المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : صفحات مِن ذاكرة التاريخ _____ متجدد



ابو وليد البحيرى
2020-06-05, 12:42 AM
صفحات مِن ذاكرة التاريخ (1)
الخروج على أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه- "الأسباب والنتائج"








كتبه/ زين العابدين كامل


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فمِن الأمور المستقرة أن الدنيا لن تستقيم لأحدٍ دون تعب و كدر، بل ولن تدوم على حال واحد، فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: كَانَتْ نَاقَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تُسَمَّى: العَضْبَاءَ، وَكَانَتْ لاَ تُسْبَقُ؛ فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى قَعُودٍ لَهُ فَسَبَقَهَا، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى المُسْلِمِينَ، وَقَالُوا: سُبِقَتِ العَضْبَاءُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِنَّ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ لاَ يَرْفَعَ شَيْئًا مِنَ الدُّنْيَا إِلا وَضَعَهُ) (رواه البخاري).

فعلى العاقل أن يفهم ذلك، وأن يتعامل مع الواقع بهذا المفهوم.

وإذا أراد الإنسان أن يغير مِن واقعه الذي يعيشه ويحياه، فلا بد مِن التأني والتريث، والترجيح بيْن المصالح والمفاسد، والنظر إلى مآل الأمور حتى لا يخرج مِن واقع مرير إلى واقع أمَر مِن الأول؛ فأحيانًا يتعرض الإنسان لشيءٍ مِن الظلم وهو يريد أن يدفع الظلم عن نفسه، وأحيانًا أخرى يكون الأمر بصورة جماعية؛ فقد تثور الشعوب على حكامها؛ بسبب الظلم والطغيان والتغاضي عن ألام الناس، أو مِن كثرة الفساد وتنحية شرع الله -تعالى-، أو بسبب كثرة الانتهاكات والممارسات الجائرة مِن قِبَل بعض الأفراد في بعض المؤسسات، أو بسبب حالة اليأس التي تسيطر على الشعوب أحيانًا بسبب انخفاض مستوى المعيشة، وارتفاع نسبة الفقر، وتدهور الحالة الاقتصادية، وغير ذلك مِن الأسباب.


وهنا تكون المطالبة بالتغيير مِن الأمور المشروعة؛ دفعًا للظلم، ونشرًا للعدل، وتحكيمًا للشرع، ومِن أجل الحفاظ على البلاد والعباد مِن الفساد والطغيان، ونحو ذلك؛ بشرط ألا يترتب على التغيير منكر وفساد أشد مِن الأول، ففي مثل هذه الأحوال لا بد مِن دراسة الواقع دراسة متأنية، ودراسة موازين القوى والترجيح بيْن المصالح والمفاسد.

ولما كان التاريخ مرآة الأمم، يعكس ماضيها، ويترجم حاضرها، وتستلهم الأمم مِن خلاله مستقبلها؛ كان مِن الأهمية بمكان الاهتمام بالتاريخ، والحفاظ عليه، ونقله إلى الأجيال نقلاً صحيحًا، بحيث يكون نبراسًا وهاديًا لهم في حاضرهم ومستقبلهم؛ فالشعوب التي لا تاريخ لها لا وجود لها؛ فلن تستطيع الأمم أن تتقدم في حاضرها إلا بالرجوع إلى تاريخها وماضيها، فلا مستقبل لأمة تجهل تاريخها، وليس هناك أعظم مِن التاريخ الإسلامي.

والتاريخ تُعرف به الأحداث والوقائع، وما صاحبها مِن تغيرات ومجريات، والتاريخ فيه استلهام للمستقبل على ضوء السنن الربانية الثابتة التي لا تتغير ولا تتبدل، ولا تحابي أحدًا مِن الخلق بحال، والتاريخ فيه شحذ للهمم، وبعث للروح مِن جديدٍ، وتنافس في الخير والصلاح، والبذل والعطاء، والتاريخ فيه عظات وعبر، وآيات ودلائل، قال الله -تعالى-: (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) (الأنعام:11)، والتاريخ يبرز القدوات الصالحة التي دخلت التاريخ مِن أوسع أبوابه، وتركت صفحات بيضاء ناصعة، لا تُنسى على مر الأيام والسنين.

والتاريخ يعين على معرفة حال الأمم والشعوب مِن حيث القوة والضعف، والعلم والجهل، وبمعرفته نقف على الجوانب المشرقة في تاريخنا؛ فنقتفي أثرها، ونقف أيضًا على الجوانب السلبية فيه فنحاول تجنبها والابتعاد عنها.

ومِن أهم ما تفيده دراسة التاريخ: معرفة أخطاء السابقين، والحذر مِن الأخطاء والمحظورات التي تم الوقوع فيها عبْر التاريخ، وأنبِّه على أنه لا يعلم حقائق الأمور إلا الله -تعالى-، فالتاريخ الموثق قليل في عالم الأحداث، فقد يتم أحيانًا تشويه التاريخ وتزييفه مِن بعض أصحاب النفوس الضعيفة، وأصحاب المصالح الشخصية، أو يتم تزييفه بسبب الهوى والتعصب المذموم، أو بسبب النقل دون تثبت.

قال ابن خلدون -رحمه الله-: "وكثيرًا ما وقع للمؤرِّخين والمفسِّرين وأئمة النَّقل مِن المغالط في الحكايات والوقائع؛ لاعتمادهم فيها على مجرَّد النّقل غثًّا أو سمينًا ولم يعرضوها على أصولها، ولا قاسوها بأشباهها، ولا سَبَرُوهَا بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات، وتحكيم النَّظر والبصيرة في الأخبار؛ فضلَّوا عن الحق، وتاهوا في بيداء الوهم والغلط" (مقدمة ابن خلدون).

وإذا تأملنا أحوال السابقين رأينا بعض الذين حاولوا أن يغيروا أمورًا رأوها منكرة مِن وجهة نظرهم، تجدهم أحيانًا يندمون على ما فعلوا بعد أن أفسدوا الحياة والواقع!

فعلى سبيل المثال:

- الخروج على ذي النورين الخليفة الراشد عثمان بن عفان -رضي الله عنه-: إذا نظرنا في أحوال مَن خرجوا على ذي النورين الخليفة الراشد عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، نرى أنه قد خرج عليه المجرمون الرعاع مِن الكوفة والبصرة ومصر، وهم لا يريدون إلا عزله -رضي الله عنه- أو أن يقتلوه!

- وقالوا: لقد جاء عثمان -رضي الله عنه- في ولايته بمظالم ومناكير! منها: "ضربه لعمار حتى فتق أمعاءه - وضربه لابن مسعود حتى كسر أضلاعه، ومنعه عطاءه".

- والرد على هذه التهم الباطلة: أن مسألة ضربه لعمار أو لابن مسعود -رضي الله عنهما- غير ثابتة.

قال أبو بكر بن العربي -رحمه الله-: "هذا كله باطل سندًا ومتنًا؛ أما قولهم: "جاء عثمان بمظالم ومناكير"؛ فباطل، وأما ضربه لابن مسعود ومنعه عطاءه؛ فزور، وضربه لعمار؛ إفك مثله، ولو فتق أمعاءه ما عاش أبدًا" (العواصم مِن القواصم).

وقال أبو عبد الله محمد بن بكر المالقي -رحمه الله-: "فإن قيل بأن عثمان -رضي الله عنه- ضرب عمارًا! قيل: هذا لا يثبت، ولو ثبت فإن للإمام أن يؤدب بعض رعيته بما يراه" (التمهيد والبيان في مقتل الشهيد عثمان).

وقال محب الدين الخطيب -رحمه الله-: "وهذا مما يفعله ولي الأمر في مثل هذه الأحوال قبْل عثمان وبعده، وكم فعل عمر مثل ذلك بأمثال عمار، ومَن هم خير مِن عمار بما له مِن حق الولاية على المسلمين، ولما نظم السبئيون حركة الإشاعات وصاروا يرسلون الكتب مِن كل مِصر إلى الأمصار الأخرى بالأخبار الكاذبة، فأشار الصحابة على عثمان بأن يبعث رجالاً ممن يثق بهم إلى الأمصار حتى يرجعوا إليه بحقيقة الحال؛ تناسى عثمان ما كان مِن عمار، وأرسله إلى مصر ليكون موضع ثقته في كشف حالها" (العواصم مِن القواصم تحقيق محب الدين الخطيب).

وقال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "وأما قوله: "إنه لما حَكَمَ ضرب ابن مسعود حتى مات"؛ فهذا كذب باتفاق أهل العلم، فإنه لما وليَ أقر ابن مسعود على ما كان عليه مِن الكوفة إلى أن جرى مِن ابن مسعود ما جرى، وما مات ابن مسعود مِن ضرب عثمان أصلاً. وفي الجملة: فإذا قيل إن عثمان ضرب ابن مسعود أو عمارًا فهذا لا يقدح في أحدٍ منهم؛ فإنا نشهد أن الثلاثة في الجنة، وأنهم مِن أكابر أولياء الله المتقين، وإن ولي الله قد يصدر عنه ما يستحق عليه العقوبة الشرعية، فكيف بالتعزير؟! وقد ضرب عمر بن الخطاب أبيَّ بن كعب بالدرة لما رأى الناس يمشون خلفه، وقال: "هذا ذلة للتابع وفتنة للمتبوع"؛ فإن كان عثمان أدَّب هؤلاء: فإما أن يكون عثمان مصيبًا في تعزيرهم لاستحقاقهم ذلك، ويكون ذلك الذي عُزروا عليه تابوا منه، وكُفر عنهم بالتعزير وغيره مِن المصائب أو بحسناتهم العظيمة أو بغير ذلك، وإما أن يقال كانوا مظلومين مطلقًا، فالقول في عثمان كالقول فيهم وزيادة؛ فإنه أفضل منهم، وأحق بالمغفرة والرحمة" (منهاج السُّنة).

بل ثبت أنه عندما بُويع عثمانُ -رضي الله عنه- بالخلافة قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "بايعنا خيرَنا ولم نألُ"، وكان عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- واليًا لعثمان -رضي الله عنه- على بيت مال الكوفة، وكان والي الكوفة في ذلك الوقت سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-، وقد حدث خلاف بينهما بسبب أن سعدًا -رضي الله عنه- استقرض مالاً مِن بيت المال، ولم يرده في الموعد المحدد، فحدث خلاف بينهما بسبب هذا الأمر، فاشتدا في الكلام واجتمع حولهما الناس فعزل عثمان -رضي الله عنه- سعدًا مِن ولاية الكوفة، وأقر على بيت المال عبد الله بن مسعود، وهذه القصة تدلنا على ورع كلا الصحابيين، وتدل على حاجة سعد إلى المال، وعدم وجود ما يكفيه وأنه لذلك اضطر إلى الاقتراض مِن بيت المال، كما تدل على اجتهاد عبد الله بن مسعود في حفظ أموال المسلمين، وإصراره على استرداد القرض من سعد والي الكوفة وحاكمها.

ولكن الخلاف الذي حدث بين عثمان وابن مسعود -رضي الله عنهما- وقع لما أراد عثمان -رضي الله عنه- جمع الناس على مصحفٍ واحد، واختار -رضي الله عنه- لهذا الأمر زيد بن ثابت -رضي الله عنه-، وكان أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- قد اختاراه مِن قبْل لجمع القرآن في المرة الأولى؛ وذلك لأن زيدًا -رضي الله عنه- هو الذي حفظ العرضة الأخيرة للقرآن مِن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان ابن مسعود يود لو أن كتابة المصحف نيطت به، وكان يود أيضًا لو يبقى مصحفه الذي كان يكتبه لنفسه فيما مضى، فجاء عمل عثمان على خلاف ما كان يوده ابن مسعود في الحالتين، والقضية أنه كان لعبد الله بن مسعود مصحف يختلف في ترتيب السور عن مصحف زيد بن ثابت -رضي الله عنه-، ولهجة عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- مِن هزيل، وليست مِن قريش.

وقد كان الأمر أن تكون كتابة المصحف على الاتفاق، وعند الاختلاف يُرجع إلى لهجة قريش؛ لأن القرآن نزل بلسانها، فلما علم عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أن القرآن سيُجمع على قراءة زيد بن ثابت، وأن مصحفه سوف يحرق غضب غضبًا شديدًا وأراد أن يحتفظ بمصحفه، واجتمع كبار الصحابة مع عبد الله بن مسعود، وتحدثوا معه وحدثوه بأن هذا الأمر فيه الخير للمسلمين، فلما علم ذلك رجع عن رأيه.

وقد عقد ابن أبي داود -وهو أبو بكر بن أبي داود، عبد الله بن سليمان بن الأشعث الأزدي السجستاني المتوفَّى 316هـ رحمه الله- في "كتاب المصاحف" بابًا بعنوان: "باب رضاء عبد الله بن مسعود بعد ذلك بجمع عثمان رضي الله عنه المصاحف"، قال: حدثنا عبد الله بن سعيد، ومحمد بن عثمان العجلي، قالا: حدثنا أبو أسامة، قال: حدثني زهير، قال: حدثني الوليد بن قيس، عن عثمان بن حسان العامري، عن فلفلة الجعفي قال: فزعتُ فيمن فزِع إلى عبدِ اللهِ يعني ابنَ مسعودٍ في المصاحفِ فدخلْنا عليه فقال رجلٌ من القومِ: إنا لم نأتِك زائرين، ولكنا جِئْنا حين راعَنا هذا الخبرُ قال: "إنَّ القرآنَ أُنزل على نبيِّكم مِن سبعةِ أبوابٍ على سبعةِ أحرُفٍ، وإنَّ الكتابَ الأوَّلَ كان ينزلُ مِن بابٍ واحدٍ على حرفٍ واحدٍ" (أخرجه الطحاوي وأحمد، وقال الألباني: إسناده جيد).

وجاء في كتاب غاية النهاية في طبقات القراء للإمام ابن الجزري: "وكان الأعمش يجود حرف ابن مسعود، وكان ابن أبي ليلى يجود حرف علي، وكان أبو إسحاق يقرأ مِن هذا الحرف، ومِن هذا الحرف، وكان حمران يقرأ قراءة ابن مسعود ولا يخالف مصحف عثمان، يعتبر حروف معاني عبد الله ولا يخرج مِن موافقة مصحف عثمان، وهذا كان اختيار حمزة".

وقد ذكر الإمام الذهبي في السِّير ما نصه: "إِنَّمَا شَقَّ عَلَى ابْنِ مَسْعُوْدٍ لِكَوْنِ عُثْمَانَ مَا قَدَّمَهُ عَلَى كِتَابَةِ المُصْحَفِ، وَقَدَّمَ فِي ذَلِكَ مَنْ يَصْلُحُ أَنْ يَكُوْنَ وَلَدَهُ، وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْهُ عُثْمَانُ لِغَيْبَتِهِ عَنْهُ بِالكُوْفَةِ؛ وَلأَنَّ زَيْدًا كَانَ يَكْتُبُ الوَحْيَ لِرَسُوْلِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَهُوَ إِمَامٌ فِي الرَّسْمِ، وَابْنُ مَسْعُوْدٍ فَإِمَامٌ فِي الأَدَاءِ، ثُمَّ إِنَّ زَيْداً هُوَ الَّذِي نَدَبَهُ الصِّدِّيْقُ لِكِتَابَةِ المُصْحَفِ وَجَمْعِ القُرْآنِ؛ فَهَلاَّ عَتَبَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ? وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُوْدٍ رَضِيَ وَتَابَعَ عُثْمَانَ وَلِلَّهِ الحَمْدُ، وَفِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ أَشْيَاءُ أَظُنُّهَا نُسِخَتْ، وَأَمَّا زَيْدٌ فَكَانَ أَحْدَثَ القَوْمِ بِالعَرْضَةِ الأَخِيْرَةِ الَّتِي عَرَضَهَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَام تُوفِّيَ عَلَى جِبْرِيْلَ".

وقال الحافظ ابن كثير في تفسير القرآن العظيم: "وهذا مشهور عند كثير مِن القراء والفقهاء، وأن ابن مسعود كان لا يكتب المعوذتين في مصحفه، فلعله لم يسمعهما مِن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولم يتواتر عنده، ثم لعله قد رجع إلى قول الجماعة، فإن الصحابة أثبتوها في المصاحف الأئمة، ونفذوها إلى سائر الآفاق، ولله الحمد والمنة".

وقال في مقدمته أيضًا: "وهذا أيضًا مِن أكبر مناقب أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، فإن الشيخين سبقاه إلى حفظ القرآن أن يذهب منه شيء وهو جمع الناس على قراءة واحدة؛ لئلا يختلفوا في القرآن، ووافقه على ذلك جميع الصحابة، وإنما روي عن عبد الله بن مسعود شيء مِن التغضب بسبب أنه لم يكن ممن كتب المصاحف، وأمر أصحابه بغل مصاحفهم لما أمر عثمان بحرقه ما عدا المصحف الإمام، ثم رجع ابن مسعود إلى الوفاق".

ومِن المعلوم أن ابن مسعود وافق عثمان وتابعه فيما دون ذلك عندما أتم الصلاة خلفه، وعلل ذلك: أن الخلاف شر؛ فما بالك في الاختلاف في القرآن؟! فإنه سيكون أكثر ضررًا، وأعظم خطرًا، وأشد فتكًا بجماعة المسلمين.

وفي النهاية: فإن عثمان -رضي الله عنه- على حق في هذا، وهو يعلم -كما يعلم سائر الصحابة- مكانة ابن مسعود -رضي الله عنه- وعلمه، وصدق إيمانه، ثم إن عثمان كان على حق أيضًا في حرق المصاحف الأخرى كلها "ومنها: مصحف ابن مسعود"؛ لأن توحيد كتابة المصحف هو مِن أعظم أعمال عثمان بإجماع الصحابة، وكان جمهور الصحابة في كل ذلك مع عثمان على ابن مسعود، وعلى كل حال فإن عثمان لم يضرب ابن مسعود ولم يمنعه عطاءه، وبقي يَعرف له قدره كما بقي ابن مسعود على طاعته لإمامه الذي بايع له، وهو يعتقد أنه خير المسلمين وقت البيعة.

ونستكمل في المقال القادم -بمشيئة الله تعالى-.

ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ

المراجع:

- البداية والنهاية لابن كثير.

- تاريخ الرسل والملوك للطبري.


- العواصم مِن القواصم لابن العربي، مع تعليقات محب الدين الخطيب.

- منهاج السُّنة لابن تيمية.

- التمهيد والبيان في مقتل الشهيد عثمان -رضي الله عنه-، لمحمد بن يحيى المالقي الأندلسي.

- موقع قصة الإسلام، ، الدفاع عن عثمان -رضي الله عنه-.

ابو وليد البحيرى
2020-06-08, 05:32 AM
صفحات مِن ذاكرة التاريخ (2)
الخروج على أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه- "الأسباب والنتائج"


كتبه/ زين العابدين كامل

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد ذكرنا في المقال السابق مقدمة بمثابة الديباجة والتمهيد لحديثنا حول بعض الثورات التي حدثت في التاريخ الإسلامي، وذكرنا نبذة حول أهمية دراسة التاريخ، ثم تحدثنا عن فتنة مقتل أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه-، وما هي التهم التي ذكرها المجرمون الذين خرجوا عليه وقتلوه، وما هو الرد على هذه التٌهم والشبهات، وكانت التهمة التي ذكرناها هي: "ضربه لعمار حتى فتق أمعاءه، ولابن مسعود حتى كسر أضلاعه ومنعه عطاءه"، وقد انتهينا مِن الرد على هذه التهمة في المقال السابق.
- وممن أنكروه على عثمان -رضي الله عنه- أنهم قالوا عنه: "ابتدع في جمع القرآن وتأليفه، وفي حرق المصاحف":
قال أبو بكر بن العربي -رحمه الله-: "وأما جمع القرآن، فتلك حسنته العظمى، وخصْلتُه الكبرى، وإن كان وَجدها كاملة، لكنه أظهرها وردَّ الناس إليها، وحسم مادة الخلاف فيها، وكان نفوذُ وعد الله بحفظ القرآن على يديه، وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره عن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- قال: "أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ. فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عِنْدَهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ إِنَّ الْقَتْلَ قَدِ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ، وَإِنِّي أَخْشَى أَنِ اسْتَحَرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ بِالْمَوَاطِنِ فَيَذْهَبُ كَثِيرٌ مِنَ الْقُرْآنِ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْمُرَ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ. قُلْتُ لِعُمَرَ: كَيْفَ تَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ فَقَالَ عُمَرُ: هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ، فَلم يزل عمر يُرَاجِعُنِي فِيهِ حَتَّى شَرَحَ اللهُ صَدْرِي لذَلِك، وَرَأَيْت الَّذِي رَأَى عُمَرُ. قَالَ زَيْدٌ" قَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ لا نَتَّهِمُكَ، وَقَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ فَتَتَبَّعِ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ، فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفُونِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جِمْعِ الْقُرْآن، قَالَ: قُلْتُ كَيفَ تَفْعَلُونَ شَيْئا لم يَفْعَله النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ قَالَ: هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ، فَلَمْ يَزَلْ أَبُو بَكْرٍ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنَ الْعُسُبِ وَاللِّخَافِ، وَصُدُورِ الرِّجَال حَتَّى وَجَدْتُ مِنْ سُورَة التَّوْبَة آيَتَيْنِ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ الأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) (التوبة:128)، حَتَّى خَاتِمَةِ بَرَاءَةَ. فَكَانَتِ الصُّحُفُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَيَاته ثمَّ عِنْد حَفْصَة".
ثم لما قدِم حُذيفة بن اليمان على عثمان وكان يُغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذْرِبَيجان مع أهل العراق، حدثه حذيفة عن اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة -رضي الله عنه- لعثمان -رضي الله عنه-: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبْل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى: فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القُرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا.
حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ردّ عثمانُ الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أُفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه مِن القرآن في كل صحيفة ومصحف أن يُحرق.
وقد سلـَّم الصحابة كلهم بذلك: إلا ما روي عن ابن مسعود آنفًا، وبهذا حقق الله وعده في قوله -سبحانه-: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9)، وقد تولى الخلافة بعد هؤلاء الشيوخ الثلاثة أمير المؤمنين عليُّ -رضي الله عنه-؛ فأمضى عملهم وأقر مصحف عثمان برسومه وتلاوته في جميع أمصار ولايته، وبذلك انعقد إجماع المسلمين في الصدر الأول على أن ما قام به أبو بكر وعمر وعثمان هو أعظم حسناتهم، وبهذا يتبين لكل ذي لب أن ما فعله أمير المؤمنين عثمان مِن جمعه للمصحف يُعد مِن أعظم حسناته، وأن كل مَن عدَّ ذلك جرمًا ومنكرًا؛ قد انتكس عقله وظهر حقده، وبانت سريرته.
ومِن التهم التي رموه بها أيضًا أنه: "حَمى الحِمَى":
والحمى موضعًا يعينه الحاكم، ويخصصه لرعي مواشي الزكاة وغيرها مما يرجع ملكه إلى بيت مال المسلمين، ويمنع عامة الناس مِن الرعي فيه، ومعنى ذلك أن عثمان -رضي الله عنه- خصص مساحة معينة مِن الأرض لبعض الإبل لترعى فيها دون غيرها مِن الإبل، قالوا: إنه ابتدع في هذا الأمر، وقالوا: إنه كان يجعلها لإبله وخيله!
والرد على هذه التهمة الباطلة: أن الحمى كان موجودًا في الجاهلية قبْل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقد كان السيد يدخل الأرض التي يريد أن يجعلها حِمَى لإبله، ومعه كلب يعوي، ويكون حدود حماه على امتداد عواء كلبه، وتكون تلك المنطقة مِن الأرض خاصة به لا تستطيع أي إبل غير إبله أن ترعى فيها، وهذا هو الحمى، فلما جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ألغى هذا الأمر كله، إلا لإبل الصدقة فقط، فعن الصعب بن جثامة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا حِمَى إِلا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ) (أخرجه البخاري).
وعن نافع عن ابن عمر: "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَمَى النَّقِيعَ لِلْخَيْلِ. قَالَ حَمَّادٌ بنُ خَالِدٍ -راوي هذا الحديث عن عبد الله بن عمر العمري-: فَقُلْتُ لَهُ: لِخَيْلِهِ؟ قَالَ: لا، لِخَيْلِ الْمُسْلِمِينَ" (أخرجه أحمد). أي المرصودة للجهاد، أو ما يملكه بيت المال. والنقيع هذا في المدينة على عشرين فرسخًا منها، ومساحته ميل في ثمانية أميال كما في موطأ مالك.
وقد فعل أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- مثل فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحِمَى، ولما جاء عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- زاد في هذه المساحة، وضم إليها أماكن كثيرة؛ وذلك لكثرة الفتوحات في عهد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وكثرة إبل الجهاد؛ فكان لا بد مِن التوسعة؛ فاتسع الحِمَى فشمل (سرف) و(الربذة)، وكان لعمر عامل على الحمى هو مولى له يدعى "هنيًّا" كما في صحيح البخاري عن زيد بن أسلم عن أبيه: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ -رضي الله عنه- اسْتَعْمَلَ مَوْلًى لَهُ يُدْعَى هُنَيًّا عَلَى الحِمَى، فَقَالَ: يَا هُنَيُّ اضْمُمْ جَنَاحَكَ عَنِ المُسْلِمِينَ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فَإِنَّ دَعْوَةَ المَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ، وَأَدْخِلْ رَبَّ الصُّرَيْمَةِ -صاحب الإبل القليلة- وَرَبَّ الغُنَيْمَةِ -صاحب الغنم القليلة-، وَإِيَّايَ وَنَعَمَ ابْنِ عَوْفٍ وَنَعَمَ ابْنِ عَفَّانَ، فَإِنَّهُمَا إِنْ تَهْلِكْ مَاشِيَتُهُمَا يَرْجِعَا إِلَى نَخْلٍ وَزَرْعٍ، وَإِنَّ رَبَّ الصُّرَيْمَةِ، وَرَبَّ الغُنَيْمَةِ إِنْ تَهْلِكْ مَاشِيَتُهُمَا، يَأْتِنِي بِبَنِيهِ".
ولما كان عهد عثمان -رضي الله عنه- اتسعت رقعة الدولة الإسلامية، وكثرت الخيرات عند المسلمين، وكثرت الإبل، فاتسعت منطقة الحمى إلى أكبر مما كانت عليه، فالذي أجازه النبي -صلى الله عليه وسلم- لسوائم بيت المال، ومضى على مثله أبو بكر وعمر، يجوز مثله لبيت المال في زمن عثمان -رضي الله عنه-، ويكون الاعتراض عليه اعتراضًا على أمر داخل في التشريع الإسلامي.
ولما أجاب عثمان -رضي الله عنه- على مسألة الحمى عندما دافع عن نفسه على ملأ مِن الصحابة أعلن أن الذين يلون له الحمى اقتصروا فيه على صدقات المسلمين يحمونها؛ لئلا يكون بيْن مَن يليها وبيْن أحد تنازع، وذكر عن نفسه أنه قبْل أن يلي الخلافة كان أكثر العرب بعيرًا وشاء، ثم أمسى وليس له غير بعيرين لحجه، وسأل مَن يعرف ذلك مِن الصحابة: "أكذلك؟" قالوا: "اللهم نعم".

ثم إن خير عثمان -رضي الله عنه- سابق على المسلمين منذ أسلم حتى استشهد -رضي الله عنه وأرضاه-؛ فظهر جليًّا أن هذه تهمة منكرة؛ ألقى بها أصحاب النفوس المريضة، والعقول المنكوسة.
ونستكمل في المقال القادم -بمشيئة الله تعالى-.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ
المراجع:
- البداية والنهاية لابن كثير.
- تاريخ الرسل والملوك للطبري.
- العواصم مِن القواصم لابن العربي، مع تعليقات محب الدين الخطيب.

- منهاج السُّنة لابن تيمية.
- التمهيد والبيان في مقتل الشهيد عثمان -رضي الله عنه-، لمحمد بن يحيى المالقي الأندلسي.
- موقع قصة الإسلام، الدفاع عن عثمان -رضي الله عنه-.

ابو وليد البحيرى
2020-06-13, 05:15 AM
صفحات مِن ذاكرة التاريخ (3)
الخروج على أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه- "الأسباب والنتائج"


كتبه/ زين العابدين كامل
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فما زلنا في ذكر التُهم والشُبهات التي ذكرها المجرمون الذين خرجوا على أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه-.
ومِن هذه التهم الباطلة:
أن عثمان -رضي الله عنه- نفى أبا ذر -رضي الله عنه- إلى الرَّبذة -وهي قرية تقع في شرق المدينة المنورة، وتبعد عنها قرابة 170كم-، وهذا أيضًا مِن الأكاذيب والأباطيل، والصحيح أن أبا ذر -رضي الله عنه- هو الذي طلب ذلك مِن عثمان -رضي الله عنه-.

- قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّهُ نَفَى أَبَا ذَرٍّ إِلَى الرَّبَذَةِ وَضَرَبَهُ ضَرْبًا وَجِيعًا، مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ فِي حَقِّهِ: (مَا أَقَلَّتِ الْغَبْرَاءُ، وَلا أَظَلَّتِ الْخَضْرَاءُ عَلَى ذِي لَهْجَةٍ أَصْدَقَ مِنْ أَبِي ذَرٍّ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).
فَالْجَوَابُ: أَنَّ أَبَا ذَرٍّ سَكَنَ الرَّبَذَةَ وَمَاتَ بِهَا لِسَبَبِ مَا كَانَ يَقَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ، فَإِنَّ أَبَا ذَرٍّ -رضي الله عنه- كَانَ رَجُلاً صَالِحًا زَاهِدًا، وَكَانَ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ الزُّهْدَ وَاجِبٌ، وَأَنَّ مَا أَمْسَكَهُ الإِنْسَانُ فَاضِلاً عَنْ حَاجَتِهِ فَهُوَ كَنْزٌ يُكْوَى بِهِ فِي النَّارِ، وَاحْتَجَّ عَلَى ذَلِكَ بِمَا لا حُجَّةَ فِيهِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، احْتَجَّ بِقَوْلِهِ -تَعَالَى-: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) (التَّوْبَةِ:34)، وَجَعَلَ الْكَنْزَ مَا يَفْضُلُ عَنِ الْحَاجَةِ، وَاحْتَجَّ بِمَا سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ: (يَا أَبَا ذَرٍّ مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا يَمْضِي عَلَيْهِ ثَالِثَةٌ وَعِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ، إِلا دِينَارًا أَرْصُدُهُ لِدَيْنٍ) (متفق عليه)، وَأَنَّهُ قَالَ: (الأَكْثَرُونَ هُمُ الأَقَلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِلا مَنْ قَالَ بِالْمَالِ هَكَذَا وَهَكَذَا) (متفق عليه).
وَلَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَخَلَّفَ مَالاً، جَعَلَ أَبُو ذَرٍّ ذَلِكَ مِنَ الْكَنْزِ الَّذِي يُعَاقَبُ عَلَيْهِ، وَكَانَ قَدْ وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُعَاوِيَةَ بِالشَّامِ بِهَذَا السَّبَبِ، وَقَدْ وَافَقَ أَبَا ذَرٍّ عَلَى هَذَا طَائِفَةٌ مِنَ النُّسَّاكِ، وقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: (لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَة، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ)(1) (متفق عليه)، فَنَفَى الْوُجُوبَ فِيمَا دُونَ الْمِائَتَيْنِ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ كَوْنَ صَاحِبِهَا مُحْتَاجًا إِلَيْهَا أَمْ لا؟ وَقَالَ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ: الْكَنْزُ هُوَ الْمَالُ الَّذِي لَمْ تُؤَدَّ حُقُوقُهُ، وَكَانَ أَبُو ذَرٌّ يُرِيدُ أَنْ يُوجِبَ عَلَى النَّاسِ مَا لَمْ يُوجِبِ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَيَذُمُّهُمْ عَلَى مَا لَمْ يَذُمُّهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ، مَعَ أَنَّهُ مُجْتَهِدٌ فِي ذَلِكَ، مُثَابٌ عَلَى طَاعَتِهِ -رضي الله عنه- كَسَائِرِ الْمُجْتَهِدِين َ مِنْ أَمْثَالِهِ.
وكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- يُقَوِّمُ رَعِيَّتَهُ تَقْوِيمًا تَامًّا، فَلا يَعْتَدِي لا الأَغْنِيَاءُ وَلا الْفُقَرَاءُ، فَلَمَّا كَانَ فِي خِلافَةِ عُثْمَانَ تَوَسَّعَ الأَغْنِيَاءُ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى زَادَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ عَلَى قَدْرِ الْمُبَاحِ فِي الْمِقْدَارِ وَالنَّوْعِ، وَتَوَسَّعَ أَبُو ذَرٍّ فِي الإِنْكَارِ حَتَّى نَهَاهُمْ عَنِ الْمُبَاحَاتِ، وَهَذَا مِنْ أَسْبَابِ الْفِتَنِ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْن ِ، فَكَانَ اعْتِزَالُ أَبِي ذَرٍّ لِهَذَا السَّبَبِ، وَلَمْ يَكُنْ لِعُثْمَانَ مَعَ أَبِي ذَرٍّ غَرَضٌ مِنَ الأَغْرَاضِ" (منهاج السنة بتصرف).
- وقال ابن العربي -رحمه لله-: "كان أبو ذر زاهدًا، وكان يقرّع عمال عثمان، ويتلو عليهم: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (التوبة:34)، ويراهم يتسعون في المراكب والملابس حين وجدوا؛ فينكر ذلك عليهم، ويريد تفريق جميع ذلك مِن بيْن أيديهم، وهو غير لازم.
قال ابن عمر وغيره مِن الصحابة: إن ما أديت زكاته فليس بكنز، فوقع بيْن أبي ذر ومعاوية كلام بالشام، وكان أبو ذر يطلق مِن الكلام ما لم يكن يقوله في زمان عمر، فأعلم معاوية بذلك عثمان، وخشي مِن العامة أن تثور منهم فتنة، فإن أبا ذر كان يحملهم على التزهد وأمور لا يحتملها الناس كلهم، وإنما هي مخصوصة ببعضهم، فكتب إليه عثمان أن يَقدم المدينة، فخرج إلى المدينة، فاجتمع إليه الناس، فجعل يسلك تلك الطرق، فقال له عثمان: "لو اعتزلتَ". معناه: إنك على مذهب لا يصلح لمخالطة الناس، فإن للخلطة شروطـًا وللعزلة مثلها، ومَن كان على طريقة أبي ذرّ فحاله يقتضي أن ينفرد بنفسه، أو يخالط ويسلِّم لكل أحد حاله مما ليس بحرام في الشريعة، فخرج إلى الربذة زاهدًا فاضلاً" (بتصرف مِن العواصم مِن القواصم في تحقيق مواقف الصحابة بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-).
- وقال الشيخ محب الدين الخطيب -رحمه الله- معلقًا: "وإنما اختار أبو ذر -رضي الله عنه- أن يعتزل في الربذة، فوافقه عثمان على ذلك كما صح في حديث عبد الله بن الصامت، قال: قَدِمَ أَبُو ذَرٍّ عَلَى عُثْمَانَ مِنَ الشَّامِ, فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! افْتَحِ الْبَابَ حَتَّى يَدْخُلَ النَّاسُ؛ أتحسِبُني من قوم يقرأون الْقُرْآنَ لا يُجاوز حَنَاجِرَهُمْ, يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوق السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ, ثُمَّ لا يَعُودُونَ فِيهِ حَتَّى يَعُودَ السَّهْمُ عَلَى فُوقِهِ؛ هُمْ شرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ؟ ! وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لَوْ أَمَرْتَنِي أَنْ أَقْعُدَ؛ لَمَا قُمْتُ, وَلَوْ أَمَرْتَنِي أَنْ أَكُونَ قَائِمًا؛ لقُمْتُ مَا أَمْكَنَتْنِي رِجْلايَ, وَلَوْ رَبَطْتَنِي عَلَى بَعِيرٍ لَمْ أُطْلِقْ نَفْسِي حَتَّى تَكُونَ أَنْتَ الَّذِي تُطْلِقُني! ثُمَّ اسْتَأْذَنَهُ أَنْ يَأْتِيَ الرَّبذة, فأَذِنَ لَهُ, فَأَتَاهَا؛ فَإِذَا عَبْدٌ يَؤُمَّهُمْ, فَقَالُوا: أَبُو ذرٍّ! فَنَكَصَ الْعَبْدُ, فَقِيلَ لَهُ: تقدَّم, فَقَالَ: أَوْصَانِي خَلِيلِي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِثَلاثٍ: (أَنْ أَسْمَعَ وأُطيع وَلَوْ لِعَبْدٍ حَبَشِيٍّ مُجَدَّعِ الأَطْرَافِ... ) (رواه ابن حبان، وصححه الألباني).
وقد ذكر ابن خلدون -رحمه الله- في العِبَر أن أبا ذر استأذن عثمان -رضي الله عنه- في الخروج مِن المدينة، وقال إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمرني أن أخرج منها إذا بلغ البناء سلعًا؛ فأذن له، ونزل الربذة وبنى بها مسجدًا، وأقطعه عثمان صرمة مِن الإبل وأعطاه مملوكين، وأجرى عليه رزقًا، وكان يتعاهد المدينة، فعدَّ أولئك الرهط خروج أبي ذر فيما ينقمونه على عثمان -رضي الله عنه-.
وذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في البداية والنهاية عند كلامه عن خلافة عثمان -رضي الله عنه- ما نصه: "ثم لما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومات أبو بكر خرج إلى الشام فكان فيه حتى وقع بينه وبين معاوية، فاستقدمه عثمان إلى المدينة، ثم نزل الربذة فأقام بها حتى مات في ذي الحجة مِن هذه السَّنة، وليس عنده سوى امرأته وأولاده، فبينما هم كذلك لا يقدرون على دفنه إذ قدم عبد الله بن مسعود مِن العراق في جماعة مِن أصحابه، فحضروا موته، وأوصاهم كيف يفعلون به، وقيل قدموا بعد وفاته فولوا غسله ودفنه، وكان قد أمر أهله أن يطبخوا لهم شاة مِن غنمه ليأكلوه بعد الموت، وقد أرسل عثمان بن عفان إلى أهله فضمهم مع أهله" اهـ.
وبهذا يتبين بما لا يدع مجالاً للشك أن هذه تهمة باطلة ولم تثبت.
ومِن التهم الباطلة أيضًا: أن عثمان -رضي الله عنه- أخرج أبا الدرداء -رضي الله عنه- مِن الشام.
قالوا: ووقع بيْن أبي الدرداء ومعاوية كلام، وكان أبو الدرداء زاهدًا فاضلاً قاضيًا لهم في دمشق، فلما اشتد في الحق، وأخرج طريقة عمر في قوم لم يحتملوها؛ عزلوه فخرج إلى المدينة.
والجواب:
قال ابن العربي -رحمه الله-: "وهذه كلها مصالح لا تقدح في الدين، ولا تؤثر في منزلة أحد مِن المسلمين بحال، وأبو الدرداء وأبو ذر بريئان من عاب، وعثمان بريء أعظم براءة وأكثر نزاهة؛ فمن روى أنه نفى، وروى سببًا فهو كله باطل" اهـ.
وقال الشيخ محب الدين الخطيب -رحمه الله-: "بل إن معاوية نفسه حاول السير على طريقة عمر، كما نقل ذلك الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية عن الزهري: أن معاوية عمل سنتين عمل عمر ما يخرم فيه ثم إنه بعُد عن ذلك".
ثم قال الشيخ محب الدين معلقـًا: "وقد يظن مَن لا نظر له في حياة الشعوب وسياستها أن الحاكم يستطيع أن يكون كما يريد أن يكون حيثما يكون، وهذا خطأ؛ فللبيئة مِن التأثير في الحاكم، وفي نظام الحكم أكثر مما للحاكم ونظام الحكم مِن التأثير على البيئة، وهذا مِن معاني قول الله -عز وجل-: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد:11)".
قلتُ: وقد ذكر أصحاب السير أن أبا الدرداء -رضي الله عنه- تُوفي بدمشق سنة إحدى وثلاثين، وقيل: اثنتين وثلاثين في خلافة عثمان -رضي الله عنه-.
ونستكمل في المقال القادم -بمشيئة الله تعالى-.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــ
(1) الوسق: مكيال للحبوب، ويقدر بستين صاعًا. (وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ): أي ليس فيما دون خمس من الإبل صدقة. (وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ): أي ليس في أقل مِن مائتي درهم صدقة.
المراجع:
- البداية والنهاية لابن كثير.
- تاريخ الرسل والملوك للطبري.
- العواصم مِن القواصم لابن العربي، مع تعليقات محب الدين الخطيب.
- منهاج السُّنة لابن تيمية.
- التمهيد والبيان في مقتل الشهيد عثمان -رضي الله عنه-، لمحمد بن يحيى المالقي الأندلسي.
- موقع قصة الإسلام، الدفاع عن عثمان -رضي الله عنه-.

ابو وليد البحيرى
2020-06-18, 04:27 AM
صفحات مِن ذاكرة التاريخ (4)
الخروج على أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه- "الأسباب والنتائج"


كتبه/ زين العابدين كامل


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛


فما زلنا في ذكر التهم والشبهات التي ذكرها المجرمون الذين خرجوا على أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه-، وتحليليها والرد عليها.

ومِن هذه التهم الباطلة: أنه رد الحَكَم بن أبي العاص بن أمية بعد أن نفاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

قالوا: وَطَرَدَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْحَكَمَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ عَمَّ عُثْمَانَ عَنِ الْمَدِينَةِ، وَمَعَهُ ابْنُهُ مَرْوَانُ، فَلَمْ يَزَلْ طَرِيدًا هُوَ وَابْنُهُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَلَمَّا وَلِيَ عُثْمَانُ آوَاهُ وَرَدَّهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَجَعَلَ مَرْوَانَ كَاتِبَهُ وَصَاحِبَ تَدْبِيرِهِ مَعَ أَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- قَالَ: (لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ) (المجادلة:22).

وقصة النفي هذه لم تثبت بسند صحيح، وعلى فرض ثبوتها فهي لا تقدح في عثمان -رضي الله عنه- ولا تعد مأخذًا عليه.

قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْحَكَمَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ كَانَ مِنْ مُسْلِمَةِ الْفَتْحِ، وَكَانُوا أَلْفَيْ رَجُلٍ، وَمَرْوَانُ ابْنُهُ كَانَ صَغِيرًا إِذْ ذَاكَ، فَإِنَّهُ مِنْ أَقْرَانِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَالْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، عُمْرُهُ حِينَ الْفَتْحِ سِنَّ التَّمْيِيزِ: إِمَّا سَبْعُ سِنِينَ، أَوْ أَكْثَرُ بِقَلِيلٍ، أَوْ أَقَلُّ بِقَلِيلٍ، فَلَمْ يَكُنْ لِمَرْوَانَ ذَنْبٌ يُطْرَدُ عَلَيْهِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَلَمْ تَكُنِ الطُّلَقَاءُ تَسْكُنُ بِالْمَدِينَةِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

فَإِنْ كَانَ قَدْ طَرَدَهُ، فَإِنَّمَا طَرَدَهُ مِنْ مَكَّةَ لا مِنَ الْمَدِينَةِ، وَلَوْ طَرَدَهُ مِنَ الْمَدِينَةِ لَكَانَ يُرْسِلُهُ إِلَى مَكَّةَ، وَقَدْ طَعَنَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي نَفْيِهِ، وَقَالُوا: هُوَ ذَهَبَ بِاخْتِيَارِهِ، وَقِصَّةُ نَفْيِ الْحَكَمِ لَيْسَتْ فِي الصِّحَاحِ، وَلا لَهَا إِسْنَادٌ يُعْرَفُ بِهِ أَمْرُهَا، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَرْوِي أَنَّهُ حَاكَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي مِشْيَتِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ غَيْرَ ذَلِكَ، وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ نَفَاهُ إِلَى الطَّائِفِ.
وَالطُّلَقاءُ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ هَاجَرَ، وَالطَّرْدُ هُوَ النَّفْيُ، وَالنَّفْيُ قَدْ جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ فِي الزَّانِي وَفِي الْمُخَنَّثِينَ ، وَكَانُوا يُعَزَّرُونَ بِالنَّفْيِ.

وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ عَزَّرَ رَجُلاً بِالنَّفْيِ، لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَبْقَى مَنْفِيًّا طُولَ الزَّمَانِ، فَإِنَّ هَذَا لا يُعْرَفُ فِي شَيْءٍ مِنَ الذُّنُوبِ، وَلَمْ تَأْتِ الشَّرِيعَةُ بِذَنْبٍ يَبْقَى صَاحِبُهُ مَنْفِيًّا دَائِمًا، بَلْ غَايَةُ النَّفْيِ الْمُقَدَّرِ سَنَةً، وَهُوَ نَفْيُ الزَّانِي وَالْمُخَنَّثِ حَتَّى يَتُوبَ مِنَ التَّخْنِيثِ، فَإِنْ كَانَ تَعْزِيرُ الْحَاكِمِ لِذَنْبٍ حَتَّى يَتُوبَ مِنْهُ، فَإِذَا تَابَ سَقَطَتِ الْعُقُوبَةُ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى ذَنْبٍ مَاضٍ فَهُوَ أَمْرٌ اجْتِهَادِيٌّ لَمْ يُقَدَّرْ فِيهِ قَدْرٌ، وَلَمْ يُوَقَّتْ فِيهِ وَقْتٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَالنَّفْيُ كَانَ فِي آخِرِ الْهِجْرَةِ، فَلَمْ تَطُلْ مُدَّتُهُ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ طَالَتْ مُدَّتُهُ، وَقَدْ كَانَ عُثْمَانُ شَفَعَ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَكَانَ كَاتِبًا لِلْوَحْيِ، وَارْتَدَّ عَنِ الإِسْلامِ، وَكَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ أَهْدَرَ دَمَهُ فِيمَنْ أَهْدَرَ، ثُمَّ جَاءَ بِهِ عُثْمَانُ فَقَبِلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَفَاعَتَهُ فِيهِ وَبَايَعَهُ، فَكَيْفَ لا يَقْبَلُ شَفَاعَتَهُ فِي الْحَكَمِ؟!

وَقَدْ رَوَوْا أَنَّ عُثْمَانَ سَأَلَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَرُدَّهُ فَأَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ ذَنْبَهُ دُونَ ذَنْبِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، وَقِصَّةُ عَبْدِ اللَّهِ مَعْرُوفَةٌ بِالإِسْنَادِ الثَّابِتِ، وَأَمَّا قِصَّةُ الْحَكَمِ فَعَامَّةُ مَنْ ذَكَرَهَا إِنَّمَا ذَكَرَهَا مُرْسَلَةً، وَالْمَعْلُومُ مِنْ فَضَائِلِ عُثْمَانَ، وَمَحَبَّةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَهُ، وَثَنَائِهِ عَلَيْهِ، وَتَخْصِيصِهِ بِابْنَتَيْهِ، وَشَهَادَتِهِ لَهُ بِالْجَنَّةِ، وَإِرْسَالِهِ إِلَى مَكَّةَ، وَمُبَايَعَتِهِ لَهُ عَنْهُ لَمَّا أَرْسَلَهُ إِلَى مَكَّةَ، وَتَقْدِيمِ الصَّحَابَةِ لَهُ بِاخْتِيَارِهِم ْ فِي الْخِلافَةِ، وَشَهَادَةِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ لَهُ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَاتَ وَهُوَ عَنْهُ رَاضٍ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ الْعِلْمَ الْقَطْعِيَّ بِأَنَّهُ مِنْ كِبَارِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، فَلا يُدْفَعُ هَذَا بِنَقْلٍ لا يَثْبُتُ إِسْنَادُهُ، وَلا يُعْرَفُ كَيْفَ وَقَعَ، وَيُجْعَلُ لِعُثْمَانَ ذَنْبٌ بِأَمْرٍ لا يُعْرَفُ حَقِيقَتُهُ، بَلْ مِثْلُ هَذَا مِثْلُ الَّذِينَ يُعَارِضُونَ الْمُحْكَمَ بِالْمُتَشَابِه ِ، وَهَذَا مِنْ فِعْلِ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ، الَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْفِتْنَةَ.

وَبِالْجُمْلَةِ ، فَنَحْنُ نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يَكُنْ يَأْمُرُ بِنَفْيِ أَحَدٍ دَائِمًا ثُمَّ يَرُدُّهُ عُثْمَانُ مَعْصِيَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلا يُنْكِرُ ذَلِكَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، وَكَانَ عُثْمَانُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَتْقَى لِلَّهِ مِنْ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى مِثْلِ هَذَا، بَلْ هَذَا مِمَّا يَدْخُلُهُ الاجْتِهَادُ، فَلَعَلَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- لَمْ يَرُدَّاهُ؛ لأَنَّهُ لَمْ يَطْلُبْ ذَلِكَ مِنْهُمَا، وَطَلَبَهُ مِنْ عُثْمَانَ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، أَوْ لَعَلَّهُ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُمَا تَوْبَتُهُ، وَتَبَيَّنَ ذَلِكَ لِعُثْمَانَ، وَغَايَةُ مَا يُقَدَّرُ أَنْ يَكُونَ هَذَا خَطَأً مِنَ الاجْتِهَادِ أَوْ ذَنْبًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلامُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَمَّا اسْتِكْتَابُهُ مَرْوَانَ، فَمَرْوَانُ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي ذَلِكَ ذَنْبٌ، لأَنَّهُ كَانَ صَغِيرًا لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ الْقَلَمُ، وَمَاتَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَرْوَانُ لَمْ يَبْلُغِ الْحُلُمَ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ، بَلْ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ عَشْرُ سِنِينَ أَوْ قَرِيبٌ مِنْهَا، وَكَانَ مُسْلِمًا بَاطِنًا وَظَاهِرًا، يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتَفَقَّهُ فِي الدِّينِ، وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَ الْفِتْنَةِ مَعْرُوفًا بِشَيْءٍ يُعَابُ بِهِ، فَلا ذَنْبَ لِعُثْمَانَ فِي اسْتِكْتَابِهِ" (بتصرف مِن منهاج السنة).

فهذا فيما يتعلق بالحكم بن أبي العاص وقصة نفيه، وعذر عثمان -رضي الله عنه- في رده إلى المدينة على تقدير ثبوت القصة.

ومِن المآخذ التي ذكروها أيضًا: أنه أبطل سُنة القصر في الصلوات في السفر!

وكان ذلك في مِنى في موسم الحج سنة 29هـ، وقد ذكر الطبري أن عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- عاتب عثمان في إتمامه الصلاة وهم في منى، فاعتذر له عثمان بأن بعض مَن حج مِن أهل اليمن وجفاة الناس قالوا في العام الماضي: إن الصلاة للمقيم ركعتان، وهذا إمامكم عثمان يصلي ركعتين: ثم قال عثمان لعبد الرحمن بن عوف: وقد اتخذتُ بمكة أهلاً "أي أنه صار في حكم المقيم، لا المسافر"، فرأيتُ أن أصلي أربعًا لخوف ما أخاف على الناس، ثم خرج عبد الرحمن بن عوف مِن عند عثمان؛ فلقي عبد الله بن مسعود وخاطبه في ذلك فقال ابن مسعود: "الخلاف شر، قد بلغني أنه صلى أربعًا فصليت بأصحابي أربعًا". فقال عبد الرحمن بن عوف: "قد بلغني أنه صلى أربعًا فصليت بأصحابي ركعتين، وأما الآن فسوف يكون الذي تقول". يعني: نصلي معه أربعًا.

قال ابن العربي -رحمه الله-: "وأما ترك القصر فاجتهاد، إذ سمع أن الناس افتتنوا بالقصر، وفعلوا ذلك في منازلهم، فرأى أن السُّنة ربما أدت إلى إسقاط الفريضة، فتركها خوف الذريعة مع أن جماعة مِن العلماء قالوا: إن المسافر مخير بيْن القصر والإتمام، واختلف في ذلك الصحابة".

إذن القضية هنا قضية اجتهاد، فقد اجتهد عثمان -رضي الله عنه- في هذا الأمر، وإن كان الأولى هو القصر في السفر، كما ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه لم يتم صلاة قط في سفر، إلا أن الأمر كان موضع اجتهاد، ووافقه الصحابة لتجنب الخلاف، ولو كان حرامًا لما وافقه الصحابة -رضي الله عنهم- جميعًا.

فإن كان عثمان -رضي الله عنه- قد أخطأ في اجتهاده هذا؛ فله أجر واحد، وإن كان أصاب فله أجران، وقد كان لعثمان -رضي الله عنه- تأويلات يستند إليها في رأيه كزواجه، وافتتان الناس بالقصر، وهذا الأمر لا يُحل دمه -رضي الله عنه- بأي حال مِن الأحوال، قال الإمام الشافعي -رحمه الله-: "لو كان فرض المسافر ركعتين لما أتم عثمان، ولا عائشة، ولا ابن مسعود، ولم يجز أن يتمها مسافر مع مقيم".

وقال ابن عمر -رضي الله عنهما-: "صَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَكَانَ لا يَزِيدُ فِي السَّفَرِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ كَذَلِكَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ-" (متفق عليه). يعني في أول خلافة عثمان؛ وإلا فعثمان -رضي الله عنه- كان يتم في آخر خلافته، وما كان ذلك إلا لعلة رآها -رضي الله عنه-.

ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ

المراجع:

- البداية والنهاية لابن كثير.

- تاريخ الرسل والملوك للطبري.

- العواصم مِن القواصم لابن العربي، مع تعليقات محب الدين الخطيب.

- منهاج السُّنة لابن تيمية.

- التمهيد والبيان في مقتل الشهيد عثمان -رضي الله عنه-، لمحمد بن يحيى المالقي الأندلسي.

- موقع قصة الإسلام، الدفاع عن عثمان -رضي الله عنه-.

ابو وليد البحيرى
2020-06-26, 12:53 AM
صفحات مِن ذاكرة التاريخ (5)
الخروج على أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه- "الأسباب والنتائج"


كتبه/ زين العابدين كامل



الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فنستكمل المآخذ التي وُجهت إلى أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه-، ونبيِّن الرد عليها.

فمِن هذه المآخذ: أنه ولـَّى معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه-، وولى عبد الله بن عامر، وولى مروان بن الحكم، وهؤلاء مِن أقاربه.

إن شخصية معاوية -رضي الله عنه- قد نالها مِن الطعن والتشويه والافتراء والظلم الكثير، والطعن في الصحابة -رضي الله عنهم- طعن في الدين؛ لأن الدين أتانا عن طريقهم، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-.

وقد ذكرتْ بعض المصادر التاريخية الكثير مِن الروايات الضعيفة أو المكذوبة على معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما-، أما عن ولاية معاوية فقد ولاه عمر -رضي الله عنه-، وجمع له الشامات كلها، وأقرّه عثمان، بل إنما ولاه أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- وجعله خليفة لأخيه يزيد بن أبي سفيان على الجيش الخارج لحرب الروم في الشام، وكان معاوية -رضي الله عنه- في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكتب له الوحي، فقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يأتمنه على وحي السماء.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "والْجَوَابُ: أَنَّ مُعَاوِيَةَ إِنَّمَا وَلاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، لَمَّا مَاتَ أَخُوهُ يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ وَلاهُ عُمَرُ مَكَانَ أَخِيهِ. وَاسْتَمَرَّ فِي وِلايَةِ عُثْمَانَ، وَزَادَهُ عُثْمَانُ فِي الْوِلايَةِ، وَكَانَتْ سِيرَةُ مُعَاوِيَةَ مَعَ رَعِيَّتِهِ مِنْ خِيَارِ سِيَرِ الْوُلاةِ، وَكَانَتْ رَعِيَّتُهُ يُحِبُّونَهُ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: (خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُم ْ، وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُ مْ، وَتَلْعَنُونَهُ مْ وَيَلْعَنُونَكُ مْ) (رواه مسلم)، وَإِنَّمَا ظَهَرَ الإِحْدَاثُ مِنْ مُعَاوِيَةَ فِي الْفِتْنَةِ لَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ، وَلَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ كَانْتِ الْفِتْنَةُ شَامِلَةً لأَكْثَرِ النَّاسِ، لَمْ يَخْتَصَّ بِهَا مُعَاوِيَةُ، بَلْ كَانَ مُعَاوِيَةُ أَطْلَبَ لِلسَّلامَةِ مِنْ كَثِيرٍ مِنْهُمْ، وَأَبْعَدَ عَنِ الشَّرِّ مِنْ كَثِيرٍ مِنْهُمْ" (منهاج السنة).

وقد ورد الخبر بدعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- لمعاوية -رضي الله عنه-، فعن عبد الرحمن بن أبي عُمَيْرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لمعاوية: (اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا وَاهْدِ بِهِ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)، وقد ذكر ذلك عبد الرحمن بن أبي عميرة لما تولى معاوية -رضي الله عنه- أمر الناس وكانت نفوسهم لا تزال مشتعلة عليه؛ فقالوا: كيف يتولى معاوية وفي الناس مَن هو خير منه، مثل الحسن والحسين؟! فقال عبد الرحمن بن أبي عميرة: لا تذكروه إلا بخير، فذكره.

وروى الطبري مرفوعًا إلى عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: "ما رأيتُ أحدًا أخلق للملك مِن معاوية، إن كان ليرد الناس منه على أرجاء وادٍ رَحْب".

ويقول ابن تيمية -رحمه الله-: "فلم يكن مِن ملوك المسلمين ملك خيرًا مِن معاوية، إذا نُسِبَتْ أيامه إلى أيام مَن بعده، أما إذا نسبت إلى أيام أبي بكر وعمر ظهر التفاضل".

وكانت صلاته -رضي الله عنه- أشبه بصلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فقد روي عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- أنه قال: "ما رأيت أشبه صلاة برسول الله -صلى الله عليه وسلم- مِن أميركم هذا -يعني معاوية-".

وكان -رضي الله عنه- فقيهًا يعتد الصحابة بفقهه واجتهاده؛ فقد روى البخاري في صحيحه في كتاب المناقب عن أبي مليكة قال: "أوتر معاوية بعد العشاء بركعة وعنده مولى لابن عباس؛ فأتى ابن عباس فأخبره، فقال: "دعه؛ فإنه قد صحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، وفي رواية أخرى قيل لابن عباس: "هل لك في أمير المؤمنين معاوية فإنه ما أوتر إلا بواحدة"، قال: "أصاب، إنه فقيه".

وقد كان لمعاوية -رضي الله عنه- شرف قيادة أول حملة بحرية، وهي التي شبهها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالملوك على الأَسِرَّة؛ فقد روى البخاري في صحيحه مِن طريق أنس بن مالك عن خالته أم حرام بنت ملحان قالتْ: نَامَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمًا قَرِيبًا مِنِّي، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ يَتَبَسَّمُ، فَقُلْتُ: مَا أَضْحَكَكَ؟ قَالَ: (أُنَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ يَرْكَبُونَ هَذَا البَحْرَ الأَخْضَرَ كَالْمُلُوكِ عَلَى الأَسِرَّةِ) قَالَتْ: فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ فَدَعَا لَهَا، ثُمَّ نَامَ الثَّانِيَةَ، فَفَعَلَ مِثْلَهَا، فَقَالَتْ مِثْلَ قَوْلِهَا، فَأَجَابَهَا مِثْلَهَا فَقَالَتْ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ: (أَنْتِ مِنَ الأَوَّلِينَ)، فَخَرَجَتْ مَعَ زَوْجِهَا عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ غَازِيًا أَوَّلَ مَا رَكِبَ المُسْلِمُونَ البَحْرَ مَعَ مُعَاوِيَةَ، فَلَمَّا انْصَرَفُوا مِنْ غَزْوِهِمْ قَافِلِينَ، فَنَزَلُوا الشَّأْمَ، فَقُرِّبَتْ إِلَيْهَا دَابَّةٌ لِتَرْكَبَهَا، فَصَرَعَتْهَا، فَمَاتَتْ. (متفق عليه).

قال ابن حجر -رحمه الله- معلـِّقـًا على رؤيا رسول الله -صلى الله عليه سلم-: "قوله: "نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً... يشعر بأن ضحكه كان إعجابًا بهم؛ فرحًا لما رأى لهم مِن المنزلة الرفيعة" (فتح الباري).

وعن أم حرام بنت ملحان -رضي الله عنها- قالت: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ البَحْرَ قَدْ أَوْجَبُوا)، قَالَتْ أُمُّ حَرَامٍ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا فِيهِمْ؟ قَالَ: (أَنْتِ فِيهِمْ)، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ مَدِينَةَ قَيْصَرَ مَغْفُورٌ لَهُمْ)، فَقُلْتُ: أَنَا فِيهِمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (لاَ) (رواه البخاري). (مَدِينَة قَيْصَرَ): أي القسطنطينية. (قَدْ أَوْجَبُوا): أي فعلوا فعلاً وجبتْ لهم به الجنة.

قال ابن حجر -رحمه لله-: "ومِن المتفق عليه بيْن المؤرخين أن غزو البحر وفتح جزيرة قبرص كان في سنة 27هـ في إمارة معاوية -رضي الله عنه- على الشام أثناء خلافة عثمان -رضي الله عنه-" (فتح الباري).

وكان معاوية -رضي الله عنه- أهلاً للإمارة والخلافة معًا، ومِن أجل هذه الأهلية ظلَّ أميرًا على الشام عشرين سنة، وخليفة للمسلمين ما يقرب مِن عشرين سنة؛ فلم يهجه أحد في دولته، بل دانت له الأمم، وحكم على العرب والعجم، وكان ملكه على الحرمين، ومصر، والشام، والعراق، وخراسان، وفارس، والجزيرة، واليمن، والمغرب، وغير ذلك.

وقد ذكر ابن كثير -رحمه الله- في "البداية والنهاية" أن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال بعد رجوعه مِن صفين: "أيها الناس لا تكرهوا إمارة معاوية؛ فإنكم لو فقدتموها رأيتم الرؤوس تندر عن كواهلها كأنها الحنظل".

وقد حزن معاوية -رضي الله عنه- لمقتل علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- حزنًا شديدًا؛ فيروى أنه عندما جاءه خبر قتله بكى بكاءً شديدًا، فقالت له امرأته: "أتبكيه وقد قاتلته؟ فقال: ويحك إنك لا تدرين ما فقد الناس مِن الفضل والفقه والعلم!".

وذُكِر عمر بن عبد العزيز عند الأعمش فقال: "فكيف لو أدركتم معاوية؟! قالوا: في حلمه، قال: لا والله، في عدله".

وإليك شهادة الذهبي -رحمه الله- له حيث يقول: "وحَسْبُك بمن يؤمِّره عمر ثم عثمان على إقليم فيضبطه، ويقوم به أتم قيام، ويُرضي الناس بسخائه وحلمه، فهذا الرجل ساد وساس العالم بكمال عقله وفَرْط حلمه وسعة نفسه، وقوه دهائه ورأيه" اهـ.

وما أكثر الفتوحات التي تمت في عهد عثمان بن عفان على يد معاوية -رضي الله عنهما-، ثم ما أكثر الفتوحات التي كانت في خلافته، فبعد أن أستقر الأمر لمعاوية بن أبي سفيان سنة 41هـ خليفة للمسلمين باشر في تطوير الأسطول البحري ليكون قادرًا على دك معاقل القسطنطينية عاصمة الروم ومبعث العدوان والخطر الدائم ضد المسلمين، وأنشأ أول دار صناعة للأساطيل لإنتاج السفن الحربية المختلفة بمصر سنة 54هـ.

يقول محب الدين الخطيب معلـِّقـًا على أثر ابن عباس -رضي الله عنهما-: "ما رأيتُ رجلاً أخلق بالمُلك مِن معاوية": وهل يكون الرجل أخلق الناس بالملك إلا أن يكون عادلاً حكيمًا، يحسن الدفاع عن ملكه، ويستعين بالله في نشر دعوة الله في الممالك الأخرى، ويقوم بالأمانة في الأمة التي ائتمنه الله عليها؟! والذي يكون أخلق الناس بالملك هل يُلام عثمان على توليته؟ ويا عجبًا كيف يُلام عثمان على توليته، وقد ولاه مِن قبْله عمر، وتولى لأبي بكر مِن قبْل عمر، وتولى بعض عمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبْل أن تصير الخلافة إلى أبي بكر وعمر وعثمان! إن المخ الذي يَعبث به الشيطان فيسول له مثل هذه الوساوس لا شك أنه مخ فاسد، يفسد على الناس عقولهم ومنطقهم قبْل أن يفسد عليهم دينهم وتاريخهم" اهـ.

وأما توليته لعبد الله بن عامر فهو مِن بني أمية مِن جهة الأب، ومِن بني هاشم مِن جهة الأم، فأم جدته الكبرى عمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإن أم أبيه أروى بنت كريز أمها البيضاء بنت عبد المطلب بن هاشم عمة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولما ولد عبد الله بن عامر بن قريظ أُتي به إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال لأهله: "هَذَا أَشْبَهُ بِنَا مِنْهُ بِكُمْ"، ثم تفل في فيه فازدرده، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "أَرْجُو أَنْ يَكُونَ مَسْقِيًّا" (دلائل النبوة للبيهقي)، فكان -رضي الله عنه- لا يعالج أرضًا إلا ظهر منها الماء، ذكره ابن حجر العسقلاني في الإصابة.

ويُعد عبد الله بن عامر مِن أشهر الفاتحين في الإسلام، فقد فتح خراسان كلها، وأطراف فارس، وسجستان، وأعاد فتح كرمان بعد نقضها للعهد، وكان هذا الجهاد سببًا في تقويض آمال المجوس في استعادة مُلكهم، ومِن ثَمَّ يكنّون له هذا الحقد العظيم في نفوسهم، وعندما انطلق الشيعة مِن تلك الأراضي أخذوا يطعنون فيمن قوضوا ملك فارس مِن أمثال المجاهد عبد الله بن عامر بن قريظ الذي فعل هذا، ولم يكن يبلغ مِن العمر سوى خمسة وعشرين سنة.

قال ابن كثير -رحمه الله-: "هو أول مَن اتخذ الحياض بعرفة لحجاج بيت الله الحرام، وأجرى إليها الماء المعين" (البداية والنهاية).

وقال ابن تيمية -رحمه الله-: "إن له مِن الحسنات، والمحبة في قلوب الناس ما لا يُنكر" (منهاج السنة).

- وأما توليته مروان بن الحكم....

فمَن هو مروان بن الحكم؟

هو مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن شمس بن عبد مناف القرشي الأموي، روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في صلح الحديبية، والحديث في صحيح البخاري عن مروان والمسور بن مخرمة، كما روى مروان عن عمر وعثمان، وكان كاتبَه -أي كان كاتب عثمان- وروى عن علي وزيد بن ثابت، وروى عنه ابنه عبد الملك وسهل بن سعد، وسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير وعلي بن الحسين "زين العابدين"، ومجاهد، وغيرهم.

وكان مروان بن الحكم مِن سادات قريش وفضلائها، وقد قاتل مروان يوم الدار قتالاً شديدًا، وقَتَلَ بعض الخارجين على عثمان، وكان على الميسرة يوم الجمل، وكان علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- يكثر السؤال عن مروان حين انهزم الناس يوم الجمل، يَخشى عليه مِن القتل، فلما سُئِلَ عن ذلك قال: إنه يعطفني عليه رحم ماسة، وهو سيد مِن شباب قريش، وكان مروان -رضي الله عنه- قارئًا لكتاب الله، فقيهًا في دين الله، شديدًا في حدود الله، ومِن أجل ذلك ولاه معاوية المدينة غير مرة، والواقع أن مروان بن الحكم لم يُولَّ، وإنما كان عثمان -رضي الله عنه- يستشيره في كثير مِن الأمور، وكان يقربه إليه، ولم يولِّه إمارةً مِن الإمارات.

قال القاضي ابن العربي -رحمه الله-: "مروان رجل عدل مِن كبار الأمة عند الصحابة، والتابعين، وفقهاء المسلمين" (العواصم مِن القواصم).

وكان مروان جوادًا كريمًا، فقد روى المدائني عن إبراهيم بن محمد عن جعفر بن محمد أن مروان أسلف علي بن الحسين -رضي الله عنهما- حين رجع إلى المدينة بعد مقتل الحسين -رضي الله عنه- ستة آلاف دينار، فلما حضرته الوفاة أوصى إلى ابنه عبد الملك أن لا يسترجع مِن علي بن الحسين شيئًا، فبعث إليه عبد الملك بذلك فامتنع مِن قبولها، فألح عليه فقبلها، وكان الحسن والحسين يصليان خلف مروان ولا يعيدان, وكان إذا وقعت معضلة أثناء ولايته على المدينة جمع مَن عنده مِن الصحابة فاستشارهم فيها, وهو الذي جمع الصيعان فأخذ بأعدلها, فنسب إليه فقيل صاع مروان, وكان ذا شهامةٍ وشجاعةٍ، ومكرٍ ودهاء.

وبعد وفاة معاوية بن يزيد اضطرب أمر بني أمية اضطرابًا شديدًا، وكادت دولتهم أن تذهب لولا أن تداركوا أمرهم فيما بينهم، وفي هذا التوقيت أخذ عبد الله بن الزبير البيعة لنفسه في مكة، وبدأت البيعة تأتيه مِن سائر الأقاليم حتى مِن بلاد الشام ذاتها مركز ثقل الأمويين، فقد انقسم أهلها إلى فريقين: فريق مال إلى ابن الزبير، والفريق الآخر ظل على ولائه للأمويين.

وكان مروان وبنوه في المدينة عند وفاة يزيد بن معاوية، ثم رحلوا إلى الشام، فلما وصلوها وجدوا الأمر مضطربًا والانقسامات على أشدها، مما جعل مروان يفكر في العودة إلى الحجاز ومبايعة ابن الزبير، فهناك روايات تذكر أن مروان بن الحكم كان قد عزم على مبايعة ابن الزبير لولا أن تدخل عبيد الله بن زياد والحصين بن نمير السكوني وغيرهما في آخر لحظة وأثنوه عن عزمه.

وفي النهاية نقول: إن عثمان -رضي الله عنه- لم يولِّ مروان كما يدَّعي الكذابون، وإنما كان عثمان -رضي الله عنه- يستشيره في كثير مِن الأمور، وكان يقربه إليه.

ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ

المراجع:

- البداية والنهاية لابن كثير.

- تاريخ الرسل والملوك للطبري.

- العواصم مِن القواصم لابن العربي، مع تعليقات محب الدين الخطيب.


- منهاج السُّنة لابن تيمية.

- التمهيد والبيان في مقتل الشهيد عثمان -رضي الله عنه-، لمحمد بن يحيى المالقي الأندلسي.

- موقع قصة الإسلام، الدفاع عن عثمان -رضي الله عنه-.

ابو وليد البحيرى
2020-07-03, 02:50 PM
صفحات مِن ذاكرة التاريخ (6)
الخروج على أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه- "الأسباب والنتائج"


كتبه/ زين العابدين كامل

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛


فنستكمل المآخذ التي وُجهت إلى أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه-، ونبيِّن الرد عليها، وقد ذكرنا في المقال السابق أن مِن التهم التي وٌجهت إلى أمير المؤمنين عثمان أنه ولَّى معاوية بن أبي سفيان، وولّى عبد الله بن عامر، وولّى مروان بن الحكم، وهؤلاء مِن أقاربه، وهذا المقال تتمة لما ذكرناه في ردنا على هذه التهمة في المقال السابق.

لا شك أن بني أمية كانت مِن أكبر القبائل العربية آنذاك، وكان فيهم الكثير ممن يصلح للحكم والولاية، وكانوا مِن أشراف العرب، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوليهم في كثير مِن الأمور، فنجد أنه في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبعد أن فُتحت مكة ولّى عليها عتَّاب بن أسيد من بني أمية، بينما كان عمره لا يتجاوز العشرين سنة، فولّاه الرسول -صلى الله عليه وسلم- على أفضل بقاع الأرض على مكة.


قال شيخ الإسلام -رحمه الله- في مجموع الفتاوى وهو يتحدث عن الطلقاء: "بل ظهر منهم مِن حسن الإسلام وطاعة الله ورسوله، وحب الله ورسوله، والجهاد في سبيل الله، وحفظ حدود الله ما دلَّ على حسن إيمانهم الباطن وحسن إسلامهم، ومنهم مَن أمره النبي -صلى الله عليه وسلم- واستعمله نائبًا له كما استعمل عتاب بن أسيد أميرًا على مكة نائبًا عنه، وكان مِن خيار المسلمين.

وقد استعمل النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا سفيان بن حرب -أبا معاوية- على نجران نائبًا له، وتوفي النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو سفيان عامله على نجران، وكان معاوية أحسن إسلامًا مِن أبيه باتفاق أهل العلم، كما أن أخاه "يزيد بن أبي سفيان" كان أفضل منه ومِن أبيه؛ ولهذا استعمله أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- على قتال النصارى حين فتح الشام، وكان هو أحد الأمراء الذين استعملهم أبو بكر الصديق" اهـ.

وقال أيضًا في "منهاج السُّنة": "وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّ الشِّيعَةَ يُنْكِرُونَ عَلَى عُثْمَانَ مَا يَدَّعُونَ أَنَّ عَلِيًّا كَانَ أَبْلَغَ فِيهِ مِنْ عُثْمَانَ. فَيَقُولُونَ: إِنَّ عُثْمَانَ وَلَّى أَقَارِبَهُ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ عَلِيًّا وَلَّى أَقَارِبَهُ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ، كَعَبْدِ اللَّهِ وَعُبَيْدِ اللَّهِ ابْنَيِ الْعَبَّاسِ. فَوَلَّى عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَلَى الْيَمَنِ، وَوَلَّى عَلَى مَكَّةَ وَالطَّائِفِ قُثَمَ بْنَ الْعَبَّاسِ. وَأَمَّا الْمَدِينَةُ فَقِيلَ: إِنَّهُ وَلَّى عَلَيْهَا سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ. وَقِيلَ: ثُمَامَةَ بْنَ الْعَبَّاسِ. وَأَمَّا الْبَصْرَةُ فَوَلَّى عَلَيْهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ. وَوَلَّى عَلَى مِصْرَ رَبِيبَهُ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ الَّذِي رَبَّاهُ فِي حِجْرِهِ.

ثُمَّ إِنَّ الْإِمَامِيَّةَ تَدَّعِي أَنَّ عَلِيًّا نَصَّ عَلَى أَوْلَادِهِ فِي الْخِلَافَةِ، أَوْ عَلَى وَلَدِهِ، وَوَلَدِهِ عَلَى وَلَدِهِ الْآخَرِ، وَهَلُمَّ جَرًّا، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ تَوْلِيَةُ الْأَقْرَبِينَ مُنْكَرًا، فَتَوْلِيَةُ الْخِلَافَةِ الْعُظْمَى أَعْظَمُ مِنْ إِمَارَةِ بَعْضِ الْأَعْمَالِ، وَتَوْلِيَةُ الْأَوْلَادِ أَقْرَبُ إِلَى الْإِنْكَارِ مِنْ تَوْلِيَةِ بَنِي الْعَمِّ" اهـ.

وقد ولَّى الرسول -صلى الله عليه وسلم- على صنعاء، واليمن، وصدقات بني مذحج خالد بن سعيد بن العاص الأموي، وولّى على تيماء، وخيبر، وقُرى عرينة عثمان بن سعيد بن العاص الأموي، وولّى على البحرين إبان بن سعيد بن العاص، واستعملهم بعد ذلك أيضًا أبو بكر الصديق عمر -رضي الله عنهما-، وزاد عمر -رضي الله عنه- يزيد بن أبي سفيان ومعاوية بن أبي سفيان.

إذن لا يستطيع أحدٌ أن ينكِر منزلة بني أمية في التاريخ، فهم الذين ثبَّتوا دعائم الدولة الإسلامية، ونشروا الإسلام في بقاع كثيرة، ثم نطرح سؤالاً: هل كان معظم ولاة عثمان بن عفان -رضي الله عنه- مِن أقاربه بالفعل؟!

والإجابة: لا؛ فلقد كانت المناصب العليا في عهد عثمان -رضي الله عنه-، وتحديدًا في الوقت الذي جاء فيه المجرمون المنافقون يطلبون عزله -رضي الله عنه- كانت هذه المناصب على هذا النحو التالي، كان على القضاء زيد بن ثابت الأنصاري، وكان على بيت المال عقبة بن عامر الجهني، وكان على إمارة الحج عبد الله بن عباس الهاشمي، وعلى الخراج جابر بن فلان المزني، وسماك الأنصاري، وعلى إمارة الحرب القعقاع بن عمرو التميمي، وعلى الشرطة عبد الله بن قنفذ من بني تيّم.

فهذه المناصب الستة العليا في الدولة لم يكن فيها أحدٌ مِن بني أمية.

أما ولاة عثمان بن عفان -رضي الله عنه- على البلاد المختلفة، فكانوا على هذا النحو التالي: كان على اليمن: يعلى بن أمية التميمي، وكان على مكة: عبد الله بن عمرو الحضرمي. وعلى همذان: جرير بن عبد الله البجلي. وعلى الطائف: القاسم بن ربيعة الثقفي. وعلى الكوفة: أبو موسى الأشعري. وعلى البصرة: عبد الله بن عامر بن قريظ. وعلى مصر: عبد الله بن سعد بن أبي سرح. وعلى الشام: معاوية بن أبي سفيان. وعلى حمص: عبد الرحمن بن خالد بن الوليد المخزومي. وعلى قنسرين: حبيب بن مسلمة القرشي الهاشمي. وعلى الأردن: أبو الأعور السلمي. وعلى فلسطين: علقمة بن حكم الكنعاني. وعلى أذربيجان: الأشعث بن قيس الكندي. وعلى حلوان -في أرض فارس-: عتيبة بن النهاس العجلي. وعلى أصفهان في عمق فارس: السائب بن الأقرع الثقفي.

ولا نلحظ في كل هذه الولايات إلا اثنين فقط مِن أقارب عثمان -رضي الله عنهما-: عبد الله بن السائب بن قريظ، ومعاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما-، ثم نقول: إن الولاية أمر يجتهد فيه أمير المؤمنين أو الخليفة حسب ما يرى، وحسب مَن يصلح أن يكون أهلاً للإمارة، سواء أكان قريبًا له، أو غير قريب، بل إن له أن يعزل الفاضل، ويولِّي المفضول إن رأى في ذلك مصلحة للمسلمين، أو دفع فتنة عنهم، كما فعل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عندما عزل سعد بن أبي وقاص، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وخال الرسول -صلى الله عليه وسلم-، والوحيد الذي افتداه الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأبيه وأمه، وولّى بعده مَن هو أقل منه درجة عبد الله بن عبد الله بن عتبان، ثم زياد بن حنظلة، ثم عمار بن ياسر، ولم ينكر عليه أحد ذلك.

قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "وَقَدْ وَلَّى عَلِيٌّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- زِيَادَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ أَبَا عُبَيْدِ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ قَاتِلَ الْحُسَيْنِ، وَوَلَّى الْأَشْتَرَ النَّخَعِيَّ، وَوَلَّى مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ وَأَمْثَالَ هَؤُلَاءِ، وَلَا يَشُكُّ عَاقِلٌ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- كَانَ خَيْرًا مِنْ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ" اهـ.

ومِن التهم التي وُجهت إلى أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه-: قالوا: أنه ولَّى الوليد بن عقبة وهو فاسق ليس مِن أهل الولاية.

قال أبو بكر بن العربي -رحمه الله-: "وأما تولية الوليد بن عقبة فإن الناس -على فساد النيات- أسرعوا إلى السيئات قبْل الحسنات، فذكر الافترائيون أنه إنما ولاه للمعنى الذي تكلم به. قال عثمان: ما وليت الوليد؛ لأنه أخي -هو أخوه لأمه أروى بنت كريز-، وإنما وليته لأنه ابن أم حكيم البيضاء عمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتوأمة أبيه".

قال محب الدين الخطيب -رحمه الله- معلِّقًا على هذه التهمة: "قد يظن مَن لا يعرف صدر هذه الأمة أن أمير المؤمنين عثمان جاء بالوليد بن عقبة مِن عرض الطريق فولاه الكوفة، أما الذين أنعم الله عليهم بنعمة الأنس بأحوال ذلك العصر وأهله فيعلمون أن دولة الإسلام الأولى في خلافة أبي بكر تلقفت هذا الشاب الماضي العزيمة الرضيّ الخلق الصادق الإيمان فاستعملت مواهبه في سبيل الله إلى أن توفي أبو بكر، وأول عمل له في خلافة أبي بكر أنه كان موضع السر في الرسائل الحربية التي دارت بين الخليفة وقائده خالد بن الوليد في وقعة المذار مع الفرس سنة 12هـ، ثم وجهه مددًا إلى قائده عياض بن غنم الفهري، وفي سنة 13هـ كان الوليد يلي لأبي بكر صدقات قضاعة، ثم لما عزم الصديق على فتح الشام كان الوليد عنده بمنزلة عمرو بن العاص في الحرمة والثقة والكرامة، فكتب إلى عمرو بن العاص وإلى الوليد بن عقبة يدعوهما لقيادة فيالق الجهاد، فسار ابن العاص بلواء الإسلام نحو فلسطين، وسار الوليد بن عقبة قائدًا إلى شرق الأردن، ثم رأينا الوليد في سنة 15هـ أميرًا على بلاد بني تغلب وعرب الجزيرة يحمي ظهور المجاهدين في شمال الشام لئلا يؤتوا مِن خلفهم، فكانت تحت قيادته ربيعة وتنوخ مسلمهم وكافرهم.

وانتهز الوليد بن عقبة فرصة ولايته وقيادته على هذه الجهة التي كانت لا تزال مليئة بنصارى القبائل العربية، فكان مع جهاده الحربي وعمله الإداري داعيًا إلى الله يستعمل جميع أساليب الحكمة والموعظة الحسنة لحمل نصارى إياد وتغلب على أن يكونوا مسلمين كسائر العرب، وهربت منه إياد إلى الأناضول وهو تحت حكم البيزنطيين، فحمل الوليدُ خليفته عمرَ على كتابة كتاب تهديد إلى قيصر القسطنطينية بأن يردهم إلى حدود الدولة الإسلامية، وحاولت تغلب أن تتمرد على الوليد في نشره الدعوة الإسلامية بين شبانها وأطفالها، فغضب غضبته المضرية المؤيدة بالإيمان الإسلامي، وقال فيهم كلمته المشهورة:

إذا ما عصبتُ الرأسَ مني بمشوذ فـغيّــكِ مـنـي تـغـلب ابـنــة وائــل

وبلغت هذه الكلمة عمر، فخاف أن يبطش قائده الشاب بنصارى تغلب فيفلت مِن يده زمامهم في الوقت الذي يحاربون فيه مع المسلمين حمية للعروبة، فكف عنهم يد الوليد ونحاه عن منطقتهم، وبهذا الماضي المجيد جاء الوليد في خلافة عثمان فتولى الكوفة له، وكان مِن خير ولاتها عدلاً ورفقًا وإحسانًا، وكانت جيوشه مدة ولايته على الكوفة تسير في آفاق الشرق فاتحة ظافرة موفقة" (انظر تاريخ الطبري).

