المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : شرح بعض أسماء الله الحسنى - ابن القيم -متجدد



محمدعبداللطيف
2020-05-02, 12:45 PM
قال ابن القيم رحمه الله ( (اللهُ... هوَ المَأْلُوهُ المَعْبُودُ - هذا الاسمُ هوَ الجامعُ؛ ولهذا تُضافُ الأسماءُ الحسنَى كلُّها إليهِ فَيُقَالُ: الرحمنُ الرحيمُ العزيزُ الغفَّارُ القَهَّارُ منْ أسماءِ اللهِ، ولا يُقَالُ: اللهُ مِنْ أسماءِ الرحمنِ. قالَ اللهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}.
(واسمُ "اللهِ" دَالٌّ على كونِهِ مَأْلُوهاً مَعْبُوداً، تَأْلَهُهُ الخلائقُ مَحَبَّةً وتعظيماً وخُضُوعاً، وَفَزَعاً إليهِ في الحوائجِ والنوائبِ، وذلكَ مُسْتَلْزِمٌ لكمالِ رُبُوبِيَّتِهِ ورحمتِهِ، المُتَضَمِّنَيْ نِ لكمالِ المُلْكِ والحمدِ، وَإِلَهِيَّتُهُ وربوبيَّتُهُ ورحمانيَّتُهُ ومُلْكُهُ مُسْتَلْزِمٌ لجميعِ صفاتِ كمالِهِ؛ إذْ يَسْتَحِيلُ ثُبُوتُ ذلكَ لمنْ لَيْسَ بِحَيٍّ، ولا سَمِيعٍ ولا بَصِيرٍ ولا قَادِرٍ ولا مُتَكَلِّمٍ ولا فَعَّالٍ لما يُرِيدُ ولا حَكِيمٍ في أفعالِهِ).
[و] (زَعَمَ السُّهَيْلِيُّ وَشَيْخُهُ أبو بَكْرِ بنُ العَرَبِيِّ أنَّ اسْمَ اللهِ غيرُ مُشْتَقٍّ؛ لأنَّ الاشْتِقَاقَ يَسْتَلْزِمُ مَادَّةً يُشْتَقُّ منها، واسْمُهُ تَعَالَى قَدِيمٌ، والقديمُ لا مَادَّةَ لهُ، فَيَسْتَحِيلُ الاشتقاقُ.
ولا رَيْبَ أنَّهُ إنْ أُرِيدَ بالاشتقاقِ هذا المعنَى، وأنَّهُ مُسْتَمَدٌّ منْ أصلٍ آخرَ فَهُوَ بَاطِلٌ، ولكنَّ الذينَ قَالُوا بالاشتقاقِ لم يُرِيدُوا هذا المعنَى، ولا أَلَمَّ بِقُلُوبِهِم، وَإِنَّمَا أَرَادُوا أَنَّهُ دَالٌّ على صِفَةٍ لهُ تَعَالَى، وهيَ الإِلهيَّةُ، كسائرِ أسمائِهِ الحُسْنَى، كالعَلِيمِ والقديرِ والغفورِ والرحيمِ والسميعِ والبصيرِ؛ فإنَّ هذه ِ الأسماءَ مُشْتَقَّةٌ منْ مصادرِهَا بِلا رَيْبٍ، وهي قديمةٌ، والقديمُ لا مادَّةَ لهُ، فما كانَ جَوَابَكُم عنْ هذهِ الأسماءِ فهوَ جوابُ القائِلِينَ باشْتِقَاقِ اسمِهِ "اللهِ".
ثُمَّ الجوابُ عن الجميعِ أنَّنا لا نَعْنِي بالاشتقاقِ إِلاَّ أنَّها مُلاقِيَةٌ لمصادرِهَا في اللفظِ والمعنَى، لا أنَّها مُتَوَلِّدَةٌ منها تَوَلُّدَ الفرعِ منْ أصلِهِ، وَتَسْمِيَةُ النحاةِ للمصدرِ والمُشْتَقِّ منهُ أَصْلاً وَفَرْعاً، ليسَ معناهُ أنَّ أَحَدَهُمَا تَوَلَّدَ من الآخرِ، وإنَّمَا هُوَ باعتبارِ أنَّ أحدَهُما يَتَضَمَّنُ الآخَرَ وزيادةً.
وقولُ سِيبَوَيْهِ: إنَّ الفعلَ أمثلةٌ أُخِذَتْ منْ لفظِ أحداثِ الأسماءِ هوَ بهذا الاعتبارِ, لا أَنَّ العربَ تَكَلَّمُوا بالأسماءِ أَوَّلاً ثُمَّ اشْتَقُّوا منها الأفعالَ؛ فإنَّ التخاطبَ بالأفعالِ ضَرُورِيٌّ كالتخاطبِ بالأسماءِ لا فَرْقَ بينَهُمَا، فالاشتقاقُ هنا ليسَ هوَ اشْتِقَاقَ ماديٍّ، وإنما هوَ اشتقاقُ تلازمٍ. سُمِّيَ المتَضَمِّنُ ( بالكَسْرِ ) مُشْتَقًّا والمُتَضَمَّنُ ( بالفتحِ ) مُشْتَقًّا منهُ، ولا مَحْذُورَ في اشتقاقِ أسماءِ اللهِ تَعَالَى بهذا المعنَى)
(ولهذا كانَ القولُ الصحيحُ أنَّ (( اللهَ )) أَصْلُهُ (( الإِلَهُ )) كما هوَ قولُ سِيبَوَيْهِ وَجُمْهُورِ أصحابِهِ إلاَّ مَنْ شَذَّ منْهُم
وأنَّ اسمَ اللهِ تَعَالَى هوَ الجامعُ لجميعِ معانِي الأسماءِ الحُسْنَى والصِّفَاتِ العُلَى).

معنى اسم (الرب)
قال ابن القيم :
( " الربُّ " هوَ السيِّدُ والمالِكُ والمُنْعِمُ والمُرَبِّي والمُصْلِحُ، واللهُ تَعَالَى هوَ الربُّ بهذهِ الاعتباراتِ كُلِّهَا).
( " [فـهوَ الذي يُرَبِّي عَبْدَهُ، فَيُعْطِيهِ خَلْقَهُ، ثُمَّ يَهْدِيهِ إلى مَصَالِحِهِ)، ([وَ] هُوَ القادرُ الخالقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ الحيُّ القيُّومُ العَلِيمُ السَّمِيعُ البصيرُ المُحْسِنُ المُنْعِمُ الجَوَادُ المُعْطِي المَانِعُ، الضَّارُّ النافِعُ، المُقَدِّمُ المُؤَخِّرُ، الذي يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَيُسْعِدُ مَنْ يشاءُ وَيُشْقِي مَنْ يشاءُ، ويُعِزُّ مَنْ يشاءُ ويُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ، إلى غيرِ ذلكَ منْ معانِي رُبُوبِيَّتِهِ التي لهُ منها ما يَسْتَحِقُّهُ من الأسماءِ الحُسْنَى).
(فاسْمُ " الرَّبِّ " لَهُ الجَمْعُ الجامِعُ لجميعِ المخلوقاتِ. فهوَ ربُّ كلِّ شيءٍ وخالقُهُ، والقادرُ عليهِ، لا يَخْرُجُ شيءٌ عنْ رُبُوبِيَّتِهِ، وكلُّ مَنْ في السَّمَاواتِ والأرضِ عَبْدٌ لهُ في قَبْضَتِهِ، وَتَحْتَ قَهْرِهِ. فَاجْتَمَعُوا بِصِفَةِ الربوبيَّةِ، وَافْتَرَقُوا بِصِفَةِ الإِلهيَّةِ، فَأَلَّهَهُ وَحْدَهُ السعداءُ، وَأَقَرُّوا لهُ طَوْعاً
بأنَّهُ اللهُ الذي لا إِلَهَ إلاَّ هوَ، الذي لا تَنْبَغِي العبادةُ والتَّوَكُّلُ، والرجاءُ والخوفُ، والحبُّ والإنابةُ والإخباتُ والخشيَةُ، والتَّذَلُّلُ والخضوعُ إلاَّ لَهُ).
(لأنَّهُ إذا كانَ [هوَ] رَبَّنَا الذي يُربِّينَا بِنِعَمِهِ وَإِحْسَانِهِ، وهوَ مالِكُ ذَوَاتِنَا وَرِقَابِنَا وَأَنْفُسِنَا. وكلُّ ذرَّةٍ من العبدِ فَمَمْلُوكَةٌ لهُ مِلْكاً خَالِصاً حَقِيقِيًّا، وقدْ رَبَّاهُ بِإِحْسَانِهِ إِلَيْهِ وَإِنْعَامِهِ عَلَيْهِ، فَعِبَادَتُهُ لهُ وشكرُهُ إِيَّاهُ واجِبٌ عليهِ، ولهذا قالَ: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21] ولم يَقُلْ: إِلَهَكُمْ...
فَلا شَيْءَ أَوْجَبُ في العقولِ والفِطَرِ منْ عبادةِ مَنْ هذا شأنُهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ))، فلا إِلَهَ إِلاَّ هوَ، ولا رَبَّ إلاَّ هوَ، فَكَمَا أنَّ رُبُوبِيَّةَ ما سِوَاهُ أَبْطَلُ البَاطِلِ، فكذلكَ إِلَهِيَّةُ ما سِوَاهُ) ).
المرتبع الأسنى في رياض الأسماء الحسنى



المؤلف:الشيخ
عبد العزيز بن داخل المطيري (https://www.noor-book.com/%D9%83%D8%AA%D8%A8-%D8%B9%D8%A8%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B2%D9%8A %D8%B2-%D8%A8%D9%86-%D8%AF%D8%A7%D8%AE%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B7%D9%8A %D8%B1%D9%8A-pdf)

محمدعبداللطيف
2020-05-02, 12:52 PM
معنى اسم (الإله) جل وعلا

قال ابن القيّم رحمه الله:
( (( الإلَهُ )): المَعْبُودُ المَحْبُوبُ الذي لا تَصْلُحُ العبادةُ والذُّلُّ وَالخضوعُ والحبُّ إلاَّ لَهُ)([1]) (فإنَّ (( الإلهَ )) هوَ الذي يَأْلَهُهُ العبادُ ذُلاًّ، وَخَوْفاً وَرَجَاءً، وَتَعْظِيماً وطاعةً لهُ، بِمَعْنَى " مَأْلُوهٍ "، وهوَ الذي تَأْلَهُهُ القُلُوبُ؛ أيْ: تُحِبُّهُ وَتَذِلُّ لَهُ.
وأصلُ التَّأَلُّهِ التَّعَبُّدُ. والتَّعَبُّدُ آخِرُ مَرَاتِبِ الحبِّ، يُقَالُ: عَبَّدَهُ الحُبُّ وَتَيَّمَهُ: إذا مَلَّكَهُ وَذلَّـلَهُ لِمَحْبُوبِهِ) ([2]) [فَـ](الإلهُ هوَ المُسْتَحِقُّ لكمالِ الحبِّ بكمالِ التعظيمِ والإجلالِ والذلِّ لهُ والخضوعِ لَهُ)([3])

(وَهـْوَ الإلَهُ الحـَقُّ لا مَعْـُبودَ إلاَّ = وَجـْهــُهُ الأعْـلَى العظيمُ الشَّانِ
بلْ كُلُّ مَـعْـبُـودٍ سـِوَاهُ فَباطِـلٌ = مِنْ عَرْشِهِ حتَّى الحَضِيضِ الدَّانِي
وَعِبَادَةُ الرَّحْمنِ غَايَةُ حُبِّهِ = مَعْ ذُلِّ عَـابِـدِهِ هُـمَا قُطْـبـَانِ
وعليهما فَلَكُ العبادةِ دَائِرٌ = مَـا دارَ حَـتَّـى قَـامَتِ القُطْـبَانِ
ومَدَارُهُ بالأمْرِ أمْرِ رســُولِهِ = لا بِالهَوَى والنفـسِ والشـَّيْطَـانِ
فَـقِيَامُ دِينِ اللهِ بِالإِخْلاصِ وَالـ = إحسَـــانِ إنَّهُـمَا لَهُ أصــلانِ
لـمْ يـَنْجُ مِنْ غَضَبِ الإلَهِ وَنَارِهِ = إلاَّ الـذي قَــامـَتْ بِهِ الأَصْـلانِ
وَالنَّاسُ بَعْدُ فمُشْرِكٌ بِإِلَهِهِ = أوْ ذُو ابْـتِدَاعٍ أَوْ لَــهُ الوَصْـفَانِ
واللهُ لا يَـرْضَـى بِكــَثـْرَةِ فـِعْلِنَا = لَكِنْ بِأحْــسـَنِهِ مـَعَ الإِيـمـَانِ
فالـعـَارِفــُو نَ مُـرادُهُمْ إحسَـانُهُ = والجَاهِلُونَ عَمُوا عَنِ الإِحْسَـانِ)

(فهوَ إِلَهُهُم الحَقُّ وَمَعْبُودُهُم الذي لا إِلَهَ لَهُم سِوَاهُ، ولا مَعْبُودَ لهم غَيْرُهُ، فَكَمَا أَنَّهُ وَحْدَهُ هُوَ رَبُّهُم وَمَلِيكُهُم لم يَشْرَكْهُ في رُبُوبِيَّتِهِ وَلا في مُلْكِهِ أَحَدٌ فكذلكَ هوَ إِلَهُهُمْ وَمَعْبُودُهُم، فلا يَنْبَغِي أنْ يَجْعَلُوا معهُ شَرِيكاً في إِلَهِيَّتِهِ كَمَا لا شَرِيكَ معهُ في رُبُوبِيَّتِهِ وَمُلْكِهِ)، (بلْ هوَ الإلهُ الحقُّ، وكلُّ إلهٍ سِوَاهُ فَبَاطِلٌ، بلْ أَبْطَلُ الباطلِ و…حقيقةُ إِلَهِيَّتِهِ لا تَنْبَغِي إلاَّ لهُ، و…العبادةُ مُوجَبُ إِلَهِيَّتِهِ وَأَثَرُهَا وَمُقْتَضَاهَا، وَارْتِبَاطُهَا بِهَا كَارْتِبَاطِ مُتَعَلَّقِ الصِّفَاتِ بالصِّفَاتِ، وكارتباطِ المعلومِ بالعِلْمِ والمقدورِ بالقدرةِ، والأصواتِ بالسمعِ، والإحسانِ بالرحمةِ، والعطاءِ بالجُودِ)

(فلا أَحَدَ سِوَاهُ يَسْتَحِقُّ أنْ يُؤَلَّهَ وَيُعْبَدَ، وَيُصَلَّى لهُ وَيُسْجَدَ، وَيَسْتَحِقُّ نهايَةَ الحبِّ معَ نهايَةِ الذلِّ، لكمالِ أسمائِهِ وصفاتِهِ وأفعالِهِ، فهوَ المُطَاعُ وحدَهُ على الحقيقةِ، والمَأْلُوهُ وَحْدَهُ، ولهُ الحُكْمُ وَحْدَهُ. فكلُّ عُبُودِيَّةٍ لِغَيْرِهِ باطلةٌ وَعَنَاءٌ وَضَلالٌ، وكلُّ مَحَبَّةٍ لِغَيْرِهِ عَذَابٌ لصاحبِهَا، وكلُّ غِنًى لِغَيْرِهِ فَقْرٌ وَفَاقَةٌ، وكلُّ عِزٍّ بِغَيْرِهِ ذُلٌّ وصَغَارٌ، وكلُّ تَكَثُّرٍ بِغَيْرِهِ قِلَّةٌ وذلَّةٌ، فَكَمَا اسْتَحَالَ أنْ يكونَ للخلقِ ربٌّ غَيْرُهُ، فَكَذَلِكَ استحالَ أنْ يَكُونَ لهم إلهٌ غيرُهُ، فهوَ الذي انْتَهَتْ إليهِ الرَّغَبَاتُ، وَتَوَجَّهَتْ نَحْوَهُ الطَّلَبَاتُ، وَيَسْتَحِيلُ أنْ يَكُونَ معهُ إِلَهٌ آخرُ؛ فإنَّ الإلهَ على الحقيقةِ هوَ الغنيُّ الصمدُ الكاملُ في أسمائِهِ وصفاتِهِ، الذي حَاجَةُ كلِّ أحدٍ إليهِ ولا حاجةَ بهِ إلى أحدٍ. وقيامُ كلِّ شيءٍ بهِ وليسَ قِيَامُهُ بِغَيْرِهِ، ومِن المُحَالِ أنْ يَحْصُلَ في الوجودِ اثْنَانِ كذلكَ، وَلَو كَانَ في الوجودِ إِلَهَانِ لَفَسَدَ نِظَامُهُ أَعْظَمَ فَسَادٍ وَاخْتَلَّ أَعْظَمَ اخْتِلالٍ، كما أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أنْ يَكُونَ لهُ فاعلانِ مُتَسَاوِيَانِ، كلٌّ مِنْهُمَا مُسْتَقِلٌّ بالفعلِ؛ فإنَّ اسْتِقْلالَهُمَ ا يُنَافِي اسْتِقْلالَهُمَ ا، وَاسْتِقْلالَ أَحَدِهِمَا يَمْنَعُ رُبُوبِيَّةَ الآخَرِ.

