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك< >فاطر- 4< لقد كان الرسول الكريم يتألم، وهو يرى قومه ينكرون رسالة النور مع علمهم بأنه أمين وصادق في كل ما يقوله، هذا الإحساس بالألم هوّنت منه عبارة >رسل من قبلك< فكانت النكرة أقوى في الدلالة لتقول للرسول: اصبر كما صبر أولو العزم قبلك، كما تفيد هذه النكرة في بلاغتها السامية طرق التوجيه والإعداد للأمر الجليل، وهذه تربية القرآن للرسول وللمسلمين، وقد استجاب الرسول لهذا النداء والتوجيه الرباني، فبلّغ الرسالة بصبر، ونال الدرجة الرفيعة في الدنيا والآخرة، وكان خير قدوة في العبادة والسلوك والاستقامة·
ثانياً: التعبير بالحذف
الحذف ضرب من الأساليب وجد في الشعر والخطابة والأمثال، وفي كتاب اللّه وحديث رسوله عليه الصلاة والسلام، وهو ظاهرة أسلوبية متميزة في البيان العربي·
وهذه الظاهر كسائر الظواهر البلاغية والتركيبة تخضع لشروط، ولذلك ينبغي النظر فيه بتأنٍ في القرآن والكلام الفصيح، فما أثبت وما حذف لم يأت عبثاً·
وهذا النمط من الأسلوب جاء في كتاب الله دالا على سمو العبارة، وشرف المعنى·، ورصانة التعبير كقوله تعالى: >هدى للمتقين<>البقرة - 2<، لقد تضمنت الآية دلالة الإرشاد والهداية للمتقين، وهؤلاء مهتدون بما ظهر من صدق إيمانهم، ومن هنا ينبغي النظرفي سياق الآية من خلال منطوقها ومحذوفها ليتجلى السر في هذا التركيب الذي بني على الإيجاز، والكلام الجامع لهذا المعنى المعجز هو: هدى للصائرين إلى التقوى بعدالضلال، ولم تقع الإشارة إلى الضالين، لأن الهدى دالة عليهم، إذ كل مهتد كان من قبل ضالا فهداه اللّه، وشرح صدره للإيمان، هذا الإيجاز جاء عن طريق الحذف الذي دل عليه السياق·
وقال عز من قائل: >ولو أن قرآنا سيّرت به الجبال أو قُطِّعت به الأرض أو كلّم به الموتى< (الرعد -31)· إن المتمرسين بالبيان يدركون أن السياق يستدعي بقوة إبراز المحذوف، وهو: لكان هذا القرآن، لكن لماذا لم يذكر؟ إننا حينما نتأمل البيان القرآني في هذه الآية نجد عدم الذكر يمثل البيان في صميمه، لأنه ينزه التركيب من زيادة لا تضيف للمعنى شيئا· إن الاكتفاء بالقدر المذكور هو ماكان يصدر من بلغاء العرب، إذ كانوا يعدون الزيادة التي يمكن الاستغناء عنها حشوا، والتعبير بالحذف في كتاب اللّه تتنوع طرقه، من ذلك الحذف الذي يقصد به المبالغة، وهو حذف يتيح التوسع في تقدير الأشياء على أوجه متعددة، كما أنه يحدث وقعا بالغا في النفس، لا تجده في التصريح والإثبات، قال >السجلماسي<: >ولو صرح بالجواب لوقف الذهن عند المصرح به المعين، فلا يكون له ذلك الواقع< (10)·
ومما جاء في الكتاب المعجز يحمل هذه الخصائص البيانية قوله تعالى: >وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين< سورة الزمر ، آية 73<·
السياق في الآية الكريمة يقتضي ذكر الجزاء >حتى< لكنه حذف لغرض الإيجاز الذي يجعل السامع يسبح بفكره للتأمل في نعيم الله ورضوانه الذي خص به أهل الجنة، وهذا الثواب والرضوان لا يستطيع العقل إدراكهما، والإحاطة بهما جملة وتفصيلاً، >وإنما حذف لأنه في صفة ثواب أهل الجنة، فدل بحذفه على أنه شيء لا يحيط به الوصف >12<·