وبهذا تبيَّن أنها تهمة باطلة كسابقها مِن التهم.

والله المستعان.

ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ

المراجع:

- البداية والنهاية لابن كثير.

- تاريخ الرسل والملوك للطبري.


- العواصم مِن القواصم لابن العربي، مع تعليقات محب الدين الخطيب.

- منهاج السُّنة لابن تيمية.

- التمهيد والبيان في مقتل الشهيد عثمان -رضي الله عنه-، لمحمد بن يحيى المالقي الأندلسي.

- موقع قصة الإسلام، الدفاع عن عثمان -رضي الله عنه-.

ابو وليد البحيرى
2020-07-16, 08:09 PM
صفحات مِن ذاكرة التاريخ (7)
الخروج على أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه- "الأسباب والنتائج"


كتبه/ زين العابدين كامل

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فما زلنا ونحن نتأمل حال الثورات عبْر مراحل التاريخ الإسلامي نعرض المآخذ التي أخذها المجرمون الذين ثاروا على أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه-، ونبين الرد عليها.

ومِن هذه المآخذ:

- أنهم قالوا: إن عثمان -رضي الله عنه- أعطى مروان بن الحكم خمس إفريقية! وهذا لم يصح، والذي صح هو إعطاؤه خمس الخمس لعبد الله بن أبي سرح جزاء جهاده المشكور، ثم عاد فاسترده منه.

جاء في حوادث سنة 27 مِن تاريخ الطبري أن عثمان -رضي الله عنه- لما أمر عبد الله بن سعد بن أبي سرح بالزحف مِن مصر على تونس لفتحها قال له: "إن فتحَ الله عليك غدًا إفريقية؛ فلك مما أفاء الله على المسلمين خمس الخمس مِن الغنيمة نفلاً". فخرج بجيشه حتى قطعوا أرض مصر وأوغلوا في أرض إفريقية وفتحوها؛ سهلها وجبلها، وقسَّم عبد الله على الجند ما أفاء الله عليهم، وأخذ خمس الخمس، وبعث بأربعة أخماسه إلى عثمان مع وثيمة النصري. فشكا وفد ممن معه إلى عثمان ما أخذه عبد الله بن سعد، فقال لهم عثمان: أنا أمرت له بذلك، فإن سخطتم فهو رد. قالوا: إنا نسخطه. فأمر عثمان عبد الله بن سعد بأن يرده فرده. ورجع عبد الله بن سعد إلى مصر وقد فتح إفريقية".

- قال محب الدين الخطيب -رحمه الله-: "وقد ثبت في السُّنة تنفيل أهل الغناء والبأس في الجهاد، كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- في مكافأة سلمة بن الأكوع في إغارة عبد الرحمن الفزاري على سرح النبي -صلى الله عليه وسلم-" اهـ.

- وقال أبو بكر بن العربي -رحمه الله-: "وقد ذهب مالك وجماعة إلى أن الإمام يرى رأيه في الخمس، وينفذ فيه ما أداه إليه اجتهاده، وأن إعطاءه لواحد جائز" اهـ.

إذن فهذا الأمر جائز شرعًا، وفعله مَن هو خير مِن عثمان -رضي الله عنه-؛ فعله الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وفعله أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-، وفعله عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وأقطعوا القطائع والأعطيات لبعض الناس، إما ترغيبًا لهم، وتأليفًا لقلوبهم، وإما جزاءً لهم على حسن البلاء، وقد ذكر أبو يوسف الكثير مِن هذه الأمثلة في كتابه "الخراج".

- وقالوا: كان عمر -رضي الله عنه- يضرب بالدرة، وضرب هو بالعصا.

والدرة: "عصا صغيرة يحملها السلطان يزع بها"، وهذه مِن المآخذ التي أخذوها على عثمان -رضي الله عنه-، وهذا الأمر ليس له أصل، ولا سند، ولا يصح فيه خبر واحد، ولو صح ذلك؛ فللإمام أن يؤدب ويعزر بما يراه مناسبًا للأحوال.

- وقالوا: إن عثمان علا على درجة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقد نزل عنها أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما-.

- قال القاضي ابن العربي -رحمه الله- في العواصم مِن القواصم: "لا يصح لهذه الرواية إسناد، ولو صح إسنادها فلم ينكر عليه أحدٌ مِن الصحابة هذا الأمر، ولو كانوا أنكروه فلا يحل ذلك دمه بحال مِن الأحوال".

- وقال محب الدين الخطيب -رحمه الله-: "كان مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ضيق المساحة في عصر النبوة، وخلافة أبي بكر، وكان مِن مناقب عثمان في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما زاد عدد الصحابة أن اشترى مِن ماله مساحة مِن الأرض وسع بها المسجد النبوي، ثم وسعه أمير المؤمنين عمر فأدخل فيه دار العباس بن عبد المطلب، ثم ازداد عدد المصلين بازدياد عدد سكان المدينة وقاصديها؛ فوسعه أمير المؤمنين عثمان مرة أخرى، وجعل طوله ستين ومائة ذراع، وعرضه خمسين ومائة ذراع، وجدد بناءه. فاتساع المسجد وازدياد غاشيته وبُعد أمكنة بعضهم عن منبر الخطابة يجوز أن يكون مِن ضرورات ارتفاع الخطيب ليراهم ويروه ويسمعوه" اهـ. هذا إن صحت الرواية القائلة بأنه علا على الدرجة التي كان يقف عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهي لا تصح -كما ذكرنا آنفًا-.

- قالوا: ولم يحضر بدرًا، وانهزم يوم أحد، وانهزم يوم حنين، وغاب عن بيعة الرضوان.

والرد على هذه التهم هو ما أخرجه البخاري مِن حديث عثمان بن عبد الله بن موهب قال: "جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ حَجَّ البَيْتَ، فَرَأَى قَوْمًا جُلُوسًا، فَقَالَ: مَنْ هَؤُلاَءِ القَوْمُ؟ فَقَالُوا: هَؤُلاَءِ قُرَيْشٌ، قَالَ: فَمَنِ الشَّيْخُ فِيهِمْ؟ قَالُوا: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: يَا ابْنَ عُمَرَ، إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ شَيْءٍ فَحَدِّثْنِي، هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ عُثْمَانَ فَرَّ يَوْمَ أُحُدٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: تَعْلَمُ أَنَّهُ تَغَيَّبَ عَنْ بَدْرٍ وَلَمْ يَشْهَدْ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: تَعْلَمُ أَنَّهُ تَغَيَّبَ عَنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ فَلَمْ يَشْهَدْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، قَالَ: ابْنُ عُمَرَ: تَعَالَ أُبَيِّنْ لَكَ، أَمَّا فِرَارُهُ يَوْمَ أُحُدٍ، فَأَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ عَفَا عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ، وَأَمَّا تَغَيُّبُهُ عَنْ بَدْرٍ فَإِنَّهُ كَانَتْ تَحْتَهُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَكَانَتْ مَرِيضَةً، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِنَّ لَكَ أَجْرَ رَجُلٍ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا، وَسَهْمَهُ) وَأَمَّا تَغَيُّبُهُ عَنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ، فَلَوْ كَانَ أَحَدٌ أَعَزَّ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ عُثْمَانَ لَبَعَثَهُ مَكَانَهُ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عُثْمَانَ، وَكَانَتْ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ عُثْمَانُ إِلَى مَكَّةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِيَدِهِ اليُمْنَى: (هَذِهِ يَدُ عُثْمَانَ). فَضَرَبَ بِهَا عَلَى يَدِهِ، فَقَالَ: (هَذِهِ لِعُثْمَانَ) فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: اذْهَبْ بِهَا الآنَ مَعَكَ".

- وفي تاريخ الطبري: "وقد بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- ببشرى النصر في بدر مع زيد بن حارثة إلى عثمان في المدينة، قال أسامة بن زيد: فأتانا الخبر حين سوينا التراب على رقية بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التي كانت عند عثمان بن عفان، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خلفني عليها مع عثمان" اهـ.

والذي حدث في بيعة الرضوان أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبْل أن يبعث عثمان -رضي الله عنه- دعا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ليبعثه إلى مكة فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له، فقال عمر: يا رسول الله إني أخاف قريشًا على نفسي، وليس في مكة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني، ولكني أدلك على رجل هو أعز مني فيها: عثمان بن عفان. فدعاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش.

- قال محب الدين الخطيب -رحمه الله-: "وحينئذٍ كان لعثمان الشرف المضاعف بأن يد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نابت عن يده في عقد البيعة عنه؛ فبيعة الرضوان كانت انتصارًا لعثمان، وجميع الصحابة بايعوا بأيدي أنفسهم إلا عثمان -رضي الله عنه- فإن أشرف يد بالوجود نابت عن يده في إعطاء بيعته، ولو لم يكن لعثمان مِن الشرف في حياته كلها إلا هذا لكفاه" اهـ.

وأما عن يوم "حنين": فلم يبقَ إلا نفر يسير مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو أمر قد اشترك فيه الصحابة، وقد عفا الله عنه ورسوله -صلى الله عليه وسلم-.

- قال أبو بكر بن العربي -رحمه الله-: "فلا يحل ذكرُ ما أسقطه الله ورسوله والمؤمنون".

وأود أن أشير إلى خطورة نشر الأخبار الكاذبة والإشاعات المغرضة بيْن الناس، وخطورة ذلك على المجتمع؛ فنشر الأخبار الكاذبة واستقرارها في نفوس البعض وتصديقها بلا دليل ولا برهان يؤدي إلى وقوع البغضاء والكره؛ فالإعلام الذي كان في عهد أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه- والذي كان يحركه السبئية وغيرهم مِن المنافقين نجح في تهييج مشاعر بعض أفراد المجتمع ضد أمير المؤمنين -رضي الله عنه- حتى وصل الأمر إلى صعوبة قبول الحق لو كان مع عثمان -رضي الله عنه-، جاء في صحيح البخاري عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عُمَرَ فَسَأَلَهُ عَنْ عُثْمَانَ، فَذَكَرَ عَنْ مَحَاسِنِ عَمَلِهِ، قَالَ: لَعَلَّ ذَاكَ يَسُوءُكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَأَرْغَمَ اللَّهُ بِأَنْفِكَ، -أي ألصقه بالرغام وهو التراب وهو كناية عن الذل والإهانة- ثُمَّ سَأَلَهُ عَنْ عَلِيٍّ فَذَكَرَ مَحَاسِنَ عَمَلِهِ، قَالَ: هُوَ ذَاكَ بَيْتُهُ، أَوْسَطُ بُيُوتِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "أي يشير بذلك إلى منزلته عند النبي -صلى الله عليه وسلم-"، ثُمَّ قَالَ: لَعَلَّ ذَاكَ يَسُوءُكَ؟ قَالَ: أَجَلْ، قَالَ: فَأَرْغَمَ اللَّهُ بِأَنْفِكَ، انْطَلِقْ فَاجْهَدْ عَلَيَّ جَهْدَكَ". أي: اذهب مِن عندي واعمل في حقي ما تستطيعه وتقدر عليه؛ فإني لا أبالي بعد قولي بالحق.

فهذه التهم والمظالم والمناكير التي وقعت في نفوس بعض أفراد المجتمع واستقرت؛ كان لها أثر واضح في كراهية البعض لعثمان -رضي الله عنه- والخروج عليه وقتله؛ فوجب علينا أن نحذر مِن ذلك، وأن نحذر الناس.

والله المستعان.

ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ

المراجع:
- البداية والنهاية لابن كثير.
- تاريخ الرسل والملوك للطبري.
- العواصم مِن القواصم لابن العربي، مع تعليقات محب الدين الخطيب.
- منهاج السُّنة لابن تيمية.
- التمهيد والبيان في مقتل الشهيد عثمان -رضي الله عنه-، لمحمد بن يحيى المالقي الأندلسي.
- موقع قصة الإسلام، الدفاع عن عثمان -رضي الله عنه-.

ابو وليد البحيرى
2020-07-23, 04:36 PM
صفحات مِن ذاكرة التاريخ (8)
الخروج على أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه- "الأسباب والنتائج"


كتبه/ زين العابدين كامل



الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فما زلنا ونحن نتأمل حال الثورات عبْر مراحل التاريخ الإسلامي نعرض المآخذ التي أخذها المجرمون الذين ثاروا على أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه-، ونبيِّن الرد عليها.

فمِن هذه المآخذ:

قالوا: ولم يَقتل عبيد الله بن عمر بالهرمزان "الذي أعطى السكين إلى أبي لؤلؤة، وحرضه على عمر حتى قتله".

فقد طٌعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- على يد أبي لؤلؤة المجوسي، ثم قَتل أبو لؤلؤة نفسه بعدها، ولم يمت عمر -رضي الله عنه- في اليوم الذي طعن فيه، وقبْل موت عمر أتى عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، وقال إنه رأى الهرمزان (وهو رجل فارسي)، يتناجى في السر مع أبي لؤلؤة المجوسي، فارتاب في أمرهما، فاقترب منهما، ثم هجم عليهما فجأة، فسقط منهما خنجر له رأسان، ثم ذهبوا فالتمسوا الخنجر الذي طعن به عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، فوجدوه بنفس مواصفات الخنجر الذي ذكره عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، فتيقن القوم أن الهرمزان مشارك لأبي لؤلؤة المجوسي في التخطيط لقتل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، فسمع بذلك عبيد الله بن عمر بن الخطاب، فأمسك -أي لم يتصرف- حتى مات عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، فحمل سيفه وخرج، فقتل الهرمزان، فلما تولى عثمان بن عفان الخلافة نظر في القضية.

- يقول الطبري -رحمه الله-: "جلس عثمان في جانب المسجد ودعا عبيد الله، وكان محبوسًا في دار سعد بن أبي وقاص، وهو الذي نزع السيف مِن يده. فقال عثمان لجماعةٍ مِن المهاجرين والأنصار: أشيروا عليَّ في هذا الذي فتق في الإسلام ما فتق. فقال علي بن أبي طالب: أرى أن تقتله.

فقال بعض المهاجرين: قٌتل عمر أمس، ويٌقتل ابنه اليوم؟ فقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين، إن الله أعفاك أن يكون هذا الحدث كان ولك على المسلمين سلطان، إنما كان هذا الحدث ولا سلطان لك. قال عثمان: أنا وليهم، وقد جعلتها دية، واحتملتها في مالي".

- قال أبو بكر بن العربي -رحمه الله-: "وأما امتناعه عن قتل عبيد الله بن عمر بن الخطاب بالهرمزان؛ فإن ذلك باطل، فإن كان لم يفعل فالصحابة متوافرون، والأمر في أوله، وقد قيل: إن الهرمزان سعى في قتل عمر، وحمل الخنجر وظهر تحت ثيابه، وكان قتل عبيد الله له وعثمان لم يلِ بعد، ولعل عثمان كان لا يرى على عبيد الله حقـًّا؛ لما ثبت عنده مِن حال الهرمزان وفعله، وأيضًا فإن أحدًا لم يقم بطلبه" اهـ.

- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في منهاج السُّنة: "فالجواب الأول: أن عبيد الله كان متأولًا أن الهرمزان أعان على قتل أبيه، فكانت هذه شبهة مانعة مِن وجوب القصاص، وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْمَقْتُولَ مَعْصُومُ الدَّمِ يَحْرُمُ قَتْلُهُ، لَكِنْ كَانَ الْقَاتِلُ مُتَأَوِّلًا يَعْتَقِدُ حِلَّ قَتْلِهِ لِشُبْهَةٍ ظَاهِرَةٍ، صَارَ ذَلِكَ شُبْهَةً تَدْرَأُ الْقَتْلَ عَنِ الْقَاتِلِ، كَمَا أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ لَمَّا قَتَلَ ذَلِكَ الرَّجُلَ بَعْدَ مَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاعْتَقَدَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَا يَعْصِمُهُ، عَزَّرَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْكَلَامِ، وَلَمْ يَقْتُلْهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُتَأَوِّلًا، لَكِنَّ الَّذِي قَتَلَهُ أُسَامَةُ كَانَ مُبَاحًا قَبْلَ الْقَتْلِ، فَشَكَّ فِي الْعَاصِمِ، وَإِذَا كَانَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ مُتَأَوِّلًا يَعْتَقِدُ أَنَّ الْهُرْمُزَانَ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ أَبِيهِ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ قَتْلُهُ، صَارَتْ هَذِهِ شُبْهَةً يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَهَا الْمُجْتَهِدُ مَانِعَةً مِنْ وُجُوبِ الْقِصَاصِ، فَإِنَّ مَسَائِلَ الْقِصَاصِ فِيهَا مَسَائِلٌ كَثِيرَةٌ اجْتِهَادِيَّةٌ".

وقد قال عبد الله بن عباس لما طعن عمر -وقال له عمر: كنت أنتَ وأبوك تحبان أن تكثر العلوج بالمدينة-: "إن شئت أن نقتلهم". فقال عمر: "كذبت، أفبعد أن تكلموا بلسانكم، وصلوا إلى قبلتكم؟!".

- قال ابن تيمية -رحمه الله-: "فهذا ابن عباس -وهو أفقه مِن عبيد الله بن عمر وأدين وأفضل بكثير- يستأذن عمر في قتل علوج الفرس مطلقـًا الذين كانوا بالمدينة، لما اتهموهم بالفساد، اعتقد جواز مثل هذا، وإذا كان الهرمزان ممن أعان على قتل عمر كان مِن المفسدين في الأرض المحاربين فيجب قتله لذلك. ولو قُدر أن المقتول معصوم الدم يحرم قتله، لكن كان القاتل متأولاً ويعتقد حل قتله لشبهة ظاهرة؛ صار ذلك شبهة تدرأ عن القاتل -يعني عن عبيد الله بن عمر-.

وأما الجواب الثاني: فهو أن الْهُرْمُزَانَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَوْلِيَاءٌ يَطْلُبُونَ دَمَهُ، وَإِنَّمَا وَلِيُّهُ وَلِيُّ الْأَمْرِ، وَمِثْلُ هَذَا إِذَا قَتَلَهُ قَاتِلٌ كَانَ لِلْإِمَامِ قَتْلُ قَاتِلِهِ؛ لِأَنَّهُ وَلَيُّهُ، وَكَانَ لَهُ الْعَفْوُ عَنْهُ إِلَى الدِّيَةِ؛ لِئَلَّا تَضِيعَ حُقُوقُ الْمُسْلِمِينَ" اهـ.

- وقال محب الدين الخطيب -رحمه الله-: "وإلى هذا ذهب عثمان في اكتفائه بالدية واحتملها مِن ماله الخاص. ولو أن حادث مقتل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -بجميع ظروفه- وقع مثله في أي بلد آخر مهما بلغ في ذروة الحضارة لما كان منهم مثل الذي كان مِن الصحابة في تسامحهم إلى حد المطالبة حتى بقتل ابن أمير المؤمنين المقتول بيد الغدر والنذالة والبغي الذميم".

وقال ابن كثير -رحمه الله-: "وأما أول حكومة حكم عثمان فيها: فَقَضِيَّةُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ غَدَا عَلَى ابْنَةِ أَبِي لُؤْلُؤَةَ قَاتِلِ عُمَرَ فَقَتَلَهَا، وَضَرَبَ رَجُلًا نَصْرَانِيًّا يُقَالُ لَهُ جُفَيْنَةُ بِالسَّيْفِ فَقَتَلَهُ، وَضَرَبَ الْهُرْمُزَانَ الَّذِي كَانَ صَاحِبَ تستر فقتله، وكان قد قيل إنهما مالآ أَبَا لُؤْلُؤَةَ عَلَى قَتْلِ عُمَرَ -فَاللَّهُ أَعْلَمُ-، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ قَدْ أَمَرَ بِسَجْنِهِ لِيَحْكُمَ فِيهِ الْخَلِيفَةُ مِنْ بَعْدِهِ، فَلَمَّا وَلِيَ عُثْمَانُ وَجَلَسَ لِلنَّاسِ كَانَ أَوَّلَ مَا تُحُوكِمَ إِلَيْهِ فِي شَأْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَقَالَ عَلِيٌّ: مَا مِنَ الْعَدْلِ تَرْكُهُ، وَأَمَرَ بِقَتْلِهِ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُهَاجِرِينَ : أَيُقْتَلُ أَبُوهُ بِالْأَمْسِ وَيُقْتَلُ هُوَ الْيَوْمَ؟ فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَدْ بَرَّأَكَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، قَضِيَّةٌ لَمْ تَكُنْ فِي أَيَّامِكَ فَدَعْهَا عَنْكَ، فَوَدَى عُثْمَانُ -رضي الله عنه- أُولَئِكَ الْقَتْلَى مِنْ مَالِهِ؛ لِأَنَّ أَمْرَهُمْ إِلَيْهِ، إِذْ لَا وَارِثَ لَهُمْ إِلَّا بَيْتُ الْمَالِ، وَالْإِمَامُ يَرَى الْأَصْلَحَ فِي ذَلِكَ، وَخَلَّى سَبِيلَ عُبَيْدِ اللَّهِ" اهـ.

- وفي رواية عند الطبري عن شعيب، عن سيف، عن أبي منصور، قال: "سمعت القماذبان -هو ابن الهرمزان- يحدث عن قتل أبيه قال: فلما ولي عثمان دعاني فأمكنني منه -أي مِن عبيد الله بن عمر بن الخطاب- ثم قال: يا بني هذا قاتل أبيك، وأنتَ أولى به منا؛ فاذهب فاقتله. فخرجتُ به وما في الأرض أحدٌ إلا معي، إلا أنهم يطلبون إلي فيه. فقلت لهم: ألي قتله؟ قالوا: نعم. وسبوا عبيد الله. فقلت: أفلكم أن تمنعوه؟ قالوا: لا. وسبوه. فتركته لله ولهم. فاحتملوني. فوالله ما بلغت المنزل إلا على رءوس الرجال وأكفهم!".

وبهذا يتبين بما لا يدع مجالاً للشك أن أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه- لم يَترك عبيد الله بن عمر، ولم يغفل هذه القضية، وبهذا يتبين كذب مَن ادعى هذا الادعاء على ذي النورين -رضي الله عنه-.

ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ

المراجع:
- البداية والنهاية لابن كثير.
- تاريخ الرسل والملوك للطبري.
- العواصم مِن القواصم لابن العربي، مع تعليقات محب الدين الخطيب.
- منهاج السُّنة لابن تيمية.
- التمهيد والبيان في مقتل الشهيد عثمان -رضي الله عنه-، لمحمد بن يحيى المالقي الأندلسي.
- موقع قصة الإسلام، الدفاع عن عثمان -رضي الله عنه-.

ابو وليد البحيرى
2020-07-29, 05:49 PM
صفحات مِن ذاكرة التاريخ (9)
الخروج على أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه- "الأسباب والنتائج"


كتبه/ زين العابدين كامل


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فما زلنا ونحن نتأمل حال الثورات عبْر مراحل التاريخ الإسلامي نعرض المآخذ التي أخذها المجرمون الذين ثاروا على أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه-، ونبيِّن الرد عليها.

فمِن هذه المآخذ:

قالوا: وكتب مع عبده على جمله كتابًا إلى ابن أبي سرح في قتل مَن ذُكر فيه!

وهذا أيضًا مِن المناكير والأباطيل!

لقد ثار أهل الكوفة على سعيد بن العاص والي عثمان -رضي الله عنه- على الكوفة، فذهب سعيد بن العاص إلى عثمان -رضي الله عنه- وأخبره خبر القوم، فقال له عثمان: ماذا يريدون؟ هل خلعوا يدًا مِن طاعة؟ وهل خرجوا على الخليفة وأعلنوا عدم طاعتهم له؟ قال له سعيد: لا، لقد أظهروا أنهم لا يريدونني واليًا عليهم، ويريدون واليًا آخر مكاني. قال له عثمان: مَن يريدون واليًا؟ قال سعيد بن العاص: يريدون أبا موسى الأشعري. قال عثمان: قد عينا وأثبتنا أبا موسى واليًا عليهم، والله لن نجعل لأحدٍ عذرًا، ولن نترك لأحدٍ حجة، ولنصبرن عليهم كما هو مطلوب منا، حتى نعرف حقيقة ما يريدون. وكتب عثمان إلى أبي موسى بتعيينه واليًا على الكوفة.

قام أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه- بتهدئة الأمور، ونهى الناس عن العصيان، وقال لهم: أيها الناس، لا تخرجوا في مثل هذه المخالفة، ولا تعودوا لمثل هذا العصيان؛ الزموا جماعتكم والطاعة، وإياكم والعجلة، اصبروا فكأنكم بأمير. فقالوا: فصلِّ بنا، قال: لا، إلا على السمع والطاعة لعثمان بن عفان، قالوا: على السمع والطاعة لعثمان.

وكتب عثمان بن عفان إلى الخارجين مِن أهل الكوفة كتابًا يبين فيه الحكمة مِن استجابته لطلبهم في عزل سعيد وتعيين أبي موسى بدله، وهي رسالة ذات دلالاتٍ هامة، وتبيِّن طريقة عثمان -رضي الله عنه- في مواجهة هذه الفتن، ومحاولته تأجيل اشتعالها ما استطاع، مع علمه اليقيني أنها قادمة، وأنه عاجز عن مواجهتها، فهذا ما علمه مِن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال لهم عثمان في رسالته: "أما بعد، فقد أمَّرت عليكم مَن اخترتم، وأعفيتكم مِن سعيد، والله لأفرشن لكم عرضي، ولأبذلن لكم صبري، ولأستصلحنكم بجهدي، واسألوني كل ما أحببتم مما لا يُعصى الله فيه، فسأعطيه لكم، ولا شيئًا كرهتموه لا يُعصى الله فيه إلا استعفيتم منه، أنزل فيه عند ما أحببتم حتى لا يكون لكم عليَّ حجة"، وكتب بمثل ذلك في الأمصار -رضي الله عن أمير المؤمنين عثمان-، ما أصلحه، وأوسع صدره، وكم ظلمه السبئيون والخارجون والحاقدون، وكذبوا وافتروا عليه، ثم جاءت فرق المصريين، فقالوا لعثمان: ادع بالمصحف فدعا به، فقالوا: افتح السابعة، وكانوا يسمون سورة يونس بالسابعة، فقرأ حتى أتى هذه الآية: (قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنْزَلَ اللهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) (يونس:59).

فقالوا له: قف أرأيت ما حميت مِن الحمى؟ الله أذن لكَ أم على الله تفتري؟ فقال: نزلتْ في كذا وكذا؛ فأما الحمى، فإن عمر حماه قبلي لإبل الصدقة، فلما وليتُ زادت إبل الصدقة فزدت في الحمى لما زاد مِن إبل الصدقة، ثم فجعلوا يأخذونه بالآية، فيقول: نزلتْ في كذا فما يزيدون، فأخذوا ميثاقه، وكتبوا عليه شرطـًا، وأخذ عليهم ألا يشقوا عصا، ولا يفارقوا جماعة ما أقام لهم شرطهم، ثم رجعوا راضين، وبعد هذا الصلح وعودة أهل الأمصار جميعًا راضين تبين لمشعلي الفتنة أن خطتهم قد فشلتْ، وأن أهدافهم الدنيئة لم تتحقق؛ لذا خططوا تخطيطـًا آخر يشعل الفتنة ويحييها، وزوروا كتابًا على أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه-.

ففي أثناء طريق عودة أهل مصر، رأوا راكبًا على جمل يتعرض لهم، ويفارقهم يُظهر أنه هارب منهم ، فقبضوا عليه، وقالوا له: ما لك؟ فقال: أنا رسول أمير المؤمنين إلى عامله بمصر عبد الله بن أبي السرح، ففتشوه فإذا هم بالكتاب على لسان عثمان -رضي الله عنه- وعليه خاتمه إلى عامله، ففتحوا الكتاب فإذا فيه أمر بصلبهم أو قتلهم، أو تقطيع أيديهم وأرجلهم، فرجعوا إلى المدينة حتى وصلوها، ونفى عثمان -رضي الله عنه- أن يكون كتب هذا الكتاب، وقال لهم: إنهما اثنتان: أن تقيموا رجلين مِن المسلمين أو يمين بالله الذي لا إله إلا هو ما كتبتُ ولا أمللتُ، ولا علمتُ، وقد يكتب الكتاب على لسان الرجل وينقش الخاتم، فلم يصدقوه، وقد أقسم لهم عثمان بأنه ما كتب هذا الكتاب!

- قال أبو بكر بن العربي -رحمه الله-: "وأما تعلقهم بأن الكتاب وُجد مع راكب، أو مع غلامه -ولم يقل أحدٌ قط إنه كان غلامه- إلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح يأمره بقتل حامليه، فقد قال لهم عثمان: إما أن تقيموا شاهدين على ذلك، وإلا فيميني أني ما كتبتُ ولا أمرتُ، وقد يكتب على لسان الرجل، ويضرب على خطه، وينقش على خاتمه".

- قال محب الدين الخطيب -رحمه الله- في مسألة الغلام: "وإنما قالوا إنه غلام الصدقة، أي أحد رعاة إبل الصدقة، وإبل الصدقة ألوف كثيرة لها مئات مِن الرعاة، وإن صح أنه مِن رعاة إبل الصدقة؛ فهؤلاء لكثرتهم وتبدلهم دائمًا بغيرهم لا يكاد يعرفهم رؤساؤهم فضلاً عن أن يعرفهم أمير المؤمنين وكبار عماله وأعوانه، ومع افتراض أنه مِن رعاة إبل الصدقة فما أيسر أن يستأجره هؤلاء البغاة لغرضٍ مِن أغراضهم، وكيف يكتب إلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح وقد أذن له بالمجيء إلى المدينة ويعلم أنه خرج مِن مصر، وكان المتسلط على الحكم في الفسطاط محمد بن أبي حذيفة رئيس البغاة وعميدهم في هذه الجهة، ومضمون الكتاب المزور قد اضطرب رواة أخباره في تعيين مضمونه، بل لقد ذكروا عن محمد بن أبي حذيفة ربيب عثمان الآبق مِن نعمته أنه كان في نفس ذلك الوقت موجودًا في مصر يؤلب الناس على أمير المؤمنين ويزور الكتب على لسان أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويأخذ الرواحل فيضمرها ويجعل رجالاً على ظهور البيوت في الفسطاط ووجوههم إلى وجه الشمس لتلوح وجوههم تلويح المسافر ثم يأمرهم أن يخرجوا إلى طريق الحجاز بمصر ثم يرسلوا رسلاً يخبرون عنهم الناس ليستقبلوهم، فإذا لقوهم قالوا إنهم يحملون كتبًا مِن أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- في الشكوى مِن حكم عثمان، وتُتلى هذه الكتب في جامع عمرو بالفسطاط على ملأ الناس وهي مكذوبة مزورة، وحملتها كانوا في مصر ولم يذهبوا إلى الحجاز!".

- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في منهاج السُّنة: "كل ذي علم بحال عثمان يَعلم أنه لم يكن ممن يأمر بقتل محمد بن أبي بكر، ولا أمثاله، ولا عُرف منه قط أنه قتل أحدًا مِن هذا الضرب، وقد سعوا في قتله -أي في قتل أمير المؤمنين عثمان-، ودخل عليه محمد فيمن دخل، وهو لا يأمر بقتالهم دفعًا عن نفسه؛ فكيف يبتدئ بقتل معصوم الدم" اهـ.


هذا وقد زور المجرمون كتبًا أخرى على وعائشة وطلحة والزبير -رضي الله عنهم-، وهذا الكتاب الذي زعم هؤلاء المتمردون البغاة المنحرفون أنه مِن عثمان، وعليه خاتمه إلى عامله بمصر ابن أبي السرح، يأمر فيه بقتل هؤلاء الخارجين هو كتاب مزور مكذوب على لسان عثمان -رضي الله عنه-، وبهذا نكون قد استعرضنا التهم والمطاعن والمناكير التي ذكرها الثوار المجرمون، وكانت النهاية خروج ثورة ظالمة على ذي النورين -رضي الله عنه-.

ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ

المراجع:

- البداية والنهاية لابن كثير.

- تاريخ الرسل والملوك للطبري.

- العواصم مِن القواصم لابن العربي، مع تعليقات محب الدين الخطيب.

- منهاج السُّنة لابن تيمية.

- التمهيد والبيان في مقتل الشهيد عثمان -رضي الله عنه-، لمحمد بن يحيى المالقي الأندلسي.


- موقع قصة الإسلام، الدفاع عن عثمان -رضي الله عنه-.

ابو وليد البحيرى
2020-08-12, 03:51 AM
صفحات مِن ذاكرة التاريخ (10)
أسباب اشتعال الفتنة في عهد أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه-









كتبه/ زين العابدين كامل

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فما زلنا نتأمل أحوال المعارضين الذين ثاروا على أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، وقد عرضنا جميع المآخذ والمناكير التي أخذها المجرمون الذين ثاروا على أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه-، وقد بيَّنا الرد عليها، وذكرنا أقوال العلماء في ذلك، وتبين بما لا يدع مجالاً للشك كذب مَن ادعى هذا الادعاءات على ذي النورين -رضي الله عنه-، وظهر كذلك جهلهم وعدم فهمهم للواقع فهمًا صحيحًا، وظهر كذلك حقدهم، وهذا الحقد تمثل في السبئية والمنافقين.

وإن المتأمل في تلك الثورة الفاسدة الظالمة يعلم أنها بداية الفتنة التي حدثت بيْن علي بن أبي طالب وبيْن وطلحة والزبير ومعاوية -رضي الله عنهم-، وتسببت في موقعتي الجمل وصفين، وتسببت في انتشار الفتنة كانتشار النار في الهشيم، وقُتل في تلك المعارك عشرات الآلاف مِن الصحابة والتابعين -رضي الله عنهم أجمعين-، وقُتل الخليفة الراشد علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-؛ فهذه كانت إحدى الثورات التي سجلها التاريخ، وخرج فيها مَن يسمون بالثوار وما جنى المسلمون منها إلا الضعف والفرقة والقتل والتشريد، ثم نريد أن نلقي الضوء على بعض الأسباب الأخرى التي أدت أو ساعدت في اشتعال الفتنة ومقتل عثمان -رضي الله عنه-.

تعدد الثقافات في المجتمع وموت كثير مِن جيل كبار الصحابة الكرام:

لما توسعت الدولة الإسلامية عبْر حركة الفتوحات حدث تغير في تركيبة المجتمع؛ لأن هذه الدولة بتوسعها المكاني والبشري ورثت ما على هذه الرقعة الواسعة مِن ألوان، ولغات، وثقافات، وعادات، وأفكار، وظهرت على سطح هذا النسيج ألوان مضطربة وخروقات كثيرة، ولا شك أن الصحابة كانوا يقلون رويدًا رويدًا، فمنهم مَن يموت على فراشه، ومنهم مَن يموت في أرض الجهاد، وهناك جمع غفير جدًّا منهم قد مات في طاعون عمواس، وتستقبل الأرض بدلاً عنهم أعدادًا وفيرة مِن أبناء المناطق المفتوحة "فرس، وترك، وروم، وقبط، وكرد، وبربر"، وكان أكثرهم مِن الفرس أو مِن النصارى العرب أو غيرهم؛ فنشأ أفراد مسلمون لم يتخرجوا مِن المدرسة التي تخرج منها الصحابة -رضي الله عنهم-، ولم يتلقَ هؤلاء التعليم مِن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مباشرة كالصحابة -رضي الله عنهم-.

ولم يغتنم هؤلاء وجود الصحابة -رضي الله عنهم- بينهم، ولم يحرص هؤلاء على تلقي العلوم المختلفة مِن الصحابة -رضي الله عنهم-، ومِن ثَمَّ ساعد ذلك على ظهور بعض الانحرافات الفكرية والسلوكية كنشر الشائعات مِن جهة، وتصديقها مِن جهة أخرى.

وهذا بلا شك ساعد على وقوع الفتن المتنوعة، وهذه هي خطورة العولمة التي نحياها الآن، فالصحابة كالنجوم في السماء، وهىم يقلون رويدًا رويدًا، ومِن ثَمَّ تزداد الظُلمة في المجتمع، وليس معنى هذا أن عدم وجود الجيل الأول هو السبب الرئيسي، لا، ولكن عدم التمسك بمنهج الجيل الأول هو السبب في وقوع الضعف والفرقة والاختلاف، وهذا المنهج هو محفوظ، ولم يفنَ بعد، بل هو بيْن أيدينا، وهو يتمثل في القرآن والسُّنة بفهم السلف -رضي الله عنهم-.

عدم التعامل الحسن مِن الناس تجاه رأفة عثمان -رضي الله عنه- وحلمه:

لا شك أن هناك تباينًا ملحوظـًا بيْن أسلوبي عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان -رضي الله عنهما-، في كيفية إدارة الدولة وسياسة التعامل مع الرعية؛ فبينما كان عمر قوي الشكيمة، شديد المحاسبة لنفسه, ولمن تحت يديه، كان عثمان ألين طبعًا، وأرق في المعاملة، ولم يكن يأخذ نفسه أو يأخذ الناس بما يأخذهم به عمر -رضي الله عنه- حتى قال عثمان -رضي الله عنه- نفسه: "يرحم الله عمر، ومَن يطيق ما كان عمر يطيق!"، لكن الناس وإن رغبوا في الشوط الأول مِن خلافته؛ لأنه لان معهم -وكان عمر شديدًا عليهم- حتى أصبحت محبته مضرب المثل، فكان عثمان -رضي الله عنه- يتحلى بالرأفة والرحمة واللين مع الرعية، وللأسف قابل كثير مِن الناس هذه المعاملة الطيبة بالإساءة، وهذا اللين وهذه الرأفة مِن مميزات عثمان -رضي الله عنه-، لكن بعض الناس لم يحسنوا أن يقابلوا ذلك بالإحسان والطاعة!

وقد أدرك عثمان ذلك حين قال لأقوام سجنهم: "أتدرون ما جرأكم عليَّ؟! ما جرأكم عليَّ إلا حلمي!".

وروى يحيى عن أفلح بن حميد عن أبيه قال: لما أراد عثمان -رضي الله عنه- أن يكلِّم الناس على المنبر ويشاورهم في أمر توسعة المسجد، قال له مروان بن الحكم: فداك أبي وأمي، هذا أمر خير لو فعلته ولم تذكر لهم، فقال: ويحك! إني أكره أن يروا أني أستبد عليهم بالأمور، قال مروان: فهل رأيت عمر حيث بناه وزاد فيه ذكر ذلك لهم؟ قال: اسكت، إن عمر اشتد عليهم فخافوه، حتى لو أدخلهم في جحر ضب دخلوا، وإني لنت لهم حتى أصبحت أخشاهم، قال مروان بن الحكم: فداك أبي وأمي لا يسمع هذا منك فيجترأ عليك.

وحين بدت نوايا الخارجين وقد ألزمهم عثمان الحجة في رده على المآخذ التي أخذوها عليه أمام الملأ مِن الصحابة والناس؛ أبى المسلمون إلا قتلهم، وأبى عثمان إلا تركهم لحلمه ووداعته قائلاً: بل نعفو ونقبل، ولنبصرهم بجهدها، ولا نحادّ أحدًا حتى يرتكب حدًّا أو يبدي كفرًا.

يقول محب الدين الخطيب -رحمه الله- عن هؤلاء الذين قابلوا الإحسان بالإساءة: "وفيهم مَن أصابهم مِن عثمان شيء مِن التعزير لبوادر بدرت منهم تخالِف أدب الإسلام؛ فأغضبهم التعزير الشرعي مِن عثمان -رضي الله عنه-، ولو أنهم قد نالهم مِن عمر -رضي الله عنه- أشد منه لرضوا به طائعين".

العودة إلى العصبية الجاهلية:

لقد حذر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مِن العصبية، وقال: (دَعُوهَا، فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ) (متفق عليه)، فعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي غَزَاةٍ، فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ ، رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ : يَا لَلْأَنْصَارِ، وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ : يَا لَلْمُهَاجِرِين َ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ ؟) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ ، رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: (دَعُوهَا، فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ) (متفق عليه).

وقد ظهرت هذه العصبية عند بعض الأفراد أثناء الفتنة، وساعدت هذه العصبية على اشتعال الفتنة.

إن جوهر رسالة أمة الإسلام وحدتها واجتماعها على تعظيم الخالق وعبادته -سبحانه-، يقول الله -تعالى-: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) (المؤمنون:52)، ويقول -سبحانه-: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء:92).

وقد كان مِن أول أعمال النبي -صلى الله عليه وسلم- في المدينة النبوية: تأسيس المجتمع الجديد على المؤاخاة بيْن المهاجرين والأنصار، وإرساء دعائم المحبة والإخوة والائتلاف بيْن جميع المسلمين، ونَبْذ كل ألوان العصبية الجاهلية التي تفرِّق الناس، وتثير نعرات العصبية والاختلاف؛ فآصرة الاجتماع والولاء في المجتمع الإسلامي تقوم على الإيمان بالله -تعالى-: (وَالْمُؤْمِنُو َ وَالْمُؤْمِنَات ُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) (التوبة:71).

وفي فتح مكة خطب النبي -صلى الله عليه وسلم- الناس، وأعلن للناس ركيزة تأسيس هذه الأمة، فقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ وَتَعَاظُمَهَا بِآبَائِهَا، فَالنَّاسُ رَجُلَانِ: بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ، وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ، وَخَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ)، قال الله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13) (رواه الترمذي، وصححه الألباني). العُبِّيَّةَ: الكبر والفخر.

فلا بد مِن إحياء عوامل الوحدة في الأمة، وجمع الصفوف على كلمة التوحيد الجامعة؛ امتثالاً لقول الحق -تبارك وتعالى-: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (الأنعام:153)، وهذا هو اللواء الذي رفعه الإسلام لينقذ البشرية مِن العصبية للجنس، والعصبية للأرض، والعصبية للقبيلة، وكلها مِن الجاهلية، وقد حارب الإسلام هذه العصبية الجاهلية في كل صورها وأشكالها، ليقيم نظامه الإنساني العالمي في ظل راية واحدة، راية الله وحده لا سواه.

وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أَنْتُمْ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ، لَيَدَعَنَّ رِجَالٌ فَخْرَهُمْ بِأَقْوَامٍ، إِنَّمَا هُمْ فَحْمٌ مِنْ فَحْمِ جَهَنَّمَ، أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الْجِعْلَانِ الَّتِي تَدْفَعُ بِأَنْفِهَا النَّتِنَ) (رواه أحمد وأبو داود، وحسنه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم- عن العصبية الجاهلية: (دَعُوهَا، فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ) (متفق عليه).

ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ

المراجع:

- البداية والنهاية لابن كثير.

- تاريخ الرسل والملوك للطبري.

- العواصم مِن القواصم لابن العربي، مع تعليقات محب الدين الخطيب.

- منهاج السُّنة لابن تيمية.

- التمهيد والبيان في مقتل الشهيد عثمان -رضي الله عنه-، لمحمد بن يحيى المالقي الأندلسي.

- موقع قصة الإسلام، الدفاع عن عثمان -رضي الله عنه-.

ابو وليد البحيرى
2020-09-20, 11:14 AM
صفحات مِن ذاكرة التاريخ (11)
أسباب اشتعال الفتنة في عهد أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه-
زين العابدين كامل


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فما زلنا نلقي الضوء على بعض الأسباب التي ساعدت في اشتعال الفتنة ومقتل عثمان -رضي الله عنه-.

ومِن هذه الأسباب:

تآمر الحاقدين ودور عبد الله بن سبأ في إشعال الفتنة:

لقد دخل في الإسلام منافقون يجمعون الحقد والدهاء والمكر في أشخاصهم، ووجدوا مَن يستمع إليهم بآذان صاغية؛ هذا بالإضافة إلى مكر اليهود والنصارى وحقدهم على الإسلام، فاستغل أولئك الحاقدون مِن يهود ونصارى وفرس، وأصحاب الجرائم الذين أٌقيم عليهم الحدود الشرعية، مجموعاتٍ مِن الناس كان معظمهم مِن الأعراب، ممن لا يفقهون هذا الدين على حقيقته؛ فتكونت لهؤلاء جميعًا طائفة وُصفت مِن جميع مَن قابلهم بأنهم أصحاب شر؛ فقد وصفوا بالغوغاء مِن أهل الأمصار، ونُزَّاع القبائل، وأنهم حثالة الناس ومتفقون على الشر(1)، وسفهاء عديمو الفقه, وأراذل مِن أوباش القبائل(2)؛ فهم أهل جفاء وهمج، ورعاع مِن غوغاء القبائل، وسفلة الأطراف الأراذل، وأنهم آلة الشيطان!(3).


وكان "ابن سبأ" أول مَن أحدث القول برجعة علي -رضي الله عنه- إلى الدنيا بعد موته، وبرجعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأول مكان أظهر فيه ابن سبأ مقالته هذه "مصر"، فكان يقول: العجب ممن يزعم أن عيسى يرجع، ويكذب برجوع محمدٍ، وقال الله -عز وجل-: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ) (القصص:85)، فمحمد أحق بالرجوع مِن عيسى، فقُبل ذلك منه، ووضع لهم الرجعة فتكلموا فيها(4)، وهو أول مَن قال بوصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعلي، وأنه خليفته على أمته مِن بعده بالنص، وأول مَن أظهر البراءة مِن أعداء علي -رضي الله عنه-، وادعى ابن سبأ اليهودي أن عليًّا -رضي الله عنه- هو دابة الأرض، وأنه هو الذي خلق الخلق وبسط الرزق(5)، وقد برز دور عبد الله بن سبأ في السنوات الأخيرة مِن خلافة عثمان -رضي الله عنه- حيث بدت في الأفق سمات الاضطراب في المجتمع الإسلامي(6)، وغاية ما جاء به ابن سبأ آراء ومعتقدات ادعاها واخترعها مِن قِبَل نفسه، وافتعلها مِن يهوديته الحاقدة، وجعل يروجها وينشرها في المجتمع لغاية ينشدها؛ وهو الدس في المجتمع الإسلامي؛ بغية النيل مِن وحدته، وإذكاء نار الفتنة، وغرس بذور الشقاق بيْن أفراده.

فكانت هذه الأفكار مِن أهم العوامل التي أدت إلى قتل أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه-، وتفرُّق الأمة شيعًا وأحزابًا، وبعد أن استقر الأمر في نفوس أتباعه انتقل إلى هدفه، وهو خروج الناس على الخليفة عثمان -رضي الله عنه-، فصادف ذلك هوى في نفوس بعض القوم حيث قال لهم: مَن أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ووثب على وصيِّ رسول -صلى الله عليه وسلم-، وتناول أمر الأمة؟!

ثم قال لهم بعد ذلك: إن عثمان أخذها بغير حق، وهذا وصي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فانهضوا في هذا الأمر فحركوه، وابدأوا بالطعن على أمرائكم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس، وادعوهم إلى هذا الأمر(7).

إن المشاهير مِن المؤرخين والعلماء مِن سلف الأمة وخَلَفِهَا يتفقون على أن ابن سبأ ظهر بيْن المسلمين بعقائد وأفكار، وخطط سبئية؛ ليلفت المسلمين عن دينهم وطاعة إمامهم، ويوقع بينهم الفُرْقة والخلاف، فاجتمع إليه مِن غوغاء الناس ما تكونت به بعد ذلك الطائفة السبئية المعروفة, التي كانت عاملاً مِن عوامل الفتنة في المجتمع المسلم(8).

وهنا تظهر خطورة النفاق وخطورة المنافقين في المجتمع؛ لذا كان النفاق أخطر مِن الكفر وعقوبته أشد؛ لأنه كفر بلباس الإسلام وضرره أعظم؛ ولذلك جعل الله المنافقين في أسفل النار كما قال -سبحانه-: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا) (النساء:145).

أهل النفاق دائمًا في خداع ومكر؛ ظاهرهم مع المؤمنين، وباطنهم مع الكافرين: (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا) (النساء:143).

والمنافقون لفساد قلوبهم أشد الناس إعراضًا عن دين الله كما أخبر الله عنهم بقوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا) (النساء:61).

وتصرفات المنافقين تدور مع مصالحهم؛ فإذا لقوا المؤمنين أظهروا الإيمان، وإذا لقوا سادتهم وكبراءهم قالوا نحن معكم على ما أنتم عليه مِن الشرك والكفر، كما قال -سبحانه- عنهم: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ . اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (البقرة:14-15).

ومِن صفاتهم: العداوة والحسد للمؤمنين، كما قال -سبحانه-: (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ) (التوبة:50).

ومِن صفاتهم: الفساد في الأرض بالكفر والنفاق والمعاصي، قال الله -تعالى-: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ . أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ) (البقرة:11-12).

ومِن صفاتهم: البهتان والكذب كما أخبر الله عنهم بقوله: (وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ) (المائدة:56).

ومِن صفاتهم: الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف والبخل بالمال كما أخبر الله عنهم بقوله: (الْمُنَافِقُون وَالْمُنَافِقَا تُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (التوبة:67).

ومِن صفاتهم: الطمع والجشع: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ) (التوبة:58).

ومِن صفاتهم: ما بيَّنه الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقوله: (أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَلَّةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَلَّةٌ مِنْ نِفَاقٍ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ) (متفق عليه).

وحيث إن خطر الكفار والمنافقين على الأمة الإسلامية عظيم؛ لذا أمر الله رسوله بجهادهم، فقال: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِي نَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (التوبة:73). (وها هو القرآن الكريم يبيِّن لنا خطر المنافقين على المجتمع "حتى وإن كانوا قلة"؛ قال الله -تعالى-: (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) (التوبة:47).

أي لو خرج فيكم هؤلاء المنافقون (مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا) أي: إلا فسادًا وشرًّا وضرًّا؛ لأنهم جبناء مخذولون، ولسعوا في الفتنة والشر بينكم، وفرقوا جماعتكم المجتمعين. (وَفِيكُمْ) أناس ضعفاء العقول (سَمَّاعُونَ لَهُمْ) أي: مستجيبون لدعوتهم يغترون بهم؛ ولذلك ثبَّطتُهم عن الخروج معكم.

والسؤال الذي يطرح نفسه: هل كان عدد المنافقين كبيرًا لهذا الحد؟!

هل كان عددهم كافيًا لنشر الشر والفساد والفتن بيْن المؤمنين؟

والجواب:

ليس الأمر بكثرة العدد أو قلته؛ فلقد خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى تبوك، وخرج معه ثلاثون ألف مقاتل، وعدد المنافقين الذين تخلفوا عنه كانوا بضعة وثمانين رجلاً، فسبحان الله! هذا العدد القليل جدًّا بالنسبة لتعداد الجيش، كان سينشر الشر والفساد، ويوقع الفتن بيْن المؤمنين الخلص مع كثرة عددهم؛ ولذلك أنزل الله في صدر سورة البقرة أربع آيات في المؤمنين الخلص، وأنزل في الكفار الخلص آيتين، وأنزل بالفريق الثالث المنافقين بضع عشرة آية.

فاللهم احفظ البلاد والعباد مِن المنافقين وشرهم، يا أرحم الراحمين.

ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــ

(1) ابن سعد، الطبقات (ج3 ص71).

(2) شذرات الذهب في أخبار مَن ذهب لابن العماد.

(3) تاريخ الرسل والملوك للطبري (ج5 ص327). (قلتُ: وقد تردد في المصادر اسم عبد الله بن سبأ الصنعاني اليهودي ضمن هؤلاء الموتورين الحاقدين، وأنه كان مِن اليهود ثم أسلم، ولم ينقب أحد عن نواياه فتنقل بيْن البلدان الإسلامية باعتباره أحد أفراد المسلمين. قال ابن تيمية -رحمه الله-: "إن مبدأ الرفض إنما كان مِن الزنديق عبد الله بن سبأ", ويقول الذهبي: "عبد الله بن سبأ مِن غلاة الزنادقة، ضال مضل، ادعى الإلهية في علي بن أبي طالب، وقد أحرقهم علي بالنار في خلافته".

(4) سعدي بن مهدي الهاشمي، ابن سبأ حقيقة لا خيال، الناشر: الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، طبعة عام 1400هـ - 1981م، ص 151.

(5) سعديا بن مهدي الهاشمي: ابن سبأ حقيقة لا خيال، ص156.


(6) تاريخ دمشق لابن عساكر.

(7) تاريخ الرسل والملوك للطبري (ج5 ص 347).

(8) "تيسير الكريم المنان في سيرة عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، ص338".

ابو وليد البحيرى
2020-09-29, 04:30 PM
صفحات مِن ذاكرة التاريخ (12)
استشهاد أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه-

زين العابدين كامل


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

ثوار الأمصار يتحركون مِن مراكزهم لمهاجمة عثمان -رضي الله عنه-:

توجَّه معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- إلى عثمان -رضي الله عنه-، وعَرَض عليه أن يَذهب معه إلى بلاد الشام، وقال له: يا أمير المؤمنين, انطلق معي إلى الشام، قبْل أن يتكالب عليك هؤلاء، ويحدث ما لا قِبَل لكَ به.


قال عثمان: أنا لا أبيع جوار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشيءٍ، ولو كان فيه قطع خيط عنقي.

قال له معاوية: إذن أبعث لك جيشًا مِن أهل الشام يقيم في المدينة؛ ليدافع عنك وعن أهل المدينة.

قال عثمان: لا؛ حتى لا أٌضيِّق على جيران وأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأرزاق بجند تساكنهم في المدينة.

واتفق أهل الفتنة على مهاجمة عثمان في المدينة، وحمله على التنازل عن الخلافة؛ وإلا يُقتل، وقرروا أن يأتوا مِن مراكزهم الثلاثة: "مصر - والكوفة - والبصرة" في موسم الحج، وأن يغادروا بلادهم مع الحجاج، وأن يكونوا في صورة الحجاج؛ فإذا وصلوا المدينة، تركوا الحجاج يذهبون إلى مكة لأداء مناسك الحج، واستغلوا فراغ المدينة مِن معظم أهلها الذين ذهبوا لأداء فريضة الحج، وقاموا بمحاصرة عثمان -رضي الله عنه- تمهيدًا لخلعه أو قتله(1)، وفي شوال سنة خمس وثلاثين كان أهل الفتنة على مشارف المدينة(2), بعد أن خرجوا مِن مصر في أربع طوائف، لكل طائفة أمير، ولهؤلاء الأمراء أمير ومعهم عبد الله بن سبأ، وكان عدد الطوائف الأربعة ألف رجل.

وخرجت فرقة أخرى مِن الكوفة في ألف رجل، في أربع طوائف أيضًا، وخرجت فرقة أخرى مِن البصرة في ألف رجل، في أربع طوائف أيضًا(3)، وكان أهل الفتنة مِن مصر يريدون علي بن أبي طالب خليفة، وكان أهل الفتنة مِن الكوفة يريدون الزبير بن العوام خليفة، وكان أهل الفتنة مِن البصرة يريدون طلحة بن عبيد الله(4)، وهذا العمل منهم كان بهدف الإيقاع بيْن الصحابة -رضوان الله عليهم-.

وبلغ خبر قدومهم عثمان -رضي الله عنه- قبْل وصولهم، وكان في قرية خارج المدينة، فلما سمعوا بوجوده فيها، اتجهوا إليه فاستقبلهم فيها، وكان أول مَن وصل فريق المصريين، فقالوا لعثمان: ادع بالمصحف فدعا به، فقالوا: افتح السابعة، وكانوا يسمون سورة يونس بالسابعة، فقرأ حتى أتى هذه الآية: (قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنْزَلَ اللهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) (يونس:59)، فقالوا له: قف أرأيت ما حميت مِن الحمى؛ الله أذن لك أم على الله تفتري؟! فقال: نزلتْ في كذا وكذا؛ فأما الحمى فإن عمر حماه قبلي لإبل الصدقة، فلما وليتُ زادت إبل الصدقة؛ فزدتُ في الحمى لما زاد مِن إبل الصدقة، فجعلوا يأخذونه بالآية، فيقول نزلتْ في كذا فما يزيدون.

وتم الصلح بينهم وبين عثمان -رضي الله عنه- على شروط تم الاتفاق عليها بينهم وبينه، وكتبوا بذلك كتابًا، وأخذ عليهم ألا يشقوا عصا، ولا يفارقوا جماعة ما أقام لهم شرطهم، ثم رجعوا راضين، وقد حضر هذا الصلح علي بن أبى طالب -رضي الله عنه-(5).

وبعد هذا الصلح وعودة أهل الأمصار جميعًا راضين تبيَّن لمشعلي الفتنة أن خطتهم قد فشلتْ، وأن أهدافهم الدنيئة لم تتحقق؛ لذا خططوا تخطيطًا آخر يشعل الفتنة ويحييها، وزوروا كتابًا على أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه-، ففي أثناء طريق عودة أهل مصر، رأوا راكبًا على جمل يتعرض لهم، ويفارقهم يُظهر أنه هارب منهم، فقبضوا عليه، وقالوا له: ما لك؟ فقال: أنا رسول أمير المؤمنين إلى عامله بمصر، ففتشوه فإذا هم بالكتاب على لسان عثمان -رضي الله عنه- وعليه خاتمه إلى عامله، ففتحوا الكتاب فإذا فيه أمر بصلبهم أو قتلهم، أو تقطيع أيديهم وأرجلهم، فرجعوا إلى المدينة حتى وصلوها، ونفى عثمان -رضي الله عنه- أن يكون كتب هذا الكتاب(6)، وقال لهم: إنهما اثنتان: أن تقيموا رجلين مِن المسلمين أو يمين بالله الذي لا إله إلا هو ما كتبتُ ولا أمليتُ، ولا علمتُ، وقد يكتب الكتاب على لسان الرجل وينقش الخاتم، فلم يصدقوه، وقد أقسم لهم عثمان بأنه ما كتب هذا الكتاب(7).

وقد زور المجرمون كتبًا أخرى على علي، وعائشة، وطلحة، والزبير -رضي الله عنهم-؛ فهذا الكتاب الذي زعم هؤلاء المتمردون البغاة المنحرفون أنه مِن عثمان، وعليه خاتمه يحمله غلامه على واحدٍ مِن إبل الصدقة إلى عامله بمصر -ابن أبي السرح-، يأمر فيه بقتل هؤلاء الخارجين - هو كتاب مزور مكذوب على لسان عثمان -رضي الله عنه-(8).

ثم تمتْ عملية الحصار لعثمان -رضي الله عنه-، وبعد أن تم الحصار، وأحاط الخارجون على عثمان -رضي الله عنه- بالدار طلبوا منه خلع نفسه أو يقتلوه؛ فرفض عثمان -رضي الله عنه- خلع نفسه، وقال: لا أخلع سربالاً سربلنيه الله(9)، يشير إلى ما أوصاه به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بينما كان قلة مِن الصحابة -رضوان الله عليهم- يرون خلاف ما ذهب إليه, وأشار عليه بعضهم بأن يخلع نفسه ليعصم دمه، ومِن هؤلاء المغيرة بن الأخنس -رضي الله عنه-، لكنه رفض ذلك.

ودخل ابن عمر على عثمان -رضي الله عنهما- أثناء حصاره، فقال له عثمان -رضي الله عنه-: انظر إلى ما يقول هؤلاء، يقولون: اخلعها ولا تقتل نفسك، فقال ابن عمر -رضي الله عنهما-: إذا خلعتها: أمخلد أنت في الدنيا؟ فقال عثمان -رضي الله عنه-: لا. قال: فإن لم تخلعها: هل يزيدون على أن يقتلوك؟ قال عثمان -رضي الله عنه- لا. قال: فهل يملكون لك جنة أو نارًا؟ قال لا. قال: فلا أرى لك أن تخلع قميصًا قمَّصكه الله؛ فتكون سُنة كلما كرِه قوم خليفتهم أو إمامهم قتلوه!(10).

وبينما كان عثمان -رضي الله عنه- في داره، والقوم أمام الدار محاصروها دخل ذات يوم مدخل الدار، فسمع توعد المحاصرين له بالقتل، فخرج مِن المدخل، ودخل على مَن معه في الدار ولونه ممتقع -ممتقع الوجه: متغيرٌ لونُه مِن حزن أو فزع-، كما في حديث أبي أمامة بن سهل بن حنيف، فقال: إِنَّهُمْ لَيَتَوَاعَدُون َنِي بِالْقَتْلِ آنِفًا، قَالَ: قُلْنَا: يَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: وَلِمَ يَقْتُلُونَنِي؟ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: (لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: كُفْرٌ بَعْدَ إِسْلَامٍ، أَوْ زِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ، أَوْ قَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ)، "فَوَاللَّهِ مَا زَنَيْتُ فِي جَاهِلِيَّةٍ، وَلَا فِي إِسْلَامٍ قَطُّ، وَلَا أَحْبَبْتُ أَنَّ لِي بِدِينِي بَدَلًا مُنْذُ هَدَانِي اللَّهُ، وَلَا قَتَلْتُ نَفْسًا، فَبِمَ يَقْتُلُونَنِي؟" (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني).

ثم أشرف على المحاصرين وحاول تهدئة ثورتهم عن خروجهم على إمامهم.

وللحديث بقية -إن شاء الله تعالى-.

ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــ

(1) تيسير الكريم المنان في سيرة عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، ص 370، نقلاً عن "الخلفاء الراشدون" للخالدي، ص159.

(2) محمد الخضر بك، إتمام الوفاء في سيرة الخلفاء، طبعة المكتبة التجارية الكبرى، ص183.

(3) علاء الدين مغلطاوي بن قلنج بن عبد الله البكجري الحنفي، المتوفَّى (762هـ)، مختصر تاريخ الخلفاء، الناشر دار الفجر، طبعة عام 2001م، ص 69.

(4) الطبري، تاريخ الرسل والملوك (5/357).

(5) محمد بن عبد الله بن عبد القادر غبان الصبحي، فتنة مقتل عثمان بن عفان -رضي الله عنه- (1/160).

(6) وكيف يكتب إلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وقد أذِن له بالمجيء إلى المدينة، ويعلم أنه خرج مِن مصر، وكان المتسلط على الحكم في الفسطاط محمد بن أبي حذيفة رئيس البغاة وعميدهم في هذه الجهة، ومضمون الكِتاب المزور قد اضطرب رواة أخباره في تعيين مضمونه، انظر: محب الدين الخطيب، العواصم من القواصم ص 110.

(7) ابن كثير، البداية والنهاية (7/ 191). وانظر: محمد غبان، المرجع السابق، ص161.

(8) ابن حبان، محمد بن حبان بن أحمد بن حبان بن معاذ بن مَعْبدَ التميمي، أبو حاتم، الدارمي، البُستي (المتوفى: 354هـ) السيرة النبوية وأخبار الخلفاء، صحّحه وعلق عليه الحافظ السيد عزيز بك، الناشر: الكتب الثقافية بيروت، الطبعة الثالثة 1417هـ - 1995م، (2/515).


(9) محمد يحيى الأندلسي، التمهيد والبيان في مقتل الشهيد عثمان، ص47.

(10) أبو القاسم التيمى: إسماعيل بن محمد بن الفضل بن على التيمي، توفي (535)، الخلفاء الأربعة أيامهم وسيرتهم، حققه: كرم حلمي فرحات أبو صيري، الناشر: مطبعة دار الكتب المصرية عام 1999، ص 171.

ابو وليد البحيرى
2020-10-20, 11:14 AM
صفحات مِن ذاكرة التاريخ (13)
استشهاد أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه-

زين العابدين كامل


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فنستعرض في هذا المقال موقف الصحابة -رضي الله عنهم- مِن أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه- أثناء الحصار، بعد أن استعرضنا في المقال السابق تحركات المجرمين لمهاجمة عثمان -رضي الله عنه-.

موقف الصحابة -رضي الله عنهم- تجاه أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه-:

لما رأى عثمان -رضي الله عنه- إصرار المتمردين على قتله حذرهم مِن ذلك، ومِن مغبته؛ فاطلع عليهم مِن كوة، وقال لهم: أيها الناس، لا تقتلوني واستعتبوني، فوالله لئن قتلتموني لا تقاتلوا جميعا أبدًا، ولا تجاهدوًا عدوًّا أبدًا، لتختلفن حتى تصيروا هكذا، وشبَّك بيْن أصابعه.

وفي رواية أنه قال: أيها الناس، لا تقتلوني، فإني والٍ وأخ مسلم، فوالله إن أردتُ إلا الإصلاح ما استطعت، أصبتُ أو أخطأت، وإنكم إن تقتلوني لا تصلوا جميعًا أبدًا، ولا تغزوا جميعًا أبدًا، ولا يقسم فيئكم بينكم.

وأرسل عثمان -رضي الله عنه- إلى الصحابة -رضي الله عنهم- يشاورهم في أمر المحاصرين وتوعدهم إياه بالقتل، فجاء علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- فقال: إن معي خمسمائة دارع، فأذن لي فأمنعك مِن القوم، فإنك لم تحدث شيئًا يُستحل به دمك، فقال: جُزيت خيرًا، ما أحب أن يهراق دم بسببي(1).

وعن أبي حبيبة(2)، قال: بعثني الزبير بن العوام إلى عثمان وهو محاصَر فدخلتُ عليه في يوم صائف وهو على كرسي، وعنده الحسن بن علي، وأبو هريرة، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، فقلتُ: بعثني إليك الزبير بن العوام، وهو يقرؤك السلام ويقول لك: إني على طاعتي لم أبدِّل ولم أنكث، فإن شئتَ دخلتُ الدار معك، وكنتُ رجلاً مِن القوم، وإن شئت أقمت، فإن بني عمرو بن عوف وعدوني أن يصبحوا على بابي، ثم يمضون على ما آمرهم به، فلما سمع يعني عثمان الرسالة قال: الله أكبر، الحمد لله الذي عصم أخي، أقرئه السلام، ثم قل له: مكانك أحبّ إليَّ، وعسى الله أن يدفع بك عني، فلما قرأ الرسالة أبو هريرة قام فقال: ألا أخبركم ما سمعتُ أذناي مِن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قالوا: بلى، قال: أشهد لسمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "تكون بعدي فتن وأمور"، فقلنا: فأين المنجى منها يا رسول الله؟ قال: "إلى الأمين وحزبه"، وأشار إلى عثمان بن عفان، فقام الناس فقالوا: قد أمكنتنا البصائر، فأذن لنا في الجهاد؟ فقال: "أعزم على مَن كانت لي عليه طاعة ألا يقاتل"(3).

ودخل عليه وهو محاصَر المغيرة بن شعبة، فقال: إنك إمام العامة، وقد نزل بك ما ترى، وإني أعرض عليك خصالاً ثلاثة، اختر إحداهن: إما أن تخرج فتقاتلهم، فإن معك عددًا وقوة، وأنتَ على الحق وهم على الباطل، وإما أن تخرق بابًا سوى الباب الذي هم عليه، فتقعد على رواحلك فتلحق بمكة، فإنهم لن يستحلوك بها، وإما أن تلحق بالشام فإنهم أهل الشام وفيهم معاوية، فقال عثمان: أما أن أخرج فأقاتل فلن أكون أول مَن خلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أمته بسفك الدماء، وأما أن أخرج إلى مكة فإنهم لن يستحلوني, فإني سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يلحد رجل مِن قريش بمكة يكون عليه نصف عذاب العالم"، ولن أكون أنا، وأما أن ألحق بالشام فإنهم أهل الشام وفيهم معاوية؛ فلن أفارق دار هجرتي ومجاورة الرسول -صلى الله عليه وسلم-(4). وعزم الصحابة -رضي الله عنهم- على الدفاع عن عثمان، ودخل بعضهم الدار، ولكن عثمان -رضي الله عنه- عزم عليهم بشدةٍ، وشدد عليهم في الكف عن القتال دفاعًا عنه(5).

وقد حثَّ كعب بن مالك -رضي الله عنه- الأنصار على نصرة عثمان -رضي الله عنه- وقال لهم: يا معشر الأنصار، كونوا أنصار الله مرتين، فجاءت الأنصار عثمان ووقفوا ببابه، ودخل زيد بن ثابت -رضي الله عنه- وقال له: هؤلاء الأنصار بالباب، إن شئتَ كنا أنصار الله مرتين(6)، فرفض القتال وقال: لا حاجة لي في ذلك، كفوا(7).

وجاء الحسن بن علي -رضي الله عنهما-، وقال له: أخترط سيفي؟ قال: لا، أبرأ إلى الله إذن مِنْ دمك، ولكن ثم(8) سيفك، وارجع إلى أبيك، وجاء أبو هريرة -رضي الله عنه- ودخل الدار على عثمان وأراد الدفاع عنه، فقال له عثمان،: يا أبا هريرة، أيسرك أن تقتل الناس جميعًا وإياي؟ قال: لا، قال، فإنك والله إن قتلتَ رجلاً واحدًا؛ فكأنما قُتِل الناس جميعًا، فرجع ولم يقاتِل(9).

ولما رأى بعض الصحابة إصرار عثمان -رضي الله عنه- على رفض قتال المحاصرين، وأن المحاصرين مصرون على قتله، لم يجدوا حيلة لحمايته سوى أن يعرضوا عليه مساعدته في الخروج إلى مكة هربًا مِن المحاصرين، فقد روى أن عبد الله بن الزبير، والمغيرة بن شعبة، وأسامة بن زيد، عرضوا عليه ذلك، وكان عرضهم متفرقًا، فقد عرض كل واحد منهم عليه ذلك على حدة، وعثمان -رضي الله عنه- يرفض كل هذه العروض(10).

موقف أمهات المؤمنين:

وكان موقف أم المؤمنين أم حبيبة بنت أبي سفيان -رضي الله عنهما- مِن المواقف البالغة الخطر في هذه الأحداث، لما حوصر عثمان -رضي الله عنه- ومٌنع عنه الماء، سرَّح عثمان ابنًا لعمرو بن حزم الأنصاري مِن جيران عثمان إلى علي بأنهم قد منعونا الماء، فإن قدرتم أن ترسلوا إلينا شيئًا مِن الماء فافعلوا، وإلى طلحة وإلى الزبير وإلى عائشة وأزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-، فكان أولهم إنجادًا له علي وأم حبيبة وكانت أم حبيبة معنية بعثمان، كما قال ابن عساكر، وكان هذا طبيعيًّا منها؛ حيث النسب الأموي الواحد، جاءت أم حبيبة، فضربوا وجه بغلتها، فقالت: إن وصايا بني أمية إلى هذا الرجل، فأحببت أن ألقاه فأسأله عن ذلك كيلا تهلك أموال أيتام وأرامل، قالوا: كاذبة، وأهووا لها وقطعوا حبل البغلة بالسيف فندت(11) بأم حبيبة فتلقاها الناس وقد مالت راحلتها، فتعلقوا بها، وأخذوها وقد كادت تقتل، فذهبوا بها إلى بيتها، ويبدو أنها -رضي الله عنها- أمرت ابن الجراح مولاها أن يلزم عثمان -رضي الله عنه-، فقد حدثت أحداث الدار، وكان ابن الجراح حاضرًا(12).

وما فعلته السيدة أم حبيبة -رضي الله عنها- فعلت مثله السيدة صفية -رضي الله عنها-؛ فلقد روي عن كنانة(13) قال: كنتُ أقود بصفية لتردَّ عن عثمان، فلقيها الأشتر(14)، فضرب وجه بغلتها حتى مالت، فقالت: ذروني لا يفضحني هذا، ثم وضعت خشبًا مِن منزلها إلى منزل عثمان تنقل عليه الطعام والماء(15).

وخرجت عائشة -رضي الله عنها- مِن المدينة وهي ممتلئة غيظـًا على المتمردين، وجاءها مروان بن الحكم، فقال: أم المؤمنين، لو أقمتِ كان أجدر أن يراقبوا هذا الرجل، فقالت: أتريد أن يصنع بي كما صنع بأم حبيبة، ثم لا أجد مَن يمنعني، لا والله لا أُعَيَّر(16), ولا أدري إلام يسلم أمر هؤلاء(17)، ورأت -رضي الله عنها- أن خروجها ربما كان مُعينًا في فض هذه الجموع، وتجهزت أمهات المؤمنين إلى الحج هربًا مِن الفتنة، وكانت هذه محاولة منهن لتخليص عثمان -رضي الله عنه- مِن أيدي هؤلاء المفتونين، الذين كان منهم محمد بن أبي بكر(18) أخو السيدة عائشة -رضي الله عنها-، الذي حاولت أن تستتبعه معها إلى الحج؛ فأبى، وهذا هو ما أكَّد عليه الإمام ابن العربي -رحمه الله- حيث قال: "تغيُّب أمهات المؤمنين مع عددٍ مِن الصحابة كان قطعًا للشغب بيْن الناس رجاء أن يرجع الناس إلى أمهاتهم، وأمهات المؤمنين؛ فيرعوا حرمة نبيهم"(19).

وللحديث بقية -بمشيئة الله تعالى-.

ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـ

(1) تاريخ دمشق لابن عساكر (39/395).


(2) هو أبو حبيبة مولى الزبير بن العوام، روى عن الزبير، وسمع أبا هريرة وعثمان محصور.

(3) ابن حنبل: أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني (المتوفى:241هـ)، فضائل الصحابة، المحقق: د.وصي الله محمد عباس، الناشر: مؤسسة الرسالة - بيروت، الطبعة: الأولى: 1403-1983، عدد الأجزاء: (1/ 511، 512).

(4) البداية والنهاية لابن كثير (7/211)، والحديث أخرجه أحمد في مسنده، وصححه الألباني، وضعفه شعيب الأرنؤوط (7/229)، وقال بضعفه أيضًا أحمد شاكر.

(5) أحمد معمور العسيري، موجز التاريخ الإسلامي، طبعة 1417هـ، 1996م، ص126.


(6) ابن سعد، الطبقات (3/70).


(7) محمد غبان، فتنة مقتل عثمان بن عفان -رضي الله عنه- (1/162).

(8) الثم هو: إصلاح الشيء وإحكامه، ويحتمل أن تكون مصحفة مِن شم، والشم هو: إعادة السيف إلى غمده، لسان العرب (12/ 79).

(9) حسين فؤاد طلبة مِن أخلاق الخلفاء الراشدين، الناشر: المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة، عام 1977 ص75.

(10) محمد غبان، فتنة مقتل عثمان (1/ 166).

(11) ند البعير ونحوه ندًّا، وندودًا: نفر وشرد. انظر لسان العرب لابن منظور (3/419).

(12) ابن شبة: عمر بن شبة (واسمه زيد) بن عبيدة بن ريطة النميري البصري، أبو زيد (المتوفى: 262هـ)، تاريخ المدينة، طبعة: 1399هـ، 1977م (4/ 1311).

(13) كنانة بن عدي بن ربيعة بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف العبشمي، انظر: البلاذري، أنساب الأشراف (9/380).

(14) الأشتر النخعي، واسمه مالك بن الحارث، انظر الذهبي: سير أعلام النبلاء (4/ 34)، وتهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني( 10/ 11).

(15) الذهبي: شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي (المتوفى: 748هـ)، سير أعلام النبلاء، الناشر: دار الحديث - القاهرة، الطبعة: 1427هـ - 2006م (3/ 488).

(16) أُعَيَّر: مِن العار، وقد يبدي هذا التعبير أن الحالة التي وضع فيها الغوغاء السيدة أم حبيبة -رضي الله عنها- كانت شديدة الإيلام، انظر المعجم الوسيط (2/ 240).

(17) الطبري، تاريخ الرسل والملوك (5/ 401).

(18) وقد نزَّه الله -تعالى- أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يكون أحدٌ منهم مشاركًا في قتل عثمان -رضي الله عنه-، بل لم يكن أحدٌ مِن أبناء الصحابة مشاركًا، ولا معينًا لأولئك الخوارج المعتدين، وكل ما ورد في مشاركة أحدٍ مِن الصحابة -كعبد الرحمن بن عديس، وعمرو بن الحمِق- فمما لم يصح إسناده.

وقال النووي -رحمه الله-: "ولم يشارك في قتله أحدٌ مِن الصحابة" انتهى مِن "شرح مسلم"، وقال الأستاذ محمد بن عبد الله غبان الصبحي -حفظه الله-: "إنه لم يشترك في التحريض على عثمان -رضي الله عنه-؛ فضلاً عن قتله، أحدٌ مِن الصحابة -رضي الله عنهم-، وإن كل ما رُوي في ذلك ضعيف الإسناد" اهـ. وأما محمد بن أبي بكر: فليس هو مِن الصحابة أصلاً، ثم إنه لم يصح اشتراكه في قتل عثمان، ولا في التحريض عليه، وقد أثبت بعض العلماء روايات تبين تراجعه عن المشاركة في قتل عثمان.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "ليس له صحبة ولا سابقة ولا فضيلة، فهو ليس مِن الصحابة؛ لا مِن المهاجرين ولا الأنصار... وليس هو معدودًا مِن أعيان العلماء والصالحين الذين في طبقته" ثم قال: "وأما محمد بن أبي بكر؛ فليس له ذكر في الكتب المعتمدة في الحديث والفقه" (انتهى مِن منهاج السنة النبوية (4 / 375 - 377).

وقال ابن كثير -رحمه الله-: "ويُروى أن محمد بن أبي بكر طعنه بمشاقص في أذنه حتى دخلت في حلقه! والصحيح: أن الذي فعل ذلك غيره، وأنه استحى ورجع حين قال له عثمان: لقد أخذت بلحية كان أبوك يكرمها! فتذمم مِن ذلك، وغطى وجهه ورجع، وحاجز دونه، فلم يُفِد، وكان أمر الله قدرًا مقدورًا، وكان ذلك في الكتاب مسطورًا" (انتهى مِن البداية والنهاية 7/ 207).


وقال الأستاذ محمد بن عبد الله غبان الصبحي -حفظه الله-: "محمد بن أبي بكر لم يشترك في التحريض على قتل عثمان -رضي الله عنه-، ولا في قتله، وكل ما روي في اتهامه بذلك؛ باطل، لا صحة له".

(19) العواصم مِن القواصم لابن العربي (ص 156).

ابو وليد البحيرى
2020-12-09, 07:54 PM
صفحات مِن ذاكرة التاريخ (14)
استشهاد أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه-






زين العابدين كامل


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

ففي هذا المقال نستكمل أحداث يوم الدار بعد أن استعرضنا في المقال السابق موقف الصحابة -رضي الله عنهم- تجاه أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه- خلال الأحداث.

يوم الدار واستشهاد عثمان -رضي الله عنه-:

استدعى عثمان عبد الله بن عباس -رضي الله عنهم-، وكلفه أن يحج بالناس هذا الموسم، فقال له ابن عباس: دعني أكن معك وبجانبك يا أمير المؤمنين في مواجهة هؤلاء، فوالله إن جهاد هؤلاء أحبُّ إليَّ مِن الحج، قال له: عزمتُ عليك أن تحج بالمسلمين، فلم يجد ابن عباس أمامه إلا أن يطيع أمير المؤمنين(1)، وكتب عثمان كتابًا مع ابن عباس ليقرأ على المسلمين في الحج، بيَّن فيه قصته مع الذين خرجوا عليه، وموقفه منهم، وطلباتهم منه، وفي آخر أيام الحصار وهو اليوم الذي قتل فيه، نام -رضي الله عنه- فأصبح يحدِّث الناس: ليقتلني القوم، ثم قال: رأيتُ النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنام، ومعه أبو بكر وعمر، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: يا عثمان أفطر عندنا؛ فأصبح صائمًا، وقُتل مِن يومه(2).


وهاجم المتمردون الدار؛ فتصدى لهم الحسن بن علي، وعبد الله بن الزبير، ومحمد بن طلحة، ومروان بن الحكم، وسعيد بن العاص، ومَن كان مِن أبناء الصحابة أقام معهم؛ فنشب القتال فناداهم عثمان: الله الله، أنتم في حل مِن نصرتي؛ فأبوا، ودخل غلمان عثمان لينصروه، فأمرهم ألا يفعلوا؛ بل إنه أعلن أنه َمن كف يده منهم فهو حر(3).


وقال عثمان في وضوح وإصرار وحسم، وهو الخليفة الذي تجب طاعته: أعزم على كل مَن رأى أن عليه سمعًا وطاعة إلا كف يده وسلاحه(4)، ولا تبرير لذلك إلا بأن عثمان كان واثقًا مِن استشهاده بشهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- له بذلك؛ ولذلك أراد ألا تُراق بسببه الدماء، وتقوم بسببه فتنة بيْن المسلمين، وكان المغيرة بن الأخنس بن شريق فيمن حج ثم تعجل في نفرٍ حجوا معه؛ فأدرك عثمان قبْل أن يُقتل، ودخل الدار يحمي عنه وقال: ما عذرنا عند الله إن تركناك ونحن نستطيع ألا ندعهم حتى نموت؟! فأقدم المتمردون على حرق الباب والسقيفة؛ فثار أهل الدار وعثمان -رضي الله عنه- يصلي حتى منعوهم، وقاتل المغيرة بن الأخنس والحسن بن علي ومحمد بن طلحة وسعيد بن العاص، ومروان بن الحكم وأبو هريرة؛ فأبلوا أحسن البلاء، وعثمان يرسل إليهم في الانصراف دون قتال، ثم ينتقل إلى صلاته، فاستفتح قوله -تعالى-: (طه . مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى . إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى) (طه:1-3)، وكان سريع القراءة، فما أزعجه ما سمع، ومضى في قراءته ما يخطئ وما يتعتع، حتى إذا أتى إلى نهايتها قبْل أن يصلوا إليه ثم دعا فجلس وقرأ: (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) (آل عمران:137)(5).

وأصيب يومئذٍ أربعة مِن شبان قريش وهم: الحسن بن علي، وعبد الله بن الزبير، ومحمد بن حاطب، ومروان بن الحكم, وقتل المغيرة بن الأخنس، ونيار بن عبد الله الأسلمي، وزياد الفهري، واستطاع عثمان أن يقنع المدافعين عنه، وألزمهم بالخروج مِن الدار، وخلى بينه وبيْن المحاصرين، فلم يبقَ في الدار إلا عثمان وآله، وليس بينه وبين المحاصرين مدافع ولا حامٍ مِن الناس، وفتح -رضي الله عنه- باب الدار(6)، وبعد أن خرج مِن في الدار ممن كان يريد الدفاع عنه، نشر -رضي الله عنه- المصحف بيْن يديه، وأخذ يقرأ منه وكان إذ ذاك صائمًا، فإذا برجل مِن المحاصرين لم تسمه الروايات يدخل عليه، فلما رآه عثمان -رضي الله عنه- فقال له: بيني وبينك كتاب الله, فخرج الرجل وتركه(7)، وما إن ولى حتى دخل آخر، وهو رجل مِن بني سدوس، يقال له: الموت الأسود، فخنقه ثم أهوى إليه بالسيف، فاتقاه عثمان -رضي الله عنه- بيده فقطعها، فقال عثمان، أما والله إنها لأول كف خطت المفصَّل(8)، وذلك أنه كان مِن كتبة الوحي، وهو أول مَن كتب المصحف مِن إملاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقتل -رضي الله عنه- والمصحف بيْن يديه، وعلى إثر قطع اليد انتضح الدم على المصحف الذي كان بيْن يديه يقرأ منه، وسقط على قوله -تعالى-: (فَسَيَكْفِيكَه مُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (البقرة:137).