فتوحيدُ الربوبيَّةِ أَعْظَمُ دَلِيلٍ على توحيدِ الإِلهيَّةِ، ولذلكَ وَقَعَ الاحتجاجُ بهِ في القرآنِ أَكْثَرَ مِمَّا وَقَعَ بِغَيْرِهِ، لِصِحَّةِ دَلالَتِهِ وَظُهُورِهَا وَقَبُولِ العقولِ والفِطَرِ لَهَا، ولاعْتِرَافِ أهلِ الأرضِ بتوحيدِ الربوبيَّةِ)([7]).
(وَمِمَّا يُقَرِّرُ هَذَا أنَّ اللهَ سبحانَهُ خَلَقَ الخلقَ لعبادتِهِ الجامعةِ لمعرفتِهِ والإنابةِ إليهِ وَمَحَبَّتِهِ وَالإخلاصِ لهُ، فَبِذِكْرِهِ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم وَبِرُؤْيَتِهِ في الآخرةِ تقَرُّ عُيُونُهُم، ولا شَيْءَ يُعْطِيهِم في الآخرةِ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ من النظرِ إليهِ، ولا شيءَ يُعْطِيهِم في الدنيا أَحَبُّ إِلَيْهِم من الإيمانِ بهِ وَمَحَبَّتِهِم لهُ وَمَعْرِفَتِهِم بهِ. وحَاجَتُهُم إليهِ في عبادتِهِم لهُ وَتَأَلُّهِهِم لهُ كَحَاجَتِهِم إليهِ، بلْ أعظمُ في خلقِهِ لهم وَرُبُوبِيَّتِه ِ لهم وَرِزْقِهِ لَهُم، فإنَّ ذلكَ هوَ الغايَةُ المقصودةُ التي بها سَعَادَتُهُم وَفَوْزُهُم، وبها وَلأَجْلِهَا يَصِيرُونَ عَامِلِينَ مُتَحَرِّكِينَ، ولا صَلاحَ لهم ولا فلاحَ ولا نعيمَ ولا لذَّةَ ولا سُرُورَ بدونِ ذلكَ بحالٍ؛ فمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ فَإِنَّ لهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً، وَيَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامةِ أَعْمَى، وَلِهَذَا لا يَغْفِرُ اللهُ لمَنْ يُشْرِكُ بهِ شَيْئاً، وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلكَ لمَنْ يشاءُ، ولهذا كانَتْ (( لا إلهَ إلاَّ اللهُ )) أَفْضَلَ الحسناتِ. وَكَانَ توحيدُ الإِلهيَّةِ الذي كَلِمَتُهُ (( لا إلهَ إلاَّ اللهُ )) رَأْسَ الأمرِ.
فَأَمَّا تَوْحِيدُ الربوبيَّةِ الذي أَقَرَّ بهِ كلُّ المخلوقاتِ فلا يَكْفِي وَحْدَهُ، وإنْ كانَ لا بُدَّ منهُ، وهوَ حُجَّةٌ على مَنْ أَنْكَرَ توحيدَ الألوهيَّةِ، فَحَقُّ اللهِ على العبادِ أنْ يَعْبُدُوهُ ولا يُشْرِكُوا بهِ شَيْئاً، وَحَقُّهُم عليهِ إذا فَعَلُوا ذلكَ أنْ لا يُعَذِّبَهُم وأنْ يُكْرِمَهُم إذا قَدِمُوا عليهِ، وهذا كما أنَّهُ غَايَةُ مَحْبُوبِ العبدِ ومطلوبُهُ، وبهِ سُرُورُهُ ولَذَّتُهُ وَنَعِيمُهُ، فَهُوَ أَيْضاً مَحْبُوبُ الربِّ منْ عَبْدِهِ وَمَطْلُوبُهُ الذي يَرْضَى بهِ، وَيَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ إذا رَجَعَ إليهِ وإِلَى عُبُودِيَّتِهِ وَطَاعَتِهِ أَعْظَمَ مِنْ فَرَحِ مَنْ وَجَدَ رَاحِلَتَهُ التي عليها طَعَامُهُ وشَرَابُهُ في أرضٍ مَهْلَكةٍ بعدَ أنْ فَقَدَهَا وأَيِسَ منها.

وهذا أعظمُ فَرَحٍ يكونُ، وكذلكَ العبدُ لا فَرَحَ لهُ أعظمُ مِنْ فَرَحِهِ بِوُجُودِ رَبِّهِ، وَأُنْسِهِ بهِ، وَطَاعَتِهِ لهُ، وإقبالِهِ عليهِ، وَطُمَأْنِينَتِ هِ بِذِكْرِهِ، وعمارةِ قلبِهِ بمعرفتِهِ، والشوقِ إلى لقائِهِ، فليسَ في الكائناتِ ما يَسْكُنُ العبدُ إليهِ وَيَطْمَئِنُّ بهِ وَيَتَنَعَّمُ بالتَّوَجُّهِ إليهِ إلاَّ اللهُ سُبْحَانَهُ، ومَنْ عَبَدَ غَيْرَهُ وَأَحَبَّهُ – وإنْ حَصَلَ لهُ نوعٌ من اللذَّةِ والموَدَّةِ والسكونِ إليهِ والفرحِ والسرورِ بوجودِهِ – ففسادُهُ بِهِ وَمَضَرَّتُهُ وَعَطَبُهُ أَعْظَمُ منْ فسادِ أكلِ الطعامِ المسمومِ اللذيذِ الشَّهِيِّ الَّذِي هُوَ عَذْبٌ في مَبْدَئِهِ، عَذَابٌ في نهايتِهِ كما قالَ القائلُ:


مَآرِبُ كَانَتْ فِي الشَّبَابِ لأَهْلِهَا = عِذَاباً فَصَارَتْ فِي المَشِيبِ عَذَابَا

{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22)} [الأنبياء:22]، فإنَّ قِوامَ السَّمَاواتِ والأرضِ والخليقةِ بأنْ تُؤَلِّهَ الإلَهَ الحَقَّ، فلوْ كانَ فِيهِمَا إِلَهٌ آخَرُ غَيْرُ اللهِ لَمْ يَكُنْ إِلَهاً حَقًّا؛ إذ الإلهُ الحقُّ لا شريكَ لهُ، ولا سَمِيَّ لهُ، ولا مِثْلَ لهُ، فلوْ تَأَلَّهَتْ غَيْرَهُ لَفَسَدَتْ كلَّ الفسادِ بِانْتِفَاءِ ما بِهِ صَلاحُهَا، إذْ صَلاحُهَا بِتَأَلُّهِ الإلهِ الحقِّ، كما أَنَّهَا لا تُوجَدُ إلاَّ باسْتِنَادِهَا إِلَى الرَّبِّ الوَاحِدِ القَهَّارِ، وَيَسْتَحِيلُ أنْ تَسْتَنِدَ في وجودِهَا إلى رَبَّيْنِ مُتَكَافِئَيْنِ ، فكذلكَ يَسْتَحِيلُ أنْ تَسْتَنِدَ في بَقَائِهَا وَصَلاحِهَا إِلَى إِلَهَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ .

إذا عُرِفَ هذا، فَاعْلَمْ أنَّ حاجةَ العبدِ إلى أنْ يَعْبُدَ اللهَ وحدَهُ لا يُشْرِكُ بهِ شيئاً في مَحَبَّتِهِ، ولا في خوفِهِ، ولا في رجائِهِ، ولا في التَّوَكُّلِ عليهِ، ولا في العملِ لهُ، ولا في الحَلِفِ بهِ، ولا في النَّذْرِ لهُ، ولا في الخضوعِ لهُ، ولا في التَّذَلُّلِ والتعظيمِ والسجودِ والتَّقَرُّبِ؛ أَعْظَمُ منْ حاجةِ الجسدِ إلى رُوحِهِ، والعينِ إلى نورِهَا، بلْ ليسَ لهذهِ الحاجةِ نَظِيرٌ تُقَاسُ بهِ؛ فإنَّ حقيقةَ العبدِ قَلْبُهُ وَرُوحُهُ، ولا صلاحَ لها إِلاَّ بِإِلَهِهَا الذي لا إِلَهَ إلاَّ هوَ؛ فلا تَطْمَئِنُّ في الدنيا إلاَّ بِذِكْرِهِ، وهيَ كادحةٌ إليهِ كدحاً فَمُلاقِيَتُهُ، وَلا بُدَّ لها مِنْ لِقَائِهِ، ولا صَلاحَ لها إِلاَّ بِمَحَبَّتِهَا وَعُبُودِيَّتِه َا لهُ، وَرِضَاهُ وَإِكْرَامِهِ لها.

ولوْ حَصَلَ للعبدِ من اللَّذَّاتِ والسرورِ بغيرِ اللهِ ما حَصَلَ لم يَدُمْ لهُ ذلكَ، بلْ يَنْتَقِلُ منْ نوعٍ إلى نوعٍ، ومنْ شخصٍ إلى شخصٍ، وَيَتَنَعَّمُ بهذا في وقتٍ ثُمَّ يَتَعَذَّبُ بهِ ولا بُدَّ في وقتٍ آخرَ، وَكَثِيراً ما يَكُونُ ذلكَ الذي يَتَنَعَّمُ بهِ وَيَلْتَذُّ بهِ غَيْرَ مُنَعِّمٍ لهُ ولا مُلِذٍّ، بلْ قَدْ يُؤْذِيهِ اتِّصَالُهُ بِهِ وَوُجُودُهُ عِنْدَهُ وَيَضُرُّهُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ لهُ بِمُلابَسَتِهِ مِنْ جنسِ ما يَحْصُلُ للجَرِبِ منْ لذَّةِ الأظفارِ التي تَحُكُّهُ، فَهِيَ تُدْمِي الجِلْدَ وَتَخْرِقُهُ وَتَزِيدُ فِي ضَرَرِهِ، وهوَ يُؤْثِرُ ذلكَ لِمَا لهُ في حَكِّهَا مِن اللذَّةِ، وهكذا ما يَتَعَذَّبُ بهِ القلبُ منْ مَحَبَّةِ غيرِ اللهِ هوَ عذابٌ عليهِ، وَمَضَرَّةٌ وأَلَمٌ في الحقيقةِ، لا تَزِيدُ لَذَّتُهُ على لَذَّةِ حَكِّ الجَرَبِ.

والعاقلُ يُوَازِنُ بينَ الأمرَيْنِ وَيُؤْثِرُ أَرْجَحَهُمَا وَأَنْفَعَهُمَا ، واللهُ المُوَفِّقُ المُعِينُ، ولهُ الحجَّةُ البالغةُ كما لهُ النعمةُ السابغةُ.
والمقصودُ أنَّ إِلَهَ العبدِ الذي لا بُدَّ لهُ منهُ في كلِّ حالةٍ وكلِّ دقيقةٍ وكلِّ طَرْفَةِ عَيْنٍ، فهوَ الإلهُ الحقُّ الذي كلُّ ما سِوَاهُ بَاطِلٌ، والذي أَيْنَمَا كَانَ فهوَ مَعَهُ، وَضَرُورَتُهُ إِلَيْهِ وَحَاجَتُهُ إِلَيْهِ لا تُشْبِهُهَا ضَرُورَةٌ ولا حاجةٌ، بلْ هيَ فوقَ كلِّ ضرورةٍ، وَأَعْظَمُ منْ كلِّ حاجةٍ، ولهذا قالَ إمامُ الحُنَفَاءِ: {لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ (76)} [الأنعام: 76] واللهُ أَعْلَمُ)

([إذا تَبَيَّنَ هَذَا فَاعْلَمْ أنَّ] (( الإلَهَ ))... هُوَ الجامعُ لجميعِ صفاتِ الكمالِ ونعوتِ الجلالِ، فَيَدْخُلُ في هذا الاسمِ جَمِيعُ الأسماءِ الحُسْنَى) [لـ](أنَّ الإلهَ هوَ الذي لهُ الأسماءُ الحُسْنَى، والصِّفَاتُ العُلَى، وَهُوَ الذي يَفْعَلُ بقدرتِهِ ومشيئتِهِ وحكمتِهِ، وهوَ الموصوفُ بالصِّفَاتِ والأفعالِ، المُسَمَّى بالأسماءِ التي قَامَتْ بها حَقَائِقُهَا ومَعَانِيهَا).
([فَـ]كَوْنُهُ تَعَالَى إِلَهَ الخَلْقِ يَقْتَضِي كمالَ ذاتِهِ وصفاتِهِ وأسمائِهِ وأفعالِهِ ووقوعَ أفعالِهِ على أكملِ الوجوهِ وَأَتَمِّهَا)(، (وَلِهَذَا كَانَتْ (( لاَ إلهَ إلاَّ اللهُ )) أحسنَ الحسناتِ، وكانَ توحيدُ الإِلهيَّةِ رأسَ الأمْرِ)

(فهوَ سُبْحَانَهُ الإلهُ الحقُّ المُبِينُ ((الكاملُ في أسمائِهِ وصفاتِهِ))... الذي يَسْتَحِقُّ أنْ يُؤَلَّهَ مَحَبَّةً، وَتَعْظِيماً، وخشيَةً، وخُضوعاً، وتذلُّلاً، وعبادَةً، فهوَ الإلَهُ الحقُّ، ولوْ لَمْ يَخْلُقْ خَلْقَهُ، وهوَ الإلهُ الحقُّ، ولوْ لمْ يَعْبُدُوهُ،

فهوَ المعبودُ حَقًّا، المحمودُ حَقًّا، ولوْ قُدِّرَ أنَّ خَلْقَهُ لَمْ يَعْبُدُوهُ، ولم يَحْمَدُوهُ، ولمْ يَأْلَهُوهُ، فهوَ اللهُ الذي لا إِلَهَ إلاَّ هوَ قبلَ أنْ يَخْلُقَهُم، وبعدَ أنْ خَلَقَهُم، وبعدَ أنْ يُفْنِيَهُم، لم يَسْتَحْدِثْ بِخَلْقِهِ لهم ولا بأمرِهِ إيَّاهُم اسْتِحْقَاقَ الإلهيَّةِ والحمدِ، بل الإلهيَّةُ وَحَمْدُهُ وَمَجْدُهُ وَغِنَاهُ أَوْصَافٌ ذاتيَّةٌ لهُ يَسْتَحِيلُ مُفَارَقَتُهَا لهُ كَحَيَاتِهِ ووجودِهِ وقدرتِهِ وَعِلْمِهِ وسائرِ صفاتِ كمالِهِ.

فَأَوْلِيَاؤُهُ وَخَاصَّتُهُ وَحِزْبُهُ لَمَّا شَهِدَتْ عُقُولُهُم وَفِطَرُهُم أنَّهُ أهلٌ أنْ يُعبَدَ - وإنْ لمْ يُرْسِلْ إليهم رَسُولاً، ولم يُنَزِّلْ عليهم كِتَاباً، ولوْ لم يَخْلُقْ جَنَّةً ولا ناراً - عَلِمُوا أنَّهُ لا شَيْءَ في العُقولِ والفِطَرِ أَحْسَنُ مِنْ عبادتِهِ، ولا أَقْبَحُ من الإعْراضِ عنهُ، وجاءَت الرسلُ، وأُنْزِلَتِ الكُتُبُ لتَقريرِ ما اسْتَوْدَعَ سُبحانَهُ في الفِطَرِ والعُقولِ منْ ذلكَ، وتَكْمِيلِهِ، وتَفْضِيلِهِ، وزيادتِهِ حُسناً إلى حُسْنِهِ، فَاتَّفَقَتْ شَرِيعتُهُ وفِطْرَتُهُ، وَتَطَابَقَا، وَتَوَافَقَا، وَظَهَرَ أنَّهُمَا مِنْ مِشْكَاةٍ واحدَةٍ، فَعَبَدُوهُ وأَحَبُّوهُ وَمَجَّدُوهُ وَحَمِدُوهُ بِدَاعِي الفِطرَةِ، وداعِي الشَّرْعِ، وداعِي العَقلِ، فَاجْتَمَعَت لهم الدَّواعِي وَنَادَتْهُم مِنْ كُلِّ جهَةٍ، ودَعَتْهُم إلى وَلِيِّهم وَإِلَهِهِم وَفَاطِرِهم، فأَقْبَلُوا إليهِ بقلوبٍ سليمَةٍ، لم يُعَارِضْ خَبَرَهُ عندَهَا شُبْهَةٌ تُوجِبُ رِيبَةً وَشَكًّا، ولا أَمْرَهُ شهوَةٌ تُوجِبُ رَغْبَتَهَا عَنْهُ وَإِيثَارَهَا سِوَاهُ، فَأَجَابُوا دَوَاعِيَ المحبَّةِ والطاعَةِ إذْ نَادَتْ بهم: حيَّ على الفلاحِ، وَبَذَلُوا أَنْفُسَهم في مَرْضَاةِ مَوْلاهُم الحقِّ بَذْلَ أَخِي السَّماحِ، وَحَمِدُوا عندَ الوُصولِ إليهِ مَسْرَاهُم، وإنَّمَا يَحْمَدُ القومُ مَسراهُمْ عندَ الصباحِ)). [المرتبع الأسنى]