والعبارة القرآنة المشحونة بالقدسية، والإيحاءات المعبرة عن السلوك والأخلاق والمثل العليا التي تعارف عليها القوم تدرك بالعقل السليم، والوجدان الفياض والتأمل الروحي، مع ذوق يميز بينها وبين العبارات المتداولة، ولو كانت صادرة عن البلغاء، لأن هؤلاء برغم مكانتهم في البيان تجد كلامهم يتفاوت تفاوتاً بينا، فتارة يسلك مسلك الجزل المتماسك، وتارة أخرى تراه متوسطا أو ضعيفا أو مبتذلا، تنبو عنه النفس ويرفضه الطبع، أما العبارة القرآنية فلا تنزل منزلة بين بين، وإنما هي في كل موضوع دالة على الإعجاز وسمو البيان، إن لفظة >السوق< التي تكررت في أصحاب الجنة والنار في قوله تعالى: >وسيق الذين اتقوا ربهم< وقوله >وسيق الذين كفروا إلى جنهم زمرا< في سورة >الزمر< المتقدمة، تدرك قدسيتها وجلالها بالنظر في السياق وأحوال المخاطبين، فأصحاب الجنة وأصحاب النار يساقون، لكن شتان بين سوق أولئك وسوق هؤلاء بدليل خطاب القرآن للطرفين في آيات كثيرة، إن أصحاب الجنة لهم مكانة رفيعة عند الله، يلقاهم الملائكة بالترحيب والحفاوة، والسعادة بادية على وجوههم، فلذلك يساقون إلى الجنة بالكلمة الطيبة مثل ما يستقبل ضيف كريم نترقب طلتعه، أما أصحاب النار فيساقون بالإهانة والذل والاحتقار والدفع، وهم مقيدون بالسلاسل مثل المجرمين الخارجين على القانون، وقد غاص الزمخشري بذوقه المرهف باحثا عن دلالة اللفظة في الموضوعين، فقال:>فإن قلت: كيف عبَّر عن الذهاب بالفريقين جميعا بلفظ السوق؟ قلت: المراد بسوق أهل النار طردهم اليها بالهوان والعنف كما يفعل بالأسارى، والخارجين على السطان إذا سيقوا إلى حبس أو قتل، والمراد بهم الى دار الكرامة والرضوان، كما يفعل بمن يشرف ويكرم من الوافدين على بعضهم الملوك، فشتان ما بين السوقين >13<·
يتبع
الدكتور محمد بن محمد الحجوي
(قد جاءكم من اللّه نور وكتاب مبين· يهدي به اللّه من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه) المائدة،:15-16<·
تتميز اللغة العربية بمجموعة من الخصائص التركيبية والصوتية التي تجعل طرق الدلالة تتنوع بحسب المقامات، وهي دليل على غنى اللغة وسعتها، وقدرتها على التطور، وتحقيق التواصل، وتنظيم الفكر في القضايا ذات الطابع العلمي والأدبي والفلسفي·
وإذا كان الإيجاز عند أصحاب البيان يعد بلاغة لكونه يعتمد أسلوبا معيناً، وطريقة خاصة في الأداء يطلبها المقام، فإن الإطناب يعتبر كذلك بلاغة إذا كان الموضوع يحتاج للإسهاب والتفصيل والبسط، والنوعان معاً ضروريان في تنويع التواصل·
والعرب كانوا في خطبهم الجامعة، وأقوالهم المأثورة، وأمثالهم السائرة، وحكمهم الطريفة، يجمعون بين هذين اللونين من التعبير، قال الشاعر:
صموتا في المجالس غير عي،
جديراً حين ينطق بالصواب
والقرآن الكريم خاطب العرب بأسلوبهم، >قرآنا عربياً غير ذي عوج لعلهم يتقون< >الزمر،-27<، فمن الطبيعي أن تكون الآيات البينات جامعة للخصائص البيانية، ومنها الإيجاز والإطناب، إن منهج أسلوب القرآن كان يروم تحقيق غايات بيانية سامية، منها:
أولا- إفحام العرب في البلاغة، وهم فرسان ميدانها، فلا يجدون تعليلاً بحجة أن أسلوبه غريب عنهم، فيكون التحدي، بالنسبة إليهم باطلاً·