ولما أحاطوا به قالت امرأته نائلة بنت الفرافصة: إن تقتلوه أو تدعوه، فقد كان يحيي الليل بركعة يجمع فيها القرآن(9)، وقد دافعت نائلة عن زوجها عثمان وانكبت عليه واتقت السيف بيدها, فتعمدها سودان بن حمران ونضح أصابعها فقطع أصابع يدها، وولت، فغمز أوراكها(10).

ولما رأى أحد غلمان عثمان الأمر، راعه قتل عثمان، وكان يُسمَّى (نجيح) فهجم نجيح على سودان بن حمران فقتله، ولما رأى قتيرة بن فلان السكوني نجيحًا قد قتل سودان، هجم على نجيح فقتله، وهجم غلام آخر لعثمان اسمه (صبيح) على قتيرة بن فلان فقتله؛ فصار في البيت أربعة قتلى شهيدان، ومجرمان، أما الشهيدان: فعثمان وغلامه نجيح، وأما المجرمان فسودان وقتيرة السكونيان.

ولما تم قتل عثمان -رضي الله عنه- نادى منادٍ القوم السبئيين قائلاً: إنه لم يحل لنا دم الرجل ويحرم علينا ماله؛ ألا إن ماله حلال لنا، فانهبوا ما في البيت، فعاث رعاع السبئيين في البيت فسادًا، ونهبوا كل ما في البيت، حتى نهبوا ما على النساء، وهجم أحد السبئيين ويُدعى كلثوم التجيبي على امرأة عثمان (نائلة) ونهب الملاءة التي عليها، ثم غمز وركها، وقال لها: ويح أمك مِن عجيزة ما أتمك(11)؛ فرآه غلام عثمان (صبيح) وسمعه وهو يتكلم في حق نائلة هذا الكلام الفاحش، فعلاه بالسيف فقتله، وهجم أحد السبئيين على الغلام فقتله، وبعد ما أتم السبئيون نهب دار عثمان، تنادوا وقالوا: أدركوا بيت المال، وإياكم أن يسبقكم أحدٌ إليه، وخذوا ما فيه، وسمع حراس بيت المال أصواتهم، ولم يكن فيه إلا غرارتان مِن طعام فقالوا: انجوا بأنفسكم، فإن القوم يريدون الدنيا، واقتحم السبئيون بيت المال وانتهبوا ما فيه(12).

حقق المجرمون السبئيون مرادهم، وقتلوا أمير المؤمنين، وتوقف كثير مِن أتباعهم مِن الرعاع والغوغاء بعد قتل عثمان ليفكروا, وما كانوا يظنون أن الأمر سينتهي بهم إلى قتله، وحزن الصالحون في المدينة لمقتل خليفتهم، وصاروا يسترجعون ويبكون، لكن ماذا يفعلون وجيوش السبئيين تحتل المدينة، وتعيث فيها فسادًا.

وقد علـَّق كبار الصحابة على مقتل عثمان؛ فقال الزبير بن العوم -رضي الله عنه-، لما علم بمقتل عثمان قال: رحم الله عثمان، إنا لله وإنا إليه راجعون، فقيل له: إن القوم نادمون، فقال: دبروا ودبروا، ولكن كما قال الله -تعالى-: (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ) (سبأ:54).

وقال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- لما علم بمقتل عثمان قال: رحم الله عثمان، إنا لله وإنا إليه راجعون، قيل له: إن القوم نادمون، فقرأ قوله -تعالى-: (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ . فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ) (الحشر:16-17)(13).

وقال سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-: رحم الله عثمان، ثم تلا قوله -تعالى-: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِين َ أَعْمَالًا . الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا . أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا . ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا) (الكهف:103-106)، ثم قال سعد: اللهم اندمهم واخزهم واخذلهم، ثم خذهم(14).

واستجاب الله دعوة سعد وكان مستجاب الدعوة، فقد أٌخذ كل مَن شارك في قتل عثمان، مثل عبد الله بن سبأ، والغافقي والأشتر، وحكيم بن جبلة، وكنانة التجيبي، حيث قتلوا فيما بعد(15).

قٌتل عثمان -رضي الله عنه- في شهر ذي الحجة في السنة الخامسة بعد الثلاثين مِن الهجرة، توفي وسنه اثنتان وثمانون (82 سنة)، وهو قول الجمهور، وقام نفر مِن الصحابة في يوم قتله بغسله وكفنوه وحملوه على باب، ومنهم: حكيم بن حزام، وحويطب بن عبد العزى، وأبو الجهم بن حذيفة، ونيار بن مكرم الأسلمي، وجبير ابن مطعم، والزبير بن العوام، وعلي بن أبي طالب، وجماعة مِن أصحابه ونسائه، منهن امرأتاه نائلة وأم البنين بنت عتبة بن حصين، وصلوا عليه صلاة الجنازة، وقد دفنوه ليلاً، وقد أكد ذلك ما رواه ابن سعد والذهبي؛ حيث ذكرا أنه دفن بيْن المغرب والعشاء -رضوان الله عليه-(16).

لقد كانت فتنة قتل عثمان سببًا في حدوث كثير مِن الفتن الأخرى، وألقت بظلالها على أحداث الفتن التي تلتها، فتغيرت قلوب الناس وظهر الكذب، وبدأ الخط البياني للانحراف عن الإسلام في عقيدته وشريعته، وكان مقتل عثمان مِن أعظم الأسباب التي أوجبت الفتن بيْن الناس، وبسببه تفرقت الأمة إلى اليوم(17)؛ فتفرقت القلوب، وعظمت الكروب، وظهرت الأشرار، وذل الأخيار، وسعى في الفتنة مَن كان عاجزًا عنها، وعجز عن الخير والصلاح مَن كان يحب إقامته، ثم بقيت المدينة بعد مقتل عثمان -رضي الله عنه- خمسة أيام وأميرها الغافقي ابن حرب أحد قتلة عثمان -رضي الله عنه-.

ثم تمت مبايعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وهو أحق الناس بالخلافة حينئذٍ، وأفضل مَن بقي, لكن القلوب متفرقة ونار الفتنة متوقدة، فلم تتفق الكلمة ولم تنتظم الجماعة، ولم يتمكن الخليفة وخيار الأمة مِن كل ما يريدون مِن الخير، ودخل في الفرقة والفتنة أقوام كثيرون.

إن الظلم والاعتداء على الآخرين بغير حق مِن أسباب الهلاك في الدنيا والآخرة، كما قال الله -عز وجل-: (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا) (الكهف:59)، وإن المتتبع لأحوال أولئك الخارجين على عثمان -رضي الله عنه- المعتدين عليه يجد أن الله -تعالى- لم يفلتهم, بل أذلهم وأخزاهم وانتقم منهم؛ فلم ينجُ منهم أحد!

ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــــــ

(1) تيسير الكريم المنان في سيرة عثمان بن عفان -رضي الله عنه- للصلابي، ص 386.

(2) حصة بنت عبد الكريم الزيد، موقف الصحابة مِن أحداث العنف في عهد الخلفاء الراشدين، منشور على موقع وزارة الأوقاف السعودية بدون بيانات، ص30.

(3) البداية والنهارية لابن كثير (7/ 190).

(4) العواصم مِن القواصم لابن العربي، ص137.

(5) تاريخ دمشق لابن عساكر، المحقق: عمرو بن غرامة العمروي، الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، عام النشر: 1415هـ - 1995م، عدد الأجزاء: 80 (64/ 245).

(6) محمد غبان، فتنة مقتل عثمان بن عفان -رضي الله عنه- (1/ 188).

(7) تاريخ الرسل والملوك للطبري (5/ 405).

(8) المصدر السابق (5/ 399).

(9) الطبقات لابن سعد (3/ 76).

(10) الطبري، المصدر نفسه (5/ 407).

(11) عَجِيزَةُ الْمَرْأَةِ: مُؤَخِّرَتُهَا.

(12) سيف بن عمر الأسدي التَّمِيمي (المتوفى: 200هـ) الفتنة ووقعة الجمل، دار النفائس، ط 1993، ص73.

(13) التميمي، المصدر السابق، ص74.

(14) البداية والنهاية لابن كثير (7/ 194).

(15) تاريخ الرسل والملوك للطبري (5/410)، وأخرج أحمد بإسنادٍ صحيح، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ أَرْطَاةَ الْعَدَوِيَّةِ قَالَتْ: "خَرَجْتُ مَعَ عَائِشَةَ سَنَةَ قُتِلَ عُثْمَانُ إِلَى مَكَّةَ، فَمَرَرْنَا بِالْمَدِينَةِ وَرَأَيْنَا الْمُصْحَفَ الَّذِي قُتِلَ وَهُوَ فِي حِجْرِهِ، فَكَانَتْ أَوَّلُ قَطْرَةٍ قَطَرَتْ مِنْ دَمِهِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ: (فَسَيَكْفِيكَه مُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (البقرة:137)، قَالَتْ عَمْرَةُ: فَمَا مَاتَ رَجُلٌ مِنْهُمْ سَوِيًّا". فضائل الصحابة (1/ 501) بإسنادٍ صحيح.

وقال الحسن البصري -رحمه الله-: "ما علمتُ أحدًا أشرك في دم عثمان، ولا أعان عليه، إلا قـُـتِـل!"، وفي رواية أخرى: "لم يدع الله الفَسَـقة "قتلة عثمان" حتى قتلهم بكل أرض!"، انظر: تاريخ المدينة المنورة لابن شبّة (4/ 1252).

(16) الطبقات لابن سعد (3/ 78).

(17) مجموع الفتاوى لابن تيمية (25/ 303).

ابو وليد البحيرى
2020-12-09, 07:59 PM
صفحات مِن ذاكرة التاريخ (15)
نظرة حول منهجية الحكم الصحيحة









زين العابدين كامل


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فبعد أن استعرضنا فترة حكم أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه- وما تخللها مِن أحداث نقول: إنه لا بد للحاكم أن يحكم أمور الدولة بكل حزم، لأنه لا يَجترئ على فعل المُحرمات والتعدي على حقوق الناس ومُمتلكاتهم، ونَشر الفوضى وأعمال العنف، والتمادي في الإجرام؛ إلا مَن أمِن العقوبة، فمن أمن العقوبة أساء الأدب، واللين في موضع الشدة ضعف، والشدة في موضع اللين عنف.

وها هو عثمان -رضي الله عنه- يذكر كيف تلقى بعض الناس رفقه ولينه معهم ذلك بعد فترة مِن حكمه، فقد روى يحيى عن أفلح بن حميد عن أبيه قال: لما أراد عثمان -رضي الله عنه- أن يكلِّم الناس على المنبر ويشاورهم في أمر توسعة المسجد، قال له مروان بن الحكم: فداك أبي وأمي، هذا أمر خير لو فعلته ولم تذكر لهم، فقال: ويحك! إني أكره أن يروا أني أستبد عليهم بالأمور. قال مروان: فهل رأيت عمر حيث بناه وزاد فيه ذكر ذلك لهم؟ قال: اسكت، إن عمر اشتد عليهم فخافوه، حتى لو أدخلهم في جحر ضب دخلوا، وإني لنتُ لهم حتى أصبحت أخشاهم. قال مروان بن الحكم: فداك أبي وأمي لا يسمع هذا منك فيجترأ عليك(1).

وروى سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- أن أباه قال: "لقد عتبوا على عثمان أشياءً لو فعلها عمر ما عتبوا عليه".

وعبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- كان شاهد عيان لخلافة عثمان مِن أولها إلى آخرها، وهو يشهد لعثمان بأن كل ما عتبوا به عليه كان يحتمل أن يكون مِن عمر -وهو أبوه-، ولو كان ذلك مِن عمر لما عتب أو اعترض عليه أحد؛ فقوة عمر -رضي الله عنه- وحزمه وشدته المتزنة الممزوجة بالحكمة كان لها تأثير بالغ في أحواله مع الرعية؛ فكان عمر -رضي الله عنه- قوي الشكيمة، شديد المحاسبة لنفسه, ولمن تحت يديه، و كان عثمان ألين طبعًا وأرق في المعاملة، ولم يكن يأخذ نفسه أو يأخذ الناس بما يأخذهم به عمر حتى يقول عثمان نفسه: "يرحم الله عمر، ومَن يطيق ما كان عمر يطيق" وقد أدرك عثمان ذلك أيضًا حين قال لأقوام سجنهم: "أتدرون ما جرأكم عليَّ؟! ما جرأكم عليَّ إلا حلمي!"، فهذا اللين وهذه الرأفة مِن مميزات عثمان -رضي الله عنه-، لكن بعض الناس لم يحسنوا أن يقابلوا ذلك بالإحسان والطاعة.

هذا ومع وجود اللين والرفق مع مَن استحق ذلك مِن الرعية، فلا بد مِن التوازن بيْن الشدة واللين، ولا تكون الشدة إلا في موضعها، وكذلك اللين يكون في موضعه، ونؤكِّد على أن الحلم واللين مع الرعية كان مِن حسنات عثمان -رضي الله عنه-، ولم يكن أبدًا مِن سيئاته كما يظن البعض، ولا يٌعد حلمه ورحمته مِن النقائص والمعايب، بل كان العيب في الذين لم يحسنوا أن يعيشوا في كنف الحلم واللين والرحمة، ولم يحسنوا أن يقابلوا الإحسان بالطاعة، بل كانوا على العكس مِن ذلك تمامًا!

ثم إننا نشير أن رقعة الدولة قد توسعتْ وازدادت في عصر عثمان -رضي الله عنه-، ودخل كثير مِن الناس الإسلام بثقافاتٍ وطباع مختلفة، وهذا أيضًا كان له أثر بالغ في المجتمع؛ لذا وجب على الحاكم أن يراعي تنوع ثقافات الناس واختلاف طباعها، لا سيما مَن تعود منهم على أسلوب المُلك وهو بلا شك يختلف عن أسلوب الخلافة، ثم إنه كان ينبغي على أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه- ألا يحدِّث الناس على المنبر في أمر توسعة المسجد وغيره، بل كان عليه أن يتخذ مجلس شورى مِن الثقات يستشيرهم ويكتفي بذلك، ثم لا بد أن نعلم أن فترة الخلافة هي بالطبع أفضل مما بعدها مِن فترات الملك.

ولا بد أيضًا مِن وجود سياسة الاستيعاب بحكمةٍ واعتدال دون إفراط أو غلو، ومَن تدبر منهج معاوية -رضي الله عنه- في الحكم علم ذلك جيدًا؛ فلقد استطاع معاوية -رضي الله عنه- أن يحكم الدولة الواسعة المترامية الأطراف بكل حزمٍ وحكمة، وقد سٌئل معاوية -رضي الله عنه-: "كيف حكمت الشام أربعين سنة ولم تحدث فتنة؟! فقال: "إني لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعتْ، كانوا إذا مدوها أرخيتها، وإذا أرخوها مددتها"(2).

فقد امتاز معاوية -رضي الله عنه- بالعقلية الفذة, فإنه كان يتمتع بالقدرة الفائقة على الاستيعاب, فكان يستفيد مِن كل ما يمر به مِن الأحداث, ويعرف كيف يتوقاها, وكانت خبراته الواسعة وممارسته لأعباء الحكم على مدى أربعين سنة منذ ولاه عمر -رضي الله عنه- الشام, فكانت ولايته على الشام عشرين سنة أميرًا, وعشرين سنه خليفة للمسلمين, هذه الفترة الطويلة التي تقلب فيها بيْن المناصب العسكرية والولاية، أكسبته خبرة في سياسة البلاد, والاستفادة مِن كل الظروف والأوضاع التي تمر بها, حتى استطاع أن يسير بالدولة عشرين سنة دون أن ينازعه منازع؛ لذا أثنى كثير مِن الصحابة وأهل العلم على معاوية وسياسته في الحكم.

يقول الشيخ الخضري: "أما معاوية نفسه, فلم يكن أحد أوفر منه يدًا في السياسة, صانع رؤوس العرب, وكانت غايته في الحلم لا تدرك, وعصابته فيه لا تنزع، ومرقاته(3) فيه تزل عنها الأقدام(4), ومِن المعلوم أن السياسة الناجحة تتوقف على القدرة على ضبط النفس عند الغضب, واحتواء الشدائد حتى تنجلي, واستخدام الأساليب المتنوعة حسب الأحداث والمتغيرات، ولمعاوية في ذلك نصيب، وكانت تلك سياسته مع العامة والخاصة, قال عمر بن الخطاب: "تذكرون كسرى وقيصر ودهاءهما وعندكم معاوية".

ويقول عبد الله بن عمر -رضي الله عنه-: "ما رأيتُ أحدًا أسود مِن معاوية قال: قلت: ولا عمر؟ قال: كان عمر خيرًا منه، وكان معاوية أسود منه!". وفي رواية: "ما رأيتُ أحدًا بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسود مِن معاوية. قيل: ولا أبا بكر؟ قال: كان أبو بكر وعمر وعثمان خيرًا منه, وهو أسود منهم"(5).

ويقول عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-: "ما رأيتُ رجلاً كان أخلق بالملك مِن معاوية"(6).

وقال ابن أبي العز الحنفي -رحمه الله-: "وأول ملوك المسلمين معاوية وهو خير ملوك المسلمين".

ويقول ابن تيمية -رحمه الله-: "واتفق العلماء على أن معاوية أفضل ملوك هذه الأمة, فإن الأربعة قبله كانوا خلفاء نبوة، وهو أول الملوك, كان ملكه ملكًا ورحمة(7)، وقال: فلم يكن مِن ملوك المسلمين خيرًا منهم في زمان معاوية إذا نُسبت أيامه إلى أيام مَن بعده، أما إذا نسبت إلى أيام أبي بكر وعمر ظهر التفاضل". وذكر ابن تيمية -رحمه الله- قول الأعمش عندما ذكر عنده عمر بن العزيز -رحمه الله- فقال: "فكيف لو أدركتم معاوية؟ قالوا: في حلمه, قال لا والله في عدله"(8).

وهكذا يجب أن يكون الحكام في كل موطن، وفي كل وقت، يتعاملون مع الواقع بما يتناسب معه، إذن لا بد مِن وجود قدرٍ مِن الحزم والقوة، وقدرٍ مِن اللين والحلم، وقدرٍ مِن الاستيعاب بحكمة.

أما استعمال صفتي اللين والحلم مع الجميع بمختلف التوجهات؛ فهذا ربما يقابله البعض بالإجرام والتمادي في الظلم، وهذا حتمًا سيؤثر بالسلب على أمن العباد والبلاد، والله تعالى أعلم.

ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــ

(1) وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى للسمهودي (2/83).


(2) العقد الفريد لابن عبد ربه (1/25).


(3) مِرْقاة: جمع مَرَاقٍ: وهو موضع الرُّقِيّ والصُّعود أو أداته كالدَّرجة مِن درجات السُّلَّم.

(4) تيسير الكريم المنان في سيرة عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، ص175 نقلاً عن الدولة الأموية للخضري، ص 377.

(5) البداية والنهاية لابن كثير (11/ 430). وأسود أي: أحكم، والأسْوَدُ مِن الناس: أكثرهُم سيادة، انظر معجم المعاني. ورواه أبو بكر بن الخلال في السُّنة.

(6) ابن كثير، المصدر السابق (11/ 439).

(7) ابن تيمية، الفتاوى (4/ 478).

(8) ابن تيمية، منهاج السُّنة (6/ 232)، (3/ 185).

ابو وليد البحيرى
2020-12-09, 08:08 PM
صفحات مِن ذاكرة التاريخ (16)
موقعة الجمل "الأسباب والنتائج"




زين العابدين كامل

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد أخبر الصادق المصدوق الذي لا يَنطق عن الهوى -صلى الله عليه وسلم- بوقوع الفتن، بل وحدد موطنها، فعن ابن عمر -رضي الله عنهما-: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَهُوَ مُسْتَقْبِلُ الْمَشْرِقِ، يَقُولُ: (أَلَا إِنَّ الْفِتْنَةَ هَاهُنَا، أَلَا إِنَّ الْفِتْنَةَ هَاهُنَا، مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ) (متفق عليه).
وقد حدث ما أخبر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فمِن العراق ظهر الخوارج، والشيعة، والروافض، والباطنية، وغيرهم، ومِن جهة الفرس خرجت القاديانية، والبهائية، وغيرها مِن الفرق!
وكذا مِن جهة المشرق "مسيلمة الكذاب" و"الدجال".
ومنذ أن مات الخليفة الراشد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، والفتن لم تتوقف، وقد أخبر بذلك أيضًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبدأت الفتن تشتعل بموت أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه-.
وها نحن نبيِّن الآن ما حدث بيْن الصحب الكرام بعد موت عثمان -رضي الله عنه-؟ وما هي الأسباب التي أدت إلى ما حدث؟ وما هي النتائج التي ترتبت على هذه الأحداث؟
أولاً: بيعة علي -رضي الله عنه- وتوليه أمر الخلافة:
بقيت المدينة بعد مقتل عثمان -رضي الله عنه- خمسة أيام وأميرها الغافقي ابن حرب، أحد قتلة عثمان -رضي الله عنه-، والناس يلتمسون مَن يجيبهم إلى القيام بالأمر فلا يجدونه؛ فعن محمد ابن الحنفية قال: كنتُ مع علي بن أبي طالب وعثمان محصر، قال: فأتاه رجل فقال: إن أمير المؤمنين مقتول الساعة. قال: فقام علي -رحمه الله-، قال محمد: فأخذت بوسطه تخوفًا عليه فقال: خلَّ لا أم لك، قال: فأتى على الدار، وقد قٌتل الرجل -رحمه الله-، فأتى داره فدخلها فأغلق بابه، فأتاه الناس فضربوا عليه الباب فدخلوا عليه، فقالوا: إن هذا قد قُتل، ولا بد للناس مِن خليفة ولا نعلم أحدًا أحق بها منك، فقال لهم علي: لا تريدوني فإني لكم وزيرًا خير مني لكم أميرًا. فقالوا: لا والله لا نعلم أحدًا أحق بها منك.
قال: فإن أبيتم عليَّ فإن بيعتي لا تكون سرًّا، ولكن أخرج إلى المسجد؛ فبايعه الناس.
وفي رواية أخرى عن سالم بن أبي الجعد عن محمد ابن الحنفية: فأتاه أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: إن هذا الرجل قد قُتل ولا بد للناس مِن إمام، ولا نجد أحدًا أحق بها منك؛ أقدم مشاهد، ولا أقرب مِن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فقال علي: لا تفعلوا فإني لكم وزيرًا خير مني أميرًا، فقالوا: لا والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك. قال: ففي المسجد فإنه ينبغي لبيعتي ألا تكون خفيًا، ولا تكون إلا عن رضا المسلمين. فقال عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-: لقد كرهتُ أن يأتي المسجد كراهية أن يشغب عليه، وأبى هو إلا المسجد، فلما دخل المسجد جاء المهاجرون والأنصار فبايعوا وبايع الناس، وكان فيهم طلحة والزبير -رضي الله عنهما-، فأتوا عليًّا فقالوا: يا أبا حسن، هلم نبايعك، وتمت البيعة منهما، وهكذا تمتْ بيعة علي -رضي الله عنه- بالخلافة بطريقة الاختيار بعد خروج البغاة على أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه-.
ثانيًا: اختلاف الصحابة -رضي الله عنهم- حول مسألة القِصاص مِن قتلة عثمان -رضي الله عنه-:
بعد أن تمت البيعة لعلي -رضي الله عنه-، ذهب طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام -رضي الله عنهما- إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وطلبا منه أن يقيم القصاص على قتلة عثمان -رضي الله عنه-؛ فاعتذر أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه-.

ومِن هنا بدأ الخلاف: فلقد رأى علي -رضي الله عنه- بفهمه وفقهه واجتهاده ومراعاته للمصالح والمفاسد أن يٌؤجِّل إقامة القصاص على قتلة عثمان؛ لا سيما وأن مثل هذه الأمور يصعب فيها أولاً تحديد الجناة، وهذا يحتاج إلى تحقيقٍ واسع للتعرف على الجناة؛ لا سيما مع صعوبة التثبت في أوقات الفتن والفوضى، ثم إن ذلك يحتاج إلى قوة واستقرار في الدولة للقدرة على إقامة القصاص لو ثبتت شروطه.
وهنا رفض طلحة والزبير -رضي الله عنهما- هذا الاجتهاد، وقررا الخروج إلى مكة حيث مقام أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- بعد أن أدت فريضة الحج، ثم استأذن طلحة والزبير عليًّا في العمرة؛ فأذن لهما، فلحقا بمكة، ثم أرسلت نائلة زوج عثمان -رضي الله عنه- قميصه الذي قُتِل فيه إلى معاوية بن أبي سفيان في بلاد الشام، ووضعت فيه أصابعها التي قٌطعت وهي تدافع عن زوجها أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه-.
ونود أن نؤكِّد على: أن الخلاف الذي نشأ بيْن أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- مِن جهةٍ، وبيْن طلحة والزبير وعائشة -رضي الله عنهم- مِن جهةٍ أخرى، ثم بعد ذلك بيْن علي ومعاوية -رضي الله عنهما- لم يكن سببه أن هؤلاء كانوا يقدحون في خلافة أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- وإمامته وأحقيته بالخلافة والولاية على المسلمين؛ فقد كان هذا محل إجماع بينهم.
قال ابن حزم -رحمه الله-: "ولم ينكر معاوية قط فضل علي واستحقاقه الخلافة، ولكن اجتهاده أداه إلى أن رأى تقديم أخذ القود مِن قتلة عثمان -رضي الله عنه- على البيعة، ورأى نفسه أحق بمطلب دم عثمان".
وهكذا اعتذر علي -رضي الله عنه- عن أخذ الثأر، وقال: "إن قتلة عثمان لهم مدد وأعوان"، وقد تعصب لهم كثيرٌ مِن الناس وبلغ عددهم ما يقرب مِن عشرة آلاف، وهم متفرقون في المدينة والكوفة ومصر.
ولما سمعت السيدة عائشة -رضي الله عنها- بموت عثمان في طريق عودتها مِن مكة إلى المدينة، رجعت إلى مكة ودخلت المسجد الحرام، وقصدت الحجر فتستَّرت فيه، واجتمع الناس إليها فقالت: أيها الناس إن الغوغاء مِن أهل الأمصار، وأهل المياه، خلجوا -تحركوا واضطربوا-، وبادروا بالعدوان؛ نبا فعلهم عن قولهم، فسفكوا الدم الحرام، واستحلوا البلد الحرام، وأخذوا المال الحرام، واستحلوا الشهر الحرام، والله لأصبع عثمان خير مِن طباق الأرض أمثالهم، فنجاة -أي اطلبوا النجاة باجتماعكم عليهم- مِن اجتماعكم عليهم حتى يَنْكل بهم غيرهم، ويشرَّد مَن بعدهم، ووالله لو أن الذي اعتدوا به عليه كان ذنبًا نخلُص منه كما يخلص الذهب مِن خبثه أو الثوب مِن درنه، إذ ماصوه كما يماص الثوب بالماء.
وجاء في رواية: أن عائشة -رضي الله عنها- حين انصرفت راجعة إلى مكة أتاها عبد الله بن عامر الحضرمي -أمير مكة-، فقال لها: ما ردّك يا أم المؤمنين؟ قالت: ردي أن عثمان قُتل مظلومًا، وأن الأمر لا يستقيم ولهذه الغوغاء أمر؛ فاطلبوا بدم عثمان تعزوا الإسلام.
وقد ثبت بالنصوص الصحيحة الصريحة ثناء عائشة -رضي الله عنها- على عثمان -رضي الله عنه-، ولعنها لمَن قتله في رواياتٍ متعددة.
ثم قدِم طلحة والزبير -رضي الله عنهما- إلى مكة ولقيا عائشة -رضي الله عنها-، وكان وصولهما إلى مكة بعد أربعة أشهر مِن مقتل عثمان -رضي الله عنه- تقريبًا، أي في ربيع الآخر مِن عام 36هـ، ثم بدأ التفاوض في مكة مع عائشة -رضي الله عنها- للخروج، وقد كانت هناك ضغوط نفسية كبيرة على الذين وجدوا أنفسهم لم يفعلوا شيئًا لإيقاف عملية قتل الخليفة المظلوم، فقد اتهموا أنفسهم بأنهم خذلوا الخليفة، وأنه لا تكفير لذنبهم هذا -حسب قولهم- إلا الخروج للمطالبة بدمه، علمًا بأن عثمان -رضي الله عنه- هو الذي نهى كل مَن أراد أن يدافع عنه في حياته تضحية في سبيل الله!
فعائشة -رضي الله عنها- تقول: إن عثمان -رضي الله عنه- قُتل مظلومًا، والله لأطالبن بدمه. وطلحة -رضي الله عنه- يقول: إنه كان مني في عثمان شيء ليس توبتي إلا أن يُسفك دمي في طلب دمه! والزبير -رضي الله عنه- يقول: نُنهض الناس فيدرك بهذا الدم لئلا يَبْطل، فإن في إبطاله توهين سلطان الله بيننا أبدًا؛ إذا لم يُفطم الناس عن أمثالها لم يبقَ إمام إلا قتله هذا الضرب.
وبعد أن دار حوار بينهم حول الجهة التي يتوجهون إليها، قال بعضهم: نتوجه إلى المدينة، ومِن هؤلاء عائشة -رضي الله عنها-، وظهر رأي آخر يطلب التوجُّه إلى الشام ليتجمعوا معًا ضد قتلة عثمان، وهناك مَن رأى الذهاب إلى الكوفة، وبعد نظرٍ طويل استقروا على البصرة؛ لأن المدينة فيها كثرة ولا يقدرون على مواجهتهم لقلتهم؛ ولأن الشام صار مضمونًا لوجود معاوية، ومِن ثَمَّ يكون دخولهم البصرة أولى؛ لأنها أقل البلدان قوة وسلطة، ويستطيعون مِن خلالها تحقيق خطتهم.
وكانت خطتهم ومهمتهم واضحة سواء قبْل خروجهم أو أثناء طريقهم أو عند وصولهم إلى البصرة، وهي: المطالبة بدم عثمان، والإصلاح، وإعلام الناس بما فعل الغوغاء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وأن هذا المطلب هو لإقامة حدٍّ مِن حدود الله, وأنه إذا لم يؤخذ على أيدي قتلة عثمان -رضي الله عنه-؛ فسيكون كل إمام معرضًا للقتل مِن أمثال هؤلاء.
وسمي يوم خروجهم مِن مكة نحو البصرة بـ"يوم النحيب"، فلم يُرَ يوم كان أكثر باكيًا على الإسلام، أو باكيًا له مِن ذلك اليوم! فلما خرجتْ إلى البصرة، وبلغ ذلك عثمان بن حنيف، وهو والي البصرة مِن قِبَل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أرسل إلى عائشة -رضي الله عنها- عند قدومها البصرة يسألها عن سبب قدومها، فقالت: "إن الغوغاء مِن أهل الأمصار، ونزاع القبائل غزوا حرم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأحدثوا فيه الأحداث، وآووا فيه المحدثين، واستوجبوا فيه لعنة الله ولعنة رسوله مع ما نالوا مِن قتل إمام المسلمين بلا تِرَة ولا عذر؛ فاستحلوا الدم الحرام فسفكوه، وانتهبوا المال الحرام، وأحلوا البلد الحرام، والشهر الحرام، ومزقوا الأعراض والجنود، وأقاموا في دار قوم كانوا كارهين لمقامهم، ضارين مضرين، غير نافعين ولا متقين، ولا يقدرون على امتناع ولا يأمنون؛ فخرجتُ في المسلمين أُعلمهم ما أتى هؤلاء القوم وما فيه الناس وراءنا، وما ينبغي لهم أن يأتوا في إصلاح هذا، وقرأتْ: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) (النساء:114)، فنهض في الإصلاح ممن أمر الله -عز وجل- وأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصغير والكبير، والذكر والأنثى، فهذا شأننا إلى معروفٍ نأمركم به ونحضكم عليه، ومنكر ننهاكم عنه ونحثكم على تغييره".
وقد كادت عائشة -رضي الله عنها- أن تعود وترجع أثناء سيرها في الطريق إلى البصرة، فعن قيس ابن حازم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لأزواجه: (أَيَّتُكُنَّ تَنْبَحُ عَلَيْهَا كِلَابُ الْحَوْأَبِ؟) (رواه أحمد، وصححه الألباني)، وبالفعل مرت عائشة -رضي الله عنها- في الطريق على بعض مياه بني عامر ليلاً؛ فنبحت عليها الكلاب، فقالت: أي ماء هذا؟ فقالوا: ماء الحوأب، فوقفت وقالت: ما أظنني إلا راجعة، إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لنا: (أَيَّتُكُنَّ تَنْبَحُ عَلَيْهَا كِلَابُ الْحَوْأَبِ؟)، فقال لها الزبير: أترجعين؟ عسى الله -عز وجل- أن يُصلح بك بيْن الناس.
ولما أرسل عليٌّ القعقاع بن عمرو -رضي الله عنه- لعائشة -رضي الله عنها- ومَن كان معها يسألها عن سبب قدومها، دخل عليها القعقاع فسلم عليها، وقال: أي أُمه، ما أشخصك وما أقدمك هذه البلدة؟ قالت: أي بني، إصلاح بيْن الناس.
هذا وقد كانت أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- قد خرجن إلى الحج في هذا العام فرارًا مِن الفتنة، فلما بلغ الناس بمكة أن عثمان -رضي الله عنه- قد قُتل أقمن بمكة، وكن قد خرجن منها فرجعن إليها، وجعلن ينتظرن ما يصنع الناس ويتحسسن الأخبار، فلما بويع علي خرج عددٌ مِن الصحابة مِن المدينة كارهين المقام بها بسبب الغوغاء مِن أهل الأمصار، فاجتمع بمكة منهم خلق كثير مِن الصحابة وأمهات المؤمنين.
وبقية أمهات المؤمنين قد وافقن عائشة -رضي الله عنها- على السير إلى المدينة؛ فلما اتفق رأي عائشة -رضي الله عنها- ومَن معها مِن الصحابة على السير إلى البصرة، رجعن عن ذلك، وقلن: لا نسير إلى غير المدينة، وكانت حفصة بنت عمر أم المؤمنين -رضي الله عنها- قد وافقت عائشة -رضي الله عنها- على المسير إلى البصرة، فمنعها أخوها عبد الله مِن ذلك، وأبى هو أن يسير معهم إلى غير المدينة، وسار الناس بصحبة عائشة -رضي الله عنها- في ألف فارس، وقيل تسعمائة فارس مِن أهل المدينة ومكة، وتلاحق بهم آخرون، فساروا في ثلاثة آلاف رجل.
ونستكمل في المقال القادم -بمشيئة الله تعالى-.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــ
المراجع:
- فتنة مقتل عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، محمد غبان.
- تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسية، محمد سهيل طقوش.
- تاريخ الرسل والملوك للإمام الطبري.
- البداية والنهاية لابن كثير.
- أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- للصلابي.
- تضارب روايات الفتنة الكبرى، خالد كبير علال.

ابو وليد البحيرى
2021-01-22, 12:59 AM
صفحات مِن ذاكرة التاريخ (17)
موقعة الجمل "الأسباب والنتائج"







زين العابدين كامل


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد استعرضنا في المقال السابق كيف تمتْ بيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، ثم مطالبة بعض الصحابة وعلى رأسهم أم المؤمنين عائشة وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام -رضي الله عنهم-، بإقامة القصاص على قتلة عثمان -رضي الله عنه-، وقد اعتذر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وأبدى وجهة نظره في إرجاء إقامة القصاص، ثم تحرك جمع غفير مِن مكة إلى البصرة بصحبة أم المؤمنين عائشة وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام -رضي الله عنهم-.

وعندما وصل طلحة والزبير وعائشة -رضي الله عنهم- ومَن معهم إلى البصرة، أرسلوا إلى أعيان وأشراف القبائل يستعينون بهم على قتلة عثمان، وكان كثير مِن المسلمين في البصرة وغيرها يرغبون في القود مِن قتلة عثمان -رضي الله عنه-؛ إلا أن بعض هؤلاء يرون أن هذا مِن اختصاص الخليفة وحده، وأن الخروج في هذا الأمر بدون أمره وطاعته معصية، ولكن خروج هؤلاء الصحابة المشهود لهم بالجنة، وأعضاء الشورى ومعهم أم المؤمنين عائشة حبيبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأفقه النساء مطلقًا؛ جعل الكثير مِن البصريين على اختلاف قبائلهم ينضمون إليهم.

وأرسل الزبير إلى الأحنف بن قيس السعدي التميمي يستنصره على الطلب بدم عثمان، والأحنف مِن رؤساء تميم وكلمته مسموعة، يقول الأحنف واصفًا هول الموقف: فأتاني أفظع أمر أتاني قط فقلتُ: إن خذلاني هؤلاء ومعهم أم المؤمنين وحواري رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لشديد إلا أنه اختار الاعتزال، فاعتزل معه ستة آلاف ممن أطاعه مِن قومه، وعصاه في هذا الأمر كثير منهم، ودخلوا في طاعة طلحة والزبير وأم المؤمنين -رضي الله عنهم-، ويذكر الزهري أن عامة أهل البصرة تبعوهم, وهكذا انضم إلى طلحة والزبير وعائشة ومَن معهم أنصار جدد لقضيتهم التي خرجوا مِن أجلها، وقد حاول ابن حنيف تهدئه الأمور والإصلاح قدر المستطاع.

عليٌّ -رضي الله عنه- يغادر المدينة متوجهًا إلى الكوفة:

همّ علي بالنهوض إلى الشام ليزور أهلها وينظر ما هو رأي معاوية -رضي الله عنه- وما هو صانع، فقد كان يرى أن المدينة لم تعدُ تمتلك المقومات التي تملكها بعض الأمصار في تلك المرحلة، فلما علم أبو أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- بهذا قال: يا أمير المؤمنين، أقم بهذه البلاد؛ لأنها الدرع الحصينة، ومهاجرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبها قبره ومنبره ومادة الإسلام، فإن استقامت لك العرب كنتَ كمن كان، وإن تشغب عليك قوم رميتهم بأعدائهم، وإن ألجئت حينئذٍ إلى السير سرت وقد أعذرت، فأخذ الخليفة بما أشار به أبو أيوب وعزم المقامة بالمدينة وبعث العمال على الأمصار.

وقد بعث معاوية كتابًا مع رجل، فدخل به على علي، فقال له على: ما وراءك؟ قال: جئتك مِن عند قوم لا يريدون إلا القود، كلهم موتور -رَجُلٌ مَوْتُورٌ: أي مَنْ قُتِلَ لَهُ قَرِيبٌ وَلاَ قُدْرَةَ لَهُ عَلَى أَخْذِ ثَأْرِهِ، ورَجُلٌ مَوْتُورٌ: عصبي مشدود-، تركتُ ستين ألف شيخ يبكون تحت قميص عثمان، وهو على منبر دمشق، فقال علي: اللهم إني أبرأ إليك مِن دم عثمان.

ثم خرج رسول معاوية مِن بيْن يدي علي؛ فهمَّ به أولئك الخوارج الذين قتلوا عثمان يريدون قتله، فما أفلتْ إلا بعد جهدٍ، وبعد وصول رد معاوية لأمير المؤمنين علي -رضي الله عنهما-، عزم الخليفة علي الذهاب إلى أهل الشام؛ فكتب إلى قيس بن سعد بمصر يستنفر الناس لقتالهم، وإلى أبي موسى بالكوفة، وبعث إلى عثمان بن حُنيف بذلك، وخطب الناس فحثّهم على ذلك، وعزم على التجهز، وخرج مِن المدينة، واستخلف عليها قُثم بن العباس، وهو عازم أن يقاتل بمن أطاعه مَن عصاه وخرج مِن أمره ولم يبايعه مع الناس، ولكن نظرًا لبعض المستجدات السياسية على الساحة وما يحدث في البصرة قرر أمير المؤمنين مغادرة المدينة وأن يتوجه إلى الكوفة، فاستنفر أهل المدينة ودعاهم إلى نصرته، وكان كثير مِن أهل المدينة يرون أن الفتنة ما زالت مستمرة، فلا بد مِن التروي حتى تنجلي الأمور أكثر، وهم يقولون: لا والله ما ندري كيف نصنع، فإن هذا الأمر لمشتبه علينا ونحن مقيمون حتى يضيء لنا ويسفر.

وروى الطبري أن عليًّا -رضي الله عنه- خرج في تعبئته التي كان تعبَّى بها إلى الشام وخرج معه مَن نشط مِن الكوفيين والبصريين متخففين في سبعمائة رجل، والأدلة على تثاقل كثير مِن أهل المدينة عن إجابة أمير المؤمنين للخروج كثيرة، كما أن رجالاً مِن أهل بدر لزموا بيوتهم بعد مقتل عثمان -رضي الله عنه- فلم يخرجوا إلا إلى قبورهم، وحاول عبد الله بن سلام صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يثني عزم أمير المؤمنين علي عن الخروج، فأتاه وقد استعد للمسير، وأظهر له خوفه عليه ونهاه أن يقدم على العراق قائلاً: أخشى أن يصيبك ذباب السيف، كما أخبره بأنه لو ترك منبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلن يراه أبدًا، وفي الربذة قام إليه ابنه الحسن -رضي الله عنهما- وهو يبكي لا يخفي حزنه وتأثره على ما أصاب المسلمين مِن تفرق واختلاف، وقال الحسن لوالده: قد أمرتك فعصيتني، فتُقتل غدًا بمضيعة لا ناصر لك، فقال علي: إنك لا تزال تخن خنين الجارية! وما الذي أمرتني فعصيتك؟ قال: أمرتك يوم أحيط بعثمان -رضي الله عنه- أن تخرج مِن المدينة فيُقتل ولستَ بها، ثم أمرتك يوم قُتل ألا تبايع حتى يأتيك وفود أهل الأمصار والعرب وبيعة كل مصر، ثم أمرتك حين فعل هذان الرجلان ما فعلا أن تجلس في بيتك حتى يصطلحوا، فإن كان الفساد كان على يدي غيرك، فعصيتني في ذلك كله. قال: أي بني، أما قولك: لو خرجت مِن المدينة حين أحيط بعثمان، فوالله لقد أحيط بنا كما أحيط به، وأما قولك: لا تبايع حتى تأتي بيعة الأمصار، فإن الأمر أمر أهل المدينة، وكرهنا أن يضيع هذا الأمر، وأما قولك حين خرج طلحة والزبير، فإن ذلك كان وهنًا على أهل الإسلام، والله ما زلت مقهورًا مذ وُليت، منقوصًا لا أصل إلى شيء مما ينبغي، وأما قولك: اجلس في بيتك، فكيف لي بما قد لزمني، أو مَن تريدني؟ أتريدني أن أكون مثل الضبع التي يحاط بها، ويقال: دباب دباب -دعاء الضبع للضبع-, ليست ههنا حتى يحل عرقوباها ثم نُخرج، وإذا لم أنظر فيما لزمني مِن هذا الأمر ويعنيني، فمن ينظر فيه؟ فكف عنك أي بني

ولَمَّا أَرَادَ عَلِيٌّ الْخُرُوجَ مِنَ الرَّبَذَةِ إِلَى الْبَصْرَةِ قَامَ إِلَيْهِ ابْنٌ لِرِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ، فَقَالَ: "يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَيَّ شَيْءٍ تُرِيدُ؟ وَإِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ بِنَا؟ فَقَالَ: أَمَّا الَّذِي نُرِيدُ وَنَنْوِي فَالإِصْلاحَ، إِنْ قَبِلُوا مِنَّا وأجابونا إليه، قال: فان لم يجيبوا إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَدَعُهُمْ بِعُذْرِهِمْ وَنُعْطِيهِمُ الْحَقَّ وَنَصْبِرُ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَرْضَوْا؟ قَالَ: نَدَعُهُمْ مَا تَرَكُونَا، قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَتْرُكُونَا؟ قَالَ: امْتَنَعْنَا مِنْهُمْ، قَالَ: فَنَعَمْ إِذًا".

وأرسل علي -رضي الله عنه- مِن الربذة يستنفر أهل الكوفة ويدعوهم إلى نصرته؛ إذ إن أبا موسى الأشعري -رضي الله عنه- والي الكوفة مِن قِبَل علي، ثبط الناس ونهاهم عن الخروج والقتال في الفتنة وأسمعهم ما سمعه مِن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مِن التحذير مِن الاشتراك في الفتنة فأرسل علي بعد ذلك هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، ففشل في مهمته لتأثير أبي موسى عليهم، ثم تحرك عليٌّ بجيشه إلى ذي قار ثم بعث للكوفة في هذه المرة عبد الله بن عباس فأبطأوا عليه، فأتبعه بعمار بن ياسر والحسن بن علي، وعزل أبا موسى الأشعري واستعمل قرظة بن كعب بدلاً منه.

وكان للقعقاع بن عمرو -رضي الله عنه- دور عظيم في إقناع أهل الكوفة، فقد قام فيهم وقال: إني لكم ناصح وعليكم شفيق، وأحب أن ترشدوا، ولأقولن لكم قولاً هو الحق، والقول الذي هو القول؛ إنه لا بد مِن إمارة تنظم الناس وتنزع الظالم، وتعز المظلوم، وهذا عليٌّ يلي ما ولى، وقد أنصف في الدعاء، وإنما يدعو إلى الإصلاح، فانفروا وكونوا في هذا الأمر بمرأى ومسمع.

وكان للحسن بن علي -رضي الله عنهما- أثر واضح؛ فقد قام خطيبًا في الناس وقال: أيها الناس، أجيبوا دعوة أميركم، وسيروا إلى إخوانكم، فإنه سيوجد لهذا الأمر مَن ينفر إليه، والله لأن يليه أولو النهى أمثل في العاجلة وخير مِن العاقبة، فأجيبوا دعوتنا وأعينونا على ما ابتلينا به وابتليتم، ولبى كثير مِن أهل الكوفة وخرجوا مع عمار والحسن إلى علي ما بيْن سبعة إلى ستة آلاف رجل، ثم انضم إليهم مِن أهل البصرة ألفان مِن عبد القيس، ثم توافدت عليه القبائل إلى أن بلغ جيشه عند حدوث المعركة اثنى عشر ألف رجل تقريبًا، وعندما التقى أهل الكوفة بأمير المؤمنين هلي بذي قار قال لهم: يا أهل الكوفة، أنتم وليتم شوكة العجم وملوكهم وفضضتم جموعهم، حتى صارت إليكم مواريثهم، فأعنتم حوزتكم، واغتنم الناس على عدوهم، وقد دعوتكم لتشهدوا معنا إخواننا مِن أهل البصرة، فإن يرجعوا فذاك ما نريد، وإن يلجوا داويناهم بالرفق، وبايناهم حتى يبدءونا بظلم، ولن ندع أمرًا فيه صلاح إلا آثرناه على ما فيه الفساد -إن شاء الله-، ولا قوة إلا بالله.

وقبْل أن يتحرك علي -رضي الله عنه- بجيشه نحو البصرة أقام في ذي قار أيامًا، وكان غرضه -رضي الله عنه-، هو القضاء على هذه الفرقة والفتنة بالوسائل السلمية، وتجنيب المسلمين شر القتال والصدام المسلح بكل ما أُوتي مِن قوة وجهد، وكذلك الحال بالنسبة لطلحة والزبير.

محاولات الصلح بيْن الفريقين:

وقد شارك في محاولات الصلح عدد مِن الصحابة وكبار التابعين ممن اعتزلوا الأمر، منهم: عمران بن حصين -رضي الله عنه-، فقد أرسل في الناس يخذل الفريقين جميعًا، وكعب بن سور أحد كبار التابعين، فقد بذل كل جهد، وقام بدور يعجز عنه كثير مِن الرجال، فقد استمر في محاولة الصلح إلى أن وقع القتال، وقُتل وهو بيْن الصفين يدعو هؤلاء ويدعو هؤلاء إلى تحكيم كتاب الله وكف السلاح، والقعقاع بن عمرو التميمي -رضي الله عنه- حيث أرسله أمير المؤمنين عليٌّ -رضي الله عنه- في مهمة الصلح إلى طلحة والزبير، وقال: القَ هذين الرجلين، فادعهما إلى الألفة والجماعة، وعظّم عليهما الاختلاف والفرقة. وذهب القعقاع إلى البصرة، فبدأ بعائشة -رضي الله عنها- وقال لها: ما أقدمك يا أماه إلى البصرة؟ قالت له: يا بني مِن أجل الإصلاح بيْن الناس. فطلب القعقاع منها أن تبعث إلى طلحة والزبير ليحضرا، ويكلمهما في حضرتها وعلى مسمع منها، ولما حضرا سألهما عن سبب حضورهما، فقالا كما قالت عائشة -رضي الله عنها-: مِن أجل الإصلاح بين الناس. فقال لهما: أخبراني ما وجه هذا الإصلاح؟ فوالله لئن عَرفناه لنصلحنَّ معكم، ولئن أنكرناه لا نصلح، قالا له: قتلة عثمان -رضي الله عنه- لا بد أن يُقتلوا، فإن تُركوا دون قصاص كان هذا تركًا للقرآن، وتعطيلاً لأحكامه، وإن اقُتصَّ منهم كان هذا إحياءً للقرآن. قال القعقاع: لقد كان في البصرة ستُّمائة مِن قتلة عثمان وأنتم قتلتموهم إلا رجلاً واحدًا، وهو حٌرقٌوص بن زهير السعدي، فلما هرب منكم احتمى بقومه مِن بني سعد، ولما أردتم أخذه منهم وقَتْله منعكم قومه مِن ذلك، وغضب له ستة آلاف رجل اعتزلوكم، ووقفوا أمامكم وقفة رجل واحد، فإن تركتم حرقوصًا ولم تقتلوه، كنتم تاركين لما تقولون وتنادون به وتطالبون عليًا به، وإن قاتلتم بني سعد مِن أجل حرقوص، وغلبوكم وهزموكم وأديلوا عليكم، فقد وقعتم في المحذور، وقوَّيتموهم، وأصابكم ما تكرهون، وأنتم بمطالبتكم بحرقوص أغضبتم ربيعة ومضر مِن هذه البلاد، حيث اجتمعوا على حربكم وخذلانكم نصرة لبني سعد، وهذا ما حصل مع علي، ووجود قتلة عثمان في جيشه؛ يعني أن الذي تريدونه مِن قتل قتلة عثمان مصلحة، ولكنه يترتب عليه مفسدة هي أربى منها، وكما أنكم عجزتم عن الأخذ بثأر عثمان -رضي الله عنه- مِن حرقوص بن زهير؛ لقيام ستة آلاف في منعه ممن يريد قتله، فعلي أعذر في تركه الآن قتل قتلة عثمان، وإنما أخر قتل قتلة عثمان -رضي الله عنه- إلى أن يتمكن منهم، فإن الكلمة في جميع الأمصار مختلفة.

وهنا تأثرت أمُّ المؤمنين ومَن معها بمنطق القعقاع وحجته المقبولة؛ فقالت له: فماذا تقول أنت يا قعقاع؟ قال: "أقول: هذا أمر دواؤه التسكين، ولا بد مِن التأني في الاقتصاص مِن قتلة عثمان، فإذا انتهت الخلافات، واجتمعت كلمة الأمة على أمير المؤمنين تفرغ لقتلة عثمان، وإن أنتم بايعتم عليًّا واتفقتم معه، كان هذا علامة خير، وتباشير رحمة، وقدرة على الأخذ بثأر عثمان، وإن أنتم أبيتم ذلك، وأصررتم على المكابرة والقتال كان هذا علامة شر، وذهابًا لهذا الملك، فآثروا العافية تُرزقوها، وكونوا مفاتيح خير كما كنتم أولاً، ولا تُعرَّضونا للبلاء، فتتعرضوا له، فيصرعنا الله وإياكم، وايم الله إني لأقول هذا وأدعوكم إليه، وإني لخائف أن لا يتم، حتى يأخذ الله حجته مِن هذه الأمة التي قلَّ متاعها، ونزل بها ما نزل، فإنّ ما نزل بها أمر عظيم، وليس كقتل الرجل الرجل، ولا قتل النفر الرجل، ولا قتل القبيلة القبيلة".

وبعد هذه الكلمات العذبة والتي أخلص فيها القعقاع وافقوا على دعوته إلى الصلح، وقالوا له: قد أحسنتْ وأصبت المقالة، فارجع، فإن قدم علي، وهو على مثل رأيك، صلح هذا الأمر -إن شاء الله-.

وعاد القعقاع إلى علي -رضي الله عنهما- في ذي قار وقد نجح في مهمته، وأخبر عليًّا بما جرى معه، فأُعجب علي بذلك، وأوشك القوم على الصلح؛ كرهه مَن كرهه، ورضيه مَن رضيه، ثم أرسل علي -رضي الله عنه- رسولين إلى عائشة والزبير ومَن معهما يستوثق مما جاء به القعقاع بن عمرو، فجاءا عليًّا بأنه على ما فارقنا عليه القعقاع فأقدم، فارتحل علي حتى نزل بحيالهم، فنزلت القبائل إلى قبائلهم، مضر إلى مضر، وربيعة إلى ربيعة، واليمن إلى اليمن، وهم لا يشكون في الصلح، فكان بعضهم بحيال بعض، وبعضهم يخرج إلى بعض، ولا يذكرون ولا ينوون إلا الصلح, وكان أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- لما نوى الرحيل قد أعلن قراره الخطير: ألا وإني راحل غدًا فارتحلوا يقصد إلى البصرة، ألا ولا يرتحلن غدًا أحد أعان على عثمان بشيء في شيء مِن أمور الناس، وهكذا اتفق الطرفان على الصلح، وظهرت حقيقة نواياهم، ولكن قدر الله أسبق!

ونستكمل في المقال القادم -بمشيئة الله تعالى-.

ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــ

المراجع:

- فتنة مقتل عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، محمد غبان.

- تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسية، محمد سهيل طقوش.

- تاريخ الرسل والملوك للإمام الطبري.

- البداية والنهاية لابن كثير.

- أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- للصلابي.
- تضارب روايات الفتنة الكبرى، خالد كبير علال.

ابو وليد البحيرى
2021-01-22, 01:04 AM
صفحات مِن ذاكرة التاريخ (18)
موقعة الجمل "الأسباب والنتائج"






زين العابدين كامل

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد ذكرنا في المقال السابق ما اتفق عليه الطرفان مِن أمر الصلح، وذكرنا الدور العظيم الذي قام به القعقاع بن عمرو -رضي الله عنه- في إقناع أهل الكوفة.
دور السبئية في نشوب الحرب:
كان في عسكر علي -رضي الله عنه- مِن أولئك الطغاة الذين قتلوا عثمان -رضي الله عنه- مَن لم يُعرف بعينه، ومَن تنتصر له قبيلته، ومَن لم تقم عليه حجة بما فعله، ومَن في قلبه نفاق لم يتمكن مِن إظهاره, وحرص أتباع ابن سبأ على إشعال الفتنة وتأجيج نيرانها حتى يفلتوا مِن القصاص.
فلما نزل الناس منازلهم واطمأنوا؛ خرج علي وخرج طلحة والزبير -رضي الله عنهم- فتوافقوا وتكلموا فيما اختلفوا فيه فلم يجدوا أمرًا هو أمثل مِن الصلح وترك الحرب حين رأوا أن الأمر أخذ في الانقشاع، فافترقوا على ذلك، ورجع عليٌّ إلى عسكره، ورجع طلحة والزبير إلى عسكرهما، وأرسل طلحة والزبير إلى رؤساء أصحابهما، وأرسل علي إلى رؤساء أصحابه؛ ما عدا أولئك الذين حاصروا عثمان -رضي الله عنه-؛ فبات الناس على نية الصلح والعافية وهم لا يشكون في الصلح، فكان بعضهم بحيال بعض، وبعضهم يخرج إلى بعض، لا يذكرون ولا ينوون إلا الصّلح.
وبات الذين أثاروا الفتنة بشرِّ ليلة باتوها قط؛ إذ أشرفوا على الهلاك، وجعلوا يتشاورون ليلتهم كلها، حتى اجتمعوا على إنشاب الحرب في السرِّ، واستسروا بذلك خشية أن يُفتضح أمرهم، وقال قائلهم: أما طلحة والزبير فقد عرفنا أمرهما، وأما علي فلم نعرف أمره حتى كان اليوم؛ وذلك حين طلب مِن الناس أن يرتحلوا في الغد ولا يرتحل معه أحد أعان على عثمان بشيء، ورأي الناس فينا والله واحد، وإن يصطلحوا مع علي؛ فعلى دمائنا، وتكلم عبد الله بن سبأ فقال: يا قوم إن عزّكم في خلطة الناس فصانعوهم، وإذا التقى الناس غدًا فانشبوا القتال؛ فاجتمعوا على هذا الرأي بإنشاب الحرب في السّر.
وقبيل الفجر انقسم أهل الفتنة بالفعل إلى فريقين، ونفذوا ما تم الاتفاق عليه، فنهضوا مِن قبْل طلوع الفجر وهم قريب مِن ألفي رجل؛ فانصرف كل فريق إلى قراباتهم فهجموا عليهم بالسيوف، وقتلوا مجموعة كبيرة مِن الفريقين، وصاحوا وصرخوا أن كلاً مِن الفريقين: البصرة والكوفة قد هجم على الآخر(1)، وفزع الناس مِن نومهم إلى سيوفهم، وليس لديهم شك أن الفريق الآخر قد غدر بهم، ونقض ما اتفق عليه مِن وجوب الصلح؛ فثارت كل طائفة إلى قومهم ليمنعوهم، وقام الناس مِن منامهم إلى السلاح، فقالوا: طرقتنا أهل الكوفة ليلاً، وبيتونا وغدروا بنا، وظنوا أن هذا عن ملأ مِن أصحاب علي -رضي الله عنه-؛ فبلغ الأمر عليًّا فقال: ما للناس؟ فقالوا: بيتنا أهل البصرة، فثار كل فريق إلى سلاحه ولبسوا اللأمة وركبوا الخيول، وكان أمر الله قدرًا مقدورًا، وقامت الحرب على ساق وقدم، وتبارز الفرسان(2)، ولم يكن هناك أي فرصة للتثبت مِن الأمر في ظلام الليل, وفي الجانب الآخر ينادي طلحة وهو على دابته وقد غشيه الناس فيقول: يا أيها الناس أتنصتون؟ فجعلوا يركبونه ولا ينصتون، فما زاد أن قال: أف أف! فراش نار، وذباب طمع!
ومِن خلال هذا العرض يتبين أثر ابن سبأ وأعوانه في المعركة، ويتضح بما لا يدع مجالاً للشك حرص الصحابة -رضي الله عنهم- على الإصلاح وجمع الكلمة، وهذا هو الحق الذي تثبته النصوص وتطمئن إليه النفوس، ونحن قد ذكرنا سابقًا خطورة النفاق والمنافقين على المجتمع المسلم.
نشوب القتال بيْن الطرفين:
زاد السبئيون في الجيشين مِن جهودهم في إنشاب القتال، وإغراء كل فريق بخصمه وتهييجه على قتاله، ونشبت المعركة عنيفة قاسية، وكانت المعركة يوم الجمعة في السادس عشر مِن جمادى الآخرة، سنة ست وثلاثين في منطقة "الزابوقة" قرب البصرة، وحزن عليٌّ -رضي الله عنه- لِما جرى، ونادى مناديه: كفوا عن القتال أيها الناس، ولم يسمع نداءه أحدٌ؛ فالكل كان مشغولاً بقتال خصمه(3).
وكانت معركة الجمل على جولتين: الجولة الأولى كان قائدا جيش البصرة فيها طلحة والزبير، واستمرت مِن الفجر حتى قبيل الظهيرة, ونادى علي -رضي الله عنه- في جيشه، كما نادى طلحة والزبير -رضي الله عنهما- في جيشهما: لا تقتلوا مدبرًا، ولا تُجهزوا على جريح، ولا تلحقوا خارجًا مِن المعركة تاركًا لها(4)، وقد كان الزبير -رضي الله عنه- أوصى ابنه عبد الله بقضاء دينه فقال: إنه لا يقتل اليوم إلا ظالم أو مظلوم، وإني لا أراني إلا سأقتل مظلومًا، وإن أكبر همي دَيْنِي!(5).
وأثناء ذلك جاء رجل إلى الزبير -رضي الله عنه- وعرض عليه أن يقتل عليًّا -رضي الله عنه-، وذلك بأن يندس مع جيشه، ثم يفتك به، فأنكر عليه بشدة، وقال: لا؛ لا يفتك مؤمن بمؤمن، أو إن الإيمان قيَّد الفتك(6)، وهذا يدل على عدم عزمه على القتل، وقد تقابل أمير المؤمنين عليٌّ والزبير -رضي الله عنهما-، فكلمه عليٌّ و ذكَّره بحديث سمعه مِن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول له -أي الزبير-: (يَا زُبَيْرُ, أَمَا وَاللهِ لَتُقَاتِلَنَّه ُ وَأَنْتَ ظَالِمٌ لَهُ)(7)، وهنا قرر الزبير -رضي الله عنه- أن ينصرف، ويغادر أرض المعركة.
وبعض الروايات ترجع السبب في انصراف الزبير -رضي الله عنه- قبيل المعركة لما علم بوجود عمار بن ياسر -رضي الله عنه- في الصف الآخر، وقد ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (وَيْحَ عَمَّارٍ، تَقْتُلُهُ الفِئَةُ البَاغِيَةُ، يَدْعُوهُمْ إِلَى الجَنَّةِ، وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ)(8), وبعضها يرجع السبب في انصرافه إلى شكه في صحة موقفه مِن هذه الفتنة(9)، وفي رواية ترجع السبب في انصرافه إلى أن ابن عباس -رضي الله عنهما- ذكره بالقرابة القوية مِن علي -رضي الله عنه-؛ إذ قال له: أين صفية بنت عبد المطلب حيث تقاتل بسيفك علي بن أبي طالب بن عبد المطلب؟! فخرج الزبير مِن المعركة؛ فلقيه ابن جٌرمٌوز فقتله -كما سيأتي تفصيله بإذن الله-.
فالزبير -رضي الله عنه- كان على وعي لهدفه "وهو الإصلاح"، ولكنه لما رأى حلول السلاح مكان الإصلاح رجع ولم يقاتل، وعلى إثر هذا الحديث انصرف الزبير وترك الساحة(10).
وأما طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه- القائد الثاني لجيش البصرة؛ فقد أصيب في بداية المعركة إذ جاءه سهم غرب لا يعرف مَن رماه، فأصابه إصابة مباشرة، ونزف دمه بغزاره فقالوا له: يا أبا محمد، إنك لجريح؛ فاذهب وادخل البيوت لتعالَج فيها، فقال طلحة لغلامه: احملني، وابحث لي عن مكان مناسب، فأدخل البصرة، ووضع في دار فيها ليعالج، ولكن جرحه ما زال ينزف حتى توفي في البيت، ثم دفن في البصرة -رضي الله عنه-(11), وأما الرواية التي تشير إلى تحريض الزبير وطلحة -رضي الله عنهما- على القتال، وأن الزبير -رضي الله عنه- لما رأى الهزيمة على أهل البصرة ترك المعركة ومضى؛ فهذه الرواية لا تصح(12)، وهذا يخالف الروايات الصحيحة التي تنص على أن أصحاب الجمل ما خرجوا إلا للإصلاح؛ فكيف يستقيم هذا الفعل مِن الزبير -رضي الله عنه- مع الهدف الذي خرج مِن مكة إلى البصرة مِن أجله؛ ألا وهو الإصلاح بيْن الناس؟! وبالفعل فإن موقف الزبير -رضي الله عنه- كان السعي في الإصلاح حتى آخر لحظة، وكذلك طلحة؛ فقد جاءا مِن أجل الإصلاح وليس مِن أجل إراقة الدماء! وهكذا خرج الزبير -رضي الله عنه- مِن ميدان المعركة، ومات طلحة -رضي الله عنه-، وأما عن مقتل طلحة -رضي الله عنه-؛ فقد كان عند بدء القتال كما صرَّح بذلك الأحنف بن قيس(13).
وبسقوط القتلى والجرحى مِن الجانبين تكون قد انتهت الجولة الأولى مِن معركة الجمل، وكانت الغلبة فيها لجيش علي -رضي الله عنه-، وكان علي -رضي الله عنه- يراقب سير المعركة، ويرى القتلى والجرحى في الجانبين؛ فيتألم ويحزن، وأقبل علي على ابنه الحسن، وضمّه إلى صدره، وصار يبكي ويقول له: يا بُني، ليت أباك مات قبْل هذا اليوم بعشرين عامًا. فقال الحسن: يا أبتِ، لقد كنتُ نهيتك عن هذا، فقال علي: ما كنتُ أظن أن الأمر سيصل إلى هذا الحد، وما طعمُ الحياة بعد هذا؟ وأيُّ خير يُرجى بعد هذا؟!(14).
وصل الخبر إلى أم المؤمنين -رضي الله عنها- بما حدث مِن القتال، فخرجتْ على جملها تحيط بها القبائل الأزدية، ومعها كعب الذي دفعتْ إليه مصحفًا يدعو الناس إلى وقف الحرب؛ تقدمت أم المؤمنين -رضي الله عنها- وكلها أمل أن يسمع الناس كلامها لمكانتها في قلوب الناس؛ فتحجز بينهم وتطفئ هذه الفتنة التي بدأت تشتعل, وحمل كعب بن سور المصحف، وتقدم أمام جيش البصرة، ونادى جيش علي قائلاً: يا قوم، أنا كعب بن سور، قاضي البصرة، أدعوكم إلى كتاب الله، والعمل بما فيه، والصلح على أساسه. وخشي السبئيون في مقدمة جيش علي أن تنجح محاولة كعب فرشقوه بنبالهم رشقة رجل واحد، فمات والمصحف في يده(15)، وأصابت سهام السبئيين ونبالهم جمل عائشة -رضي الله عنها- وهودجها، فصارت تنادي، وتقول: يا بني، الله، الله، اذكروا الله ويوم الحساب، وكفوا عن القتال. والسبئيون لا يستجيبون لها! وهم مستمرون في ضرب جيش البصرة!
وكان علي -رضي الله عنه- مِن الخلف يأمر بالكف عن القتال، وعدم الهجوم على البصريين، لكن السبئيين في مقدمة جيشه لا يستجيبون له، ويأبون إلا إقدامًا وهجومًا وقتالاً، ولما رأت عائشة -رضي الله عنها- عدم استجابتهم لدعوتها، ومقتل كعب بن سور أمامها، قالت: أيها الناس، العنوا قتلة عثمان وأشياعهم. وصارت عائشة تدعو على قتلة عثمان وتلعنهم، وضج أهل البصرة بالدعاء على قتلة عثمان وأشياعهم، ولعنهم، وسمع علي الدعاء عاليًا في جيش البصرة فقال: ما هذا؟ قالوا: عائشة تدعو على قتلة عثمان، والناس يدعون معها. قال علي: ادعوا معي على قتلة عثمان وأشياعهم والعنوهم. وضجّ جيش علي بلعن قتل عثمان والدعاء عليهم(16), وقال علي: اللهم العن قتلة عثمان في السهل والجبل(17).
ثم اشتدت الحرب واشتعلت، وتشابك القوم وتشاجروا بالرماح، ثم استلوا السيوف فتضاربوا بها, ودنا الناس بعضهم مِن بعض(18), ووجَّه السبئيون جهودهم لعقر الجمل، وقتل عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها-؛ فسارع جيش البصرة لحماية عائشة -رضي الله عنها- وجملها، وقاتلوا أمام الجمل، وكان لا يأخذ أحد بخطام الجمل إلا قُتِل، حيث كانت المعركة أمام الجمل في غاية الشدة والقوة، حتى أصبح الهودج كأنه قٌنفٌذ(19) مما رمي فيه مِن النبل(20), وقتل حول الجمل كثير مِن المسلمين مِن الأزد، وبني ضبة، وأبناء وفتيان قريش بعد أن أظهروا شجاعة منقطعة النظير(21), وقد أصيبت عائشة -رضي الله عنها- بحيرة شديدة وحرج؛ فهي لا تريد القتال، ولكنه وقع رغمًا عنها،، وصارت تنادي بالكف، فلا مجيب، وكان كل مَن أخذ بخطام الجمل قُتل؛ فجاء محمد بن طلحة "السجاد"(22)، وأخذ بخطامه وقال لأمه -أم المؤمنين-: يا أماه ما تأمرين؟ فقالت: كن كخيري ابني آدم، أي كف يدك، فأغمد سيفه بعد أن سله، فُقتل -رحمه الله-(23), وأما عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- فقد قاتل قتالاً شديدًا، ورمى بنفسه بيْن السيوف، فقد استخرج مِن بيْن القتلى وبه بضع وأربعون ضربة وطعنة، كان أشدها وآخرها ضربة الأشتر؛ إذ مِن حنقه على ابن الزبير لم يرضَ أن يضربه وهو جالس على فرسه، بل وقف في الركابين فضربه على رأسه ظانًا أنه قتله(24)، واستحر القتل أيضًا في بني عدى وبني ضبة والأزد، وقد أبدى بنو ضبة حماسة وشجاعة وفداء لأم المؤمنين -رضي الله عنها-، وكان علي -رضي الله عنه- يردد: اللهم ليس هذا أردتُ، اللهم ليس هذا أردتُ!(25).
ثم فكر علي -رضي الله عنه- كيف يقف هذا القتال؟ وأيقن أن في بقاء الجمل استمرارًا للحرب، وهلاكًا للناس، وأن أصحاب الجمل لن ينهزموا أو يكفوا عن الحرب ما بقيت أم المؤمنين -رضي الله عنها- في الميدان، كما أن في بقائها خطرًا على حياتها؛ فالهودج الذي هي فيه أصبح كالقنفذ مِن السهام, فأمر علي نفرًا مِن جنده، منهم محمد بن أبي بكر "أخو أم المؤمنين" وعبد الله بن بديل أن يعرقبا(26) الجمل، ويخرجا عائشة -رضي الله عنها- مِن هودجها إلى الساحة، فعقروا الجمل, واحتمل أخوها محمد وعبد الله بن بديل الهودج حتى وضعاه أمام علي، فأمر به علي، فأدخل في منزل عبد الله بن بديل, وهنا بدأت الأمور تهدأ، وأخرجت أم المؤمنين مِن الميدان(27)، ولو لم يتخذ هذا الإجراء لاستمرت الحرب إلى أن يَفنى جيش البصرة أصحاب الجمل، أو ينهزم جيش علي -رضي الله عنه-.
وعندما بدأت الهزيمة نادى علي أو مناديه في جيشه: أن لا يتبعوا مدبرًا، ولا يجهزوا على جريح، ولا يغنموا إلا ما حمل إلى الميدان أو المعسكر مِن عتاد أو سلاح فقط، وليس لهم ما وراء ذلك مِن شيء، ونهاهم أن يدخلوا الدور؛ ليس هذا فحسب، بل قال لمن حاربه مِن أهل البصرة: مَن وُجد له شيئًا مِن متاع عند أحدٍ مِن أصحابه؛ فله أن يسترده!
وهكذا في أوقات الفتن تطيش العقول ولا يسمع أحدٌ أحدًا، وهكذا ظهر جليًّا أن القتال الذي وقع بيْن الصحب الكرام -رضي الله عنهم- وقع رغمًا عنهم.
ونستكمل ما حدث بعد انتهاء المعركة في المقال القادم -بإذن الله تعالى-.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــ
(1) محمد سهيل طقوش، تاريخ الخلفاء الراشدين، الفتوحات والإنجازات السياسية، ص440.
(2) سيف بن عمر الأسدي التَّمِيمي، الفتنة ووقعة الجمل، ص156.
(3) تاريخ الرسل والملوك للطبري ج5 ص 540.
(4) نفس المصدر ج5 ص544.
(5) رواه ابن أبي شيبة، أبو بكر بن أبي شيبة، عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن عثمان بن خواستي العبسي (المتوفى: 235هـ)، المصنف في الأحاديث والآثار، المحقق: كمال يوسف الحوت، الناشر: مكتبة الرشد - الرياض، الطبعة: الأولى: 1409، عدد الأجزاء: 7 ج7 ص541.
(6) أخرجه أحمد بن حنبل، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني (المتوفى: 241هـ)، مسند الإمام أحمد بن حنبل، المحقق: أحمد محمد شاكر، الناشر: دار الحديث - القاهرة، الطبعة: الأولى، 1416 هـ - 1995م، عدد الأجزاء: 8 ج3 ص19، ومعنى الحديث أن الإيمان يمنع مِن الفتك الذي هو القتل بعد الأمان غدرًا كما يمنع القيد مِن التصرف، انظر عون المعبود شرح سنن أبي داود، "باب في العدو يؤتى على غرة ويتشبه بهم".
(7) أخرجه الحاكم وغيره، وقد اختلف العلماء في صحته، وقال الألباني -رحمه الله- في السلسلة الصحيحة: "صحيح بمجموع طرقه"، وانظر: أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى: 852 هـ) المطَالبُ العَاليَةُ بِزَوَائِدِ المسَانيد الثّمَانِيَةِ، الناشر: دار العاصمة للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى: 1998م، عدد الأجزاء: 19 ج18 ص135.
(8) أخرجه البخاري، الجامع المسند الصحيح، حديث رقم 447.

(9) تاريخ الرسل والملوك للطبري، ج5 ص 506، وانظر: أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ص 572.
(10) محمد محمد حسن شٌراب، المدينة النبوية في فجر الإسلام والعصر الراشدي، دار القلم: دمشق، الطبعة الأولى، 1415هـ، عدد الأجزاء 3 ج2 ص 324.
(11) البداية والنهاية لابن كثير، ج7 ص 253.
(12) الطبري، المصدر السابق ج5 ص540.
(13) تاريخ خليفة بن خياط، أبو عمرو خليفة بن خياط بن خليفة الشيباني العصفري البصري (المتوفى:240هـ)، المحقق: د.أكرم ضياء العمري، الناشر: دار القلم مؤسسة الرسالة - دمشق، بيروت، الطبعة: الثانية، 1397هـ ص 185.
(14) البداية والنهاية لابن كثير ج7 ص 521.
(15) البداية والنهاية لابن كثير ج7 ص253.
(16) المصدر السابق ج7 ص 253.
(17) المصنف في الأحاديث والآثار لابن أبي شيبة،ج7 ص538.
(18) الطبقات لابن سعد، ج5 ص2.
(19) معنى تَقَنْفَذُ: تقبَّض. و(القُنْفُذ): دويْبَّة مِن الثَّدييات ذات شوك حادّ، يلتفُّ فيصير كالكرة، وبذلك يقي نفسه مِن خطر الاعتداء عليه. انظر المعجم الوسيط، ج2 ص760.
(20) تاريخ خليفة بن خياط ص 190.
(21) البداية والنهاية لابن كثير، ج7 ص 254.
(22) هو محمد بن طلحة بن عبيد الله الملقب بالسجاد لعبادته، والده هو طلحة بن عبيد الله أحد المبشرين بالجنة. وُلِدَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَقُتِلَ شَابّاً يَوْمَ الجَمَلِ, لَمْ يَزَلْ بِهِ أَبُوْهُ حَتَّى سَارَ مَعَهُ. وَأُمُّهُ: هِيَ حَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ، انظر سير أعلام النبلاء للذهبي، ج5 ص215.
(23) التاريخ الأوسط للبخاري، هو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري، أبو عبد الله (المتوفى: 256هـ)، المحقق: محمود إبراهيم زايد، الناشر: دار الوعي , مكتبة دار التراث - حلب , القاهرة، الطبعة الأولى 1397 هـ - 1977م، عدد الأجزاء: 2 ج1 ص185.

(24) المصنف في الأحاديث والآثار لابن أبي شيبة، ج7 ص 528، بسندٍ صححه ابن حجر في الفتح (13/ 57، 58).
(25) المصدر السابق،ج7 ص541.
(26) أي يضربا قوائم الجمل بالسيف.
(27) تاريخ الرسل والملوك للطبري، ج5 ص 540.

ابو وليد البحيرى
2021-03-01, 12:59 PM
صفحات مِن ذاكرة التاريخ (19)
موقعة الجمل "الأسباب والنتائج"

زين العابدين كامل


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد ذكرنا في المقال السابق دور السبئية في نشوب الحرب بيْن الطرفين بعد ما اتفقا على الصلح، وذكرنا بعض الأحداث التي وقعتْ في موقعة الجمل، وكيف تعامل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- مع جيش البصرة بعد انتهاء المعركة.

ونستكمل اليوم ما حدث بعد انتهاء المعركة.

نداء أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- بعد الحرب:

وبعد أن هدأت الأمور وانتهت الحرب، وأُخرجتْ أم المؤمنين عائشة مِن الميدان، نادى منادي علي: أن لا يجهزوا على جريح، ولا يتبعوا مدبرًا، ولا يدخلوا دارًا، ومَن ألقى السلاح فهو آمن، ومَن أغلق بابه فهو آمن، وليس لجيشه مِن غنيمة، ونادى منادي أمير المؤمنين فيمن حاربه مِن أهل البصرة مَن وجد شيئًا مِن متاعه عند أحدٍ مِن جنده؛ فله أن يأخذه.

وقد ظن بعض الناس في جيش علي أن عليًّا -رضي الله عنه- سيقسم بينهم السبي، فتكلموا به ونشروه بيْن الناس، ولكن سرعان ما فاجأهم علي -رضي الله عنه-، حين أعلن في ندائه: وليس لكم أم ولد، والمواريث على فرائض الله، وأي امرأة قُتل زوجها؛ فلتعتد أربعة أشهر وعشرًا. فقالوا مستنكرين متأولين: يا أمير المؤمنين تحل لنا دماؤهم، ولا تحل لنا نساؤهم؟ فقال علي -رضي الله عنه-: كذلك السيرة في أهل القبلة، ثم قال: فهاتوا سهامكم وأقرعوها على عائشة -رضي الله عنها- فهي رأس الأمر وقائدهم، ففي سهم مَن تكون السيدة عائشة؟! فبهتهم بهذا القول، فتركوه، وانصرفوا. وقالوا: نستغفر الله، وتبيَّن لهم أن قولهم وظنهم خطأ فاحش، ولكن ليرضيهم قسم عليهم -رضي الله عنه- مِن بيت المال خمسمائة خمسمائة(1).

وبعد انتهاء المعركة خرج علي -رضي الله عنه- يتفقد القتلى مع نفر مِن أصحابه، فأبصر محمد بن طلحة "السجاد" فقال: إنا لله، وإنا إليه راجعون، أما والله لقد كان شابًا صالحًا، ومر علي -رضي الله عنه- على طلحة -رضي الله عنه- بعد ما قٌتل، فجعل علي يَمسح التراب عن وجهه ويبكي ويقول: "عزيز علي أبا محمد أن أراك مجندلاً في التراب تحت نجوم السماء!"، ثم قال: "إلى الله أشكو عجري وبجري"(2).

وبعد خروج الزبير بن العوام -رضي الله عنه- مِن المعركة تبعه عمرو بن جرموز فهجم عليه فقتله ثم احتز رأسه وذهب إلى عليٍّ، ورأى أن ذلك يحصل له به حظوة عنده فاستأذن للدخول على علي، فقال عليُّ -رضي الله عنه-: "بَشِّرْ قَاتِلَ ابْنِ صَفِيَّةَ بِالنَّارِ"، ثُمَّ قَالَ عَلِيٌّ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: (إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا، وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ)(3).

ولما رأى علي -رضي الله عنه- سيف الزبير -رضي الله عنه- قال: إن هذا السيف طالما فرَّج الكرب عن وجه رسول الله, وفي رواية: منع أمير المؤمنين علي ابن جرموز مِن الدخول عليه، وقال: بشر قاتل ابن صفية بالنار(4)، ثم صلى علي -رضي الله عنه- على قتلى الفريقين، ثم قعد علي كئيبًا حزينًا ودعا للقتلى بالمغفرة، وترحم عليهم وأثنى على عددٍ منهم بالخير والصلاح, وعاد إلى منزله فإذا امرأته وابنتاه يبكين على عثمان وقرابته، والزبير وطلحة وغيرهم مِن أقاربهم القرشيين. فقال لهن: إني لأرجو أن نكون مِن الذين قال الله فيهم: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ ) (الحجر:47)، وهكذا مرَّت الأحداث الجسام، إنها حقـًّا فتنة عظيمة مرَّت على الأمة، وواجهت القبائل المختلفة بعضها بعضًا في رحى معركة ضارية، مضر البصرة واجهت مضر الكوفة، وربيعة البصرة واجهت ربيعة الكوفة، ويمن البصرة واجهت يمن الكوفة، ووجدت القبائل نفسها في أتون معركة تدفع ثمنها مِن أرواح أبنائها(5).

مبايعة أهل البصرة:

كان أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- حريصًا على وحدة الصف، واحترام الجميع، ومعاملتهم المعاملة الكريمة، وكان لهذه المعاملة أثر بالغ في مبايعة أهل البصرة لأمير المؤمنين علي، وكان أمير المؤمنين قد وضع الأسرى في مساء يوم الجمل في موضع خاص، فلما صلى الغداة طلب موسى بن طلحة بن عبيد الله، فقربه ورحب به وأجلسه بجواره وسأله عن أحواله وأحوال إخوته، ثم قال له: إنا لم نقبض أرضكم هذه ونحن نريد أن نأخذها، إنما أخذناها مخافة أن ينتهبها الناس، ودفع له غلتها، وكذلك فعل مع أخيه عمران بن طلحة فبايعاه، فلما رأى الأسارى ذلك دخلوا على علي -رضي الله عنه- يبايعونه، فبايعهم وبايع الآخرين على راياتهم قبيلة قبيلة(6).

كما سأل عن مروان بن الحكم وقال: يعطفني عليه رحم ماسة، وهو مع ذلك سيد مِن شباب قريش، وقد أرسل مروان إلى الحسن والحسين وابن عباس -رضي الله عنهم- ليكلموا عليًّا فقال علي: هو آمن فليتوجه حيث شاء، وقد أثنى مروان -رضي الله عنه- على أفعال أمير المؤمنين علي فقال لابنه الحسن: ما رأيتُ أكرم غلبة مِن أبيك، ما كان إلا أن ولَّينا يوم الجمل حتى نادى مناديه: ألا لا يتبع مدبر، ولا يذفف على جريح(7)، وبذلك تمتْ بيعة أهل البصرة لأمير المؤمنين علي، وولى عليهم ابن عمه عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-(8)، وقد جاء عبد الرحمن بن أبي بكرة الثقفي إلى أمير المؤمنين فبايعه فقال له علي: أين المريض؟ -يعني أباه- فقال: إنه والله مريض يا أمير المؤمنين، وإنه على مسرتك لحريص. فقال: امشِ أمامي، فمضى إليه فعاده، واعتذر إليه أبو بكرة فعذره، وعرض عليه البصرة فامتنع وقال: رجل مِن أهلك يسكن إليه الناس، وأشار عليه بابن عباس فولاه على البصرة، وجعل معه زياد بن أبيه على الخراج وبيت المال، وأمر ابن عباس أن يسمع مِن زياد(9).