محمدعبداللطيف
2020-05-02, 01:05 PM
قال ابن القيم رحمه الله
و مِنْ أسمائِهِ: " المَلِكُ "، ومَعْنَى المُلْكِ الحَقِيقِيِّ ثَابِتٌ لهُ سبحانَهُ بكلِّ وَجْهٍ)؛ (فهوَ الآمِرُ الناهِي المُعِزُّ المُذِلُّ، الذي يُصَرِّفُ أُمُورَ عبادِهِ كما يُحِبُّ وَيُقَلِّبُهُم كما يَشَاءُ. ولَهُ مِنْ مَعْنَى المُلْكِ ما يَسْتَحِقُّهُ من الأسماءِ الحُسْنَى: كالعزيزِ الجَبَّارِ المُتَكَبِّرِ، الحَكَمِ العَدْلِ، الخافِضِ الرافعِ، المُعِزِّ المُذِلِّ، العظيمِ، الجليلِ، الكبيرِ، الحسيبِ، المَجِيدِ، الوَالِي، المُتَعَالِي، مَالِكِ المُلْكِ، المُقْسِطِ، الجامِعِ، إلى غيرِ ذلكَ من الأسماءِ العائدةِ إلى المُلْكِ).
([فـ]هذهِ الصفةُ تَسْتَلْزِمُ سائرَ صفاتِ الكمالِ؛ إذْ مِن المُحَالِ ثُبُوتُ المُلْكِ الحقيقيِّ التامِّ لِمَنْ ليسَ لهُ حياةٌ ولا قدرةٌ ولا إرادةٌ ولا سمعٌ ولا بصرٌ ولا كلامٌ ولا فعلٌ اختياريٌّ يَقُومُ بهِ.
وكيفَ يُوصَفُ بالمُلْكِ مَنْ لا يَأْمُرُ ولا يَنْهَى، ولا يُثِيبُ ولا يُعَاقِبُ، ولا يُعْطِي ولا يَمْنَعُ، ولا يُعِزُّ وَيُذِلُّ، وَيُهِينُ وَيُكْرِمُ، وَيُنْعِمُ وَيَنْتَقِمُ، وَيَخْفِضُ وَيَرْفَعُ، وَيُرْسِلُ الرُّسُلَ إلى أقطارِ مَمْلَكَتِهِ، وَيَتَقَدَّمُ إلى عَبِيدِهِ بأوامرِهِ ونَوَاهِيهِ. فأيُّ مُلْكٍ في الحقيقةِ لِمَنْ عَدِمَ ذلكَ؟!!.
وهذا يُبَيِّنُ أنَّ المُعَطِّلِينَ لأسمائِهِ وصفاتِهِ جَعَلُوا مَمَالِيكَهُ أَكْمَلَ منهُ، وَيَأْنَفُ أحدُهُم أنْ يُقَالَ في أميرِهِ ومَلِكِهِ مَا يَقُولُهُ هوَ في ربِّهِ، فَصِفَةُ مِلْكِيَّةِ الحقِّ مُسْتَلْزِمَةٌ لوجودِ ما لا يَتِمُّ التصرُّفُ إلاَّ بهِ، والكلُّ مِنْهُ سُبْحَانَهُ، فَلَمْ يَتَوَقَّفْ كَمَالُ مُلْكِهِ عَلَى غَيْرِهِ، فإنَّ كلَّ ما سِوَاهُ مُسْنَدٌ إليهِ، وَمُتَوَقِّفٌ في وجودِهِ على مَشِيئَتِهِ وَخَلْقِهِ)
(فـَ…حَقِيقَةُ المُلْكِ إنَّمَا تَتِمُّ بالعطاءِ والمَنْعِ والإكراهِ والإهانةِ والإثابةِ والعقوبةِ والغَضَبِ والرِّضَى وَالتَّوْلِيَةِ والعَزْلِ، وَإِعْزَازِ مَنْ يَلِيقُ بهِ العزُّ وإِذْلالِ مَنْ يَلِيقُ بهِ الذُّلُّ.
قالَ تَعَالَى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)} [آل عمران: 26-27].
وقال تَعَالَى: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)} [الرحمن: 29].
يَغْفِرُ ذَنْباً وَيُفَرِّجُ كَرْباً وَيَكْشِفُ غَمًّا وَيَنْصُرُ مَظْلُوماً وَيَأْخُذُ ظَالِماً، وَيَفُكُّ عَانِياً، وَيُغْنِي فَقِيراً، ويَجْبُرُ كَسِيراً، وَيَشْفِي مَرِيضاً، وَيُقِيلُ عَثْرَةً، وَيَسْتُرُ عَوْرَةً، وَيُعِزُّ ذَلِيلاً، وَيُذِلُّ عَزِيزاً، وَيُعْطِي سَائِلاً، وَيَذْهَبُ بِدَوْلَةٍ وَيَأْتِي بِأُخْرَى، وَيُدَاوِلُ الأيامَ بينَ الناسِ، وَيَرْفَعُ أَقْوَاماً وَيَضَعُ آخَرِينَ، يَسُوقُ المقاديرَ التي قَدَّرَهَا قَبْلَ خلقِ السَّمَاواتِ والأرضِ بخمسينَ ألفَ عَامٍ إِلَى مَوَاقِيتِهَا، فلا يَتَقَدَّمُ شيءٌ منها عنْ وقتِهِ ولا يَتَأَخَّرُ، بلْ كلٌّ مِنْهَا قدْ أَحْصَاهُ كما أَحْصَاهُ كِتَابُهُ، وَجَرَى بهِ قَلَمُهُ، وَنَفَذَ فيهِ حكمُهُ، وَسَبَقَ بهِ عِلْمُهُ، فهوَ المُتَصَرِّفُ في المَمَالِكِ كُلِّهَا وَحْدَهُ تَصَرُّفَ مَلِكٍ قَادِرٍ قَاهِرٍ عَادِلٍ رَحِيمٍ، تَامِّ المُلْكِ، لا يُنَازِعُهُ في مُلْكِهِ مُنَازِعٌ، أوْ يُعَارِضُهُ فيهِ مُعَارِضٌ، فتَصَرُّفُهُ في المملكةِ دَائِرٌ بينَ العدلِ والإحسانِ والحكمةِ والمصلحةِ والرحمةِ، فلا يَخْرُجُ تَصَرُّفُهُ عنْ ذلكَ.
وفي تَفْسِيرِ الحافظِ أبي بكرٍ أحمدَ بنِ مُوسَى بنِ مَرْدَوَيْهِ منْ حديثِ الحِمَّانِيِّ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عنْ مُعَاوِيَةَ بنِ يَحْيَى، عنْ يُونُسَ بنِ مَيْسَرَةَ، عنْ أبي إِدْرِيسَ، عنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، أَنَّهُ سُئِلَ عنْ قولِهِ تَعَالَى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)} [الرحمن: 29] فقالَ: سُئِلَ عنها رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالَ: ((مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَغْـفِــرَ ذَنْباً وَيُفَــرِّجَ كَــرْباً، وَيَرْفَعَ قَوْمــاً، وَيَضَــعَ آخَرِينَ))
(فَهُوَ مَلِكُهُم المُتَصَرِّفُ فِيهِم، وَهُمْ عَبِيدُهُ وَمَمَالِيكُهُ، وهوَ المُتَصَرِّفُ فِيهِم، المُدَبِّرُ لَهُم كما يشاءُ، النافذُ القدرةِ فِيهِم، الذي لهُ السلطانُ التامُّ عليهم، فهوَ مَلِكُهُم الحقُّ، الذي إِلَيْهِ مَفْزَعُهُم عندَ الشدائدِ والنوائبِ، وهوَ مُسْتَغَاثُهُم وَمَعَاذُهُم وَمَلْجَؤُهُم، فلا صَلاحَ لهم ولا قِيَامَ إلاَّ بهِ، وَبِتَدْبِيرِهِ ، فليسَ لهم مَلِكٌ غيرُهُ يَهْرُبُونَ إليهِ إذا دَهَمَهُم العدوُّ وَيَسْتَصْرِخُو نَ بهِ إذا نَزَلَ العدوُّ بِسَاحَتِهِمْ. )
([فإنَّ] المخلوقَ ليسَ عندَهُ للعبدِ نَفْعٌ ولا ضرٌّ، ولا عَطَاءٌ ولا منْعٌ، ولا هُدًى ولا ضَلالٌ، ولا نَصْرٌ ولا خِذْلانٌ، ولا خَفْضٌ ولا رَفْعٌ، ولا عِزٌّ ولا ذلٌّ، بل اللهُ وَحْدَهُ هوَ المَلِكُ، الذي لَهُ مُلْكُ ذَلِكَ كُلِّهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)} [فاطر: 2] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107). [المرتبع الأسنى]

محمدعبداللطيف
2020-05-02, 01:10 PM
قال ابن القيم
( (( الصمدُ )): السيِّدُ الذي كَمُلَ في سُؤْدُدِهِ؛ ولهذا كانت العربُ تُسَمِّي أَشْرَافَهَا بِهَذَا الاسمِ، لكثرةِ الصِّفَاتِ المحمودةِ في المُسَمَّى بهِ، قالَ شَاعِرُهُم:


أَلاَ بَكَّرَ النَّاعِي بِخَيْرِ بَنِي أَسَدْ = بِعَمْرِو بنِ مَسْعُودٍ وبالسَّيِّدِ الصَّمَدْ

فإنَّ الصمدَ مَنْ تَصْمُدُ نحوَهُ القلوبُ بالرَّغْبَةِ والرَّهْبَةِ، وذلكَ لكثرةِ خصالِ الخيرِ فيهِ، وكثرةِ الأوصافِ الحميدةِ لهُ، ولهذا قالَ جمهورُ السَّلَفِ، مِنْهُمْ عَبْدُ اللهِ بنُ عَبَّاسٍ: الصَّمَدُ السيِّدُ الذي كَمُلَ سُؤْدُدُهُ، فَهُوَ العالمُ الذي كَمُلَ عِلْمُهُ، القادرُ الذي كَمُلَتْ قُدْرَتُهُ، الحكيمُ الذي كَمُلَ حُكْمُهُ، الرحيمُ الذي كَمُلَتْ رَحْمَتُهُ، الجوَادُ الذي كَمُلَ جُودُهُ، ((وفي رِوَايَةٍ عَنْهُ: ((هوَ السيِّدُ الذي قَدْ كَمُلَ فِي جَمِيعِ أنواعِ السُّؤْدُدِ ))...
وقالَ سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ: (( هوَ الكامِلُ في جميعِ صفاتِهِ وأفعالِهِ وأقوالِهِ )) )
((وقالَ ابنُ وَائِلٍ: هوَ السيِّدُ الذي انْتَهَى سُؤْدُدُهُ.
وقالَ عِكْرِمَةُ: الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ أَحَدٌ.
وكذلكَ قالَ الزجَّاجُ: الذي يَنْتَهِي إليهِ السُّؤْدُدُ، فَقَدْ صَمَدَ لهُ كلُّ شيءٍ.
وقالَ ابنُ الأَنْبَارِيِّ: لا خِلافَ بينَ أهلِ اللغةِ أنَّ الصمدَ السيِّدُ الذي لَيْسَ فَوْقَهُ أَحَدٌ، الذي يَصْمُدُ إليهِ الناسُ في حَوَائِجِهِم وَأُمُورِهِم، وَاشْتِقَاقُهُ يَدُلُّ على هذا، فإنَّهُ من الجَمْعِ والقَصْدِ الذي اجْتَمَعَ القصدُ نحوَهُ واجْتَمَعَتْ فيهِ صفاتُ السُّؤْدُدِ، وهذا أَصْلُهُ في اللغةِ كما قالَ:


أَلاَ بَكَّرَ النَّاعِي بِخَيْرِ بَنِي أَسَدْ = بِعَمْرِو بنِ يَرْبُوعٍ وَبِالسَّيِّدِ الصَّمَدْ

والعربُ تُسَمِّي أَشْرَافَهَا بالصمَدِ لاجْتِمَاعِ قَصْدِ القاصدِينَ إليهِ واجتماعِ صفاتِ السيادةِ فيهِ))
ومَنْ قَالَ: (( إنَّهُ الذي لا جَوْفَ لَهُ ))، فقولـُهُ لا يُنَاقِضُ هذا التفسيرَ؛ فإنَّ اللفظَ من الاجتماعِ، فهوَ الذي اجْتَمَعَتْ فيهِ صفاتُ الكمالِ، ولا جَوْفَ لهُ)، [فإنَّهُ] (- تَعَالَى - صَمَدٌ بِجَمِيعِ معانِي الصَّمَدِيَّةِ، فَيَسْتَحِيلُ عليهِ ما يُنَاقِضُ صَمَدِيَّتَه) [وَ](إِنَّمَا لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ كُفُواً لَهُ لَمَّا كَانَ صَمَداً كَامِلاً في صَمَدِيَّتِهِ).

(وهو الإلهُ السَّيِّدُ الصَّمَدُ الَّذِي = صَمَدَتْ إِلَيْهِ الخَلْقُ بالإِذْعَانِ
الكَامِلُ الأَوْصَافِ مِنْ كُلِّ الوُجُوهِ = كَمَالُهُ ما فيهِ منْ نُقْصَانِ)
(واللهُ أكبرُ وَاحِدٌ صَمَدٌ وَكُلُّ = الشأْنِ في صَمَدِيَّةِ الرَّحْمَنِ
نَفَت الولادةُ والأبوةُ عنهُ والـ = كُفْءَ الذي هوَ لازِمُ الإنسانِ
وَكَذَاكَ أُثْبِتَت الصِّفَاتُ جَمِيعُهَا = للهِ سَالِمَةٌ من النُّقْصَانِ
وَإِلَيْهِ يَصْمُدُ كُلُّ مَخْلُوقٍ فَلا = صمدٌ سِوَاهُ عَزَّ ذُو السُّلْطَانِ) [المرتبع الأسنى]

محمدعبداللطيف
2020-05-02, 01:13 PM
قال ابن القيم رحمه الله
( العَلِيُّ ):
(وَ[هُوَ سُبْحَانَهُ]... (( العليُّ )) ) (العَالِي على كلِّ شيءٍ))(الذي عَلا عنْ كلِّ عَيْبٍ وَسُوءٍ ونقْصٍ).
(و... مِنْ لَوَازِمِ اسمِ (( العَلِيِّ )): العُلُوُّ المُطْلَقُ بِكُلِّ اعْتِبَارٍ،
فَلَهُ العُلُوُّ المُطْلَقُ منْ جميعِ الوجوهِ:
- عُلُوُّ القَدْرِ.
- وعُلُوُّ القَهْرِ.
- وعُلُوُّ الذَّاتِ).
(ومِنْ كمالِ عُلُوِّهِ أَنْ لا يَكُونَ فَوْقَهُ شَيْءٌ، بَلْ يَكُونُ فوقَ كلِّ شيءٍ)
(فهوَ... عالٍ على كلِّ شيءٍ... في ذاتِهِ وَصِفَاتِهِ وأفعالِهِ)
(و... أَهْلُ السُّنَّةِ يُثْبِتُونَ للهِ - سُبْحَانَهُ - العُلُوَّ الذَّاتِيَّ والمَعْنَوِيَّ)

(واللهُ أكبرُ ذُو العُلُوِّ المُطْلَقِ الـ = مَعْلومِ بفطرةِ الإنسانِ
فعُلُوُّهُ مِنْ كلِّ وجهٍ ثابتٌ = فاللهُ أَكْبَرُ جَلَّ ذو السُّلْطَانِ)
(لفظُ العليِّ وَلَفْظَةُ الأَعْلى مُعَرَّ = فَةً أَتَتْكَ هُنَا لِقَصْدِ بَيَانِ
إنَّ العُلُوَّ لهُ بِمُطْلَقِهِ على التْـ = تَـعميمِ والإطلاقِ بالبرهانِ
وَلَـهُ العُلُوُّ من الوجوهِ جَمِيعِهَا = ذاتاً وقَهْرَاً مَعْ عُلُوِّ الشَّانِ)
(وَهُوَ العَلِيُّ يَرَى وَيَسْمَعُ خَلْقَهُ = من فوقِ عرشٍ فوقَ سِتِّ ثَمَانِ)
(وَاللهُ أَكْبَرُ عَرْشُهُ وَسِعَ السَّمَا = والأرضَ والكرسيَّ ذا الأركانِ
وَكَذَلِكَ الكُرْسِيُّ قدْ وَسِعَ الطِّبَا = قَ السَّبْعَ والأَرَضِينَ بالبُرْهَانِ
و اللهُ فَوْقَ العَرْشِ والكُرْسِيِّ لا = يَخْفَى عليهِ خَوَاطِرُ الإنسانِ) [المرتبع الأسنى]

محمدعبداللطيف
2020-05-02, 01:16 PM
قال ابن القيم
( الأوَّلُ والآخرُ والظاهرُ والباطِنُ):
(الأَوَّلُ الذي لَيْسَ قَبْلَهُ شيءٌ، الآخرُ الذي ليسَ بعدَهُ شيءٌ، الظاهرُ الذي ليسَ فوقَهُ شيءٌ، الباطنُ الذي ليسَ دونَهُ شيءٌ، سَبَقَ كلَّ شيءٍ بِأَوَّلِيَّتِه ِ. وَبَقِيَ بعدَ كلِّ شيءٍ بِآخِرِيَّتِهِ. وَعَلا فَوْقَ كلِّ شيءٍ بِظُهُورِهِ، وَأَحَاطَ بكلِّ شيءٍ بِبُطُونِهِ)
(فأوَّلِيَّةُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ سَابِقَةٌ على أَوَّلِيَّةِ كلِّ ما سِوَاهُ، وَآخِرِيَّتُهُ ثابتةٌ بعدَ آخِرِيَّةِ كلِّ ما سِوَاهُ، فَأَوَّلِيَّتُه ُ سَبْقُهُ لكلِّ شيءٍ، وآخِرِيَّتُهُ بَقَاؤُهُ بعدَ كلِّ شيءٍ، وَظَاهِرِيَّتُه ُ سُبْحَانَهُ فَوْقِيَّتُهُ وَعُلُوُّهُ على كلِّ شيءٍ، وَمَعْنَى الظهورِ يَقْتَضِي العُلُوَّ، وظاهِرُ الشيءِ هوَ ما عَلا مِنْهُ وَأَحَاطَ بِبَاطِنِهِ، وَبُطُونُهُ سُبْحَانَهُ إِحَاطَتُهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بِحَيْثُ يَكُونُ أَقْرَبَ إليهِ منْ نفسِهِ، وهذا قُرْبٌ، غيرُ قُرْبِ المُحِبِّ مِنْ حَبِيبِهِ، هذا لونٌ وهذا لونٌ.
((فهذهِ الأسماءُ الأربعةُ مُتَقَابِلَةٌ: اسْمَانِ لأَزَلِ الربِّ تَعَالَى وَأَبَدِهِ، وَاسْمَانِ لِعُلُوِّهِ وَقُرْبِهِ))
[وَمَدَارُهَا]... على الإحاطةِ، وهي إِحَاطَتَانِ: زَمَانِيَّةٌ ومكانيَّةٌ، فَأَحَاطَتْ أَوَّلِيَّتُهُ وَآخِرِيَّتُهُ بِالقَبْلِ والبَعْدِ، فكلُّ سَابِقٍ انْتَهَى إلى أَوَّلِيَّتِهِ، وكلُّ آخِرٍ انْتَهَى إِلَى آخِرِيَّتِهِ، فَأَحَاطَتْ أَوَّلِيَّتُهُ وَآخِرِيَّتُهُ بالأوائلِ والأواخرِ، وَأَحَاطَتْ ظَاهِرِيَّتُهُ وَبَاطِنِيَّتُه ُ بكلِّ ظاهرٍ وباطنٍ، فما مِنْ ظَاهِرٍ إِلاَّ وَاللهُ فوقَهُ، وما مِنْ بَاطِنٍ إلاَّ واللهُ دُونَهُ، وما مِنْ أَوَّلٍ إلاَّ واللهُ قَبْلَهُ، وما مِنْ آخِرٍ إلاَّ واللهُ بَعْدَهُ: فالأوَّلُ قِدَمُهُ، والآخِرُ دَوَامُهُ وَبَقَاؤُهُ، والظاهرُ عُلُوُّهُ وَعَظَمَتُهُ، والباطنُ قُرْبُهُ وَدُنُوُّهُ. فَسَبَقَ كلَّ شيءٍ بأَوَّلِيَّتِهِ ، وَبَقِيَ بعدَ كلِّ شيءٍ بآخريَّتِهِ، وَعَلا على كلِّ شيءٍ بِظُهُورِهِ، وَدَنَا مِنْ كلِّ شيءٍ ببطونِهِ، فلا تُوَارِي منهُ سَمَاءٌ سَمَاءً، ولا أَرْضٌ أَرْضاً، ولا يَحْجُبُ عنهُ ظاهرٌ بَاطِناً، بل الباطنُ لهُ ظاهرٌ، والغيبُ عندَهُ شهادةٌ، والبعيدُ منهُ قريبٌ، والسرُّ عندَهُ عَلانِيَةٌ.
فهذهِ الأسماءُ الأربعةُ تَشْتَمِلُ على أركانِ التوحيدِ، فهوَ الأوَّلُ في آخِرِيَّتِهِ، والآخِرُ في أَوَّلِيَّتِهِ، والظاهرُ في بطُونِهِ، والباطنُ في ظهورِهِ، لم يَزَلْ أَوَّلاً وآخِراً وظاهِراً وباطِناً.
والتَّعَبُّدُ بِهَذِهِ الأسماءِ رُتْبَتَانِ:
- الرتبةُ الأولى: أنْ تَشْهَدَ الأَوَّلِيَّةَ مِنْهُ تَعَالَى في كلِّ شيءٍ، والآخِرِيَّةَ بعدَ كلِّ شيءٍ، والعُلُوَّ والفوقيَّةَ فوقَ كلِّ شيءٍ، والقُرْبَ والدُّنُوَّ دونَ كلِّ شيءٍ، فالمخلوقُ يَحْجُبُهُ مِثْلُهُ عمَّا هوَ دونَهُ، فَيَصِيرُ الحاجبُ بَيْنَهُ وبينَ المحجوبِ، والربُّ جلَّ جلالُهُ ليسَ دونَهُ شيءٌ أَقْرَبُ إلى الخلقِ منهُ.
- والمَرْتَبَةُ الثانيَةُ من التَّعَبُّدِ: أنْ يُعَامِلَ كلَّ اسمٍ بِمُقْتَضَاهُ:
فَيُعَامِلَ سَبْقَهُ تَعَالَى بأوَّليَّتِهِ لكلِّ شيءٍ، وَسَبْقَهُ بفضلِهِ وإحسانِهِ الأسبابَ كلَّها بما يَقْتَضِيهِ ذلكَ منْ إفرادِهِ، وعدمِ الالتفاتِ إلى غيرِهِ، والوثوقِ بسواهُ، والتَّوَكُّلِ على غيرِهِ، فمَنْ ذا الذي شَفَعَ لكَ في الأَزَلِ حيثُ لم تَكُنْ شَيْئاً مذكوراً، حَتَّى سَمَّاكَ باسمِ الإسلامِ، وَوَسَمَكَ بِسِمَةِ الإيمانِ، وَجَعَلَكَ منْ أهلِ قبضةِ اليمينِ، وَأَقْطَعَكَ في ذلكَ الغيبِ عَمَالاتِ المُؤْمِنِينَ، فَعَصَمَكَ عن العبادةِ للعبيدِ، وَأَعْتَقَكَ من الْتِزَامِ الرقِّ لِمَنْ لهُ شَكْلٌ ونَدِيدٌ. ثُمَّ وَجَّهَ وِجْهَةَ قَلْبِكَ إليهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى دونَ ما سواهُ، فَاضْرَعْ إلى الذي عَصَمَكَ من السجودِ للصَّنَمِ، وَقَضَى لكَ بِقَدَمِ الصدقِ في القِدَمِ أنْ يُتِمَّ عَلَيْكَ نعمةً هوَ ابْتَدَأَهَا وَكَانَتْ أَوَّلِيَّتُهَا منهُ بلا سَبَبٍ مِنْكَ.
وَاسْمُ بِهِمَّتِكَ عنْ ملاحظةِ الاختيارِ، ولا تَرْكَنَنَّ إِلَى الرسومِ والآثارِ، ولا تَقْنَعْ بالخسيسِ الدونِ، وعليكَ بالمطالبِ العاليَةِ والمراتبِ الساميَةِ التي لا تُنَالُ إلاَّ بطاعةِ اللهِ؛ فإنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَضَى أنْ لا يُنَالَ ما عِنْدَهُ إلاَّ بِطَاعَتِهِ، ومَنْ كانَ للهِ كَمَا يُرِيدُ كانَ اللهُ لهُ فوقَ ما يُرِيدُ، فَمَنْ أَقْبَلَ تَلَقَّاهُ منْ بعيدٍ، ومَنْ تَصَرَّفَ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ أَلانَ لهُ الحديدَ، ومَنْ تَرَكَ لأَجْلِهِ أَعْطَاهُ فوقَ المزيدِ، وَمَنْ أَرَادَ مُرَادَهُ الدِّينِيَّ أَرَادَ ما يُرِيدُ. ثُمَّ اسْمُ بِسِرِّكَ إِلَى المَطْلَبِ الأَعْلَى، وَاقْصُرْ حُبَّكَ وَتَقَرُّبَكَ على مَنْ سَبَقَ فَضْلُهُ وَإِحْسَانُهُ إليكَ كلَّ سببٍ منكَ، بلْ هوَ الذي جَادَ عليكَ بالأسبابِ، وَهَيَّأَ لكَ وصَرَفَ عَنْكَ مَوَانِعَهَا، وَأَوْصَلَكَ بها إلى غَايَتِكَ المحمودةِ، فَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَحْدَهُ، وَعَامِلْهُ وَحْدَهُ، وَآثِرْ رِضَاهُ وَحْدَهُ، وَاجْعَلْ حُبَّهُ وَمَرْضَاتَهُ هوَ كَعْبَةَ قَلْبِكَ الَّتِي لا تَزَالُ طَائِفاً بِهَا، مُسْتَلِماً لأَرْكَانِهَا، وَاقِفاً بِمُلْتَزَمِهَا .
فَيَا فَوْزَكَ وَيَا سَعَادَتَكَ إِن اطَّلَعَ سُبْحَانَهُ على ذلكَ منْ قَلْبِكَ!! مَاذا يُفِيضُ عليكَ منْ ملابسِ نِعَمِهِ وَخِلَعِ أَفْضَالِهِ!! (( اللَّهُمَّ لا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلا يَنْفَعُ ذَا الجدِّ منكَ الجدُّ، سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ )).