ثانيا- تحقيق التلاؤم مع الأغراض والمضامين التي دعا إليها·
ثالثا- إن طبيعة الأغراض التي ذكرها كتاب اللّه تقتضي تنوعاً في الأسلوب، فمعاني الوعد والوعيد تحتاج الى التفصيل والبسط لهداية الناس، وبيان عاقبة ضلالهم وتماديهم في الكفر والجحود، ومعاني الأحكام والشرائع والقوانين التي تنظم العلاقات بين أفراد المجتمع الإسلامي وبين المجتمعات الأخرى تتطلب دقة العبارة·
رابعا- راعى أسلوب القرآن الأعراف، والعلاقات الاجتماعية،والن ظام الاقتصادي، وأحوال المخاطبين النفسية والفكرية، فلذلك جاء كل ضرب من أسلوبه متميزا بخصائص معينة·
خصائص أسلوب الإيجاز
لقد حصر البلاغيون ضروب الأساليب في ثلاثة أنواع·
الأول- الأسلوب المتساوي في لفظه ومعناه، ووضعوه في الدرجة العالية من البيان صياغة ومعنى·
الثاني- أسلوب يفضل فيه المعنى على اللفظ، وهو أسلوب بليغ لا يقل عن الأول في الجودة والإحساس·
الثالث- أسلوب يفضل فيه اللفظ عن المعنى، وهو مرذول، وبعيد عن سمات البيان·
وإذا بحثنا عن موضع أسلوب الإيجاز بين هذه الأصناف فإننا نجده يقع في الضرب الثاني، وقد جاء في الشعر والأمثال والأقوال المأثورة، مثل عبارة >قيد الأوابد< في شعر امرئ القيس:
بمنجرد قيد الأوابد هيكل
هذه العبارة الموجزة تبرز أصالة الفرس الذي يجعل طريدته مقيدة ، لا تستطيع النجاة منه· بمثل هذا التعبير قدَّم النقاد >أمرأ القيس< قال >ابن سلام<: >ماقال مالم يقولوا، ولكنه سبق العرب إلى أشياء ابتدعها، واستحسنتها العرب، واتبعته فيها الشعراء< >2<·
أما الأقوال المأثورة، والأمثال السائرة، والحكم الدالة، فهي في حد ذاتها ايجاز بليغ، لأنها صيغت للتمثل بها، ولتقويم السلوك والأخلاق والمعاملات·
وسنتناول أسلوب الايجاز في كتاب اللّه من خلال ضربين من التعبير، الأول:التعبير بالنكرة، والثاني: التعبير بالحذف·
أولاً: التعبير بالنكرة:
يختلف التعبير بالنكرة في تركيبه ومضمونه عن التعبير بالمعرفة، وكانت العرب تستعمل بالنكرة لتحقيق مزيتين أسلوبيتين ، الأولى: الإيجاز، والثانية: فسح المجال للمتلقي قصد تأويل المعاني·
وأسلوب القرآن الذي بلغ مرتبة عالية في البلاغة جدير باستعمال بالنكرة لتحقيق هاتين المزيتين، وقد جاء للتعبيرعن أغراض متعددة شملت العقيدة، والغيبيات، والتشريعات والقوانين التي سنها الإسلام،وكل هذه الأساليب كانت -ومازالت- ميدانا يجول فيها الكفر ليسبح في عوالم من التأويلات والرؤى والمفاهيم قصد تصور الأشياء على حقيقتها، أو تقدير حجمها، قال تعالى:>أدخلوها بسلام ذلك يوم الخلود· لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد< >ق :34-35<·
إن اللّه أخبر المؤمنين بالنعيم المادي والمعنوي من أطعمة وأشربة ولباس وحياة زوجية ناعمة، لكن هناك نعيم لايدركه الإنسان، ولا يعرف مقداره، وأثره الطيب·
فلذلك جاءت لفظة >مزيد< وبالنكرة لتدل على هذا العطاء الواسع الذي لا يعرف الإنسان شكله وحجمه ومقداره، وهذا ما يجعله يستعمل فكره لمحاولة الإحاطة بجزء من هذا المزيد·
وكذلك عبرت الآية الكريمة عن مثل هذا المعنى في قوله تعالى: (وعد اللّه المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن، ورضوان من اللّه أكبر) >التوبة:72<·