وجاء أمير المؤمنين إلى الدار التي فيها أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-، فاستأذن وسلَّم عليها ورحبت به، وإذا النساء في دار بني خلف يبكين على مَن قُتل، منهم عبد الله وعثمان ابنا خلف، فعبد الله قتل مع عائشة، وعثمان قتل مع علي، فلما دخل علي قالت له صفية امرأة عبد الله، أم طلحة: أيتم الله منك أولادك كما أيتمت أولادي. فلم يرد عليها علي شيئًا، فلما خرج أعادت عليه المقالة أيضًا فسكت، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين أتسكت عن هذه المرأة وهي تقول ما تسمع؟ فقال: ويحك إنا أمرنا أن نكف عن النساء وهن مشركات، أفلا نكف عنهن وهن مسلمات؟!(10).

أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- يرد عائشة -رضي الله عنها- إلى مأمنها:

جهز أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- عائشة -رضي الله عنها- بكل شيء ينبغي لها مِن مركبٍ وزاد ومتاع، وأخرج معها مَن نجا ممن خرج معها إلا مَن أحب المقام، واختار لها أربعين امرأة مِن نساء أهل البصرة المعروفات لمرافقتها في السفر، فلما كان اليوم الذي ترتحل فيه جاءها حتى وقف لها، وخرجتْ مِن الدار في الهودج، فودعت الناس ودعت لهم وقالت: "يا بني، لا يغتب بعضكم بعضًا، إنه والله ما كان بيني وبين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- في القديم إلا ما يكون بيْن المرأة وأحمائها، وإنه لمن الأخيار"، فقال علي -رضي الله عنه-: صدقت، والله ما كان بيني وبينها إلا ذلك، وإنها زوجة نبيكم -صلى الله عليه وسلم- في الدنيا والآخرة. وخرجتْ يوم السبت لغرة رجب سنة ست وثلاثين، وشيعها علي أميالاً، وسرح بنيه معها يومًا(11).

وبتلك المعاملة الكريمة مِن أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- نراه قد اتبع ما أوصاه به نبي الأمة -صلى الله عليه وسلم- عندما قال له: (إِنَّهُ سَيَكُونُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ عَائِشَةَ أَمْرٌ)، قَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: (نَعَمْ)، قَالَ: أَنَا؟ قَالَ: (نَعَمْ)، قَالَ: فَأَنَا أَشْقَاهُمْ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: (لَا، وَلَكِنْ إِذَا كَانَ ذَلِكَ فَارْدُدْهَا إِلَى مَأْمَنِهَا)(12).

هذا وقد ظهر موقف أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- ممن ينال مِن عائشة -رضي الله عنها-؛ فلقد جاء إليه رجل وقال: يا أمير المؤمنين، إن على الباب رجلين ينالان مِن عائشة، فأمر علي القعقاع بن عمرو أن يجلد كل واحد منهما مائة، وأن يخرجهما مِن ثيابهما, وقد قام القعقاع بذلك(13)، وقد ندمت عائشة -رضي الله عنها- على خروجها، وكانت إذا قرأت قوله -تعالى-: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) (الأحزاب:33)، تبكي حتى تبل خمارها، وكانت كلما تذكرت الجمل قالت: "وددتُ أني كنتُ جلستُ كما جلس صواحبي"(14).

تاريخ معركة الجمل:

كانت هذه الموقعة في شهر جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين مِن الهجرة، وقد اختلف المؤرخون في اليوم الذي وقعتْ فيه.

عدد القتلى: أسفرت هذه الحرب الشديدة عن عددٍ مِن القتلى اختلفت وتباينت في تقديره الروايات, ذكر الطبري في تاريخه عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: كان قتلى الجمل حول الجمل عشرة آلاف، نصفهم مِن أصحاب علي، ونصفهم مِن أصحاب عائشة، مِن الأزد ألفان، ومِن سائر اليمن خمسمائة، ومِن مضر الفان، وخمسمائة مِن قيس، وخمسمائة مِن تميم، وألف مِن بني ضبة، وخمسمائة مِن بكر بن وائل. وقيل: قتل مِن أهل البصرة في المعركة الأولى خمسة آلاف، وقتل مِن أهل البصرة في المعركة الثانية خمسة آلاف، فذلك عشرة آلاف قتيل مِن أهل البصرة، ومِن أهل الكوفة خمسة آلاف. قالا: وقتل مِن بني عدي يومئذٍ سبعون شيخًا، كلهم قد قرأ القرآن، سوى الشباب ومَن لم يقرأ القرآن(15).

وقال قتادة: إن قتلى يوم الجمل عشرون ألفًا. وأما اليعقوبي فقد جاوز هؤلاء جميعًا؛ إذ وضع عدد القتلى اثنين وثلاثين ألفًا(16)، هذا وقد أورد خليفة بن خياط بيانًا بأسماء مَن حُفظ مِن قتلى يوم الجمل فكانوا قريبًا مِن المائة(17), فلو فرضنا أن عددهم كان مائتين وليس مائة، فإن هذا يعنى أن قتلى معركة الجمل لا يتجاوز المائتين. وهذا هو الرقم الذي ترجَّح لدى خالد بن محمد الغيث في رسالته "استشهاد عثمان ووقعة الجمل في مرويات سيف بن عمر في تاريخ الطبري - دراسة نقدية"(18).

وعلى أي الأحوال فالذين قُتلوا يوم الجمل عدد ليس بقليل، فزوال الدنيا عند الله -تعالى- أهون مِن سفك دم مسلم واحد.

وهكذا نتعلم مِن التاريخ أنه في وقت الفتن تطيش العقول، ولا يسمع أحدٌ أحدًا، وإذا تأملنا أحداث موقعة الجمل، نرى أنه كان مِن الصعوبة بمكان أن يسيطر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- على الأحداث، وذلك لوجود عددٍ مِن السبئية في الصف ممن يهيجون المشاعر وينشرون الفتن، وإذا تعالت الأصوات وكثر الصراخ بيْن الناس وكثرت الشائعات في المجتمع، أدى كل ذلك إلى ضعف صوت العقل، فلا يسمعه إلا القليل مِن الناس ومما نتعلمه مِن هذه الأحداث التاريخية أن الحماس وحده لا يكفي، وأن الإخلاص وحده لا يكفي أيضًا، بل لابد مِن مراعاة الواقع والترجيح ما بيْن المصالح والمفاسد، ولا بد مِن تحمل الضرر الخاص لرفع الضرر العام، فالشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها, وتعطيل المفاسد وتقليلها، ولا بد مِن تفعيل قاعدة فقه المآلات؛ فلقد قلَّ بيْن الناس مَن ينظر بعين العقل إلى عواقب الأمور.

ونستكمل في المقال القادم -بمشيئة الله تعالى-.

ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــ

(1) المصنف في الأحاديث والآثار لابن أبي شيبة ج7 ص 550.

(2) أي همومي وأحزاني وغُمُومِي، انظر ابن منظور، لسان العرب ج4 ص40.

(3) رواه أحمد والحاكم، وحسنه ابن حجر.

(4) البداية والنهاية لابن كثير (7/ 261).

(5) تاريخ الرسل والملوك للطبري، ج5 ص 541، والمصنف لابن أبي شيبة (7/540).

(6) الطبقات لابن سعد ج3 ص 224.

(7) الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي للماوردي، وهو شرح مختصر المزني.

(8) سيف بن عمر الأسدي التَّمِيمي، الفتنة ووقعة الجمل، ص 181.

(9) البداية والنهاية ج7 ص 357.

(10) البداية والنهاية ج7 ص 356.

(11) السيرة النبوية وأخبار الخلفاء لابن حبان.

(12) مسند أحمد (6/ 393)، إسناده حسن، وانظر فتح الباري لابن حجر ج13 ص 55.

(13) البداية والنهاية لابن كثير ج7 ص 358.

(14) سير أعلام النبلاء للذهبي (2/ 177)، وانظر فتح الباري لابن حجر ج13 ص 55.

(15) تاريخ الرسل والملوك للطبري ج5 ص 542.


(16) المصنف في الأحاديث والآثار لابن أبي شيبة ج7 ص 546.

(17) تاريخ خليفة بن خياط ص 191.

(18) أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، للصلابي، ص 579.

ابو وليد البحيرى
2021-03-19, 01:47 PM
صفحات مِن ذاكرة التاريخ (20)
موقعة صفين (37هـ) "الأسباب والنتائج"
زين العابدين كامل


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فبعد أحداث الجمل بايع أهل البصرة جميعًا عليًّا -رضي الله عنه-، سواء مَن كانوا معه أو مَن كانوا عليه، وتمكَّن -رضي الله عنه- مِن الأمور، ثم ترك البصرة وتوجَّه إلى الكوفة التي كان أغلب جيشه منها، ومكث -رضي الله عنه- في الكوفة ليسيطر على الأمور، ودانت له البصرة والكوفة.

أما مصر فقد كان على إمرتها أثناء خلافة عثمان -رضي الله عنه- عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وقد خرج بجيشه مِن مصر متوجهًا لنجدة عثمان -رضي الله عنه-، ولكنه لما علم بمقتله توجَّه إلى الشام، فأرسل علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قيس بن سعد أحد رجالاته إلى مصر للسيطرة على الأمور، فذهب ومعه مجموعة مِن الرجال وسيطر عليها، وصعد المنبر وأعلن أنه يبايع عليًّا -رضي الله عنه-؛ فبايعه أهل مصر.

وقد كان النعمان بن بشير -رضي الله عنه- قد خرج إلى الشام ومعه قميص عثمان مضمخ بالدماء، ومعه أصابع نائلة التي أصيبت حين دافعت عنه بيدها إلى معاوية في بلاد الشام(1)؛ فلما رأى معاوية القميص بكى ووضع القميص على المنبر(2)، وكتب بالخبر إلى الأجناد، وثاب إليه الناس، وبكوا سنة وهو على المنبر والأصابع معلقة فيه، وآلى الرجال مِن أهل الشام ألا يأتوا النساء، ولا يمسهم الماء للغسل إلا مِن احتلام، ولا يناموا على الفرش حتى يقتلوا قتلة عثمان، أو تفنى أرواحهم فمكثوا حول القميص سنة(3)، وكان معاوية -رضي الله عنه- يرى أنه ولي دم عثمان، وأنه لا بدّ مِن إقامة القصاص على هؤلاء القتلة، وأنه لا يجوز له بحالٍ أن يقصّر في هذا الأمر، وكان معاوية -رضي الله عنه-، واليًا على الشام في عهد عمر وعثمان -رضي الله عنهما-.

ولما تولى الخلافة عليٌّ أراد عزله وتولية عبد الله بن عمر، فاعتذر عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-؛ فأرسل عليٌّ سهل بن حنيف -رضي الله عنه- بدلاً منه؛ إلا أنه ما كاد يصل مشارف الشام "وادي القرى" حتى عاد مِن حيث جاء؛ إذ لقيته خيل لمعاوية عليها حبيب بن مسلمة الفهري، فقالوا له: إن كان بعثك عثمان فحيهلا بك وإن كان بعثك غيره فارجع(4)؛ لقد امتنع معاوية وأهل الشام عن البيعة ورأوا أن يقتص علي -رضي الله عنه- مِن قتلة عثمان ثم يدخلون البيعة, وقالوا: لا نبايع مَن يأوي القتلة(5).

لقد كان الحرص الشديد على تنفيذ حكم الله في القتلة السبب الرئيسي في رفض أهل الشام بزعامة معاوية بن أبي سفيان بيعة علي بن أبي طالب، ورأوا أن تقديم حكم القصاص مقدَّم على البيعة، وليس لرغبة معاوية في ولاية الشام، أو طلبه ما ليس له بحق؛ إذ كان يدرك إدراكًا تامًا أن هذا الأمر في بقية الستة مِن أهل الشورى، وأن عليًّا أفضل منه وأولى بالأمر منه, وقد انعقدت البيعة له بإجماع الصحابة بالمدينة، وكان اجتهاد معاوية يخالف الصواب.

وقد بعث علي -رضي الله عنه- كتبًا كثيرة إلى معاوية -رضي الله عنه- فلم يرد عليه جوابها، وتكرر ذلك مرارًا إلى الشهر الثالث مِن مقتل عثمان في صفر ثم بعث معاوية كتابًا مع رجل، فدخل به على علي فقال له علي: ما وراءك؟ قال: جئتك مِن عند قومٍ لا يريدون إلا القود -القاتل بالقتيل-، كلهم موتور-رَجُلٌ مَوْتُورٌ: مَنْ قُتِلَ لَهُ قَرِيبٌ وَلاَ قُدْرَةَ لَهُ عَلَى أَخْذِ ثَأْرِهِ، ورَجُلٌ مَوْتُورٌ: عصبي مشدود-، تركتُ ستين ألف شيخ يبكون تحت قميص عثمان، وهو على منبر دمشق، فقال علي: اللهم إني أبرأ إليك مِن دم عثمان.

وبعد وصول رد معاوية لأمير المؤمنين علي، عزم الخليفة على قتال أهل الشام؛ فكتب إلى قيس بن سعد بمصر يستنفر الناس لقتالهم، وإلى أبي موسى بالكوفة، وبعث إلى عثمان بن حُنيف بذلك، وخطب الناس فحثّهم على ذلك، وعزم على التجهز، وخرج مِن المدينة واستخلف عليها قُثم بن العباس، وهو عازم أن يقاتل بمَن أطاعه مَن عصاه وخرج مِن أمره ولم يبايعه مع الناس، وجاء إليه ابنه الحسن بن علي، فقال: يا أبه دَعْ هذا فإنّ فيه سفك دماء المسلمين، ووقوع الاختلاف بينهم، فلم يقبل منه ذلك، بل صمم على القتال(6)، وجهز جيشًا ضخمًا اختلفت الروايات في تقديره(7)؛ فهناك مَن قال: مائة وخمسون ألفًا أو يزيدون، وهناك مَن قال: مائة وعشرون ألفًا، وقدر عند البعض بتسعين ألفًا، وفي رواية أخرى قدر بخمسين ألفًا، لكنه توجه في النهاية إلى الكوفة، وليس إلى الشام؛ نظرًا لما ذكرنا مِن خروج عائشة وطلحة والزبير -رضي الله عنهم- إلى البصرة، وقد بعث علي -رضي الله عنه- إلى جرير بن عبد الله، وكان على همذان مِن زمان عثمان، وإلى الأشعت بن قيس وهو على نيابة أذربيجان مِن أيام عثمان يأمرهما أن يأخذا البيعة له على مَن هُنالك ثم يُقبلان إليه؛ ففعلا ذلك.

فلما أراد علي أن يبعث إلى معاوية -رضي الله عنها- يدعوه إلى بيعته، قال جرير بن عبد الله البجلي: أنا أذهب إليه يا أمير المؤمنين، فإنّ بيني وبينه وُدًا، فآخذ لك البيعة منه، فبعثه وكتب معه كتابًا إلى معاوية يعلمه باجتماع المهاجرين والأنصار على بيعته، ويخبره بما كان في وقعة الجمل، ويدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه الناس، فلمّا انتهى إليه جرير بن عبد الله، أعطاه الكتاب وطلب معاوية عمرو بن العاص ورءوس أهل الشام فاستشارهم، فأبوا أن يبايعوا حتى يَقتل قتلة عثمان، أو أن يسلِّم إليهم قتلة عثمان، وإن لم يفعل قاتلوه ولم يبايعوه حتى يقتلهم عن آخرهم، فرجع جرير إلى علي فأخبره بما قالوا، فقرر علي -رضي الله عنه- أن يقاتل بمَن أطاعه مَن عصاه، وخرج مِن أمره ولم يبايعه مع الناس(8).

خروج أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- إلى بلاد الشام:

خرج علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- مِن الكوفة، وعسكر في منطقة النخيلة(9) خارج الكوفة؛ فتوافدت عليه القبائل مِن شتى إقليم العراق وأرسل علي -رضي الله عنه- مقدمة جيشه نحو الشام، وتقدمت هذه المقدمة، حتى تجاوزت نهر الفرات، ووصلت إلى منطقة تُسمّى "صفين"(10)، وتتبع علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- المقدمة بجيشه، وكانت قد أتته الأخبار بأن معاوية قد خرج لملاقاته وعسكر بصفين، فتقدم علي إلى الرقة(11), وعبر منها الفرات غربًا، ونزل على صفين(12).

خروج معاوية -رضي الله عنه- إلى صفين:

كان معاوية -رضي الله عنه- جادًا في مطاردة قتلة عثمان، وكان أهل الشام قد بايعوا معاوية على الطلب بدم عثمان، -رضي الله عنه-، والقتال, وقد قام عمرو بن العاص، -رضي الله عنه-، بتجهيز الجيش وعقد الألوية، وسار معاوية في جيش ضخم، اختلفت الروايات في تقديره(13)، فقدر بمائة ألف وعشرين ألفًا, وقدر بسبعين ألف مقاتل، وقدر بأكثر مِن ذلك بكثير.

ولا شك أن هناك بعض الناس حول معاوية يشعلون الموقف ولهم رغبات متعددة، وكذلك في جيش علي أيضًا، ثم وصل جيش علي -رضي الله عنه- إلى صفين، حيث عسكر معاوية، وفوجئ جيش العراق بمنع معاوية عنهم الماء، فهرع البعض إلى علي -رضي الله عنه- يشكون إليه هذا الأمر، فأرسل علي إلى الأشعث بن قيس فخرج في ألفين ودارت أول معركة بيْن الفريقين انتصر فيها الأشعث واستولى على الماء(14)؛ إلا أنه قد وردت رواية تنفي وقوع القتال في أصله مفادها أن الأشعث بن قيس جاء إلى معاوية، فقال: الله، الله يا معاوية في أمة محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، هبوا أنكم قتلتم أهل العراق، فمن للبعوث والذراري؟! إن الله يقول: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) (الحجرات:9)، قال معاوية: فما تريد؟ قالوا: خلوا بيننا وبيْن الماء. فقال لأبي الأعور: خلَّ بيْن إخواننا وبين الماء(15)، وهذه الرواية هي الأوثق والأرجح.

وأريد أن أذكر بعض الروايات التي تؤكد على أن معاوية -رضي الله عنه- لم يقاتل مِن أجل خلافة أو رئاسة كما زعم البعض(16)، وإنما مِن أجل دم عثمان -رضي الله عنه-، ويتضح موقفه وهو يحاور بعض رجاله مما توضحه الرواية التالية: "جاء أبو مسلم الخولاني وناس معه إلى معاوية، فقالوا له: أنت تنازع عليًّا أم أنت مثله؟ فقال معاوية: لا والله، إني لأعلم أن عليًّا أفضل مني، وإنه لأحقُّ بالأمر مني، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قُتل مظلومًا، وأنا ابن عمه، وإنما أطلب بدم عثمان، فأتوه فقولوا له فليدفع إليَّ قتلة عثمان وأسلِّمُ له، فأتوا عليًّا فكلموه بذلك فلم يدفعهم إليه"(17). وكان معاوية يؤكد على هذا المعنى: "ما قاتلتُ عليًّا إلا في أمر عثمان"(18).

وقد رأى معاوية أنه ولي دم عثمان -رضي الله عنه-؛ لأنه صار رأس بني أمية مكانه، والأحاديث النبوية تدل على أن عثمان يُقتل مظلومًا، بل تذكر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أوصاه بأن لا يخلع نفسه مِن الخلافة، ووصف الثائرين عليه بالمنافقين(19).

وقد قال الجويني -رحمه الله-: "وَمُعَاوِيَة وَإِن قَاتل عليًّا فَإِنَّهُ كَانَ لَا يُنكر إِمَامَته وَلَا يدعيها لنَفسِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ يطْلب قتلة عُثْمَان -رضي الله عنه- ظَانّا أَنه مُصِيب"(20).

وقال ابن حزم -رحمه الله-: "وَلم يُنكر مُعَاوِيَة قطّ فضل عَليّ واستحقاقه الْخلَافَة، لَكِن اجْتِهَاده أداه إِلَى أَن رأى تَقْدِيم أَخذ الْقود مِن قتلة عُثْمَان -رضي الله عنه- على الْبيعَة، وَرَأى نَفسه أَحَق بِطَلَب دم عُثْمَان(21)".

وخرج أبو الدرداء وأبو أمامة -رضي الله عنهما- فدخلا على معاوية -رضي الله عنه- فقالا له: يا معاوية على ما تقاتل هذا الرجل؟ فوالله إنه أقدم منك ومِن أبيك إسلامًا، وأقرب منك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأحق بهذا الأمر منك. فقال: أقاتله على دم عثمان وأنه آوى قتلته، فاذهبا إليه فقولا له فليقدنا مِن قتلة عثمان، ثم أنا أول مَن بايعه مِن أهل الشام، فذهبا إلى علي فقالا له ذلك فقال: هؤلاء الذين تريان، فخرج خلق كثير فقالوا: كلنا قتلة عثمان فمَن شاء فليرمنا. قال: فرجع أبو الدرداء وأبو أمامة فلم يشهدا لهم حربًا(22).

ومِن اعتقاد أهل السُّنة والجماعة أن ما جرى بيْن معاوية وعلي -رضي الله عنهما- مِن الحروب فَلم يكن لمنازعة مُعَاوِيَة لعَلي فِي الْخلَافَة للْإِجْمَاع على حقيتها لعَلي كَمَا مر، فَلم تهج الْفِتْنَة بِسَبَبِهَا، وَإِنَّمَا هَاجَتْ بِسَبَب أَن مُعَاوِيَة وَمَن مَعَه طلبُوا مِن عَليّ تَسْلِيم قتلة عُثْمَان إِلَيْهِم لكَون مُعَاوِيَة ابْن عَمه فَامْتنعَ عَليّ ظنا مِنْهُ أَن تسليمهم إِلَيْهِم على الْفَوْر مَعَ كَثْرَة عَشَائِرهمْ واختلاطهم بعسكر عَليّ يُؤَدِّي إِلَى اضْطِرَاب وتزلزل فِي أَمر الْخلَافَة الَّتِي بهَا انتظام كلمة أهل الْإِسْلَام سِيمَا وَهِي فِي ابتدائها لم يستحكم الْأَمر فِيهَا؛ فَرَأي عَليّ -رضي الله عنه- أَن تَأْخِير تسليمهم أصوب إِلَى أَن يرسخ قدمه فِي الْخلَافَة ويتحقق التَّمَكُّن مِن الْأُمُور فِيهَا(23).

وقد قام معاوية -رضي الله عنه- خطيبًا فقال: أيها الناس! قد علمتم أني خليفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وأني خليفة أمير المؤمنين عثمان عليكم، وأني ولي عثمان وابن عمه، قال الله الله -تعالى- في كتابه: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا) (الإسراء:33)، وقد علمتم أنه قـُتل مظلومًا، وأنا أحب أن تعلموني ذات أنفسكم في قتل عثمان، فقال أهل الشام بأجمعهم: بل نطلب بدمه، فأجابوه إلى ذلك وبايعوه، ووثقوا له أن يبذلوا في ذلك أنفسهم وأموالهم، أو يدركوا بثأره، أو يفني الله أرواحهم قبْل ذلك(24).

وهنا نؤكد على ما أكده الدليل النبوي، وكذا علماء الأمة، أن الحق كان مع أمير المؤمنين على -رضي الله عنه- وأن معاوية -رضي الله عنه- اجتهد وتأول فأخطأ، فعَنْ زِيَادِ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: كُنْتُ إِلَى جَنْبِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ بِصِفِّينَ, وَرُكْبَتِي تَمَسُّ رُكْبَتَهُ, فَقَالَ رَجُلٌ: كَفَرَ أَهْلُ الشَّامِ, فَقَالَ عَمَّارٌ: "لَا تَقُولُوا ذَلِكَ، نَبِيُّنَا وَنَبِيُّهُمْ وَاحِدٌ, وَقِبْلَتُنَا وَقِبْلَتُهُمْ وَاحِدَةٌ، وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ مَفْتُونُونَ جَارُوا عَنِ الْحَقِّ، فَحَقَّ عَلَيْنَا أَنْ نُقَاتِلَهُمْ حَتَّى يَرْجِعُوا إِلَيْه" (أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، ج8 ص 277).

"وهكذا إذا وجدت الدماء؛ ظهرت بدعة المبتدع، وظهر الفكر المنحرف، وظهرت العقائد الفاسدة؛ فهذا الرجل كفر أهل الشام دون بينة أو دليل، وهذا ما يحدث اليوم مِن التساهل والتسرع في تكفير الناس بلا برهان ولا دليل؛ لذا وجب على أهل السُّنة أن يقفوا أمام هذه البدع لا سيما في أوقات الفتن وإذا سالت الدماء، وأن يبينوا الحق للناس.

وعمار هذا الذي قال فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، عن أَبِي سَعِيدٍ الخدري في ذكر بِنَاءِ المَسْجِدِ، قَالَ: "كُنَّا نَحْمِلُ لَبِنَةً لَبِنَةً، وَعَمَّارٌ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ، فَرَآهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَيَنْفُضُ التُّرَابَ عَنْهُ، وقال: (وَيْحَ عَمَّارٍ، تَقْتُلُهُ الفِئَةُ البَاغِيَةُ، يَدْعُوهُمْ إِلَى الجَنَّةِ، وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ) قَالَ: يَقُولُ عَمَّارٌ: "أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الفِتَنِ" (رواه البخاري).

وقال ابن كثير -رحمه الله-: "ولكن كان علي وأصحابه أدنى الطائفتين إلى الحق مِن أصحاب معاوية، وأصحاب معاوية كانوا باغين عليهم"(25)، وقد كان الصحابة -رضي الله عنهم- يوم صفين يتبعون عمارًا؛ لعلمهم بأنه مع الفئة العادلة(26).

وهذا يدل على صحة إمامة علي -رضي الله عنه- ووجوب طاعته، وأن الداعي إلى طاعته داعٍ إلى الجنة، وأن الداعي إلى مقاتلته داع إلى النار، وإن كان متأولاً أو باغيًا بلا تأويل(27).

ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــ

(1) البداية والنهاية لابن كثير (7/ 539).

(2) المصدر السابق،ج7 ص 540.

(3) تاريخ الرسل والملوك للطبري ج5 ص 621.

(4) البداية والنهاية لابن كثير (7/ 129).

(5) العواصم مِن القواصم ص (162).

(6) البداية والنهاية لابن كثير (7/ 240، 241).

(7) هناك مَن قال: مائة وخمسون ألفًا أو يزيدون، البداية والنهاية (7/ 260)، مائة وعشرون ألفًا: المعرفة والتاريخ (3/ 13) بسندٍ منقطع، وقدر بتسعين ألفًا: تاريخ خليفة بن خياط ص (193)، وفي رواية أخرى: بخمسين ألفًا.

(8) البداية والنهاية لابن كثير (7/280).

(9) موقع قرب الكوفة مِن جهة الشام، معجم البلدان (5/ 278).

(10) تاريخ الرسل والملوك للطبري (5/ 603)، وصفين مكان على شاطئ الفرات في آخر حدود العراق، وأول حدود الشام، سار إليها علي بجيوشه في أواخر ذي القعدة سنة 36هـ، وبدأ القتال في ذي الحجة سنة 36 بمناوشاتٍ ومبارزات، ثم تهادنوا في المحرم سنة 37هـ، واستؤنف القتال بعده.

(11) الرقة: مدينة مشهورة -في سوريا اليوم- على نهر الفرات الشرقي، معجم البلدان (3/ 153).

(12) تاريخ الرسل والملوك للطبري (5/ 604).

(13) فقدر بمائة ألف وعشرين ألفًا, وقدر بسبعين ألف مقاتل، وقدر بأكثر مِن ذلك بكثير، انظر تاريخ خليفة بن خياط، وتاريخ الطبري.

(14) تاريخ الرسل والملوك للطبري (5/ 605).

(15) سير أعلام النبلاء للذهبي (2/ 41).

(16) عصر الخلافة الراشدة محاولة لنقد الرواية التاريخية وفق منهج المحدثين لأكرم بن ضياء العمري، الناشر: مكتبة العبيكان - الرياض، الطبعة الأولى 1430 هـ - 2009م، ص 460.

(17) تاريخ دمشق لابن عساكر.

(18) المصنف في الأحاديث والآثار لابن أبي شيبة ج11 ص290.

(19) عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (يَا عُثْمَانُ، إِنْ وَلَّاكَ اللَّهُ هَذَا الْأَمْرَ يَوْمًا، فَأَرَادَكَ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تَخْلَعَ قَمِيصَكَ الَّذِي قَمَّصَكَ اللَّهُ، فَلَا تَخْلَعْهُ)، يَقُولُ: ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالَ النُّعْمَانُ: فَقُلْتُ لِعَائِشَةَ: مَا مَنَعَكِ أَنْ تُعْلِمِي النَّاسَ بِهَذَا؟ قَالَتْ: أُنْسِيتُهُ. (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).

(20) لمع الأدلة في قواعد عقائد أهل السُّنة والجماعة للجويني، عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني، أبو المعالي، ركن الدين، الملقب بإمام الحرمين (المتوفى 478هـ) المحقق: فوقية حسين محمود، الناشر: عالم الكتب - لبنان، الطبعة الثانية 1407هـ - 1987م، ص130.

(21) الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم، الناشر مكتبة الخانجي - القاهرة عدد الأجزاء 5 ج4 ص 124.

(22) البداية والنهاية لابن كثير (7-288).

(23) الصواعق المحرقة على أهل الرفض والضلال والزندقة لابن حجر الهيتمي.

(24) البداية والنهاية لابن كثير (7-290).


(25) البداية والنهاية لابن كثير، ج7 ص 300

(26) تهذيب الأسماء واللغات للنووي، ج2 ص 38.

(27) الفتاوى لابن تيمية، ج4 ص 437.

ابو وليد البحيرى
2021-06-08, 08:59 PM
صفحات مِن ذاكرة التاريخ (21)
موقعة صفين (37هـ) "الأسباب والنتائج"

زين العابدين كامل


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد ذكرنا في المقال السابق أن أهل الشام رفضوا بيعة علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وطالب معاوية -رضي الله عنه- بالقصاص مِن قتلة عثمان -رضي الله عنه-، ثم تقابل الطرفان في صفين، ورأينا كيف كفـَّر الخوارج أهل الشام دون بينةٍ أو دليل، وهكذا إذا وُجدت الدماء ظهرت بدعة المبتدع، وظهر الفكر المنحرف، وظهرت العقائد الفاسدة، وهذا ما يحدث اليوم مِن التساهل والتسرع في تكفير الناس بلا برهان ولا دليل؛ لذا وجب على أهل السُّنة أن يقفوا أمام هذه البدع لا سيما في أوقات الفتن وإذا سالت الدماء، وأن يبينوا الحق للناس.

محاولات الصلح:

ما إن دخل شهر المحرم حتى بادر الفريقان إلى الموادعة والهدنة طمعًا في صلح يحفظ دماء المسلمين، فاستغلوا هذا الشهر في المراسلات بينهم، وقيل إن البادئ بالمراسلة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- إلى معاوية -رضي الله عنه-، يدعوه كما دعاه مِن قبْل إلى الدخول في الجماعة والمبايعة، فرد معاوية عليه برده السابق المعروف بتسليم قتلة عثمان أو القود منهم أولاً ثم يدخل في البيعة, كما أن قراء الفريقين قد عسكروا في ناحية مِن صفين، وهم عدد كبير، قد قاموا بمحاولاتٍ للصلح بينهما، فلم تنجح تلك المحاولات لالتزام كل فريق منهما برأيه وموقفه(1).

وقد حاول اثنان مِن الصحابة، وهما أبو الدرداء وأبو أمامة -رضي الله عنهما- الصلح بيْن الفريقين، فلم تنجح مهمتهما أيضًا لنفس الأسباب السابقة، فتركا الفريقين ولم يشهدا معهما أمرهما, وكذلك حضر مسروق بن الأجدع أحد كبار التابعين فوعظ وخوف، ولم يقاتِل(2).

وقوع القتال بيْن الفريقين:

لقد فشلتْ محاولات الصلح بيْن الفريقين، ثم خرج علي -رضي الله عنه- وأعلن في جيشه أن غدًا الأربعاء سيكون الالتحام الكلي لجميع الجيش، ثم نبذ معاوية يخبره بذلك(3), فثار الناس في تلك الليلة إلى أسلحتهم يصلحونها ويحدونها، وقام عمرو بن العاص -رضي الله عنه- بإخراج الأسلحة وهو يحرض الناس على الاستبسال في القتال، وبات جميع الجيشين في مشاوراتٍ وتنظيم للقيادات والألوية.

وأصبح الجيشان في يوم الأربعاء وقد نظمت صفوفهم, وتقابلت الجيوش الإسلامية، ومِن كثرتها قد سدت الأفق، والتحم الجيشان في قتال عنيف، استمر محتدمًا إلى غروب الشمس لا يتوقف إلا لأداء الصلاة، ويصلي كل فريق في معسكره وبينهما جثث القتلى في الميدان تفصل بينهما، وسأل أحد أفراد جيش علي -رضي الله عنه- حين انصرافه مِن الصلاة، فقال: ما تقول في قتلانا وقتلاهم يا أمير المؤمنين؟ فقال: مَن قتل منا ومنهم يريد وجه الله والدار الآخرة دخل الجنة(4).

وقد صبر بعضهم على بعض فلم يغلب أحدٌ أحدًا، ولم يُرَ موليًا حتى انتهى ذلك اليوم، وفي المساء خرج علي -رضي الله عنه- إلى ساحة القتال فنظر إلى أهل الشام، فدعا ربه قائلاً: اللهم اغفر لي ولهم(5).

وفي يوم الخميس اشتبك الطرفان في قتال عنيف أشد مِن سابقه، وبدأ أهل العراق في التقدم وأظهروا تفوقًا على أهل الشام، واستطاع عبد الله بن بديل أن يكسر ميسرة معاوية، وعليها حبيب بن مسلمة، ويتقدم باتجاه كتيبة معاوية (الشهباء)، وصاحب هذا التقدم الجزئي، تقدم عام لجيش العراق، وهنا استحث معاوية كتيبته الشهباء، واستطاعوا قتل عبد الله بن بديل، وتماسك أهل الشام وبايع بعضهم على الموت، وانقلب الأمر لجيش الشام، وأظهر تقدمًا، وبدأ جيش العراق في التراجع، واستحر القتل في أهل العراق وكثرت الجراحات.

ولما رأى علي -رضي الله عنه- جيشه في تراجع، أخذ يناديهم ويحمسهم، وقاتل قتالاً شديدًا، واتجه إلى القلب حيث ربيعة؛ فثارت فيهم الحمية وبايعوا أميرهم خالد بن المعتمر على الموت وكانوا أهل قتال، وكان عمّار بن ياسر -رضي الله عنه- قد جاوز التسعين عامًا، وكان يحارب بحماس، يحرض الناس ويستنهض الهمم، ولكنه بعيد كل البعد عن الغلو، فقد سمع رجلاً بجواره يقول: كفر أهل الشام؛ فنهاه عمار عن ذلك وقال: إنما بغوا علينا، فنحن نقاتلهم لبغيهم، فإلهنا واحد، ونبينا واحد، وقبلتنا واحدة(6)، وهذا هو الفهم الصحيح لقضايا الكفر والإيمان، وهذا هو التطبيق العملي لتنحية العاطفة وتغليب المنهج، وعمار يقول: تقدم يا هشام، الجنة تحت ظلال السيوف، والموت في أطراف الأسل(7), وقد فتحت أبواب السماء، وتزينت الحور العين، اليوم ألقى الأحبة، محمدًا وحزبه(8).

وعند غروب شمس ذلك اليوم الخميس، طلب عمار شربة مِن لبن ثم قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لي: إن آخر شربة تشربها مِن الدنيا شربة لبن(9), ثم تقدَّم واستحث معه حامل الراية هشام بن عتبة بن أبي وقاص الزهري فلم يرجعا وقُتلا -رحمهما الله ورضي عنهما-(10)، ثم عادت الحرب في نفس الليلة بشدة لم تشهدها الأيام السابقة، وكان اندفاع أهل العراق بحماس وروح عالية حتى أزالوا أهل الشام عن أماكنهم, وذكر أن عليًّا -رضي الله عنه- صلى بجيشه المغرب صلاة الخوف(11)، ومِن شدة القتال، فنيت نبالهم، واندقت رماحهم، وانقصفت سيوفهم، ومشى بعضهم إلى بعض، وتضاربوا بما بقي مِن السيوف وعمد الحديد(12).

وقال ابن كثير -رحمه الله- في وصف ليلة الهرير ويوم الجمعة: وتعاضوا بالأسنان، يقتتل الرجلان حتى يثخنا ثم يجلسان يستريحان، وكل واحد منهما ليهمر على الآخر(13)، ثم يقومان فيقتتلان كما كانا، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولم يزل ذلك دأبهم حتى أصبح الناس مِن يوم الجمعة، وهم كذلك، وصلى الناس الصبح إيماءً وهم في القتال حتى تضاحى النهار، وتوجه النصر لأهل العراق على أهل الشام(14).

وكان قتل عمّار -رضي الله عنه- شديدًا على جيش علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، لكنه كان أشد على جيش الشام؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد أخبر أن عمارًا -رضي الله عنه- تقتله الفئة الباغية، وقد كان عمار علمًا لأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتبعونه حيث سار، وكان خزيمة بن ثابت حضر صفين وكان كافًا سلاحه، فلما رأى مقتل عمار سل سيفه وقاتل أهل الشام، وذلك لأنه سمع حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن عمار: (تَقْتُلُهُ الفِئَةُ البَاغِيَةُ) (رواه البخاري)، واستمر في القتال حتى قُتل(15)، وكان لمقتل عمّار أثر في معسكر معاوية، فهذا أبو عبد الرحمن السلمي دخل في معسكر أهل الشام، فرأى معاوية وعمرو بن العاص وابنه عبد الله بن عمرو، وأبا الأعور السلمي، عند شريعة الماء يسقون، وكانت هي شريعة الماء الوحيدة التي يستقي منها الفريقان، وكان حديثهم عن مقتل عَمّار بن ياسر، إذ قال عبد الله بن عمرو لوالده: لقد قتلنا هذا الرجل وقد قال فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (تَقْتُلُهُ الفِئَةُ البَاغِيَةُ)، فقال عمرو لمعاوية: لقد قتلنا الرجل وقد قال فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما قال! فقال معاوية: اسكت فوالله ما تزال تدحض(16) في بولك، أنحن قتلناه؟! إنما قتله مَن جاء به(17).

وجاء في رواية: أن معاوية -رضي الله عنه- قال: أنحن قتلناه؟! إنما قتله علي وأصحابه، وجاءوا به حتى ألقوه بيْن رماحنا، أو قال: بيْن سيوفنا وانتشر تأويل معاوية بيْن أهل الشام، وهذه الكلمة مِن معاوية -رضي الله عنه- ليستْ في محلها في هذا الموطن؛ لأن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- كان على الحق في هذا الخروج.

قال ابن كثير -رحمه الله-: "ومعلوم أن عمارًا كان في جيش على يوم صفين، وقتله أصحاب معاوية مِن أهل الشام، وكان الذي تولى قتله رجل يُقال له أبو الغادية، رجل مِن أفناد الناس، وقيل: إنه صحابي". ويخبر عمرو بن العاص، -رضي الله عنه-، الخبر فيقول: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: قاتل عمار وسالبه في النار(18).

فلما استحر القتل بأهل الشام قال عمرو لمعاوية: أرسل إلى علي المصحف؛ فادعه إلى كتاب الله، فإنه لا يأبى عليك، فجاء به رجل فقال: بيننا وبينكم كتاب الله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ) (آل عمران:23)، فقال علي: نعم، أنا أولى بذلك، فقام القُراء -الذين صاروا بعد ذلك خوارج- بأسيافهم على عواتقهم فقالوا: يا أمير المؤمنين ألا نمشي إلى هؤلاء حتى يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقام سهل بن حنيف الأنصاري -رضي الله عنه- فقال: أيها الناس، اتهموا أنفسكم، لقد كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الحديبية، ولو نرى قتالاً لقاتلنا، وذلك في الصلح الذي بيْن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبين المشركين، ثم حدثهم عن معارضة عمر -رضي الله عنه- للصلح يوم الحديبية ونزول سورة الفتح على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال علي: أيها الناس، إن هذا فتح، فقبل القضية ورجع، ورجع الناس(19)، ويروى أن عليًّا -رضي الله عنه- قد أبدى معارضة في بداية الأمر، ولكنه سرعان ما وافق على التحكيم والتحاكم إلى كتاب الله -تعالى-(20).

وهكذا كان الصحابة -رضي الله عنهم- يتعلمون مِن سيرة رسول -صلى الله عليه وسلم-؛ فهي المنهج الحقيقي الواضح الصافي في كيفية التعامل مع الواقع، وأظهر سهل بن حنيف -رضي الله عنه- رفضه الشديد حول استمرار الحرب بيْن الإخوة، وقال: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ" (رواه البخاري)، وبيَّن لهم أنه لا خيار عن الحوار والصلح؛ لأن ما سواه فتنة لا تُعرف عواقبها.

إن الدعوة إلى تحكيم كتاب الله دون التأكيد على تسليم قتلة عثمان إلى معاوية، وقبول التحكيم دون التأكيد على دخول معاوية في طاعة علي والبيعة له، تطور فرضته أحداث حرب "صفين"؛ إذ إن الحرب التي أودت بحياة الكثير مِن المسلمين أبرزت اتجاهًا جماعيًّا رأى أن وقف القتال وحقن الدماء أصبح ضرورة.

إن أمير المؤمنين عليًّا -رضي الله عنه- قَبِل وقف القتال في صفين، ورضي التحكيم وعدَّ ذلك فتحًا ورجع إلى الكوفة، وعلق على التحكيم آمالاً في إزالة الخلاف وجمع الكلمة، ووحدة الصف، وتقوية الدولة، وإعادة حركة الفتوح مِن جديدٍ، وقد خشي عددٌ مِن عقلاء الطرفين مِن استمرار القتال حتى لا يهلك المسلمون؛ فيستغل الأعداء ذلك، ويستأصلوا الإسلام، فلا تقوم له بعد ذلك قَوْمة!

وكان عقلاء الكوفة أسبق إلى الموادعة؛ فهذا الأشعث بن قيس الكندي لمَّا اشتد القتال خطب في قومه -أهل الكوفة- في المساء خطبته التي قادت للصلح؛ فقال: "قد رأيتم يا معشر المسلمين ما قد كان في يومكم هذا الماضي، وما قد فني فيه مِن العرب، فوالله لقد بلغتُ مِن السن ما شاء الله أن أبلغ، فما رأيتُ مثل هذا اليوم قَطُّ؛ ألا فليبلغ الشاهد الغائب، إنْ نحن تواقفنا غدًا إنه لفناء العرب وضيعة الحرمات، أما والله ما أقول هذه المقالة جزعًا مِن الحتف، ولكني رجل مسنّ أخاف على النساء والذراري غدًا إذا فنينا، اللهم إنك تعلم أني قد نظرتُ لقومي ولأهل ديني فلم آلُ، وما توفيقي إلا بالله"(21).

فلما وصل الخبر معاوية -رضي الله عنه- بخطبة الأشعث قال: أصاب ورب الكعبة، لئن نحن التقينا غدًا لتميلن الروم على ذرارينا ونسائنا، ولتميلنَّ أهل فارس على نساء أهل العراق وذراريهم، وإنما يبصر هذا ذوو الأحلام والنُّهى؛ اربطوا المصاحف على أطراف القَنَا -أي الرماح-، قال صعصعة: فثار أهل الشام فنادوا في سواد الليل: يا أهل العراق، مَن لذرارينا إن قتلتمونا، ومَن لذراريكم إن قتلناكم؟ اللهَ الله في البقية!

فأصبح أهل الشام وقد رفعوا المصاحف على رءوس الرماح وقلدوها الخيل، والناس على الرايات قد اشتهوا ما دعوا إليه، ورفع مصحف دمشق الأعظم تحمله عشرة رجال على رءوس الرماح، ونادوا: يا أهل العراق، كتاب الله بيننا وبينكم(22).

لقد كان رفع المصاحف عملاً رائعًا اشترك فيه العقلاء مِن الفريقين، وتُوِّج بموافقة أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه-؛ إذ قال: "نعم، بيننا وبينكم كتاب الله، أنا أولى به منكم"(23).

ونستكمل في المقال القادم -إن شاء الله تعالى-.

ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــ

(1) تاريخ الرسل والملوك للطبري (5/ 612، 613).

(2) سير أعلام النبلاء للذهبي (4/ 67).

(3) البداية والنهاية لابن كثير (7/ 273).

(4) الطبقات لابن سعد (4/ 255) من طريق الواقدي.

(5) المصنف في الأحاديث والآثار لابن أبي شيبة (15/ 297).

(6) المصنف في الأحاديث والآثار لابن أبي شيبة (15/ 290).

(7) الأسل: الرماح، والأَسَل: عِيدانٌ تَنْبُتُ طِوَالًا دِقَاقاً مُسْتَوِيَةً لَا وَرَقَ لَهَا يُعْمَل مِنْهَا الحُصُر. والأَسَل: شَجَرٌ. وَيُقَالُ: كُلُّ شَجَرٍ لَهُ شَوْكٌ طَوِيلٌ فَهُوَ أَسَل، وَتُسَمَّى الرِّمَاحُ أَسَلًا، ابن منظور، لسان العرب (11/15).

(8) تاريخ الرسل والملوك للطبري (5/ 652).

(9) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"، وأحمد، والحاكم وقال:"صحيح على شرط الشيخين"، ووافقه الذهبي.

(10) تاريخ الرسل والملوك للطبري (5/ 653).

(11) السنن الكبرى للبيهقي. وقال الألباني: "رواه البيهقي بصيغة التمريض" (إرواء الغليل 3/ 42).

(12) شذرات الذهب في أخبار مَن ذهب.

(13) هَمَرَ الرَّجُلُ: دَمْدَمَ بِغَضَبٍ.

(14) البداية والنهاية لابن كثير (7/ 283).

(15) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للإمام الهيثمي، المحقق: حسام الدين القدسي، الناشر: مكتبة القدسي، القاهرة، 1414هـ - 1994م، وقال فيه: "رواه الطبراني وفيه أبو معشر وهو لين".

(16) الدَّحْضُ: الزَّلَقُ، والإِدْحاضُ: الإِزْلاقُ، الدُّحَّضُ: جَمْعُ داحِضٍ، وَهُمُ الَّذِينَ لَا ثَبَاتَ لَهُمْ وَلَا عَزِيمَةَ فِي الأُمور، ابن منظور، لسان العرب (7/ 148).

(17) مسند أحمد (2/ 206)، وإسناده حسن.

(18) السلسلة الصحيحة للألباني (5/ 18، 19).

(19) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (8/ 336)، وفي مسند أحمد مع الفتح الرباني (8/ 483).


(20) تاريخ الرسل والملوك للطبري (5/49).

(21) نصر بن مزاحم المنقري (المتوفى سنة 212هـ) وقعة صفين، تحقيق عبد السلام هارون.

(22) نصر بن مزاحم المنقري، وقعة صفين ص880.

(23) المصنف لابن أبي شيبة 8/ 376، والبلاذري: أنساب الأشراف (3/ 131).

ابو وليد البحيرى
2021-07-14, 01:31 AM
صفحات مِن ذاكرة التاريخ (22)
موقعة صفين (37هـ) "الأسباب والنتائج"

زين العابدين كامل



الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فلقد ذكرنا في المقال السابق أحداث موقعة "صفين"، وما هي الأسباب التي أدت إلى وقوع القتال بيْن أهل الشام بقيادة معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- وبيْن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وأتباعه مِن أهل العراق والحجاز، وغيرهم، ثم كان رفع المصاحف مِن قِبَل أهل الشام، وموافقة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- على التحاكم إلى كتاب الله -تعالى-.
ونود أن نشير إلى بعض الأمور حول الموقعة.
الأخلاق الحسنة أثناء الحرب:
إن وقعة "صفين" كانت مِن أعجب الوقائع بيْن المسلمين؛ لقد كانت معركة فريدة في بواعثها، وفي طريقة أدائها؛ فكان المتقاتلون إخوة يذهبون معًا إلى مكان الماء فيستقون جميعًا، ويزدحمون وهم يغرفون الماء، وما يؤذي إنسان إنسانًا!(1).
وهم إخوة يعيشون معًا عندما يتوقف القتال؛ فيٌروى عن أحد المشاركين أنه قال: "كنا إذا تَوَادَعْنَا مِن القتال دخل هؤلاء في معسكر هؤلاء، وهؤلاء في معسكر هؤلاء، وتحدثوا إلينا وتحدثنا إليهم"، وهم أبناء قبيلة واحدة، ولكلٍّ منهما اجتهاده؛ فيقاتل أبناءُ القبيلة الواحدة كل في طرف قتالاً مريرًا، وكل منهما يرى نفسه على الحق، وعنده الاستعداد لأن يُقتَل مِن أجله، فكان الرجلان يقتتلان حتى يُثْخَنا (وهنًا وضعفًا) ثم يجلسان يستريحان، ويدور بينهما الكلام الكثير، ثم يقومان فيقتتلان كما كانا, وهما أبناء دين واحد يجمعها، وهو أحب إليهما مِن أنفسهما، فإذا حان وقت الصلاة توقفوا لأدائها(2).
وظهر في هذه الحرب نماذج متعددة حول المعاملة الحسنة للأسرى.
قال محب الدين الخطيب -رحمه الله- معلِّـقًا على هذه الحرب: "ومع ذلك، فإن هذه الحرب المثالية هي الحرب الإنسانية الأولى في التاريخ التي جرى فيها المتحاربان معًا على مبادئ الفضائل التي يتمنى حكماء الغرب لو يعمل بها في حروبهم، ولو في القرن الحادي والعشرين، وإن كثيرًا مِن قواعد الحرب في الإسلام لم تكن لتعلم وتدون لولا وقوع هذه الحرب، ولله في كل أمر حكمة(3)".
وها هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- للمرة الثانية يتعامل مع الخصم المنهزم معاملة حسنة لا يتعامل بها منتصر مع خصمه الذي أوشك على الهزيمة.
عدد القتلى:
ذكر ابن أبي خيثمة أن القتلى في "صفين" بلغ عددهم سبعين ألفًا؛ مِن أهل العراق خمسة وعشرون ألفًا، ومِن أهل الشام خمسة وأربعون ألف مقاتل، كما ذكر ابن القيم -رحمه الله- أن عدد القتلى في "صفين" بلغ سبعين ألفًا أو أكثر(4).
وهذه الأرقام ربما يكون قد بالغ البعض فيها، لكن بلا شك كثر عدد القتلى في هذه المعركة، وقد قام أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- بعد نهاية الجولات الحربية بتفقد القتلى، وقد وقف عليٌّ -رضي الله عنه- على قتلاه وقتلى معاوية -رضي الله عنه- فقال: "غفر الله لكم، غفر الله لكم" للفريقين جميعًا!
وعن يزيد بن الأصم قال: لما وقع الصلح بيْن علي ومعاوية -رضي الله عنهما-، خرج علي -رضي الله عنه- فمشى في قتلاه، فقال: "هؤلاء في الجنة، ثم خرج إلى قتلى معاوية فقال: هؤلاء في الجنة"، وكان علي -رضي الله عنه- يَنهى عن شتم معاوية ولعن أهل الشام(5).
قضية التحكيم:
تم الاتفاق بيْن الفريقين على التحكيم بعد انتهاء موقعة "صفين"، وهو أن يُحكِّم كل واحد منهما رجلاً مِن جهته ثم يتفق الحكمان على ما فيه مصلحة المسلمين، فوكّل معاوية عمرو بن العاص، ووكل عليٌّ أبا موسى الأشعري -رضي الله عنهم جميعًا-، واختيار علي -رضي الله عنه- لأبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- فيه إشارة إلى ميل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إلى الصلح والحل السلمي؛ لأن هذا هو الطبع الغالب على أبي موسى -رضي الله عنه-.
وكُتبتْ بيْن الفريقين وثيقة في ذلك، وكان ذلك في يوم الأربعاء لثلاث عشرة ليلة بقيت مِن صفر، سنة سبع وثلاثين، على أن يكون مقر اجتماع الحكمين في دومة الجندل(6) في شهر رمضان مِن نفس العام، وقد رأى قسمٌ مِن جيش علي -رضي الله عنه- أن عمله هذا ذنب يوجب الكفر؛ وذلك لأنه حكّم الرجال في دين الله! فعليه أن يتوب إلى الله -تعالى-، وخرجوا عليه "فسموا الخوارج"؛ فأرسل علي -رضي الله عنه- إليهم ابن عباس -رضي الله عنهما- فناظرهم وجادلهم، ثم ناظرهم علي -رضي الله عنه- بنفسه، فرجعت طائفة منهم وأبت طائفة أخرى، فجرت بينهم وبيْن علي -رضي الله عنه- حروب أضعفت مِن جيشه وأنهكت أصحابه، وما زالوا به حتى قتلوه غيلة.
وسنذكر في المقال القادم -بمشيئة الله تعالى- نص المناظرة، وتعد قضية التحكيم مِن أخطر الموضوعات في تاريخ الخلافة الراشدة، وقد تاه فيها كثير مِن الكُتاب، وتخبَّط فيها آخرون وسطروها في كتبهم ومؤلفاتهم، وقد اعتمدوا على الروايات الضعيفة والموضوعة التي شوهت الصحابة الكرام -رضي الله عنهم-، وخصوصًا أبا موسى الأشعري الذي وصفوه بأنه كان أبله، ضعيف الرأي، مخدوعًا في القول! ووصفوا عمرو بن العاص -رضي الله عنه- بأنه كان صاحب مكر وخداع!(7).
وما فضل الصحابيين منا ببعيدٍ؛ فلقد أثنى عليهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مواطن كثيرة.
ما نصت عليه "وثيقة التحكيم":
1- هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب, ومعاوية بن أبي سفيان، وشيعتهما, فيما تراضيا فيه مِن الحكم بكتاب الله وسُنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-.
2- قضية علي -رضي الله عنه- على أهل العراق شاهدهم وغائبهم, وقضية معاوية على أهل الشام شاهدهم وغائبهم.
3- إنا تراضينا أن نقف عند حُكم القرآن فيما يحكم مِن فاتحته إلى خاتمته, نحيي ما أحيا، ونميت ما أمات؛ على ذلك تقاضينا، وبه تراضينا.
4- وإن عليًّا -رضي الله عنه- وشيعته رضوا بعبد الله بن قيس ناظرًا وحاكمًا, ورضي معاوية بعمرو بن العاص ناظرًا وحاكمًا.
5 - على أن عليًا ومعاوية أخذا على عبد الله بن قيس، وعمرو بن العاص عهد الله وميثاقه وذمته وذمة رسوله -صلى الله عليه وسلم-, أن يتخذا القرآن إمامًا، ولا يعدوا به إلى غيره في الحكم بما وجداه فيه مسطورًا, وما لم يجدا في الكتاب رداه إلى سُنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الجامعة؛ لا يعتمدان لها خلافًا, ولا يبغيان فيها بشبهة.
6- وأخذ عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص على علي ومعاوية عهد الله وميثاقه بالرضا بما حكما به مما في كتاب الله وسُنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-, وليس لهما أن ينقضا ذلك ولا يخالفاه إلى غيره.
7- وهما آمنان في حكومتهما على دمائهما وأموالهما، وأشعارهما وأبشارهما، وأهاليهما وأولادهما, ما لم يَعْدُوَا الحق, رضي به راضٍ أو سخط ساخط, وإن الأمة أنصارهما على ما قضيا به مِن الحق مما في كتاب الله.
8 - فإن توفي أحد الحكمين قبْل انقضاء الحكومة؛ فلشيعته وأنصاره أن يختاروا مكانه رجلاً مِن أهل المعدلة والصلاح, على ما كان عليه صاحبه مِن العهد والميثاق.
9- وإن مات أحد الأميرين قبْل انقضاء الأجل المحدود في هذه القضية, فلشيعته أن يولوا مكانه رجلاً يرضون عدله.
10- وقد وقعت القضية بيْن الفريقين والمفاوضة، ورفع السلاح.
11- وقد وجبت القضية على ما سميناه في هذا الكتاب مِن موقع الشرط على الأميرين، والحكمين، والفريقين, والله أقرب شهيد وكفى به شهيدًا؛ فإن خالفا وتعديا, فالأمة بريئة مِن حكمهما, ولا عهد لهما ولا ذمة.
12- والناس آمنون على أنفسهم وأهاليهم وأولادهم وأموالهم إلى انقضاء الأجل, والسلاح موضوعة, والسبل آمنة, والغائب مِن الفريقين مثل الشاهد في الأمر.
13- وللحكمين أن ينزلا منزلاً متوسطًا عدلاً بيْن أهل العراق والشام.
14- ولا يحضرهما فيه إلا مَن أحبَّا عن تراضٍ منهما.
15- والأجل إلى انقضاء شهر رمضان, فإن رأى الحكمان تعجيل الحكومة عجلاها, وإن رأيا تأخيرها إلى آخر الأجل أخَّراها.
16- فإن هما لم يحكما بما في كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- إلى انقضاء الأجل؛ فالفريقان على أمرهما الأول في الحرب.
17- وعلى الأمة عهد الله وميثاقه في هذا الأمر, وهم جميعًا يد واحدة على مَن أراد في هذا الأمر إلحادًا أو ظلمًا أو خلافًا، وشهد على هذا الكتاب الحسن والحسين, وعبد الله بن عباس -رضي الله عنهم-, وغيرهم كثير(8).
وبعد ما كُتبت هذه الوثيقة بدأ علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- يتوجه بجيشه إلى الكوفة، وعاد معاوية -رضي الله عنه- بجيشه إلى الشام، وبذلك توقف القتال، وتم دفن القتلى -رحمة الله عليهم أجمعين-.
وفي سنة (40هـ) جرت بيْن عليٍّ وبيْن معاوية المهادنة -بعد مكاتبات جَرَتْ بينهما- على وضع الحرب بينهما، ويكون لعليٍّ العراق ولمعاوية الشام، فلا يدخل أحدهما على صاحبه في عمله بجيش، ولا غارة، ولا غزو؛ فأقام معاوية بالشام بجنوده يجبيها وما حولها، وعلي بالعراق يجيبها ويقسمها بيْن جنوده(9).
وبما أن الغاية الكبرى مِن دراسة التاريخ هي العبرة والعظة، واستخلاص الدروس المستفادة، كما قال الله -تعالى-: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (يوسف:111)؛ فسوف نستخلص في المقال القادم -بمشيئة الله تعالى- الدروس والعِبَر مِن أحداث الموقعتين "الجمل وصفين".
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــ
(1) تاريخ الرسل والملوك للطبري (5/ 610).
(2) البداية والنهاية لابن كثير (7/ 270).
(3) العواصم مِن القواصم لأبي بكر بن العربي، ص (168-169).
(4) الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة لابن القيم.
(5) المصنف لابن أبي شيبة (15/ 303).
(6) تقع دُومة على مشارف الشام، وقال أبو عبيد السكوني: "دومة الجندل حصن وقرى بيْن الشام والمدينة قرب جبلي طيّء"، وذكر الحموي في معجم البلدان أنها سُميت بذلك نسبة إلى حصن بناه دوماء بن إسماعيل، معجم البلدان (2/485).
(7) قال ابن العربي -رحمه الله-: "وقد تكلم الناس في التحكيم فقالوا فيه ما لا يرضاه الله. وإذا لحظتموه بعين المروءة -دون الديانة- رأيتم أنها سخافة، حمل على سطرها في الكتب في الأكثر عدم الدين، وفي الأقل جهل متين!".
والذي يصح مِن ذلك ما روى الأئمة كخليفة بن خياط والدارقطني أنه لما خرجت الطائفة العراقية مائة ألف، والشامية في سبعين أو تسعين ألفًا ونزلوا على الفرات بصفين، اقتتلوا في أول يوم وهو الثلاثاء ثم التقوا يوم الأربعاء لسبع خلون مِن صفر سنة "سبع وثلاثين"، ويوم الخميس ويوم الجمعة وليلة السبت، ورفعت المصاحف مِن أهل الشام، ودعوا إلى الصلح، وتفرقوا على أن تجعل كل طائفة أمرها إلى رجل حتى يكون الرجلان يحكمان بيْن الدعويين بالحق، فكان مِن جهة علي أبو موسى، ومِن جهة معاوية عمرو بن العاص، وكان أبو موسى رجلًا تقيًّا فقيهًا عالمًا، وأرسله النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن مع معاذ، وقدَّمه عمرو وأثنى عليه بالفهم.
وزعمت الطائفة التاريخية الركيكة أنه كان أبله، ضعيف الرأي، مخدوعًا في القول! وأن ابن العاص كان ذا دهاءٍ وأرب حتى ضربت الأمثال بدهائه تأكيدًا لما أرادتْ مِن الفساد؛ اتبع في ذلك بعض الجهال بعضًا وصنفوا فيه حكايات. وغيره مِن الصحابة كان أحدق منه وأدهى، وإنما بنوا على أن عمرًا لما غدر أبا موسى في قصة التحكيم صار له الذكر في الدهاء والمكر. وقالوا: إنما لما اجتمع بأذرح مِن دومة الجندل وتفاوضا، اتفقا على أن يخلعا الرجلين. فقال عمرو لأبي موسى: اسبق بالقول. فتقدم فقال: إني نظرت فخلعتُ عليًّا عن الأمر، وينظر المسلمون لأنفسهم، كما خلعت سيفي هذا مِن عنقي أو مِن عاتقي، وأخرجه مِن عنقه فوضعه في الأرض. وقام عمرو فوضع سيفه في الأرض وقال: إني نظرت فأثبت معاوية في الأمر كما أثبت سيفي هذا في عاتقي، وتقلده. فأنكر أبو موسى. فقال عمرو: كذلك اتفقنا. وتفرَّق الجمع على ذلك مِن الاختلاف" (انتهى بتصرف يسير مِن العواصم مِن القواصم).

(8) تاريخ الرسل والملوك للطبري (5/ 665 - 666), والبداية والنهاية لابن كثير (7/ 276 - 277)، وانظر جمل مِن أنساب الأشراف للبلاذري، والأخبار الطوال للدينوري.
(9) تاريخ الرسل والملوك للطبري ( 6/60)، والبداية والنهاية لابن كثير (7/336) والمنتظم لابن الجوزي (3 /404).

ابو وليد البحيرى
2021-09-03, 11:59 PM
صفحات مِن ذاكرة التاريخ (23)
قراءة نقدية وتحليل لأحداث موقعتي "الجمل وصفين"






زين العابدين كامل


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فلا شك أن الغاية الكبرى مِن دراسة التاريخ هي العبرة والعظة، واستخلاص الدروس المستفادة، قال الله -تعالى-: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (يوسف:111)، وعلى الباحث في التاريخ أن يتجرد مِن ميوله وأهوائه، وأن ينقل الحقيقة دون تحريف.

وتاريخنا الإسلامي تاريخ مشرق في جملته، يمتلئ بالصفحات المشرقة، رغم ما فيه مِن بعض الأحداث المؤلمة، كبعض الأحداث التي وقعتْ في القرن الأول؛ فليس هناك أمة على وجه الأرض سار تاريخها على منوال واحدٍ مِن الانتصارات والفتوحات والازدهار، والحضارات المشرقة، فلكل أمة كبوة في فترةٍ مِن الزمن، طالت أو قصرت، وتاريخ أمة الإسلام مليء بالانتصارات والإنجازات، وقد فاق كل الأمم في رصيدها الحضاري.

وإن المتأمل في هذه الأحداث الجسام التي وقعتْ منذ أن توفي أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه- يَعلم أن ما حدث وما جرى في هذه الحقبة التاريخية يُعد مِن أشد المحن التي واجهت الأمة منذ بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإن الناظر والمتأمل في الأحداث بعين العدل والإنصاف، يعلم علم اليقين أن مسألة الحٌكم مِن أشد الأمور تعقيدًا، وقد ظهر ذلك جليًّا في نهاية عصر أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه-، وفي مدة خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنهما-.

قال محب الدين الخطيب -رحمه الله-: "وقد يظن مَن لا نظر له في حياة الشعوب وسياستها أن الحاكم يستطيع أن يكون كما يريد أن يكون حيثما يكون، وهذا خطأ؛ فللبيئة مِن التأثير في الحاكم، وفي نظام الحكم أكثر مما للحاكم ونظام الحكم مِن التأثير على البيئة، وهذا مِن معاني قول الله -عز وجل-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)( 1).

وإذا تأملنا أحداث موقعتي "الجمل وصفين": نرى أنه كان مِن الصعوبة بمكان أن يسيطر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- على الأحداث، وأن يمسك بزمام الأمور ويسيطر على الدولة، وأن يٌرضى جميع الأطراف المختلفة والمتناحرة؛ وذلك لوجود عددٍ مِن السبئية في الصف ممن يهيجون المشاعر وينشرون الفتن، وإذا تعالت الأصوات وكثر الصراخ بيْن الناس، وكثرت الشائعات في المجتمع؛ أدى كل ذلك إلى ضعف صوت العقل، فلا يسمعه إلا القليل مِن الناس!

ومما نتعلمه مِن هذه الأحداث التاريخية: أن الحماس وحده لا يكفي، وأن الإخلاص وحده لا يكفي أيضًا، بل لا بد مِن مراعاة الواقع والترجيح ما بيْن المصالح والمفاسد، وتقدير مواطن القوة والضعف، ولا بد مِن مراعاة المصالح العليا للعباد والبلاد، فدفع المفاسد مقدَّم على جلب المصالح، ولا بد مِن تحمل الضرر الخاص لرفع الضرر العام، والذين طالبوا بدم عثمان -رضي الله عنه- نحسبهم جميعًا على خير، ولا نطعن في نواياهم، ولكنهم أخطأوا في اجتهادهم وتقديرهم للأمور، فكان مِن الأولى أن نحافظ على وحدة الأمة، وعلى دماء المسلمين حتى لو أدى ذلك إلى ارتكاب مفسدة هي أدنى مِن مفسدة أخرى، فالشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها, وتعطيل المفاسد وتقليلها؛ إذن فلابد مِن مراعاة قاعدة: "اعتبار القدرة والعجز"، وقاعدة: "تفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعلاهما"، وقاعدة: "ارتكاب أخف المفسدتين لتفويت أشدهما"، وقاعدة: "اعتبار المآلات"، وهذا ما أصاب فيه أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- وأخطأ فيه غيره، بل ودلَّ موقفه على فقهه وفطنته -رضي الله عنه-.

ومما نتعلمه أيضًا: أن الحماس الممزوج بالعاطفة فقط دون مراعاة الضوابط السابقة لا يتلاءم مع منهجية التغيير الصحيحة.

ومما نتعلمه أيضًا: أن الجلوس على مائدة المفاوضات والسعي في الإصلاح بيْن الأطراف المختلفة والمتناحرة، هو مِن أسباب حفظ دماء المسلمين، ومِن أسباب ضعف شدة الخلاف بيْن الأطراف المختلفة، حتى لو طالتْ فترة السعي في الإصلاح، فمع مرور الوقت تهدأ النفوس وتطيب؛ لذا رأينا أن الحكمين ومَن معهما لم يستطيعوا أن يصلوا إلى حل جذري في القضية، لكن مجرد جلوسهم كان بمثابة الدواء للجرح الغائر، ووقف نزيف الدم.

ثم إن الواجب علينا في هذه الفتنة: الإمساك عما شجر بيْن الصحابة إلا فيما يليق بهم -رضي الله عنهم-؛ لما يسببه الخوض في ذلك مِن توليد العداوة والحقد، والبغض لأحد الطرفين، ويجب على كل مسلم أن يحب الجميع ويرضى عنهم ويترحم عليهم, ويحفظ لهم فضائلهم, ويعترف لهم بسوابقهم, وينشر مناقبهم, وأن الذي حصل بينهم إنما كان عن اجتهاد, والجميع مثابون في حالتي الصواب والخطأ؛ غير أن ثواب المصيب ضعف ثواب المخطئ في اجتهاده, وأن القاتل والمقتول مِن الصحابة في الجنة، وهذا هو مذهب أهل السُّنة والجماعة أن عليًّا -رضي الله عنه- هو المصيب، وإن كان معاوية -رضي الله عنه- قد اجتهد فأخطأ, وهو مأجور -إن شاء الله-, ولكن عليًّا هو الإمام؛ فله أجران كما ثبت في صحيح البخاري: (إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ، فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ، فَلَهُ أَجْرٌ)(2)، وقال -تعالى-: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الحجرات:9).

ففي هذه الآية أمر الله -تعالى- بالإصلاح بيْن المؤمنين إذا ما جرى بينهم قتال؛ لأنهم إخوة, وهذا الاقتتال لا يخرجهم عن وصف الإيمان حيث سمَّاهم الله -عز وجل- مؤمنين، وأمر بالإصلاح بينهم، وإذا كان حصل اقتتال بيْن عموم المؤمنين ولم يخرجهم ذلك مِن الإيمان؛ فأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذين اقتتلوا في موقعة الجمل وبعدها أول مَن يدخل في اسم الإيمان الذي ذُكِر في هذه الآية, فهم لا يزالون عند ربهم مؤمنين إيمانًا حقيقيًّا، ولم يؤثـِّر ما حصل بينهم مِن شجار في إيمانهم بحال؛ لأنه كان عن اجتهادٍ.

وقد سئل عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- عن القتال الذي حصل بيْن الصحابة، فقال: "تلك دماء طهر الله يدي منها؛ أفلا أطهر منها لساني؟! مثل أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثل العيون, ودواء العيون ترك مسها!".

قال البيهقي -رحمه الله- معلقًا على قول عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: "هذا حسن جميل؛ لأن سكوت الرجل عما لا يعنيه هو الصواب".

وسئل الحسن البصري -رحمه الله- عن قتال الصحابة فيما بينهم، فقال: "قتال شهده أصحاب محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- وغبنا, وعلموا وجهلنا, واجتمعوا فاتبعنا, واختلفوا فوقفنا"(3).

وقال الإمام أحمد -رحمه الله- بعد أن قيل له: "ما تقول فيما كان بيْن علي ومعاوية -رضي الله عنهما-؟ قال: ما أقول فيهم إلا الحسنى".

وقال أبو بكر بن الطيب الباقلاني: "ويجب أن يُعلم أن ما جرى بيْن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهم-, مِن المشاجرة؛ نكف عنه، ونترحم على الجميع، ونثني عليهم، ونسأل الله -تعالى- لهم الرضوان والأمان، والفوز والجنان, ونعتقد أن عليًّا -رضي الله عنه- أصاب فيما فعل وله أجران, وأن الصحابة -رضي الله عنهم- إنما صدر منهم كان باجتهادٍ فلهم الأجر، ولا يفسقون ولا يبدعون, والدليل عليه قوله -تعالى-: (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا) (الفتح:18).

وقال ابن تيمية -رحمه الله- في صدد عرضه لعقيدة أهل السُّنة والجماعة فيما شجر بيْن الصحابة: "ويمسكون عما شجر بيْن الصحابة ويقولون: إن هذه الآثار المروية في مساويهم، ومنها ما قد زيد فيه ونقص، وغيِّر عن وجهه, والصحيح منه هم فيه معذورون؛ إما مجتهدون مصيبون, وإما مجتهدون مخطئون"(4).

وقال ابن كثير -رحمه الله-: "أما ما شجر بينهم بعده عليه الصلاة والسلام، فمنه ما وقع مِن غير قصدٍ كيوم الجمل, ومنه ما كان عن اجتهادٍ كيوم صفين, والاجتهاد يخطئ، ولكن صاحبه معذور، وإن أخطأ فهو مأجور أيضًا، وأما المصيب فله أجران"(5).

وقال ابن حجر -رحمه الله-: "واتفق أهل السُّنة على وجوب منع الطعن على أحدٍ مِن الصحابة بسبب ما وقع لهم مِن ذلك، ولو عُرف المحق منهم؛ لأنهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلا عن اجتهادٍ, بل ثبت أنه يؤجر أجرًا واحدًا, وأن المصيب يؤجر أجرين"(6).

وعن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- قال: "رأيتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المنام، وأبو بكر وعمر جالسان عنده، فسلمتُ عليه وجلستُ، فبينما أنا جالس إذ أتي بعلي ومعاوية فأدخلا بيتًا وأجيف الباب(7)، وأنا أنظر، فما كان بأسرع مِن أن خرج علي -رضي الله عنه- وهو يقول: قضي لي ورب الكعبة، فما كان بأسرع مِن أن خرج معاوية وهو يقول: غفر لي ورب الكعبة"(8).

وكذا يجب علينا أن نترضى على الطرف الثالث الذي اعتزل الفتنة: كسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، وغيرهما -رضي الله عنهما-، وللأسف فإن بعض المؤرخين يطعنون في معاوية -رضي الله عنه-، بل ويفسقونه! ونسي هؤلاء أن معاوية -رضي الله عنه- مِن كتبة الوحي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "ولم يكن معاوية ممن يختار الحرب ابتداءً، بل كان مِن أشد الناس حرصًا على أن لا يكون قتال".

وفي النهاية نؤكِّد على أن هذه الحقبة التاريخية كانت مِن أخطر الأزمنة التي مرَّت على الأمة، وهذه الفتنة هي أشد فتنة أيضًا، ولله الأمر مِن قبْل ومِن بعد، ومِن هنا يتضح أنه لابد مِن محاربة الفرق الضالة والطوائف المنحرفة، محاربة فكرية واجتماعية وأمنية أيضًا؛ لأنها عندما تنتشر في بلاد المسلمين تعرِّض أهله للخطر، وتهدد الأمن والاستقرار، وتشكك الناس في عقيدتهم، وتلك هي حال الخوارج المارقين الذين خرجوا على علي -رضي الله عنه- وكفروه، وقتله نفر منهم، زاعمين أنهم يتقربون بهذا الفعل إلى الله! وما عندهم في ذلك مستند ولا برهان، إن هو إلا اتباع الأهواء وطاعة الشياطين.

ولا بد أن يقوم العلماء والدعاة بواجبهم في ذلك؛ حفاظًا على الإسلام والمسلمين، ولتمكين عقيدة أهل السُّنة والجماعة، وهذه هي الطريقة المثلى لجمع الشمل ووحدة الصف، ومَن تأمل تاريخ الإسلام الطويل وجد أن الدول التي قامت على السُّنة هي التي جمعتْ شمل المسلمين،، وعز به الإسلام قديمًا وحديثًا، وهذا بخلاف الدول التي قامتْ على البدعة، وأشاعت الفوضى والفرقة والمحدثات، وفرَّقت الشمل، فهذه سرعان ما تندثر.

والله المستعان.

ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــــــ

(1) هامش العواصم مِن القواصم لابن العربي، ص77.

(2) البخاري مع شرحه فتح الباري (13/ 318).

(3) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (16/ 332).

(4) عبد المحسن العباد البدر، عقيدة أهل السُّنة والجماعة في الصحابة الكرام -رضي الله عنهم وأرضاهم-.

(5) الباعث الحثيث اختصار علوم الحديث لابن كثير, ص (182).

(6) فتح الباري لابن حجر (13/ 34).

(7) أجيف الباب: رد وأغلق، المعجم الوسيط.

(8) البداية والنهاية لابن كثير (8/ 133).

ابو وليد البحيرى
2021-10-17, 09:25 AM
صفحات مِن ذاكرة التاريخ (24)

حول مناظرة "عبد الله بن عباس" مع "الخوارج" وأثرها






كتبه/ زين العابدين كامل


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فلقد انتهينا مِن الحديث عن موقعتي: "الجمل وصفين"، وذكرنا الأحداث التي وقعتْ وأسبابها ونتائجها، ثم أتبعنا ذلك بقراءةٍ تحليلية نقدية لأحداث الموقعتين، وألقينا الضوء على الدروس المستفادة مِن هذه الأحداث.

وإتمامًا للفائدة نذكر اليوم تفاصيل المناظرة التي كانت بيْن حبر الأمة عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- وبيْن الخوارج؛ فبعد الاتفاق الذي تم بيْن أهل الشام وأهل العراق على التحكيم، وأثناء عودة علي -رضي الله عنه- مِن صفين إلى الكوفة؛ انفصل الخوارج في جماعةٍ كبيرة مِن جيش علي -رضي الله عنه-، وقد قٌدر عددهم بعدة آلاف.

وقد انفصل هؤلاء عن الجيش قبْل أن يصلوا إلى الكوفة بمراحل, وقد أقلق هذا التفرق أصحاب علي -رضي الله عنه- وهالهم, وسار عليٌّ -رضي الله عنه- بمَن بقي مِن جيشه على طاعته حتى دخل الكوفة, وانشغل أمير المؤمنين -رضي الله عنه- بأمر الخوارج؛ خصوصًا بعد ما بلغه تنظيم جماعتهم مِن تعيين أمير للصلاة وآخر للقتال, وأن البيعة لله -عز وجل-؛ مما يعني انفصالهم فعليًّا عن جماعة المسلمين.

فأرسل علي -رضي الله عنه- ابن عباس إليهم لمناظرتهم؛ فرجع منهم ألفان بعد مناظرة ابن عباس -رضي الله عنهما- لهم, ثم خرج أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- بنفسه إليهم فكلمهم، فرجعوا ودخلوا الكوفة؛ إلا أن هذا الوفاق لم يستمر طويلاً.

لكننا نريد أن نقف على تفاصيل المناظرة، وكيف أقام ابن عباس -رضي الله عنهما- الحجة عليهم؛ لنأخذ مِن ذلك العبرة في كيفية التعامل مع المخالف، فعن عَبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: لَمَّا خَرَجَتِ الْحَرُورِيَّةُ اجْتَمَعُوا في دَارٍ وَهُمْ سِتَّةُ آلاَفٍ، أَتَيْتُ عَلِيًّا -رضي اللَّهُ عَنْهُ- فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَبْرِدْ بِالظُّهْرِ لَعَلِّي آتِي هَؤُلاَءِ الْقَوْمَ فَأُكَلِّمُهُمْ . قَالَ: إني أَخَافُ عَلَيْكَ. قُلْتُ: كَلاَّ. قَالَ: فَخَرَجْتُ آتِيهُمْ، وَلَبِسْتُ أَحْسَنَ مَا يَكُونُ مِنْ حُلَلِ الْيَمَنِ فَأَتَيْتُهُمْ وَهُمْ مُجْتَمِعُونَ في دَارٍ وَهُمْ قَائِلُونَ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: مَرْحَبًا بِكَ يَا ابن عَبَّاسٍ، فَما هَذِهِ الْحُلَّةُ؟ قَالَ: قُلْتُ: مَا تَعِيبُونَ عَلَيَّ، لَقَدْ رَأَيْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَحْسَنَ مَا يَكُونُ مِنَ الْحُلَلِ وَنَزَلَتْ: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) (الأعراف:32)، قَالُوا: فَمَا جَاءَ بِكَ؟ قُلْتُ: أَتَيْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ صَحَابَةِ النبي -صلى الله عليه وسلم- مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ لأُبْلِغَكُمْ مَا يَقُولُونَ وَتُخْبِرُونِي بِمَا تَقُولُونَ، فَعَلَيْهِمْ نَزَلَ الْقُرْآنُ وَهُمْ أَعْلَمُ بِالْوَحْي مِنْكُمْ، وَفِيهِمْ أُنْزِلَ، وَلَيْسَ فِيكُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ!

فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ تُخَاصِمُوا قُرَيْشًا، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: (بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) (الزخرف:58)، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَأَتَيْتُ قَوْمًا لَمْ أَرَ قَوْمًا قَطُّ أَشَدَّ اجْتِهَادًا مِنْهُمْ، مُسَهَّمَةٌ وُجُوهُهُمْ مِنَ السَّهَرِ(2) كَأَنَّ أَيْدِيَهُمْ وَرُكَبَهُمْ ثَفِنٌ(3)، عَلَيْهِمْ قُمُصٌ مُرَحَّضَةٌ -أي مغسولة-، قَالَ بَعْضُهُمْ: لَنُكَلِّمَنَّه ُ وَلَنَنْظُرَنَّ مَا يَقُولُ. قُلْتُ: أَخْبِرُونِي مَاذَا نَقَمْتُمْ عَلَى ابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَصِهْرِهِ وَالْمُهَاجِرِي نَ وَالأَنْصَارِ؟ قَالُوا: ثَلاَثًا. قُلْتُ: مَا هُنَّ؟ قَالُوا: أَمَّا إِحْدَاهُنَّ: فَإِنَّهُ حَكَّمَ الرِّجَالَ فِي أَمْرِ اللَّهِ، قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ) (الأنعام:57)، وَمَا لِلرِّجَالِ وَمَا لِلْحُكْمِ. فَقُلْتُ: هَذِهِ وَاحِدَةٌ. قَالُوا: وَأَمَّا الأُخْرَى فَإِنَّهُ قَاتَلَ وَلَمْ يَسْبِ وَلَمْ يَغْنَمْ، فَلَئِنْ كَانَ الَّذِينَ قَاتَلَ كُفَّارًا لَقَدْ حَلَّ سَبْيُهُمْ وَغَنِيمَتُهُمْ ، وَإِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ مَا حَلَّ قِتَالُهُمْ! قُلْتُ: هَذِهِ ثِنْتَانِ فَمَا الثَّالِثَةُ؟ قَالُوا: إِنَّهُ مَحَا اسْمَهُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ أَمِيرُ الْكَافِرِينَ. قُلْتُ: أَعِنْدَكُمْ سِوَى هَذَا؟ قَالُوا: حَسْبُنَا هَذَا. فَقُلْتُ لَهُمْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ قَرَأْتُ عَلَيْكُمْ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَمِنْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَا يُرَدُّ بِهِ قَوْلُكُمْ أَتَرْضَوْنَ؟ قَالُوا: نَعَمْ. فَقُلْتُ لَهُمْ: أَمَّا قَوْلُكُمْ حَكَّمَ الرِّجَالَ في أَمْرِ اللَّهِ، فَأَنَا أَقْرَأُ عَلَيْكُمْ مَا قَدْ رُدَّ حُكْمُهُ إِلَى الرِّجَالِ في ثَمَنِ رُبُعِ دِرْهَمٍ في أَرْنَبٍ وَنَحْوِهَا مِنَ الصَّيْدِ، فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) إِلَى قَوْلِهِ (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ) (المائدة:95)، فَنَشَدْتُكُمْ بِاللَّهِ: أَحُكْمُ الرِّجَالِ في أَرْنَبٍ وَنَحْوِهَا مِنَ الصَّيْدِ أَفْضَلُ أَمْ حُكْمُهُمْ في دِمَائِهِمْ وَإِصْلاَحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ، وَأَنْ تَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَوْ شَاءَ لَحَكَمَ وَلَمْ يُصَيِّرْ ذَلِكَ إِلَى الرِّجَالِ، وَفِي الْمَرْأَةِ وَزَوْجِهَا قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهُمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا) (النساء:35)، فَجَعَلَ اللَّهُ حُكْمَ الرِّجَالِ سُنَّةً مَاضِيَةً؛ أَخَرَجْتُ مِنْ هَذِهِ؟ قَالُوا: نَعَمْ.

قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: قَاتَلَ؛ فَلَمْ يَسْبِ، وَلَمْ يَغْنَمْ! أَتَسْبُونَ أُمَّكُمْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- ثُمَّ تَسْتَحِلُّونَ مِنْهَا مَا يُسْتَحَلُّ مِنْ غَيْرِهَا؛ فَلَئِنْ فَعَلْتُمْ لَقَدْ كَفَرْتُمْ وَهِيَ أُمُّكُمْ، وَلَئِنْ قُلْتُمْ: لَيْسَتْ بِأُمِّنَا لَقَدْ كَفَرْتُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- يَقُولُ: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِين َ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) (الأحزاب:6)، فَأَنْتُمْ تَدُورُونَ بَيْنَ ضَلاَلَتَيْنِ أَيَّهُمَا صِرْتُمْ إِلَيْهَا صِرْتُمْ إِلَى ضَلاَلَةٍ، فَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ؛ قُلْتُ: أَخَرَجْتُ مِنْ هَذِهِ؟ قَالُوا: نَعَمْ.

وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: مَحَا نَفْسَهُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَنَا آَتِيكُمْ بِمَنْ تَرْضَوْنَ أُرِيكُمْ، قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ كَاتَبَ الْمُشْرِكِينَ: سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو، وَأَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (اكْتُبْ يَا عَلِىُّ هَذَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) (رواه أحمد والحاكم والطبراني)، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: لاَ وَاللَّهِ مَا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، لَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا قَاتَلْنَاكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي رَسُولُكَ، اكْتُبْ يَا عَلِيُّ هَذَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ). فَوَاللَّهِ لَرَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- خَيْرٌ مِنْ عَلِيٍّ وَمَا أَخْرَجَهُ مِنَ النُّبُوَّةِ حِينَ مَحَا نَفْسَهُ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: فَرَجَعَ مِنَ الْقَوْمِ أَلْفَانِ وَقُتِلَ سَائِرُهُمْ عَلَى ضَلاَلَةٍ. (أخرجه النسائي، والبيهقي، والحاكم في المستدرك، والطبراني في الكبير، وعبد الرزاق في المصنف).

كانت فتنة الخوارج وبدعتهم أول بدعة اعتقادية ظهرت في أواخر عصر الصحابة -رضي الله عنهم-، وكانت تتعلق بقضايا الإيمان، فبدعة الخوارج هي أول البدع ظهورًا وأكثرها تأثيرًا وأشدها ضررًا على وحدة الأمة بسبب غلوهم وجهلهم وضلالهم، وأحاديث الخوارج مِن الأحاديث المتواترة كما نص على ذلك كثير مِن المحدثين، وكان اعتقاد الخوارج في ذلك أن مرتكب الكبيرة كافر ومخلد في النار، فتساهلوا في مسألة التكفير، ونحن نرى الآن مَن يكفـِّر المسلم بالزي والثياب! فمِن الناس مَن يقول مثلاً: مَن ارتدى الزي العسكري أو ثياب الفرنجة الكفار فهو كافر -ولا حول ولا قوة إلا بالله!-، وقد رأينا كيف أنهم أنكروا على ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه لبس حلة جميلة حسنة مِن حٌلل اليمن!

فهذه المُناظَرة فيها فوائد كثيرة لِمَن يتدبرها، فوائد تَنفَع الدعاة وطلاب العلم؛ لا سيما في واقِعنا المُعاصِر، وقد كثرت الفتن وانتشرت المناهج المنحرفة؛ فصاحب هذه المناظرة هو حبر الأمَّة وعالمها عبد الله بن عباس -رضِي الله عنهما- الذي دعا له رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- بالفقه في الدين؛ فلنتأمل كيف كان ابن عباس -رضي الله عنهما- حريصًا على هداية مَن ضلَّ الطريق؟!

وهذا الحرص ينبع مِن حبه للمسلمين، ومِن خوفه على أمته، والدين النصيحة كما أخبر بذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلا حرج مِن إجراء بعض المناظرات مع المخالفين إن كانت هناك مصلحة في ذلك، مع الأخذ بعين الاعتبار أن تكون النية هي الحرص على هداية الخلق والوصول للحق، لا الانتصار للنفس وحب الظهور والشهرة.

قال الشافعي -رحمه الله-: "ما كلَّمت أحدًا قط إلا أحببت أن يوفَّق ويسدد ويعان, ويكون عليه رعاية مِن الله وحفظ, وما كلمت أحدًا قطُّ إلا ولم أبال بيَّن الله الحقَّ على لساني أو لسانِه!".

ولنتأمل أيضًا: حرص علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- على ابن عباس -رضي الله عنهما-، قال علي لابن عباس -رضِي الله عنهم-: "إني أخافُهم عليك"، وكان قد اشتَهَر عن الخوارج استِحلال دماء المسلمين، كما وصَفَهم رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- بقوله: (يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ) (متفق عليه)، وهذا ما يجب أن يكون بيْن أهل العلم وطلابه.

ولنتأمل أيضًا: حسن توكُّل ابن عباس -رضي الله عنهما-، واستِحضار مشيئة الله وقدره، كما قال ابن عباس لعلي -رضِي الله عنهم- لما قال له علي: "أخافُهم عليك"، قال ابن عباس: "كلا إن شاء الله"، والداعية إلى الله لا بد وأن يتعرَّض في دعوته للمَخاطِر والابتلاءات، فإن لم يُحسِن التوكُّل على الله، ويحسن الظنَّ بخالقه، ويستشعر معنى اسم الله "الحفيظ"، واسم الله "القوي" ونحو ذلك، ربما أدى ذلك إلى تركه للدعوة بالكلية، ولنتأمل كذلك قول ابن عباس للخوارج: أتيتكم مِن عند أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، المهاجرين والأنصار، ومِن عند ابن عمِّ النبي -صلى الله عليه وسلم- وصهره، وعليهم نزل القرآن؛ فهم أعلم بتأوِيله منكم، وليس فيكم منهم أحد. فكأنه يقول لهم، فأني لكم، كيف تُخالِفونهم؟ ثم مَن تُناصِبُونه العداء هو علي ابن عمِّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وزوْج ابنته فاطمة التي هي بَضْعة منه! وهؤلاء جميعًا هم مَن نزل عليهم القرآن، فهم أَوْلَى منكم بمعرفة تفسيره وأحكامه، ولم ينحز واحدٌ منهم إليكم، ولا فهم الذي فهمتم مِن القرآن! وبهذا يُرَسِّخ الداعية للحقِّ الذي يحمله مع مُخالِفه، فيجعله أكثر قابليَّة للحق.

وتدل المناظرة على استِعمال عامَّة أهل البِدَع والضَّلال نصوص الوحيَيْن في غير موضعها، كما استدلَّت الخوارج على ترك السماع مِن ابن عباس -رضي الله عنهما-؛ لأنه قرشيٌّ! والله يقول عن قريش: (بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ)، فالآية نزلت في مُشرِكي قريش الذين يُخاصِمون بالباطل، وابن عباس إنَّما جاءهم ليَرُدَّهم إلى الحقِّ، ويُكلِّمهم بكتاب الله وسُنَّة النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فكيف يجعَلونه مِن أهل هذه الآية؟!

وفي هذه المُناظَرة الكثير مِن جهل الخوارج بنصوص كتاب الله -تعالى- وتنزيلها غير موضعها، أو عدم فهمها ابتِداءً.

ومِن الفوائد أيضًا: عدم الاغتِرار بالهدي الظاهر والسَّمْت فقط؛ لأنَّ الدين مَبناه على العلم والعمل جميعًا، لا العمل على جهل، كحال الخوارج هنا، ولا العلم دون عمل كحال كثيرٍ مِن الناس، فابن عباس -رضِي الله عنهما- قال عن الخوارج: وما أتيتُ قومًا قطُّ أشدَّ اجتِهادًا منهم، مُسهِمة وجوههم مِن السهر! كأنَّ أيديهم ورُكَبهم تثنى عليهم، لكنَّهم مع ذلك (يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ) كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث المتفق عليه، فكيف تُؤثِّر فيهم القراءة، وكيف يَفقَهُون ما يقرؤون؟! فهم يعبدون الله على جهل، وكثيرٌ مِن الناس يَغتَرُّون ببعض الدعاة وبشهرتهم وبلباقة لسانهم، ولا يفرِّقون بيْن العالم وغيره، فكل مَن لبس لباسًا معينًا فهو عندهم العالم! ومِن هنا تقع الفِتَن والمِحَن.

ومِن الفوائد أيضًا: إياك وسوء الظن في المخالفين جملة واحدة، فمِن الخوارج مَن قال: لنُكَلِّمنَّه ولنَنظُرَنَّ ما يقول، وهذا منهم تحرٍّ للخير، ثم منهم مَن قَبِل الحق، وعاد إلى صوابه ولم يستكبر.

ثم لا بد مِن دراسة وتعلم فن المناظرة، ويَظهَر هذا جليًّا مِن أسئلة ابن عباس -رضي الله عنهما- للخوارج، فهو يقول لهم أولاً: هاتوا ما نقمتم على أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وابن عمِّه. وقال لهم: هل عندكم شيء غير هذا؟ ثم قال لهم ابن عباس كذلك مُشتَرِطًا: أرأيتُكم إن قرأتُ عليكم من كتاب الله وسُنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- ما يردُّ قولكم، أترجعون؟ وهذا أيضًا مِن حُسْنِ سياسة ابن عباس في حوارِه، فهو سأَلَهم بدايةً ما يُنكِرونه على أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم اشتَرَط عليهم الرُّجوع إلى الجماعة إذا ما ردَّ عليهم قولهم مِن كتاب الله وسنَّة نبيِّه -صلى الله عليه وسلم-.

وبعد كلِّ تفنيد شبهة يسألهم: أخرجتُ مِن هذه؟ فالمناظرة فن لا يحسنه كل أحد، فلا بد مِن تعلم هذا الفن، ولا يتصدر لهذا الفن إلا مَن أتقنه فحسب؛ لأنه مِن الممكن لضعف المناظِر ينتصر الباطل فيما يبدو للناس، وكذا لا بد أن نحذر مِن الاستخفاف بالمخالفين، فابن عباس -رضي الله عنهما- لم يَتعالَ عن مُناقَشة عقولٍ بهذا الفكر وهذا الفهم، وهذا هو واجب الدُّعاة إلى الله في كلِّ زمان.

ومِن فقه الداعية أيضًا: تذكيره لِمُخالِفِيه بالله، حتى تلِين قلوبُهم للحقِّ ولا يُكابِرون، كما كان يقول ابن عباس -رضي الله عنهما- للخوارج: أنشدكم بالله، أحكم الرجال في صَلاحِ ذات البَيْنِ وحَقْنِ دمائهم أفضل أو في أرنب؟ قالوا: بلى، بل هذا أفضل.

فالعبد يحتاج للتذكير بالله -تعالى- في خصوماته دومًا، ليُصَحِّح نيَّته، ويرضى بالحقِّ ويقبله، وهذه المناظرة أكبر دليل على أننا بحاجةٍ ماسة لا سيما في واقعنا المعاصِر إلى العُلَماء الربانيِّين وطلاب العلم النابِغين الذين يَرُدُّون الناس إلى الحقِّ، ويَأخُذون بأيديهم إلى السُّنة، فابن عباس جعَلَه الله سببًا في هِدايَة ألفَيْن مِن رجال الخوارج، الله أعلم بمصيرهم لو لم يرجعوا معه.

ثم إنه يجب على أهل العلم الذين مَنَّ الله عليهم بالفقه في الدين إذا ظهرت الفتن أن يُخرجوا علمهم، ويدلوا بدلوهم؛ لكشف الجهل وأهله، وتحذير الناس مِن الباطل.

ولا بد أن يكون الجميع على يقين أن الفكر لا يقاوَم إلا بالمواجهة الفكرية: فالخلل الفكري لا يواجَه بالسجون والتعذيب والتنكيل، فإن هذا قد لا يزيدهم إلا تشددًا وتعصبًا لأفكارهم، فالمواجهة الأمنية لا تكفي هنا، بل لا بد مِن مواجهةٍ فكرية علمية معهم، يقوم بها رجال ثقات في علمهم، ثقات في دينهم، فإن الذي يتعمق في واقع هذه الجماعات الإسلامية التي اتخذت العنف سبيلاً لها؛ يجد بوضوح أن وراءها أسبابًا فكرية هي الأكبر تأثيرًا، فهناك عوامل نفسية وسياسية واجتماعية تسهم بحد كبير جدًّا في ظهور التطرف والانحراف الفكري، فلا بد مِن معالجتها بما يتناسب معها.

فهذه كانت مناظرة حبْر الأمة للخوارج، وهذه كانت بعض الدروس والعبر المستفادة مِن المناظرة لعلها تنير لنا الطريق؛ لا سيما في خضم هذه الأحداث المتلاحقة، والفتن المختلفة.

والله المستعان.

ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــ


(1) سموا الحرورية، نسبة إلى بلدة حروراء في الكوفة، وكانت مركز خروجهم على علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-.

(2) أي متغير لون وجوههم، انظر "لسان العرب".
(3) جمع ثفِنة بكسر الفاء: ما ولي الأرض مِن كل ذات أربع إذا بركت، كالركبتين وغيرهما، أي: غلظت جلود أكفهم لطول السجود "النهاية في غريب الحديث".

ابو وليد البحيرى
2021-11-25, 12:10 PM
صفحات مِن ذاكرة التاريخ (25)

الخوارج ومقتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-







كتبه/ زين العابدين كامل


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فبعد الاتفاق الذي تم بيْن أهل الشام وأهل العراق على التحكيم، وأثناء عودة علي -رضي الله عنه- مِن صفين إلى الكوفة انفصل الخوارج في جماعةٍ كبيرة مِن جيش علي -رضي الله عنه-، فأرسل إليهم ابن عباس -رضي الله عنهما- لمناظرتهم، فرجع منهم ألفان بعد مناظرة ابن عباس لهم.

وقد ذكرنا تفاصيل المناظرة في المقال السابق، ثم خرج أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- بنفسه إليهم، فكلمهم فرجعوا ودخلوا الكوفة؛ إلا أن هذا الوفاق لم يستمر طويلاً؛ بسبب أن الخوارج فهموا مِن علي -رضي الله عنه- أنه رجع عن التحكيم وتاب مِن خطيئته, ثم تدهورت الأمور وتأزمت، فكانت معركة النهروان (38هـ - 658م) بيْن أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- وبيْن الخوارج.

وسبب المعركة: أن أمير المؤمنين عليًّا -رضي الله عنه- اشترط على الخوارج ألا يسفكوا دمًا, ولا يروعوا آمنًا, ولا يقطعوا سبيلاً, ونظرًا لأن الخوارج يكفِّرون مَن خالفهم ويستبيحون دمه وماله, فقد بدؤوا بسفك الدماء المحرمة في الإسلام, وقد تعددت الروايات في ارتكابهم المحظورات, وكان أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- يدرك أن هؤلاء القوم هم الخوارج الذين عناهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمروق مِن الدين, لذلك أخذ يحث أصحابه أثناء مسيرهم إليهم ويحرضهم على قتالهم, فقد كان -رضي الله عنه- يحث جيشه على البدء بهؤلاء الخوارج, فقال: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: (يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لَيْسَ قِرَاءَتُكُمْ إِلَى قِرَاءَتِهِمْ بِشَيْءٍ، وَلَا صَلَاتُكُمْ إِلَى صَلَاتِهِمْ بِشَيْءٍ، وَلَا صِيَامُكُمْ إِلَى صِيَامِهِمْ بِشَيْءٍ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ يَحْسِبُونَ أَنَّهُ لَهُمْ وَهُوَ عَلَيْهِمْ، لَا تُجَاوِزُ صَلَاتُهُمْ تَرَاقِيَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ) (رواه مسلم). وقال -رضي الله عنه- في يوم النهروان: "أُمِرْتُ بِقِتَالِ الْمَارِقِينَ، وَهَؤُلَاءِ الْمَارِقُونَ" (أخرجه ابن أبي عاصم في السُّنة، وصححه الألباني).

وأرسل علي -رضي الله عنه- رسله يناشدهم الله ويأمرهم أن يرجعوا, وأرسل إليهم البراء بن عازب -رضي الله عنه- يدعوهم ثلاثة أيام فأبوا (أخرجه البيهقي في السنن الكبرى), ولم تزل رسله تختلف إليهم حتى قتلوا رسله! (المصنف لابن أبي شيبة).

وعندما بلغ الخوارج هذا الحد، وقطعوا الأمل في كل محاولات الصلح وحفظ الدماء, ورفضوا عنادًا واستكبارًا العودة إلى الحق، وأصروا على القتال؛ قام أمير المؤمنين بترتيب الجيش وتهيئته للقتال، وزحف الخوارج إلى علي -رضي الله عنه-, فقال علي لأصحابه: كفوا عنهم حتى يبدأوكم, وأقبلت الخوارج يقولون: "لا حكم إلا لله, الرواح الرواح إلى الجنة!"، وبدأ القتال فاستقبلهم الرماة بالنبل, فرموا وجوههم, وعطفت عليهم الخيالة مِن الميمنة والميسرة, ونهض إليهم الرجال بالرماح والسيوف, فأناموا الخوارج فصاروا صرعى وقُتِل أمراؤهم، وقد كانت معركة حاسمة وقصيرة أخذت وقتًا مِن اليوم التاسع مِن شهر صفر مِن عام ثمان وثلاثين للهجرة, وأسفرت هذه المعركة الخاطفة عن عددٍ كبيرٍ مِن القتلى في صفوف الخوارج, وكان الحال على عكس ذلك تمامًا في جيش أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه, فقتلى أصحاب علي -رضي الله عنه- فيما رواه مسلم في صحيحه, عن زيد بن وهب رجلان فقط، قال: "وَمَا أُصِيبَ مِنَ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ إِلَّا رَجُلَانِ" (رواه مسلم). وفي رواية: "وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ اثْنَا عَشَرَ أَوْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ" (المصنف لابن أبي شيبة).

ثم وافق أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- في سنة أربعين للهجرة بعد الاتفاق الذي تم بيْن الطرفين بشكل مؤقت أن يكون لمعاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- الشام، على أن يكون العراق له، ولا يدخل أحدهما على صاحبه في عمله بجيش ولا غارة ولا غزو، وذلك بعد ما جرت بيْن علي ومعاوية -رضي الله عنهما- المهادنة بعد مكاتبات جرت بينهما (انظر تاريخ الرسل والملوك للطبري).

وكان أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- قد تنغصت عليه الأمور، واضطرب عليه جيشه، وخالفه أهل العراق، ونكلوا عن القيام معه، وقد كان أهل الشام بعد التحكيم يسمون معاوية الأمير، وكلما ازداد أهل الشام قوة ضعف جأش أهل العراق، هذا وأميرهم علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- خير أهل الأرض في ذلك الزمان، أعبدهم وأزهدهم، وأعلمهم وأخشاهم لله -عز وجل-، ومع هذا كله خذلوه وتخلوا عنه حتى كره الحياة وتمنى الموت، وذلك لكثرة الفتن وظهور المحن، فكان يكثر أن يقول: "ما يحبس أشقاها!"، أي ما ينتظر؟ ما له لا يقتل؟ (البداية والنهاية لابن كثير)، وكان علي -رضي الله عنه- في هذا التوقيت يتوجه إلى الله بالدعاء ويطلب منه -عز وجل- أن يعجل منيته، وقال يومًا: "اللهم إني قد سئمتهم وسئموني، ومللتهم وملوني، فأرحني منهم وأرحهم مني، فما يمنع أشقاكم أن يخضبها بدم، ووضع يده على لحيته!" (أخرجه عبد الرزاق في مصنفه بسندٍ صحيح، وابن سعد في الطبقات).

وتفيد بعض الروايات أن عليًّا -رضي الله عنه- كان على علمٍ مسبق مِن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأنه سيموت مقتولاً، وهو مِن الشهداء بنص أحاديث رسول الله -عليه الصلاة والسلام-، وقد جمع البيهقي -رحمه الله- هذه الروايات في كتابه (دلائل النبوة)، وجمعها الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في كتابه (البداية والنهاية).

فعن علي -رضي الله عنه- قال: "إِنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَهِدَ إِلَيَّ أَنْ لَا أَمُوتَ حَتَّى أُؤَمَّرَ، ثُمَّ تُخْضَبَ هَذِهِ -يَعْنِي لِحْيَتَهُ- مِنْ دَمِ هَذِهِ -يَعْنِي هَامَتَهُ-" (رواه أحمد، وصححه الشيخ أحمد شاكر).

لقد تركت معركة النهروان في نفوس الخوارج جرحًا غائرًا، فاتفق نفر منهم على أن يفتكوا بعلي -رضي الله عنه-، ويثأروا لمَن قُتِل مِن إخوانهم في النهروان؛ فاجتمع عبد الرحمن بن ملجم الكندي، وكان في وجهه علامة السجود مِن كثرة العبادة -وكان معروفًا بها-، والبُرك بن عبد الله، وعمرو بن بكر التيمي، فتذاكروا أمر الناس، وعابوا على ولاتهم، ثم ذكروا أهل النهر، فترحموا عليهم، وقالوا: ما نصنع بالبقاء بعدهم شيئًا، إخواننا الذين كانوا دعاة الناس لعبادة ربهم، والذين كانوا لا يخافون في الله لومة لائم، فلو شرينا أنفسهم فأتينا أئمة الضلالة فالتمسنا قتلهم فأرحنا منهم البلاد، وثأرنا بهم إخواننا، فقال ابن ملجم: أنا أكفيكم علي بن أبي طالب -وكان مِن أهل مصر-، وقال البرك بن عبد الله: وأنا أكفيكم معاوية، وقال عمرو بن أبي بكر: وأنا أكفيكم عمرو بن العاص، فتعاهدوا وتواثقوا بالله لا ينكص رجل منا عن صاحبه الذي توجه إليه حتى يقتله أو يموت دونه، فأخذوا أسيافهم، فسموها وتواعدوا لسبع عشرة تخلو مِن رمضان أن يثب كل واحد منهم على صاحبه الذي توجه إليه، وأقبل كل رجل منهم إلى المصر الذي صاحبه فيه يطلب، ودخل شهر رمضان فواعدهم ابن ملجم ليلة الجمعة لسبع عشرة ليلة خلت (الكامل في التاريخ لابن الأثير، والبداية والنهاية لابن كثير)، وقال: هذه الليلة التي واعدتُ أصحابي فيها أن يثأروا بمعاوية وعمرو بن العاص.

فجاء ثلاثة نفر، وهم: ابن ملجم، ووردان، وشبيب، وهم مشتملون على سيوفهم، فجلسوا مقابل السدة التي يخرج منها علي -رضي الله عنه-، وانتظر عبد الرحمن بن ملجم في فجر هذا اليوم حتى خرج علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- مِن بيته لصلاة الفجر، وأخذ يمرّ على الناس يوقظهم للصلاة، وكان لا يصطحب معه حراسًا، حتى اقترب مِن المسجد فضربه شبيب بن نجدة ضربة وقع منها على الأرض، لكنه لم يمت منها، فأمسك به ابن ملجم، وضربه بالسيف المسموم على رأسه، فسالت الدماء على لحيته، ولما ضربه ابن ملجم قال: لا حكم إلا لله، ليس لك يا علي ولا لأصحابك، وجعل يتلو قوله -تعالى-: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) (البقرة:207)، ونادى علي -رضي الله عنه-: عليكم به، وهرب وردان فأدركه رجل مِن حضرموت فقتله، وذهب شبيب فنجا بنفسه وفات الناس، ومُسك ابن ملجم.

وقدَّم عليُّ جعدة بن هبيرة بن أبي وهب فصلى بالناس صلاة الفجر، وحٌمل علي -رضي الله عنه- إلى منزله، وحمل إليه عبد الرحمن بن ملجم فأوقف بيْن يديه وهو مكتوف -قبحه الله- فقال له: أي عدو الله ألم أحسن إليك؟ قال: بلى: قال. فما حملك على هذا: قال؟ شحذته أربعين صباحًا، وسألتُ الله أن يُقتل به شر خلقه، فقال له علي -رضي الله عنه-: لا أراك إلا مقتولاً به، ولا أراك إلا مِن شر خلق الله، ثم قال: إن مت فاقتلوه، وإن عشتُ فأنا أعلم كيف أصنع به، فقال جندب بن عبد الله: يا أمير المؤمنين إن مت نبايع الحسن؟ فقال: لا آمركم ولا أنهاكم، أنتم أبصر.

ولما احتضر علي -رضي الله عنه- جعل يكثر مِن قول: "لا إله إلا الله"، لا يتلفظ بغيرها، وقد قيل: إن آخر ما تكلم به (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (الزلزلة:7-8) (الطبقات لابن سعد، وتاريخ الرسل والملوك للطبري)، وقد أوصى ولديه الحسن والحسين بتقوى الله والصلاة والزكاة، وكظم الغيظ وصلة الرحم والحلم عن الجاهل، والتفقه في الدين والتثبيت في الأمر، والتعاهد للقرآن، وحسن الجوار، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واجتناب الفواحش، ووصاهما بأخيهما محمد بن الحنفية ووصاه بما وصاهما به، وأن يعظمهما ولا يقطع أمرًا دونهما، وكتب ذلك كله في كتاب وصيته -رضي الله عنه وأرضاه-، وقد غسله ابناه الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر وصلى عليه الحسن (الطبقات لابن سعد).

ولما جاء خبر مقتل علي -رضي الله عنه- إلى معاوية جعل يبكي، فقالت له امرأته: "أتبكيه وقد قاتلته؟! فقال: ويحك! إنكِ لا تدرين ما فقد الناس مِن الفضل والفقه والعلم!"(1) (البداية والنهاية لابن كثير 8 /133).

وكانت مدة خلافة علي -رضي الله عنه- على قول خليفة بن خياط، أربع سنين وتسعة أشهر وستة أيام، ويقال ثلاثة أيام، ويقال أربعة عشر يومًا، فكانت وفاته شهيدًا في شهر رمضان يوم الجمعة لسبع عشرة خلت منه (تاريخ الرسل والملوك للطبري). وقيل: في اليوم الحادي والعشرين مِن شهر رمضان عام أربعين للهجرة (أخرج البخاري في التاريخ الكبير بسندٍ صحيح).

وأما معاوية -رضي الله عنه-: فقد انتظره البرك بن عبد الله الذي تعهد بقتله في نفس التوقيت، وضربه بالسيف المسموم فتجنّبه معاوية -رضي الله عنه- فأصاب فخذه، فحمله الناس إلى بيته، وقبضوا على البرك بن عبد الله، وداوى الناس معاوية -رضي الله عنه- فشفاه الله، ولم يمت مِن هذه الضربة.

وأما عمرو بن العاص -رضي الله عنه-: فذهب إليه عمرو بن بكر المتعهد بقتله، وانتظر خروجه لصلاة الصبح، ولكن سبحان مَن بيده ملكوت كل شيء؛ كان مريضًا في هذا اليوم فعهد بالصلاة إلى نائبه خارجة، فلما خرج إلى الصلاة ظنّه الرجل عمرو بن العاص، فذهب إليه وقتله، فأمسكوا به وقتلوه به، ونجّى الله عمرو بن العاص منه، وقال الناس: "أراد عمرًا، وأراد الله خارجة!" فصارت مثلاً لمَن أراد شيئًا وأراد الله شيئًا آخر.

وبعد مقتل علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أصبح المسلمون بلا خليفة، وبدأ المسلمون يفكرون في اختيار خليفة لهم (الأخبار الطوال للدينوري، وانظر البداية والنهاية لابن كثير).

وهكذا هم الخوارج الذين سعوا في الأرض فسادًا؛ لقد كانت فتنة الخوارج وبدعتهم أول بدعة اعتقادية ظهرت في أواخر عصر الصحابة -رضي الله عنهم-، وكانت تتعلق بقضايا الإيمان، فبدعة الخوارج هي أول البدع ظهورًا، وأكثرها تأثيرًا، وأشدها ضررًا على وحدة الأمة؛ بسبب غلوهم وجهلهم وضلالهم، فتساهلوا في مسألة التكفير، واستحلال دماء المسلمين، مع أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)، وقال لعلي -رضي الله عنه-: (أَلاَ تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ، مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ نَبِيٌّ بَعْدِي) (متفق عليه)، ومع ذلك كفـَّره الخوارج، وقتلوه واستحلوا دمه وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، ويظنون أنهم يتقربون بذلك إلى الله -عز وجل-!

والله المستعان.

ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــ

(1) وهذا يدل على إنصاف الصحابة -رضي الله عنهم- وأنهم مع اختلافهم، لكنهم لا ينكِرون فضل أحدٍ، فرغم ما حدث بينهم إلا أنهم يعرفون فضل بعضهم على بعض ولا ينكرونه، ولا يحملهم ما جرى ووقع بينهم على ألا يعدلوا، فعَن عبد الرَّحْمَنِ بْن مَعْقِلٍ، قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ عَلِيٍّ صَلَاةَ الْغَدَاةِ، قَالَ: فَقَنَتَ، فَقَالَ فِي قُنُوتِهِ: "اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِمُعَاوِيَةَ وَأَشْيَاعِهِ، وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَأَشْيَاعِهِ، وَأَبِي السُّلَمِيِّ وَأَشْيَاعِهِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ وَأَشْيَاعِهِ" (مصنف ابن أبي شيبة).


قال شيخ الإسلام معلقًا على هذا الأثر: "وَقِيلَ: إِنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ كَانَتْ تَقْنُتُ عَلَى الْأُخْرَى. وَالْقِتَالُ بِالْيَدِ أَعْظَمُ مِنَ التَّلَاعُنِ بِاللِّسَانِ، وَهَذَا كُلُّهُ سَوَاءٌ كَانَ ذَنْبًا أَوِ اجْتِهَادًا: مُخْطِئًا أَوْ مُصِيبًا، فَإِنَّ مَغْفِرَةَ اللَّهِ وَرَحْمَتَهُ تَتَنَاوَلُ ذَلِكَ بِالتَّوْبَةِ وَالْحَسَنَاتِ الْمَاحِيَةِ وَالْمَصَائِبِ الْمُكَفِّرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ" (منهاج السُّنة 4/ 469)، وقد سمع عمار بن ياسر -رضي الله عنهما- رجلاً بجواره يقول: "كفر أهل الشام!" فنهاه عمار -رضي الله عنه- عن ذلك وقال: "إنما بغوا علينا، فنحن نقاتلهم لبغيهم، فإلهنا واحد، ونبينا واحد، وقبلتنا واحدة".

ابو وليد البحيرى
2021-12-27, 12:36 PM
صفحات مِن ذاكرة التاريخ (26)

بيعة الحسن بن علي -رضي الله عنهما- وتنازله عن الخلافة




كتبه/ زين العابدين كامل

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فلما ظهر مِن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه علامات الوداع ومفارقة الدنيا، قال له بعض مَن كانوا حوله: "استخلف علينا، قال: لا، ولكن أترككم إلى ما ترككم إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قالوا: فما تقول لربك إذا أتيته، قال: أقول: اللهم تركتني فيهم ما بدا لك، ثم قبضتني إليك وأنت فيهم، فإن شئت أصلحتهم، وإن شئت أفسدتهم" (رواه البيهقي والبزار). وفي رواية: "أقول: اللهم استخلفتني فيهم ما بدا لك، ثم قبضتني وتركتك فيهم" (رواه الهيثمي).
فلما مات، جاء الناس وبايعوا ولده الحسن بن علي -رضي الله عنهما-، وكان أول مَن بايع الحسنَ قيس بن سعد، قال له: "ابسط يدك أبايعك على كتاب الله -عز وجل-، وسنة نبيه، وقتال المُحلِّين -المحل: الذي نقض العهد-، فقال له الحسن -رضي الله عنه-: على كتاب الله وسنة نبيه، فإن ذلك يأتي مِن وراء كل شرط: فبايعه وسكت، وبايعه الناس" (تاريخ الرسل والملوك للطبري).
"وقد اشترط الحسن بن علي -رضي الله عنهما- على أهل العراق عندما أرادوا بيعته، فقال لهم: إنكم سامعون مطيعون، تسالمون مَن سالمت، وتحاربون مَن حاربت" (تاريخ الرسل والملوك للطبري).
وفي رواية ابن سعد: "إن الحسن بن علي أبي طالب -رضي الله عنه- بايع أهل العراق بعد علي على بيعتين، بايعهم على الإمرة، وبايعهم على أن يدخلوا فيما دخل فيه ويرضوا بما رضي به" (رواه ابن سعد في الطبقات).
ويُستفاد مِن الروايات السابقة ابتداء الحسن -رضي الله عنهما- في التمهيد للصلح فور استخلافه، وقد استمر أمير المؤمنين الحسن بن علي -رضي الله عنهما- بعد بيعته خليفة على الحجاز، واليمن، والعراق، وغير ذلك نحو سبعة أشهر، وقيل: ثمانية أشهر، وقيل: ستة أشهر، وكانت خلافته هذه مدة خلافة راشدة حقة؛ لأن هذه المدة كانت تتمة لمدة الخلافة الراشدة التي أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن مدتها ثلاثون سنة، فقد روي الترمذي بإسناده إلى سفينة مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (الخِلَافَةُ فِي أُمَّتِي ثَلَاثُونَ سَنَةً، ثُمَّ مُلْكٌ بَعْدَ ذَلِكَ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
ثالثًا: الصلح بيْن الحسن بن علي ومعاوية -رضي الله عنهم-:
بويع الحسن -رضي الله عنه-، وبايعه الأمراء الذين كانوا مع والده، وكل الناس الذين بايعوا لأمير المؤمنين علي -رضي الله عنه-، وباشر سلطته كخليفة؛ فرتب العمال، وأمّر الأمراء، وجنَّد الجنود، وفرق العطايا، وزاد المقاتلة في العطاء، وكان في وسعه أن يخوض حربًا لا هوادة فيها ضد معاوية -رضي الله عنه-، وكانت شخصيته الفذة مِن الناحية السياسية، والعسكرية، والأخلاقية، والدينية تساعد على ذلك، مع وجود عوامل أخرى، كوجود قيس بن سعد بن عبادة، وحاتم بن عدي الطائي، وغيرهما مِن قادة المسلمين الذين لهم مِن القدرات القيادية الشيء الكثير؛ إلا أن الحسن بن علي -رضي الله عنهما- مال إلى السلم والصلح؛ لحقن الدماء، وتوحيد الأمة، ورغبة فيما عند الله وزهدًا في الملك، وغير ذلك مِن الأسباب، وقد قاد الحسن بن علي -رضي الله عنهما- مشروع الإصلاح الذي توّج بوحدة الأمة، وظل زمام الموقف في جانبه وبيده ويد أنصاره، وكانت جبهته العسكرية قوية كما جاء في رواية البخاري، وقد عبَّر عن ذلك عمرو بن العاص -رضي الله عنه- عندما قال: "إِنِّي لَأَرَى كَتَائِبَ لاَ تُوَلِّي حَتَّى تَقْتُلَ أَقْرَانَهَا" (رواه البخاري)، وقال الحسن بن علي -رضي الله عنهما-: "كانت جماجم العرب بيدي تحارب مَن حاربت، وتسالم مَن سالمت" (أخرجه الحاكم في المستدرك)، ولكن الحسن كان ذا خُلُقٍ يجنح إلى السلم، وكراهة الفتنة ونبذ الفرقة(1).
وهذا الفعل مِن الحسن يُعد عَلَمًا مِن أعلام النبوة، والحجة في ذلك ما أخرجه البخاري مِن طريق أبي بكرة -رضي الله عنه- قال: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى المِنْبَرِ وَالحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ إِلَى جَنْبِهِ، وَهُوَ يُقْبِلُ عَلَى النَّاسِ مَرَّةً، وَعَلَيْهِ أُخْرَى وَيَقُولُ: (إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ) (رواه البخاري).
إن صلح الحسن مع معاوية -رضي الله عنهما- مِن الأحداث العظام في تاريخ الأمة الإسلامية، فمن ثمار هذا الصلح: حقن دماء المسلمين، وجمع كلمتهم على إمامٍ واحدٍ بعد سنواتٍ مِن الفرقة، ويٌعد الحسن -رضي الله عنه- أول خليفة يتنازل عن منصبه ويخلع نفسه طواعية، دون إجبار مِن أحدٍ، وذلك مع قدرته على أن يستمر في الحكم، ولكن الحسن -رضي الله عنه- كان ينظر إلى المصلحة العامة للأمة ويريد جمع شتاتها وتوحيد كلمتها، وبعد أن كشف الحسن عن نيته في الصلح مع معاوية -رضي الله عنه- وقعت المحاولة الأولى لاغتياله -رضي الله عنه-، وهذه المحاولة يبدو أنها قد جرت بعد استخلافه بقليل، فإن الحسن بن علي لما استخلف بعد مقتل علي -رضي الله عنه-، فبينما هو يصلي إذ وثب عليه رجل فطعنه بخنجر، فوقعت في وركه فمرض منها أشهرًا ثم برئ، فقعد على المنبر فقال: "يا أهل العراق اتقوا الله فينا، فإنا أمراؤكم وضيفانكم، أهل البيت الذين قال الله: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (الأحزاب:33)، قال: فما زال يقول ذلك حتى ما رُئي أحد مِن أهل المسجد إلا وهو يخن -الخنين: البكاء في الأنف- بكاءً" (رواه ابن سعد في الطبقات).
خروج الحسن -رضي الله عنه- بجيش العراق مِن الكوفة إلى المدائن:
بعد أن بايع أهل العراق الحسن بن علي -رضي الله عنهما- قالوا له: "سر إلى هؤلاء القوم الذين عصوا الله ورسوله، ارتكبوا العظيم وابتزوا -الابتزاز: هو أخذ الشيء بجفاء وقهر، وهو أيضًا الحصول على المال أو المنافع مِن شخص تحت التَّهديد بفضح بعض أسراره أو غير ذلك- الناس أمورهم، فإنا نرجو أن يمكِّن الله منهم، فسار الحسن إلى أهل الشام، وجعل على مقدمته قيس بن سعد بن عبادة في اثنى عشر ألفًا" (رواه ابن سعد في الطبقات).
وبهذا يتضح أن أهل العراق هم الذين دفعوا الحسن -رضي الله عنه- إلى الخروج لقتال أهل الشام مِن غير رغبةٍ منه، وهذا الأمر قد أشار إليه ابن كثير -رحمه الله- بقوله: "ولم يكن في نية الحسن أن يقاتل أحدًا، ولكن غلبوه على رأيه، فاجتمعوا اجتماعًا عظيمًا لم يُسمع بمثله، فأمّر الحسن بن علي، قيس بن سعد بن عبادة، على المقدمة في اثنى عشر ألفًا بيْن يديه، وسار هو بالجيوش في إثره قاصدًا بلاد الشام، فلما اجتاز بالمدائن نزلها وقدم المقدمة بيْن يديه، وقد أظهر الحسن حنكة كبيرة دلت على سعهَ أفقه ودهائه وبصيرته، عندما لم يشأ أن يواجِه أهل العراق مِن البداية بميله إلى مصالحة معاوية وتسليمه الأمر؛ لأنه يعرف خفتهم وتهورهم، فأراد أن يقيم مِن مسلكهم الدليل على صدق نظرته فيهم، وعلى سلامة ما اتجه إليه، فوافقهم على المسير لحرب معاوية وعبأ جيشه" (البداية والنهاية لابن كثير).
خروج معاوية -رضي الله عنه- مِن الشام إلى العراق:
بعد أن وصل خبر خروج الحسن -رضي الله عنه- مِن الكوفة إلى المدائن بجيوشه، أقبل معاوية -رضي الله عنه- في أهل الشام يريد الحسن -رضي الله عنه- حتى نزل جسر منيح -قرية في الجزيرة الفراتية-، ثم أقبل مِن جسر منيح إلى مسكِن -موضع على نهر دجيل عند دير الجاثليق به كانت الوقعة بيْن عبد الملك بن مروان ومصعب بن الزبير سنة 72هـ- في خمسة أيام وقد دخل يوم السادس، وقد تأخر خروج معاوية -رضي الله عنه- وكان ذلك بعد سماعه لخروج الحسن بجيوشه، وكان معاوية قد أصيب إصابة بليغة مِن جراء محاولة الاغتيال التي تعرض لها مِن قِبَل الخارجي البرك بن عبد الله التميمي، حين خرج لصلاة الفجر، وهي المحاولةَ التي نفذت في نفس فجر اليوم الذي اغتيل فيه علي -رضي الله عنه-، وهو فجر يوم الجمعة السابع عشر مِن شهر رمضان سنة 40هـ على الصحيح المشهور مِن الأقوال. (البداية والنهاية لابن كثير).
وقد أشار الخلاَّل إلى شدة إصابة معاوية -رضي الله عنه- في الرواية التي أخرجها مِن طريق جُنْدُبٍ، قَالَ: كُنَّا مَعَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فِي رَكْبٍ فَنَزَلَ سَعْدٌ وَنَزَلْتُ، وَاغْتَنَمْتُ نُزُولَهُ، قَالَ: فَجَعَلْتُ أَمْشِي إِلَى جَانِبِهِ، فَحَمِدْتُ اللَّهَ، وَأَثْنَيْتُ عَلَيْهِ، وَقُلْتُ: إِنَّ مُعَاوِيَةَ طٌعن طَعْنَا بَيْنَنَا لَا أُرَاهَا إِلَّا قَاتِلَتُهُ، وَإِنَّ النَّاسَ -يقصد الخوارج- قَاتِلُونَ بَقِيَّةَ أَصْحَابِ الشُّورَى وَبَقِيَّةَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَأَنْشُدُكَ اللَّهَ إِنْ وُلِّيتَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِمْ، أَوْ تَشُقُّ عَصَاهُمْ، وَأَنْ تُفَرِّقَ جَمْعَهُمْ، أَوْ تَدَعَهُمْ إِلَى أَمْرِ هَلَكَةٍ. فَحَمِدَ سَعْدٌ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ، فَوَاللَّهِ لَا أَشُقُّ عَصَاهُمْ، وَلَا أُفَرِّقُ جَمْعَهُمْ، وَلَا أَدْعُهُمْ إِلَى أَمْرِ هَلَكَةٍ حَتَّى يَأْتُونِي بِسَيْفٍ. يَقُولُ: يَا سَعْدُ، هَذَا مُؤْمِنٌ فَدَعْهُ، وَهَذَا كَافِرٌ فَاقْتُلْهُ"(السُّنة لأبي بكر الخلال).
وبينما الحسن -رضي الله عنه- في المدائن، إذ نادى منادٍ مِن أهل العراق: إن قيسًا قد قُتل فسرت الفوضى في الجيش، وعادت إلى أهل العراق طبيعتهم في عدم الثبات، فاعتدوا على سرادق الحسن -رضي الله عنه-، ونهبوا متاعه حتى إنهم نازعوه بساطًا كان تحته، وطعنوه وجرحوه، وهنا حدثت حادثهَ لها دلالة كبيرة، فقد كان والي المدائن مِن قِبَل علي -رضي الله عنه-، سعد بن مسعود الثقفي، فأتاه ابن أخيه المختار بن أبي عبيد بن مسعود، وكان شابًا، فقال له: "هل لك في الغنى والشرف؟ قال: وما ذاك؟ قال: توثق الحسن، وتستأمن به إلى معاوية، فقال له عمه: عليك لعنة الله، أَثِبُ على ابن بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فَأُوثِقُهُ! بئس الرجل أنتَ!" (تاريخ الرسل والملوك للطبري).
فلما رأى الحسن -رضي الله عنه- صنع أصحابه أيقن أنه لا فائدة منهم، ولا نصر يُرجى على أيديهم، وهذه كانت قناعته منذ البداية، فدفعه ذلك إلى قطع خطوات أوسع والاقتراب أكثر مِن الصلح.
ونستكمل في المقال القادم -بمشيئة الله تعالى-.

ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــ
(1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "فقد كان بمقدور الحسن أن يقاتِل معاوية بمَن كان معه، وإن كان أقل ممن كان مع معاوية، صنيع الذين قاتلوا خصومهم على قلةٍ مَن كان معهم مِن الأعوان والأنصار، ولكن الحسن كان ذا خُلُقٍ يجنح إلى السلم وكراهة الفتنة ونبذ الفرقة، جعل الله به رأب الصدع، وجمع الكلمة" (منهاج السُّنة 4/ 536).

ابو وليد البحيرى
2022-01-06, 03:20 AM
صفحات مِن ذاكرة التاريخ (27)

بيعة الحسن بن علي -رضي الله عنهما- وتنازله عن الخلافة







كتبه/ زين العابدين كامل


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد ذكرنا في المقال السابق أن الحسن -رضي الله عنه- لما رأى صنع أصحابه أيقن أنه لا فائدة منهم، ولا نصر يُرجى على أيديهم، وهذه كانت قناعته منذ البداية، فدفعه ذلك إلى قطع خطواتٍ أوسع، والاقتراب أكثر مِن الصلح.


وقوع الصلح بيْن الحسن ومعاوية -رضي الله عنهما-:

لقد سجَّلتْ لنا صفحات التاريخ تلك اللحظات الحرجة مِن تاريخ الأمة المسلمة حين التقى الجمعان؛ جمع أهل الشام، وجمع أهل العراق، وذلك في الرواية التي أخرجها البخاري مِن طريق الحسن البصري، قال: اسْتَقْبَلَ وَاللَّهِ الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ مُعَاوِيَةَ بِكَتَائِبَ أَمْثَالِ الجِبَالِ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ العَاصِ: إِنِّي لَأَرَى كَتَائِبَ لاَ تُوَلِّي حَتَّى تَقْتُلَ أَقْرَانَهَا، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ وَكَانَ وَاللَّهِ خَيْرَ الرَّجُلَيْنِ: أَيْ عَمْرُو إِنْ قَتَلَ هَؤُلاَءِ هَؤُلاَءِ، وَهَؤُلاَءِ هَؤُلاَءِ مَنْ لِي بِأُمُورِ النَّاسِ؟ مَنْ لِي بِنِسَائِهِمْ؟ مَنْ لِي بِضَيْعَتِهِمْ؟ فَبَعَثَ إِلَيْهِ رَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ: عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ، فَقَالَ: اذْهَبَا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ، فَاعْرِضَا عَلَيْهِ، وَقُولاَ لَهُ، وَاطْلُبَا إِلَيْهِ، فَأَتَيَاهُ، فَدَخَلاَ عَلَيْهِ فَتَكَلَّمَا، وَقَالاَ لَهُ، فَطَلَبَا إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمَا الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ: إِنَّا بَنُو عَبْدِ المُطَّلِبِ، قَدْ أَصَبْنَا مِنْ هَذَا المَالِ، وَإِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ قَدْ عَاثَتْ فِي دِمَائِهَا، قَالاَ: فَإِنَّهُ يَعْرِضُ عَلَيْكَ كَذَا وَكَذَا، وَيَطْلُبُ إِلَيْكَ وَيَسْأَلُكَ قَالَ: فَمَنْ لِي بِهَذَا؟ قَالاَ: نَحْنُ لَكَ بِهِ، فَمَا سَأَلَهُمَا شَيْئًا إِلَّا قَالاَ: نَحْنُ لَكَ بِهِ، فَصَالَحَهُ، فَقَالَ الحَسَنُ: وَلَقَدْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرَةَ يَقُولُ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى المِنْبَرِ وَالحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ إِلَى جَنْبِهِ، وَهُوَ يُقْبِلُ عَلَى النَّاسِ مَرَّةً، وَعَلَيْهِ أُخْرَى وَيَقُولُ: (إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ)(1) .

فالذي حدث مِن الحسن بن علي -رضي الله عنهما- هو عَلَم مِن أعلام النبوة، ومنقبة للحسن بن علي -رضي الله عنهما-، فإنه ترك المُلك لا لقلة، ولا لذلة، ولا لعلة، بل لرغبته فيما عند الله؛ لما رآه مِن حقن دماء المسلمين، فراعى مصلحة الأمة.

وفى هذه الرواية: رد على الخوارج الذين كانوا يكفـِّرون عليًّا ومَن معه، ومعاوية ومَن معه، بشهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- بالطائفتين بأنهم مِن المسلمين.

وفيها: دلالة على رأفة معاوية -رضي الله عنه- بالرعية، وشفقته على المسلمين، وقوة نظره في تدبير الملك، ونظره في العواقب.

وفيها: جواز خلع الخليفة نفسه، إذا رأى في ذلك صلاحًا للمسلمين" (فتح الباري).

وفي رواية: "أن معاوية -رضي الله عنه- كان يعلم أن الحسن -رضي الله عنه- أكره الناس للفتنة، فلما تُوفي علي -رضي الله عنه- بعث معاوية إلى الحسن، فأصلح الذي بينه وبينه سرًّا، وأعطاه معاوية عهدًا إن حدث به حدث والحسن حي لَيُسَمَيّنًّه -أي يرشحه للخلافة مِن بعده-، وليجعلن هذا الأمر إليه، فلما توثق منه الحسن، قال ابن جعفر -أي عبد الله بن جعفر-: والله إني لجالس عند الحسن إذ أخذت لأقوم فجذب بثوبي، وقال: اقعد يا هناه -أي يا رجل-، واجلس، فجلستُ، قال: إني قد رأيتُ رأيًا وأحب أن تتابعني عليه. قال: قلتُ: ما هو؟ قال: قد رأيتُ أن أعمد إلى المدينة فأنزلها وأخلي بيْن معاوية، وبيْن هذا الحديث، فقد طالت الفتنة، وسقطت فيها الدماء، وقطعت فيها الأرحام، وقطعت السبل، وعُطلت الفروج -يعني الثغور-، فقال ابن جعفر: جزاك الله عن أمة محمد، فأنا معك على هذا الحديث.

فقال الحسن: ادع لي الحسين، فبعث إلى الحسين، فأتاه فقال: يا أخي قد رأيت رأيًا وإني أحب أن تتابعني عليه. قال: ما هو؟ قال: فقص عليه الذي قال لابن جعفر قال الحسين: أعيذك بالله أن تكذب عليًّا في قبره وتصدق معاوية. قال الحسن: والله ما أردتُ أمرًا قط إلا خالفتني إلى غيره، والله لقد هممتُ أن أقذفك في بيت فأطينه عليك حتى أقضى أمري. قال: فلما رأى الحسين غضبه، قال: أنت أكبر ولد علي، وأنت خليفته، أمرنا لأمرك تبع، فافعل ما بدا لك" (الطبقات لابن سعد).

ويُلاحظ مِن الروايتين: أن الرغبة في الصلح كانت موجودة لدى الطرفين، فقد سعى الحسن -رضي الله عنه- إلى الصلح، وخطط له منذ اللحظات الأولى لمبايعته، ثم جاء معاوية فأكمل ما بدأه الحسن، فكان عمل كل واحد منهما مكملاً للآخر -رضي الله عنهما-.

وبعد نجاح مفاوضات الصلح بيْن الحسن ومعاوية -رضي الله عنهما-، شرع الحسن -رضي الله عنه- في تهيئة نفوس أتباعه على تقبل الصلح الذي تم، فقام فيهم خطيبًا ليبيِّن لهم ما تم بينه وبيْن معاوية، وفيما هو يخطب هجم عليه بعض عسكره محاولين قتله! لكن الله -سبحانه وتعالى- أنجاه كما أنجاه مِن قبْل.

وقد أورد البلاذري خطبة الحسن -رضي الله عنه- التي ألقاها في أتباعه، ومحاولة قتله -رضي الله عنه-، فقال: "إني أرجو أن أكون أنصح خلقه لخلقه، وما أنا محتمل على أحدٍ ضغينة، ولا حقدًا، ولا مريدًا به غائلة، ولا سوءًا، ألا وإن ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة، ألا وإني ناظر لكم خيرًا مِن نظركم لأنفسكم، فلا تخالفوا أمري، ولا تردوا عليَّ، غفر الله لي ولكم. فنظر بعض الناس إلى بعض، وقالوا: عزم والله على صلح معاوية، وضعف وخار، وشدوا على فسطاطه، فدخلوه، وانتزعوا مصلاه مِن تحته، وانتهبوا ثيابه، ثم شد عليه عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي جعال الأزدي، فنزع مطرفه -أي رداءه- مِن عاتقه، ثم تعرض للحسن الجراح بن سنان(2)، وكان يرى رأى الخوارج، فقعد للحسن ينتظره فلما مرَّ الحسن ودنا مِن دابته فأخذ بلجامها، أخرج الجراح معولاً -حديدة ينقر بها الصخر- كان معه وقال: أشركت يا حسن كما أشرك أبوك مِن قبْل، وطعنه بالمعول في أصل فخذه، فشق في فخذه شقـًّا كاد يصل إلى العظم، وهذه محاولة أخرى لاغتيال الحسن -رضي الله عنه-، وضرب الحسن وجهه، ثم اعتنقا وخرا إلى الأرض، ووثب عبد الله بن الخضل الطائي، فنزع المعول مِن يد الجراح، وأخذ ظبيان بن عمارة التميمي بأنفه فقطعه، وضرب بيده إلى قطعة آجرة فشدخ بها وجهه ورأسه حتى مات، وحُمل الحسن إلى المدائن، ثم إن سعد بن مسعود أتى الحسن بطبيب، وقام عليه حتى برئ وحوَّله إلى أبيض المدائن -يسمَّى القصر الأبيض، يقع على الضفة الشرقية لنهر دجلة-.

وفي بعض الروايات: أن الحسن بن علي -رضي الله عنهما- خطب الناس في قصر المدائن، فقال: "يا أهل العراق، لو لم تذهل نفسي -تسلو نفسي- عنكم إلا لثلاث خصال لذهلت: مقتلِكم أبي، ومطعِنكم بغلتي، وانتهابِكم ثقلي -أو قال: ردائي عن عاتقي-، وإنكم قد بايعتموني أن تسالموا مَن سالمتُ، وتحاربوا مَن حاربت، وإني قد بايعتُ معاوية فاسمعوا له وأطيعوا، قال: ثم نزل فدخل القصر" (الطبقات لابن سعد).

وهنا حدث اضطراب في مقدمة جيش العراق وهم شرطة الخميس، فقد أخرج الحاكم عن أبي الغريف، قال: "كنا في مقدمة الحسن بن علي اثني عشر ألفًا، تقطر أسيافنا مِن الحدة على قتال أهل الشام، وعلينا أبو العمرطة، فلما أتانا صلح الحسن بن علي ومعاوية كأنما كسرت ظهورنا مِن الحرد -الغضب- والغيظ، فلما قدِم الحسن بن علي الكوفة، قام إليه رجل منا يُكنى أبا عامر سفيان بن الليل. فقال: السلام عليك يا مذل المؤمنين، فقال الحسن: لا تقل ذلك يا أبا عامر، لم أذل المؤمنين، ولكني كرهتُ أن أقتلهم في طلب المُلك. فبعث الحسن بالبيعة إلى معاوية، فكتب بذلك الحسن إلى قيس بن سعد، فقام قيس بن سعد في أصحابه، فقال: يا أيها الناس، أتاكم أمران، لابد لكم مِن أحدهما: دخول في الفتنة، أو قتل مع غير إمام، فقال الناس: ما هذا؟ فقال: الحسن بن علي قد أعطى البيعة معاوية، فرجع الناس، فبايعوا معاوية".

وقد أشار ابن كثير -رحمه الله- إلى ذلك بقوله: "وبعثَ الحسن بن علي إلى أمير المقدمة قيس بن سعد أن يسمع ويطيع؛ فأبى قيس بن سعد قبول ذلك، وخرج مِن طاعتهما جميعًا، واعتزل بمَن أطاعه، ثم راجع الأمر، فبايع معاوية" (البداية والنهاية).

وتباينت ردود الأفعال بالنسبة لأمراء علي بن طالب -رضي الله عنه- وموقفهم مِن الصلح ما بيْن القبول والاستحسان، أو الرفض ثم القبول، وهناك فريق ثالث دخل في الصلح وهو كاره له، ثم ترك الحسن -رضي الله عنه- المدائن وسار إلى الكوفة، وسار معاوية -رضي الله عنه- مِن مسكن إلى النخيلة -موضع قرب الكوفة على سمت الشام-، ثم خرج الحسن -رضي الله عنه- مِن الكوفة إلى النخيلة ليقابل معاوية -رضي الله عنه- ويسلِّم الأمر له، فعن الشعبي، قال: شهدتُ الحسن بن علي -رضي الله عنهما- بالنخيلة حين صالحه معاوية -رضي الله عنه-، فقال معاوية: إذا كان ذا فقم فتكلم، وأخبر الناس أنك قد سلمتَ هذا الأمر لي، فقام فخطب على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه.

قال الشعبي: وأنا أسمع، ثم قال: أما بعد فإن أكيس -أعقل، والكيس العقل- الكيس التقى، وإن أحمق الحمق الفجور، وإن هذا الأمر الذي اختلفتُ فيه أنا ومعاوية إما كان حقـًّا لي تركته لمعاوية إرادة صلاح هذه الأمة، وحقن دمائهِم، أو يكون حقًّا كان لامرئ كان أحق به مني ففعلتُ ذلك (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) (الأنبياء:111)" (انظر الطبقات لابن سعد، والمستدرك للحاكم، وحلية الأولياء).

وفي رواية: "قال الحسن بن علي يوم كلم معاوية: ما بيْن جابلص وجابلق -مدينتان: إحداهما بالمشرق، والأخرى بالمغرب- رجل جده نبي غيري، وإني رأيتُ أن أصلح بيْن أمة محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وكنتُ أحقهم بذاك، ألا إنا قد بايعنا معاوية، ولا أدري (لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ)".

وبتنازل الحسن بن علي -رضي الله عنهما- عن الخلافة ومبايعته لمعاوية -رضي الله عنه- تنتهي بذلك فترة خلافة النبوة، وهي ثلاثون سنة، والحجة في ذلك قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ ثَلَاثُونَ سَنَةً، ثُمَّ يُؤْتِي اللَّهُ الْمُلْكَ أَوْ مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

وقد علـَّق ابن كثير -رحمه الله- على هذا الحديث، فقال: "وإنما كملتِ الثلاثون بخلافة الحسن بن علي، فإنه نزل على الخلافة لمعاوية في ربيع الأول مِن سنة إحدى وأربعين، وذلك كمال ثلاثين سنة مِن موت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإنه توفي في ربيع الأول سنة إحدى عشرة مِن الهجرة، وهذا مِن أكبر دلائل النبوة". (البداية والنهاية).

وبذلك يكون الحسن بن علي -رضي الله عنهما- خامس الخلفاء الراشدين.

وبهذا حقن الحسن دماءَ المسلمين، وقد قال الحسن -رضي الله عنه-: "خشيتُ أن يجيء يوم القيامة سبعون ألفًا، أو أكثر أو أقل، كلهم تنضح أوداجهم دمًا، كلهم يستعدي الله فيمَ هُريق دمه" (البداية والنهاية).

فالحسن بن علي -رضي الله عنه- أراد أن يحقن دماء المسلمين قربة إلى الله -عز وجل-، وخشي على نفسه مِن حساب الله يوم القيامة في أمر الدماء، ولو أدى به الأمر إلى ترك الخلافة؛ فكان ذلك دافعًا له نحو الصلح، فهو يعلم -رضي الله عنه- خطورة سفك الدماء بيْن المسلمين؛ لأن ذلك مِن أخطر الأمور التي تهز كيان البشرية، ثم حرص الحسن على وحدة الأمة بتنازله عن عرضٍ زائل مِن أعراض الدنيا حتى سُمي ذلك العام "عام الجماعة".

وهذا يدل على فقه الحسن -رضي الله عنه- في معرفته لاعتبار المآلات، ومراعاته نتائج التصرفات، ولهذا الفقه مظاهره في كتاب الله وشواهده، وكان هذا العام سعيدًا على المسلمين؛ لاجتماع الكلمة ووحدة الصف، وللمرة الأولى منذ ست سنواتٍ يهدأ القتال، وتُجمع الأمة الإسلامية على خليفةٍ واحدٍ، وبهذا قامت الدولة الأموية وتأسست على يد معاوية -رضي الله عنه-، وتصدت الدولة الأموية للخوارج.

ثم عادت حركة الفتوحات المباركة، وتعد الفتنة التي أدت إلى استشهاد عثمان -رضي الله عنه- أكبر معوق أصاب الدعوة الإسلامية بعد حركة الردة أيام أبي بكر -رضي الله عنه-، حيث أدى استشهاد عثمان -رضي الله عنه- إلى توقف الجهاد، واتجاه سيوف المسلمين إلى بعضهم في فتنةٍ كادت تعصف بالأمة الإسلامية؛ لولا أن تداركتها رحمة الله -سبحانه وتعالى- بصلح الحسن بن علي مع معاوية -رضي الله عن الجميع-.

ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـ

(1) شرح بعض ألفاظ الرواية: (بكتائب) جمع كتيبة، وهي الجيش ويقال الكتيبة ما جمع بعضها إلى بعض. (أقرانها) جمع قرن، وهو الكفء والنظير في الشجاعة والحرب. (خير الرجلين) مِن كلام الحسن البصري، وقع معترضًا بيْن قوله: قال له معاوية، وبيْن قوله: أي عمرو، وأراد بالرجلين معاوية وعمرًا، وأراد بخيرهما معاوية، وقال ذلك لأن عمرًا كان أشد مِن معاوية في الخلاف مع الحسن بن علي -رضي الله عنهم أجمعين-. (بضيعتهم) أي مَن يقوم بأطفالهم وضعفائهم الذين لو تركوا بحالهم لضاعوا؛ لعدم قدرتهم على الاستقلال بالمعاش. (أصبنا مِن هذا المال) أي أيام الخلافة حصل لدينا مال كثير وصارت عادتنا الإنفاق على الأهل والحاشية، فإن تركنا هذا الأمر قطعنا عادتنا. (عاثت) قتل بعضها بعضًا فلا يكفون إلا بالمال. (فمن لي بهذا) يتكفل لي بالذي تذكرانه. (ابني) المراد ابن ابنته، ويطلق على ولد الولد أنه ابن.


(2) الجراح بن سنان الأسدى له سابقة في الشر، حيث كان مِن الذين بهتوا سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-، وسعوا في عزله في الكوفة أيام خلافة عمر -رضي الله عنه-، فدعا عليهم سعد، فكان لهم مِن سوء الخاتمة نصيب (الطبري 4/ 141).

ابو وليد البحيرى
2022-01-22, 10:30 PM
صفحات مِن ذاكرة التاريخ (28)

فتنة حُجر بن عدي -رضي الله عنه-




كتبه/ زين العابدين كامل

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فهذه حركة معارضة جديدة قادها حُجر بن عدي الكندي -رضي الله عنه-، وحجر بن عدي مختلف في صحبته، وذكر ابن سعد ومصعب الزبيري فيما رواه الحاكم عنه أنه وفد على النبي -صلى الله عليه وسلم- هو وأخوه هانئ بن عدي، وأما البخاري, وابن أبي حاتم عن أبيه, وخليفة بن خياط, وابن حبان، فذكروه في التابعين.
وكان حجر بن عدي مِن شيعة علي -رضي الله عنه- في الجمل وصفين. وكان رضي الله عنه مِن المعارضين للصلح الذي قام بيْن الحسن ومعاوية -رضي الله عنهما-، غير أن هذه المعارضة لم يترتب عليها في هذه المرحلة أي فعل، بل اقتصرت على الأقوال فقط (مرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبري ص422).
ولم يزل حجر بن عدي منكِرًا على الحسن بن علي بن أبي طالب صلحه لمعاوية -رضي الله عنهم-، فكان يلومه على ذلك، ويقول: "تركتَ القتال ومعك أربعون ألفًا ذوو نيات وبصائر في قتال عدوك"، ثم كان بعد ذلك يذكر معاوية فيعيبه (البلاذري: أنساب الأشراف 4/ 255).
وكان زياد بن أبيه في خلافة علي واليًا مِن ولاته، وكان حجر بن عدي مِن أولياء زياد بن أبيه وأنصاره يومئذٍ، ولم يكن ينكر عليه شيئًا، فلما صار مِن ولاة معاوية صار ينكر عليه، ولما قدِم زياد الكوفة أميرًا مِن قِبَل معاوية -رضي الله عنه- أكرم حجر بن عدي، وأدناه، وشفَّعَه، و قَال له: "قد بلغني ما كنت تصنع بالمغيرة بن شعبة، وما كان يحتمل منك"، ثم لما أراد زياد الانحدار إلى البصرة دعاه، فقال له: "يا حجر إنك قد رأيت ما صنعت بك، وإني أريد البصرة، فأحب أن تشخص معي، فإني أكره أن تتخلف بعدي، فعسى أن أبلَّغ عنك شيئًا فيقع في نفسي، وإذا كنت معي لم يقع في نفسي منك شيء، فقد علمتُ رأيك في علي بن أبي طالب، وقد كان رأيي فيه قبلك على مثل ذلك، فلما رأيتُ الله صرف الأمر إلى معاوية، لم أتهم قضاء الله ورضيت به، وقد رأيتُ إلى ما صار أمر علي وأصحابه، وإني أحذرك أن تركب أعجاز أمور هلك مَن ركب صدورها".
وهذا تحذير مِن زياد لحجر يدل على رغبته على حسم مادة الفتنة؛ ولذلك حرص على اصطحابه معه إلى البصرة، فقال حجر: "إني مريض، ولا أستطيع الشخوص"، فخرج زياد فلحق بالبصرة، واجتمع إلى حجر قُرّاء أهل الكوفة، فجعل لا ينفذ لعامل زياد معهم أمر، ولا يريد شيئًا إلا منعوه إياه. (البلاذري، المصدر السابق 4/ 270).
والمقصود مِن كلام زياد أنه كان مِن خواص علي -رضي الله عنه-، ولما رأى تنازل الحسن لمعاوية -رضي الله عنهما- وإجماع الأمة عليه دخل في الجماعة، وحرص على وحدة الصف، وحذر مِن الفتن، ثم في عام 51هـ حدث تدهور أخر في علاقة حجر بن عدي مع زياد بن أبيه والي العراق، وقد ذكر المؤرخون أن زيادًا -وهو أمير الكوفة- خطب خطبة أطال فيها، فنادى حجر بن عدي: "الصلاة!"، فمضى زياد في خطبته؛ فحصبه حجر وحصبه آخرون معه -أي ألقوه بالحجارة-، فكتب زياد إلى معاوية يشكو بغي حجر على أميره في بيت الله، وعدَّ ذلك مِن الفساد في الأرض، فكتب معاوية إلى زياد أن سرح به إليَّ (تاريخ الرسل والملوك للطبري 5/ 169).
قال أبو بكر بن العربي -رحمه الله-: "ولكن حجرًا فيما يُقال رأى مِن زياد أمورًا منكرة فحصبه، وخلعه، وأراد أن يقيم الخلق للفتنة، فجعله معاوية ممن سعى في الأرض فسادًا" (العواصم مِن القواصم).
ويقول محب الدين الخطيب في تعليقه على "العواصم مِن القواصم": "كان حجر بن عدي مِن أولياء زياد وأنصاره، ولم يكن ينكر عليه شيئًا، فلما صار مِن ولاة معاوية صار ينكر عليه مدفوعًا بعاطفة التحزب والتشيع، وكان حجر يفعل مثل ذلك مع مَن تولى الكوفة لمعاوية قبْل زياد".
ثم كان مِن أمر معاوية -رضي الله عنه- أنه أمر بقتل حجر بن عدي وبعض أصحابه، وهو لم يقتلهم على الفور، ولم يطلب منهم البراءة مِن علي -رضي الله عنه- كما تزعم بعض الروايات الشيعية المكذوبة، بل استشار أهل مشورته، ثم كان حكمه فيهم.
والحجة في ذلك ما يرويه صالح بن أحمد بن حنبل بإسنادٍ حسن عن ابن عياش، قال: "حدثني شرحبيل بن مسلم قال: لما بُعِث بحجر بن عدي وأصحابه مِن العراق إلى معاوية بن أبي سفيان، استشار الناس في قتلهم، فمنهم المشير، ومنهم الساكت. فدخل معاوية منزله، فلما صلى الظهر قام في الناس خطيبًا فحمد الله وأثنى عليه، ثم جلس على منبره، فقام المنادي فنادى: أين عمرو بن الأسود العنسي؟ فقام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ألا إنا بحصن مِن الله حصين لم نؤمر بتركه، وقولك يا أمير المؤمنين في أهل العراق، ألا وأنت الراعي ونحن الرعية، ألا وأنت أعلمنا بدائهم، وأقدرنا على دوائهم، وإنما علينا أن نقول: (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (البقرة:285)، فقال معاوية -رضي الله عنه-: "أما عمرو بن الأسود فقد تبرأ إلينا مِن دمائهم، ورمى بها ما بيْن عيني معاوية". ثم قام المنادي فنادى: أين أبو مسلم الخولاني؟ فقام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد، فلا والله ما أبغضناك منذ أحببناك، ولا عصيناك منذ أطعناك، ولا فارقناك منذ جامعناك، ولا نكثنا بيعتنا منذ بايعناك، سيوفنا على عواتقنا، إن أمرتنا أطعناك، وإن دعوتنا أجبناك، وإن سبقناك نظرناك"، ثم جلس. ثم قام المنادي فقال: أين عبد الله بن مِخْمَر الشرعبي؟ فقام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "وقولك يا أمير المؤمنين في هذه العصابة مِن أهل العراق، إن تعاقبهم فقد أصبت، وإن تعفُ فقد أحسنت".
فقام المنادي فنادى: أين عبد الله بن أسد القسري؟ فقام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "يا أمير المؤمنين، رعيتك وولايتك وأهل طاعتك، إن تعاقبهم فقد جنوا على أنفسهم العقوبة، وإن تعفو؛ فإن العفو أقرب للتقوى، يا أمير المؤمنين لا تطع فينا مَن كان غشومًا ظلومًا، بالليل نؤومًا، عن عمل الآخرة سؤومًا، يا أمير المؤمنين إن الدنيا قد انخشعتْ أوتارها، ومالت بها عمادها، وأحبها أصحابها، واقترب منها ميعادها"، ثم جلس، ثم قتل معاوية بعضًا واستحيا بعضًا، وكان فيمن قتل حجر بن عدي" (أحمد بن حنبل، المسائل، رواية ابنه صالح 2/ 328، 331).

وقد اعتمد معاوية -رضي الله عنه- في قضائه على قوله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ، يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ، أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ، فَاقْتُلُوهُ) (رواه مسلم)، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّهُ سَتَكُونُ هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَهِيَ جَمِيعٌ، فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كَانَ) (رواه مسلم). (هَنَاتٌ): جمع هَنَّة، والمراد بها هنا الفتن، والأمور الحادثة.
وعن ابن أبي مليكه: إن معاوية جاء يستأذن على عائشة، فأبتْ أن تأذن له، فخرج غلام لها يقال له: ذكوان، قال: ويحك أدخلني على عائشة، فإنها قد غضبت علَيَّ، فلم يزل بها غلامها حتى أذِنتْ له، وكان أطوع مني عندها، فلما دخل عليها قال: "أٌمّاه فيما وجَدْتِ عليَّ يرحمكِ الله؟ قالت: "وجدتُ عليك في شأن حِجْر وأصحابه أنك قتلتهم". فقال لها: "وأما حِجْر وأصحابه فإني تخوفت أمرًا، وخشيت فتنة تكون، تهراق فيها الدماء، وتستحل فيها المحارم، وأنت تخافيني، دعيني والله يفعل بي ما يشاء". قالت: "تركتك والله، تركتك والله، تركتك والله".
وجاء في رواية أخرى: "لما قدِم معاوية دخل على عائشة، فقالت: "أقتلت حجرًا؟". قال: "يا أم المؤمنين، إني وجدتُ قتل رجلٍ في صلاح الناس، خير مِن استحيائه في فسادهم" (تاريخ دمشق لابن عساكر 4/ 273، 274)، ومع ذلك فقد ذكرتْ بعض المصادر التاريخية أن معاوية -رضي الله عنه- ندم بعد ذلك على قتل حجر بن عدي (تاريخ الطبري 6/ 195، سير أعلام النبلاء 3/ 465).
قال أبو بكر بن العربي -رحمه الله-: "فإن قيل: قتل حجر بن عدي -وهو مِن الصحابة، مشهور بالخير- صبرًا أسيرًا، وبعثت إليه عائشة في أمره فوجدته قد فات بقتله.
قلنا: علمنا قتل حجر كلنا، واختلفنا: فقائل يقول: قتله ظلمًا، وقائل يقول: قتله حقـًّا.
فإن قيل: الأصل قتله ظلمًا؛ إلا إذا ثبتْ عليه ما يوجب قتله.
قلنا: الأصل أن قتل الإمام بالحق -ولا شك أن الأصل في الدماء أنها معصومة، وذلك ثابت بنصوص الكتاب والسُّنة-، فمَن ادعى أنه بالظلم فعليه الدليل، ولو كان ظلمًا محضًا لما بقي بيت إلا لُعن فيه معاوية، وقد كلمته عائشة -رضي الله عنها- في أمره حين حج، فقال لها: دعيني وحجرًا حتى نلتقي عند الله. وأنتم معشر المسلمين أولى أن تدعوهما حتى يقفا بيْن يدي الله مع صاحبهما العدل الأمين المصطفى المكين".
وقال محب الدين الخطيب: "فالذين يريدون أن معاوية قتله بحق يقولون: ما مِن حكومة في الدنيا تعاقب بأقل مِن ذلك، مَن يحصب أميره وهو قائم يخطب على المنبر في المسجد الجامع، مندفعًا بعاطفة الحزبية والتشيع. والذين يعارضونهم يذكرون فضائل حجر ويقولون: كان ينبغي لمعاوية أن لا يخرج عن سجيته مِن الحلم وسعة الصدر لمخالفيه.
ويجيبهم الآخرون بأن معاوية يملك الحلم وسعة الصدر عند البغي عليه في شخصه، فأما البغي على الجماعة في شخص حاكمها وهو على منبر المسجد؛ فهو ما لا يملك معاوية أن يتسامح فيه، ولا سيما في مثل الكوفة التي أخرجت العدد الأكبر مِن أهل الفتنة الذين بغوا على عثمان بسبب مثل هذا التسامح، فكبدوا الأمة مِن دمائها، وسمعتها، وسلامة قلوبها، ومواقف جهادها، تضحيات غالية كانت في غنى عنها؛ لو أن هيبة الدولة حُفظتْ بتأديب عددٍ قليلٍ مِن أهل الرعونة والطيش في الوقت المناسب، وكما كانت عائشة -رضي الله عنها- تود لو أن معاوية -رضي الله عنه- شمل حجرًا بسعة صدره، فإن عبد الله بن عمر كان يتمنى مثل ذلك، والواقع أن معاوية -رضي الله عنه- كان فيه مِن حلم عثمان -رضي الله عنه- وسجاياه؛ إلا أنه في مواقف الحكم كان يتبصر في عاقبة عثمان، وما جرَّ إليه تمادي الذين اجترؤوا عليه".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وَقَلَّ مَنْ خَرَجَ عَلَى إِمَامٍ ذِي سُلْطَانٍ إِلَّا كَانَ مَا تَوَلَّدَ عَلَى فِعْلِهِ مِنَ الشَّرِّ أَعْظَمَ مِمَّا تَوَلَّدَ مِنَ الْخَيْرِ، وَأَمَّا أَهْلُ الْحَرَّةِ وَابْنُ الْأَشْعَثِ وَابْنُ الْمُهَلَّبِ وَغَيْرُهُمْ؛ فَهُزِمُوا وَهُزِمَ أَصْحَابُهُمْ، فَلَا أَقَامُوا دِينًا وَلَا أَبْقَوْا دُنْيَا" (منهاج السُّنة 2/ 241).

وهكذا مرت هذه الحركة مِن المعارضة دون أن تحقق أدنى مصلحة، ولا بد أن نتعلم مِن التاريخ؛ فهو مرآة الأمم .
والله المستعان.

ابو وليد البحيرى
2022-03-19, 11:30 AM
صفحات مِن ذاكرة التاريخ (29)

معارضة الحسين بن علي -رضي الله عنهما- في عهد يزيد بن معاوية







كتبه/ زين العابدين كامل


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

وفاة معاوية ومعارضة الحسين بن علي -رضي الله عنهم-:

تُمثـِّل معارضة الحسين بن علي -رضي الله عنهما- ليزيد بن معاوية نقطة تحول في التاريخ، فهي تٌعد أول معارضة عملية في خلافة يزيد، وقد أثرت حادثة مقتل الحسين على المجتمع الإسلامي بصفة عامة وعلى الدولة الأموية وتاريخها بصفة خاصة، بل واستمر تأثير هذه الحادثة لمدةٍ قرون طويلة، بل إلى يومنا هذا، وهناك مَن انحرف مِن أبناء الأمة بسبب هذه الحادثة، وظهر بسببها التعصب والانحراف الفكري عند الكثيرين، وكانت هذه الحادثة هي إحدى الروافد التي ساعدتْ على قيام الثورات ضد الأمويين، وكان موقف الحسين -رضي الله عنه- مِن بيعة يزيد بن معاوية هو موقف المعارض، وشاركه في المعارضة عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما-.

والسبب في ذلك: حرصهما على مبدأ الشورى، وأن يتولى الأمة أصلحها، وتلك الممانعة الشديدة مِن قِبَل الحسين وابن الزبير -رضي الله عنهم-، قد عبَّرت عن نفسها بشكلٍ عملي فيما بعد، فالحسين -رضي الله عنه- كما مر سابقًا، كان معارضًا للصلح بيْن الحسن ومعاوية -رضي الله عنهما-، والذي حمله على قبوله هو متابعة أخيه الحسن بن علي، ثم إن الحسين بن علي استمر على صِلاته بأهل الكوفة، وقد كان يعدهم بالمعارضة، ولكن بعد وفاة معاوية، والدليل على ذلك أنه بمجرد وفاة معاوية سارع زعماء الكوفة بالكتابة إلى الحسين، وطلبوا منه المسير إليهم على وجه السرعة (مواقف المعارضة في خلافة يزيد للشيباني، ص 180).

والذي يبدو أن أهل الكوفة كانوا يتخيلون ويتوقعون أن المرشح الأقوى للخلافة بعد معاوية هو الحسين -رضي الله عنه- (أنساب الأشراف للبلاذري 3/ 152)، وكان معاوية -رضي الله عنه- دائم الصلة بالحسين، وكان يوقره ويكرمه، ويغدق له في العطاء، وقيل: إنه أعطاه مرة أربعمائة ألف (المصنف لابن أبي شيبة، وانظر المصدر السابق).

وقد أوصى معاوية -رضي الله عنه- ابنه يزيد، فقال له: "انظر حسين بن علي بن فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإنه أحب الناس إلى الناس؛ فصل رحمه، وارفق به يصلح لك أمره؛ فإن يك منه شيء فإني أرجو أن يكفيكه الله بمَن قتل أباه، وخذل أخاه" (الطبقات لابن سعد 1/ 244).

وقد كانت هناك وصية جامعة مِن معاوية لابنه يزيد، قال عوانة: "قد سمعنا أن معاوية لما حضره الموت -وذلك في سنة ستين- وكان يزيد غائبًا، فدعا بالضحاك بن قيس الفهري -وكان صاحب شرطته- ومسلم بن عقبة المري، فأوصى إليهما، فقال: بلغا يزيد وصيتي، انظر أهل الحجاز فإنهم أصلك؛ فأكرم مَن قدم عليك منهم، وتعاهد مَن غاب، وانظر أهل العراق، فإن سألوك أن تعزل عنهم كل يوم عاملاً؛ فافعل، فإن عزل عامل أحب إلي مِن أن تشهر عليك مائة ألف سيف، وانظر أهل الشام فليكونوا بطانتك وعيبتك، فإن نابك شيء مِن عدوك فانتصر بهم، فإذا أصبتهم فاردد أهل الشام إلى بلادهم، فإنهم إن أقاموا بغير بلادهم أخذوا بغير أخلاقهم، وإني لستُ أخاف مِن قريش إلا ثلاثة: حسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، فأما ابن عمر فرجل قد وقذه الدين، فليس ملتمسًا شيئًا قبلك، وأما الحسين بن علي فإنه رجل خفيف، وأرجو أن يكفيكه الله بمن قتل أباه، وخذل أخاه، وإن له رحمًا ماسة، وحقـًّا عظيمًا، وقرابة مِن محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، ولا أظن أهل العراق تاركيه حتى يخرجوه، فإن قدرت عليه فاصفح عنه، فإني لو أني صاحبه عفوت عنه، وأما ابن الزبير فإنه خب -الخب: الخداع- ضب، فإذا شخص لك فالبد له -أي تعامل معه بحزم وحرص-؛ إلا أن يلتمس منك صلحًا، فإن فعل فاقبل، واحقن دماء قومك ما استطعت" (تاريخ الرسل والملوك للطبري 5/ 523).

وهكذا رسم معاوية -رضي الله عنه- ليزيد سياسة التعامل مع الأقاليم المختلفة، وكذلك بعض الأشخاص أيضًا، وبالفعل توافدت الرسائل مِن زعماء الكوفة على الحسين -رضي الله عنه-، والتي تطلب منه المسارعة في القدوم إليهم، ولما كان العدد مشجعًا، أراد أن يطلع على حقيقة الأمر، فبعث ابن عمه مسلم بن عقيل بن أبي طالب ليستجلي له حقيقة الخبر، ثم يكتب إليه بواقع الحال، فإن كان ما يقولون حقـًّا قدِم عليهم، ولما بلغ أهل الكوفة قدوم مسلم بن عقيل قدموا إليه، فبايعه اثنا عشر ألفًا" (تاريخ دمشق لابن عساكر).

وتمتْ تلك المبايعة بصورة سرية، ولما تأكد لمسلم بن عقيل رغبة أهل الكوفة في الحسين وقدومه إليهم، كتب إلى الحسين: إن جميع أهل الكوفة معك فأقبل حين تنظر في كتابي، وهنا تأكد للحسين صدق نوايا أهل الكوفة، وأنه ليس عليهم إمام كما ذكروا مِن قبْل، فلما وصل إلى الحسين بن علي كتاب مسلم بن عقيل، والذي طلب منه القدوم إلى الكوفة، وأن الأمر مهيأ لقدومه؛ تجهز الحسين بن علي، وعزم على المضي إلى الكوفة بأهله وخاصته.

نصائح الصحابة والتابعين إلى الحسين بعدم الخروج إلى الكوفة:

لا شك أن مسألة خروج الحسين -رضي الله عنه- على يزيد كانت محل جدال وخلاف بيْن الكثيرين(1)، وقد حرص كثيرٌ مِن الصحابة على منع الحسين مِن الخروج لكنه أبى.