* * *
ثُمَّ تَعَبَّدْ لَهُ بِاسْمِهِ (( الآخِرِ )) بِأَنْ تَجْعَلَهُ وَحْدَهُ غَايَتَكَ التي لا غايَةَ لكَ سواهُ. ولا مَطْلُوبَ لكَ وراءَهُ، فَكَمَا انْتَهَتْ إليهِ الأَوَاخِرُ، وكانَ بعدَ كلِّ آخرٍ فَكَذَلِكَ اجْعَلْ نِهَايَتَكَ إليهِ، فإنَّ إلى رَبِّكَ المُنْتَهَى، إليهِ انْتَهَت الأسبابُ والغاياتُ، فَلَيْسَ وَرَاءَهُ مَرْمًى يُنْتَهَى إِلَيْهِ)
(فتَأَمَّلْ عُبُودِيَّةَ هَذَيْنِ الاسْمَيْنِ [الأَوَّلِ والآخِرِ] وَمَا يُوجِبَانِهِ منْ صحَّةِ الاضطرارِ إلى اللهِ وحدَهُ، وَدَوَامِ الفقرِ إليهِ دونَ كلِّ شيءٍ سواهُ، وأنَّ الأمرَ ابْتَدَأَ منهُ وإليهِ يُرْفَعُ.
فهوَ المبتَدِئُ بالفضلِ حيثُ لا سببَ ولا وسيلةَ، وإليهِ يَنْتَهِي الأمرُ حيثُ تَنْتَهِي الأسبابُ والوسائلُ.
فهوَ أَوَّلُ كلِّ شيءٍ وآخرُهُ، وكما أنَّهُ ربُّ كلِّ شيءٍ وفاعلُهُ وخالقُهُ وَبَارِئُهُ، فهوَ إِلَهُهُ وَغَايَتُهُ التي لا صلاحَ لهُ ولا فلاحَ ولا كمالَ إلاَّ بأنْ يَكُونَ هوَ غايتَهُ وَحْدَهُ، كما أنَّهُ لا وجودَ لهُ إلاَّ بكونِهِ وحدَهُ هوَ ربَّهُ وَخَالِقَهُ، وكذلكَ لا كمالَ لهُ ولا صلاحَ إلاَّ بكونِهِ تَعَالَى وحدَهُ هوَ غايتَهُ ونهايتَهُ ومقصودَهُ، فهوَ الأوَّلُ الذي ابْتَدَأَتْ منهُ المخلوقاتُ، والآخرُ الذي انْتَهَتْ إليهِ عُبُودِيَّاتُهَ ا وَإِرَادَاتُهَا وَمَحَبَّتُهَا، فليسَ وراءَ اللهِ شيءٌ يُقْصَدُ وَيُعْبَدُ وَيُتَأَلَّهُ، كَمَا أَنَّهُ ليسَ قبلَهُ شيءٌ يَخْلُقُ وَيَبْرَأُ؛ فكما كانَ وَاحِداً في إيجادِكَ فَاجْعَلْهُ وَاحِداً في تَأَلُّهِكَ وَعُبُودِيَّتِك َ، وَكَما ابْتَدَأَ وُجُودَكَ وَخَلْقَكَ منهُ فَاجْعَلْهُ نِهَايَةَ حُبِّكَ وَإِرَادَتِكَ وَتَأَلُّهِكَ إِلَيْهِ لِتَصِحَّ لَكَ عُبُودِيَّتُهُ بِاسْمِهِ (( الأوَّلِ والآخرِ ))، وَأَكْثَرُ الخَلْقِ تَعَبَّدُوا لَهُ بِاسْمِهِ (( الأوَّلِ )). وَإِنَّمَا الشَّأْنُ في التَّعَبُّدِ لهُ باسمِهِ ((الآخرِ)) فَهَذِهِ عُبُودِيَّةُ الرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِم، فهوَ رَبُّ العالمِينَ وإِلَهُ المُرْسَلِينَ سُبْحَانَهُ وَبِحَمْدِهِ.

* * *
وَأَمَّا عُبُودِيَّتُهُ بِاسْمِهِ (( الظاهرِ )) فَكَمَا فَسَّرَهُ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: ((وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ)) ([5]).
((فَجَعَلَ كَمَالَ الظهورِ مُوجِباً لكمالِ الفوقيَّةِ، ولا ريبَ أنَّهُ ظاهرٌ بذاتِهِ فوقَ كلِّ شيءٍ، والظهورُ هنا العلوُّ، ومنْهُ قَوْلُهُ: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} [الكهف: 97]؛ أيْ: يَعْلُوهُ، وَقَرَّرَ هذا المَعْنَى بقولِهِ: " فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ ". أيْ: أنتَ فوقَ الأشياءِ كُلِّهَا لَيْسَ لهذا اللفظِ مَعْنًى غَيْرُ ذلكَ، ولا يَصِحُّ أَنْ يُحْمَلَ الظهورُ على الغَلَبَةِ؛ لأنَّهُ قَابَلَهُ بقولِهِ: ((وَأَنْتَ البَاطِنُ)) ))
فإذا تَحَقَّقَ العَبْدُ عُلُوَّهُ المُطْلَقَ عَلَى كلِّ شيءٍ بذاتِهِ، وأنَّهُ ليسَ شيءٌ فوقَهُ أَلْبَتَّةَ، وأنَّهُ قاهرٌ فوقَ عبادِهِ، يُدَبِّرُ الأمرَ من السماءِ إلى الأرضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إليهِ: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]، صارَ لِقَلْبِهِ أَمَماً يَقْصِدُهُ، وَرَبًّا يَعْبُدُهُ، وَإِلَهاً يَتَوَجَّهُ إليهِ، بخلافِ مَنْ لا يَدْرِي أَيْنَ رَبُّهُ، فَإِنَّهُ ضَائِعٌ مُشَتَّتُ القلبِ، ليسَ لقلبِهِ قِبْلَةٌ يَتَوَجَّهُ نَحْوَهَا، ولا معبودَ يَتَوَجَّهُ إليهِ قَصْدُهُ.
فَصَاحِبُ هذهِ الحالِ إذا سَلَكَ وَتَأَلَّهَ وَتَعَبَّدَ طَلَبَ قَلْبُهُ إِلَهاً يَسْكُنُ إليهِ وَيَتَوَجَّهُ إليهِ، وَقَد اعْتَقَدَ أنَّهُ ليسَ فوقَ العرشِ شيءٌ إلاَّ العدمُ، وأنَّهُ ليسَ فوقَ العالمِ إِلَهٌ يُعْبَدُ وَيُصَلَّى لهُ ويُسْجَدُ، وَأَنَّهُ ليسَ على العرشِ مَنْ يَصْعَدُ إليهِ الكَلِمُ الطَّيِّبُ، وَلا يُرْفَعُ إليهِ العملُ الصالحُ، جَالَ قَلْبُهُ في الوجودِ جميعِهِ فَوَقَعَ في الاتِّحَادِ ولا بُدَّ، فَتَعَلَّقَ قَلْبُهُ بالوجودِ المُطْلَقِ السَّارِي في المُعَيَّنَاتِ، فَاتَّخَذَهُ إِلَهَهُ منْ دونِ الإِلَهِ الحقِّ، وَظَنَّ أنَّهُ قدْ وَصَلَ إلى عَيْنِ الحقيقةِ!!
وإنَّمَا تَأَلَّهَ وَتَعَبَّدَ لِمَخْلُوقٍ مِثْلِهِ أوْ لخيالٍ نَحَتَهُ بِفِكْرِهِ وَاتَّخَذَهُ إِلَهاً منْ دونِ اللهِ سبحانَهُ.
وَإِلَهُ الرُّسُلِ وَرَاءَ ذلكَ كُلِّهِ: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)}[يونس: 3-4]، وقالَ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9)} [السجدة: 4-9].
فَقَدْ تَعَرَّفَ سُبْحَانَهُ إلى عبادِهِ بكلامِهِ معرفةً لا يَجْحَدُهَا إلاَّ مَنْ أَنْكَرَهُ سبحانَهُ وإنْ زَعَمَ أنَّهُ مُقِرٌّ بهِ.
والمقصودُ أنَّ التَّعَبُّدَ باسمِهِ (( الظاهرِ )) يَجْمَعُ القلبَ على المعبودِ، وَيَجْعَلُ لَهُ رَبًّا يَقْصِدُهُ وَصَمَداً يَصْمُدُ إليهِ في حوائجِهِ وَمَلْجأً يَلْجَأُ إِلَيْهِ.
فإذا اسْتَقَرَّ ذلكَ في قلبِهِ وَعَرَفَ رَبَّهُ باسْمِهِ (( الظاهرِ )) اسْتَقَامَتْ لهُ عُبُودِيَّتُهُ، وَصَارَ لهُ مَعْقِلٌ وَمَوْئِلٌ يَلْجَأُ إليهِ، وَيَهْرُبُ إليهِ، ويَفِرُّ كُلَّ وَقْتٍ إليهِ.

* * *
أمَّا تَعَبُّدُهُ باسمِهِ (( الباطنِ )) فَأَمْرٌ يَضِيقُ نِطَاقُ التعبيرِ عنْ حقيقتِهِ، وَيَكِلُّ اللسانُ عنْ وصفِهِ، وَتَصْطَلِمُ الإشارةُ إليهِ، وَتَجْفُو العبارةُ عنهُ؛ فإنَّهُ يَسْتَلْزِمُ مَعْرِفَةً بَرِيئَةً مِنْ شوائبِ التعطيلِ، مُخْلَصَةً منْ فَرْثِ التشبِيهِ، مُنَـزَّهَةً منْ رِجْسِ الحلولِ والاتِّحادِ، وعبارةً مُؤَدِّيَةً للمَعْنَى كاشفةً عنهُ، وذوقاً صَحِيحاً سَلِيماً منْ أذواقِ أهلِ الانحرافِ، فمَنْ رُزِقَ هذا فَهِمَ معنَى اسْمِهِ (( الباطنِ )) وَصَحَّ لهُ التَّعَبُّدُ بهِ.
وَسُبْحَانَ اللهِ!! كَمْ زَلَّتْ في هذا المقامِ أَقْدَامٌ!! وَضَلَّتْ فيهِ أفهامٌ، وَنَظَمَ فيهِ الزِّنْدِيقُ بِلِسَانِ الصِّدِّيقِ، فَاشْتَبَهَ فيهِ إخوانُ النَّصَارَى بالحُنَفَاءِ المُخْلَصِينَ، لِنُبُوِّ الأفهامِ عنهُ، وَعِزَّةِ تَخَلُّصِ الحقِّ من الباطلِ فيهِ، والْتِبَاسِ ما في الذهنِ بما في الخارجِ، إلاَّ على مَنْ رَزَقَهُ اللهُ بصيرةً في الحقِّ، وَنُوراً يُمَيِّزُ بهِ بينَ الهُدَى والضلالِ، وَفُرْقَاناً يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ الحقِّ والباطلِ، وَرُزِقَ معَ ذلكَ اطِّلاعاً على أسبابِ الخطأِ وَتَفَرُّقِ الطُّرُقِ ومَثَارِ الغَلَطِ. فكانَ لهُ بَصِيرَةٌ في الحقِّ والباطلِ، وذلكَ فضلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، واللهُ ذو الفضلِ العظيمِ.
وَبَابُ هذهِ المعرفةِ والتَّعَبُّدِ هوَ مَعْرِفَةُ إحاطةِ الربِّ تَبَارَكَ وتَعَالَى بالعالَمِ وعظمتِهِ، وأنَّ العوالمَ كُلَّهَا في قَبْضَتِهِ، وأنَّ السَّمَاواتِ السَّبْعَ وَالأَرَضِينَ السَّبْعَ فِي يَدِهِ كـَخَـرْدَلَـةٍ فِي يَـدِ العَـبْـدِ، قَـالَ تَعَالَى: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} [الإسراء: 60] وقالَ: {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20)} [البروج: 20].
ولهذا يَقْرِنُ سُبْحَانَهُ بَيْنَ هذينِ الاسمَيْنِ الدالَّيْنِ على هَذَيْنِ المَعْنَيَيْنِ: اسمِ العلوِّ الدالِّ على أنَّهُ الظاهرُ، وأنَّهُ لا شَيْءَ فوقَهُ، واسمِ العظمةِ الدَّالِّ على الإحاطةِ، وأنَّهُ لا شيءَ دونَهُ كما قالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)} [البقرة: 255] وقالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)} [سبأ: 23] وقالَ: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)} [البقرة: 115].
وهوَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى كَمَا أَنَّهُ العَالِي على خَلْقِهِ بِذَاتِهِ فليسَ فَوْقَهُ شيءٌ، فهوَ الباطنُ بِذَاتِهِ فليسَ دونَهُ شيءٌ، بلْ ظَهَرَ على كلِّ شيءٍ، فكانَ فوقَهُ، وَبَطَنَ فكانَ أَقْرَبَ إلى كلِّ شيءٍ منْ نفسِهِ، وهوَ مُحِيطٌ بهِ حيثُ لا يُحِيطُ الشيءُ بِنَفْسِهِ، وكلُّ شيءٍ في قَبْضَتِهِ، وليسَ شيءٌ في قبضةِ نفسِهِ، فهذا قُرْبُ الإحاطةِ العامَّةِ.
وأمَّا القُرْبُ المَذْكُورُ في القرآنِ والسُّنَّةِ فَقُرْبٌ خاصٌّ منْ عَابِدِيهِ وَسَائِلِيهِ وَدَاعِيهِ، وهوَ منْ ثمرةِ التَّعَبُّدِ باسمِهِ (( الباطنِ ))، قالَ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]. فهذا قُرْبُهُ منْ دَاعِيهِ.
وقالَ تَعَالَى: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)} [الأعراف: 56].
فَذَكَّرَ الخبرَ، وهوَ " قريبٌ " عنْ لفظِ " الرحمةِ " وهيَ مُؤَنَّثَةٌ إِيذَاناً بِقُرْبِهِ تَعَالَى من المحسنِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللهَ بِرَحْمَتِهِ قَرِيبٌ من المُحْسِنِينَ.
وفي الصحيـحِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: ((أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ)) ([7]). وَ ((أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنْ عَبْدِهِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ))، فهذا قُرْبٌ خَاصٌّ غَيْرُ قُرْبِ الإِحَاطَةِ وَقُرْبِ البُطُونِ.
وفي ( الصحيحِ ) منْ حديثِ أبي موسَى أَنَّهُم كَانُوا معَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في سفرٍ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُم بالتكبيرِ، فقالَ: ((أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلا غَائِباً، إنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ)) فهذا قُرْبُهُ منْ دَاعِيهِ وَذَاكِرِهِ، يَعْنِي: فَأَيُّ حَاجَةٍ بِكُمْ إِلَى رَفْعِ الأَصْوَاتِ، وهوَ لِقُرْبِهِ يَسْمَعُهَا وَإِنْ خَفَضْتَ، كَمَا يَسْمَعُهَا إِذَا رَفَعْتَ، فَإِنَّهُ سَمِيعٌ قريبٌ.
وهذا القربُ هوَ منْ لَوَازِمِ المَحَبَّةِ، فَكُلَّمَا كَانَ الحبُّ أَعْظَمَ كَانَ القربُ أَكْثَرَ، وقد اسْتَوْلَتْ مَحَبَّةُ المحبوبِ على قلبِ مُحِبِّهِ بِحَيْثُ يَفْنَى بها عنْ غيرِهَا، وَيَغْلِبُ مَحْبُوبُهُ على قلبِهِ حتَّى كَأَنَّهُ يَرَاهُ وَيُشَاهِدُهُ، فإنْ لم يَكُنْ عندَهُ مَعْرِفَةٌ صحيحةٌ باللهِ وما يَجِبُ لهُ وَيَسْتَحِيلُ عليهِ، وإلاَّ طَرَقَ بابَ الحلولِ إنْ لم يَلِجْهُ، وَسَبَبُهُ ضَعْفُ تَمْيِيزِهِ، وَقُوَّةُ سُلْطَانِ المَحَبَّةِ، وَاسْتِيلاءُ المَحْبُوبِ على قَلْبِهِ بحيثُ يَغِيبُ عنْ ملاحظةِ سواهُ، وفي مِـثْـلِ هـذهِ الحـالِ يَـقُـولُ: سُبـْحـَانِي، أَوْ: مَا فِي الـجُـبَّـةِ إلاَّ اللهُ، ونحوَ هذا من الشَّطَحَاتِ التي نِهَايَتُهَا أنْ يُغْفَرَ لهُ، وَيُعْذَرَ لِسُكْرِهِ، وَعَدَمِ تَمْيِيزِهِ في تلكَ الحالِ.
فَالتعَبُّدُ بهذا الاسمِ هوَ التَّعَبُّدُ بِخَالِصِ المَحَبَّةِ وصفوِ الودادِ، وأنْ يَكُونَ الإِلَهُ أَقْرَبَ إليهِ منْ كلِّ شيءٍ، وأقربَ إليهِ منْ نفسِهِ، معَ كونِهِ ظَاهِراً ليسَ فوقَهُ شيءٌ، ومَنْ كَثَفَ * ذِهْنُهُ وَغَلُظَ طَبْعُهُ عنْ فهمِ هذا فَلْيَضْرِبْ عَنْهُ صَفْحاً إلى ما هوَ أَوْلَى بهِ، فقدْ قِيلَ:


إِذَا لَمْ تَسْتَطِعْ شَيْئاً فَدَعْهُ = وَجَاوِزْهُ إِلَى مَا تَسْتَطِيعُ

فمَنْ لمْ يكُنْ لهُ ذَوْقٌ منْ قُرْبِ المحبَّةِ، ومعرفةٌ بِقُرْبِ المحبوبِ منْ مُحِبِّهِ غايَةَ القُرْبِ وإنْ كانَ بَيْنَهُمَا غَايَةُ المسافةِ - ولا سِيَّمَا إذا كانت المَحَبَّةُ من الطَّرَفَيْنِ، وهيَ مَحَبَّةٌ بريئةٌ من العِلَلِ والشوائبِ والأعراضِ القادحةِ فيها - فإنَّ المُحِبَّ كَثِيراً ما يَسْتَوْلِي مَحْبُوبُهُ على قَلْبِهِ وَذِكْرِهِ وَيَفْنَى عنْ غَيْرِهِ وَيَرِقُّ قلبُهُ وَتَتَجَرَّدُ نَفْسُهُ، فَيُشَاهِدُ مَحْبُوبَهُ كالحاضرِ معهُ القريبِ إليهِ، وَبَيْنَهُمَا مِن البعدِ ما بَيْنَهُمَا، وفي هذهِ الحالِ يكونُ في قلبِهِ وُجُودُهُ العِلْمِيُّ، وفي لسانِهِ وجودُهُ اللَّفْظِيُّ، فَيَسْتَوْلِي هذا الشهودُ عليهِ، وَيَغِيبُ بهِ، فَيَظُنُّ أنَّ في عينِهِ وُجُودَهُ الخَارِجِيَّ لِغَلَبَةِ حُكْمِ القلبِ والروحِ كما قِيلَ:


خَيَالُكَ فِي عَيْنِي وَذِكْرُكَ فِي فَمِي = وَمَثْوَاكَ في قَلْبِي فَأَيْنَ تَغِيبُ

هذا، ويكونُ ذلكَ المحبوبُ بعينِهِ بينَهُ وبينَ عَدُوِّهِ من البُعْدِ ما بَيْنَهُمَا وَإِنْ قَرُبَت الأبدانُ وَتَلاصَقَتِ الدِّيَارُ.
والمقصودُ أنَّ المِثَالَ العِلْمِيَّ غيرُ الحقيقةِ الخارجيَّةِ وإنْ كانَ مُطَابِقاً لها، لكنَّ المثالَ العِلْمِيَّ مَحَلُّهُ القَلْبُ، والحقيقةَ الخارجيَّةَ مَحَلُّهَا الخَارِجُ.
((فَإِذَا شَهِدْتَ إِحَاطَتَهُ بِالعَوَالِمِ وَقُرْبَ العَبِيدِ مِنْهُ وَظُهُورَ الْبَوَاطِنِ لَهُ وَبُدُوَّ السَّرَائِرِ لَهُ وَأَنَّهُ لا شَيْءَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، فَعَامِلْهُ بِمُقْتَضَى هَذَا الشُّهُودِ وَطَهِّرْ لَهُ سَرِيرَتَكَ فَإِنَّهَا عِنْدَهُ عَلانِيَةٌ، وَأَصْلِحْ لَهُ غَيْبَكَ؛ فَإِنَّهُ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ، وَزَكِّ لَهُ بَاطِنَكَ فَإِنَّهُ عِنْدَهُ ظَاهِرٌ))([10]).
فمعرفةُ هذهِ الأسماءِ الأربعةِ وهيَ: الأوَّلُ، والآخرُ، والظاهرُ، والباطنُ، هيَ أركانُ العلمِ والمعرفةِ، فَحَقِيقٌ بالعبدِ أنْ يَبْلُغَ في مَعْرِفَتِهَا إلى حيثُ يَنْتَهِي بهِ قُوَاهُ وَفَهْمُهُ)([11]).
(فَانْظُرْ كَيْفَ كانتْ هذهِ الأسماءُ الأربعةُ جماعَ المعرفةِ باللهِ وجماعَ العبوديَّةِ لهُ، فَهُنَا وَقَفَتْ شهادةُ العبدِ معَ فضلِ خالقِهِ وَمِنَّتِهِ فلا يَرَى لِغَيْرِهِ شَيْئاً إلاَّ بهِ وبحولِهِ وقوَّتِهِ، وَغَابَ بِفَضْلِ مولاهُ الحقِّ عنْ جميعِ ما منهُ هوَ مِمَّا كانَ يَسْتَنِدُ إليهِ أوْ يَتَحَلَّى بهِ، أوْ يَتَّخِذُهُ عقدَةً، أوْ يَرَاهُ ليومِ فَاقَتِهِ، أوْ يَعْتَمِدُ عليهِ في مَهَمٍّ مِنْ مَهَمَّاتِهِ، فكلُّ ذلكَ منْ قصورِ نظرِهِ وانعكاسِهِ عن الحقائقِ والأصولِ إلى الأسبابِ والفروعِ، كما هوَ شأنُ الطبيعةِ والهَوَى وَمُوجَبُ الظلمِ والجهلِ، والإنسانُ ظَلُومٌ جَهُولٌ. فَمَنْ جَلَّى اللهُ سُبْحَانَهُ صَدَأَ بَصِيرَتِهِ، وَكَمَّلَ فِطْرَتَهُ، وَأَوْقَفَهُ على مَبَادِئِ الأمورِ، وَغَايَاتِهَا، وَمَنَاطِهَا، وَمَصَادِرِهَا، وَمَوَارِدِهَا أَصْبَحَ كالمُفْلِسِ حَقًّا منْ عُلُومِهِ، وَأَعْمَالِهِ، وَأَحْوَالِهِ، وَأَذْوَاقِهِ، يَقُولُ: أَسْتَغْفِرُ اللهَ مِنْ عِلْمِي ومِنْ عَمَلِي، أَيْ: مِن انْتِسَابِي إِلَيْهِمَا وَغَيْبَتِي بهما عنْ فضلِ مَنْ ذَكَرَنِي بهما وَابْتَدَأَنِي بِإِعْطَائِهِمَ ا مِنْ غيرِ تَقَدُّمِ سَبَبٍ مِنِّي يُوجِبُ ذَلِكَ.
فهوَ لا يَشْهَدُ غَيْرَ فضلِ مولاهُ وَسَبْقِ مِنَّتِهِ وَدَوَامِهَا، فَيُثِيبُهُ مَوْلاهُ على هذهِ الشهادةِ العاليَةِ بحقيقةِ الفقرِ الأوسطِ بينَ الفقرَيْنِ الأَدْنَى والأَعْلَى ثَوَابَيْنِ:
- أحدُهُمَا: الخلاصُ منْ رؤيَةِ الأعمالِ، حيثُ كانَ يَرَاهَا وَيَتَمَدَّحُ بِهَا وَيَسْتَكْثِرُه َا، فَيَسْتَغْرِقُ بِمُطَالَعَةِ الفضلِ غَائِباً عنها ذَاهِباً عنها فَانِياً عنْ رُؤْيَتِهَا.
- الثوابُ الثاني: أنْ يَقْطَعَهُ عنْ شهودِ الأحوالِ – أيْ: عنْ شهودِ نفسِهِ فيها مُتَكَثِّرَةً بِهَا – فإنَّ الحالَ مَحَلُّهُ الصدرُ، والصدرُ بيتُ القلبِ والنفسِ، فإذا نَزَلَ العطاءُ في الصدرِ للقلبِ وَثَبَتِ النفسُ لِتَأْخُذَ نَصِيبَهَا من العطاءِ فَتَتَمَدَّحُ بهِ وتُدِلُّ بهِ وَتَزْهُو وَتَسْتَطِيلُ وَتُقَرِّرُ إِنِّيَّتَهَا؛ لأَنَّهَا جاهلةٌ ظالمةٌ، وهذا مُقْتَضَى الجهلِ والظلمِ.
فإذا وَصَلَ إلى القلبِ نُورُ صفةِ المِنَّةِ، وشَهِدَ مَعْنَى اسْمِهِ (( المَنَّانِ ))، وَتَجَلَّى سبحانَهُ على قلبِ عَبْدِهِ بهذا الاسمِ معَ اسمِهِ (( الأوَّلِ )) ذَهَلَ القلبُ والنفسُ بهِ، وصارَ العبدُ فقيراً إلى مولاهُ بمطالعةِ سَبْقِ فضلِهِ الأوَّلِ، فصارَ مَقْطُوعاً عنْ شهودِ أمرٍ أوْ حالٍ يَنْسُبُهُ إلى نفسِهِ بحيثُ يكونُ بشهادتِهِ لحالِهِ مَفْصُوماً مَقْطُوعاً عَنْ رُؤْيَةَ عِزَّةِ مولاهُ وَفَاطِرِهِ وملاحظةَ صفاتِهِ.
فَصَاحِبُ شُهُودِ الأحوالِ مُنْقَطِعٌ عنْ رؤيَةِ مِنَّةِ خالقِهِ وفضلِهِ ومشاهدةِ سَبْقِ الأَوَّلِيَّةِ للأسبابِ كلِّهَا، وَغَائِبٌ بمشاهدةِ عِزَّةِ نَفْسِهِ عنْ عزَّةِ مولاهُ، فَيَنْعَكِسُ هذا الأمرُ في حقِّ هذا العبدِ الفقيرِ وَتَشْغَلُهُ رُؤْيَةُ عِزَّةِ مَوْلاهُ وَمِنَّتِهِ، ومشاهدةُ سَبْقِهِ بِالأَوَّلِيَّة ِ عنْ حالٍ يَعْتَزُّ بِهَا العبدُ أوْ يَشْرُفُ بها)([12]).


(وَ[النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] أَرْشَدَ مَنْ بُلِيَ بشيءٍ منْ وسوسةِ التَّسَلْسُلِ في الفَاعِلِينَ، إذا قِيلَ لهُ: هذا اللهُ خَلَقَ الخَلْقَ، فَمَنْ خَلَقَ اللهَ؟ أَنْ يَقْرَأَ: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)} [الحديد: 3].
وكذلكَ قالَ ابنُ عَبَّاسٍ لأبي زُمَيْلٍ سِمَاكِ بنِ الوليدِ الحَنَفِيِّ وَقَدْ سَأَلَهُ: ما شَيْءٌ أَجِدُهُ في صَدْرِي؟ قال: ما هوَ؟ قالَ: قُلْتُ: واللهِ لا أَتَكَلَّمُ بهِ. قالَ: فقالَ لي: أَشَيْءٌ مِنْ شَكٍّ؟ قُلْتُ: بَلَى، فقالَ لي: مَا نَجَا منْ ذلكَ أَحَدٌ حتَّى أَنْزَلَ اللهُ عزَّ وجلَّ: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} [يونس: 94]، قالَ: فقالَ لي: فإذا وَجَدْتَ في نَفْسِكَ شيئاً، فَقُلْ: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)} [الحديد: 3]
فَأَرْشَدَهُم بهذهِ الآيَةِ إلى بُطْلانِ التسلسلِ الباطلِ بِبَدِيهَةِ العقلِ، وأنَّ سلسلةَ المخلوقاتِ في ابْتِدَائِهَا تَنْتَهِي إلى أَوَّلٍ ليسَ قبلَهُ شَيْءٌ، كما تَنْتَهِي في آخرِهَا إلى آخِرٍ ليسَ بَعْدَهُ شيءٌ، كما أنَّ ظُهُورَهُ هُوَ العُلُوُّ الذي ليسَ فوقَهُ شيءٌ، وبطونَهُ هوَ الإحاطةُ التي لا يكونُ دُونَهُ فيها شيءٌ، ولوْ كانَ قَبْلَهُ شيءٌ يكونُ مُؤَثِّراً فيهِ، لكانَ ذلكَ هوَ الربَّ الخلاَّقَ، ولا بُدَّ أنْ يَنْتَهِيَ الأمرُ إلى خالقٍ غيرِ مخلوقٍ، وغَنِيٍّ عنْ غَيْرِهِ، وكلُّ شَيْءٍ فقيرٌ إليهِ، قَائِمٌ بِنَفْسِهِ، وكلُّ شَيْءٍ قائمٌ بهِ، موجودٌ بِذَاتِهِ، وكُلُّ شَيْءٍ موجودٌ بهِ، قديمٌ، لا أَوَّلَ لهُ، وكلُّ ما سِوَاهُ فَوُجُودُهُ بَعْدَ عَدَمِهِ، بَاقٍ بِـذَاتِهِ، وَبَقَـاءُ كلِّ شـيءٍ بهِ، فـهـوَ الأوَّلُ الذي لَيْـسَ قبلَهُ شيءٌ، والآخِرُ الذي لَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ، الظاهرُ الذي ليسَ فوقَهُ شيءٌ، الباطنُ الذي ليسَ دونَهُ شيءٌ.
وقالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا يَزَالُ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ حَتَّى يَقُولَ قَائِلُهُمْ: هَذَا اللهُ خَلَقَ الْخَلْقَ، فَمَنْ خَلَقَ اللهَ؟ فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئاً، فَلْيَسْتَعِذْ بِاللهِ وَلْيَنْتَهِ)). وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)} [الأعراف: 200]) [المرتبع الأسنى ]

محمدعبداللطيف
2020-05-02, 01:18 PM
قال ابن القيم
ومن أسمائه ( (العَـظِــيمُ):
(وهوَ (( العظيمُ )) الذي لهُ العظمةُ، كما في الصحيحِ عنهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: العَظَمَةُ إِزَارِي وَالْكِبْرِيَاء ُ رِدَائِي)) .
(والعظمةُ: عظمةُ قَدْرِهِ ذَاتاً وَوَصْفاً).
(وكلُّ موصوفٍ فَصِفَتُهُ بِحَسَبِهِ؛ فَعِظَمُ الذاتِ شَيْءٌ، وعِظَمُ صِفَاتِهَا شَيْءٌ، وعِظَمُ القَوْلِ شيءٌ، وعِظَمُ الفعلِ شيءٌ، والربُّ تَعَالَى لَهُ العظمةُ بكلِّ اعتبارٍ وكلِّ وجهٍ بذاتِهِ) [و](أهلُ السُّنَّةِ يُثْبِتُونَ للهِ - سبحانَهُ - … العظمةَ الذاتيَّةَ والمعنويَّةَ).
[فهوَ - تَعَالَى -](أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ... في ذاتِهِ وصفاتِهِ وأفعالِهِ)(


(وَهُوَ العَظِيمُ بكلِّ مَعْنًى يُوجِبُ الْـ = ـتَعْظِيمَ لا يُحْصِيهِ مِنْ إِنْسَانِ)


[و] (اسمُ (( العظيمِ )) لَهُ لوازمُ يُنْكِرُهَا مَنْ لم يَعْرِفْ عَظَمَةَ اللهِ ولوازمَهَا). . [المرتبع الأسنى]

المجلسي الشنقيطي
2020-05-03, 12:27 PM
جزاك الله خيرا

محمدعبداللطيف
2020-05-04, 12:03 PM
جزاك الله خيرابارك الله فيك وجزاك الله خيرا أخى الفاضل المجلسي الشنقيطي