إن الرضى الذي يناله المؤمنون قد حدثنا عنه الكتاب العزيز في إقامتهم في جنة الخلد، وفي لقائهم بالسرور والحفاوة يوم الحشر، وقد أبيضت وجوهم، لكن تبقى أشياء كثيرة لا يتعلمونها، إنها رضوان الله الواسع العريض الذي يفوق حجم السماء والأرض، ولذلك جاءت عبارة >رضوان من الله أكبر< لكي لا تبقى الأذهان مرتبطة بأجزاء محدودة من النعيم والرضى، وفي تنظيم المجتمع الإسلامي على أساس توافر الأمن لجميع الأفراد قال تعالى: >ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب< >البقرة 179<·
هذه الآية الكريمة أشارت إلى ظاهرة اجتماعية لا يخلو منها مجتمع بشري، لأنها تتعلق أساساً بالصراع من أجل المصالح· ومن هنا تجد فئة من الناس لا تتقيد بالأعراف السائدة، والقوانين التي يضعها المجتمع من أجل العيش في استقرار يكفل الأمن للجميع، فتراهم يحدثون الفتن والاضطرابات بقتل الناس، وبالاستيلاء على أموالهم، والاعتداء على أعراضهم، وإذا لم يطبق قانون يحد من هذا السلوك الشاذ فإن المجتمع لن يعرف الاستقرار والأمن، والآية الكريمة أشارت الى هذا الداء، وإلى أسباب علاجه باعتماد قانون القصاص الذي يوقف تكاثر هؤلاء الجناة كيفما كانت مكانتهم الاجتماعية، ولأمر مّا في بلاغة القرآن السامي جاء طباق خفي بين اللفظين، فالقصاص جزاء ونهاية للظلمة، و>حياة< هي عبارة عن تفاؤل وأمل واستمرار وتجدد· وهذا ما جعل لفظة القصاص تكون معّرفة، لأنها لا تحتاج الى تأويل، بينما حياة تقتضي أن تكون نكرة لتتيح للفكر مجالاً واسعا لتأويل المعاني، والبحث عن أنواع الحيوات التي تسعد الناس في مجمتع آمن بفضل تطبيق القانون·
هذا هو العدل المطلق الذي قصده التعبير القرآني البليغ، تجد فيه مصلحة العباد والبلاد فوق الأغراض الذاتية والمنافع الشخصية، ومن هنا جاءت تعابير كتاب اللّه دقيقة ومحكمة، فلا غموض ولا إيهام يؤديان الى التأويلات البعيدة، والتمحلات المتكلفة التي تخرجه عن سياقه السامي·
قال اللّه تعالى:>فأذنوا بحرب من اللّه ورسوله< >البقرة 279 · الخطاب موجه للذين تمادوا في العصيان، فجاء الإنذار بـ >حرب<، وهي صيغة نكرة مشحونة بالدلالات القوية حيث تجعل الفكر يؤول المعاني، ويغوص باحثاً عن حجم خسارة هذه الحرب، وبما تحدثه في النفوس من هول وفزع· وإذا عرفنا أنها جاءت مقرونة بغرض معين، وهو تحريم الربا، أدركنا هذا الهول·
إن العمل بالربا في أي مجتمع استغلال فظيع لفئة الفقراء والمحتاجين من الأغنياء· فلذلك جعلها الله حربا غير معلومة في زمان أو مكان، وإذا كانت المجتمعات في تعاملها التجاري والمالي مرتبطة بنظام المصارف حيث تجني أرباحاً كثيرة عن طريق الفوائد، فإن هذا النظام المالي يجعل فئة قليلة تحتكر الثروة بحجة تنمية الاقتصاد الوطني، والمجتمعات الإسلامية يمكن لها أن تبقي على المصارف على أساس مراجعة تعاملها المالي بما يلائم المنهج الإسلامي الذي يحارب الظلم والاستغلال، واللّه سبحانه وتعالى أعلم منا بمصالح العباد، وما نهانا عن الربا إلا لكون ضررها أكثر من نفعها·