ومِن الذين عارضوا خروج الحسين -رضي الله عنه-:

محمد بن الحنفية: لما بلغ محمد بن الحنفية عزم أخيه الحسين على الخروج إلى الكوفة قدِم عليه، وقال: يا أخي أنت أحب الناس إلي، وأعزهم علي، ولستُ أدخر النصيحة لأحدٍ مِن الخلق أحق بها منك، تنح ببيعتك عن يزيد بن معاوية وعن الأمصار ما استطعت، ثم ابعث رسلك إلى الناس فادعهم إلى نفسك، فإن بايعوا لكَ حمدنا الله على ذلك، وإن أجمع الناس على غيرك لم ينقص الله بذلك دينك ولا عقلك، ويذهب به مروءتك ولا فضلك، إني أخاف أن تدخل مصرًا مِن هذه الأمصار وتأتي جماعة مِن الناس فيختلفون بينهم، فمنهم طائفة معك، وأخرى عليك؛ فيقتتلون فتكون لأول الأسنة غرضًا، فإذا خير هذه الأمة كلها نفسًا، وأبًا وأمًا، أضيعها دمًا، وأذلها أهلًا، فقال الحسين: فإني ذاهب يا أخي، قال: فانزل مكة فإذا أطمأنت بك الدار فسبيل ذلك، وإن نبت بك لحقت بالرمال وشعف الجبال، وخرجتَ مِن بلدٍ إلى بلدٍ حتى تنتظر إلى ما يصير أمر الناس، وتعرف عند ذلك الرأي فإنك أصوب ما تكون رأيًا، وأحزمه عملاً حين تستقبل الأمور استقبالاً، ولا تكون الأمور عليك أبدًا أشكل منها حين تستدبرها استدبارًا، قال: يا أخي قد نصحت فأشفقت، وأرجو أن يكون رأيك سديدًا" (تاريخ الرسل والملوك للطبري 5/ 341).

ومِن الصحابة الذين عارضوا خروج الحسين -رضي الله عنه-:

عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-: ولما بلغ خبر عزمه على الخروج إلى ابن عمه عبد الله بن عباس، أتاه وقال: "يا ابن عم إنه قد أرجف الناس أنك سائر إلى العراق، فبيّن لي ما أنت صانع؟ قال: قد أجمعت المسير في أحد يومي هذين -إن شاء الله تعالى-. فقال له ابن عباس: أخبرني إن كان عدوك بعد ما قتلوا أميرهم ونفوا عدوهم وضبطوا بلادهم فسر إليهم، وإن كان أميرهم حي وهو مقيم عليهم، قاهر لهم وعماله تجبي بلادهم فإنهم إنما دعوك للفتنة والقتال، ولا آمن عليك أن يستفزوا عليك الناس ويقلبوا قلوبهم عليك، فيكون الذي دعوك أشد الناس عليك. فقال الحسين: إني استخير الله وأنظر ما يكون. ولكن ابن عباس أدرك مِن كلام الحسين واستعداده أنه عازم على الخروج، ولكنه يحاول إخفاء الأمر عنه لعلمه بعدم رضاه عن ذلك؛ لذا جاء ابن عباس إلى الحسين مِن الغد، فقال: يا ابن عم إني أتصبر ولا أصبر، وإني أتخوف عليك في هذا الوجه الهلاك، إن أهل العراق قوم غدر؛ فلا تغترن بهم، أقم في هذا البلد حتى ينفي أهل العراق عدوهم ثم أقدم عليهم، وإلا فسر إلى اليمن فإن به حصونًا وشعابًا، ولأبيك به شيعة، وكن عن الناس بمعزل، واكتب إليهم وبث دعاتك فيهم، فإني أرجو إذا فعلت ذلك أن يكون ما تحب. فقال الحسين: يا ابن عم، والله إني لأعلم أنك ناصح شفيق، ولكني قد أزمعت المسير. فقال له: فإن كنت ولا بد سائرًا؛ فلا تسر بأولادك ونسائك، فوالله إني لخائف أن تقتل كما قتل عثمان، ونساؤه وولده ينظرون إليه" (تاريخ دمشق لابن عساكر).

عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما-: وقد اتهمته بعض الروايات الضعيفة أنه أحد المتسببين في إقناع الحسين بالخروج إلى الكوفة، وهو نفسه ثبت عنه بأنه قد أسدى النصائح للحسين، وحذره مِن مغبة مغادرة مكة والذهاب إلى الكوفة، وقد نصح الحسين قائلاً: "أين تذهب إلى قوم قتلوا أباك، وطعنوا أخاك؟! فقال له الحسين: لأن أقتل بمكان كذا وكذا، أحب إلي مِن أن تستحل بي -يعني مكة-" (المصنف لابن أبي شيبة 15/ 95).

عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: فقد نصح الحسين -رضي الله عنه- في أكثر مِن موقف، فحين بلغه خروج ابن الزبير والحسين إلى مكة رافضين بيعة يزيد لقيهما، وقال: "أذكركما الله إلا رجعتما فدخلتما في صالح ما يدخل فيه الناس وتنظران، فإن اجتمع عليه الناس لم تشذا، وإن افترق عليه كان الذي تريدان" (الطبقات لابن سعد).

ولما قدِم المدينة، وبلغه خروج الحسين لأهل الكوفة لحقه ابن عمر على مسيرة ليلتين، فقال: "أين تريد؟ قال: العراق، ومعه طوامير وكتب، فقال: لا تأتهم. قال: هذه كتبهم وبيعتهم. فقال: إن الله خيَّر نبيه بيْن الدنيا والآخرة، فاختار الآخرة، وإنكم بضعة منه، لا يليها أحد منكم أبدًا، وما صرفها الله عنكم إلا للذي هو خير لكم، فارجعوا فأبى، فاعتنقه ابن عمر، وقال: استودعك الله مِن قتيل" (سير أعلام النبلاء 3/ 292).

وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- يقول بعد ذلك: "غلبنا الحسين بن علي بالخروج، ولعمري لقد رأى في أبيه وأخيه عبرة، ورأى مِن الفتنة وخذلان الناس لهم ما كان ينبغي له ألا يتحرك ما عاش، وأن يدخل في صالح ما دخل فيه الناس، فإن الجماعة خير" (مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر 7/ 138).

وقد نظر بعض الصحابة إلى العمل الذي سيُقدِم عليه الحسين -رضي الله عنه- بأنه في حقيقته خروج على الإمام صاحب البيعة، كما نظروا إلى خروج الحسين وما يحمله خروجه على أنه نذير شر وبلاء على الأمة مهما كانت النتائج لأيٍ مِن الطرفين.

ومِن هؤلاء:

- أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- حيث قال: "غلبني الحسين على الخروج، وقد قلتُ له: اتقِ الله في نفسك والزم بيتك، ولا تخرج على إمامك" (البداية والنهاية لابن كثير).

- وقال جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-: "كلمتُ حسينًا، فقلتُ له: اتقِ الله، ولا تضرب الناس بعضهم ببعض، فوالله ما حمدتم ما صنعتم فعصاني" (الطبقات لابن سعد).

ولم تتوقف المحاولات الهادفة بيْن الحسين -رضي الله عنه- وبيْن خروجه إلى الكوفة؛ فكتب إليه عبد الله بن جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنهما-: "أما بعد، فإني أسألك بالله لما انصرفت حين تنظر في كتابي، فإني مشفق عليك مِن الوجه التي توجهت له أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك" (تاريخ الأمم والملوك للطبري).

ولكن الحسين -رضي الله عنه- رفض الرجوع، وقد حاول كثيرٌ مِن أهل الرأي والحكمة منع الحسين -رضي الله عنه-، وكتب إليه المسور بن مخرمة -رضي الله عنه- وأبو واقد الليثي، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، وعبد الله بن مطيع، وسعيد بن المسيب، وعمرو بن سعيد بن العاص، وابن عياش، ويزيد بن الأصم، والأحنف بن قيس، وعمرة بنت عبد الرحمن، وغيرهم.

ومِن الملاحظ: إجماع كل مَن نصح الحسين -رضي الله عنه- على ألا يخرج للعراق، ولا يثق في أهل الكوفة، وإجماع الناصحين للحسين على خيانة أهل الكوفة ووجوب عدم الثقة بوعودهم، وكذلك يلفت الانتباه: إجماعهم في توقعهم لمقتل الحسين كما يبدو ذلك مِن أسفهم عليه، وكلمات التوديع له؛ وما ذلك إلا دليل على معرفة أولئك الناصحين مِن العلماء بالأوضاع، ووعيهم لما سبق مِن أحداثٍ جَرَت إبان الفتنة بيْن علي ومعاوية -رضي الله عنهما- عرفوا مِن خلالها الدوافع والأهواء التي تدفع ببعض الأقوام للاستفادة مِن إثارة الإحن ودوام الفتن. (الدولة الأموية: عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار ص 465).

وكل هذه النصائح لم تؤثِّر على الحسين -رضي الله عنه- في قراره بالخروج إلى الكوفة، فعقد العزم على الخروج، وأخذ يجهز نفسه وأهل بيته للخروج، وبالفعل خرج في يوم التروية "الثامن مِن ذي الحجة" سنة 60 هـ - 680م، وخرج معه أهل بيته، وقيل خرج معه ستون شيخ مِن أهل الكوفة،.

وهنا تكررت بعض المحاولات مِن كثيرٍ مِن الناصحين أثناء سير الحسين -رضي الله عنه- إلى الكوفة، ولكنها دون جدوى؛ فالحسين رغم كل ما سمعه مِن المقربين المخلصين لا يتراجع عن قراره؛ فهذا قدر الله وهذا حكمته، وكان أمر الله قدرًا مقدورًا.

ولعل مِن الأسباب التي جعلت الحسين -رضي الله عنه- لا يتراجع عن رأيه: هو الواقع الذي يراه الحسين -رضي الله عنه-، فيزيد لن يترك الحسين هكذا دون بيعة، وربما توقع الحسين أن يزيد سيحمله على البيعة في أقرب وقت ممكن، ولن يرضى أن تكون له حرية التصرف دون بيعة، ولعل الحسين -رضي الله عنه- شعر بالحرج مِن وجوده في مكةٍ دون بيعة الخليفة، دون أن يكون له ما يبرر موقفه بشكلٍ واضح.

أضف إلى ذلك: الخوف مِن تأصيل القيصرية والهرقلية والتوريث في الأمة، وهذا يعد مِن أنواع الفساد بلا شك، وكان موقف الحسين مِن بيعة يزيد بن معاوية هو موقف المعارض منذ البداية.

والسبب في ذلك: الحرص على مبدأ الشورى، وأن يتولى الأمة أصلحها، ثم الصورة المشجعة التي نقلها له ابن عمه مسلم ابن عقيل لحالة الكوفة، وأن أهلها جميعًا ينتظرون الحسين، والنصر يتوقف على حضور الحسين فقط، فربما كانت هذه بعض الأسباب التي جعلت الحسين -رضي الله عنه- اتخذ قراره بلا رجعة. والله أعلى وأعلم. (مواقف المعارضة في خلافة يزيد، للشيباني، ص 302).

ونستكمل في المقال القادم -بمشيئة الله تعالى-.

ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــــــ

(1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "إن الله -تعالى- بعث رسوله -صلى الله عليه وسلم- بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فإذا تولى خليفة مِن الخلفاء: كيزيد، وعبد الملك، والمنصور، وغيرهم؛ فإما أن يُقال: يجب منعه مِن الولاية وقتاله حتى يُولى غيره كما يفعله مَن يرى السيف، فهذا رأى فاسد؛ فإن مفسدة هذا أعظم مِن مصلحته، وقلَّ مَن خرج على إمامٍ ذي سلطان إلا كان ما تولد على فعله مِن الشر أعظم مما تولد مِن الخير، كالذين خرجوا على يزيد بالمدينة، وكابن الأشعث الذي خرج على عبد الملك بالعراق، وكابن المهلب الذي خرج على ابنه بخراسان، وكأبي مسلم صاحب الدعوة الذي خرج عليهم بخراسان أيضًا، وكالذين خرجوا على المنصور بالمدينة والبصرة وأمثال هؤلاء، وغاية هؤلاء إما أن يُغلبوا، وإما أن يَغلبوا ثم يزول ملكهم فلا يكون لهم عاقبة، فإن عبد الله بن علي، وأبا مسلم هما اللذان قتلا خلقًا كثيرًا، وكلاهما قتله أبو جعفر المنصور، وأما أهل الحرة وابن الأشعث وابن المهلب وغيرهم؛ فهُزموا وهُزم أصحابهم، فلا أقاموا دينًا ولا أبقوا دنيا.

والله -تعالى- لا يأمر بأمر لا يحصل به صلاح الدين ولا صلاح الدنيا، وإن كان فاعل ذلك مِن أولياء الله المتقين، ومِن أهل الجنة؛ فليسوا أفضل مِن علي وعائشة وطلحة والزبير وغيرهم، ومع هذا لم يُحمد ما فعلوه مِن القتال، وهم أعظم قدْرًا عند الله وأحسن نية مِن غيرهم" (منهاج السُّنة).

ابو وليد البحيرى
2022-05-12, 03:39 PM
صفحات مِن ذاكرة التاريخ (30)

مقتل الحسين بن علي -رضي الله عنهما- في عهد يزيد بن معاوية







كتبه/ زين العابدين كامل


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد ذكرنا في المقال السابق أن معارضة الحسين بن علي -رضي الله عنهما- ليزيد بن معاوية تُمثِّل نقطة تحول في التاريخ؛ فهي تُعد أول معارضة عملية في خلافة يزيد، وقد أثَّرت حادثة مقتل الحسين -رضي الله عنه- على المجتمع الإسلامي بصفة عامة، وعلى الدولة الأموية وتاريخها بصفةٍ خاصة، بل واستمر تأثير هذه الحادثة لمدة قرونٍ طويلة، بل إلى يومنا هذا!

وهناك مَن انحرف مِن أبناء الأمة بسبب هذه الحادثة، وظهر بسببها التعصب والانحراف الفكري عند الكثيرين، وكانت هذه الحادثة هي إحدى الروافد التي ساعدتْ على قيام الثورات ضد الأمويين، وقد ألقينا الضوء على وجهة نظر كبار الصحابة والتابعين حول مسألة خروج الحسين -رضي الله عنه- ونصائحهم له بعدم الخروج إلى الكوفة، وذكرنا الدوافع التي كانت وراء خروج الحسين -رضي الله عنه- مِن وجهة نظره.

موقف يزيد مِن أحداث الكوفة:

لم يغب عن يزيد تحركات الحسين -رضي الله عنه-، وخروجه مِن المدينة رافضًا البيعة، واستقراره بمكة وعلاقته مع الكوفيين، لكنه كان يريد العمل بوصية أبيه معاوية مع الحسين -رضي الله عنه- وهي الرفق به؛ لذا لم يحرِّك يزيد ساكنًا مع معرفته بما يحدث، لكنه لما تأكد مِن تصميم الحسين -رضي الله عنه- على الاستجابة لدعوة أهل الكوفة، كتب لابن عباس -رضي الله عنهما-؛ لأنه شيخ بني هاشم في عصره وعالم المسلمين، قائلًا: "ونحسب أن رجالًا أتوه مِن المشرق فمنّوه الخلافة، فإنهم عندك منهم خبرة وتجربة، فإن كان فعل فقد قطع وشائج القرابة، وأنت كبير أهل بيتك والمنظور إليه، فاكففه عن السعي في الفرقة".

ثم كتب بهذه الأبيات إليه، وإلى مَن بمكة والمدينة مِن قريش:

يا أيـهـا الـراكـب الــغـادي لـطـيـتـه على عُـذَافـرةِ فـي ســيــرها قـحــم

أبلغ قريـشًا على نـأي الـمـزار بهـا بيني وبين حـسيـن الـلـه والـرحــم

إلى أن قال:

يا قومنا لا تشبوا الحرب إذ خـمدت وأمسكوا بـجـبال السلم واعتصموا

لا تركبوا البغي إن البغي مـصرعه وإن شــارب كـأس الـبـغـي يـتـخـم

فـقـد غـرّت الـحـرب مَن كان قبلـكم مِن القرون وقـد بـادت بـهـا الأمـم

فـأنصـفـوا قـومكم لا تهلكوا بـذخــًا فــرب ذي بــذخ زلــت بــه الــقـدم

"طيته: أي: حاجته. عذافرة: الناقة الشديدة العظيمة. قحم: أي سريعة تطوى المنازل وتقتحمها منزلة بعد منزلة" (البداية والنهاية).

فكتب إليه ابن عباس -رضي الله عنهما-: "إني لأرجو أن لا يكون خروج الحسين لأمر تكرهه، ولستُ أدع النصيحة له في كل ما يجمع الله به الألفة وتُطفى به الثائرة" (سير أعلام النبلاء للذهبي).

وفي تلك الأثناء كانت الأحداث تتسارع، وذلك بعد ما أخذ الشيعة يلتفون حول مسلم بن عقيل ليبايعوا الحسين -رضي الله عنه-، وعندما أحس النعمان بن بشير الأنصاري والي الكوفة بخطورة الوضع قام فخطب في الناس، وقال: "اتقوا الله عباد الله، ولا تسارعوا إلى الفتنة والفرقة، فإن فيها يهلك الرجال، وتسفك الدماء وتغصب الأموال". وقال: "إني لن أقتل مَن لم يقاتلني، ولن أثب على مَن لا يثب عليَّ، لا أشاتمكم ولا أتحرش بكم، ولا آخذ بالقرف ولا الظنة والتهمة، ولكن إن أبديتم صفحتكم لي، ونكثتم بيعتكم، وخالفتم إمامكم، فوالله الذي لا إله غيره لأضربنكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، ولو لم يكن لي منكم ناصر، أما إني أرجو أن يكون مَن يعرف الحق منكم أكثر ممن يرديه الباطل".

ولم تعجب يزيد سياسة النعمان فعزله مِن ولاية الكوفة، وعين بدله عبيد الله بن زياد واليه على البصرة؛ وذلك لأن بعض المقربين مِن يزيد أخبروه أن النعمان يميل إلى السلم، وقد ظهر هذا في حديثه وخطبته، وأقبل ابن زياد إلى الكوفة ودخلها، فلما نزل في القصر نودي: "الصلاة جامعة"؛ فاجتمع الناس فخرج إليهم ثم خطبهم، ووعد مَن أطاع منهم خيرًا، وتوعَّد مَن خالف وحاول الفتنة منهم شرًّا" (تاريخ الرسل والملوك للطبري).

وكان عبيد الله يتمتع بشخصية قوية، وقد بدأ بمراقبة وحصر الفئات المؤيدة لمسلم بن عقيل، والذين يؤمِّنون له السكن والمأوى والاجتماعات، وقد نجح عبيد الله بهذا في تحجيم تحركات مسلم بن عقيل، ونجح في ضبط الأمن في الكوفة، وبدأ الخوف يدب في قلوب بعض المؤيدين لابن عقيل، واستطاع عبيد الله أن يصل إلى مكان اختباء ابن عقيل (تاريخ الرسل والملوك للطبري).

وحرص عبيد الله بن زياد على جمع المعلومات، واستطاع أن يخترق أتباع مسلم بن عقيل، وعلم بنزول مسلم بن عقيل في دار هانئ بن عروة (الأخبار الطوال للدينوري).

واستطاع عبيد الله بحيلة أن يأتي بهانئ في قصر الإمارة، وواجهه بما يعرف؛ فأنكر هانئ في البداية، لكنه اعترف بعد ذلك؛ لأنه أيقن أن عبيد الله علم بكل شيء، ثم قام عبيد الله فضرب وجهه، وهشم أنفه، وكسر حاجبه، وسال منه الدم وأمر به فأدخل بيتًا وتم سجنه فيه (أنساب الأشراف للبلاذري).

ولما بلغ مسلم بن عقيل خبر ضرب وجه هانئ بن عروة، أمر أن ينادي في أصحابه الذين بايعوه، فتنادى أهل الكوفة فاجتمعوا إليه وكان عدد الذين حضروا أربعة آلاف رجل.

وتقدَّم مسلم بهذه الجموع صوب قصر الإمارة التي يتحصن بها ابن زياد، وهنا طلب ابن زياد مِن أشراف الناس وزعماء الكوفة الذين معه في القصر، وكان قد جمعهم عنده، فطلب منهم أن يعظوا الناس ويخذلوهم ويخوفوهم بقرب أهل الشام، وصار هؤلاء الأمراء والزعماء يثبطون الناس، ويذكرونهم بالسلامة والأمن، وأنهم إن لم ينصرفوا سيحرمون مِن العطاء، وسيساقون إلى الثغور، وسينالهم العقاب الشديد، ولم يكن التثبيط مقصورًا على الأمراء فقط، بل إن النساء كان لهن دور كبير في إضعاف عزيمة المناصرين لمسلم؛ إضافة إلى الآباء وكبار السن، فقد كان لهم نفس الدور، وكانت المرأة تأتي ابنها وأخاها وتقول: "انصرف، الناس يكفونك"، ويجيء الرجل إلى ابنه وأخيه، ويقول: "غدًا يأتيك أهل الشام" فما تصنع بالحرب والشر، انصرف. (تاريخ الرسل والملوك للطبري).

وأمام هذه الإجراءات السريعة مِن ابن زياد، وأمام الشد النفسي الذي نازع غالبية مَن انضموا إلى مسلم بن عقيل؛ أخذ هذا العدد يتضاءل حتى وصل إلى ستين رجلًا، ثم حدثت معركة بيْن الطرفين لم تدم طويلاً، ولما أمسى المساء تفرَّق الناس، وبقي مسلم بن عقيل وحيدًا في طرقات الكوفة (تاريخ الرسل والملوك للطبري).

ثم أمر ابن زياد بقتل مسلم، واتخذ ابن زياد إجراءً يدل على قسوته وجبروته وظلمه، فقد أمر بهانئ فأخرج إلى السوق وقُتل، وظل هانئ يصيح لقبيلته، ولكن لم ينصره أحد، ثم صلب هانئ ومسلم في سوق أمام الناس، ثم أمر بضرب أعناق اثنين مِن الذين كانوا يخططون لنصر مسلم بن عقيل وصلبهما في السوق أيضًا!

وكان مسلم بن عقيل يدعو عليهم عند قتله، ويقول: "اللهم احكم بيننا وبيْن قوم غرٌّونا وكذبونا، ثم خذلونا وقتلونا".

موقف عبيد الله بن زياد مِن الحسين -رضي الله عنه- ومعركة كربلاء:

خرج الحسين -رضي الله عنه- مِن مكة يوم التروية الموافق لثمان مِن ذي الحجة سنة ستين، وأدرك والي مكة عمرو بن سعيد بن العاص خطورة الموقف، فأرسل وفدًا إلى الحسين -رضي الله عنه-، وعلى رأسهم أخوه يحيى بن سعيد بن العاص، فحاولوا أن يثنوه عن عزمه، ولكنه رفض فنادوه: "يا حسين، ألا تتقي الله؟! تخرج عن جماعة المسلمين وتفرِّق بيْن هذه الأمة"، فردَّ الحسين -رضي الله عنه- بقول الله -تعالى-: (لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) (يونس:41)، فخرج الحسين -رضي الله عنه- متوجهًا إلى العراق في أهل بيته وستين شيخًا مِن أهل الكوفة (تاريخ الرسل والملوك للطبري).

وكتب مروان بن الحكم وعمرو بن سعيد بن العاص إلى ابن زياد ينهيانه عن التعرض للحسين -رضي الله عنه-، وأن يكون حذرًا في تعامله مع الحسين -رضي الله عنه-؛ فهو الحسين ابن فاطمة، وفاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتالله ما أحد يسلمه الله أحب إلينا مِن الحسين، وإياك أن تهيج على نفسك ما لا يسده شيء، ولا ينساه العامة، ولا يدع ذكره، والسلام عليك (الطبقات لابن سعد).

وفي الطريق إلى الكوفة: قابل الحسين -رضي الله عنه- "الفرزدق" الشاعر المشهور بذات عرق -ذات عرق على مرحلتين مِن مكة، وهو ميقات أهل العراق، وهو الحد بيْن نجد وتهامة-، فسأله الحسين بن علي -رضي الله عنهما- عن تصوره لما يقوم به أهل الكوفة حياله، ثم أراد أن يعطي الفرزدق إيضاحًا أكثر، وقال: "هذه كتبهم معي"، فرد عليه الفرزدق: "يخذلونك؛ فلا تذهب، فإنك تأتي قومًا، قلوبهم معك وأيديهم عليك" (البداية والنهاية لابن كثير).

واستمر الحسين -رضي الله عنه- في مسيره إلى الكوفة، وهو لا يعلم شيئًا عن التغيرات التي حدثتْ، واتخذ ابن زياد بعض التدابير لكي يحول بيْن أهل الكوفة وبيْن الحسين -رضي الله عنه-، ويحكم سيطرته على الكوفة، فقام بجمع المقاتلة وفرَّق عليهم العطاء حتى يضمن ولاءهم، ثم أصدر أوامره إلى الحصين بن تميم صاحب شرطته بأن يقبض على كل مَن ينكره، ثم أمر ابن زياد بمراقبة جميع الطرق ما بيْن مكة والشام والبصرة، وأرسل خيله إلى حدود الكوفة ومنافذها، ولم يترك أحدًا يدخل أو يخرج، وبهذا قطع الاتصالات بيْن الكوفة والحسين (البداية والنهاية لابن كثير).

وكانت لتلك الإجراءات الأمنية الصارمة التي اتخذها ابن زياد أثر كبير على نفوس أتباع الحسين -رضي الله عنه-، فهم يرون أن مَن كان له علاقة بالحسين فإن مصيره القتل، وعلى أبشع صورة فأصبح مَن يفكر في نصرة الحسين -رضي الله عنه- فإن عليه أن يتصور نهايته على ذلك النحو المؤلم، ولما بلغ الحسين زبالة -زبالة: منزل معروف بطريق مكة مِن الكوفة بيْن واقصة والثعلبين-، وقيل: شراف -شراف: بيْن واقصة والقرعاء على ثمانية أميال مِن الإحساء-، جاءه خبر مقتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وعبد الله بن بقطر، إضافة إلى تخاذل أهل الكوفة عن نصرته، وكان لهذا الخبر المفجع المؤلم وقعه الشديد على الحسين -رضي الله عنه-، فهؤلاء أقرب الناس إليه قد قُتلوا، وأهل الكوفة تخاذلوا في نصرته (تاريخ الرسل والملوك للطبري).

ولما بلغ الحسين -رضي الله عنه- مقتل ابن عمه مسلم بن عقيل وتخاذل الناس عنه؛ أعلم الحسين مَن معه بذلك، وقال: "مَن أحب أن ينصرف فلينصرف"؛ فتفرق الناس عنه يمينًا وشمالًا، وقال له بعض مَن ثبتوا معه: "ننشدك الله إلا ما رجعت مِن مكانك، فإنه ليس لك بالكوفة ناصر ولا شيعة، بل نتخوف أن يكونوا عليك!".

وهنا راجع الحسين أمره، وفكَّر في الوضع الراهن والواقع في الكوفة، وهمَّ أن يتراجع، وشاركه في رأيه ابنه الأكبر علي (الطبقات لابن سعد)، فوثب بنو عقيل إخوة مسلم، وقالوا: "والله لا نبرح حتى ندرك ثأرنا أو نذوق كما ذاق مسلم! ثم قال له بعض مِن حوله: إنك لست كمسلم بن عقيل، ولو قدمت الكوفة لأسرع الناس إليك" (تاريخ الرسل والملوك للطبري).

فواصل الحسين -رضي الله عنه- سيره، وكان ابن زياد قد أمر الحرّ بن يزيد -وكان يقود ألف فارس- أن يعسكر في شراف، وأن يلازم الحسين عندما يدركه، ولا يأذن له بالانصراف حتى يدخله الكوفة، وقد أدرك الحرُّ بن يزيد الحسين -رضي الله عنه- ومَن معه قريبًا مِن شراف، ولما طلب منه الحسين -رضي الله عنه- الرجوع منعه، وذكر له أنه مأمور بملازمته حتى الكوفة، وقام الحسين وأخرج خرجين مملوءة بالكتب التي تطلب منه القدوم إلى الكوفة، فأنكر الحر والذين معه أي علاقة لهم بهذه الكتب، وهنا رفض الحسين الذهاب مع الحر إلى الكوفة وأصر على ذلك، فاقترح عليه الحر أن يسلك طريقًا يجنبه الكوفة ولا يرجعه إلى المدينة، وذلك مِن أجل أن يكتب الحر إلى ابن زياد بأمره، وأن يكتب الحسين إلى يزيد بأمره.

وبالفعل تياسر الحسين عن طريق العذيب والقادسية، واتجه شمالًا على طريق الشام، وأخذ الحر يساير الحسين وينصحه بعدم المقاتلة، ويذكّره بالله، وبيّن له أنه إذا قاتل فسوف يقتل، وكان الحسين -رضي الله عنه- يصلي بالفريقين إذا حضرت الصلاة (تاريخ الرسل والملوك).

ولما وصل الحسين -رضي الله عنه- إلى كربلاء أدركته خيل عمر بن سعد ومعه شمر بن ذي الجوشن، والحصين بن تميم (أنساب الأشراف للبلاذري)، وكان هذا الجيش الذي يقوده عمر بن سعد مكونًا مِن أربعة آلاف مقاتل، ولما وصل الحسين كربلاء أحاطت به الخيل، وبدأ الحسين بن علي -رضي الله عنهما- بالتفاوض مع عمر بن سعد، وبيّن الحسين أنه لم يأتِ إلى الكوفة إلا بطلبٍ مِن أهلها، وأبرز لعمر بن سعد الدليل على ذلك، وأشار إلى حقيبتين كبيرتين تتضمن أسماء المبايعين والداعين للحسين.

وكتب عمر بن سعد لابن زياد بما سمعه مِن الحسين، وقال: "بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فإني حيث نزلت بالحسين بعثت إليه رسولي، فسألتُه عما أقدمه، وماذا يطلب؟ فقال: كتب إليَّ أهل هذه البلاد وأتتني رسلهم، فسألوني القدوم ففعلت، فأما إذا كرهوني، فبدا لهم غير ما أتتني به رسلهم فأنا منصرف عنهم"، فلما قرئ على ابن زياد تمثـَّل قول الشاعر:

الآن إذا عـلـقــت مــخـالـبـنـا بــه يرجو النجاة ولات حين مـنـاص!

ثم كتب ابن زياد لعمر بن سعد: "بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد فقد بلغني كتابك، وفهمت ما ذكرت، فاعرض على الحسين أن يبايع ليزيد بن معاوية وجميع أصحابه، فإذا فعل ذلك رأيْنا رأينَا والسلام. ولما اطلع عمر بن سعد على جواب بن زياد ساءه ما يحمله الجواب مِن تعنت، وعرف أن ابن زياد لا يريد السلامة (تاريخ الرسل والملوك للطبري).

ورفض الحسين هذا العرض، ثم لما رأى جهامة الموقف وخطورته طلب مِن عمر بن سعد مقابلته، وعرض على عمر بن سعد عرضًا آخر يتمثـّل في إجابته واحدة مِن ثلاث نقاط:

أ- أن يتركوه فيرجع مِن حيث أتى.

ب- وإما أن يتركوه ليذهب إلى الشام، فيضع يده في يد يزيد بن معاوية.

جـ- وإما أن يسيّروه إلى أي ثغرٍ مِن ثغور المسلمين، فيكون واحدًا منهم، له ما لهم وعليه ما عليهم (تاريخ الرسل والملوك).

وقد أكَّد الحسين -رضي الله عنه- موافقته للذهاب إلى يزيد، وكتب عمر بن سعد إلى ابن زياد بكتابٍ أظهر فيه أن هذا الموقف المتأزم قد حُلّ، وأن السلام قد أوشك، وما على ابن زياد إلا الموافقة، وبالفعل فقد أوشك ابن زياد أن يوافق ويرسله إلى يزيد؛ لولا تدخل شمر بن ذي الجوشن الذي كان جالسًا في المجلس حين وصول الرسالة، فقد اعترض على رأي ابن زياد في أن يرسله إلى يزيد، وبيَّن لابن زياد أن الأمر الصائب هو أن يطلب مِن الحسين أن ينزل على حكمه -أي ابن زياد- حتى يكون هو صاحب الأمر المتحكم فيه.

فلما وصل الخبر إلى الحسين -رضي الله عنه- رفض الطلب، وقال: "لا والله، لا أنزل على حكم عبيد الله بن زياد أبدًا!"، وقال لأصحابه الذين معه: "أنتم في حلٍّ مِن طاعتي"، ولكنهم أصرّوا على مصاحبته، والمقاتلة معه حتى الشهادة. (تاريخ الرسل والملوك).

واتخذ ابن زياد إجراءً احترازيًّا حين خرج إلى النخيلة -النخيلة: تصغير نخلة، وهي موضع قرب الكوفة-، واستعمل على الكوفة عمرو بن حريث، وضبط الجسر، ولم يترك أحدًا يجوزه، وخاصة أنه علم أن بعض الأشخاص مِن الكوفة بدأوا يتسللون مِن الكوفة إلى الحسين (الطبقات لابن سعد)، وانضم الحر بن يزيد إلى الحسين ليكفر عن فعله، فهو الذي منع الحسين مِن الرجوع إلى المدينة، وانضم إليه أيضًا ثلاثون رجلًا مِن جيش عمر بن سعد.

وفي صباح يوم الجمعة مِن شهر المحرم عام 61 هـ-680م نظـَّم الحسين -رضي الله عنه- أصحابه، وعزم على القتال، وكان معه اثنان وثلاثون فارسًا، وأربعون راجلًا،، وجعل البيوت وراء ظهورهم، وأمر الحسين -رضي الله عنه- بحطبٍ وقصبٍ؛ فجعله من وراء البيوت، وأشعل فيه النار مخافة أن يأتوهم مِن خلفهم، وأما عمر بن سعد فقد نظم جيشه، وكان هذا الجيش الذي يقوده عمر بن سعد مكونًا مِن أربعة آلاف مقاتل، وبدأت المعركة سريعة وكانت مبارزة في بداية الأمر، وكانت المقاومة شديدة مِن قِبَل أصحاب الحسين -رضي الله عنه-، حيث إن مقاتلتهم اتسمت بالفدائية فلم يعد لهم أمل في الحياة (تاريخ الرسل والملوك).

وكان الحسين -رضي الله عنه- في البداية لم يشترك في القتال، وكان أصحابه يدافعون عنه، ولما قٌتل أصحابه لم يجرؤ أحد على قتله، وكان جيش عمر بن سعد يتدافعون ويخشى كل فرد أن يبوء بقتله، وتمنوا أن يستسلم، ولكن الحسين -رضي الله عنه- لم يبدِ شيئًا مِن الليونة، بل كان -رضي الله عنه- يقاتلهم بشجاعةٍ نادرة؛ عندئذٍ خشي شمر بن ذي الجوشن مِن انفلات زمام الأمور؛ فصاح بالجند وأمرهم بقتله، فحملوا عليه، وضربه زرعة بن شريك التميمي ثم طعنه سنان بن أنس النخعي واحتز رأسه، ويُقال: إن الذي قتله عمرو بن بطار التغلبي، وزيد بن رٌقاد الجنبي، ويقال: إن المتولي للإجهاز عليه شمر بن ذي الجوشن الضبي، وحمل رأسه إلى ابن زياد خولي بن يزيد الأصبحي(1)، ولا تعارض بيْن الروايات؛ فهؤلاء جميعًا اشتركوا في قتل الحسين -رضي الله عنه- (الشيباني، مواقف المعارضة في عهد يزيد بن معاوية)، ولكن الثابت: أن سنان بن أنس هو مَن قتله (المعجم الكبير للطبراني).

وكان قتله -رضي الله عنه- في محرم، في العاشر منه، سنة إحدى وستين، وقٌتل مع الحسين -رضي الله عنه- اثنان وسبعون رجلًا، وقتل مِن أصحاب عمر ثمان وثمانون رجلًا، وكان الذين قتلوا مع الحسين -رضي الله عنه- مِن آل أبي طالب، سبعة عشر شابًا، منهم خمسة مِن إخوته، وقٌتل مِن أولاده عبد الله وعلي الأكبر(2) (تاريخ الخلفاء للسيوطي)، وبعد انتهاء المعركة أمر عمر بن سعد بأن لا يدخل أحد على نساء الحسين وصبيانه، وأن لا يتعرض لهم أحدٌ بسوءٍ (الطبقات لابن سعد).

وأرسل عمر بن سعد برأس الحسين ونسائه، ومَن كان معه الصبيان إلى ابن زياد، ولما وصل نساء الحسين وصبيانه أمر لهم بمنزلٍ في مكان معتزل فأجرى عليهم الرزق، وأمر لهن بالكسوة والنفقة (أنساب الأشراف للبلاذري).

وهناك روايات كثيرة تتحدث عن صفة مقتله وتأثر الكون كله بمقتله -رضي الله عنه-، وعن الذلة والمهانة التي تعرض لها أهله ونساؤه بعد مقتله، وهذا كله كذب وباطل لم يثبت(3).

ونشير إلى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أخبر فيما روي عنه أن الحسين -رضي الله عنه- سيٌقتل بشط الفرات، وهذه مِن معجزات رسول الله -صلى الله عليه وسلم-(4).

وللحديث بقية -إن شاء الله تعالى-.

ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـ

(1) تاريخ الرسل والملوك للطبري (6/ 355).

قلتُ: لقد قتل الحسين -رضي الله عنه- في يوم عاشوراء عام 61هـ، وقد قٌتل عبيد الله بن زياد المتحمل ا?ول لدم الحسين أيضًا في يوم عاشوراء عام 67هـ على يد إبراهيم بن ا?شتر الذي قطع رأس ابن زياد وأرسل بها إلى المختار الثقفي، وتم تتبع كل مَن شاركوا في قتل الحسين -رضي الله عنه-، وتم قتل معظمهم في الكوفة.

(2) علي الأكبر غير عليّ زين العابدين؛ لأنه كان عنده علي الأصغر، وعلي الأكبر، وعبد الله. ومِن أبناء أبناء الحسن، قُتل: عبد الله، والقاسم، وأبو بكر. ومِن أولاد عقيل قُتل: جعفر، وعبد الله، وعبد الرحمن. ومسلم بن عقيل قُتل بالكوفة، وعبد الله بن مسلم. ومِن أولاد عبد الله بن جعفر، قُتل: عون ومحمد. فقيل: قٌتل ثمانية عشر رجلًا كلهم مِن بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد قتلوا في هذه المعركة. (تاريخ خليفة بن خياط ص234).

(3) وليس صحيحًا كذلك أن ابن زياد قد أساء معاملة نساء الحسين بعد قتله، أو في ترحيله لهن إلى الشام، فالروايات التاريخية تخبرنا أن أحسن شيءٍ صنعه ابن زياد أنه أمر لهن بمنزلٍ في مكان معتزل، وأجرى عليهن رزقًا، وأمر لهن بنفقةٍ وكسوة.

وقال ابن تيمية -رحمه الله- في رده على بعض كذابي الشيعة: "وأما ما ذكره مِن سبي نسائه، والدوران بهن على البلدان، وحملهن على الجمال بغير أقتاب؛ فهذا كذب وباطل، وما سبى المسلمون -ولله الحمدـ هاشمية قط، ولا استحلت أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- هاشمية قط، ولكن أهل الهوى والجهل يكذبون كثيرًا".

بل المرجح أن ابن زياد بعد أن ذهبت عنه نشوة النصر، أحس فداحة خطئه وكان ذلك الشعور هو المسيطر على بعض أفراد أسرته القريبين منه، فقد كانت أمه تقول له: ويلك ماذا صنعت؟ أو ماذا ركبت؟ وكان أخوه عثمان بن زياد يقول: "لوددتُ والله أنه ليس مِن بني زياد رجل إلا وفي أنفه خزامة إلى يوم القيامة، وأن حسينًا لم يُقتل!" فلا ينكر عليه عبيد الله قوله.

وقال ابن كثير -رحمه الله-: "ولقد بالغ الشيعة في يوم عاشوراء، فوضعوا أحاديث كثيرة كذبًا فاحشًا، مِن كون الشمس كُسفت يومئذٍ حتى بدت النجوم، وما رفع يومئذ حجر إلا وجد تحته دم، وأن أرجاء السماء احمرت، وأن الشمس كانت تطلع وشعاعها كأنه الدم، وصارت السماء كأنها علقة، وأن الكواكب ضرب بعضها بعضًا، وأمطرت السماء دمًا أحمر، وأن الحمرة لم تكن في السماء قبْل يومئذٍ، ونحو ذلك.

وروى ابن لهيعة عن أبي قبيل المعافري: أن الشمس كسفت يومئذٍ حتى بدت النجوم وقت الظهر، وأن رأس الحسين لما دخلوا به قصر الإمارة جعلت الحيطان تسيل دمًا، وأن الأرض أظلمتْ ثلاثة أيام، ولم يمس زعفران ولا ورس مما كان معه يومئذٍ إلا احترق مِن مسه، ولم يرفع حجر مِن حجارة بيت المقدس إلا ظهر تحته دم عبيط، وأن الإبل التي غنموها مِن إبل الحسين حين طبخوها صار لحمها مثل العلقم! إلى غير ذلك مِن الأكاذيب والأحاديث الموضوعة التي لا يصح منها شيء" (البداية والنهاية 8/ 2019).

(4) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُجَيٍّ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ سَارَ مَعَ عَلِيٍّ -رضي الله عنه- وَكَانَ صَاحِبَ مِطْهَرَتِهِ, فَلَمَّا حَاذَى نِينَوَى وَهو مُنْطَلِقٌ إِلَى صِفِّينَ, نَادَى عَلِيٌّ -رضي الله عنه- بِشَطِّ الْفُرَاتِ: اصْبِرْ أَبَا عَبْدِ اللهِ, اصْبِرْ أَبَا عَبْدِ اللهِ, ثُمَّ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ وَعَيْنَاهُ تَفِيضَانِ, فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ أَغْضَبَكَ أَحَدٌ؟ مَا شَأنُ عَيْنَيْكَ تَفِيضَانِ؟ فَقَالَ: (بَلْ قَامَ مِنْ عِنْدِي جِبْرِيلُ قَبْلُ, فَحَدَّثَنِي أَنَّ الْحُسَيْنَ يُقْتَلُ بِشَطِّ الْفُرَاتِ, فَقَالَ: هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ أُشِمَّكَ مِنْ تُرْبَتِهِ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ, فَمَدَّ يَدَهُ فَقَبَضَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ فَأَعْطَانِيهَا , فَلَمْ أَمْلِكْ عَيْنَيَّ أَنْ فَاضَتَا) (رواه أحمد، وقال الألباني: هذا إسناد ضعيف، نجي والد عبد الله لا يدرى مَن هو، كما قال الذهبي، ولم يوثقه غير ابن حبان، وابنه أشهر منه، فمَن صحح هذا الإسناد فقد وهم. والحديث، قال الهيثمي (9/ 187): "رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني، ورجاله ثقات، ولم ينفرد نجي بهذا. قال الألباني. يعني أن له شواهد تقويه، وهو كذلك).


وعن عبد الله بن سعيد عن أبيه عن عائشة أو أم سلمة، قال وكيع: شك هو -يعني عبد الله بن سعيد- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لإحداهما: (لَقَدْ دَخَلَ عَلَيَّ الْبَيْتَ مَلَكٌ لَمْ يَدْخُلْ عَلَيَّ قَبْلَهَا، فَقَالَ لِي: إِنَّ ابْنَكَ هَذَا حُسَيْنٌ مَقْتُولٌ، وَإِنْ شِئْتَ أَرَيْتُكَ مِنْ تُرْبَةِ الْأَرْضِ الَّتِي يُقْتَلُ بِهَا، قَالَ: فَأَخْرَجَ تُرْبَةً حَمْرَاءَ) (رواه أحمد، وقال الألباني: هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين).

ابو وليد البحيرى
2022-08-02, 12:39 PM
صفحات مِن ذاكرة التاريخ (31)

موقف يزيد بن معاوية مِن قتل الحسين -رضي الله عنه- ومِن أهل الحسين وذريته







كتبه/ زين العابدين كامل

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد ذكرنا أن معارضة الحسين بن علي -رضي الله عنهما- ليزيد بن معاوية تٌمثل نقطة تحول في التاريخ، فهي تُعد أول معارضة عملية في خلافة يزيد، وقد أثرت حادثة مقتل الحسين على المجتمع الإسلامي بصفةٍ عامة، وعلى الدولة الأموية وتاريخها بصفة خاصة، بل واستمر تأثير هذه الحادثة لمدة قرون طويلة، بل إلى يومنا هذا!

وهناك مَن انحرف مِن أبناء الأمة بسبب هذه الحادثة، وظهر بسببها التعصب والانحراف الفكري عند الكثيرين، وكانت هذه الحادثة هي إحدى الروافد التي ساعدتْ على قيام الثورات ضد الأمويين.

وقد ألقينا الضوء على تفاصيل خروج الحسين -رضي الله عنه- مِن المدينة وحتى مقتله في كربلاء، وموقف يزيد مِن أحداث الكوفة، وموقف عبيد الله بن زياد مِن الحسين -رضي الله عنه-، وبعد مقتل الحسين -رضي الله عنه- كتب عبيد الله بن زياد إلى يزيد بن معاوية يخبره بما حدث، ويستشيره في شأن أبناء الحسين ونسائه، فلما بلغ الخبر يزيد بن معاوية بكى، وقال: "كنتُ أرضى مِن طاعتكم -أي أهل العراق- بدون قتل الحسين، كذلك عاقبة البغي والعقوق، لعن الله ابن مرجانة، لقد وجده بعيد الرحم منه، أما والله لو أني صاحبه لعفوتُ عنه، فرحم الله الحسين" (تاريخ الرسل والملوك للطبري). وفي رواية أنه قال: "أما والله، لو كنت صاحبه، ثم لم أقدر على دفع القتل عنه إلا ببعض عمري لأحببتُ أن أدفعه عنه!" (الأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير للجورقاني، بسندٍ كل رجاله ثقات إلا أن فيه انقطاعًا بيْن الشعبي والمدائني)، فجاء رد يزيد على ابن زياد يأمره بإرسال الأسارى إليه، وبادر ذكوان أبو خالد فأعطاهم عشرة آلاف درهم فتجهزوا بها (الطبقات لابن سعد).

ومِن هنا يُعلم: أن ابن زياد لم يحمل آل الحسين بشكلٍ مؤلم أو أنه حملهم مغللين كما ورد في بعض الروايات، وقد مرَّ معنا كيف أن ابن زياد قد أمر للأسارى بمنزلٍ منعزل، وأجرى عليهم الرزق والنفقة وكساهم، ولما دخل أبناء الحسين على يزيد، قالت فاطمة بنت الحسين: "يا يزيد: أبنات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سبايا؟! قال: بل حرائر كرام" اٌدخلي على بنات عمك تجديهن قد فعلن ما فعلتِ. قالت فاطمة: فدخلت إليهن فما وجدت فيهن سفيانية إلا ملتزمة تبكي" (العقد الفريد لابن عبد ربه).

وعندما دخل علي بن الحسين قال يزيد: "يا حبيب، إن أباك قطع رحمي وظلمني، فصنع الله به ما رأيت".

وكان علي بن الحسين في معركة كربلاء لم يشترك بسبب المرض الذي كان ملازمه، وكان أثناء احتدام المعركة طريح الفراش فحُمل إلى ابن زياد مع بقية الصبيان والنساء، فرد علي بن الحسين على يزيد: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (الحديد:22)، ثم طلب يزيد مِن ابنه خالد أن يجيبه، فلم يدرِ خالد ما يقول، فقال يزيد: قل له: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى:30)" (تاريخ الرسل والملوك للطبري).

وهناك بعض الروايات تفيد بأن أبناء الحسين -رضي الله عنه- وبناته تعرضن للمهانة، وكأنهن في مزادٍ علني! فهذا مِن الكذب البيِّن الذي لم يدعمه سند صحيح، ثم إنها مغايرة لما ثبت مِن إكرام يزيد لآل الحسين، ثم إن يزيد لم يستعرض النساء ويجعلهن عرضة للجمهور ليختر ما يشاء (الشيباني، مواقف المعارضة في خلافة يزيد).

وأرسل يزيد إلى كل امرأة مِن الهاشميات يسأل عن كل ما أخذ منهن، وكل امرأة تدعي شيئًا بالغًا ما بلغ إلا أضعفه لهن في العطية، وكان يزيد لا يتغذى ولا يتعشى إلا دعا علي بن الحسين (الطبقات لابن سعد).

وبعث يزيد إلى المدينة فقدم عليه ذوو السنِّ مِن موالي بني هاشم ومِن موالي بني علي، وبعد أن وصل الموالي أمر يزيد بنساء الحسين -رضي الله عنه- وبناته أن يتجهزن، وأعطاهن كل ما طلبن حتى لم يدع لهم حاجة بالمدينة إلا أمر بها (الطبقات لابن سعد).

ثم أمر النعمان بن بشير أن يقوم بتجهيزهم (سير أعلام النبلاء للذهبي).

وقبْل أن يغادروا، قال يزيد لعلي بن الحسين: "إن أحببتَ أن تقيم عندنا، فنصل رحمك، ونعرف لك حقك فعلت"، ولكن علي بن الحسين اختار الرجوع إلى المدينة، وأكرم يزيد أبناء الحسين وخيّرهم بيْن المقام عنده والذهاب إلى المدينة فاختاروا الرجوع إلى المدينة (تاريخ الرسل والملوك للطبري، ومنهاج السُّنة النبوية لابن تيمية).

وعند مغادرتهم دمشق كرّر يزيد الاعتذار مِن علي بن الحسين، وقال: "لعن الله ابن مرجانة، أما والله لو أني صاحبه ما سألني خصلة أبدًا إلا أعطيتها إياه، ولدفعت عنه الحتف بكل ما استطعت، ولو بهلاك بعض ولدي، ولكن الله قضى ما رأيت، كاتبني بكل حاجة تكون لك" (تاريخ الرسل والملوك للطبري).

وأمر يزيد بأن يرافق ذرية الحسين وفدٌ مِن موالي بني سفيان، وكان عددهم ثلاثين فارسًا، وأمر المصاحبين لهم أن ينزلوا حيث شاءوا ومتى شاءوا، وخرج آل الحسين مِن دمشق محفوفين بأسباب الاحترام والتقدير حتى وصلوا إلى المدينة (مواقف المعارضة في خلافة يزيد للشيباني).

قال ابن كثير -رحمه الله- في يزيد: "وأكرم آل بيت الحسين، وردَّ عليهم جميع ما فُقد لهم وأضعفه، وردهم إلى المدينة في محامل وأبهة عظيمة، وقد ناح أهله على الحسين" (البداية والنهاية).

وهكذا قُتل الحسين -رضي الله عنه-، وقد حَمَّل العلماء مسئولية قتل الحسين لعبيد الله بن زياد، وعمر بن سعد بن أبي وقاص، وشمر بن ذي الجوشن، وحمَّلوا كذلك أهل الكوفة مسئولية مقتله؛ فهم الذين كاتبوا الحسين بن علي -رضي الله عنهما- ثم خذلوه!

واختلف العلماء في أمر يزيد: هل يتحمل دم الحسين أم لا؟ فلقد قٌتل الحسين في خلافته، وعلى أرضٍ تسيطر عليها جيوشه، وقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يٌحمّل نفسه مسئولية بغلة عثرت في العراق أو في الشام(1)، علمًا بأنه لم يأمر بقتله، بل ولم يشر إلى ذلك، ولكن يؤخذ على يزيد أنه ما انتصر للحسين، ولا أمر بقتل قاتله، بل ولم يعزله أو يعاقبه على قتله للحسين -رضي الله عنه-! (البداية والنهاية لابن كثير، ومنهاج السُّنة لابن تيمية).

وكان موقف الحسين -رضي الله عنه- مِن بيعة يزيد بن معاوية هو موقف المعارِض منذ البداية، والسبب في ذلك: الحرص على مبدأ الشورى، وأن يتولى الأمة أصلحها، فالحسين اعترض على فكرة التوريث دفاعًا عن الشورى، ومبادئ الإسلام الداعمة لحق الأمة في اختيار مَن تريد، وأحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- التي يأمر فيها بقتل المفارق للجماعة لم تتناوله؛ فإنه -رضي الله عنه- لم يفارِق الجماعة، ولم يُقتل إلا وهو طالب للرجوع إلى بلده، أو إلى الثغر، أو إلى يزيد، داخلاً في الجماعة، معرضًا عن تفريق الأمة، ولو كان طالب ذلك أقل الناس لوجب إجابته إلى ذلك؛ فكيف لا تجب إجابة الحسين -رضي الله عنه-؟!(2).

وأما عن مكان رأس الحسين -رضي الله عنه-: فإن سبب الاختلاف في موضع رأس الحسين -رضي الله عنه- عند عامة الناس، إنما هو ناتج عن تلك المشاهد المنتشرة في ديار المسلمين، والتي أقيمتْ في عصور التخلف الفكري والعقدي، وكلها تدعي وجود رأس الحسين -رضي الله عنه-، ثم إن الجهل بموضع رأس الحسين -رضي الله عنه- جعل كل طائفة تنتصر لرأيها في ادعاء وجود الرأس عندها!

وإذا أردنا التحقيق في مكان الرأس، فإنه يلزمنا تتبع وجود الرأس منذ انتهاء معركة "كربلاء"، فلقد ثبت أن رأس الحسين -رضي الله عنه- حُمل إلى ابن زياد، فجعل الرأس في طست وأخذ يضربه بقضيب كان في يده، فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه-: أُتِيَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ بِرَأْسِ الحُسَيْنِ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ-، فَجُعِلَ فِي طَسْتٍ، فَجَعَلَ يَنْكُتُ، وَقَالَ فِي حُسْنِهِ شَيْئًا، فَقَالَ أَنَسٌ: "كَانَ أَشْبَهَهُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-" (رواه البخاري).

ثم بعد ذلك تختلف الروايات والآراء اختلافًا بينًا بشأن رأس الحسين -رضي الله عنه-، فهناك بعض الروايات التي ذكرتْ أن ابن زياد أرسل الرأس إلى يزيد بن معاوية، وهي روايات ضعيفة، ولم تثبت(3).

ثم كان مما ترتب على مقتل الحسين -رضي الله عنه- التفاف الناس حول ابن الزبير حتى قاد حركة المعارضة في الحجاز، وقيام حركات ثورية في الكوفة وغيرها، مثل حركة التوابين، وحركة المختار بن أبي عبيد الثقفي، وكلها نادت بالثأر للحسين -رضي الله عنه-؛ فضلًا عن بعض الانحرافات الفكرية التي تولدت عند البعض.

وللحديث بقية -بمشيئة الله تعالى-.

ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــ

(1) وقد سئل ابن الصلاح -رحمه الله- عن يزيد، فقال: "لم يصح عندنا أنه أمر بقتل الحسين -رضي الله عنه-، والمحفوظ أن الآمر بقتاله المفضي إلى قتله إنما هو عبيد الله بن زياد والي العراق إذ ذاك، وأما سب يزيد ولعنه فليس ذلك مِن شأن المؤمنين، وقد ورد في الحديث المحفوظ: (وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ) (متفق عليه)" (البخاري مع الفتح 10/ 479).

وقال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "افْتَرَقَ النَّاسُ فِي "يَزِيدَ" بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، ثَلَاثُ فِرَقٍ: طَرفان ووَسٌط، أَحدُ الطَّرَفَيْنِ قَالُوا: إنَّهُ كَانَ كَافِرًا مُنَافِقًا، وَأَنَّهُ سَعَى فِي قَتْلِ سَبْطِ رَسُولِ اللَّهِ تَشَفِّيًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَانْتِقَامًا مِنْهُ، وَأَخْذًا بِثَأْرِ جَدِّهِ عتبة، وَأَخِي جَدِّهِ شَيْبَةَ، وَخَالِهِ الْوَلِيدِ بْنِ عتبة، وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ قَتَلَهُمْ أَصْحَابُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِيَدِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَغَيْرِهِ يَوْمَ بَدْرٍ وَغَيْرِهَا؛ وَقَالُوا: تِلْكَ أَحْقَادٌ بَدْرِيَّةٌ وَآثَارُ جَاهِلِيَّةٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ سَهْلٌ عَلَى الرَّافِضَةِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ؛ فَتَكْفِيرُ يَزِيدَ أَسْهَلُ بِكَثِيرِ.

وَالطَّرَفُ الثَّانِي: يَظُنُّونَ أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا، وَإِمَامٌ عَدْلٌ، وَأَنَّهُ كَانَ مِنْ "الصَّحَابَةِ" الَّذِينَ وُلِدُوا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَحَمَلَهُ عَلَى يَدَيْهِ وَبَرَّكَ عَلَيْهِ، وَرُبَّمَا فَضَّلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ!

وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ كَانَ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ لَهُ حَسَنَاتٌ وَسَيِّئَاتٌ، وَلَمْ يُولَدْ إلَّا فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ، وَلَمْ يَكُنْ كَافِرًا؛ وَلَكِنْ جَرَى بِسَبَبِهِ مَا جَرَى مِنْ مَصْرَعِ "الْحُسَيْنِ"، وَفِعْلِ مَا فُعِلَ بِأَهْلِ الْحَرَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ صَاحِبًا، وَلَا مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ وَالسُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، ثُمَّ افْتَرَقُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ: فِرْقَةٌ لَعَنَتْهُ، وَفِرْقَةٌ أَحَبَّتْهُ، وَفِرْقَةٌ لَا تَسُبُّهُ وَلَا تُحِبُّهُ، وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد، وَعَلَيْهِ الْمُقْتَصِدُون َ مِنْ أَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ.. . وَأَمَّا قَتْلُ الْحُسَيْنِ فَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ، وَلَمْ يَرْضَ بِهِ، بَلْ ظَهَرَ مِنْهُ التَّأَلُّمُ لِقَتْلِهِ، وَذَمَّ مَنْ قَتَلَهُ، وَلَمْ يُحْمَلْ الرَّأْسُ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا حُمِلَ إلَى ابْنِ زِيَادٍ" (مجموع الفتاوى بتصرف).

وقال أيضًا في الوصية الكبرى: "وَجَرَتْ فِي إمَارَتِهِ أُمُورٌ عَظِيمَةٌ: أَحَدُهَا: مَقْتَلُ الحسين -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، وَهُوَ لَمْ يَأْمُرْ بِقَتْلِ الحسين، وَلَا أَظْهَرَ الْفَرَحَ بِقَتْلِهِ؛ وَلَا نَكَّتَ بِالْقَضِيبِ عَلَى ثَنَايَاهُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، وَلَا حَمَلَ رَأْسَ الحسين -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- إلَى الشَّامِ، لَكِنْ أَمَرَ بِمَنْعِ الحسين -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَبِدَفْعِهِ عَنْ الْأَمْرِ، وَلَوْ كَانَ بِقِتَالِهِ، فَزَادَ النُّوَّابُ عَلَى أَمْرِهِ، وحض الشمر بن ذي الجوشن الجيوش عَلَى قَتْلِهِ لعبيد الله بن زياد؛ فَاعْتَدَى عليه عبيد الله بن زياد، وأمر عمر بن سعد بقتاله، فَطَلَبَ مِنْهُمْ الحسين -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنْ يَجِيءَ إلَى يزيد، أَوْ يَذْهَبَ إلَى الثَّغْرِ مُرَابِطًا، أَوْ يَعُودَ إلَى مَكَّةَ فَمَنَعُوهُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- إلَّا أَنْ يَسْتَأْسِرَ لَهُمْ، وَأَمَرَ عمر بن سعد بِقِتَالِهِ فَقَتَلُوهُ مَظْلُومًا لَهُ وَلِطَائِفَةِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ-، وَكَانَ قَتْلُهُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مِنْ الْمَصَائِبِ الْعَظِيمَةِ، فَإِنَّ قَتْلَ الحسين، وَقَتْلَ عثمان قَبْلَهُ كَانَا مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الْفِتَنِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَقَتَلَتُهُمَا مِنْ شِرَارِ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ" (انتهى).

وقال في منهاج السُّنة: "إِنَّ يَزِيدَ لَمْ يَأْمُرْ بِقَتْلِ الْحُسَيْنِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ النَّقْلِ، وَلَكِنْ كَتَبَ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ أَنْ يَمْنَعَهُ عَنْ وِلَايَةِ الْعِرَاقِ. وَالْحُسَيْنُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- كَانَ يَظُنُّ أَنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ يَنْصُرُونَهُ وَيَفُونَ لَهُ بِمَا كَتَبُوا إِلَيْهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمُ ابْنَ عَمِّهِ مُسْلِمَ بْنَ عَقِيلٍ، فَلَمَّا قَتَلُوا مُسْلِمًا وَغَدَرُوا بِهِ وَبَايَعُوا ابْنَ زِيَادٍ، أَرَادَ الرُّجُوعَ فَأَدْرَكَتْهُ السَّرِيَّةُ الظَّالِمَةُ، فَطَلَبَ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى يَزِيدَ، أَوْ يَذْهَبَ إِلَى الثَّغْرِ، أَوْ يَرْجِعَ إِلَى بَلَدِهِ، فَلَمْ يُمَكِّنُوهُ مِنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَسْتَأْسِرَ لَهُمْ، فَامْتَنَعَ، فَقَاتَلُوهُ حَتَّى قُتِلَ شَهِيدًا مَظْلُومًا -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، وَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ يَزِيدَ أَظْهَرَ التَّوَجُّعَ عَلَى ذَلِكَ، وَظَهَرَ الْبُكَاءَ فِي دَارِهِ، وَلَمْ يَسْبِ لَهُ حَرِيمًا أَصْلًا، بَلْ أَكْرَمَ أَهْلَ بَيْتِهِ، وَأَجَازَهُمْ حَتَّى رَدَّهُمْ إِلَى بَلَدِهِمْ، ويزيد هو أول مَن غزا القسطنطينية، غزاها في خلافة أبيه معاوية، وقد روى البخاري في "صحيحه" عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ مَدِينَةَ قَيْصَرَ مَغْفُورٌ لَهُمْ) (انتهى بتصرف)"، وبهذا قال جمع مِن أهل العلم، كابن طولون في كتاب "قيد الشريد"، وكذا قال الطيب النجار، ويوسف العش وغيرهما.

(2) قال شيخ الإسلام: "ولهذا لما أراد الحسين -رضي الله عنه- أن يخرج إلى أهل العراق لما كاتبوه كتبًا كثيرة، أشار عليه أفاضل أهل العلم والدين: كابن عمر، وابن عباس، وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ألا يخرج، وغلب على ظنهم أنه يُقتل حتى إن بعضهم قال: أستودعك الله مِن قتيل، وقال بعضهم: لولا الشفاعة لأمسكتك، والله ورسوله إنما يأمر بالصلاح لا بالفساد، لكن الرأي يصيب تارة وتخطيء أخرى، فتبيَّن أن الأمر على ما قاله أولئك، ولم يكن في الخروج لا مصلحة دين ولا مصلحة دنيا، بل تمكن أولئك الظلمة الطغاة مِن سبط رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى قتلوه مظلومًا شهيدًا، وكان في خروجه وقتله مِن الفساد ما لم يكن حصل لو قعد في بلده، فإن ما قصده مِن تحصيل الخير ودفع الشر لم يحصل منه شيء، بل زاد الشر بخروجه وقتله، ونقص الخير بذلك، وصار ذلك سببًا لشرٍ عظيم، وكان قتل الحسين مما أوجب الفتن كما كان قتل عثمان مما أوجب الفتن، وهذا كله مما يبين أن ما أمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- مِن الصبر على جَوْر الأئمة وترك قتالهم والخروج عليهم هو أصلح الأمور للعباد في المعاش والمعاد، وأن مَن خالف ذلك متعمدًا أو مخطئًا لم يحصِّل بفعله صلاحٌ، بل فسادٌ.

ولهذا أثنى النبي -صلى الله عليه وسلم- على الحسن بقوله: (ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ) (رواه البخاري)، ولم يثنِ على أحدٍ لا بقتالٍ في فتنة، ولا بخروجٍ على الأئمة، ولا نزع يدٍ مِن طاعة، ولا مفارقةٍ للجماعة" إلى أن قال: "وكذلك الحسن كان دائمًا يشير على أبيه وأخيه بترك القتال، ولما صار الأمر إليه ترك القتال وأصلح الله به بيْن الطائفتين المقتتلتين، وعلي -رضي الله عنه- في آخر الأمر تبيَّن له أن المصلحة في ترك القتال أعظم منها في فعله.

وكذلك الحسين -رضي الله عنه- لم يُقتل إلا مظلومًا شهيدًا، تاركًا لطلب الإمارة، طالبًا للرجوع؛ إما إلى بلده، أو إلى الثغر، أو إلى المتولي على الناس يزيد، وإذا قال القائل: إن عليًّا والحسين إنما تركا القتال في آخر الأمر للعجز؛ لأنه لم يكن لهما أنصار، فكان في المقاتلة قتل النفوس بلا حصول المصلحة المطلوبة.

قيل له: وهذا بعينه هو الحِكْمَة التي راعاها الشارع -صلى الله عليه وسلم- في النهي عن الخروج على الأمراء، وندب إلى ترك القتال في الفتنة، وإن كان الفاعلون لذلك يرون أن مقصودهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كالذين خرجوا بالحرَّة، وبدير الجماجم على يزيد والحجاج وغيرهما، لكن إذا لم يزل المنكر إلا بما هو أنكر منه صار إزالته على هذا الوجه منكرًا، وإذا لم يحصل المعروف إلا بمنكر مفسدته أعظم مِن مصلحة ذلك المعروف، كان تحصيل ذلك المعروف على هذا الوجه منكرًا" (منهاج السُّنة 4/ 527).

(3) وقد ذهب ابن كثير -رحمه الله- إلى ذهاب الرأس إلى يزيد، فقد قال: "وقد اختلف العلماء في رأس الحسين: هل سيّره ابن زياد إلى الشام أم لا؟ على قولين، الأظهر منهما أنه سيّره إليه،، فقد ورد في ذلك آثار كثيرة، والله أعلم".

وقال ابن كثير في موضع آخر: "والصحيح أنه لم يبعث برأس الحسين إلى الشام" (انظر البداية والنهاية 11/ 580)، والقول بإرسالها إلى الشام هو ما ذهب إليه الذهبي (تاريخ الإسلام).


وقال قال ابن تيمية -رحمه الله- بضعف الراويات التي تقول بإرسال الرأس إلى الشام، وقد اُختلف في المكان المقبور به رأس الحسين -رضي الله عنه-، وهي ما بيْن دمشق والرقة وعسقلان والقاهرة وكربلاء والمدينة، وأقرب الأقوال: أن الرأس بالمدينة، فقد ذكر ابن سعد بإسنادٍ جمعي: أن يزيد بعث بالرأس إلى عمرو بن سعيد والي المدينة، فكفنه ودفنه بالبقيع إلى حيث قبر أمه فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

وقال ابن تيمية -رحمه الله-: "ثم إن دفنه بالبقيع هو الذي تشهد له عادة القوم، فإنهم كانوا في الفتن إذا قتل الرجل منهم -لم يكن منهم- سلموا رأسه وبدنه إلى أهله، كما فعل الحجاج بابن الزبير لما قتله وصلبه، ثم سلموه إلى أهله، وقد علم أن سعي الحجاج في قتل ابن الزبير، وأن ما كان بينهما مِن الحروب أعظم بكثير مما كان بيْن الحسين وبين خصومه" (انتهى). وبهذا قال الزبير بن بكار، ومحمد بن سعد وهما مِن المؤرخين، وانظر أيضًا: (أنساب الأشراف للبلاذري، ومواقف المعارضة في خلافة يزيد للشيباني).

ابو وليد البحيرى
2022-08-29, 02:02 PM
صفحات من ذاكرة التاريخ (32)

معارضة أهل المدينة في عهد يزيد وموقعة الحرَّة (عام 63 هـ -683م)







كتبه/ زين العابدين كامل


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فكما هو معلوم فإن المدينة هي عاصمة الإسلام الأولى، ومدينة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وموطن المهاجرين والأنصار، ولها أهمية كبرى، وفيها تكونت الدولة المسلمة، ومهما تعددت العواصم في العالم الإسلامي تبقى المدينة هي العاصمة الروحية للمسلمين؛ ففيها وجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المأوى والأمن، والتأييد والنصرة مِن الأنصار -رضي الله عنهم-.

وبعد أن لحق الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالرفيق الأعلى، استمرتْ هي العاصمة للخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان -رضي الله عنهم-، وفي المدينة يوجد مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولما آلت الخلافة إلى معاوية -رضي الله عنه- واتخذ دمشق عاصمة للدولة، ظلت المدينة تحتفظ بقيمتها ومكانتها في قلوب المسلمين، وكان معاوية -رضي الله عنه- يعلم ذلك جيدًا، وكان يوقـِّر ويحترم ويكرم أهل المدينة، وأوصى بذلك ولده يزيد.

إن ثورة أهل المدينة ومعارضتهم للحكم الأموي وخلافة يزيد بن معاوية ما هي إلا امتداد طبيعي لمعارضة ابن الزبير -رضي الله عنهما- التي بدأها في مكة، ثم إن قرب فترة يزيد بن معاوية (60 هـ) بالخلافة الراشدة جعل أبناء الصحابة أكثر شوقًا لإعادة الشورى وتمكينها بيْن الناس، وعندما قتل الحسين -رضي الله عنه- بتلك الصورة الشنيعة ومعه إخوته وأبناء عمه على يد عبيد الله بن زياد أحس الكثير مِن أبناء الصحابة بحجم الاستبداد والتسلط الذي بدأتْ تمارسه الدولة؛ الأمر الذي جعل الناس في الحجاز يتعاطفون مع ابن الزبير -رضي الله عنهما-، ورفعه شعار الشورى، ورفضه مبدأ التوريث، في الوقت الذي لم يحاكم يزيدٌ عبيد الله بن زياد كأحد المسئولين المباشِرين عن الجريمة النكراء التي لحقتْ بالحسين -رضي الله عنه- وأهله في كربلاء، واعتبر الناس هذا التصرف محاباة لابن زياد مِن قِبَل ابن عمه يزيد بن معاوية.

ومما لا شك فيه أن مقتل الحسين -رضي الله عنه- ومَن معه بتلك الصورة قد أغضب الناس جميعًا، وولد لديهم شعورًا بالحزن والأسى العميق على فقدانه بتلك الطريقة البشعة (مواقف المعارضة في خلافة يزيد للشيباني ص 452).

وعند دراسة معارضة أهل المدينة يلاحظ أن الحماس الممزوج بالعاطفة لا يتلاءم مع منهجية التغيير الصحيحة، وقد ظهر في هذه الحادثة الفارق الكبير ما بيْن جيش منظم له أهدافه وخططه الواضحة، وبيْن أناس تجمعوا يرفعون بعض الشعارات الممزوجة بأحلام اليقظة، يدفعهم الحماس وتحركهم العاطفة، دون معرفة وبصيرة بحقائق الواقع ومآلات الأمور وعواقبها!

ومِن الأسباب التي أدت إلى معارضة أهل المدينة إضافة لمقتل الحسين: أن بعض أبناء الصحابة يرون أنهم أحق مِن يزيد بأمر الخلافة، ثم إن البعض له بعض المآخذ على شخصية يزيد بن معاوية، فهناك مَن اتهمه بشرب الخمر وترك الصلاة وغير ذلك، مع أن هذا لم يثبت على يزيد، ولكنه كلام يتردد بيْن الناس.

معارضة أهل المدينة وخلع يزيد بن معاوية:

أخرج أهل المدينة عامل يزيد، عثمان بن محمد مِن المدينة كما أخرجوا مروان بن الحكم وسائر بني أمية، وبلغ الأمر يزيد، وعلم بما كان مِن أهل المدينة مِن خلعه والميل إلى ابن الزبير؛ فأعد جيشًا لغزو المدينة أسند قيادته لمسلم بن عقبة المري (تاريخ خليفة بن خياط، ص 237).

وقد اعترض بعض علماء المدينة على خلع يزيد والخروج عليه ولم يؤيدوا مَن قام بالخروج، وقاموا بنصح إخوانهم واعتزلوا الفتنة، وكان أغلب هذا الرأي مِن أهل العلم والفقه في الدين، وفي مقدمة هؤلاء الصحابي الجليل: عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- فقد اشتهر عنه إنكاره على الذين رفضوا البيعة ليزيد وسعوا في خلعه، وعندما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية جمع ابن عمر حشمه وولده، وقال: إني سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ القِيَامَةِ)، وَإِنَّا قَدْ بَايَعْنَا هَذَا الرَّجُلَ عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنِّي لاَ أَعْلَمُ غَدْرًا أَعْظَمَ مِنْ أَنْ يُبَايَعَ رَجُلٌ عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُنْصَبُ لَهُ القِتَالُ، وَإِنِّي لاَ أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْكُمْ خَلَعَهُ، وَلاَ بَايَعَ فِي هَذَا الأَمْرِ، إِلَّا كَانَتِ الفَيْصَلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ. (رواه البخاري).

فقد عارض ابن عمر -رضي الله عنهما- مَن خرج مِن أهل المدينة لسببين:

الأول: نقضهم البيعة، وهو يرى أنهم أعطوا البيعة عن رضا واختيار، ولم يفعلوا مثل الحسين -رضي الله عنه-، حيث كان موقفه واضحًا منذ البداية، ولم يعطِ البيعة، وذلك عند ابن عمر -رضي الله عنهما- خيانة وغدر!

ويتضح ذلك في قوله لعبد الله بن مطيع: إني سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا حُجَّةَ لَهُ، وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً) (رواه مسلم).

الثاني: هو تعظيم حرمة دماء المسلمين وحرمة الاقتتال بينهم، وتزداد هذه الحرمة في الأماكن المقدسة: كمكة والمدينة، ولقد استدل ابن حجر -رحمه الله- بموقف ابن عمر -رضي الله عنهما- السابق والأحاديث التي استشهد بها، على وجوب طاعة الإمام الذي انعقدت له البيعة، والمنع مِن الخروج عليه، ولو جار في حكمه، وأنه لا ينخلع بالفسق، وتبع ابن عمر في موقفه أيضًا: محمد بن علي بن أبي طالب (ابن الحنفية)؛ فإنه لم يرَ خروج أهل المدينة على يزيد، ولم يستجب لدعوتهم إياه بالخروج معهم، بل كان يجادلهم في نفي التهم التي أشاعوها عن يزيد.

فقال له ابن مطيع: إن يزيد يشرب الخمر، ويترك الصلاة، ويتعدى حكم الكتاب.

فقال لهم: ما رأيتُ منه ما تذكرون، وقد حضرته وأقمت عنده فرأيته مواظبًا على الصلاة، متحريًا للخير، يسأل عن الفقه، ملازمًا للسُّنة.

قالوا: فإن ذلك كان منه تصنعًا لك.

فقال: وما الذي خاف مني أو رجا حتى يظهر لي الخشوع، فأطلعكم على ما تذكرون مِن شرب الخمر؟! فلئن كان أطلعكم على ذلك إنكم لشركاؤه، وإن لم يكن أطلعكم فما يحل لكم أن تشهدوا بما لم تعلموا.

قالوا: إنه عندنا لحق، وإن لم يكن رأيناه، فقال لهم: أبى الله ذلك على أهل الشهادة، فقال: (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (الزخرف:86)، ولستُ مِن أمركم في شيء!" (البداية والنهاية لابن كثير).

قالوا: فلعلك تكره أن يتولى الأمر غيرك، فنحن نوليك أمرنا. قال: ما أستحل القتال على ما تريدون عليه تابعًا ولا متبوعًا. قالوا: فقد قاتلتَ مع أبيك، قال: جيئوني بمثل أبي أقاتل على ما قاتل عليه، ولما رأى محمد بن الحنفية الأمور تسير في الاتجاه الذي لا يريده، وبدا يظهر له سوء عاقبة تصرفات المخالفين له مِن أهل المدينة حينما ترامى إلى الأسماع قدوم جيش أهل الشام إلى المدينة؛ لذلك قرر ترك المدينة وتوجَّه إلى مكة (البداية والنهاية لابن كثير).

وقد سار أهل بيت النبوة على هذا الطريق، ولزموا الطاعة، ولم يخرجوا مع أهل المدينة ضد يزيد، فعلي بن الحسين بن علي بن أبي طالب لم يخرج مع أهل المدينة ولزم الطاعة ليزيد، وهو الذي قال فيه الزهري: "كان أفضل أهل بيته وأحسنهم طاعة"، وقال عنه: "لم أدرك مِن آل البيت أفضل مِن علي بن الحسين" (تاريخ دمشق لابن عساكر).

وكذلك ابن عباس -رضي الله عنهما- وهو فقيه الأمة وحبرها وعالمها لم ينقل عنه تأييد لأهل المدينة، كما أنه لم يذكر عنه أنه نزع بيعة يزيد بن معاوية، فهؤلاء أفضل آل بيت النبوة في زمانهم، ومع ذلك لم يخرجوا مع أهل المدينة، ومسوغات الخروج على يزيد عندهم هي أكثر مِن غيرهم.

وممن عاب على أهل المدينة خروجهم وعارضه: الصحابي الجليل النعمان بن بشير الأنصاري -رضي الله عنه-، وقد كان إبان خروج أهل المدينة في الشام؛ فاستغل يزيد فرصة وجوده فبعثه إلى أهل المدينة لعله يفلح في صدهم عن الخروج، ويعيدهم إلى الطاعة ولزوم الجماعة، فاستجاب النعمان -رضي الله عنه- لذلك، وقدِم المدينة فجمع عامة الناس، وأمرهم بالطاعة ولزوم الجماعة، وخوَّفهم الفتنة، وقال لهم: "إنه لا طاقة لكم بأهل الشام. فقال له عبد الله بن مطيع: ما يحملك يا نعمان على تفريق جماعتنا، وفساد ما أصلح الله مِن أمرنا؟! فقال النعمان: أما والله لكأني بك لو قد نزلت تلك التي تدعو إليها، وقامت الرجال على الركب تضرب مفارق القوم وجباههم بالسيوف، ودارت رحى الموت بيْن الفريقين، قد هربتَ على بغلتك تضرب جبينها إلى مكة، وقد خلَّفت هؤلاء المساكين يٌقتلون في سككهم ومساجدهم، وعلى أبواب دورهم؛ فعصاه الناس، فانصرف، وكان والله كما قال" (تاريخ الرسل والملوك للطبري).

وهذا موقف عبد الله بن جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنهما-: فقد كان بالشام عندما عزم يزيدٌ أن يبعث جيشًا إلى المدينة، فحاول عبد الله بن جعفر -رضي الله عنهما- أن يتدخل في الأمر ليجنِّب أهل المدينة شرَّ القتال، فكلَّم يزيد وطلب منه الرفق بأهل المدينة ورققه عليهم، وقال: إنما تقتل بهم نفسك، وقد تجاوب معه يزيد حين قال: فإني أبعث أول جيش وآمرهم أن يمروا بالمدينة إلى ابن الزبير، فإنه قد نصب لنا الحرب ويجعلونها طريقًا ولا يقاتلهم، فإن أقر أهل المدينة بالسمع والطاعة تركهم، وقد وجد عبد الله بن جعفر مدخلًا لكف القتال والأذى عن أهل المدينة، فكتب على الفور إلى زعماء أهل المدينة يخبرهم بذلك، ويقول: استقبلوا ما سلف واغنموا السلامة والأمن، ولا تعرضوا لجنده ودعوهم يمضون عنكم (الطبقات لابن سعد).

وكان ردهم عليه: "لا يدخلها علينا عنوةً"، وكذلك سعيد بن المسيب -رحمه الله-، فإنه قد اعتزل فتنة خروج أهل المدينة ولم يدخل فيما دخلوا فيه، ولم يكن يحضر لهم أمرًا مِن أمورهم إلا الجمعة والعيد، وقد لزم المسجد نهاره ولا يبرحه إلى الليل، والناس في قتالهم أيام الحرة (الطبقات لابن سعد، وسير أعلام النبلاء)، وهكذا لم يقبل أهل المدينة مِن المعارضين جميع النصائح مِن أهل العلم والفضل، وعقدوا النية على القتال.

معركة الحرَّة:

تولى القيادة على قريش وقبائل المهاجرين في المدينة،عبد الله بن مطيع، وتولى القيادة على الأنصار عبد الله بن حنظلة، واتفق المعارضون على أن يكون القتال داخل المدينة وألا يخرجوا منها، وبدأوا في حفر بعض الخنادق داخل المدينة (مواقف المعارضة في خلافة يزيد للشيباني، ص 521).

واشتد الأمر على يزيد حين علم بأن بني أمية في المدينة محاصَرون في دار مروان بن الحكم، فأراد أن يخلصهم مِن هذا الحصار قبْل أن يُقتلوا أو يحل بهم مكروه، وكانوا ألف رجل؛ فعزَّ عليه أن يٌقتل هؤلاء دون أن يقدِّم لهم عونًا، فأمر بتجهيز جيش ليذهب إلى المدينة، فيخلص بني أمية، ويرد هؤلاء المتمردين إلى الطاعة، وطلب عمرو بن سعيد ليقود الجيش فأبى، وأرسل إلى عبيد الله بن زياد ليرد أهل المدينة إلى الأهل الطاعة ثم يغزو ابن الزبير، فقال: لا أجمعهما للفاسق أبدًا، أقتل ابن بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأغزو البيت، ثم استقر الرأي على إرسال مسلم بن عقبة المرِّي (تاريخ الرسل والملوك للطبري).

واجتمع الجيش، وهمّ مسلم بن عقبة أن ينطلق بهم إلى المدينة، فقال له يزيد: ادع القوم ثلاثًا، فإن رجعوا إلى الطاعة، فاقبل وكف عنهم، وإلا فاستعن بالله وقاتلهم، وإذا ظهرتَ عليهم فأبح المدينة ثلاثًا، ثم اكفف عن الناس، وانظر إلى علي بن الحسين فاكفف عنه، واستوصي به خيرًا، وأدن مجلسه فإنه لم يدخل في شيءٍ مما دخلوا فيه، وأمر مسلمًا إذا فرغ مِن المدينة أن يذهب لحصار ابن الزبير، وقال له: إن حدث بك أمر فعلى الناس حصين بن نمير السكوني (البداية والنهاية لابن كثير).

واستعرض مسلم بن عقبة جيشه الذي سيحارب به أهل المدينة، وسار مسلم إلى المدينة، فوجد بني أمية وقد أخرجوا منها، وساروا في اتجاه الشام، ومِن الواضح جدًّا عدم التكافؤ بيْن الجيشين، فعدد الجيش الشامي اثنا عشر ألفًا، بينما عدد أهل المدينة ألفا رجل (الطبقات لابن سعد).