محمدعبداللطيف
2020-05-04, 12:12 PM
قال ابن القيم رحمه الله
((الحَمِيدُ))... هوَ الذي لهُ الحمدُ كُلُّهُ) (فالحميدُ " فَعِيلٌ " من الحمدِ، وهوَ بِمَعْنَى " مَحْمُودٍ ". وأكثرُ ما يَأْتِي " فَعِيلٌ " في أسمائِهِ تَعَالَى بِمَعْنَى " فاعِلٍ " كَسَمِيعٍ، وبَصِيرٍ، وعَلِيمٍ، وقَدِيرٍ، وعَلِيٍّ، وحَكِيمٍ، وحَلِيمٍ، وهوَ كَثِيرٌ.
وكذلكَ " فَعُولٌ " كَغَفُورٍ، وشكورٍ، وصبورٍ...
وأمَّا (( الحَمِيدُ )) فلم يَأْتِ إلاَّ بِمَعْنَى المحمودِ، وهوَ أَبْلَغُ من المحمودِ؛ فإنَّ " فَعِيلاً " إِذَا عُدِلَ بهِ عنْ " مفعولٍ " دَلَّ على أنَّ تلكَ الصفةَ قدْ صَارَتْ مِثْلَ السَّجِيَّةِ الغَرِيزِيَّةِ والخُلُقِ اللازمِ، كما إذا قُلْتَ: فُلانٌ ظَرِيفٌ أوْ شَرِيفٌ أوْ كريمٌ.
ولهذا يكونُ هذا البناءُ غَالِباً مِنْ " فَعُلَ " بوزنِ شَرُفَ، وهذا البناءُ منْ أَبْنِيَةِ الغرائزِ والسَّجَايَا اللازمةِ كَكَبُرَ وصَغُرَ وحَسُنَ ولَطُفَ ونحوِ ذلكَ. ولهذا كانَ حَبِيبٌ أَبْلَغَ منْ مَحْبُوبٍ؛ لأنَّ المحبوبَ هوَ الذي حَصَلَتْ فيهِ الصِّفَاتُ والأفعالُ التي يُحَبُّ لأَجْلِهَا. فهوَ حَبِيبٌ في نفسِهِ وإنْ قُدِّرَ أنَّ غيرَهُ لا يُحِبُّهُ لِعَدَمِ شُعُورِهِ بِهِ أوْ لِمَانِعٍ مَنَعَهُ منْ حُبِّهِ، وَأَمَّا المحبوبُ فهوَ الذي تَعَلَّقَ بهِ حُبُّ المُحِبِّ، فَصَارَ مَحْبُوباً بِحُبِّ الغَيْرِ لهُ، وأمَّا الحبيبُ فهوَ حَبِيبٌ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ تَعَلَّقَ بهِ حُبُّ الغيرِ أوْ لمْ يَتَعَلَّقْ. وهكذا الحميدُ والمحمودُ.
فـالحميدُ: الذي لهُ من الصِّفَاتِ وأسبابِ الحمدِ ما يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ محموداً وإنْ لم يَحْمَدْهُ غَيْرُهُ، فهوَ حَمِيدٌ في نفسِهِ، والمحمودُ مَنْ تَعَلَّقَ بهِ حمدُ الحَامِدِينَ، وهكذا المَجِيدُ والمُمَجَّدُ، والكبيرُ والمُكَبَّرُ، والعظيمُ والمُعَظَّمُ.
والحَمْدُ والمَجْدُ إليهما يَرْجِعُ الكمالُ كلُّهُ؛ فإنَّ الحمدَ يَسْتَلْزِمُ الثناءَ والمَحَبَّةَ للمحمودِ، فَمَنْ أَحْبَبْتَهُ ولم تُثْنِ عَلَيْهِ، لم تَكُنْ حَامِداً لهُ، وكذا مَنْ أَثْنَيْتَ عليهِ لِغَرَضٍ ما، ولم تُحِبَّهُ لمْ تَكُنْ حَامِداً لهُ، حتَّى تَكُونَ مُثْنِياً عليهِ مُحِبًّا.
وهذا الثَّنَاءُ والحُبُّ تَبَعٌ للأسبابِ المُقْتَضِيَةِ لهُ، وهوَ ما عليهِ المحمودُ منْ صفاتِ الكمالِ ونعوتِ الجلالِ والإحسانِ إلى الغيرِ؛ فإنَّ هذهِ هيَ أسبابُ المَحَبَّةِ، وَكُلَّمَا كانتْ هذهِ الصِّفَاتُ أَجْمَعَ وأَكْمَلَ كانَ الحمدُ والحُبُّ أَتَمَّ وَأَعْظَمَ، واللهُ سُبْحَانَهُ لهُ الكمالُ المطلقُ الذي لا نَقْصَ فيهِ بوجهٍ ما، والإحسانُ كُلُّهُ لهُ وَمِنْهُ. فهوَ أحقُّ بكلِّ حمدٍ، وبكلِّ حُبٍّ منْ كلِّ جهةٍ؛ فهوَ أَهْلٌ أنْ يُحَبَّ لذاتِهِ ولصفاتِهِ ولأفعالِهِ ولأسمائِهِ ولإحسانِهِ ولكلِّ ما صَدَرَ منهُ سُبْحَانَهُ).
(واللهُ سُبْحَانَهُ افْتَتَحَ الخَلْقَ بالحمدِ وخَتَمَ أمرَ هذا العالَمِ بالحَمْدِ فقالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الأنعام: 1]، وقالَ: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)} [الزمر: 75].
وَأَنْزَلَ كِتَابَهُ بالحَمْدِ، وَشَرَعَ دِينَهُ بالحمدِ، وَأَوْجَبَ ثَوَابَهُ وَعِقَابَهُ بالحمدِ، فَحَمْدُهُ منْ لوازمِ ذاتِهِ؛ إذْ يَسْتَحِيلُ أنْ يَكُونَ إلاَّ مَحْمُوداً.
فالحمدُ سَبَبُ الخلقِ وغايتُهُ، بالحمدِ أَوْجَدَهُ، وللحمدِ وُجِدَ، فَحَمْدُهُ وَاسِعٌ لِمَا وَسِعَ عِلْمُهُ وَرَحْمَتُهُ، وَقَدْ وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً، فَلَمْ يُوجِدْ شَيْئاً ولم يُقَدِّرْهُ ولم يَشْرَعْهُ إلاَّ بحمدِهِ ولحمدِهِ، وكلُّ ما خَلَقَهُ وشَرَعَهُ فهوَ مُتَضَمِّنٌ للغاياتِ الحميدةِ... ولهذا مَلأَ حَمْدُهُ سَمَاواتِهِ وَأَرْضَهُ وَمَا بَيْنَهُمَا وما شاءَ منْ شيءٍ بَعْدُ مِمَّا خَلَقَهُ وَيَخْلُقُهُ بَعْدَ هذا الخلقِ، فَحَمْدُهُ مَلأَ ذلكَ كُلَّهُ.
وَحَمْدُهُ تَعَالَى أَنْوَاعٌ:
- حَمْدٌ على رُبُوبِيَّتِهِ.
- وحَمْدٌ على تَفَرُّدِهِ بِهَا.
- وَحَمْدٌ على أُلُوهِيَّتِهِ وَتَفَرُّدِهِ.
- وحَمْدٌ على نِعْمَتِهِ.
- وحَمْدٌ على مِنَّتِهِ.
- وحَمْدٌ على حِكْمَتِهِ.
- وحَمْدٌ على عَدْلِهِ في خَلْقِهِ.
- وحَمْدٌ على غِنَاهُ عنْ إِيجَادِ الوَلَدِ والشَّرِيكِ والولِيِّ من الذُّلِّ.
- وحَمْدٌ على كَمَالِهِ الذي لا يَلِيقُ بغيرِهِ.
فهوَ محمودٌ على كلِّ حالٍ، وفي كلِّ آنٍ ونَفَسٍ، وعلى كلِّ ما فَعَلَ، وكلِّ ما شَرَعَ، وعلى كلِّ ما هوَ مُتَّصِفٌ بهِ، وعلى كلِّ ما هوَ مُنَـزَّهٌ عنهُ، وعلى كلِّ ما في الوجودِ منْ خيرٍ وشرٍّ، وَلَذَّةٍ وَأَلَمٍ، وَعَافِيَةٍ وَبَلاءٍ.
فَكَمَا أَنَّ المُلْكَ كُلَّهُ لَهُ، والقدرةَ كُلَّهَا لَهُ، والعِزَّةَ كُلَّهَا لَهُ، والعلمَ كلَّهُ لهُ، والجمالَ كلَّهُ لهُ، والحمدَ كلَّهُ لهُ كما في الدعاءِ المأثورِ: ((اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ، وَلَكَ المُلْكُ، وَبِيَدِكَ الخَيْرُ كُلُّهُ، وَإِلَيْكَ يَرْجِعُ الأَمْرُ كُلُّهُ، وَأَنْتَ أَهْلٌ لأَنْ تُحْمَدَ)).
وما عَمَرَت الدنيا إلاَّ بحمدِهِ، ولا الجنَّةُ إلاَّ بحمدِهِ، ولا النارُ إلاَّ بحمدِهِ، حتَّى إنَّ أَهْلَهَا لَيَحْمَدُونَهُ ، كما قالَ الحسنُ: ( لقدْ دَخَلَ أهلُ النارِ النارَ وإنَّ قُلُوبَهُم لَتَحْمَدُهُ مَا وَجَدُوا عليهِ منْ حُجَّةٍ ولا سَبِيلٍ)([4]).
([فـ]الحمدُ هوَ الأصلُ الجامعُ لذلكَ كُلِّهِ، فهوَ عقدُ نظامِ الخلقِ والأمرِ، والربُّ تَعَالَى لهُ الحمدُ كُلُّهُ بِجَمِيعِ وُجُوهِهِ وَاعْتِبَارَاتِ هِ وتَصَارِيفِهِ.
فما خَلَقَ شيئاً ولا حَكَمَ بشيءٍ إلاَّ ولهُ فيهِ الحمدُ، فَوَصَلَ حمدُهُ إلى حيثُ وَصَلَ خلقُهُ وأمرُهُ, حمداً حقيقيًّا يَتَضَمَّنُ: مَحَبَّتَهُ، وَالرِّضَا بهِ، والثناءَ عليهِ، والإقرارَ بحكمتِهِ البالغةِ في كلِّ ما خَلَقَهُ وأَمَرَ بهِ)([5]).

إثباتِ الحمدِ كُلِّهِ للهِ عَزَّ وَجَلَّ.
( الحمدُ كلُّهُ للهِ رَبِّ العالمِينَ؛ فَإِنَّهُ المحمودُ على ما خَلَقَهُ وأَمَرَ بهِ وَنَهَى عنهُ …
[و] كلُّ ذَرَّةٍ مِنْ ذَرَّاتِ الكونِ شاهدةٌ بحمدِهِ [سُبحانَهُ]، ولهذا سَبَّحَ بحمدِهِ السَّمَاواتُ السبعُ والأرضُ ومَنْ فِيهِنَّ {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44]، وكانَ في قولِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندَ الاعتدالِ من الركوعِ: " رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ مِلْءَ السَّمَاءِ وَمِلْءَ الأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا بَيْنَهُمَا، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ ".
فَلَهُ سُبْحَانَهُ الحَمْدُ حَمْداً يَمْلأُ المَخْلُوقَاتِ والفضاءَ الذي بَيْنَ السماواتِ والأرضِ، وَيَمْلأُ ما يُقَدَّرُ بعدَ ذلكَ مِمَّا يَشَاءُ اللهُ أنْ يَمْلأَ بِحَمْدِهِ، وذاكَ يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ:
- أحدُهُمَا: أنْ يَمْلأَ ما يَخْلُقُهُ اللهُ بعدَ السَّمَاواتِ والأرضِ، والمَعْنَى أنَّ الحمدَ مِلْءُ ما خَلَقْتَهُ، وَمِلْءُ مَا تَخْلُقُهُ بَعْدَ ذَلِكَ.
- الثاني: أنْ يكونَ المَعْنَى: مِلْءَ ما شِئْتَ منْ شَيْءٍ [بَعْدُ] يَمْلأُهُ حَمْدُكَ، أَيْ: يُقَدَّرُ مَمْلُوءاً بِحَمْدِكَ وإنْ لمْ يكُنْ مَوْجُوداً.
ولكنْ قدْ يُقَالُ: المَعْنَى الأوَّلُ أَقْوَى؛ لأنَّ قولَهُ: ((مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ)) يَقْتَضِي أنَّهُ شَيْءٌ يَشَاؤُهُ، وما شاءَ كانَ، والمشيئةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِعَيْنِهِ لا بمُجَرَّدِ ملءِ الحمدِ لهُ. فَتَأَمَّلْهُ.
لكنَّهُ إذا شاءَ كَوْنَهُ فَلَهُ الحمدُ مِلأَهُ، فالمشيئةُ راجعةٌ إلى المملوءِ بالحمدِ، فلا بُدَّ أنْ يَكُونَ شَيْئاً مَوْجُوداً يَمْلؤُهُ حَمْدُهُ.
وأيضاً: فإنَّ قولَهُ: ((مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ)) يَقْتَضِي أنَّهُ شيءٌ يَشَاؤُهُ سبحانَهُ بعدَ هذهِ المخلوقاتِ، كما يَخْلُقُهُ بعدَ ذلكَ منْ مخلوقاتِهِ من القيامةِ وما بعدَهَا. ولوْ أُرِيدَ تَقْدِيرُ خَلْقِهِ لَقِيلَ: وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ مَعَ ذلكَ؛ لأنَّ المُقَدَّرَ يكونُ معَ المُحَقَّقِ.
وأيضاً: فإنَّهُ لمْ يَقُلْ: مِلْءَ ما شِئْتَ أَنْ يَمْلأَهُ الحمدُ، بلْ قالَ: ما شِئْتَ، والعبدُ قدْ حَمِدَ حَمْداً أَخْبَرَ بهِ، وإنَّ ثَنَاءَهُ وَوَصْفَهُ بِأَنَّهُ يَمْلأُ مَا خَلَقَهُ الربُّ سُبْحَانَهُ وَمَا يَشَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ.
وأيضاً: فقولُهُ: ((وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ)) يَقْتَضِي إِثْبَاتَ مَشِيئَةٍ تَتَعَلَّقُ بِشَيْءٍ بَعْدَ ذلكَ.
وعلى الوجهِ الثاني قدْ تَتَعَلَّقُ المشيئةُ بملءِ المُقَدَّرِ، وقدْ لا تَتَعَلَّقُ.
وأيضاً: فإذا قِيلَ: " مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدَ ذلِكَ " كانَ الحمدُ مَالِئاً لِمَا هوَ موجودٌ يَشَاؤُهُ الربُّ دائماً، ولا رَيْبَ أنَّ لهُ الحمدَ دَائِماً في الأُولَى والآخرةِ، وأمَّا إذا قُدِّرَ ما يَمْلَؤُهُ الحمدُ وهوَ غيرُ موجودٍ، فَالمُقَدَّرَات ُ لا حَدَّ لها، وما مِنْ شيءٍ منها إلاَّ يُمْكِنُ تقديرُ شيءٍ بَعْدَهُ، وَتَقْدِيرُ ما لا نهايَةَ لهُ كَتَقْدِيرِ الأعدادِ.
ولوْ أُرِيدَ هذا المَعْنَى لم يَحْتَجْ إلى تعليقِهِ بالمشيئةِ، بلْ قِيلَ: " مِلْءَ مَا لا يَتَنَاهَى "، فأَمَّا ما يَشَاؤُهُ الربُّ تَعَالَى فلا يكونُ إلاَّ مَوْجُوداً مُقَدَّراً، وإنْ كانَ لا آخرَ لنوعِ الحوادثِ وبقاءِ ما يَبْقَى منها، فهذا كلُّهُ مِمَّا يَشَاؤُهُ بَعْدُ.
وأيضاً: فالحمدُ هوَ الإخبارُ بِمَحَاسِنِ المحمودِ على وَجْهِ الحُبِّ لهُ، ومحاسِنُ المحمودِ تَعَالَى إمَّا قَائِمَةٌ بذاتِهِ، وإمَّا ظاهرةٌ في مخلوقاتِهِ، فأمَّا المعدومُ المَحْضُ الذي لمْ يُخْلَقْ ولا خُلِقَ قطُّ فَذَاكَ لَيْسَ فيهِ مَحَاسِنُ ولا غيرُهَا، فلا مَحَامِدَ فيهِ الْبَتَّةَ.
فـ (( الحمدُ للهِ )) الذي يَمْلأُ المخلوقاتِ ما وُجِدَ منها وما يُوجَدُ، هوَ حَمْدٌ يَتَضَمَّنُ الثناءَ عليهِ بكمالِهِ القائمِ بذاتِهِ والمحاسنِ الظاهرةِ في مخلوقاتِهِ، وأمَّا ما لا وُجُودَ لهُ فلا مَحَامِدَ منهُ ولا مَذَامَّ؛ فَجَعَلَ الحمدَ مَالِئاً لِمَا لا حقيقةَ لهُ.
وقد اخْتَلَفَ الناسُ في معنَى كونِ حمدِهِ يَمْلأُ السَّمَاواتِ والأرضَ وما بينَهُمَا:
فقالَ طائفةٌ: هذا على جهةِ التمثيلِ: أيْ: لوْ كانَ أَجْسَاماً لَمَلأَ السَّمَاواتِ والأرضَ وما بَيْنَهُمَا. قَالُوا: فإنَّ الحمدَ مِنْ قَبِيلِ المعاني والأعراضِ التي لا تُمْلأُ بها الأجسامُ، ولا تُمْلأُ الأجسامُ إلاَّ بالأجسامِ.
والصوابُ أنَّهُ لا يُحْتَاجُ إلى هذا التَّكَلُّفِ الباردِ؛ فإنَّ مِلْءَ كلِّ شيءٍ يكونُ بِحَسَبِ المالِئِ وَالمَمْلُوءِ، فإذا قِيلَ: امْتَلأَ الإناءُ مَاءً، وَامْتَلأَت الجَفْنَةُ طَعَاماً؛ فهذا الامتلاءُ نوعٌ.
- وإذا قِيلَ: امْتَلأَت الدارُ رِجَالاً، وَامْتَلأَت المدينةُ خَيْلاً وَرِجَالاً؛ فهذا نوعٌ آخَرُ.
- وإذا قِيلَ: امْتَلأَ الكتابُ سُطُوراً؛ فهذا نوعٌ آخرُ.
- وإذا قِيلَ: امْتَلأَتْ مَسَامِعُ الناسِ حَمْداً أوْ ذَمًّا لفُلانٍ؛ فهذا نوعٌ آخَرُ، كما في أَثَرٍ معروفٍ: " أَهْلُ الجنَّةِ مَن امْتَلأَتْ مَسَامِعُهُ مِنْ ثَنَاءِ الناسِ عليهِ، وأهلُ النارِ مَن امْتَلأَتْ مَسَامِعُهُ منْ ذَمِّ الناسِ لهُ " . وقالَ عُمَرُ بنُ الخطَّابِ في عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ: كُنَيَّفٌ مُلِئَ عِلْماً. وَيُقَالُ: فلانٌ عِلْمُهُ قدْ مَلأَ الدنيا. وكانَ يُقَالُ: مَلأَ ابنُ أبي الدُّنْيَا الدُّنْيَا عِلْماً. وَيُقَالُ: صِيتُ فلانٍ قدْ مَلأَ الدُّنْيَا وَضَيَّقَ الآفَاقَ، وَحُبُّهُ قَدْ مَلأَ القلوبَ، وَبُغْضُ فلانٍ قدْ مَلأَ القلوبَ، وَامْتَلأَ قلبُهُ رُعْباً، وهذا أكثرُ مِنْ أَنْ تُسْتَوْعَبَ شَوَاهِدُهُ، وهوَ حَقِيقَةٌ في بابِهِ.
وجَعْلُ المِلْءِ والامتلاءِ حقيقةً للأجسامِ خاصَّةً تَحَكُّمٌ باطلٌ ودَعْوَى لا دليلَ عليها الْبتَّةَ، والأصلُ الحقيقةُ الواحدةُ، والاشتراكُ المَعْنَوِيُّ هوَ الغالِبُ على اللُّغَةِ والأفهامِ والاستعمالِ، فالمصيرُ إليهِ أَوْلَى من المَجَازِ والاشتراكِ اللَّفْظِيِّ، وليسَ هذا مَوْضِعَ تَقْرِيرِ هذهِ المسْأَلَةِ...
فإذا قِيلَ: " الحَمْدُ كُلُّهُ للهِ "، فهذا لهُ مَعْنَيَانِ:
- أحدُهُمَا: أَنَّهُ مَحْمُودٌ على كلِّ شيءٍ، وبكلِّ ما يُحْمَدُ بهِ المحمودُ التامُّ؛ وإنْ كانَ بَعْضُ خَلْقِهِ يُحْمَدُ أَيْضاً – كَمَا يُحْمَدُ رُسُلُهُ وَأَنْبِيَاؤُهُ وَأَتْبَاعُهُم – فذلكَ مِنْ حَمْدِهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى، بلْ هوَ المحمودُ بالقصدِ الأوَّلِ وبالذَّاتِ، وما نَالُوهُ من الحمدِ فَإِنَّمَا نَالُوهُ بحمدِهِ، فهوَ المحمودُ أوَّلاً وَآخِراً وظاهِراً وباطِناً.
وهذا كَمَا أنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عليمٌ، وقدْ عَلَّمَ غَيْرَهُ منْ عِلْمِهِ ما لمْ يكُنْ يَعْلَمُهُ بدونِ تعليمِهِ، وفي الدعاءِ المأثورِ: ((اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ كُلُّهُ، وَلَكَ المُلْكُ كُلُّهُ، وَبِيَدِكَ الخَيْرُ كُلُّهُ، وَإِلَيْكَ يَرْجِعُ الأَمْرُ كُلُّهُ؛ أَسْأَلُكَ مِنَ الخَيْرِ كُلِّهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ)).
وهوَ سبحانَهُ لهُ المُلْكُ، وقدْ آتَى مِنْ مُلْكِهِ بَعْضَ خَلْقِهِ، ولهُ الحمدُ، وقدْ آتَى غَيْرَهُ من الحمدِ ما شَاءَ، وكما أنَّ مُلْكَ المخلوقِ دَاخِلٌ في مُلكِهِ، فحمدُهُ أيضاً داخلٌ في حمدِهِ، فما مِنْ محمودٍ يُحْمَدُ على شيءٍ مِمَّا دَقَّ أوْ جَلَّ إلاَّ واللهُ المحمودُ عليهِ بالذَّاتِ والأَوَّلِيَّةِ والأَوْلَوِيَّة ِ أيضاً، وإذا قالَ الحامدُ: " اللهُمَّ لَكَ الحَمْدُ " فالمرادُ بهِ أَنْتَ المُسْتَحِقُّ لكلِّ حمدٍ، ليسَ المرادُ بهِ الحمدَ الخارجيَّ فَقَطْ.
- المعنَى الثانِي: أنْ يُقالَ: " لكَ الحمدُ كلُّهُ "؛ أي: الحَمْدُ التامُّ الكاملُ، فهذا مُخْتَصٌّ باللهِ عزَّ وجلَّ لَيْسَ لِغَيْرِهِ فيهِ شَرِكةٌ.
والتحقيقُ أنَّ لهُ الحمدَ بالمَعْنَيَيْنِ جَمِيعاً، فَلَهُ عُمُومُ الحمدِ وَكَمَالُهُ، وهذا مِنْ خَصَائِصِهِ سُبْحَانَهُ؛ فهوَ المحمودُ على كلِّ حالٍ وعلى كلِّ شيءٍ أَكْمَلَ حَمْدٍ وَأَعْظَمَهُ، كما أنَّ لهُ المُلْكَ التامَّ العامَّ، فَلا يَمْلُكُ كُلَّ شَيْءٍ إلاَّ هوَ، وليسَ الملكُ التامُّ الكاملُ إلاَّ لهُ.
وَأَتْبَاعُ الرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللهِ وسلامُهُ عليهم يُثْبِتُونَ لهُ كمالَ المُلْكِ وكمالَ الحمدِ، فَإِنَّهُم يَقُولُونَ: إنَّهُ خَالِقُ كلِّ شيءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ، لا يَخْرُجُ عنْ خَلْقِهِ وقُدْرتِهِ ومشيئتِهِ شيءٌ الْبتَّةَ، فلهُ المُلْكُ كُلُّهُ)([9]).
(وهوَ الحميدُ فكلُّ حَمْدٍ واقِعٌ = أوْ كانَ مَفْرُوضاً مَدَى الأزمانِ
مَلأَ الوجودَ جميعَهُ ونظيرَهُ = من غيرِ ما عَدٍّ ولا حُسْبَانِ
هوَ أَهْلُهُ سبحانَهُ وبحمدِهِ = كلُّ المحامدِ وَصْفُ ذي الإحسانِ)