إن النظام المالي القائم على التعامل بالربا لم يستطع أن يحل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والنفسية، فها هم الفقراء في الدول الكبرى يموتون جوعاء ولا يجدون سكنا، ونسبة الجريمة والسرقة والدعارة وتناول المخدرات وشرب الخمر ترتفع في أوساطهم، ومنهم من يقدم على الانتحار ليجعل نهاية لحياته البئيسة·
إذا كان هذا هوحال الدول الكبرى فكيف نتخذها مثالا في النموذج الاقتصادي الذي يجعل الربا ظاهرة مألوفة؟ إن النموذج بين أيدينا في كتابنا العزيز، وفي سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام، وصحابته رضوان الله عليهم الذين كانوا يضعون كل ما يملكون بين يدي الرسول [لإىمانهم بأن نصرة الإسلام فوق النفس والأولاد والمصالح الفردية، إن ثبات المسلم على المبدأ، واستجابته لنداء اللّه برهان على صدق إيمانه، وقوة الإيمان كفيلة بأن تحقق للفرد كل ما يطمح إليه مهما كانت الصعوبات والمعوقات المادية، إن تطبيق الأمر الإلهي واجب ديني، وموقف أخلاقي وإنساني·
وجاء التنكير في تراكيب القرآن في موضع يحث فيه اللّه رسوله الكريم على مواصلة الدعوة، والصبر على المكاره، وتثبيت فؤاد الرسول [ في هذه المرحلة له دلالة كبيرة، إذ يشعره الله بأنه ليس بدعا من الرسل، فما يتعرض له من أذى وجحود وسخرية ومكر من أعداء الدعوة قد تعرض له رسل قبله، ونالوا ألوانا من الأذى كانت أشد وأنكى، قال تعالى:>وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك< >فاطر- 4< لقد كان الرسول الكريم يتألم، وهو يرى قومه ينكرون رسالة النور مع علمهم بأنه أمين وصادق في كل ما يقوله، هذا الإحساس بالألم هوّنت منه عبارة >رسل من قبلك< فكانت النكرة أقوى في الدلالة لتقول للرسول: اصبر كما صبر أولو العزم قبلك، كما تفيد هذه النكرة في بلاغتها السامية طرق التوجيه والإعداد للأمر الجليل، وهذه تربية القرآن للرسول وللمسلمين، وقد استجاب الرسول لهذا النداء والتوجيه الرباني، فبلّغ الرسالة بصبر، ونال الدرجة الرفيعة في الدنيا والآخرة، وكان خير قدوة في العبادة والسلوك والاستقامة·
ثانياً: التعبير بالحذف
الحذف ضرب من الأساليب وجد في الشعر والخطابة والأمثال، وفي كتاب اللّه وحديث رسوله عليه الصلاة والسلام، وهو ظاهرة أسلوبية متميزة في البيان العربي·
وهذه الظاهر كسائر الظواهر البلاغية والتركيبة تخضع لشروط، ولذلك ينبغي النظر فيه بتأنٍ في القرآن والكلام الفصيح، فما أثبت وما حذف لم يأت عبثاً·
وهذا النمط من الأسلوب جاء في كتاب الله دالا على سمو العبارة، وشرف المعنى·، ورصانة التعبير كقوله تعالى: >هدى للمتقين<>البقرة - 2<، لقد تضمنت الآية دلالة الإرشاد والهداية للمتقين، وهؤلاء مهتدون بما ظهر من صدق إيمانهم، ومن هنا ينبغي النظرفي سياق الآية من خلال منطوقها ومحذوفها ليتجلى السر في هذا التركيب الذي بني على الإيجاز، والكلام الجامع لهذا المعنى المعجز هو: هدى للصائرين إلى التقوى بعدالضلال، ولم تقع الإشارة إلى الضالين، لأن الهدى دالة عليهم، إذ كل مهتد كان من قبل ضالا فهداه اللّه، وشرح صدره للإيمان، هذا الإيجاز جاء عن طريق الحذف الذي دل عليه السياق·