وارتحل الناس مع مسلم حتى نزل المنزل الذي أمره به عبد الملك، فصنع فيه ما أمره به، ثم مضى في الحرة حتى نزلها، فأتاهم مِن قِبَل المشرق، ثم دعاهم مسلم بن عقبة، فقال: يا أهل المدينة، إن أمير المؤمنين يزيد بن معاوية يزعم أنكم الأصل، وأني أكره هراقة دمائكم، وأني أؤجلكم ثلاثًا، فمن ارعوى وراجع الحق قبلنا منه، وانصرفتُ عنكم وسرتُ إلى هذا الملحد الذي بمكة، وإن أبيتم كنا قد أعذرنا إليك، ولما مضت الأيام الثلاثة قال: يا أهل المدينة، قد مضت الأيام الثلاثة، فما تصنعون؟ أتسالمون أم تحاربون؟ فقالوا: بل نحارب، فقال لهم: لا تفعلوا، بل ادخلوا في الطاعة، ونجعل حدنا وشوكتنا على هذا الملحد الذي قد جمع إليه المراق والفساق مِن كل أوب، فقالوا لهم: يا أعداء الله، والله لو أردتم أن تجوزوا إليهم ما تركناكم حتى نقاتلكم، نحن ندعكم أن تأتوا بيت الله الحرام، وتخيفوا أهله، وتلحدوا فيه، وتستحلوا حرمته! لا والله لا نفعل (المحاسن والمساوئ للبيهقي).

وفي يوم الأربعاء لليلتين بقيتا مِن شهر ذي الحجة 63 هـ - 683م وقعت المعركة: فوجَّه مسلم خيله نحو أهل المدينة والتقى الجيشان، واختل نظام الدفاع لأهل المدينة وتراجعوا وتفرقوا، وانتهت المعركة لصالح جيش الشام، وهزم أهل المدينة هزيمة ماحقة، قتل فيها خلق كثير مِن القادة ووجوه الناس، وكان القتل ذريعًا في المدنيين، وقد شبهتهم الرواية بنعام الشُّرَّد، وأهل الشام يقتلونهم في كل وجه (الطبقات لابن سعد).

وقد قتل في هذه المعركة عددٌ مِن الصحابة -رضوان الله عليهم-، ويشهد لذلك ما ذكره سعيد بن المسيب حينما قال: "وقعت الفتنة الأولى -يعني مقتل عثمان- فلم تبقِ مِن أصحاب بدر أحدًا، ثم وقعت الفتنة الثانية -يعني الحرَّة- فلم تبقِ مِن أصحاب الحديبية أحدًا" (تاريخ خليفة بن خياط).


ولقد أورد خليفة في تاريخه قوائم بأسماء قتلى الحرَّة ثم قال: "فجميع مَن أصيب مِن قريش والأنصار ثلاثمائة رجل وستة رجال"، وقد تابعه على ذلك أبو العرب (المحن لأبي العرب)، والأتابكي (النجوم الزاهرة)، وهناك رواية مسندة عن الإمام مالك -رحمه الله- قال فيها: "إن قتلى الحرَّة سبعمائة رجل مِن حملة القرآن"، وقال الراوي: "وحسبتُ أنه قال: "وكان معهم ثلاثة أو أربعة مِن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" (المحن لأبي العرب).

وللحديث بقية بمشيئة الله تعالى.

ابو وليد البحيرى
2022-10-22, 11:39 AM
صفحات مِن ذاكرة التاريخ (33)

وماذا بعد موقعة الحرَّة؟!






كتبه/ زين العابدين كامل


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد ذكرنا في المقال السابق تفاصيل معركة الحرَّة بعد خلع أهل المدينة ليزيد بن معاوية، ونقضهم البيعة وما آلت إليه الأمور في جيش أهل المدينة بعد هزيمتهم.

أعمال مسلم بن عقبة بعد معركة الحرَّة:

- نهب المدينة:

لقد اشتٌهر أن مسلم بن عقبة المري، أمر بانتهاب المدينة، فمكثوا ثلاثة أيام مِن شهر ذي الحجة ينتهبون المدينة حتى رأوا هلال محرم، فأمر الناس فكفوا؛ وذلك لأن معركة كانت لثلاثٍ بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وستين للهجرة، وتعتبر رواية نافع مولى بن عمر هي أصح رواية نصت على حدوث الانتهاب، فقد قال: "وظفر مسلم بن عقبة بأهل المدينة وقتلوا وانتهبت المدينة ثلاثًا" (الطبقات الكبرى لابن سعد).

وقد وردتْ لفظة الاستباحة عند السلف لتعني النهب، وقرار انتهاب المدينة الذي اتخذه هو يزيد بن معاوية، وقد حمله الإمام أحمد مسئولية انتهاب المدينة، فعندما سأله مهنا بن يحيى الشامي السلمي عن يزيد، قال: "هو الذي فعل بالمدينة ما فعل!"، قلتُ: "وما فعل؟"، قال نهبها" (السُّنة للخلال).

وقال ابن تيمية -رحمه الله-: "فبعث إليهم -أي أهل المدينة- جيشًا، وأمره إذا لم يطيعوه بعد ثلاث أن يدخلها بالسيف ويبيحها ثلاثًا" (الوصية الكبرى لابن تيمية)، وذهب إلى ذلك ابن حجر (تهذيب التهذيب)، وبهذا قال ابن كثير (البداية والنهاية)، وأبو الفدا(1)، وغيرهم.

ولا يشك أن انعدام الأمن والخوف في المدينة قد أدّى بالبعض إلى الهروب مِن المدينة، والالتجاء إلى الجبال المجاورة، كما حدث لأبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-، فقد هرب مِن المدينة ودخل غارًا والسيف في عنقه، ودخل عليه شامي فأمره بالخروج، فقال: "لا أخرج وإن تدخل قتلتك، فدخل عليه، فوضع أبو سعيد السيف، وقال: بؤ بإثمي وإثمك. قال: أنت أبو سعيد الخدري؟! قال: نعم. قال: فاستغفر لي، فخرج" (تاريخ خليفة لابن خياط).

ونود أن نشير إلى أن النهب لم يشمل كل أهل المدينة، فلم نسمع أن ابن عمر قد انتهبت داره أو علي بن الحسين، أو غيرهما مِن الذين لم يقفوا بجانب المعارضين، وإنما كان الانتهاب في الأماكن التي يدور فيها القتال، وتعرف فيه معارضة للحكم الأموي (مواقف المعارضة في خلافة يزيد للشيباني)، ثم إن الذين قاموا بالنهب فئة مِن الجيش وليس الجيش كله؛ لأن الجيش يضم أخلاطـًا مِن الناس، فالجيش الشامي تعداده حوالي اثني عشر ألف مقاتل (المرجع السابق).

ما قيل حول انتهاك الأعراض:

بعد التتبع لكتب التاريخ التي تُعد بمثابة العٌمدة حول أحداث موقعة الحرة، مثل: (تاريخ الطبري، وأنساب الأشراف للبلاذري، وتاريخ خليفة بن خياط، وطبقات ابن سعد)، لم نجد ما يشير إلى وقوع انتهاك أعراض النساء مِن قِبَل جيش يزيد، وأول مَن أشار إلى انتهاك الأعراض: المدائني -المتوفى سنة 225هـ- حيث قال المدائني عن أبي قرة عن هشام بن حسان، قال: "وَلَدت بعد الحرة ألف امرأة مِن غير زوج!"، ويعتبر ابن الجوزي هو أول مَن أورد هذا الخبر في تاريخه مِن طريق هشام بن حسان، قال: "ولدت ألف امرأة بعد الحرة مِن غير زوج" (المنتظم في تاريخ الأمم والملوك لابن الجوزي).

وقد نقلها عن ابن الجوزي السمهودي مؤرخ المدينة، المتوفى في القرن العاشر الهجري، وقد ورد في دلائل النبوة للبيهقي مِن طريق يعقوب بن سفيان، قال: "حدثنا يوسف بن موسى حدثنا جرير بن المغيرة قال: أنهب مسرف بن عقبة المدينة ثلاثة أيام، فزعم المغيرة أنه افتض فيها ألف عذراء! ومِن الجدير بالذكر أن كل مَن أورد خبر انتهاك أعراض أهل المدينة في معركة الحرَّة قد اعتمد على رواية يعقوب أو رواية المدائني فقط، وكلاهما لا تصح ولا تثبت(2).

ويبدو أن الطبري، والبلاذري، وخليفة بن خياط، وغيرهم، لم يقتنعوا بصحة هذا الخبر، فإنهم قد أعرضوا عنه ولم يدخلوه في كتبهم ولا يوجد خبر صحيح الإسناد في حادثة الاغتصاب المزعومة، وقد أورد هذا الخبر أيضًا ابن كثير (البداية والنهاية)، وقد أقر بوقوع انتهاك الأعراض أيضًا ابن تيمية(3)، وابن حجر (الإصابة)، ومع ذلك لم يوردا مصادرهما التي استقيا منها معلوماتهما تلك، ثم إن القرائن المصاحبة لمعركة الحرّة لا تثبت أي نوع مِن الاغتصاب، وقد رأينا أن الروايات الحسنة التي ذكرت انتهاب المدينة وأثبتناها في موضعها، لم يرد فيها ذكر لانتهاك الأعراض، ومِن المعلوم أن وقوع حالات الاغتصاب هي أعظم وأشد مِن النهب، فلو كانت واقعة مع حالات النهب لذكرها الرواة الذين ذكروا وقوع النهب.

ثم إن المدينة في هذا التوقيت كانت تضم بيْن جنباتها كثيرًا مِن الصحابة وأهل التقوى والصلاح، فكيف يسكت هؤلاء على وقوع هذا الجٌرم دون إنكار؟! ولم يرد ذكر انتهاك الأعراض على لسان كبار الصحابة الذين شهدوا الواقعة، ولم يٌعرف عن أحدٍ مِن المسلمين الوقوع في هذا الفعل حتى مع الكافرات، منذ عصر الرسالة وحتى عصر الفتوحات، وذلك مع كثرة الفتوحات؛ فكيف يكون هذا مع المسلمات العفيفات؟! فلا بد مِن وجود أدلة صريحة وصحيحة، واعتراف مِن أهل الزمان والمكان للاعتراف بوقوع هذا الجرم العظيم (مواقف المعارضة في خلافة يزيد للشيباني).

أخذ البيعة مِن أهل المدينة ليزيد بن معاوية ووفاة مسلم بن عقبة:

تعتبر الكيفية التي تمّ بها أخذ البيعة مِن المدنيين مِن أكبر الأمور التي انتقد فيها يزيد معاوية، فقد وردت الروايات لتبيِّن أن مسلم بن عقبة أخذ البيعة مِن أهل المدينة على أنهم عبيد ليزيد بن معاوية، يتصرف في دمائهم وأموالهم كيفما يشاء، وتضيف إحدى الروايات: على أن البيعة تضمنت الحرية الكاملة ليزيد بن معاوية للتصرف في دمائهم وأمواله وأهلهم (أنساب الأشراف للبلاذري).

وتضيف إحدى الروايات صيغة أخرى لأخذ البيعة مِن أهل المدينة، فتذكر الرواية: أنهم بايعوا كعبيدٍ ليزيد في طاعة الله ومعصيته! وهذه الرواية سندها ضعيف (مواقف المعارضة في خلافة يزيد للشيباني)، وليس هناك تفصيل وبيان عمن بايع على هذه الصفة، وهل كل المدنيين بايعوا هذه البيعة بمَن فيهم ابن عمر وعلي بن الحسين وأبي سعيد الخدري وسعيد بن المسيب، وغيرهم مِن الذين لم يشتركوا في محاربة أهل الشام؟! والذي يبدو مِن خلال مجمل الروايات أنه فور انتهاء معركة الحرّة دعا مسلم بن عقبة الناس للبيعة، كما يبدو أن البيعة أخذت مِن جميع الناس (تاريخ دمشق لابن عساكر).

فعن جابر بن عبد اللَّه قال: لما قدم مسلم بن عقبة المدينة بايع الناس -يعني بعد وقعة الحرّة- قال: "وجاءه بنو سلمة فقال: لا أبايعكم حتى يأتي جابر، قال: فدخلت على أم سلمة أستشيرها، فقالت: إني لأراها بيعة ضلالة، وقد أمرت أخي عبد اللَّه بن أبي أمية أن يأتيه فيبايعه. قال: فأتيته فبايعته"(4)، ولعل بني أمية بايعوا ليزيد ليكونوا قدوة للناس وتأكيدًا على طاعتهم له، حتى إن علي بن الحسين قد أٌتي به إلى مسلم بن عقبة فأكرمه مسلم، وذلك بسبب وصية يزيد لمسلم بوجوب حسن معاملة الحسين بن علي مما يدل على أن أهل المدينة جميعًا، الخارج على طاعة يزيد والمقر بطاعة يزيد كلهم قد دعوا إلى مسلم بن عقبة (البداية والنهاية لابن كثير).

ولقد وردت روايات أخرى تبيِّن أن هذه البيعة كانت لفئةٍ معينة، وكان الدافع لذلك هو غضب مسلم بن عقبة على هذه الفئة (المحاسن والمساوئ للبيهقي)، فالله أعلى وأعلم بالصواب، وقد قام مسلم بقتل ثلاثة مِن قادة حركة المعارضة، وهم: يزيد بن عبد الله بن زمعة بن الأسود، ومحمد بن أبى الجهم بن حذيفة العدوى، ومعقل بن سنان الأشجعي.

وفي النهاية بايع الجميع ولو مكرهًا أو خوفًا مِن القتل؛ لا سيما مع القسوة والشدة مِن قِبَل مسلم بن عقبة، وبهذا تم القضاء على حركة المعارضة، ولما بلغ يزيد خبر أهل المدينة وما وقع بهم قال: واقوماه ثم دعا الضّحَّاك بن قيس الفهري فقال له: ترى ما لقي أهل المدينة، فما الرأي الذي يجبرهم؟ قال الطعام والأعطية، فأمر بحمل الطعام إليهم وأفاض عليهم أعطيته (البداية والنهاية لابن كثير)، علمًا بأن مسلمًا لم يفاجئ أهل المدينة بالقتال، ولكنه أنذرهم وحذرهم، وحاول إقناعهم وألحّ عليهم أن يقبلوا السلام، وأن يكفوا عن القتال، ولكنهم سبوه وشتموه وردوا عليه أمانه، ويا ليت مسلمًا امتنع مِن حصار المدينة المحرمة وقتال أهلها، ولكنه دخل معهم في معركة طاحنة، وأنزل بأهل المدينة روعًا عظيمًا، وأعمل فيهم السيوف وقتل خيارهم، وانتهت المعركة واستسلمت المدينة.

وفي أوّل المحرم مِن عام 64 هـ - 683م بعد فراغ مسلم مِن حرب المدينة، سار إلى مكة قاصدًا قتال ابن الزبير، ولما بلغ ثنيَّة هرْش -مكان مرتفع مِن طريق مكة، قريبة مِن الجحفة يرى منها البحر- بعث إلى رؤوس الأجناد فجمعهم، فقال: إنّ أمير المؤمنين عهد إليَّ إن حدث بي حدث الموت أن أستخلف عليكم حصين بن نمير السَّكوني. ثم دعا به فقال: احفظ ما أوصيك به. ثم أمره إذا وصل مكة أن يناجز بن الزبير قبْل ثلاث، ثم مات ودفن بالمُشلل -بيْن مكة والمدينة-.

قراءة وتحليل حول موقعة الحرَّة:

لا شك أن القتال الذي حدث بيْن المسلمين في القرن الأول الهجري هو مِن الفتن والمصائب التي حلَّت بالمسلمين؛ لأنه اشتبه على كثيرٍ مِن الناس الحق والباطل؛ لذا قد اعتزل كثيرٌ مِن الصحابة أحداث موقعتي الجمل وصفين، وذلك نظرًا لالتباس الأمور عليهم وعدم وضوح الحق، أو حقنًا لدماء المسلمين؛ لأن المنازع هو مِن المسلمين وقد حٌرم دمه وماله وعرضه، وقد اعتمد هؤلاء على حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (سَتَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا تَسْتَشْرِفُهُ، وَمَنْ وَجَدَ فِيهَا مَلْجَأً فَلْيَعُذْ بِهِ) (متفق عليه)، وفي رواية: (إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ القَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ القَائِمِ، وَالقَائِمُ خَيْرٌ مِنَ المَاشِي، وَالمَاشِي خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي) قَالَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ دَخَلَ عَلَيَّ بَيْتِي وَبَسَطَ يَدَهُ إِلَيَّ لِيَقْتُلَنِي؟! قَالَ: (كُنْ كَابْنِ آدَمَ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).

ولا شك أن معركة الحرَّة كانت مؤسفة للغاية، وهو خطأ بلا شك قد وقع فيه كثيرون مِن أهل المدينة، وجٌرم ارتكبه بعض أهل الشام، وقد حمَّل كثيرٌ مِن المؤرخين والعلماء يزيد بن معاوية مسئولية ما حدث، بل يٌعتبر هو المسئول الأول؛ لأنه هو الذي أذِن لمسلم بن عقبة بأن يفعل ما فعل، وكذلك أهل المدينة يتحملون مسئولية كبيرة؛ لأنهم أصروا على موقفهم، ولم يسمعوا نصيحة أكابر الصحابة حول نقضهم البيعة، لكن ما حدث لا يدعونا إلى الإنكار لهذه الأحداث بالكلية.

وكذلك لا نقبل التضخيم والتهويل، ولا شك أن موقعة الحرة مِن الفتن التي حدثت بيْن المسلمين، وقد ظنَّ أهل المدينة أن المصلحة ستتحقق بما فعلوا، وستعود الشورى مرة أخرى، وللأسف فقد ازدادت المفسدة، فلا أقاموا دينًا ولا أبقوا دنيا!

وهناك أسباب كثيرة أدتْ إلى هزيمة أهل المدينة، منها:

عدم وجود القائد الحكيم الذي يستطيع أن يزن الأمور بميزانها الصحيح المعتبر، فلا بد للقائد أن يجيد فهم الواقع، وأن يجيد الترجيح بيْن المصالح والمفاسد، وأن يجيد فقه الحركة، بمعنى: متى يتقدم؟ ومتى يتأخر؟ ومتى يثبت مكانه؟

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "فَإِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- بَعَثَ رَسُولَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا، وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا. فَإِذَا تَوَلَّى خَلِيفَةٌ مِنَ الْخُلَفَاءِ: كَيَزِيدَ، وَعَبْدِ الْمَلِكِ، وَالْمَنْصُورِ، وَغَيْرِهِمْ، فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: يَجِبُ مَنْعُهُ مِنَ الْوِلَايَةِ وَقِتَالُهُ حَتَّى يُوَلَّى غَيْرُهُ كَمَا يَفْعَلُهُ مَنْ يَرَى السَّيْفَ؛ فَهَذَا رَأْيٌ فَاسِدٌ، فَإِنَّ مَفْسَدَةَ هَذَا أَعْظَمُ مِنْ مَصْلَحَتِهِ. وَقَلَّ مَنْ خَرَجَ عَلَى إِمَامٍ ذِي سُلْطَانٍ إِلَّا كَانَ مَا تَوَلَّدَ عَلَى فِعْلِهِ مِنَ الشَّرِّ أَعْظَمَ مِمَّا تَوَلَّدَ مِنَ الْخَيْرِ. وَأَمَّا أَهْلُ الْحَرَّةِ وَابْنُ الْأَشْعَثِ وَابْنُ الْمُهَلَّبِ وَغَيْرُهُمْ فَهُزِمُوا وَهُزِمَ أَصْحَابُهُمْ، فَلَا أَقَامُوا دِينًا وَلَا أَبْقَوْا دُنْيَا. وَاللَّهُ -تَعَالَى- لَا يَأْمُرُ بِأَمْرٍ لَا يَحْصُلُ بِهِ صَلَاحُ الدِّينِ وَلَا صَلَاحُ الدُّنْيَا، وَإِنْ كَانَ فَاعِلُ ذَلِكَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ، وَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَلَيْسُوا أَفْضَلَ مِنْ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَغَيْرِهِمْ، وَمَعَ هَذَا لَمْ يُحْمَدُوا مَا فَعَلُوهُ مِنَ الْقِتَالِ(5)، وَهُمْ أَعْظَمُ قَدْرًا عِنْدَ اللَّهِ وَأَحْسَنُ نِيَّةً مِنْ غَيْرِهِمْ".

وإذا تأملنا كلام شيخ الإسلام -رحمه الله- نلحظ أنه كان دقيقًا جدًّا في اختيار ألفاظه، فلقد قال: "وَقَلَّ مَنْ خَرَجَ عَلَى إِمَامٍ ذِي سُلْطَانٍ إِلَّا كَانَ مَا تَوَلَّدَ عَلَى فِعْلِهِ مِنَ الشَّرِّ أَعْظَمَ مِمَّا تَوَلَّدَ مِنَ الْخَيْرِ".

ومعنى على إمام ذي سلطان: أي ذي منعة وشوكة وقوة، أما في حالات ضعف الإمام فربما يؤدي ذلك إلى حدوث التغيير، كما قامت الدولة العباسية بعد وقوع الضعف الشديد الذي حلَّ بآخر خلفاء عصر بني أمية، ولما حلَّ الضعف كذلك بالدولة العباسية قامت الدويلات المستقلة في المشرق والمغرب في ظل وجود الخلافة العباسية، فلقد استطاع عبد الرحمن الداخل أن يعيد قيام الدولة الأموية في الأندلس، وقد قامتْ بعض الدول في بلاد المغرب: كالدولة الرستمية ودولة الأدارسة، ودولة الأغالبة، وكذا قامت بعض الدول الأخرى في بلاد المشرق: كالدولة الطاهرية والدولة الصفارية، والدولة السامانية، والدولة الغزنوية، وفي مصر والشام: قامت الدولة الطولونية، والدولة الإخشيدية، والدولة الحمدانية، والدولة الفاطمية، والدولة الأيوبية، والدولة المملوكية، وغير ذلك مِن الدول التي استقلت عن الدولة العباسية؛ كل ذلك في ظل وجود الخلافة العباسية، لكن كان الخليفىة العباسي آنذاك عبارة عن صورةٍ شكلية فقط، وليس له مِن الأمر مِن شيءٍ؛ فلا يستطيع أن يأمر أو وينهى أو أن يولي ويعزل مَن شاء؛ لذا نقول: هناك مَن استطاع التغيير، فالأمر مرده إلى دراسة موازين القوى، والترجيح بيْن المصالح والمفاسد.

ومِن أهم أسباب الفشل أيضًا: تعدد القادة؛ لأن تعدد القوّاد في المعركة مِن دواعي الهزيمة، وهذا ما تنبأ به عبد الله بن عباس عندما سئل عن حالهم: فقيل استعملوا عبد الله بن مطيع على قريش، وعبد الله بن حنظله على الأنصار. فقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أميران؟ هلك القوم!" (العقد الفريد لابن عبد ربه).

ثم تأمل البون الشاسع بيْن الجيشين، جيش كبير منظم له أهدافه وخططه الواضحة، وجيش آخر يرفع جنوده بعض الشعارات الممزوجة بأحلام اليقظة، يدفعهم الحماس وتحركهم العاطفة، دون معرفة وبصيرة بحقائق الواقع، ومآلات الأمور وعواقبها.

ولا بد للقائد أن يكون ملمًا بكل شيء يحدث مِن حوله، ويجيد السياسة والحنكة أثناء المفاوضات إن وجدت، وأثناء التعامل مع الخصم، ولا بد أن يكون شجاعًا مضحيًّا في سبيل ما يؤمن به، ولكننا إذا تأملنا -على سبيل المثال- حال عبد الله بن مطيع نراه على العكس مِن ذلك تمامًا، فلقد فرَّ هاربًا إلى مكة بعد ما أيقن وقوع الهزيمة في أهل المدينة، وترك أتباعه يقتلون على أبواب الدور والمساجد، وهكذا عبْر الأزمنة تجد مَن يحرِّض الناس ويحثهم ويشجعهم على القتال والثبات حتى الموت، ثم تراه يفر هاربًا مِن ساحة القتال، فسبحان الله! فالتاريخ يتكرر كما هو في كثيرٍ مِن الأحداث.

ومِن دواعي الفشل: قلة ما تحت أيديهم مِن الأرزاق، ولو استمر الحصار مدة طويلة لهلك الناس مِن الجوع؛ لأن ما بها مِن الميرة لا يكفيها لسد حاجتها أيامًا، وجٌل طعامها يأتيها مِن التجارة، أو مِن بساتين خارج حدود المدينة، ثم إن زعامة المدينة المنورة لم تكن راضية عن هذه الثورة، فهناك أسرتان كبيرتان مِن المهاجرين عارضتا أهل المدينة، وهما آل الخطاب، وآل هاشم، وعلى رأس آل الخطاب شيخ الصحابة في زمانه وفقيههم: عبد الله بن عمر، ومِن آل هاشم: عبد الله بن العباس، وعلى بن الحسين، ومحمد بن الحنيفة.

وقد حمَّل كثيرٌ مِن المؤرخين والعلماء يزيد بن معاوية مسئولية ما حدث -كما ذكرنا-، بل يٌعتبر هو المسئول الأول؛ لأنه هو الذي أذِن لمسلم بن عقبة بأن يفعل ما فعل، والله المستعان.

ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــــ

(1) أبو الفدا: أبو الفداء عماد الدين إسماعيل بن علي بن محمود بن محمد ابن عمر بن شاهنشاه بن أيوب، الملك المؤيد، صاحب حماة (المتوفى 732هـ) المختصر في أخبار البشر، الناشر: المطبعة الحسينية المصرية، الطبعة الأولى، عدد الأجزاء: 4 (1/192).

(2) قد قام الشيباني بدراسة عميقة حول هذا الموضوع، وأثبت ضعف هذه الروايات، انظر أسباب رد الخبرين مِن جهة السند (الشيباني، المرجع نفسه، ص 549).

(3) قال ابن تيمية -رحمه الله-: "والأمر الثاني: نقض أهل المدينة لبيعة يزيد، فقد نقضوا بيعته وأخرجوا نوابه وأهله، فبعث إليهم يزيد جيشًا لإخضاعهم، وأمر القائد إذا لم يطيعوا ولم يرجعوا إلى الطاعة خلال ثلاثة أيام أن يدخلها بالسيف، وأن يبيحها مدة ثلاثة أيام، فمن زنى أو سرق أو قتل فلا يقام عليه الحد، هذا معنى الإباحة، فصار عسكره في المدينة النبوية ثلاثًا يقتلون مَن شاءوا، وينهبون ما شاءوا، ويفتضون الفروج المحرمة، ثم أرسل يزيد جيشًا إلى مكة المشرفة فحاصروا مكة؛ لأن فيها عبد الله بن الزبير، فتوفي يزيد وهم يحاصرون مكة" (انظر الوصية الكبرى، ص 45).


(4) الإصابة لابن حجر (4/ 12) بإسنادٍ حسن، وقال ابن حجر: "ويحتمل في هذا أن يكون الصواب: فأمرتُ ابن أخي... ".

(5) يرى شيخ الإسلام -رحمه الله- أن ترك علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- للقتال كان هو الأولى، وجمهور العلماء يقولون إن عليًّا -رضي الله عنه- كان على الحق، والنصوص تثبت ذلك.

ابو وليد البحيرى
2022-12-25, 12:02 PM
صفحات مِن ذاكرة التاريخ (34)

الأحداث السياسية بيْن عبد الله بن الزبير ويزيد بن معاوية وعبد الملك بن مروان






كتبه/ زين العابدين كامل


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

محاولات يزيد للسيطرة على عبد الله بن الزبير:

كان ابن الزبير -رضي الله عنهما- قد عقد العزم على عدم البيعة ليزيد، واختار الذهاب والاستقرار بمكة، ومكة هي المكان الوحيد الذي يمكن اللجوء إليه في هذه الفترة؛ وذلك لأن الأقاليم الأخرى ليستْ مناسبة، فالعراق بمصريه الكوفة والبصرة لا يمكن ضمان ولاء أهلها لأي زعيم معارضة ضد بني أمية، وما فعلوه مع الحسين -رضي الله عنه- خير دليل على ذلك.

وكان ابن الزبير يعي ذلك تمامًا حينما نصح الحسين بعدم الذهاب إلى العراق (نسب قريش للزبيري، ص239)، فقال له: "أين تذهب؟ إلى قوم قتلوا أباك وطعنوا أخاك؟!"، أما مصر واليمن فقد كانتا بعيدتين عن مسرح الأحداث، ولم يكن لابن الزبير في هذين الإقليمين أنصار ومؤيدون يمكن أن يعتمد عليهم، وأما الشام فكما هو معروف كان معقل الأمويين.

ثم إن مكة بلد حرام، لا يجوز سفك الدماء بها، وهذا يكفل لمَن يعتصم بها حماية مِن القتل؛ إلا إذا ارتكب حدًّا يوجب ذلك، ثم إن مكة بلد له مكانته وقدسيته في نفوس المسلمين، ثم إنه يجتمع بمكة في موسم الحج كل عام الألوف مِن المسلمين مِن مختلف الأقاليم، ويمكن مِن خلال هذا الموسم التأثير على الرأي العام وتوجيهه، وهو ما لا يمكن توفره في أي إقليم آخر.

وأخيرًا، فإن معارضة ابن الزبير يقويها ويعضدها معارضة أهل المدينة لبني أمية، وبالتالي كان مِن المناسِب أن يكون ابن الزبير قريبًا مِن المدينة؛ ليضمن استمرار تأييد أهلها له، ولكي يتمكن مِن الاتصال المستمر بهم.

وكان معاوية -رضي الله عنه- على معرفة بطبيعة ابن الزبير، وأنه لن يبايع ليزيد، وقد طلب ابن الزبير مِن معاوية -رضي الله عنه- أن يتنحى عن الإمارة إن كان ملّها، ثم طلب مِن معاوية أن يضع يزيد خليفة بدلًا منه فيبايعه، ثم استدل على عدم موافقته على المبايعة بما استنبطه مِن حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأنه لا يجوز مبايعة اثنين في آنٍ واحد(1)، ثم قال: "وأنت يا معاوية أخبرتني أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: إذا كان في الأرض خليفتان؛ فاقتلوا أحدهما".

وقد قال معاوية -رضي الله عنه- في وصيته ليزيد: "وأما ابن الزبير فإنه خب ضب -الخب: الخداع-، فإذا شخص لك فالبد له -أي تعامل معه بحزمٍ وحرص-؛ إلا أن يلتمس منك صلحًا، فإن فعل فاقبل، واحقن دماء قومك ما استطعت" (تاريخ الرسل والملوك للطبري).

وكان مقصد ابن الزبير -رضي الله عنهما- ومَن معه، ومن بينهم بعض الصحابة والتابعين: كالمسور بن مخرمة، وعبد الله بن صفوان، ومصعب بن عبد الرحمن بن عوف، وغيرهم مِن فضلاء عصرهم هو تغيير الواقع بالسيف لما رأوا تحول الخلافة إلى وراثة ملك، وكان ابن الزبير -رضي الله عنهما- يرى أنه باستعماله للسيف وتغييره للمنكر بالقوة يتقرب إلى الله، ويضع حدًّا لانتقال الخلافة إلى ملك ووراثة؛ ولهذا لم يدعُ لنفسه حتى توفي يزيد بن معاوية (الطبقات لابن سعد).

وكان ابن الزبير يخطب ويقول: "والله لا أريد إلا الإصلاح وإقامة الحق، ولا ألتمس جمع مال ولا ادخاره"، ثم إن ابن الزبير يرى في نفسه أنه أهل لمنصب الخلافة بعد وفاة معاوية؛ لما يتمتع به مِن بعض الخصائص والصفات، إضافة لِنَسَبه الكريم، حيث أبوه الزبير ابن العوام أحد العشرة المبشرين بالجنة، وحواري رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأمه أسماء بنت أبي بكر ذات النطاقين -رضي الله عنها-، وجده مِن جهة أمه أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه، وهو أول مولود يُولد للمسلمين بعد الهجرة، وارتجت المدينة بالتكبير عند مولده.

وكان معاوية -رضي الله عنه- يعرف قدر ابن الزبير ومكانته، وكان يحترمه ويقدره، وقد أدرك ابن الزبير مكانة معاوية وحلمه ولينه، وكيف كان معاوية يقابل شدتهم باللين، وقسوتهم بالرفق، وكان ابْنُ الزُّبَيْرِ يقول بعد وفاة معاوية: "للَّهِ دَرُّ مُعَاوِيَةَ، إِنْ كَانَ لَيَتَخَادَعُ لَنَا وَإِنَّهُ لأَدْهَى الْعَرَبِ، مَعَ حِلْمٍ لا يُنَادَى وَلِيدُهُ، وَإِنْ كَانَ لَيَتَضَاعَفُ لَنَا وَهُوَ أَنْجَدُ الْعَرَبِ!" (أنساب الأشراف للبلاذري).

وعندما سمع ابن الزبير بمقتل الحسين -رضي الله عنه- قام خطيبًا في مكة، وترحَّم على الحسين وذم قاتليه، وقال: "أما والله لقد قتلوه طويلاً قيامه، وكثيرًا في النهار صيامه، أحق بما هم فيه منهم، وأولى بما هم فيه منهم، وأولى به في الدين والفضل، أما والله ما كان يبدّل بالقرآن الغناء، ولا البكاء مِن خشية الله الحداء -صوت الغناء للإبل-، ولا بالصيام شراب الحرام، ولا بالمجالس في حلق الذكر الركض في طلب الصيد -يعرّض بيزيد-، فسوف يلقون غيًّا".

ونظرًا للمشاعر العاطفية التي أثرت على أهل الحجاز عمومًا بسبب قتل الحسين -رضي الله عنه-؛ فقد أبدى البعض استعداده لبيعة ابن الزبير، ولاحَظ ابن الزبير مشاعر السخط التي عمّت أهل الحجاز بسبب قتل الحسين -رضي الله عنه-، فأخذ يدعو إلى الشورى وينال مِن يزيد ويشتمه (أنساب الأشراف للبلاذري)، ويذكر شربه للخمر ويثبط الناس عنه، وأخذ الناس يجتمعون إليه فيقوم فيهم، فيذكر مساوئ بني أمية (أخبار مكة للأرزقي).

ولم يحاول يزيد في بداية الأمر أن يعمل عملًا مِن شأنه أن يُعقّد النزاع مع ابن الزبير؛ ولهذا فلقد أرسل إليه رسالة يذكّره فيها بفضائله ومآثره في الإسلام، ويحذره في الفتنة والسعي فيها، وكان مما قال له: "أذكرك الله في نفسك، فإنك ذو سن مِن قريش، وقد مضى لك سلف صالح، وقدم صدق مِن اجتهاد وعبادة، فأربب صالح ما مضى، ولا تبطل ما قدَّمتَ مِن حسن، وادخل فيما دخل فيه الناس، ولا تردهم في فتنة، ولا تحل ما حرَّم الله، فأبى أن يبايع" (أنساب الأشراف للبلاذري).

لم يستجب ابن الزبير لدعوة يزيد السلمية ورفض بيعته، وأقسم يزيد على أنه لا يقبل بيعة ابن الزبير حتى يأتي إليه مغلولًا (أنساب الأشراف للبلاذري)، ولقد حاول معاوية بن يزيد أن يثني والده عن هذا القسم، وذلك لمعرفته بابن الزبير، وأنه سيرفض القدوم على يزيد وهو في الغل، وكان معاوية بن يزيد صالحًا تقيًّا ورعًا، يجنح للسلم ويخشى مِن سفك دماء المسلمين، وساند معاوية في رأيه عبد الله بن جعفر، ولكن يزيد أصر على رأيه، وحتى يخفف يزيد من صعوبة الموقف على ابن الزبير، فقد بعث بعشرة مِن أشراف أهل الشام، وأعطاهم جامعة مِن فضة، وبرنس خز (تاريخ خليفة ابن خياط، وتاريخ دمشق لابن عساكر). وفي رواية أخرى: "أن يزيد بعث لابن الزبير بسلسلةٍ مِن فضة وقيد مِن ذهب" (الآحاد والمثاني لابن أبي عاصم).

وعند وصول أعضاء الوفد إلى مكة تكلم ابن عضاة الأشعري، وقال: "يا أبا بكر: قد كان من أثرك في أمر أمير الخليفة المظلوم -يعني عثمان بن عفان- ونصرتك إياه يوم الدار ما لا يجهل، وقد غضب أمير المؤمنين بما كان مِن إبائك مما قدم عليك فيه النعمان بن بشير، وحلف أن تأتيه في جامعة خفيفة لتحل يمينه، فالبس عليها برنسًا فلا ترى، ثم أنت الأثير عند أمير المؤمنين الذي لا يُخالف في ولاية ولا مال" (أنساب الأشراف للبلاذري).

استأذن ابن الزبير الوفد بضعة أيام يفكر ويستشير، فعرض الأمر على والدته أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنها- فقالت: "يا بني عش كريمًا ومت كريمًا، ولا تمكِّن بني أمية مِن نفسك، فتلعب بك، فالموت أحسن مِن هذا" (أخبار مكة للأزرقي).

ثم جاء رد ابن الزبير على الوفد بالمنع، وبعد ما أجاب ابن الزبير على الوفد بالمنع، قال لابن عضاة: "إنما أنا بمنزلة حمام مِن حمام مكة أفكنت قاتلًا حمامًا مِن حمام مكة؟ قال: نعم، وما حرمة حمام مكة: يا غلام ائتني بقوسي وأسهمي فأتاه بقوسه وأسهمه، فأخذ سهمًا فوضعه في كبد القوس ثمّ سدده نحو حمامة من حمام المسجد، وقال: يا حمامة، أيشرب يزيد الخمر، قولي: نعم. فوالله: لئن فعلت لأرمينك. يا حمامة أتخلعين يزيد بن معاوية وتفارقين أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، وتقيمين في الحرم حتى يستحل بك؟! والله لئن فعلت لأرمينك. فقال ابن الزبير: ويحك أو يتكلم الطائر؟ قال: لا، ولكنك يا ابن الزبير تتكلم، أقسم بالله لتبايعن طائعًا أو مكرهًا أو لتعرفن راية الأشعريين في هذه البطحاء(2)، ولئن أمرنا بقتالك ثم دخلت الكعبة لنهدمنها أو لنحرقنها عليك. فقال ابن الزبير: أو تحل الحرم و البيت؟! قال: إنما يحله مَن ألحد فيه" (الأغاني للأصفهاني، وأنساب الأشراف للبلاذري).

ثم قال ابن الزبير: "إنه ليست في عنقي بيعة ليزيد. فقال ابن عضاة: يا معشر قريش قد سمعتم ما قال: وقد بايعتم، وهو يأمركم بالرجوع عن البيعة" (عيون الأخبار لابن قتيبة).

وأخذ ابن الزبير يبسط لسانه في تنقص يزيد، وقال: "لقد بلغني أنه يصبح سكرانًا ويمسي كذلك"، ثم قال: "يا ابن عضاة: والله ما أصبحتُ أرهب الناس ولا البأس، وإني لعلى بينةٍ مِن ربي، فإن أقتل فهو خير لي، وإن أمت حتف أنفي فالله يعلم إرادتي وكراهيتي لأن يعمل في أرضه بالمعاصي"، وأجاب الباقين بنحو جوابه. (أنساب الأشراف للبلاذري).

ثم قال ابن الزبير: "اللهم إني عائذ ببيتك" (الطبقات لابن سعد)، ولقَّب نفسه عائذ الله (الإصابة لابن حجر)، وكان يسمَّى العائذ (تاريخ الرسل والملوك للطبري).

ونستكمل في المقال القادم بمشيئة الله -تعالى-.


ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــ

(1) (تاريخ خليفة لابن خياط، ص214)، و(حلية الأولياء) بإسنادٍ حسن (1/ 330-331)، وقد علَّق محب الدين الخطيب على هذا فقال: "ابن الزبير أذكى مِن أن يفوته أن البيعة ليزيد بعد معاوية، وليست لهما معًا في حياة معاوية".

(2) حديث: "نِعْمَ الْحَيُّ الْأُسْدُ، وَالْأَشْعَرِيّ ُونَ لَا يَفِرُّونَ فِي الْقِتَالِ، وَلَا يَغُلُّونَ، هُمْ مِنِّي، وَأَنَا مِنْهُمْ" (الحديث ضعفه الألباني وشعيب الأرنؤوط).

ابو وليد البحيرى
2023-02-16, 08:17 AM
صفحات مِن ذاكرة التاريخ
(35) التدابير التي اتخذها يزيد ضد ابن الزبير


كتبه/ زين العابدين كامل


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

حملة عمرو بن الزبير:

فقد ذكرنا في المقال السابق محاولات يزيد للسيطرة على عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما-، وقد أصر ابن الزبير على موقفه؛ فلقد علم أن رفضه لمطالب يزيد وبسط لسانه وتنقصه والنيل منه، سيعقبه شدة وقسوة مِن يزيد؛ لا سيما بعد ما تفوه به على رؤوس أشراف أهل الشام، فقام ابن الزبير بجمع مواليه ومَن تألف معه مِن أهل مكة وغيرهم، وكان يقال لهم الزبيرية (أخبار مكة للأزرقي، بسندٍ كل رجاله ثقات).

وهنا رأى يزيد أنه لابد مِن القيام بعملٍ عسكري، يكون الهدف منه القبض أو القضاء على ابن الزبير أو حمله على الامتثال لقَسَم يزيد، ووضع الأغلال في عنقه، ولما حج عمرو بن سعيد بن العاص والي المدينة في تلك السنة -والمرجح سنة إحدى وستين- حج ابن الزبير معه، فلم يصلِّ بصلاة عمرو، ولا أفاض بإفاضته (أنساب الأشراف للبلاذري).

وهذا العمل مِن ابن الزبير يعني المفارقة الواضحة لسلطة دولة يزيد وعدم الاعتراف بها، وخصوصًا أن إقامة الحج تمثـِّل الدليل الأقوى على شرعية الدولة وقوة سلطانها، مثله مثل إقامته الجهاد في سبيل الله، ثم منع ابن الزبير الحارث بن خالد المخزومي مِن أن يصلي بأهل مكة وكان الحارث بن خالد المخزومي نائبًا لعمرو بن سعيد على أهل مكة (البداية والنهاية لابن كثير)، وكان ابن الزبير يتصرف وكأنه مستقل عن الدولة، وكان لا يقطع أمرًا دون المسور بن مخرمة -المسور بن مخرمة بن نوفل له ولأبيه صحبة-، ومصعب بن عبد الرحمن بن عوف، وجبير بن شيبة، وعبد الله بن صفوان بن أمية، وكان يريهم أن الأمر شورى فيما بينهم، وكان يلي بهم الصلوات والجمع، ويحج بهم (تاريخ دمشق لابن عساكر، ترجمة ابن الزبير).

فكتب يزيد إلى عمرو بن سعيد بن العاص واليه على المدينة أن يوجِّه له جُندًا؛ فعيَّن عمرو بن سعيد بن العاص على قيادة هذه الحملة عمرو بن الزبير بن العوام أخو عبد الله بن الزبير، وكان عمرو بن الزبير قد ولي شرطة المدينة لعمرو بن سعيد، وكان شديد العداوة لأخيه عبد الله، وقام بضرب كل مَن كان يتعاطف مع ابن الزبير، واتجه جيش عمرو بن الزبير إلى مكة وكان قوامه ألف رجل، وجعل على مقدمته: أنيس بن عمرو الأسلمي في سبعمائة من الجند (تاريخ الرسل والملوك للطبري)، فسار أنيس بن عمرو الأسلمي حتى نزل بذي طوى، وسار عمرو بن الزبير حتى نزل بالأبطح، وأرسل عمرو بن الزبير إلى أخيه عبد الله يطلب منه الامتثال ليمين يزيد بن معاوية وحذره مِن القتال في البلد الحرام (تاريخ الإسلام وَوَفيات المشاهير وَالأعلام للذهبي).

وكان عمرو بن الزبير يخرج مِن معسكره فيصلي بالناس خلال المفاوضات مع أخيه عبد الله، وكان عبد الله يسير معه ويلين له، ويقول: إني سامع مطيع وأنت عامل يزيد، وأنا أصلي خلفك، وما عندي خلاف؛ فأما أن تجعل في عنقي جامعة -الجَامِعَةُ: الغُلُّ يجمع اليدين إِلى العُنُق-، ثم أٌقاد إلى الشام، فإني نظرت في ذلك، فرأيتُ أنه لا يحل لي أن أحله بنفسي فراجع صاحبك واكتب إليه، ولكن عمرو بن الزبير اعتذر من الكتابة ليزيد، وذلك لأنه جاء في مهمة محددة مطلوب منه تنفيذها.

وكان عبد الله بن الزبير قد أرسل عبد الله بن صفوان الجمحي ومعه بعض الجند، وأخذوا أسفل مكة، وأحاطوا بأنيس بن عمرو الأسلمي، ولم يشعر بهم أنيس إلا وقد أحاطوا به، فقتل أنيس وانهزم أصحابه، وفي الوقت الذي قتل فيه وانهزم جيش أنيس بن عمرو الأسلمي، كان مصعب بن عبد الرحمن بن عوف، يقود طائفة أخرى من الجند نحو عمرو بن الزبير، الذي كان معسكرًا في الأبطح، فانهزم عمرو بن الزبير، ودخل دار رجل يقال له علقمة، فجاءه أخوه عبيدة بن الزبير فأجاره، فأخذه إلى عبد الله، وذكر له أنه أجاره، فقال عبد الله: أما حقي فنعم، وأما حق الناس فلأقتص منه لمن آذاه في المدينة (الطبقات لابن سعد، وأنساب الأشراف للبلاذري)، وأقام عبد الله عمرو بن الزبير ليقتص الناس منه، فكل مَن ادعى على عمرو بأنه فعل به كذا وكذا وكذا قال له عبد الله بن الزبير افعل به مثلما فعل بك. وتذكر المصادر أن عمرو بن الزبير تعرض لتعذيبٍ شديدٍ مِن جراء ذلك، ومات تحت الضرب (تاريخ الإسلام للذهبي).

لقد أثبت ابن الزبير -رضي الله عنه- أنه يملك ذكاءً ودهاءً بارزين، الأمر الذي مكّنه مِن تحويل القضية لصالحه، بعد ما كانت في يد يزيد بن معاوية (مواقف المعارضة في خلافة يزيد للشيباني)، وكان ابن الزبير في بداية معارضته يعتمد على أن البيعة التي تمتْ ليزيد بن معاوية لم تكن بموافقة الناس، ولابد مِن مشاركة الناس، وكان يدعو إلى الشورى ولم تحقق معارضة ابن الزبير أي نجاح يُذكر؛ فخلال سنتين أو أكثر مِن معارضته ليزيد لم يحدث أي تغيير بشأن هيمنة الدولة على الحجاز؛ فضلاً عن غيره مِن الأقطار.

ولقد ارتكب يزيد خطأً فادحًا عندما أقسم أن يأتيه ابن الزبير إلى دمشق في جامعة، فكيف يعقل مِن صحابي جليل تجاوز الستين مِن عمره أن يرضخ لطلب يزيد بن معاوية؟!

ولقد استطاع ابن الزبير أن يظهر يزيد أمام أهل الحجاز بأنه شخص متسلط، ليس أهلاً لولاية المسلمين، وجعلتْ هذه الحادثة من ابن الزبير في نظر الكثير مِن المترددين في موقفهم مِن ابن الزبير، على أنه طالب حق يواجه خليفة يحمل الظلم في أحكامه والتعسف في قراراته، والذي مكّن ابن الزبير وأكسبه الكثير مِن التعاطف هو موقف أمير المدينة -عمرو بن سعيد- فكان هذا الأمير -كما تذكر الروايات- شديدًا على أهل المدينة معرضًا عن نصحهم، متكبرًا عليهم، ثم ذلك الخطأ الكبير الذي وقع فيه عمرو بن الزبير الذي تذكره الروايات أيضًا بأنه عظيم الكبر، شديد العجب، ظلومًا قد أساء السيرة، وكان يضرب بالسياط، فكان ممن ضرب: المنذر بْن الزبير، ومحمد بْن المنذر، وعثمان بْن عبد اللَّه بْن حكيم بْن حزام، وخبيب بْن عبد اللَّه بْن الزبير، ومحمد بْن عمار بْن ياسر، وغيرهم، وكان يُقال: عمرو لا يُكلم، مَن يكلمه يندم! (أنساب الأشراف للبلاذري).

ومِن الأخطاء التي وقع فيها يزيد بن معاوية، وعمرو بن سعيد بن العاص والي المدينة، واستطاع ابن الزبير أن يوظفها لصالحه: "غزو مكة بجيش"؛ فمكة لها حرمتها وخصوصيتها في الجاهلية ثم جاء الإسلام فزادها مكانة وقداسة على مكانتها تلك التي كانت في الجاهلية، وقام عمرو بن سعيد يتحدى مشاعر المسلمين في المدينة حين رقي المنبر في أول يوم مِن ولايته على المدينة، فقال عن ابن الزبير: تعوذ بمكة، فوالله لنغزونه، ثم والله لئن دخل الكعبة لنحرقنها عليه، على رغم أنف مَن رغم (تاريخ خليفة لابن خياط).

ولما جهّز الحملة التي سيوجهها لابن الزبير في مكة، نصحه بعض الصحابة وحذّروه، وذكّروه بحرمة الكعبة، وبحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيان حرمتها، ولكنه رفض السماع لنصحهم (أنساب الأشراف للبلاذري)، وكان مروان بن الحكم وهو الأمير المحنك والسياسي الداهية قد حذّر عمرو بن سعيد مِن غزو البيت، وقال له: لا تغزو مكة، واتقِ الله، ولا تحل حرمة البيت، وخلوا ابن الزبير فقد كبر؛ هذا له بضع وستون سنة، وهو رجل لجوج -كثير الإلحاح-، والله لئن لم تقتلوه ليموتن، فقال له عمرو: والله لنقاتلنّه، ولنغزونّه في جوف الكعبة على رغم أنف مَن رغم، فقال مروان: والله إن ذلك يسوؤني (البداية والنهاية).

وكان عبد الله بن الزبير قد اختار لقبًا مؤثرًا حين أطلق على نفسه: "العائذ بالله"، فأصبح المساس بحرمة مكة أمر لا يوافق عليه الصحابة والتابعون، وكان لا بد مِن الدفاع عن مكة، في وجه جيشٍ يريد استحلال حرمتها!

وحتى الذي لا يستطيع أن يدافع عن مكة فسوف يكون متعاطفًا مع ابن الزبير بصفته يدافع عن بيت الله، وتدافع الناس نحو ابن الزبير مِن نواحي الطائف يعاونونه ويدافعون عن الحرم (أنساب الأشراف للبلاذري).


وهذه القضايا المعنوية والحسية كان لها الأثر البالغ في تعاظم مكانة ابن الزبير لدى أهل الحجاز؛ الأمر الذي جعله يحقق نصرًا ساحقًا وسهلًا على جيش عمرو بن الزبير، ومِن الأمور التي انتقدها يزيد على عمرو بن سعيد، كيف أنه لم يبادر بطلب جندٍ مِن أهل الشام حين جهز حملة عمرو بن الزبير؟! (أنساب الأشراف للبلاذري).

ونستكمل في المقال القادم -بمشيئة الله تعالى-.

ابو وليد البحيرى
2024-07-15, 04:49 PM
صفحات مِن ذاكرة التاريخ
(36) التدابير التي اتخذها يزيد ضد ابن الزبير


كتبه/ زين العابدين كامل


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
"حملة الحصين بن نمير - وحصار ابن الزبير - وحريق الكعبة":
ذكرنا في المقال السابق تفاصيل حملة عمرو بن الزبير، ونستكمل في هذا المقال محاولات يزيد للسيطرة على عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما-.
لم يقم مسلم بن عقبة في المدينة أكثر مِن ثلاثة أيام بعد موقعة الحرة، ومات في السابع مِن شهر المحرم وهو في طريقه لابن الزبير، وتولى القيادة مِن بعده الحصين بن نمير السكوني، ووصل إلى مكة قبْل انقضاء شهر المحرم بأربع ليالي تقريبًا، وعسكر الحصين بن نمير بالحجون -الجبل المشرف حذاء مسجد البيعة بينه وبيْن الحرم ميل ونصف- إلى بئر ميمون -حفرها ميمون بن الحضرمي، وهي في طريق منى-، وبذلك فقد عمل الحصين بن نمير على نشر جيشه على مسافة واسعة، والذي دفعه إلى ذلك طبيعة الحرب التي ستدور في مكة.
وقام ابن الزبير -رضي الله عنهما- يحثُّ الناس على قتال جيش أهل الشام، وانضم المنهزمون مِن معركة الحرّة إلى ابن الزبير، وقدِم على ابن الزبير أيضًا نجدة بن عامر الحنفي في ناسٍ مِن الخوارج، وذلك لمنع البيت مِن أهل الشام (تاريخ الرسل والملوك للطبري).
وقيل: إن النجاشي -لقب لكل مَن حكم الحبشة- أرسل جماعة مِن جيشه للدفاع عن الكعبة (أنساب الأشراف للبلاذري)، وكان عدد المقاتلين الذين اشتركوا مع ابن الزبير أقل بكثيرٍ مِن المقاتلين الذين اشتركوا في معركة الحرّة، ولم تكن القوات متكافئة، وعرض الحصين بن نمير الصلح والتسليم على عبد الله بن صفوان أحد أمراء عبد الله بن الزبير، فرفض ابن صفوان وأصر على الحرب والقتال ووافقه مَن معه (المحن لأبي العرب ص 203).
وكان مسلم بن عقبة عند موته قد أوصى الحصين، فقال: "فاحفظ عني ما أقول لك: لا تطيلنّ المقام بمكة، فإنها أرضٍ جردية لا تحتمل الدواب، ولا تمنع أهل الشام مِن الحملة، ولا تمكن قريشًا مِن أذنك فإنهم قوم خدع، وليكن أمرك الْوِقَافُ، ثُمَّ الثِّقَافُ -أي الخصام والجلاد، يريد المناجزة بالسيف- ثم الانصراف، أفهمت يا حصين؟ قَال: نعم. قَال: واعلم أنك تقدم على قوم لا منعة لهم ولا عدة ولا سلاح، ولهم جبال مشرفة عليهم، فانصب عليهم المجانيق فإن عاذوا بالبيت فارمه فما أقدرك على بنائه" (الطبقات لابن سعد).
وفي يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت مِن صفر، نشب القتال شديدًا بيْن الطرفين، ويبدو أن ابن الزبير قد حقق في البداية شيئًا مِن التكافؤ مع جيش الحصين (الطبقات لابن سعد)، لكن سرعان ما تحول الوضع لصالح الحصين بن نمير، بعد أن ابتلي ابن الزبير بفقد خيرة أصحابه، مثل أخويه: المنذر وأبي بكر ابني الزبير، ومصعب بن عبد الرحمن، وحذافة بن عبد الرحمن بن العوام، وعمرو بن عروة بن الزبير (جمهرة نسب قريش وأخبارها للزبير بن بكار).
وبعد ثلاثة أيام مِن ربيع الأول سنة 64 هـ - 683م: قام الحصين بن نمير بنصب المنجنيق على جبل أبي قبيس -هو أحد أخشبي مكة، وهو جبل مطل على الصفا- وجبل قعيقعان -جبل بمكة مقابل لأبي قبيس-، وفقد ابن الزبير أهم مستشاريه ومناصريه، وهو المسور بن مخرمة بعد أن أصابه بعض أحجار المنجنيق، وانكشفت مواقع ابن الزبير أمام الحصين بن نمير، ولم يبقَ مأمن لابن الزبير مِن أحجار المنجنيق سوى الحِجر (المحن لأبي العرب)، وحوصر ابن الزبير حصارًا شديدًا، ولم يعد يملك إلا المسجد الحرام فقط بعد أن فقد مواقعه المتقدمة في الأبطح (تاريخ خليفة لابن خياط).
وقد عمد ابن الزبير إلى وضع ألواحٍ حول البيت وعلى المسجد، وألقى عليها الفرش؛ حتى توفر لهم غطاءً مِن كثرة الحجارة المنهمرة عليهم مِن أعالي الجبال، وحتى يتمكنوا مِن أداء الصلاة والطواف حول الكعبة، وقد جعل ابن الزبير فسطاطًا في المسجد فيه نساء يسقين الجرحى ويطعمن الجائع (تاريخ دمشق لابن عساكر).
وفي أثناء احتدام االمعارك بيْن ابن الزبير والحصين بن نمير احترقت الكعبة، وهذه مصيبة أضيفت إلى مصائب المسلمين التي نتجت عن استحلال القتال في البلد الحرام الذي حرَّم الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- القتال فيه، وكان يزيد بن معاوية قد مات في منتصف شهر ربيع الأول (تعجيل المنفعة بزوائد رجال الأئمة الأربعة للحافظ ابن حجر)، ولم يعلم أحدٌ بموته؛ نظرًا لبعد المسافة بيْن مكة ودمشق، وقد جاء الخبر بموت يزيد إلى مكة لهلال شهر ربيع الآخر سنة أربع وستين.
ولم تكن الكعبة مقصودة في ذاتها بالإحراق، بل كان نتيجة حريق في الخيام المحيطة بها، والدليل على ذلك: ما أحدثه حريق الكعبة مِن ذهولٍ وخوفٍ مِن الله في كلا الطائفتين: جيش الحصين بن نمير، وجيش ابن الزبير؛ فقد نادى رجل مِن أهل الشام بعد أن احترقت الكعبة، وقال: "هلك الفريقان! والذي نفس محمد بيده" (تاريخ خليفة لابن خياط).
وأما أصحاب ابن الزبير، فقد خرجوا كلهم في جنازة امرأة ماتت في صبيحة ليلة الحريق خوفًا مِن أن ينزل العذاب بهم، وأصبح ابن الزبير ساجدًا، ويقول: "اللهم إني لم أتعمد ما جرى؛ فلا تهلك عبادك بذنبي، وهذه ناصيتي بيْن يديك" (مواقف المعارضة للشيباني).
ولا شك أن أحدًا مِن أهل الشام لم يقصد إهانة الكعبة، بل كل المسلمين معظمين لها، وإنما كان مقصودهم حصار ابن الزبير، والضرب بالمنجنيق كان لابن الزبير لا للكعبة، ويزيد لم يهدم الكعبة، ولم يقصد إحراقها لا هو ولا نوابه باتفاق المسلمين (منهاج السنة لابن تيمية)، ولكن يُؤخذ على أهل الشام أنهم يعلمون جيدًا أن إحتمالية وقوع الضرر بالكعبة قائمة، ومع ذلك لم يراعوا هذا الأمر.
وهناك بعض الروايات التى تشير إلى أن الحصين بن نمير قد عرض على ابن الزبير بعد موت يزيد أن يتولى الخلافة حقنًا لدماء المسلمين، ولكن بشرط أن يتوجه معه إلى بلاد الشام؛ فرفض ابن الزبير هذا العرض وطلب المقام في مكة(تاريخ الرسل والملوك للطبري).
ثم انسحب جيش الشام بعد ذلك، وحينما نحاول أن نقوِّم حركة ابن الزبير، ومدى تأثيرها على المجتمع الإسلامي في تلك الفترة، فإننا نجد أن نتيجة الحرب التي دارت بيْن الحصين وابن الزبير، لم تصل إلى نتيجةٍ واضحةٍ بسبب وفاة يزيد بن معاوية وانسحاب جيش الشام، ولكننا نشير إلى عدم رضا كثيرٍ مِن الصحابة عن معارضة ابن الزبير وموقفه، وهذا يظهر جليًّا في موقف ابن عمر -رضي الله عنهما-، وهو أفضل وأفقه أهل زمانه حيث إن يزيد بن معاوية -في نظره- يمثِّل الخليفة الشرعي للمسلمين، وأنه قد أعطي البيعة؛ ولذا لا يجوّز الخروج عليه.
وقد كان ابن عمر -رضي الله عنهما- يعلم نتائج معارضة ابن الزبير، حيث سيكون هناك حربٌ و قتالٌ بيْن المسلمين، ويُقتل الناس تبتلى الأمة، وتُعَطّل الثغور ويتوقف الجهاد في سبيل الله، إلى غير ذلك مِن المفاسد التي يعتقد ابن عمر أنها ستحدث لا محالة إذا استمر ابن الزبير في معارضته.
ولكي يصرف ابن عمر الناس عن مناصرة ابن الزبير فقد قال بأن قتال ابن الزبير إنما هو لأجل الدنيا (المصنف لابن أبي شيبة بسندٍ صحيح)، وأخذ يخبر الناس ويحذرهم أن قتالهم ومناصرتهم لابن الزبير إنما هو قتال على الملك فقط (البخاري مع الفتح (4513) كتاب التفسير، وأحمد المسند (5690) وصحح إسناده أحمد شاكر)، ولم يكتفِ ابن عمر بذلك، بل كان دائم المناصحة لابن الزبير و يحذِّره مِن عواقب الفتن، وكان يعرّفه بأن نهاية هذه المعارضة ستكون بائسة له (شرح النووي على مسلم).
ولا شك أن كلام ابن عمر وموقفه في الفتن يستحق التوقف والتدبر للخروج بحصيلةٍ علميةٍ راسخةٍ نستفيد منها في واقعنا المعاصر.
وهكذا كان موقف ابن عباس -رضي الله عنهما-، وهو فقيه عالمٌ مفسّرٌ للقرآن، مِن أشد المعارضين لموقف ابن الزبير، فلم يُنقل عنه أنه كان راضيًا عن ابن الزبير أو أنه تعاطف مع معارضته، بل إنه لم يبايعه بعد وفاة يزيد بن معاوية، وكان يصرِّح بأنه إذا كان تحت حكم بني أمية خيرٌ له مِن حكم ابن الزبير (البخاري مع الفتح 8/ 177)، ولم يكن راضيًا عن شخص ابن الزبير، ويفضِّل عليه معاوية بن أبي سفيان (المعجم الكبير للطبراني، والمصنف لعبد الرزاق)، بل وكان يحمِّله جزءًا مِن المسؤولية عن إحلال القتال ببيت الله (البخاري مع الفتح 8/ 177).
وهكذا كان موقف أبي برزة الأسلمي وجندب بن عبد الله البجلي -رضي الله عنهما-، و قولهم جميعًا بأن قتاله مِن أجل الدنيا إنما كان بسبب النظرة إلى الفتن التي تجري بيْن المسلمين في ذلك الحين، ويهدفون إلى تحذير كل مَن يلتحق، أو ينوي لانضمام لأيٍ مِن الطائفتين.
ومراد هؤلاء الصحابة الذين نقلنا عنهم رأيهم في قتال ابن الزبير وأنه كان مِن أجل الدنيا، هو تثبيط الناس عن الاشتراك معه، ومعرفتهم بأن النتائج التي ستترتب على أي قتالٍ يحدث هي أعظم مِن المنفعة المرجوة بعده؛ فهذا ابن عمر يترحم على ابن الزبير بعد أن قتله الحَجّاج، ويقول: "لقد كنتَ صوّامًا قوّامًا تصِل الرّحم". و يقول أيضًا: "رحمك الله، لقد سَعِدَتْ أمة أنت شرُّها!" (مسلم بشرح النووي 16/ 99).
ولا شك أن هؤلاء الصحابة قد آلمهم تعريض ابن الزبير الحرم للقتال والحرب؛ لما له مِن مكانةٍ وحرمةٍ، فهذا عمر -رضي الله عنه- يقول عن الحرم: "لو وجدتُ فيه قاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه!" (المصنف لابن أبي شيبة).
وبالرغم مِن القتال الذي دار بسببه؛ إلا أن القتل الذي أصاب إخوته وأصحابه وأصابه هو نفسه، فإنه مكفِّرٌ -بإذن الله- عما اقترف مِن الذنوب، ولذا قال ابن عمر -رضي الله عنهما- مخاطبًا ابن الزبير وهو مصلوب: "أما والله إني لأرجو مع مساوئ ما قد عملت مِن الذنوب ألا يعذبك الله" (أخرجه الحاكم في المستدرك).
ثم إن بعض الذين قاموا مع ابن الزبير -رضي الله عنهما- همْ مِن الصحابة الأجلاء، فمعاذ الله أنهم قاموا وقاتلوا وقٌتِلوا مِن أجل الدنيا، بل لقد كان مقصدهم -رضي الله عنهم- هو تغيير الواقع بالسيف، لمّا رأوا تحول الخلافة إلى وراثة وملك، ولقد كان ابن الزبير -رضي الله عنهما-يهدف مِن وراء المعارضة أن تعود الأمة إلى حياة الشورى، ويتولى الأمة أفضلها، وكان يخشى مِن تحول الخلافة إلى مُلك.
وكان يرى -رضي الله عنه- أنه باستعماله للسيف وتغييره للمنكر بالقوة يتقرب إلى الله ويضع حدًّا لانتقال الخلافة إلى ملك ووراثة، ولهذا لم يدعو لنفسه حتى توفي يزيد بن معاوية (الطبقات لابن سعد).
فهو وإن أخطأ؛ فإنه مجتهد مأجور بلا أدنى شك.
ومع ذلك فإن التمسك بنصوص الكتاب والسُّنة بلزوم الجماعة، والتي تحذر مِن شق عصا الطاعة، هو أولى مِن الذي أقدم عليه ابن الزبير وأهل المدينة؛ فكم مِن دمٍ أريق وامرأة ترمَّلت وطفلٍ تيتَّم، ومالٍ نُهِب وأضيع، وغير ذلك مِن المفاسد، وبما أن كل طرفٍ يقاتل ويرى أنه على حق؛ فلهذا سمَّى السلف معارضة ابن الزبير فتنة (التاريخ الكبير للبخاري، وتاريخ دمشق لابن عساكر).
وذلك لأنه قتال بيْن المسلمين لا نفع مِن وراءه ولا خير، فالكل يقاتل عن تأويل، ومع ذلك نقول كما قال الذهبي: "فليته -أي ابن الزبير- كفَّ عن القتال لمّا رأى الغلبة، بل ليته ما التجأ إلى البيت. نعوذ بالله مِن الفتنة الصَّـمَّـاء" (سير أعلام النبلاء للذهبي).

ابو وليد البحيرى
2024-07-28, 09:32 PM
صفحات مِن ذاكرة التاريخ (37)

قراءة حول الملك والخلافة


كتبه/ زين العابدين كامل


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فهذه نبذة مختصرة نريد أن نلقي الضوء مِن خلالها على بعض المسائل الخاصة بالملك والخلافة، وذلك بعد عرضنا لبعض أحداث الفتن السياسية التي وقعتْ في عصر الصحابة -رضي الله عنهم-؛ لا سيما فتنة عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما-، ورفضه بيعة يزيد، ومِن ثَمَّ رفضه لخلافته.

فهناك عدة مسائل نلخصها في عدة نقاط لتخرج القراءة بصورةٍ بنائية متكاملة.

أولًا: شروط يجب توافرها في الإمام أو الخليفة:

ذكر أهل العلم شروطًا معينة يجب توافرها في الخليفة ليصلح لتولي أمر الأمة، ومنها: الإسلام، والبلوغ، والعقل، والحرية، والذكورية، والعلم، والعدالة، والقرشية، وغير ذلك مِن الشروط، لكننا نريد أن نسلِّط الضوء على شرطي العلم والعدالة؛ فلابد أن يكون الخليفة عدلًا أمينًا، والعدالة هي عبارة عن الالتزام بالفرائض والفضائل، وتجنب الفواحش والرذائل.

وقد ذكر أبو بكر الجصاص في كتابه أحكام القرآن أن في قوله -تعالى- لإبراهيم -عليه السلام-: (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة:124)، إجابة لسؤاله أن يجعل مِن ذريته أئمة، وتعريفًا له بذلك، وبأن الظالمين منهم لا يكونون أئمة.

ثم قال: "فلا يجوز أن يكون الظالم نبيٍّا ولا خليفة لنبي ولا قاضيًا، ولا مَن يلزم الناس قبول قوله في أمور الدين مِن مفتٍ أو شاهد أو مخبر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- خبرًا، فقد أفادت الآية أن شرط جميع مَن كان في محل الائتمام به في أمر الدين العدالة والصلاح" (انتهى).

وذكر القاضي البيضاوي أن الجملة تفيد إجابة إبراهيم إلى ملتمسه، وأن الظالمين مِن ذريته لا ينالون الإمامة؛ لأنها أمانة مِن الله وعهد، وأن الفاسق لا يصلح للإمامة.

والمراد: أن إمامة غير العدل لا تصح؛ فلا يكون إمامًا شرعيٍّا، لا أنها لا تقع، وقد نقل الجصاص وغيره عن ابن عباس -رضي لله عنهما- أنه قال: لا يلزم الوفاء بعهد الظالم، فإن عقد عليك في ظلم فانقضه، هذا بالنسبة لشرط العدالة، علمًا بأن يزيد كانت تلاحقه الإشاعات التي تقدح في عدالته.

وقد كان عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- يقول بعد مقتل الحسين -رضي الله عنه-: "أما والله، ما كان يبدّل بالقرآن الغناء ولا البكاء مِن خشية الله الحداء -صوت الغناء للإبل-، ولا بالصيام شراب الحرام، ولا بالمجالس في حلق الذكر -الركض في طلب الصيد- يعرّض بيزيد -فسوف يلقون غيًّا" (أنساب الأشراف للبلاذري)، ثم يدعو إلى الشورى وينال مِن يزيد ويشتمه (أنساب الأشراف للبلاذري)، ويذكر شربه للخمر، ويثبط الناس عنه، وأخذ الناس يجتمعون إليه فيقوم فيهم، فيذكر مساوئ بني أمية (أخبار مكة وما جاء فيها مِن الآثار للأرزقي).

وقد كان بعض الناس في المدينة أيضًا يذكرون هذا الكلام، ولعل هذه الاتهامات التي تقدح في العدالة كانت مِن الأسباب التي جعلت عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- يرفض بيعة يزيد بالإضافة إلى السبب الرئيسي، وهو طريقة ترشيح يزيد وتوليه الخلافة.

وأما بالنسبة لشرط العلم، فيعنون به العلم بأمور الدين ومصالح الأمة وسياستها.

ومِن الآثار في ذلك: سيرة عمر -رضي الله عنه- في أمرائه الذين كان يؤمِّرهم في البلاد، أنه كان لا يراعي الأفضل في الدين فقط، بل يضم إليه مزيد المعرفة بالسياسة مع اجتناب ما يخالف الشرع فيها؛ فلأجل ذلك أَمَّرَ معاوية والمغيرة بن شعبة وعمرو بن العاصم مع وجود مَن هو أفضل منهم في أمر الدين والعلم: كأبي الدرداء في الشام، وابن مسعود في الكوفة.

جاء في الموسوعة الفقهية في بيان المقصد الأساس للدولة: "هُوَ رِعَايَةُ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيّ َةِ. يَقُول الْمَاوَرْدِيُّ : الإْمَامَةُ مَوْضُوعَةٌ لِخِلاَفَةِ النُّبُوَّةِ فِي حِرَاسَةِ الدِّينِ وَسِيَاسَةِ الدُّنْيَا، وَالإْمَامُ هُوَ مَنْ تَصْدُرُ عَنْهُ جَمِيعُ الْوِلاَيَاتِ فِي الدَّوْلَةِ. وَيَقُول ابْنُ تَيْمِيَّةَ: فَالْمَقْصُودُ الْوَاجِبُ بِالْوِلاَيَاتِ إِصْلاَحُ دِينِ الْخَلْقِ الَّذِي مَتَى فَاتَهُمْ خَسِرُوا خُسْرَانًا مُبِينًا، وَلَمْ يَنْفَعْهُمْ مَا نَعِمُوا بِهِ فِي الدُّنْيَا، وَإِصْلاَحُ مَا لاَ يَقُومُ الدِّينُ إِلاَّ بِهِ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاهُمْ. وَيَقُول ابْنُ الأْزْرَقِ: إِنَّ حَقِيقَةَ هَذَا الْوُجُوبِ الشَّرْعِيِّ يَعْنِي وُجُوبَ نَصْبِ الإْمَامِ رَاجِعَةٌ إِلَى النِّيَابَةِ عَنِ الشَّارِعِ فِي حِفْظِ الدِّينِ وَسِيَاسَةِ الدُّنْيَا بِهِ، وَسُمِّيَ بِاعْتِبَارِ هَذِهِ النِّيَابَةِ خِلاَفَةً وَإِمَامَةً وَذَلِكَ لأِنَّ الدِّينَ هُوَ الْمَقْصُودُ فِي إِيجَادِ الْخَلْقِ لاَ الدُّنْيَا فَقَطْ" (انتهى).

إذن فلا بد مِن وجود العلم للحفاظ على أمري الدين والدنيا؛ لأن جهل الخليفة أو الإمام سيعود بلا شك بالضرر البالغ على العباد والبلاد، وأما مَن كان مستجمعًا لأكثر الشروط ولم يجمعها كلها؛ فيجوز مبايعته، مع الاجتهاد والسعي لاستجماعها كلها.

ومثال ذلك: مَن تغلب وهو جاهل، يفقد شرط العلم مثلًا، وكان صرفه ومنابذته فتنة وفساد؛ حكمنا بانعقاد إمامته حفاظًا على وحدة الكلمة، وكيان الأمة؛ فلقد قُتل عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- وقد كان أميرًا للمؤمنين، ودخلت في طاعته ومبايعته: "الكوفة، والبصرة، ومصر، وخراسان، والشام -معقل الأمويين-"، ولم يبقَ سوى الأردن في عهد عبد الملك بن مروان، وقد قتله الحجاج؛ فماذا كان موقف عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-؟!

عن نافع أن ابن عمر -رضي الله عنهما-: أَتَاهُ رَجُلاَنِ فِي فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالاَ: إِنَّ النَّاسَ صَنَعُوا وَأَنْتَ ابْنُ عُمَرَ، وَصَاحِبُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَمَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَخْرُجَ؟ فَقَالَ: "يَمْنَعُنِي أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ دَمَ أَخِي"، فَقَالاَ: أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ) (الأنفال:39)، فَقَالَ: "قَاتَلْنَا حَتَّى لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ، وَكَانَ الدِّينُ لِلَّهِ، وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَيَكُونَ الدِّينُ لِغَيْرِ اللَّهِ" (رواه البخاري).

وعن أبي نوفل بن أبي عقرب قال: "لَمَّا قَتَلَ الْحَجَّاجُ ابْنَ الزُّبَيْرِ وَصَلَبَهُ عَلَى طَرِيقِ الْمَدِينَةِ يُغَايِظُ بِهِ قُرَيْشَ الْمَدِينَةِ، فَمَرَّ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَوَقَفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: "السَّلامُ عَلَيْكَ أَبَا خُبَيْبٍ، ثَلاثَ مَرَّاتٍ، وَاللَّهِ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا، ثَلاثًا، وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتَ صَوَّامًا قَوَّامًا وَصُولاً لِلرَّحِمِ، أَمَا وَاللهِ لَأُمَّةٌ أَنْتَ أَشَرُّهَا لَأُمَّةٌ خَيْرٌ" (رواه مسلم).

بل كان -رضي الله عنه- يصلي خلف الحجاج، بل وحج معه، وبايع عبد الملك بن مروان، ولم يخرج على الحاكم أو يأمر بالخروج عليه؛ لأنه كان يكره اللجوء إلى العنف والاقتتال؛ لما في ذلك مِن سفك الدماء، وإضعاف لوحدة الجماعة المسلمة، فلما أجمع الناس على البيعة لعبد الملك بن مروان كتب إليه ابن عمر: "أما بعد, فإني قد بايعت لعبد الملك أمير المؤمنين بالسمع والطاعة على سنة الله وسنة رسوله فيما استطعت, وإن بنيّ قد أقروا بذلك" (الطبقات لابن سعد).

فالعلة ليست في ثبوت الولاية الشرعية مِن عدمها، ولكن العلة هي سفك الدماء، علمًا بأننا لا نثبت الولاية الشرعية في النظام الجمهوري الحديث؛ فانتبه، ولقد قامت الدولة العباسية على أنقاض الدولة الأموية على يد أبي العباس السفاح الذي قضى على الدولة الأموية، وقتل عشرات الآلاف مِن المسلمين.

وهنا سؤال: ماذا فعل العلماء في عصره؟!

لقد بايعوه ولم يأمروا بقتاله؛ نظرًا لعدم القدرة على ذلك، وللمفاسد المحتملة، بل وربما المفاسد المحققة.

قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله- في شرح العقيدة السفارينية: "(وشرطه): أي شرط الإمام الذي يكون خليفة على المسلمين -وعدد شروطًا-... ومنها: (الإسلام): وهذا لابد منه، فلا يمكن أن يتولى على المسلمين غير مسم أبدًا، بل لابد أن يكون مسلمًا؛ فلو استولى عليهم كافر بالقهر، وعندهم فيه مِن الله برهان أنه كافر؛ بأن يعلن أنه يهودي أو نصراني مثلاً، فإن ولايته عليهم لا تنفذ ولا تصح، وعليهم أن ينابذوه، ولكن لابد مِن شرط مهم وهو القدرة على إزالته، فإن كان لا تمكن إزالته إلا بإراقة الدماء وحلول الفوضى؛ فليصبروا حتى يفتح الله لهم بابًا؛ لأن منابذة الحاكم بدون القدرة على إزالته لا يستفيد منها الناس إلا الشر والفساد والتنازع، وكون كل طائفة تريد أن تكون السلطة حسب أهوائها... ثم قال: ولابد أن يكون على دراية ومعرفة بالسياسة، ومعرفة بالأحوال حتى يدير الحكم على ما تقتضيه الشريعة، وتقتضيه المصالح".

وللحديث بقية -بمشيئة الله تعالى-.

ابو وليد البحيرى
2024-08-04, 11:56 AM
صفحات مِن ذاكرة التاريخ (38)

قراءة حول الملك والخلافة

كتبه/ زين العابدين كامل


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فما زلنا نلقي الضوء على بعض المسائل الخاصة بالملك والخلافة، وذلك بعد عرضنا لبعض أحداث الفتن السياسية التي وقعتْ في عصر الصحابة -رضي الله عنهم-.

ثانيًا: مَن يرشح الخليفة ويوليه وينصبه؟

يرشح الخليفة "أهل الحل والعقد" عن طريق الشورى، وأهل الحل والعقد هم أهل العلم وأولو المكانة، ووجوه الناس وزعماؤهم، وموضع الثقة بالنسبة للناس؛ فالأمة تتبعهم في طاعة مَن يولونه، ولا يلزم اجتماعهم جميعًا، بل ما يتيسر اجتماعهم منهم، وهذا هو المأخوذ مِن عمل الصحابة -رضي لله عنهم- في تولية الخلفاء الراشدين؛ فإن عمر -رضي الله عنه- عدَّ البدء في بيعة أبي بكر -رضي الله عنه- فلتة؛ لأنه وقع قبْل أن يتم التشاور بيْن جميع أهل الحل والعقد؛ إذ لم يكن في سقيفة بني ساعدة أحد مِن بني هاشم.

وتضافرت الروايات بأن أبا بكر -رضي لله عنه- أطال التشاور مع كبراء الصحابة في ترشيح عمر -رضي الله عنه-، ولما طُعن عمر -رضي الله عنه- رأى حصر الشورى الواجبة في الستة الزعماء الذين مات الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو عنهم راضٍ؛ لعلمه بأنه لا يتقدم عليهم أحدٌ، ولا يخالفهم فيما يتفقون عليه أحد.

وإذا تأملنا حال أولئك الستة نرى أنه لم يكن في أهل الإسلام أحد له مِن المنزلة في الدين، والهجرة والسابقة، والعقل والعلم، والمعرفة بالسياسة، ما للستة الذين جعل عمر -رضي الله عنه- الأمر شورى بينهم.

وقد صح أن عمر -رضي الله عنه- أنكر على مَن زعم أن البيعة تنعقد بواحدٍ مِن غير مشاورة الجماعة؛ فلقد قال على منبر الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "بلغني أن قائلًا منكم يقول: ولله لو مات عمر لبايعت فلانًا، فلا يغترنَّ امرؤ أن يقول: إن بيعة أبي بكر كانت فلتة فتمت، ألا وإنها قد كانت كذلك، ولكن وقى الله شرها، وليس فيكم مَن تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر".

وقد أقرت جماعة الصحابة عمر -رضي الله عنه- على ذلك، فكان إجماعًا؛ فتحرر بهذا: أن الأصل في المبايعة أن تكون بعد استشارة جمهور المسلمين، واختيار أهل الحل والعقد، ولا نعتبر مبايعة غيرهم إلا أن تكون تبعًا لهم، وإمامة عثمان -رضي الله عنه- لم تكن بمبايعة عبد الرحمن بن عوف وحده، بل كانت عامة لا خاصة به، وكان يملك تفويضًا بذلك، وكذلك مبايعة عمر لأبي بكر -رضي الله عنهما-.

ثالثًا: الأمة تابعة لأولي الأمر:

وقد أمر الله بطاعة أولي الأمر، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) (النساء:59).

عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: (وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ): "يعني أهل الفقه والدين". وكذا قال مجاهد، وعطاء، والحسن البصري، وأبو العالية: (وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) يعني: العلماء. وقال ابن كيسان: "هُمْ أُولُو الْعَقْلِ وَالرَّأْيِ الَّذِينَ يُدَبِّرُونَ أَمْرَ النَّاسِ". وقال أبو هريرة -رضي الله عنه-: "هم الأمراء".

وقال ابن كثير -رحمه الله- بعد أن ساق أقوال مِن قال هم العلماء، وأقوال مَن قال هم الأمراء: "والظاهر -والله أعلم- أن الآية في جميع أولي الأمر مِن الأمراء والعلماء".

وإذا تأملنا نجد أن ولي الأمر واحد منهم، وإنما يطاع بتأييد جماعة المسلمين الذين بايعوه وجعلوا ثقتهم به، ويدل على هذا المعنى ما ورد مِن الأحاديث الصحيحة في التزام الجماعة، وقد جاء في الحديث: (مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ، إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً) (متفق عليه)، فقد أجمع أهل العلم على وجوب طاعة خليفة المسلمين إذا كان عادلًا، وحرمة خلعه والخروج عليه؛ لقول الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ).

وفي الصحيحين -وغيرهما- عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: "دَعَانَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَبَايَعْنَاهُ، فَقَالَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَأَثَرَةً عَلَيْنَا، وَأَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ، إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا، عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ". والكفر البواح هو الظاهر الذي لا يحتمل تأويلًا.

وعن عوف بن مالك -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُم ْ، وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُ مْ، وَتَلْعَنُونَهُ مْ وَيَلْعَنُونَكُ مْ»، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَلَا نُنَابِذُهُمْ بِالسَّيْفِ؟ فَقَالَ: «لَا، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ، وَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْ وُلَاتِكُمْ شَيْئًا تَكْرَهُونَهُ، فَاكْرَهُوا عَمَلَهُ، وَلَا تَنْزِعُوا يَدًا مِنْ طَاعَةٍ) (رواه مسلم).