ومِنْ تمامِ حمدِهِ تَسْبِيحُهُ وَتَنْـزِيهُهُ عَمَّا وَصَفَهُ بهِ أَعْدَاؤُهُ والجاهلونَ بهِ مِمَّا لا يَلِيقُ بهِ، ((فَكَمَالُ حَمْدِهِ يُوجِبُ أَنْ لا يُنْسَبَ إِلَيْهِ شَرٌّ ولا سُوءٌ ولا نَقْصٌ لا في أسمائِهِ ولا في أفعالِهِ ولا في صفاتِهِ)).
وكانَ في تَنَوُّعِ تَنْـزِيهِهِ عنْ ذلكَ من العلومِ والمعارفِ وتقريرِ صفاتِ الكمالِ وتكميلِ أنواعِ الحمدِ ما في بيانِ مَحَاسِنِ الشيءِ وكمالِهِ عندَ معرفةِ ما يُضَادُّهُ وَيُخَالِفُهُ، ولهذا كانَ تَسْبِيحُهُ تَعَالَى منْ تَمَامِ حَمْدِهِ، وَحَمْدُهُ منْ تمامِ تَسْبِيحِهِ، ولهذا كانَ التسبيحُ والتحميدُ قُرْبَتَيْنِ؛ فكانَ ما نَسَبَهُ إليهِ أعداؤُهُ والمُعَطِّلُونَ لصفاتِ كمالِهِ منْ عُلُوِّهِ على خلقِهِ وإنزالِهِ كلامَهُ الذي تَكَلَّمَ بهِ على رُسُلِهِ وغيرِ ذلكَ منْ صفاتِ كمالِهِ مُوجِباً لِتَنْـزِيهِ رُسُلِهِ لهُ وَتَسْبِيحِهِم عنْ ذلكَ مِمَّا نَزَّهَ عَنْهُ نَفْسَهُ وَسَبَّحَ بهِ نفسَهُ، فكانَ في ذلكَ ظهورُ حمدِهِ بِخَلْقِهِ، وَتَنَوُّعُ أَسْبَابِهِ، وَكَثْرَةُ شَوَاهِدِهِ، وَسَعَةُ طُرُقِ الثناءِ عليهِ بهِ، وتقريرُ عَظَمَتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ في قلوبِ عبادِهِ، فَلَوْلا مَعْرِفَةُ الأسبابِ التي يُسَبَّحُ وَيُنَـزَّهُ وَيُتَعَالَى عنها وخَلْقُ مَنْ يُضِيفُهَا إليهِ ويَصِفُهُ بها؛ لَمَا قَامَتْ حَقِيقَةُ التسبيحِ، ولا ظَهَرَ لقلوبِ أهلِ الإيمانِ عنْ أيِّ شيءٍ يُسَبِّحُونَهُ وَعَمَّاذا يُنَـزِّهُونَهُ .
فَلَمَّا رَأَوْا في خَلْقِهِ مَنْ قدْ نَسَبَهُ إلى ما لا يَلِيقُ بهِ، وَجَحَدَ مِنْ كَمَالِهِ ما هوَ أَوْلَى بهِ سَبَّحُوهُ حينئذٍ تَسْبِيحَ مُجِلٍّ لهُ مُعَظِّمٍ لهُ مُنَزِّهٍ لهُ عنْ أمرٍ قدْ نَسَبَهُ إليهِ أعداؤُهُ والمُعَطِّلُونَ لصفاتِهِ.
ونظيرُ هذا اشتمالُ كلمةِ الإسلامِ وهيَ شهادةُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ على النَّفْيِ والإثباتِ، فكانَ في الإتيانِ بالنَّفْيِ في صَدْرِ هذهِ الكلمةِ منْ تقريرِ الإثباتِ وتحقيقِ معنَى الإِلهيَّةِ وَتَجْرِيدِ التوحيدِ الذي يُقْصَدُ بِنَفْيِ الإِلهيَّةِ عنْ كلِّ ما ادُّعِيَتْ فيهِ سِوَى الإِلَهِ الحَقِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَتَجْرِيدُ هذا التوحيدِ من العقدِ واللسانِ بتَصَوُّرِ إثباتِ الإِلهيَّةِ لغيرِ اللهِ - كما قَالَهُ أعداؤُهُ المشركونَ - وَنَفْيُهُ وإبطالُهُ من القلبِ واللسانِ منْ تمامِ التوحيدِ وكمالِهِ وتقريرِهِ وظهورِ أعلامِهِ ووضوحِ شواهدِهِ، وصِدْقِ براهينِهِ). [المرتبع الأسنى]

محمدعبداللطيف
2020-05-04, 12:17 PM
قال ابن القيم رحمه الله

(منْ أسمائِهِ الحُسْنَى: (( الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ )) ) (فـالرحمنُ الذي الرَّحْمَةُ وَصْفُهُ، والرحيمُ الراحمُ لِعِبَادِهِ، ولهذا يقولُ تَعَالَى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِين َ رَحِيمًا (43)} [الأحزاب: 43]، {بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)} [التوبة: 117].
ولمْ يَجِئْ رَحْمَانُ بِعِبَادِهِ، ولا رَحْمَانُ بالمؤمِنِينَ، معَ ما في اسمِ الرحمنِ الذي هوَ على وزنِ فَعْلان منْ سَعَةِ هذا الوصفِ، وثبوتِ جميعِ معناهُ الموصوفِ بهِ، أَلاَ تَرَى أَنَّهُم يقولونَ: غَضْبَانُ، للمُمْتَلِئِ غَضَباً، وَنَدْمَانُ وَحَيْرَانُ وَسَكْرَانُ وَلَهْفَانُ لِمَنْ مُلِئَ بِذَلِكَ، فبناءُ فَعْلان للسَّعَةِ والشمولِ، ولهذا يَقْرِنُ اسْتِوَاءَهُ على العرشِ بهذا الاسمِ كثيراً، كقولِهِ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى، {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} [الفرقان: 59]، فَاسْتَوَى على عرشِهِ باسمِ الرحمنِ؛ لأنَّ العرشَ مُحِيطٌ بالمخلوقاتِ قدْ وَسِعَهَا، والرحمةَ مُحيطةٌ بالخَلْقِ واسعةٌ لهم، كما قالَ تَعَالَى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156]، فاسْتَوَى على أوسعِ المخلوقاتِ بأوسعِ الصِّفَاتِ، فلذلكَ وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كلَّ شيءٍ.
وفي الصحيحِ منْ حديثِ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَمَّا قَضَى اللهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابٍ، فَهُوَ عِنْدَهُ مَوْضُوعٌ عَلَى الْعَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي))، وفي لفظٍ: ((فَهُوَ عِنْدَهُ عَلَى الْعَرْشِ)).

فَتَأَمَّل اخْتِصَاصَ هذا الكتابِ بِذِكْرِ الرحمةِ، وَوَضْعَهُ عِنْدَهُ على العرشِ، وَطَابِقْ بينَ ذلكَ وبينَ قولِهِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] وقولِهِ: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} [الفرقان: 59]، يَنْفَتِحْ لكَ بابٌ عظيمٌ منْ معرفةِ الربِّ تَبَارَكَ وتَعَالَى، إنْ لمْ يُغْلِقْهُ عنكَ التعطيلُ والتَّجَهُّمُ) (وَ... انْظُرْ إلى ما في الوجودِ منْ آثارِ رَحْمَتِهِ الخاصَّةِ والعامَّةِ، فَبِرَحْمَتِهِ أَرْسَلَ إِلَيْنَا رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْزَلَ عَلَيْنَا كِتَابَهُ وَعَصَمَنَا مِن الجَهالةِ، وَهَدَانَا من الضلالةِ، وَبَصَّرَنَا من العَمَى، وَأَرْشَدَنَا مِن الغَيِّ، وبرحمتِهِ عَرَّفَنَا منْ أسمائِهِ وصفاتِهِ وأفعالِهِ ما عَرَّفَنَا بهِ أنَّهُ رَبُّنَا وَمَوْلانَا، وَبِرَحْمَتِهِ عَلَّمَنَا مَا لمْ نَكُنْ نَعْلَمُ، وَأَرْشَدَنَا لِمَصَالِحِ دِينِنَا وَدُنْيَانَا، وَبِرَحْمَتِهِ أَطْلَعَ الشمسَ والقمرَ، وجعلَ الليلَ والنهارَ، وبَسَطَ الأرضَ، وَجَعَلَهَا مِهَاداً وَفِرَاشاً، وَقَرَاراً، وَكِفَاتاً للأحياءِ والأمواتِ، وَبِرَحْمَتِهِ أَنْشَأَ السحابَ وأَمْطَرَ المَطَرَ، وأَطْلَعَ الفواكِهَ والأقواتَ والمَرْعَى، ومِنْ رَحْمَتِهِ سَخَّرَ لنا الخيلَ والإبلَ والأنعامَ وَذلَّلَهَا مُنْقَادَةً للركوبِ والحمْلِ والأكلِ والدَّرِّ، وَبِرَحْمَتِهِ وَضَعَ الرحمةَ بينَ عبادِهِ لِيَتَرَاحَمُوا بها، وكذلكَ بَيْنَ سَائِرِ أنواعِ الحيوانِ.

فهذا التَّرَاحُمُ الذي بَيْنَهُم بعضُ آثارِ الرحمةِ التي هيَ صِفَتُهُ وَنِعْمَتُهُ، واشْتَقَّ لِنَفْسِهِ منها اسمَ الرحمنِ الرحيمِ، وَأَوْصَلَ إلى خلقِهِ مَعَانِيَ خِطَابِهِ بِرَحْمَتِهِ، وَبَصَّرَهُم وَمَكَّنَ لهم أسبابَ مَصَالِحِهِم بِرَحْمَتِهِ.

وَأَوْسَعُ المخلوقاتِ عَرْشُهُ، وَأَوْسَعُ الصِّفَاتِ رَحْمَتُهُ، فَاسْتَوَى على عرشِهِ الذي وَسِعَ المخلوقاتِ بِصِفَةِ رحمتِهِ التي وَسِعَتْ كلَّ شيءٍ، وَلَمَّا اسْتَوَى على عرشِهِ بهذا الاسمِ الذي اشْتَقَّهُ منْ صِفَتِهِ وَتَسَمَّى بهِ دُونَ خَلْقِهِ، كَتَبَ بِمُقْتَضَاهُ على نفسِهِ يومَ استوائِهِ على عرشِهِ حينَ قَضَى الخلقَ كتاباً، فهوَ عندَهُ وَضَعَهُ على عرشِهِ: ((أنَّ رَحْمَتَهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ))، وكانَ هذا الكتابُ العظيمُ الشَّأْنِ كالعهدِ منهُ سبحانَهُ للخليقةِ كُلِّهَا بالرحمةِ لهم والعفوِ عنهم، والمَغْفِرَةِ والتَّجَاوُزِ والسَّتْرِ والإِمهالِ والحِلمِ والأناةِ، فكانَ قِيَامُ العالمِ العُلْوِيِّ والسفليِّ بِمَضْمُونِ هذا الكتابِ الذي لَوْلاهُ لكانَ للخلقِ شَأْنٌ آخرُ، وكانَ عنْ صِفَةِ الرحمةِ الجنةُ وَسُكَّانُها وَأَعْمَالُهُم، فَبِرَحْمَتِهِ خُلِقَتْ، وَبِرَحْمَتِهِ عَمَرَتْ بِأَهْلِهَا، وَبِرَحْمَتِهِ وَصَلُوا إليهِ، وَبِرَحْمَتِهِ طَابَ عَيْشُهُم فيها، وَبِرَحْمَتِهِ احْتَجَبَ عنْ خلقِهِ بالنورِ، ولوْ كَشَفَ ذلكَ الحِجَابَ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ ما انْتَهَى إليهِ بصرُهُ منْ خلقِهِ، ومِنْ رحمتِهِ أنَّهُ يُعِيذُ مِنْ سَخَطِهِ بِرِضَاهُ، وَمِنْ عُقُوبَتِهِ بِعَفْوِهِ، وَمِنْ نَفْسِهِ بِنَفْسِهِ، ومِنْ رَحْمَتِهِ أنْ خَلَقَ للذَّكَرِ من الحيوانِ أُنْثَى مِنْ جِنْسِهِ، وأَلْقَى بينَهُمَا المَحَبَّةَ والرحمةَ لِيَقَعَ بينَهُمَا التواصلُ الذي بهِ دوامُ التناسلِ وانتفاعُ الزوجَيْنِ، ويُمَتِّعُ كلُّ واحدٍ منْهُمَا صَاحِبَهُ، ومِنْ رَحْمَتِهِ أَحْوَجَ الخلقَ بعضَهم إلى بعضٍ لِتَتِمَّ مَصَالِحُهُم، ولوْ أَغْنَى بَعْضَهم عنْ بعضٍ لَتَعَطَّلَتْ مَصَالِحُهُم وانْحَلَّ نِظَامُهُم. وكانَ منْ تَمَامِ رَحْمَتِهِ بهم أنْ جَعَلَ فيهم الغَنِيَّ والفَقِيرَ، والعزيزَ والذليلَ، والعاجزَ والقادرَ، والراعِيَ والمَرْعِيَّ، ثُمَّ أَفْقَرَ الجميعَ إليهِ، ثُمَّ عَمَّ الجميعَ برحمتِهِ.
ومنْ رحمتِهِ أنَّهُ خَلَقَ مِائَةَ رَحْمَةٍ، كُلُّ رَحْمَةٍ منها طِباقُ ما بينَ السماءِ والأرضِ، فَأَنْزَلَ منها إلى الأرضِ رحمةً واحدةً نَشَرَهَا بينَ الخليقةِ لِيَتَرَاحَمُوا بها، فَبِهَا تَعْطِفُ الوالدةُ على وَلَدِهَا، والطيرُ والوَحْشُ والبهائمُ، وبهذهِ الرحمةِ قِوَامُ العالمِ ونظامُهُ.
وتَأَمَّلْ قولَهُ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآَنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)} [الرحمن: 1-4]، كيفَ جَعَلَ الخلقَ والتعليمَ ناشِئاً عنْ صفةِ الرحمةِ مُتَعلِّقاً باسمِ الرحمنِ، وَجَعَلَ مَعَانِيَ السورةِ مُرْتَبِطَةً بهذا الاسمِ وَخَتَمَهَا بِقَوْلِهِ: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)} [الرحمن: 78]، فالاسمُ الذي تَبَارَكَ هوَ الاسمُ الذي افْتَتَحَ بهِ السورةَ؛ إذْ مَجِيءُ البركةِ كلِّهَا منهُ، وبهِ وُضِعَت البركةُ في كلِّ مُبَارَكٍ، فكلُّ ما ذُكِرَ عليهِ بُورِكَ فيهِ، وكلُّ ما أُخْلِيَ منهُ نُزِعَت منهُ البركةُ، فإنْ كانَ مُذَكًّى وَخَلِيَ منهُ اسمُهُ كانَ مَيْتَةً، وإنْ كانَ طَعَاماً شَارَكَ صاحبَهُ فيهِ الشيطانُ، وإنْ كانَ مَدْخَلاً دَخَلَ معهُ فيهِ، وإنْ كانَ حَدَثاً لم يُرْفَعْ عندَ كثيرٍ من العلماءِ، وإنْ كانَ صَلاةً لمْ تَصِحَّ عندَ كثيرٍ منهُم.