وقال عز من قائل: >ولو أن قرآنا سيّرت به الجبال أو قُطِّعت به الأرض أو كلّم به الموتى< (الرعد -31)· إن المتمرسين بالبيان يدركون أن السياق يستدعي بقوة إبراز المحذوف، وهو: لكان هذا القرآن، لكن لماذا لم يذكر؟ إننا حينما نتأمل البيان القرآني في هذه الآية نجد عدم الذكر يمثل البيان في صميمه، لأنه ينزه التركيب من زيادة لا تضيف للمعنى شيئا· إن الاكتفاء بالقدر المذكور هو ماكان يصدر من بلغاء العرب، إذ كانوا يعدون الزيادة التي يمكن الاستغناء عنها حشوا، والتعبير بالحذف في كتاب اللّه تتنوع طرقه، من ذلك الحذف الذي يقصد به المبالغة، وهو حذف يتيح التوسع في تقدير الأشياء على أوجه متعددة، كما أنه يحدث وقعا بالغا في النفس، لا تجده في التصريح والإثبات، قال >السجلماسي<: >ولو صرح بالجواب لوقف الذهن عند المصرح به المعين، فلا يكون له ذلك الواقع< (10)·
ومما جاء في الكتاب المعجز يحمل هذه الخصائص البيانية قوله تعالى: >وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين< سورة الزمر ، آية 73<·
السياق في الآية الكريمة يقتضي ذكر الجزاء >حتى< لكنه حذف لغرض الإيجاز الذي يجعل السامع يسبح بفكره للتأمل في نعيم الله ورضوانه الذي خص به أهل الجنة، وهذا الثواب والرضوان لا يستطيع العقل إدراكهما، والإحاطة بهما جملة وتفصيلاً، >وإنما حذف لأنه في صفة ثواب أهل الجنة، فدل بحذفه على أنه شيء لا يحيط به الوصف >12<·
والعبارة القرآنة المشحونة بالقدسية، والإيحاءات المعبرة عن السلوك والأخلاق والمثل العليا التي تعارف عليها القوم تدرك بالعقل السليم، والوجدان الفياض والتأمل الروحي، مع ذوق يميز بينها وبين العبارات المتداولة، ولو كانت صادرة عن البلغاء، لأن هؤلاء برغم مكانتهم في البيان تجد كلامهم يتفاوت تفاوتاً بينا، فتارة يسلك مسلك الجزل المتماسك، وتارة أخرى تراه متوسطا أو ضعيفا أو مبتذلا، تنبو عنه النفس ويرفضه الطبع، أما العبارة القرآنية فلا تنزل منزلة بين بين، وإنما هي في كل موضوع دالة على الإعجاز وسمو البيان، إن لفظة >السوق< التي تكررت في أصحاب الجنة والنار في قوله تعالى: >وسيق الذين اتقوا ربهم< وقوله >وسيق الذين كفروا إلى جنهم زمرا< في سورة >الزمر< المتقدمة، تدرك قدسيتها وجلالها بالنظر في السياق وأحوال المخاطبين، فأصحاب الجنة وأصحاب النار يساقون، لكن شتان بين سوق أولئك وسوق هؤلاء بدليل خطاب القرآن للطرفين في آيات كثيرة، إن أصحاب الجنة لهم مكانة رفيعة عند الله، يلقاهم الملائكة بالترحيب والحفاوة، والسعادة بادية على وجوههم، فلذلك يساقون إلى الجنة بالكلمة الطيبة مثل ما يستقبل ضيف كريم نترقب طلتعه، أما أصحاب النار فيساقون بالإهانة والذل والاحتقار والدفع، وهم مقيدون بالسلاسل مثل المجرمين الخارجين على القانون، وقد غاص الزمخشري بذوقه المرهف باحثا عن دلالة اللفظة في الموضوعين، فقال:>فإن قلت: كيف عبَّر عن الذهاب بالفريقين جميعا بلفظ السوق؟ قلت: المراد بسوق أهل النار طردهم اليها بالهوان والعنف كما يفعل بالأسارى، والخارجين على السطان إذا سيقوا إلى حبس أو قتل، والمراد بهم الى دار الكرامة والرضوان، كما يفعل بمن يشرف ويكرم من الوافدين على بعضهم الملوك، فشتان ما بين السوقين >13<·
يتبع