وللأمة خلع الإمام وعزله بسببٍ يوجبه، فإذا ثبت كفر الخليفة فقد سقطت بيعته شرعًا، وفى حال بغيه وجوره فإن حكم الخروج عليه وخلعه يدور مع المصلحة وجودًا وعدمًا، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "الواجب تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فإذا تعارضت كان تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، ودفع أعظم المفسدتين مع احتمال أدناهما هو المشروع".

وقال الدسوقي المالكي: "يحرم الخروج على الإمام الجائر؛ لأنه لا يُعزل السلطان بالظلم والفسق، وتعطيل الحقوق بعد انعقاد إمامته، وإنما يجب وعظه، وعدم الخروج عليه، إنما هو تقديم أخف المفسدتين؛ إلا أن يقوم إمام عادل فيجوز الخروج عليه وإعانة ذلك القائم".

والخلع يعني تنحية الإمام عن الحكم فتسقط طاعته وتنحل بيعته، ولا تكون له حقوق عند الرعية زائدة عن حقوق المسلم على المسلم.

وأضرب مثالين في هذة المسألة:

أولهما: موقعة "الحرة"؛ فلا شك أن موقعة الحرة مِن الفتن التي حدثت بيْن المسلمين، وقد ظن أهل المدينة أن المصلحة ستتحقق بما فعلوا، وستعود الشورى مرة أخرى، وللأسف فقد ازدات المفسدة؛ فلا أقاموا دينًا ولا أبقوا دنيا!

والمثال الثاني: هو مقتل الملك المعز "عز الدين أيبك"، ثم قُتلت بعده زوجته "شجرة الدر"، ثم تولى الحكم السلطان الطفل "المنصور نور الدين علي بن عز الدين أيبك"، ثم تولى "سيف الدين قطز" الوصاية على السلطان الصغير، وإن كان "قطز" يدير الأمور فعليًّا في مصر؛ إلا أن الذي يجلس على الكرسي سلطان طفل، ولا شك أن هذا يضعف مِن هيبة الحكم في مصر، ويزعزع مِن ثقة الناس بملكهم، ويقوي مِن عزيمة الأعداء إذ يرون الحاكم طفلًا!

وفي ضوء الخطر التتري الرهيب، والمشكلات الداخلية الطاحنة، وثورات بعض المماليك، وأطماع بعض الأمراء لم يجد "قطز" أي معنى لأن يبقى السلطان الطفل "نور الدين علي" على كرسي أهم دولة في المنطقة "وهي مصر"، والتي لم يعد هناك أمل في صد التتار إلا فيها؛ فتم مبايعة "قطز" ليتولى الأمر في مصر، وتم عزل السلطان الطفل، وقد تم ذلك في اجتماع حضره كبار أهل الرأي مِن العلماء والقضاة.

وقد أجرى "قطز" بعض التعديلات في المناصب القيادية، وولَّى أصحاب الخبرة والكفاءة والأمانة، وقام ببعض الإصلاحات الداخلية لتستقر الأمور في مصر، ثم كانت الوحدة بيْن مصر والشام.


قال ابن كثير -رحمه الله-: "وقد اجتمعت الكلمة عليه حتى انتهى إلى الشام". يعني اجتمعت الكلمة لقواد وأمراء المسلمين.

وتحرك قطز بجيوش المسلمين وانتصر على التتار، وانتهت أسطورة الجيش الذي أرهب العالم، وسيطر على نصف الكرة الأرضية تقريبًا؛ لذا نقول: إن الأمة تابعة لأهل الحل والعقد، وعدم الطاعة يترتب عليها مفاسد كبرى، وقد ظهر ذلك جليًّا في عدم مبايعة معاوية لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنهما-، وما ترتب على ذلك مِن قتالٍ وفسادٍ وشرٍّ.

وللحديث بقية -بمشيئة الله تعالى-.

ابو وليد البحيرى
2024-08-25, 09:44 PM
صفحات مِن ذاكرة التاريخ (39)

قراءة حول الملك والخلافة

كتبه/ زين العابدين كامل


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فما زلنا نلقي الضوء على بعض المسائل الخاصة بالمُلك والخلافة، وذلك بعد عرضنا لبعض أحداث الفتن السياسية التي وقعتْ في عصر الصحابة -رضي الله عنهم-، فقد تحدثنا سابقًا عن بعض الشروط التي يجب توافرها في الخليفة، ثم تحدثنا عن أهل الحل والعقد، وأن الأمة تابعة لأولي الأمر، ونطوف الآن حول قضية مِن أهم القضايا في مسألة الملك؛ ألا وهي مسألة توريث الحكم.

رابعًا: مسألة توريث الحكم:

إن مسألة توريث الحكم مِن الأمور التي انتشرت واستمرت في العصور المختلفة، فقد بدأت في عصر معاوية -رضي الله عنه- وترشيحه لابنه يزيد، ثم استمرت في عصر الدولة الأموية، وكذلك في عصر الدولة العباسية، ثم في عصر الدولة العثمانية.

ولا شك أن مسألة التوريث كان لها أثر سلبي على الأمة في كثيرٍ مِن المواطن والأزمنة.

قال الشيخ محمد الغزالي في كتابه: "الإسلام والمناهج الاشتراكية": "إن الإسلام الذي أقر مبدأ التوارث المالي رفض بشدة مبدأ توارث الزعامات الروحية أو المدنية أو غيرها، فعندما اختار الله إبراهيم -عليه السلام- نبيًّا، طلب منه هذا النبي الكريم أن تنتقل نعمة الاختيار في بنيه فأبى الله عليه ذلك (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة:124). فتعاليم الإسلام تقطع دابر هذا التوريث ولا ترشح للزعامة إلا الذين يدركونها عن جدارة وكفاية" (انتهى).

لذا امتنع بعض الصحابة -رضي الله عنهم- عن مبايعة يزيد في عصر معاوية -رضي الله عنه-، وكان موقف الحسين -رضي الله عنه- مِن بيعة يزيد بن معاوية هو موقف المعارض، وشاركه في المعارضة عبد الله بن الزبير، والسبب في ذلك: حرصهما على مبدأ الشورى، وأن يتولى الأمة أصلحها، كما عبَّر عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- عن اعتراضه بقوله: "يا معشر بني أمية اختاروا منها بيْن ثلاثة: بيْن سنة رسول الله، أو سنة أبي بكر أو سنة عمر؛ ألا وإنما أردتم أن تجعلوها قيصرية، كلما مات قيصر كان قيصر!".

وكم عانى المسلمون مِن أمر التوريث في الحكم خلال العصر العباسي، وقد بدأت الفتن بما حدث بيْن الأمين وأخيه المأمون بسبب ولاية العهد، فولاية العهد كانت مِن الكوارث التي حلت بنظام الحكم، وكانت تؤدي في كثيرٍ مِن الأحيان إلى فساد العلاقات ووقوع القتال بيْن أفراد الأسرة الواحدة، وكم قامتْ ثورات مسلحة بيْن أبناء البيت الواحد بسبب ولاية العهد وتوريث الحكم؛ فضلًا عن توريث الحكم أحيانًا لبعض الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم بعد!

ويكفي أن نعلم أن الخليفة العباسي المقتدر بالله بويع له بالخلافة عند موت أخيه المكتفي وعمره ثلاث عشرة سنة! وكان عصره مِن أشد العصور وبالًا على المسلمين؛ نظرًا للصراعات العنيفة التي وقعت بيْن النظام الحاكم المتمثل في الخليفة الضعيف والتيارات السياسية المختلفة التي تمثلت في القصر ونسائه، والخدم والحاشية، وبيْن القيادات العسكرية مِن جهة أخرى.

وقد اشتهر عصر المقتدر بالله، بعصر نفوذ النساء، ولكَ أن تتخيل أن فترة حكمه استمرت ربع قرن مِن الزمان، مِن عام 295هـ، وحتى 320هـ، وحدث في عهده للمرة الأولى في التاريخ أن تولت امرأة منصب القضاء، وهي ثمل القهرمانة إحدى نساء القصر، فكانت تقضي في الخصومات والنزاعات ويحضر مجلسها الوزراء والقضاة وكبار رجال الدولة! فكانت تشبه الآن مجلس الدولة والمحاكم الإدارية العليا، وكانت شٌغب أم الخليفة هي المسيطرة على المسرح السياسي في الدولة، إلى غير ذلك مِن التدهور الذي حدث في عصر المقتدر بالله في النواحي الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغير ذلك.

وحدث مثل هذا في عصر الدولة العثمانية؛ فقد تولى السلطان "محمد الرابع" المسؤولية وهو ابن سبع سنين، وهنا رأت أوروبا أن الوقت قد حان للنيل مِن الدولة العثمانية؛ فبعد عصر الفتوحات والانتصارات التي تمثلت في فتح القسطنطينية وبلجراد، والبلقان وبلغاريا، وغاليبول بإيطاليا، والمجر، وفتح جزيرتي قبرص ورودس باليونان، وغير ذلك مِن الفتوحات التي سطرتها صفحات التاريخ المشرقة للدولة العثمانية؛ لك أن تتخيل أن يتولى صبي مقاليد الحكم وهو في السابعة مِن عمره!

وكذا تولى "عثمان الثاني" وهو في الثالثة عشرة مِن عمره، وتولى السلطان أحمد الأول وهو في الرابعة عشرة من عمره، و هذا يعد من أسباب ضعف الدولة وتدهور أحوالها على كافة المستويات والنواحي والمختلفة؛ لذا نقول كان عبد الله بن الزبير وغيره مِن الصحابة -رضي الله عنهم- على حق عندما رفضوا مبدأ التوريث في الحكم، وكان أبو هريرة -رضي الله عنه- "يتعوذ مِن إمارة الصبيان والسفهاء" (أخرجه البخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني).

وعلى الشق الآخر: لقد عاشتْ الأمة أزهى عصورها يوم تخلت عن توريث الحكم للأبناء؛ فإذا تأملنا حال سليمان بن عبد الملك -رحمه الله-، نرى أنه مِن أفضل خلفاء بني أمية؛ فلقد حرص والده على تربيته تربية عالية، وتعليمه أصول الحكم، كما كانت أخلاقه مضربًا للأمثال؛ ولذلك كانت بطانته مِن العلماء والحكماء والصالحين، أمثال رجاء بن حيوة، وعمر بن عبد العزيز، وغيرهما.

توفي سليمان بن عبد الملك في مرج دابق مرابطًا في سبيل الله في شهر صَفَر سنة 99هـ، وبُويِعَ في اليوم نفسه لابن عمه عمر بن عبد العزيز الذي عهد له مِن بعده.

وكان محمد بن سيرين يترحم على سليمان بن عبد الملك، ويقول: "افتتح خلافته بخير وختمها بخير؛ افتتحها بإجابة الصلاة لمواقيتها، وختمها باستخلافه عمر بن عبد العزيز".


فلقد توج سليمان بن عبد الملك أعماله بما يدل على حرصه على مصلحة المسلمين؛ فاختار عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- قبْل موته ليكون وليًّا للعهد ويخلفه مِن بعده، ولم يعهد لأحد ممَن هم أقرب إليه مِن عمر بن عبد العزيز.

ونستكمل في المقال القادم -بمشيئة الله تعالى-.

ابو وليد البحيرى
2024-09-16, 04:54 AM
صفحات مِن ذاكرة التاريخ (40)

قراءة حول الملك والخلافة

كتبه/ زين العابدين كامل


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛


فما زلنا نلقي الضوء على بعض المسائل الخاصة بالملك والخلافة، وذلك بعد عرضنا لبعض أحداث الفتن السياسية التي وقعتْ في عصر الصحابة -رضي الله عنهم-، ولقد تحدثنا في المقال السابق عن مسألة توريث الحكم، ونريد أن نلقي الضوء على مسألة ترشيح معاوية -رضي الله عنه- لابنه يزيد، وأخذ البيعة له في حياته.

الواقع في عصر معاوية -رضي الله عنه-:

الحكم على الشيء فرع عن تصوره: ذهب كثيرٌ مِن المؤرخين إلى أن معاوية -رضي الله عنه- قد أخطأ يوم أخذ البيعة لابنه يزيد في حياته، ولكننا نريد أن نلقي الضوء على الواقع في عصر معاوية -رضي الله عنه-، وذلك مِن باب الإنصاف حتى نستطيع أن نحسن الحكم على مسألة التوريث ليزيد بن معاوية، وأريد أن أشير إلى شيءٍ يسيرٍ مِن فضائله -رضي الله عنه-؛ لأنه مِن الشخصيات التي نالها الكثير مِن التشويه، فمِن فضائل معاوية -رضي الله عنه- دعاء النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- له بالهداية وبالوقاية مِن العذاب، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عُمَيْرَةَ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وآله وسلم- عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وآله وسلم- أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاوِيَةَ: (اللهُمَّ اجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا وَاهْدِ بِهِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني). (هَادِيًا): أَيْ لِلنَّاسِ أَوْ دَالًّا عَلَى الْخَيْرِ. (مَهْدِيًّا) أَي: مُهْتَدِيًا فِي نَفْسِهِ.

وثَبَتَ أن النبيَّ -صلى الله عليه وآله وسلم- دعا لمعاوية فقال: (اللَّهُمَّ عَلِّمْ مُعَاوِيَةَ الْكِتَابَ وَالْحِسَابَ، وَقِهِ الْعَذَابَ) (رواه أحمد وابن حبان، وقال الألباني: صحيح لغيره)؛ فضلًا عن أنه كان مِن كتبة الوحي لرسول اللهِ -صلى الله عليه وآله وسلم-.

قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "تذكرون كسرى وقيصر ودهاءهما، وعندكم معاوية"، ويقول عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: "ما رأيتُ أحدًا أسود مِن معاوية! قال: قلتُ: ولا عمر؟ قال: كان عمر خيرًا منه، وكان معاوية أسود منه". وفي رواية: "ما رأيت أحدًا بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسود مِن معاوية. قيل: ولا أبا بكر؟ قال: كان أبو بكر وعمر وعثمان خيرًا منه, وهو أسود منهم -أحكم منهم وأكثرهم سيادة-". ويقول عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-: "ما رأيتُ رجلًا كان أخلق بالملك مِن معاوية" (البداية والنهاية).

وقال ابن أبي العز الحنفي: "وأول ملوك المسلمين معاوية، وهو خير ملوك المسلمين".

وقال ابن تيمية -رحمه الله-: "واتفق العلماء على أن معاوية أفضل ملوك هذه الأمة, فإن الأربعة قبله كانوا خلفاء نبوة وهو أول الملوك, كان ملكه ملكًا ورحمة" (مجموع الفتاوى لابن تيمية).

وقال: "فلم يكن مِن ملوك المسلمين خيرًا منهم في زمان معاوية إذا نسبتْ أيامه إلى أيام مَن بعده، أما إذا نسبت إلى أيام أبي بكر وعمر ظهر التفاضل", وذكر ابن تيمية قول الأعمش عندما ذكر عنده عمر بن العزيز، فقال: "فكيف لو أدركتم معاوية؟ قالوا: في حلمه؟ قال: لا، والله في عدله" (منهاج السنة النبوية لشيخ الإسلام ابن تيمية).

ثم نعود إلى استقراء الواقع وذكر الملامح العامة للواقع في عصر معاوية -رضي الله عنه-، فبعد انتهاء عصر الخلافة الراشدة كانت بنو أمية قادرة فعلًا على الحكم، واستطاع معاوية أن يحكم الدولة بحكمته وأن يحافظ على وحدتها، بعد سنواتٍ مِن الفرقة والقتال الذي وقع بيْن أبناء الأمة، وكان معاوية يرى -والله أعلم- أن الأمة يصعب أن تجتمع على شخصٍ واحدٍ بعد موته عن طريق الشورى، وكان يعلم أيضًا أن بني أمية لن ترضى بأحدٍ مِن غيرها.

وفي هذا الصدد يرى ابن خلدون أن الفترة النبوية هي فترة استثنائية، انتصر فيها الوازع الديني على الوازع العصبي (القبلي - العشائري)، الذي تقوم عليه الملك، لكن لما بدأ هذا الوازع يقل عند الناس كان لا بد مِن عودة قانون العصبية إلى مسار التاريخ" (انتهى).

فالذي دعا معاوية -رضي الله عنه- لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون مَن سواه: إنما هو مراعاة المصلحة في اجتماع الناس، واتفاقهم باتفاق أهل الحل والعقد عليه حينئذٍ مِن بني أمية؛ إذ بنو أمية يومئذٍ لا يرضون سواهم، وأما مَن بعدهم مِن لدن معاوية، فكانت العصبية قد أشرفتْ على غايتها مِن المُلك، والوازع الديني قد ضعف، فلو عهد إلى غير مَن ترتضيه العصبية لردتْ ذلك العهد وانتقض أمره سريعًا، وصارت الجماعة إلى الفُرقة والاختلاف، والقتال الذي توقف بيْن المسلمين يسهل أن يعود مرة أخرى، فمعاوية -رضي الله عنه- قد عدل عن الفاضل إلى المفضول حرصًا على الاتفاق واجتماع.

قال محب الدين الخطيب -رحمه الله- في تعليقه على "العواصم من القواصم": "عدل عن الوجه الأفضل لما كان يتوجس مِن الفتن والمجازر إذا جعلها شورى، وقد رأى القوة والطاعة والنظام والاستقرار في الجانب الذي فيه ابنه" (انتهى).

يروي الذهبي -رحمه الله- في تاريخ الإسلام: "خطب معاوية، فقال: اللهم إن كنتُ إنما عهدتُ ليزيد لما رأيتُ مِن فضله فبلغه ما أمَّلت وأعنه، وإن كنتُ إنما حملني حب الوالد لولده، وإنه ليس بأهل فاقبضه قبْل أن يبلغ ذلك".

ها هو معاوية -رضي الله عنه- يدعو في خُطبه بمثل هذا الدعاء، ويستمع إلى قول السامعين: آمين، بل لما تنازل حفيده معاوية الثاني عن الخلافة وتركها للأمة نشبت الخلافات بالفعل، ثم حسمها البيت الأموي لثاني مرة وأمسك بالحٌكم مروان بن الحكم، ولقد واجهت الدولة الأموية كثيرًا مِن الثورات وحركات الخروج والتمرد عليها، وكانت كثير مِن هذه الثورات يتزعمها أناس لهم ثقلهم الكبير ووزنهم الضخم في وجدان كل المسلمين، لكنها انتصرت عليهم برغم كل هذا، ومِن أقوى الثورات التي قامت ضد الدولة الأموية ثورة العراق بقيادة عبد الرحمن بن الأشعث، ودارت معارك طاحنة مثل معركة: "دير الجماجم"، حتى عرض عليهم عبد الملك أن يعزل الحجاج عن العراق إنْ كان هذا يرضيهم، لكن الثوار رفضوا ثم هزموا، واستطاعت الدولة الأموية القضاء على حركة الخوارج أيضًا في خراسان وما بعدها، واستقرت أمور الدولة وبدأت الفتوحات مِن جديدٍ في عهد عبد الملك بن مروان.

إذن، خلال عشرين سنة تقريبًا ظل البيت الأموي يواجِه ثوراتٍ متعددةٍ وقويةٍ، وقياداتها مِن كبار الزعماء، لكنها استطاعت أن تهزمها كلها ثم تستقر، ثم تبدأ في حركة الفتوحات... فأيُّ البيوت العربية كان يستطيع ذلك في هذا الوقت؟!

ومِن شهادة التاريخ أيضًا: أن الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-، مع كل تقواه وورعه وزهده، وتلك الطفرات التي أحدثها في الحكم والإدارة؛ إلا أننا لا نجد في أي مرجعٍ تاريخي أنه كان يستطيع إلغاء نظام الوراثة وإعادتها إلى الشورى، بل ورد عنه ما يفيد العجز عن هذا صراحة، فقد قال عند الموت: "لو كان لي مِن الأمر شيء ما عدوتُ بها القاسم بن محمد"، فبلغت هذه المقولة القاسم بن محمد، فترحم عليه، وقال: "إن القاسم ليضعف عن أهليه؛ فكيف يقوم بأمر أمة محمد؟!" (الطبقات الكبرى لابن سعد)، لكن الذي تولى الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز يزيد بن عبد الملك؛ بويع له بالخلافة بعد عمر بن عبد العزيز في رجب سنة إحدى ومائة، بعهدٍ مِن أخيه سُليمان بن عبد الملك على أن يكون الخليفة بعد عمر بن عبد العزيز.

إذن لابد أن نعلم أن الواقع يفرض نفسه أحيانًا؛ فعمر بن عبد العزيز -رحمه الله- كان يرى أن القاسم هو الأفضل، ولكن المصلحة كانت تقتضي خلاف ذلك؛ لذا نقول: لعل معاوية -رضي الله عنه- كان معذورًا فيما فعل، أو أنه اجتهد حسب معطيات الواقع آنذاك.

وقد فعل معاوية -رضي الله عنه- ذلك وهو يرى أن هذا هو الأصلح للأمة، وأن مقام اجتماع الأمة وعدم تفرقها أولى مِن أي اعتباراتٍ أخرى؛ فلقد اجتهد -رضي الله عنه- فلعله أصاب، ولعله أخطأ، وفي الحالتين هو مأجور -بإذن الله تعالى-، ولا يصح بأي حال مِن الأحوال إهدار فضل معاوية -رضي الله عنه-؛ فله في الإسلام سعي مشكور، وعمل مبرور، وآثار حسنة، وإن كان الأصل -كما ذكرنا- أن يكون الأمر شورى في المسلمين.


وختامًا، كانت هذه قراءة مختصرة حول بعض مسائل الملك والخلافة لعلها تساعدنا في إبراز بعض حقائق التاريخ.
والله المستعان.

ابو وليد البحيرى
2024-10-07, 11:14 PM
صفحات مِن ذاكرة التاريخ (41)
وفاة يزيد بن معاوية وخلافة معاوية بن يزيد، وبيعة ابن الزبير -رضي الله عنهما-

كتبه/ زين العابدين كامل


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فما زلنا نلقي الضوء على أحداث الفتن السياسية في عصر الصحابة -رضي الله عنهم-، وقد انتهينا سابقًا مِن ذكر تفاصيل الأحداث التي وقعتْ بعد موت معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه-، وما كان مِن أمر الحسين -رضي الله عنه-، ونستكمل في هذا المقال تفاصيل الأحداث.

وفاة يزيد بن معاوية وخلافة معاوية بن يزيد:

في عام 64 هـ - 683م توفي يزيد بن معاوية، وكانت وفاته بقرية مِن قرى حمص يُقال لها حوّارين مِن أرض الشام، لأربع عشرة ليلة خلت مِن ربيع الأول سنة 64هـ، وهو ابن ثمان وثلاثين سنة أو وهو ابن تسع وثلاثين، وكانت ولايته ثلاث سنين وستة أشهر أو ثمانية أشهر (تاريخ للطبري)، فتولى الخلافة بعده معاوية بن يزيد وهو ثالث الخلفاء الأمويين، ولد سنة 44هـ، ونشأ في بيت الخلافة، بويع له بالخلافة بعد موت أبيه، في رابع عشر ربيع الأول سنة أربع وستين هجرية.

ويختلف المؤرخون كثيرًا في المدة التي حكمها معاوية بن يزيد، ويتراوح الخلاف بيْن عشرين يومًا إلى ثلاثة أشهر (تاريخ الطبري)، وكان مريضًا مدة ولايته، ولهذا لم يؤثر له عمل ما مدة خلافته، حتى الصلاة، فإن الضحاك بن قيس هو الذي كان يصلي بالناس، ويسيّر الأمور، وظل الضحاك يصلي بالناس حتى بعد وفاة معاوية، حتى استقر الأمر لمروان بالشام.

ولما أحس معاوية بن يزيد بالموت نادي في الناس الصلاة جامعة، وخطب فيهم، وكان مما قال: "أيها الناس، إني قد وليت أمركم وأنا ضعيف عنه، فإن أحببتم تركتها لرجل قوي، كما تركها الصديق لعمر، وإن شئتم تركتها شورى في ستة كما تركها عمر بن الخطاب، وليس فيكم مَن هو صالح لذلك وقد تركت أمركم، فولوا عليكم مَن يصلح لكم، ثم نزل ودخل منزله، فلم يخرج حتى مات -رحمه الله تعالى-" (البداية والنهاية لابن كثير).

فقد أراد معاوية بن يزيد أن يقول لهم: إنه لم يجد مثل عمر، ولا مثل أهل الشورى، فترك لهم أمرهم يولون مَن يشاءون، وقد جاء ذلك صريحًا في رواية أخرى للخطبة عند ابن الأثير، قال فيها: "أما بعد، فإني ضعفت عن أمركم فابتغيت مثل عمر بن الخطاب حين استخلفه أبو بكر فلم أجده، فابتغيت ستة مثل ستة الشورى فلم أجدهم، فأنتم أولى بأمركم، فاختاروا له مَن أحببتم، ثم دخل منزله وتغيب حتى مات" (الكامل في التاريخ لابن الأثير).

واعتبر هذا الموقف منه دليلًا على عدم رضاه عن تحويل الخلافة مِن الشورى إلى الوراثة (العالم الإسلامي في العصر الأموي، عبد الشافي محمد عبد اللطيف، ص137)، فقد رفض أن يعهد لأحدٍ مِن أهل بيته حينما قالوا له: "اعهد إلى أحدٍ مِن أهل بيتك"، فقال: "والله ما ذقتُ حلاوة خلافتكم؛ فكيف أتقلد وزرها، وتتعجلون أنتم حلاوتها، وأتعجل مرارتها؟! اللهم إني بريء منها، مُتخلِّ عنها".

وجاء في رواية: "قيل له ألا توصي؟"، فقال: "لا أتزوّد مرارتها، واترك حلاوتها لبني أمية" (البداية والنهاية لابن كثير)، وتعتبر حادثة تنازل معاوية بن يزيد عن الخلافة حادثة نادرة في التاريخ الإنساني، وإذا كان معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- أول الخلفاء الأمويين قد حول الخلافة مِن الشورى إلى الملك، فإن حفيده معاوية الثاني، ثالث خلفاء الأمويين أيضًا، قد أعاد الخلافة مِن الملك العضوض إلى الشورى الكاملة، وإنه لمما يستوجب الإنصاف أن تصاغ القضية على هذا النحو بدلاً مِن التركيز على الشق الأول الخاص بتوريث الخلافة فقط (الدولة الأموية المفترى عليها، د.حمدي شاهين، ص293).

لقد مات معاوية بن يزيد عن إحدى وعشرين سنة. وقيل: ثلاث وعشرين سنة وثمانية عشر يومًا. وقيل: تسع عشرة سنة. وقيل عشرين سنة. وقيل ثلاث وعشرين سنة. وقيل غير ذلك.

بيعة عبد الله بن الزبير:

بعد موت يزيد بن معاوية لم يكن هناك مِن خليفة، وإذا كان يزيد قد أوصى لابنه معاوية، فإن هذا لا يكفي للبيعة، إضافة إلى أن الذين قد بايعوا معاوية بن يزيد لا يزيدون على دمشق وما حولها، ثم إن معاوية بن يزيد لم يعش طويلاً، وترك الأمر شورى، ولم يستخلف أحدًا، ولم يوصِ إلى أحدٍ، وكان عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما-، قد بويع له في الحجاز بعد موت يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، وكذا في العراق وما يتبعه إلى أقصى مشارق ديار الإسلام، وفي مصر وما يتبعها إلى أقصى بلاد المغرب، وبايعت الشام أيضًا إلا بعض جهات منها ولم يكن رافضًا بيعة ابن الزبير في الشام إلا منطقة البلقاء(الأردن) وفيها حسان بن مالك بن بحدل الكلبي (سير أعلام النبلاء)، وهكذا تّمت البيعة لعبد الله بن الزبير في ديار الإسلام، وأصبح الخليفة الشرعي، وعين نواّبه على الأقاليم، وتكاد تجمع المصادر على أن جميع الأمصار قد أطبقت على بيعة ابن الزبير خليفة للمسلمين.

قال ابن كثير -رحمه الله-: "ثم هو -أي ابن الزبير- الإمام بعد موت معاوية بن يزيد لا محالة، وهو أرشد مِن مروان بن الحكم، حيث نازعه بعد أن اجتمعت الكلمة عليه، وقامت البيعة له في الآفاق وانتظم له الأمر" (البداية والنهاية لابن كثير)، ويؤكد كلٌّ مِن ابن حزم (المحلى)، والسيوطي (تاريخ الخلفاء للسيوطي، ص212) شرعية ابن الزبير، ويعتبران مروان بن الحكم وابنه عبد الملك باغيين عليه، خارجين على خلافته، كما يؤكِّد الذهبي شرعية ابن الزبير ويعتبره أمير المؤمنين (سير أعلام النبلاء للذهبي 3/ 363)، وهذا الذي عليه المؤرخون والعلماء.


ونستكمل في المقال القادم -بإذن الله-.

ابو وليد البحيرى
2024-10-25, 10:02 AM
صفحات مِن ذاكرة التاريخ (42)

موقف أهل الشام مِن بيعة ابن الزبير







كتبه/ زين العابدين كامل


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فنستعرض في هذا المقال موقف أهل الشام مِن بيعة أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما-، وكيف تمت بيعة مروان بن الحكم في بلاد الشام.

موقف أهل الشام مِن بيعة ابن الزبير:

إن تنازل معاوية بن يزيد قد أحدث أزمة في الشام، فقد كان أخوه خالد بن يزيد صبيًّا صغيرًا، وكان أمر ابن الزبير قد استفحل وبايع له الناس مِن أنحاء الدولة، فرأى فريقٌ مِن جند الشام على رأسهم الضحاك بن قيس أمير دمشق أن يبايعوا لابن الزبير، وحتى مروان بن الحكم(1) كبير بني أمية فكَّر في الذهاب إلى ابن الزبير ليبايعه ويأخذ منه الأمان، ولكن سائر الجند والقادة بزعامة حسان بن مالك زعيم القبائل اليمنية الذين كانوا أقوى المؤيدين لبني أمية وهم أخوال يزيد رفضوا أن يخرج الأمر عن بني أمية وأن يبايعوا لابن الزبير، وهناك روايات تذكر أن مروان بن الحكم كان قد عزم على مبايعة ابن الزبير؛ لولا أن تدخل عبيد الله بن زياد وغيره في آخر لحظة وأثنوه عن عزمه، وأقنعوه أن يدعو لنفسه ولبث الشام ستة أشهر بدون إمام؛ نظرًا للاختلاف الشديد الذي وقع بيْن القبائل.

وأخيرًا: اتفق القوم على أن يعقدوا مؤتمرًا للشورى؛ ليبحثوا فيه مَن يصلح للخلافة، وحتى يصلوا في ذلك إلى قرارٍ، وانعقد المؤتمر في الجابية، وكانت أهم قرارات مؤتمر الجابية -بلدة مِن أعمال دمشق مِن ناحية الجولان قرب مرج الصفّر في شمالي حوران-، عدم مبايعة ابن الزبير, واستبعاد خالد بن يزيد بن معاوية مِن الخلافة؛ لأن البعض كان ينادي ببيعته، فتم استبعاده؛ لأنه صغير السن, ومبايعة مروان بن الحكم وهو الشيخ المحنك, ونجح مروان في لم الشمل بالشام بعد معركة مرج راهط(3)، وقد نجح كذلك في إعادة مصر إلى الحكم الأموي(2).

ثم دعا مروان بن الحكم بعد ذلك إلى أن يعهد لابنيه عبد الملك وعبد العزيز وذلك سنة 65هـ، ولم تدم مدة حكمه طويلًا، فقد توفي مروان بن الحكم بدمشق لثلاث خلون مِن شهر رمضان سنة 65هـ وهو ابن ثلاث وستين سنة, وصلى عليه ابنه عبد الملك, وكانت مدة حكمه تسعة أشهر وثمانية عشر يومًا (تاريخ الرسل والملوك للطبري).

ونستكمل في المقال القادم -بمشيئة الله تعالى-.

ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـ

(1) هو مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن شمس بن عبد مناف القرشي الأموي، أبو عبد الملك، ويقال: أبو الحكم، ويقال: أبو القاسم، وهو صحابي عند طائفة كثيرة؛ لأنه وُلِدَ في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-، أما ابن سعد فقد عَدَّه في الطبقة الأولى مِن التابعين.

روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- حديثًا في صلح الحديبية، والحديث في صحيح البخاري عن مروان والمسور بن مخرمة، كما روى مروان عن عمر وعثمان، وكان كاتبَه -أي كان كاتب عثمان-، وروى عن علي وزيد بن ثابت، وروى عنه ابنه عبد الملك وسهل بن سعد، وسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وعلي بن الحسين (زين العابدين) ومجاهد وغيرهم.

كان مروان بن الحكم مِن سادات قريش وفضلائها، وقد قاتل مروان يوم الدار قتالاً شديدًا، وقَتَلَ بعض الخارجين على عثمان، وكان على الميسرة يوم الجمل، وكان علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- يكثر السؤال عن مروان حين انهزم الناس يوم الجمل، يخشى عليه مِن القتل، فلما سُئِلَ عن ذلك قال: إنه يعطفني عليه رحم ماسة، وهو سيد مِن شباب قريش.

كان مروان قارئًا لكتاب الله، فقيهًا في دين الله، شديدًا في حدود الله، ومِن أجل ذلك: ولاه معاوية -رضي الله عنه- المدينة غير مرة، وأقام للناس الحج في سنين متعددة، كما كان مروان قضاءً يتتبع قضايا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وكان جوادًا كريمًا فقد روى المدائني عن إبراهيم بن محمد عن جعفر بن محمد أن مروان أسلف علي بن الحسين -رضي الله عنهما- حين رجع إلى المدينة بعد مقتل الحسين -رضي الله عنه- ستة آلاف دينار، فلما حضرته الوفاة أوصى إلى ابنه عبد الملك أن لا يسترجع مِن علي بن الحسين شيئًا، فبعث إليه عبد الملك بذلك فامتنع مِن قبولها، فألح عليه فقبلها، وقال: الشافعي: إن الحسن والحسين كان يصليان خلف مروان ولا يعيدانها، ويعتدان بها. وكان مروان حكيمًا ذا عقلٍ وكياسةٍ، ومما يدل على حكمته وعقله أنه كان أثناء ولايته على المدينة إذا وقعت مشكلة شديدة جمع مَنْ عنده مِن الصحابة فاستشارهم فيها، وهو الذي جمع الصيعان فأخذ بأعدلها فنسب إليه الصاع، فقيل: صاع مروان (انظر سير أعلام النبلاء للذهبي (3/ 476)، والبداية والنهاية لابن كثير (8/ 260).

وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في فتح الباري: "مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية ابن عم عثمان بن عفان، يقال له رؤية، فإن ثبتت فلا يعرج على مَن تكلم فيه، وقال عروة بن الزبير: كان مروان لا يٌتهم في الحديث، وقد روى عنه سهل بن سعد الساعدي الصحابي اعتمادًا على صدقه وإنما نقموا عليه أنه رمى طلحة يوم الجمل بسهم فقتله ثم شهر السيف في طلب الخلافة حتى جرى ما جرى، فأما قتل طلحة فكان متأولًا فيه كما قرره الاسماعيلي وغيره، وأما ما بعد ذلك فإنما حمل عنه سهل بن سعد وعروة وعلي بن الحسين وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث وهؤلاء أخرج البخاري أحاديثهم عنه في صحيحه لما كان أميرًا عندهم بالمدينة قبْل أن يبدو منه في الخلاف على ابن الزبير ما بدا، والله أعلم. وقد اعتمد حتى مالك على حديثه ورأيه والباقون سوى مسلم" (انتهى).

هذا وقدِ اختَلف العلماءُ في صِحَّة نِسبة رمْي مرْوان لطلحةَ يوم الجمل إلى فريقين: الفريق الأول: مَن ذهَب إلى أنَّ مَرْوان بنَ الحكَم ليس بقاتلِ طلحة بن عُبَيد الله، منهم: أبو بكر بن العربي وابن كثير، وظاهِر كلامِ ابنِ حزْم. واستدلوا: بأنَّه لم يصحَّ أثَر في قِصة رمْي مروان لطلحة. قال أبو بكر بن العربي: وقدْ رُوي أنَّ مروان لما وقعَتْ عينه في الاصطفافِ على طلحة، قال: لا أطلُب أثرًا بعد عَين، ورَماه بسهمٍ فقتَله، ومَن يعلم هذا إلاَّ علاَّمُ الغيوب؟! ولم ينقُلْه ثبْتٌ، وقد رُوي أنَّه أصابه سهمٌ بأمر مرْوان، لا أنَّه رماه، وقد خرَج كعبُ بن سور بمصحفٍ منشور بيدِه يُناشد الناسَ ألاَّ يريقوا دِماءَهم، فأصابه سهمٌ غرب فقتَلَه، ولعلَّ طلحةَ مِثله، ومعلومٌ أنَّه عند الفِتنة وفي ملحمة القتال، يتمكَّن أولو الإحَنِ والحقود، مِن حَلِّ العُرَى ونقض العهود، وكانت آجالاً حضرت، ومواعد انتجزَت.

وقال ابنُ كثير: يُقال: إنَّ الذي رماه بهذا السهم مَرْوان بن الحَكم، وقال لأبان بن عثمان: قدْ كفيتُك رجالاً مِن قتَلَةِ عثمان، وقد قيل: إنَّ الذي رماه غيرُه، وهذا عندي أقربُ، وإنْ كان الأوَّل مشهورًا، والله أعلم. الفريق الثاني: مَن ذهَب إلى أنَّ مرْوان بن الحَكم هو قاتلُ طلحة بن عُبيد الله، منهم: ابن قتيبة، والبلاذري وأحمد بن إسحاقَ اليعقوبي، وابن حِبَّان، والإسماعيلي والمطهِّر بن طاهِر، وابن عبد البر، والذَّهبي، والصَّفدي، وابن حجر العَسقلاني، والعيني، وابن تَغرِي بَرْدي، والسخاوي، وغيرهم، واستدلوا بوفرةِ وشُهرة الأدلَّة التي تناقلها المؤرِّخون.


(2) بعد السيطرة على الشام، خرج مروان بجيشه إلى مصر التي كانت قد بايعت عبد الله بن الزبير، فدخلها في غُرَّة جمادى الأولى سنة 65هـ، فأخذها من نائبها الذي كان لعبد الله بن الزبير، وهو عبد الرحمن بن جحدم، وولى ابنه عبد العزيز بن مروان عليها. وأقام مروان بن الحكم في مصر نحو شهرين ثم غادرها في أول رجب سنة 65هـ بعد أن وطَّد أمورها وأعادها ثانية للحكم الأموي (الكامل في التاريخ لابن الأثير (4/169)، والبداية والنهاية لابن كثير (11/ 679).

(3) انقسمت الشام معقل نفوذ الأمويين بيْن مبايعين لمروان بن الحكم ومبايعين لعبد الله بن الزبير، وعلى رأسهم: الضحاك بن قيس الذي سيطر على دمشق، وكان يَدعو لبيعة ابن الزبير، فهاجم مروان جيش الضحاك فواقعه بمرج راهط وهزمه، وقد استغرقت المعركة 20 يومًا، وانتهت بنصر مروان بن الحكم، ومقتل الضحاك، وكان ذلك في أواخر عام 64هـ (الكامل في التاريخ لابن الأثير (4/165)، والبداية والنهاية لابن كثير (11/ 669).

ابو وليد البحيرى
2024-11-13, 04:12 PM
صفحات مِن ذاكرة التاريخ (43)

عبد الملك بن مروان وصراعه مع أهل العراق





كتبه/ زين العابدين كامل

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد ذكرنا في المقال السابق كيف تمت البيعة لمروان في بلاد الشام، وكان ذلك في وجود الخليفة الشرعي عبد الله بن الزبير -رضي الله عنه-، ونستعرض في هذا المقال الأحداث بيْن عبد الملك بن مروان وأهل العراق.
عبد الملك بن مروان(1) وصراعه مع أهل العراق:
تولى عبد الملك بن مروان بعد وفاة أبيه، فبعث عبد الملك إلى عبيد الله بن زياد يقرُّه على ما ولاّه عليه أبوه مروان في العراق، وتقدم ابن زياد نحو العراق وهدفه إجلاء ولاة ابن الزبير، ولكنه اضطر إلى أن يغير خطته، فقد ظهر في الميدان أعداء جدد لم يكونوا في حسبان ابن زياد، وهم "التوابون"(2).
عَلِمَ التوّابون بقدوم ابن زياد إلى العراق، فرأوا الخروج لقتاله وقتل ابن زياد أخذًا بثأر الحسين، وكان عددهم في بادئ الأمر ستة عشر ألفًا، فلما جاء وقت العمل الجاد نكصوا وتقاعسوا حتى وصل عددهم إلى أربعة آلاف، وحتى الآلاف الأربعة الذين تجمعوا حول زعيم التوابين سليمان بن صرد تخلَّى عنه منهم ألف، وبقي معه ثلاثة آلاف فقط، أما جيش الشام فكان عدده ستين ألفًا، عليهم عبيد الله بن زياد ليعيد العراق إلى سلطان الأمويين بعد أن بسط حكمهم على الشام، فالتقى بالتوابين في عين الوردة مِن أرض الجزيرة، ودارت معركة غير متكافئة قُتِلَ فيها معظم التوابين وزعيمهم سليمان بن صرد، وكان عمر سليمان بن صرد -رضي الله عنه- يوم قٌتل ثلاثًا وتسعين سنة (البداية والنهاية 11/ 697)، وكان ذلك في ربيع الآخر سنة 65هـ -684م.
وفَرَّ الباقون عائدين إلى الكوفة لينضموا إلى المختار الثقفي(3) الذي انفرد بزعامة الشيعة؛ فقويت حركته وكثُر أتباعه، ثم ازداد مركزه قوة بانضمام إبراهيم بن الأشتر النخعي إليه -وهو مِن زعماء الكوفة-، فثار على عبد الله بن مطيع العدوي أمير الكوفة من قِبَلِ عبد الله بن الزبير فأخرجه منها، وأحكم سيطرته عليها، ولكي يثبت صحة دعواه في المطالبة بدم الحسين تتبع قتلته، فقتل معظمهم في الكوفة، ثم أعد جيشًا جعل على قيادته إبراهيم بن الأشتر، وأرسله إلى قتال عبيد الله بن زياد، فالتقى به عند نهر الخازر بالقرب مِن الموصل، وحلَّت الهزيمة بجيش ابن زياد الذي خَرَّ صريعًا في ميدان المعركة سنة 67هـ -686م (الكامل في التاريخ 2/ 7)، وكان مقتل عبيد الله بن زياد في يوم عاشوراء سنة سبع وستين, ثم بعث إبراهيم بن الأشتر برأس ابن زياد إلى المختار (تاريخ الرسل والملوك للطبري).
وتعاظم نفوذ المختار بعد انتصاره على ابن زياد، وسيطر على شمال العراق والجزيرة، وأخذ يولي العمال مِن قِبَله على الولايات ويجبي الخراج، وانضمَّ إليه عددٌ كبيرٌ مِن الموالي لبغضهم لبني أمية مِن ناحية؛ ولأنه أغدق عليهم الأموال مِن ناحية ثانية، وبدا كما لو أنه أقام دولة خاصة به في العراق بيْن دولتي: ابن الزبير في الحجاز، وعبد الملك بن مروان في الشام، ولكنه لم ينعم طويلًا بهذه الدولة.
كان المتوقع أن تكون نهاية المختار على يد عبد الملك بن مروان الذي وتره بقتل ابن زياد أبرز أعوانه، ولكن عبد الملك كان سياسيًّا حكيمًا، وقائدًا محنكًا، فقد ترك لابن الزبير مهمة القضاء على المختار؛ لأن عبد الملك كان يعلم أن ابن الزبير لا بد أن يتحرك للقضاء عليه (العالم الإسلامي في العصر الأموي ص 484)، فهو لا يسمح لنفوذ المختار أن يتسع ويهدد دولته؛ علمًا أن عبد الله بن الزبير هو الخليفة الشرعي ومِن حقه أن يقاتل مَن خرج عليه؛ فلذلك آثر عبد الملك بن مروان الانتظار؛ لأن نتيجة المواجهة ستكون حتمًا في صالحه، فسوف يقضي أحدهما على صاحبه، ومَن يبقى تكون قوته قد ضعفت فيسهل القضاء عليه.
وبالفعل حدث ما كان توقعه عبد الملك بن مروان، فالمختار لم يكتفِ بانتصاره على جيش عبد الملك وبَسْطِ نفوذه على شمال العراق والجزيرة، بل أخذ يُعِدُّ نفسه للسير إلى البصرة لانتزاعها مِن مصعب بن الزبير الذي أصبح واليًا عليها مِن قِبَل أخيه عبد الله بن الزبير، فسار مصعب بنفسه إلى المختار قبْل أن يُعاجِله في البصرة، والتقى به عند حروراء فدارت الدائرة على المختار فأسرع بالفرار إلى الكوفة، وتحصن بقصر الإمارة، إلا أن مصعبًا حاصره في القصر حتى قُتِلَ سنة 67هـ - 686م، وهكذا انتهت حركة هذا الكذاب الضال الذي كان همه الوصول إلى الحكم بأية وسيلة، ولم تنفعه ادعاءاته بحب آل البيت والطلب بثأرهم! فقد انكشفت حيله، وتخلى عنه أهل العراق وأسلموه إلى مصيره المحتوم.
وبعد أن استعاد ابن الزبير سيطرته على العراق كان مِن الطبيعي أن يحدث الصدام بينه وبيْن عبد الملك بن مروان، فعزم عبد الملك على السير إلى العراق وانتزاعها مِن ابن الزبير، وكان ذلك سنة 71هـ - 690م، وكان ذلك بعد أربع سنين مِن القضاء على المختار (الكامل في التاريخ 3/ 51)، ولعل عبد الملك بن مروان أخَّر هذا الصدام بينه وبيْن ابن الزبير إلى هذا الوقت؛ لكي يوطد دعائم حكمه في بلاد الشام، فقضى هذه السنين في حل بعض مشاكله، وبعد أن اطمأن عبد الملك إلى استقرار حكمه ببلاد الشام توجَّه لقتال مصعب بن الزبير، فنزل عبد الملك "مسكن" -بالفتح ثم السكون، وكسر الكاف، موضع قريب مِن أوانا على نهر دجيل عند دير الجاثليق- وزحف مصعب نحو باجميرا، وعلى مقدمة جيشه إبراهيم بن الأشتر، ثم أخذ عبد الملك يكاتب زعماء أهل العراق مِن جيش مصعب يعدهم ويمنيهم، بل إن عبد الملك بن مروان صرَّح أن كتب أهل العراق أتته يدعونه إليهم قبْل أن يكاتبهم هو -وهذا ليس غريبًا عن أهل العراق- وفي الوقت الذي كان عبد الملك يكاتب فيه زعماء أهل العراق مِن قواد مصعب والذين قبلوا التخلي عنه والانضمام إلى عبد الملك، كان حريصًا على ألا يقاتل مصعبًا للمودة والصداقة القديمة التي كانت بينهما؛ فأرسل إليه رجلًا مِن كلب وقال له: "أقرئ ابن أختك السلام -وكانت أم مصعب كلبية- وقل له: يَدَع دعاءه إلى أخيه، وأدَعُ دعائي إلى نفسي، ويُجْعَل الأمرُ شورى. فقال له مصعب: قل له: السيف بيننا" (الكامل في التاريخ 3/ 52، البداية والنهاية 8 /316).
ثم حاول عبد الملك محاولة أخرى: فأرسل إليه أخاه محمدًا ليقول له: "إن ابن عمك يعطيك الأمان"، فقال مصعب: "إن مثلي لا ينصرف عن مثل هذا الموقف إلا غالبًا أو مغلوبًا" (تاريخ الرسل والملوك 7/ 45)، ثم دارت المعركة، وقُتل إبراهيم بن الأشتر وقٌتل معه جماعة مِن الأمراء، وجعل مصعب ينادي في أتباعه بأن يتقدموا إلى الأمام فلا يتحرك أحد، فجعل يقول: "يا إبراهيم، ولا إبراهيم لي اليوم!"، وبدأت خيانات أهل العراق تظهر، وتخلى أهل العراق عن مصعب وخذلوه حتى لم يبقَ معه سوى سبعة رجال! (الكامل في التاريخ لابن الأثير 3/ 53-54)، ولكنه ظل يقاتل في شجاعة وبسالة حتى أثخنته الجراح، وأخيرًا قتله عبيد الله بن زياد بن ظبيان، وكان مقتله في المكان الذي دارت فيه المعركة على قصر دجيل عند دير الجاثليق في جمُادَى الآخرة سنة 72هـ - 691م.
فلما بلغ عبد الملك مقتله سجد شكرًا لله، وقال: "واروه، فقد والله كانت الحرمة بيننا قديمة"، وقد كان عبد الملك يحب مصعبًا حبًّا شديدًا، وكان خليلًا له قبْل الخلافة، ولما وضع رأس مصعب بين يدي عبد الملك, بكى وقال: "متى تلد النساء مثل مصعب، ما كنتُ أقدر أن أصبر عليه ساعة واحدة مِن حبي له, حتى دخل السيف بيننا، ولكن هذا المُلْك عقيم" (تاريخ الرسل والملوك للطبري 7/ 44)، والبداية والنهاية 8/ 321)، وكان ابن ظبيان فاتكًا رديئًا، وكان يقول: "ليتني قتلت عبد الملك حين سجد يومئذٍ؛ فأكون قد قتلت ملكي العرب!".
وبمقتل مصعب عادت العراق إلى حظيرة الدولة الأموية، وعيَّن عبد الملك أخاه بشرًا واليًا عليها، وقبْل أن يغادرها أَعَدَّ جيشًا للقضاء على عبد الله بن الزبير في مكة.
هذا ونشير إلى أن مِن أهم أسباب هزيمة مصعب بن الزبير: خيانة أهل العراق لاسيما بعض قادة الجيش، ومَن تبعهم، ثم إنهاك الجيش في معارك كثيرة طاحنة وشديدة، وربما كذلك عدم مد الخليفة عبد الله بن الزبير أخاه بالقوات قدر المستطاع؛ لا سيما مع كثرة العدد والعدة في جيش عبد الملك، ثم إقباله على القتال بعد انسحاب معظم الجيش، فكان لابد مِن نظرةٍ واقعيةٍ للواقع، وإعمال فقه الموازنات.
ونستكمل في المقال القادم -بمشيئة الله تعالى-.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــ ــــــــــــــ
(1) هو عبد الملك بن الحكم بن أبي العاص بن أمية, أبو الوليد الأموي, وأمه عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية، ولد سنة 26هـ في خلافة عثمان، شهد يوم الدار وعمره عشر سنوات، وكان أميرًا على أهل المدينة وله ست عشرة سنة، ولاه إياها معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه-، وكان يجالس الفقهاء والعلماء والعباد والصلحاء.
روى عبد الملك بن مروان الحديث عن أبيه، وجابر، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وابن عمر، ومعاوية، ويزيد بن معاوية، وأم سلمة، وبريرة مولاة عائشة -رضي الله عنهم أجمعين-. وروى عنه جماعة، منهم: خالد بن معدان، وعروة بن الزبير، والزهري، وعمرو بن الحارث، ورجاء بن حيوة، وجرير بن عثمان وثعلبة بن أبي مالك القرظي، وربيعة بن يزيد، ويونس بن ميسرة، وابنه محمد بن عبد الملك -رحمهم الله تعالى-، روى ابن سعد بسنده أَنَّ معاوية بن أبي سفيان جلس ذات يوم ومعه عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-، فمر بهما عبد الملك بن مروان فقال معاوية: ما آدَبَ هذا الفتى وأحسن مُرُوَّتَهُ؟ فقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين إن هذا الفتى أخذ بخصال أربع، وترك خصالًا ثلاث: "أَخَذَ بِحُسْنِ الْحَدِيثِ إِذَا حَدَّثَ، وَحُسْنِ الِاسْتِمَاعِ إِذَا حُدِّثَ، وَحُسْنِ الْبِشْرِ إِذَا لَقِيَ، وَخِفَّةِ الْمُئُونَةِ إِذَا خُولِفَ. وَتَرَكَ مِنَ الْقَوْلِ مَا يَعْتَذِرُ مِنْه، وَتَرَكَ مُخَالَطَةَ اللِّئَامِ مِنَ النَّاسِ، وَتَرَكَ مُمَازَحَةَ مَنْ لَا يُوثَقُ بِعَقْلِهِ وَلَا مُرُوَّتِه" (الطبقات الكبرى 5/ 224). وعن الشعبي، قال: "ما جالستُ أحدًا إلا وجدت لي الفضل عليه إلا عَبد المَلِك بن مروان فإني ما ذاكرته حديثًا إلا زادني فيه، ولا شعرًا إلا زادني فيه". وقال الأصمعي: "قيل لعبد الملك: عجل بك الشيب. قال: وكيف لا وأنا أعرض عقلي على الناس في كل جمعة" (تهذيب الكمال في أسماء الرجال).
اشتهر عبد الملك بن مروان بالعلم والفقه والعبادة، فقد كان أحد فقهاء المدينة الأربعة، قال الأعمش عن أبي الزناد: "كان فقهاء المدينة أربعة: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وقبيصة بن ذؤيب، وعبد الملك بن مروان". حتى قال نافع مولى عبد الله بن عمر: " أدركت المدينة وما بها شاب أنسك، ولا أشد تشميرًا، ولا أكثر صلاة، ولا أطلب للعلم، ولا أفقه ولا أقرأ لكتاب الله مِن عبد الملك بن مروان".
وعن ابن عمر أنه قال: "ولد الناس أبناء، وولد مروان أبًا يعني عبد الملك!"، ورآه يومًا وقد ذكر اختلاف الناس، فقال: "لو كان هذا الغلام اجتمع الناس عليه". وقال رجاء بن أَبي سلمة، عن عبادة بن نسي: "قيل لابن عمر: إنكم معشر أشياخ قريش يوشك أن ينقرضوا، فمن نسأل بعدكم. فقال: إن لمروان ابنًا فقيهًا فسلوه" (تاريخ بغداد 10/ 388).
وقد عُرف عن عبد الملك بن مروان فقهه وتقواه وملازمته لكتاب الله، فكان يسمى حمامة المسجد؛ لحرصه على المكث فيه، ومداومته قراءة القرآن، وقد استشهد الإمام مالك في الموطأ بفقهه وأحكامه وقضاياه، قال أبو بكر بن العربي: "فهذا مالك -رضي الله عنه- قد احتج بقضاء عبد الملك بن مروان في موطئه وأبرزه في جملة قواعد الشريعة... وأخرج البخاري عن عبد الله بن دينار قال: شهدت ابن عمر حيث اجتمع الناس على عبد الملك بن مروان كتب: "إني أقر بالسمع والطاعة لعبد الملك أمير المؤمنين على سنة الله وسنة رسوله ما استطعت، وإن بني قد أقروا بمثل ذلك" (العواصم مِن القواصم).
وكان عبد الملك بن مروان يحض الناس في خلافته على طلب العلم، فيقول: "إن العلم سيقبض قبضًا سريعًا، فمَن كان عنده علم فليظهره غير غال فيه ولا جاف عنه"، وكان يجد في الأذكار الصالحة، ويوصي بذلك أصحابه، فقد روي ابن أبي الدنيا أن عبد الملك كان يقول لمَن يسايره في سفره إذا رفعت له شجرة: سبحوا بنا حتى تأتي تلك الشجرة، كبروا بنا حتى تأتي تلك الشجرة، ونحو ذلك (البداية والنهاية 9/ 64)، وكان في حياته الخاصة قد ترك سبل اللهو مِن الشراب والخمر والموسيقى والغناء، وقال الأصمعي عن أبيه عن جده: "وخطب عبد الملك يومًا خطبة بليغة، ثم قطعها وبكى بكاءً شديدًا، ثم قال: يا رب إن ذنوبي عظيمة، وإن قليل عفوك أعظم منها، اللهم فامح بقليل عفوك عظيم ذنوبي، فبلغ ذلك القول زاهد العراق الحسن البصري فبكى، وقال: لو كان كلام يكتب بالذهب لكتب هذا الكلام" (البداية والنهاية 9/ 67)، وقال الشعبي: خطب عبد الملك، فقال: "اللهمّ إن ذنوبي عظام، وهي صغار في جنب عفوك، فأغفرها لي يا كريم" (تاريخ الإسلام للذهبي 6/146).
(2) التوابون مجموعة مِن الشيعة، كان كثير منهم ممَن كتبوا إلى الحسين بن علي وهو في مكة بعد موت معاوية ليسير إليهم في الكوفة؛ فلما سار إليهم خذلوه وتخلوا عن نصرته، وأسلموه إلى المصير المؤلم الذي آل إليه، ولكن بعد استشهاده هزتهم الفاجعة، وعضهم الندم على تقصيرهم نحوه، فلم يجدوا طريقة يكفِّرون بها عن هذا التقصير الكبير، ويتوبون إلى الله بها مِن هذا الذنب العظيم سوى الثأر للحسين بقتل قتلته، فسُمُّوا بذلك: التوابين، وتزعمهم سليمان بن صرد الخزاعي، وسموه: أمير التوابين، وعلَّق ابن كثير على جيش التوابين بقوله: "لو كان هذا العزم والاجتماع قبْل وصول الحسين إلى تلك المنزلة لكان أنفع له وأنصر مِن اجتماعهم لنصرته بعد أربع سنين!" (البداية والنهاية 11/ 697).
(3) هو المختار بن أبي عبيد الثقفي الكذَّاب, كان والده الأمير أبو عبيد بن مسعود بن عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة الثقفي, أسلم في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-, ولم تعلم له صحبة, استعمله عمر بن الخطاب على جيشٍ, فغزا العراق, وإليه تنسب وقعة جسر أبي عبيد, ونشأ المختار فكان مِن كبراء ثقيف, وذوي الرأي والفصاحة والشجاعة والدهاء، لكن قد تغيرت أحواله فيما بعد، وكان يزعم أن الوحي ينزل عليه على يد جبريل يأتي إليه، ظهر المختار بن أبي عبيد الثقفي على مسرح الأحداث بعد موت يزيد بن معاوية سنة 64هـ, وهو مِن الشخصيات التي حفل بها العصر الأموي, والتي كانت تسعى لها عن دور, وتسعى إلى السلطان بأي ثمن، فتقلب مِن العداء الشديد لآل البيت على ادعاء حبهم والمطالبة بثأر الحسين (البداية والنهاية 11/ 66).

ابو وليد البحيرى
2024-11-28, 08:22 PM
صفحات مِن ذاكرة التاريخ (44)

عبد الملك بن مروان وصراعه مع عبد الله بن الزبير







كتبه/ زين العابدين كامل


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد ذكرنا في المقال السابق أحداث الصراع بيْن عبد الملك وأهل العراق، والتي انتهت بمقتل مصعب -رحمه الله-، ولما بلغ عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- قتل أخيه مصعب، قام فخطب في الناس، فقال: "الحمد لله الذي له الخلق والأمر، يؤتي الملك مَن يشاء، وينزع الملك ممَن يشاء، ويعز مَن يشاء، ويذل مَن يشاء؛ ألا إنه لن يذل الله مَن كان الحق معه، وإن كان فردًا، ولن يعز مَن كان وليه الشيطان وحزبه وإن كان معه الأنام طُرًّا -أي جميعًا-، ألا وإنه قد أتانا مِن العراق خبر أحزننا وأفرحنا، أتانا قتل مصعب -رحمه الله- فأما الذي أفرحنا فعلمنا أن قتله له شهادة، وأما الذي أحزننا فإن لفراق الحميم لوعة يجدها حميمه عند المصيبة، ثم يرعوي بعدها ذو الرأي إلى جميل الصبر، وكريم العزاء، ولئن أصبت بمصعبٍ، لقد أصبت بالزبير قبله، وما أنا مِن عثمان بخلو مصيبة، وما مصعب إلا عبد مِن عبيد الله، وعون مِن أعواني، إلا أن أهل العراق -أهل الغدر والنفاق- أسلموه وباعوه بأقل الثمن، فإن يقتل فإنا -والله- ما نموت على مضاجعنا كما تموت بنو العاص، والله ما قتل منهم رجل في زحف في الجاهلية ولا الإسلام، وما نموت إلا قعصًا -القعص: الموت السريع- بالرماح، وموتًا تحت ظلال السيوف؛ ألا إنما الدنيا عارية مِن الملك الأعلى الذي لا يزول سلطانه، ولا يبيد ملكه، فإن تقبل لا آخذها أخذ الأشِر البطر، وإن تدبر لا أبكي عليها بكاء الحَرِق المهين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم" (تاريخ الرسل والملوك).

وبعد مقتل مصعب انحصرت دولة ابن الزبير في الحجاز، ولم يكن في استطاعته الصمود لافتقاره إلى المال والرجال، كما أن مقتل أخيه مصعب قد فَتَّ في عَضُدِه، ولكنه لم يُلْقِ الراية، وظل يقاوم حتى النهاية، وقد واجَه ابن الزبير عدة حملات عسكرية مِن الشام كحملة ابن دلجة القيني التي أتت في أواخر عهد مروان مِن الشام لقتال ابن الزبير، واستطاع ابن الزبير أن يتغلب على هذا الجيش (أنساب الأشراف للبلاذري)، ثم جاءت حملة عروة بن أنيف في ستة آلاف إلى المدينة، وأمرهم عبد الملك ألا ينزلوا على أحدٍ، ولا يدخلوا المدينة إلا لحاجة ضرورية وأن يعسكروا "بالعَرْصة" -البقعة الواسعة بيْن الدور لا بناء فيها، وهما عرصتان بنواحي المدينة بالعقيق-، وسار عروة بن أنيف وعسكر بالعرصة، ومكث عروة على هذا الوضع شهرًا، ولم يبعث إليه ابن الزبير أحدًا، ولم تحدث أي مواجهة بين جيشي عروة وابن الزبير، عندها أمر عبد الملك هذا الجيش بالعودة إلى الشام فرجع، ثم كانت حملة عبد الملك بن الحارث بن الحكم، وكان قوامها أربعة آلاف، وكانت مهمتها الحفاظ على المنطقة ما بيْن الشام والمدينة، ثم كانت حملة طارق بن عمرو، وكانت هذه الحملة هي آخر حملة وجهها عبد الملك بن مروان تجاه الحجاز (الدولَة الأمويَّة عَواملُ الازدهارِ وَتَداعيات الانهيار)، ثم لم يضع عبد الملك بن مروان وقتًا بعد انتصاره على مصعب، وقرر أن يقضي نهائيًّا على دولة ابن الزبير (العالم الإسلامي في العصر الأموي، عبد الشافي محمد عبد اللطيف).

ووقع الخيار لقيادة الجيش للقضاء على ابن الزبير على الحجاج بن يوسف، وتوجَّه بجيشه إلى الحجاز واستقر بالطائف، وبدأ يرسل بعض الفرق العسكرية إلى مكة، وكان ابن الزبير يرسل إليه بمثلها فيقتتلون وتعود كل فرقة إلى معسكرها، وفي محاولة لإنهاك ابن الزبير قام الحجاج بفرض حصار اقتصادي على مكة، وقد أثر هذا الحصار على ابن الزبير، وأصابت الناس مجاعة شديدة حتى إن ابن الزبير اضطر إلى ذبح فرسه ليطعم أصحابه (أنساب الأشراف للبلاذري)، وفي الوقت نفسه كانت العير تحمل إلى أهل الشام مِن عند عبد الملك، السويق، والكعك والدقيق، وقد ترتب على تردي الأحوال داخل مكة، أن بدأ التخاذل يدب بيْن أنصار ابن الزبير، وبدأوا ينسحبون واحدًا تلو الآخر.

ومما شجَّع على تخاذل هؤلاء: إعطاء الحَجّاج الأمان لكل مَن كف عن القتال، وانسحب مِن جيش ابن الزبير (أنساب الأشراف للبلاذري)، وأراد الحجاج بن يوسف الثقفي أن ينهي أمر ابن الزبير فكتب إلى عبد الملك بن مروان يطلب منه الإذن بقتاله ومناجزته، فأجابه عبد الملك بقوله: افعل ما ترى (أنساب الأشراف للبلاذري)، فتوجه الحجاج ابن يوسف بجميع جيشه إلى مكة ونصب المنجنيق على جبالها (تاريخ مكة المشرفة والمسجد الحرام والمدينة الشريفة والقبر الشريف لابن الضياء)، وبدأ يضرب ابن الزبير داخل الحرم ضربًا متواصلاً (أخبار مكة في قديم الدهر وحديثه للفاكهي)، وفي الوقت نفسه كانت بقية جيشه يقاتلون البقية الباقية مع ابن الزبير.

وتوسط بعض أعيان مكة "وعلى رأسهم ابن عمر" لدى الحجاج طالبين إليه أن يكف عن استعمال المنجنيق، فأجابهم: "والله إني لكاره لما ترون، ولكن ماذا أصنع وقد لجأ هذا إلى البيت؟ وكانت وفود الحج قد جاءت إلى مكة مِن كافة الأقطار الإسلامية، وقد منعهم مِن الطواف حول البيت ما يتعرض له الطائفون مِن خطر المنجنيق، ولما كان في ذلك تعطيل لركنٍ مِن أركان الحج، فقد تدخل في الأمر ابن عمر فكتب إلى الحجاج يقول له: اتقِ الله، فإنك في شهر حرام، وبلد حرام، وقد قدمت وفود الله مِن أقطار الأرض ليؤدوا فريضة الله، ويزدادوا خيرًا" (أنساب الأشراف للبلاذري)، فأرسل الحجاج إلى طارق بن عمرو بأن يكف عن استعماله حتى ينتهي الناس مِن الحج، وقال لهم: والله إني لكاره لما ترون، ولكن ابن الزبير لجأ إلى البيت، وبعد ما انتهى موسم الحج، نادى الحجاج في الناس بالانصراف إلى البلاد، وأن القتال سيستأنف ضد ابن الزبير" (أنساب الأشراف للبلاذري).

وذكر غير واحد أنهم لما رموا بالمنجنيق جاءت الصواعق والبروق والرعود حتى جعلت تعلو أصواتها على صوت المنجنيق، ونزلت صاعقة فأصابت مِن الشاميين اثني عشر رجلًا؛ فضعفت عند ذلك قلوبهم عن المحاصرة، فلم يزل الحجاج يشجعهم ويقول: "إني خبير بهذه البلاد، هذه بروق تهامة ورعودها وصواعقها، وإن القوم يصيبهم مثل الذي يصيبكم، وجاءت صاعقة مِن الغد فقتلت مِن أصحاب ابن الزبير جماعة كثيرة أيضًا، فجعل الحجاج يقول: ألم أقل لكم: إنهم يصابون مثلكم، وأنتم على الطاعة وهم على المخالفة" (البداية والنهاية لابن كثير).

ويروي البلاذري: أن العديد ممَن كانوا مع ابن الزبير حاولوا إقناعه بقبول أمان الحجاج بن يوسف، فلم يستجب ابن الزبير لمحاولاتهم، وأصر على القتال، وقد سطرت الروايات مواقف بطولية رائعة لابن الزبير -رضي الله عنه- في مواجهة كتائب الحجاج، وبالفعل بدأ الحجاج يضرب بعد انصراف الناس، وشدد على ابن الزبير، وتحرج موقفه وانفض عنه معظم أصحابه، وما زال أهل مكة يخرجون إلى الحجاج بالأمان ويتركون ابن الزبير حتى خرج إليه قريب مِن عشرة آلاف، فأمنهم وقل أصحاب ابن الزبير جدًّا، حتى خرج ابناه حمزة وخبيب، اللذان ذهبا إلى الحجاج وأخذا منه الأمان لأنفسهما! (الكامل في التاريخ لابن الأثير).

فلما رأى ابن الزبير ذلك دخل على أمه فقال لها: "يا أمه، خذلني الناس حتى ولديّ وأهلي، فلم يبقَ معي إلا اليسير ممَن ليس عنده مِن الدفع أكثر مِن صبر ساعة، والقوم يعطونني ما أردتُ مِن الدنيا، فما رأيك؟! فقالت: أنتَ -والله- يا بني أعلم بنفسك، إن كنتَ تعلم أنك على الحق وإليه تدعو فامضِ له، فقد قٌتل عليه أصحابك، ولا تمكِّن مِن رقبتك يلعب بها غلمان بني أمية، وإن كنتَ إنما أردتَ الدنيا فبئس العبد أنت، أهلكت نفسك، وأهلكت مَن قٌتل معك، وإن قلتَ: كنتُ على حقٍّ فلما وهن أصحابي ضعفت، فهذا ليس مِن فعل الأحرار، ولا أهل الدين، وكم خلودك في الدنيا، القتل أحسن، والله لضربة بالسيف في عزٍّ، أحب إلي مِن ضربة بسوط في ذلٍّ، قال: إني أخاف إن قتلوني أن يمثِّلوا بي، قالت: يا بني إن الشاة لا يضرها سلخها بعد ذبحها" (جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة، أحمد زكي صفوت).

فدنا منها وقبَّل رأسها، وقال: "هذا والله رأيي، والذي قمت به داعيًا إلى يومي هذا، ما ركنتُ إلى الدنيا، ولا أحببت الحياة فيها، وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله أن تستحل حرمته، ولكني أحببت أن أعلم رأيك، فزدتيني بصيرة مع بصيرتي، فانظري يا أماه فإني مقتول مِن يومي هذا، فلا يشتد حزنك وسلمي الأمر لله، فإن ابنك لم يتعمد منكرًا، ولا عمل بفاحشة قط، ولم يجر في حكم الله، ولم يغدر في أمان، ولم يتعمد ظلم مسلم ولا معاهد، ولم يبلغني ظلم عن عمالي فرضيت به، بل أنكرته، ولم يكن شيء آثر عندي مِن رضا ربي، اللهم إني لا أقول هذا تزكية مني لنفسي، أنت أعلم بي، ولكن أقوله تعزية لأمي لتسلو عني، فقالت أمه: إني لأرجو مِن الله أن يكون عزائي فيك حسنًا إن تقدمتني، وإن تقدمتك ففي نفسي، اخرج حتى أنظر إلى ما يصير أمرك.

قال: جزاك الله يا أمه خيرًا، فلا تدعي الدعاء لي قبْل وبعد.

فقالت: لا أدعه أبدًا، لمَن قُتل على باطلٍ فقد قٌتلت على حق، ثم قالت: اللهم ارحم طول ذلك القيام في الليل الطويل، وذلك النحيب والظمأ في هواجر المدينة ومكة، وبره بأبيه وبي، اللهم قد سلمته لأمرك فيه، ورضيت بما قضيت فأثبني في عبد الله ثواب الصابرين الشاكرين" (تاريخ الرسل والملوك).

فتناول يديها ليقبلها فقالت: "هذا وداع فلا تبعد. فقال لها: جئتُ مودعًا؛ لأني أرى هذا آخر أيامي مِن الدنيا، قالت: امضِ على بصيرتك وادن مني حتى أودّعك. فدنا منها فعانقها وقبلها، ثم أخذته إليها فاحتضنته لتودعه، واعتنقها ليودعها، وكانت قد أضرت في آخر عمرها، فوجدته لابسًا درعًا مِن حديد، فقالت: يا بني، ما هذا لباس مَن يريد ما تريد مِن الشهادة. فقال: يا أماه، إنما لبسته لأطيب خاطرك، وأسكن قلبك به. فقالت: لا يا بني، ولكن انزعه. فنزعه، وجعل يلبس بقية ثيابه ويتشدد، وهي تقول: شمر ثيابك. وجعل يتحفظ مِن أسفل ثيابه؛ لئلا تبدو عورته إذا قتل، وجعلت تذكره بأبيه الزبير، وجده أبي بكر الصديق، وجدته صفية بنت عبد المطلب، وخالته عائشة زوج رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وترجيه القدوم عليهم إذا هو قُتل شهيدًا، ثم خرج مِن عندها، فكان ذلك آخر عهده بها -رضي الله عنهما- وعن أبيه وأبيها، ثم قالت: امضِ على بصيرة فودعها وخرج" (البداية والنهاية لابن كثير)، قال مصعب بن ثابت: "فما مكثتْ بعده إلا عشرًا"، ويقال: خمسة أيام (تاريخ الرسل والملوك للطبري).


ونستكمل في المقال القادم -بمشيئة الله تعالى-.

ابو وليد البحيرى
2025-01-01, 11:10 PM
صفحات مِن ذاكرة التاريخ (45)

استشهاد ابن الزبير -رضي الله عنهما







كتبه/ زين العابدين كامل


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد ذكرنا في المقال السابق ما كان مِن أمر عبد الله بن الزبير -رضى الله عنهما- وحديثه مع أمه أسماء -رضي الله عنها-، وقد قرر ابن الزبير أن يستمر في المواجهة ولو أدى ذلك إلى مقتله.

كان ابن الزبير -رضي الله عنهما- يخرج مِن باب المسجد الحرام، وهناك خمسمائة فارس وراجل، فيحمل عليهم فيتفرقون عنه يمينًا وشمالًا، ولا يثبت له أحد، وكانت أبواب الحرم قد قل مَن يحرسها مِن أصحاب ابن الزبير، وكان لأهل حمص حصار الباب الذي يواجه باب الكعبة، ولأهل دمشق باب بني شيبة، ولأهل الأردن باب الصفا، ولأهل فلسطين باب بني جمح، ولأهل قنسرين باب بني سهم، وعلى كل باب قائد، ومعه أهل تلك البلاد، وكان الحجاج وطارق بن عمرو في ناحية الأبطح -المكان المتَّسعُ يَمُرّ به السيل، فيترك فيه الرملَ والحصى الصغار ومنه أَبطح مكَّة، هو مسيل واسع يقع بيْن مكة ومنى-، وكان ابن الزبير لا يخرج على أهل باب إلا فرقهم وبدد شملهم (البداية والنهاية لابن كثير).

وفي آخر يوم مِن حياته صلى ركعتي الفجر ثم تقدم وأقام المؤذن فصلى بأصحابه فقرأ: (ن وَالْقَلَمِ) (القلم:1)، حرفًا حرفًا، ثم سلم فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم خطب خطبة بليغة، ثم قال: "احملوا على بركة الله". ثم حمل عليهم حتى بلغ بهم الحجون -جبل بأعلى مكة- فرُمي بحجر، فأصاب جبهته، فسقط، ودمي وجهه (الأخبار الطوال للدينوري، ص 315)، وقاتلهم قتالًا شديدًا، فتعاونوا عليه فقتلوه يوم الثلاثاء مِن جمادى الآخرة وله ثلاث وسبعون سنة (تاريخ الرسل والملوك للطبري)، وتولى قتله رجل مِن قبيلة مراد، وحمل رأسه إلى الحجاج، فخر ساجدًا -قبحه الله-، وسار الحجاج وطارق بن عمرو حتى وقفا عليه، فقال طارق: "ما ولدت النساء أذكر مِن هذا!". فقال الحجاج: "أتمدح مخالف أمير المؤمنين؟ قال: نعم، هو أعذر لنا، ولولا هذا لما كان لنا عذر، إنا محاصروه منذ سبعة أشهر وهو في غير جند ولا حصن ولا منعة فينتصف منا، بل يفضل علينا، فبلغ كلامهما عبد الملك فصوب طارقًا" (الكامل في التاريخ 3/ 73).

وقد ذٌكر أن ابن الزبير في يوم استشهاده قال: "ما أُراني اليوم إلا مقتولاً، لقد رأيتُ في ليلتي كأن السماء فرجت لي فدخلتها، فقد -والله- مللت الحياة وما فيها" (سير أعلام النبلاء، 3/ 378)، ولما قٌتل عبد الله خرجتْ إليه أمه حتى وقفت عليه، وهي على دابة، فأقبل الحجاج في أصحابه فسأل عنها فأخبر بها، فأقبل حتى وقف عليها فقال: "كيف رأيت نصر الله الحق وأظهره؟ قالت: ربما أُديل الباطل على الحق، فقال: إن ابنك ألحد في هذا البيت، وقد قال الله -تعالى-: (وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) (الحج:25)، وقد أذاقه الله ذلك العذاب الأليم! قالت: كذبت، كان أول مولود ولد في الإسلام بالمدينة، وسُرّ به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وحنكه بيده وكبر المسلمون يومئذٍ حتى ارتجت المدينة فرحًا به، وقد فرِحتَ أنت وأصحابك بمقتله، فمَن كان فرح يومئذ خير منك ومِن أصحابك، وكان مع ذلك برًّا بالوالدين، صوامًا قوامًا بكتاب الله، معظمًا لحُرم الله، يُبْغِض أن يُعصى الله -عز وجل-" (البداية والنهاية لابن كثير).

وقد دافعت عن ابنها دفاعًا مجيدًا؛ فانكسر الحجاج وانصرف، فبلغ ذلك عبد الملك، فكتب إليه يلومه في مخاطبته أسماء -رضي الله عنها-، وقال: "مالك ولابنة الرجل الصالح" (البداية والنهاية لابن كثير).

وقيل: إن الحجاج دخل عليها بعد أن قتل ابنها فقال: "يا أماه، إن أمير المؤمنين أوصاني بك فهل لكِ مِن حاجة؟ فقالت: لستُ لك بأم، إنما أنا أم المصلوب على الثنية، وما لي من حاجة، ولكن أحدثك إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إِنَّ فِي ثَقِيفٍ كَذَّابًا وَمُبِيرًا) فَأَمَّا الْكَذَّابُ فَرَأَيْنَاهُ، وَأَمَّا الْمُبِيرُ -الذي يسفك الدماء، ويعتدي على الناس، ويظلمهم- فَلَا إِخَالُكَ إِلَّا إِيَّاهُ. (رواه مسلم).

ولما قتل ابن الزبير ارتجت مكة بكاءً على عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما-، فخطب الحجاج الناس، فقال: "أيها الناس، إن عبد الله بن الزبير كان مِن خيار هذه الأمة حتى رغب في الخلافة، ونازعها أهلها، وألحد في الحرم، فأذاقه الله مِن عذاب أليم، وإن آدم كان أكرم على الله مِن ابن الزبير، وكان في الجنة، وهي أشرف مِن مكة، فلما خالف أمر الله وأكل مِن الشجرة التي نهي عنها؛ أخرجه الله مِن الجنة، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله". وقيل: "إنه قال: يا أهل مكة، بلغني إكباركم واستعظامكم قتل ابن الزبير، فإن ابن الزبير كان مِن خيار هذه الأمة، حتى رغب في الدنيا، ونازع الخلافة أهلها، فخلع طاعة الله، وألحد في حرم الله، ولو كانت مكة شيئًا يمنع القضاء لمنعت آدم حرمة الجنة، وقد خلقه الله بيده، ونفخ فيه مِن روحه، وأسجد له ملائكته، وعلَّمه أسماء كل شيء، فلما عصاه أخرجه مِن الجنة، وأهبطه إلى الأرض، وآدم أكرم على الله مِن ابن الزبير، وإن ابن الزبير غيَّر كتاب الله"، فقال له عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: "لو شئتُ أن أقول لك: كذبت لقلتُ، والله إن ابن الزبير لم يغيِّر كتاب الله، بل كان قوامًا به، صوامًا، عاملًا بالحق" (تاريخ دمشق لابن عساكر).

ثم أمر الحجاج بجثة ابن الزبير فصلبت على ثنية كداء عند الحجون، فما زالت مصلوبة حتى مرَّ به عبد الله بن عمر فقال: "رحمة الله عليك يا أبا خبيب، أما والله لقد كنتَ صوامًا قوامًا وصولًا للرحم، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، والله لأمة أنت شرها لأمة خير"، ثم قال: "أما آن لهذا الراكب أن ينزل؟"، فبعث الحجاج، فأنزل عن الجذع. (البداية والنهاية لابن كثير)، ودفن هناك. ولما صلب ابن الزبير ظهرت منه رائحة المسك (الكامل في التاريخ لابن الأثير، 3/ 74).

ودخل الحجاج إلى مكة، فأخذ البيعة مِن أهلها لأمير المؤمنين عبد الملك بن مروان، ولم يزل الحجاج مقيمًا بمكة حتى أقام للناس الحج عامه هذا أيضًا، وهو على مكة واليمامة واليمن، وقد كتب عبد الملك إلى الحجاج بن يوسف ألا يخالف عبد الله بن عمر في الحج لما يعرفه مِن فضله وفقهه.

ولما أجمع الناس على البيعة لعبد الملك بن مروان كتب إليه ابن عمر: "أما بعد، فإني قد بايعت لعبد الملك أمير المؤمنين بالسمع والطاعة على سنة الله وسنة رسوله فيما استطعت، وإن بنيّ قد أقروا بذلك، وقد بلغني أن المسلمين اجتمعوا على البيعة لك، وقد دخلت فيما دخل فيه المسلمون، والسلام" (الطبقات لابن سعد، 4/ 152).

ولا شك أن مذهب أهل الحق أن ابن الزبير كان مظلومًا، وأن الحجاج ورفقته خارجون عليه، وقد ذكرنا سابقًا آراء العلماء في ذلك، وأن مروان بن الحكم وابنه عبد الملك باغين على ابن الزبير خارجين على خلافته؛ فهو أمير المؤمنين، وقد انعقدت له البيعة، وكانت مدة خلافته تسع سنين، وتوفي وله اثنان وسبعون سنة، وبهذا انتهت التوترات السياسية، واستقر الأمر لعبد الملك وسيطر على الدولة في كافة أنحائها، واستمرت الدولة الأموية دون خلافاتٍ مع أهل الحجاز، لكن الخلافات لم تنتهِ في أرض العراق.

فإن قال قائل: لماذا لم يستسلم ابن الزبير -رضي الله عنهما- بعد مقتل أخيه مصعب، وسيطرة عبد الملك بن مروان على بلاد الشام والعراق ومصر والحجاز، ويكون تنازله دفعًا للمفسدة الكبرى، وهي سفك الدماء، واستحلال الحرم، ولقد فعل ذلك الحسن -رضي الله عنه- عندما تنازل لمعاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما-، وقد نال الحسن على فعله هذا الثناء مِن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟!


فالجواب: نعم، كان هذا بإمكانه -رضي الله عنه-، وقد كان كثير مِن أصحابه يرون ذلك، ويتضح ذلك ويظهر في قول ابن عمر: "لقد كنت أنهاك عن هذا"، ولكن ابن الزبير اجتهد فأخطأ، ولعله أراد أن يتأسى في ذلك بأمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه- الذي رفض التنازل عن الخلافة، ولكن عثمان -رضي الله عنه- كان يملك النص الصريح في عدم تنازله؛ فلقد قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يَا عُثْمَانُ إِنَّهُ لَعَلَّ اللَّهَ يُقَمِّصُكَ قَمِيصًا، فَإِنْ أَرَادُوكَ عَلَى خَلْعِهِ فَلَا تَخْلَعْهُ لَهُمْ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)، ولعله أيضًا غلب على ظنه أنه مقتول في جميع الأحوال حتى لو استسلم للحجاج.

وفي النهاية نقول: أن الترجيح بيْن المصالح والمفاسد يختلف مِن شخصٍ لآخر، ومِن زمنٍ إلى زمنٍ، ومِن مكانٍ إلى مكانٍ، ولكل واقع معطياته، والواقع يفرض نفسه أحيانًا.

والله المستعان.