وَلَمَّا خَلَقَ سبحانَهُ الرَّحْمَةَ وَاشْتَقَّ لها اسْماً من اسمِهِ، فَأَرَادَ إِنْزَالَهَا إلى الأرضِ تَعَلَّقَتْ بهِ سبحانَهُ، فقالَ: مَهْ. فَقَالَتْ: هذا مقامُ العائِذِ بكَ من القطيعةِ، فقالَ: أَلاَ تَرْضَيْنَ أنْ أَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ، وَأَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ؟ وهيَ مُتَعَلِّقَةٌ بالعرشِ لها حُجْنَةٌ كَحُجْنَةِ المِغْزَلِ ، وكانَ تَعَلُّقُهَا بالعرشِ رحمةً منهُ بها، وَإِنْزَالُهَا إلى الأرضِ رحمةً منهُ بِخَلْقِهِ، وَلَمَّا عَلِمَ سبحانَهُ مَا تَلْقَاهُ منْ نُزُولِهَا إلى الأرضِ وَمُفَارَقَتِهَ ا لِمَا اشْتُقَّتْ مِنْهُ رَحِمَهَا بِتَعَلُّقِهَا بالعرشِ واتِّصَالِهَا بهِ، وقولُاهِ: ((أَلاَ تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟))

ولذلكَ كانَ مَنْ وَصَلَ رَحِمَهُ لِقُرْبِهِ من الرَّحْمَنِ وَرِعَايَةِ حُرْمَةِ الرحمِ قدْ عَمَّرَ دُنْيَاهُ، وَاتَّسَعَتْ لهُ مَعِيشَتُهُ، وَبُورِكَ لهُ في عُمرِهِ، وَنُسِئَ لهُ في أثرِهِ، فإنْ وَصَلَ ما بَيْنَهُ وبينَ الرحمنِ جَلَّ جَلالُهُ معَ ذلكَ وما بَيْنَهُ وبينَ الخلقِ بالرحمةِ والإحسانِ تَمَّ لهُ أَمْرُ دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ، وإنْ قَطَعَ ما بَيْنَهُ وبينَ الرحمِ وما بينَهُ وبينَ الرحمنِ أَفْسَدَ عليهِ أَمْرَ دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ، وَمَحَقَ بَرَكَةَ رَحْمَتِهِ ورزقِهِ وأَثَرِهِ، كَمَا قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يُدَّخَرُ لَهُ مِنَ الْعُقُوبَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ)).

فالبَغْيُ مُعاملةُ الخلقِ بضدِّ الرحمةِ، وكذلكَ قطيعةُ الرحمِ، وإنَّ القومَ لَيَتَوَاصَلُون َ وَهُمْ فَجَرَةٌ، فَتَكْثُرُ أَمْوَالُهُم وَيَكْثُرُ عَدَدُهُم، وإنَّ القومَ لَيَتَقَاطَعُون َ، فَتَقِلُّ أَمْوَالُهُم، وَيَقِلُّ عَدَدُهُم، وذلكَ لكثرةِ نَصِيبِ هؤلاءِ من الرحمةِ وقِلَّةِ نصيبِ هؤلاءِ منها، وفي الحديثِ: ((إِنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الْعُمُرِ))

و إذا أَرَادَ اللهُ بأهلِ الأرضِ خيراً نَشَرَ عليهم أَثَراً منْ آثارِ اسمِهِ الرحمنِ فَعَمَّرَ بهِ البلادَ، وَأَحْيَا بهِ العِبَادَ، وإذا أَرَادَ بهم شَرًّا أَمْسَكَ عنهم ذلكَ الأثرَ، فَحَلَّ بهم من البلاءِ بِحَسَبِ ما أَمْسَكَ عنهم منْ آثارِ اسمِهِ الرحمنِ، ولهذا إذا أَرَادَ اللهُ سبحانَهُ أنْ يُخَرِّبَ هذهِ الدارَ وَيُقِيمَ القيامةَ أَمْسَكَ عنْ أهلِهَا أَثَرَ هذا الاسمِ وَقَبَضَهُ شَيْئاً فَشَيْئاً، حتَّى إذا جاءَ وَعْدُهُ قَبَضَ الرحمةَ التي أَنْزَلَهَا إلى الأرضِ، فَتَضَعُ لذلكَ الحواملُ ما في بُطُونِهَا، وَتَذْهَلُ المُرْضِعُ عنْ أَوْلادِهَا فَيُضِيفُ سبحانَهُ تلكَ الرحمةَ التي رَفَعَهَا وَقَبَضَهَا من الأرضِ إلى ما عِنْدَهُ من الرحمةِ، فَيُكَمِّلُ بها مِائَةَ رحمةٍ فَيَرْحَمُ بها أهلَ طاعتِهِ وتوحيدِهِ وتصديقِ رُسُلِهِ وَتَابِعِيهِم.

وأنتَ لوْ تَأَمَّلْتَ العَالَمَ بِعَيْنِ البصيرةِ لَرَأَيْتَهُ مُمْتَلِئاً بهذهِ الرحمةِ الواحدةِ كامْتِلاءِ البحرِ بمائِهِ والجوِّ بهوائِهِ، وما في خلالِهِ منْ ضِدِّ ذلكَ فهوَ مُقْتَضَى قولِهِ: ((سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي)). فَالْمَسْبُوقُ لا بُدَّ لاحِقٌ وإنْ أَبْطَأَ، وفيهِ حِكْمَةٌ لا تُنَاقِضُهَا الرحمةُ، فهوَ أَحْكَمُ الحاكِمِينَ وَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)، (وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((للهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنَ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا)). وَأَيْنَ تَقَعُ رَحْمَةُ الوالدةِ منْ رحمةِ اللهِ التي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ؟

فإذا أَغْضَبَهُ العَبْدُ بِمَعْصِيَتِهِ فقد اسْتَدْعَى مِنْهُ صَرْفَ تلكَ الرحمةِ عنهُ. فإذا تَابَ إليهِ فَقَد اسْتَدْعَى منهُ ما هوَ أهلُهُ وَأَوْلَى بِهِ).

[فَصْلٌ]:
(اعْلَمْ أنَّ الرحمةَ... [المضافةَ] إلى اللهِ تَعَالَى نَوْعَانِ:
- أحدُهُمَا: مُضَافٌ إليهِ إضافةَ مفعولٍ إلى فاعلِهِ.
- والثاني: مُضَافٌ إليهِ إضافةَ صِفَةٍ إلى الموصوفِ بها.
فمِن الأوَّلِ: قَوْلُهُ في الحديثِ الصحيحِ: ((احْتَجَّتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ...)) فَذَكَرَ الحديثَ، وفيهِ: ((فَقَالَ لِلْجَنَّةِ: إنَّمَا أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ)) . فهذهِ رحمةٌ مخلوقةٌ مُضَافَةٌ إليهِ إضافةَ المخلوقِ بالرحمةِ إلى الخالقِ تَعَالَى، وَسَمَّاهَا رَحْمَةً؛ لأَنَّهَا خُلِقَتْ بالرحمةِ وللرحمةِ، وَخَصَّ بها أهلَ الرحمةِ، وَإِنَّمَا يَدْخُلُهَا الرُّحَمَاءُ.

ومنهُ قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((خَلَقَ اللهُ الرَّحْمَةَ يَوْمَ خَلَقَهَا مِائَةَ رَحْمَةٍ، كُلُّ رَحْمَةٍ مِنْهَا طِبَاقُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ)) . وَمِنْهُ قولُهُ تَعَالَى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً} [هود: 9]، ومنهُ تَسْمِيَتُهُ تَعَالَى للمطرِ رحمةً بقولِهِ: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الأعراف: 57].

وعلى هذا فلا يَمْتَنِعُ الدعاءُ المشهورُ بينَ الناسِ قَدِيماً وَحَدِيثاً، وهوَ قولُ الداعِي: ((اللهُمَّ اجْمَعْنَا فِي مُسْتَقَرِّ رَحْمَتِكَ)). وَذَكَرَهُ البخاريُّ في كتابِ " الأدبِ المُفْرَدِ " لهُ عنْ بعضِ السَّلَفِ، وَحَكَى فيهِ الكراهةَ، قالَ: إنَّ مُسْتَقَرَّ رَحْمَتِهِ ذَاتُهُ، وهذا بِنَاءً على أنَّ الرحمةَ صفةٌ.

وليسَ مُرَادُ الداعِي ذلكَ، بلْ مُرَادُهُ الرحمةُ المخلوقةُ التي هيَ الجنَّةُ، ولكنَّ الذينَ كَرِهُوا ذلكَ لهم نَظَرٌ دَقِيقٌ جِدًّا، وهوَ أنَّهُ إذا كانَ المرادُ بالرحمةِ الجنَّةَ نَفْسَهَا لمْ يَحْسُنْ إضافةُ المُسْتَقَرِّ إليها، ولهذا لا يَحْسُنُ أنْ يُقَالَ: اجْمَعْنَا فِي مُسْتَقَرِّ جَنَّتِكَ، فإنَّ الجنَّةَ نَفْسَهَا هيَ دارُ القَرارِ، وهيَ المُسْتَقَرُّ نفسُهُ كَمَا قالَ: {حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76)} [الفرقان: 76]، فكيفَ يُضَافُ المُسْتَقَرُّ إِلَيْهَا، وَالمُسْتَقَرُّ هوَ المكانُ الذي يَسْتَقِرُّ فيهِ الشيءُ، ولا يَصِحُّ أنْ يَطْلُبَ الدَّاعِي الجَمْعَ في المكانِ الذي تَسْتَقِرُّ فيهِ الجنَّةُ، فَتَأَمَّلْهُ؛ ولهذا قالَ: مُسْتَقَرُّ رَحْمَتِهِ ذَاتُهُ.

والصوابُ أنَّ هذا لا يَمْتَنِعُ، وحتَّى لوْ قالَ صَرِيحاً: ( اجْمَعْنَا فِي مُسْتَقَرِّ جَنَّتِكَ )لم يَمْتَنِعْ، وذلكَ أنَّ المُسْتَقَرَّ أَعَمُّ مِنْ أنْ يكونَ رَحْمَةً أَوْ عَذَاباً، فإذا أُضِيفَ إلى أَحَدِ أنواعِهِ أُضِيفَ إلى ما يُبَيِّنُهُ ويُمَيِّزُهُ منْ غيرِهِ، كأنَّهُ قِيلَ: في المُسْتَقَرِّ الذي هوَ رَحْمَتُكَ لا في المُسْتَقَرِّ الآخرِ، وَنَظِيرُ هذا أنْ يقولَ: اجْلِسْ في مُسْتَقَرِّ المَسْجِدِ، أي: المُسْتَقَرِّ الذي هوَ المسجدُ، والإضافةُ في مثلِ ذلكَ غيرُ مُمْتَنِعَةٍ ولا مُسْتَكْرَهَةٍ، وأيضاً فإنَّ الجنَّةَ وإنْ سُمِّيَتْ رَحْمَةً لمْ يَمْتَنِعْ أنْ يُسَمَّى ما فيها منْ أنواعِ النعيمِ رَحْمَةً، ولا رَيْبَ أنَّ مُسْتَقَرَّ ذلكَ النعيمِ هوَ الجنَّةُ، فالدَّاعِي يَطْلُبُ أنْ يَجْمَعَهُ اللهُ ومَنْ يُحِبُّ في المكانِ الذي تَسْتَقِرُّ فيهِ تلكَ الرحمةُ المخلوقةُ في الجنَّةِ، وهذا ظَاهِرٌ جِدًّا، فلا يَمْتَنِعُ الدعاءُ بوجهٍ، واللهُ أَعْلَمُ.

وهذا بِخِلافِ قَوْلِ الدَّاعِي: (( يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ ))؛ فَإِنَّ الرحمةَ هُنَا صِفَتُهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى، وَهِيَ مُتَعَلَّقُ الاستغاثةِ، فإنَّهُ لا يُسْتَغَاثُ بمخلوقٍ، ولهذا كانَ هذا الدعاءُ منْ أَدْعِيَةِ الكَرْبِ، لِمَا تَضَمَّنَهُ من التوحيدِ والاستغاثةِ برحمةِ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ، مُتَوَسِّلاً إليهِ بِاسْمَيْنِ عَلَيْهِمَا مَدَارُ الأسماءِ الحُسْنَى كُلِّهَا، وإليهما مَرْجِعُ مَعَانِيهَا جَمِيعِهَا، وهوَ اسمُ الحيِّ القيُّومِ؛ فإنَّ الحياةَ مُسْتَلْزِمَةٌ لجميعِ صفاتِ الكمالِ، ولا يَتَخَلَّفُ عنها صِفَةٌ منها إلاَّ لِضَعْفِ الحياةِ، فإذا كانتْ حَيَاتُهُ تَعَالَى أَكْمَلَ حياةٍ وَأَتَمَّهَا اسْتَلْزَمَ إِثْبَاتُهَا إِثْبَاتَ كُلِّ كَمَالٍ يُضَادُّ نَفْيَ كمالِ الحياةِ.

وبهذا الطريقِ العَقْلِيِّ أَثْبَتَ مُتَكَلِّمُو أَهْلِ الإثباتِ لهُ تَعَالَى صِفَةَ السمعِ والبصرِ والعِلْمِ والإرادةِ والقدرةِ والكلامِ وسائرِ صفاتِ الكمالِ.

وأمَّا القيُّومُ فهوَ مُتَضَمِّنٌ كمالَ غِنَاهُ وكمالَ قُدْرَتِهِ، فإنَّهُ القَائِمُ بِنَفْسِهِ لا يَحْتَاجُ إلى مَنْ يُقِيمُهُ بِوَجْهٍ من الوجوهِ، وهذا مِنْ كمالِ غِنَاهُ بِنَفْسِهِ عَمَّا سِوَاهُ، وهوَ المُقِيمُ لغيرِهِ، فلا قِيَامَ لِغَيْرِهِ إلاَّ بإقامتِهِ، وهذا منْ كمالِ قُدْرَتِهِ وَعِزَّتِهِ.

فَانْتَظَمَ هذانِ الاسمانِ صِفَاتِ الكمالِ وَالغِنَى التامَّ والقدرةَ التامَّةَ، فَكَأَنَّ المُسْتَغِيثَ بِهِمَا مُسْتَغِيثٌ بكلِّ اسمٍ منْ أسماءِ الربِّ تَعَالَى، وبكلِّ صفةٍ منْ صفاتِهِ، فَمَا أَوْلَى الاستغاثةَ بِهَذَيْنِ الاسْمَيْنِ أنْ يَكُونَا في مَظِنَّةِ تَفْرِيجِ الكُرُبَاتِ، وَإِغَاثَةِ اللَّهَفاتِ، وَإِنَالَةِ الطَّلَباتِ.

والمقصودُ أنَّ الرحمةَ المُسْتَغَاثَ بها منْ صفةِ الربِّ تَعَالَى , لا شَيْءٌ منْ مخلوقاتِهِ، كما أنَّ المُسْتَعِيذَ بعِزَّتِهِ في قولِهِ: (( أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ )) مُسْتَعِيذٌ بعِزَّتِهِ التي هيَ صِفَتُهُ لا بِعِزَّتِهِ التي خَلَقَهَا يُعِزُّ بها عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ.

وهذا كُلُّهُ يُقَرِّرُ قولَ أهلِ السُّنَّةِ أنَّ قولَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ)) يَدُلُّ على أنَّ كلماتِهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ؛ فَإِنَّهُ لا يُسْتَعَاذُ بِمَخْلُوقٍ.

وأمَّا قولُهُ تَعَالَى حكايَةً عنْ ملائكتِهِ: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7]، فهذهِ رحمةُ الصِّفَةِ التي وَسِعَتْ كلَّ شَيْءٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156]. وَسَعَتُهَا: عُمُومُ تَعَلُّقِهَا بِكُلِّ شيءٍ، كما أنَّ سَعَةَ عِلْمِهِ تَعَالى عُمُومُ تعَلُّقِهِ بِكُلِّ مَعْلُومٍ).

(وَمِمَّا يَنْبَغِي أنْ يُعْلَمَ: أنَّ الرحمةَ صِفَةٌ تَقْتَضِي إِيصَالَ المنافعِ والمصالحِ إلى العبدِ، وإنْ كَرِهَتْهَا نَفْسُهُ، وَشَقَّتْ عليها، فهذهِ هيَ الرَّحمةُ الحقيقيَّةُ. فَأَرْحَمُ الناسِ بكَ مَنْ شَقَّ عليكَ في إيصالِ مَصَالِحِكَ، وَدَفْعِ المَضَارِّ عَنْكَ.

فَمِنْ رَحْمَةِ الأَبِ بِوَلَدِهِ: أنْ يُكْرِهَهُ على التَّأَدُّبِ بالعلمِ والعملِ، وَيَشُقَّ عليهِ في ذلكَ بالضَّرْبِ وغيرِهِ، وَيَمْنَعَهُ شَهَوَاتِهِ التي تَعُودُ بِضَرَرِهِ، ومتَى أَهْمَلَ ذلكَ مِنْ وَلَدِهِ كَانَ لِقلَّةِ رَحْمَتِهِ بهِ، وإنْ ظَنَّ أنَّهُ يَرْحَمُهُ وَيُرَفِّهُهُ وَيُرِيحُهُ، فهذهِ رَحْمَةٌ مَقْرُونَةٌ بِجَهْلٍ، كَرَحْمَةِ الأمِّ.

ولهذا كانَ مِنْ تَمَامِ رحمةِ أرحمِ الراحمِينَ: تَسْلِيطُ أنواعِ البلاءِ على العبدِ، فإنَّهُ أَعْلَمُ بِمَصْلَحَتِهِ، فَابْتِلاؤُهُ لهُ وَامْتِحَانُهُ وَمَنْعُهُ مِنْ كثيرٍ منْ أغراضِهِ وشهواتِهِ مِنْ رَحْمَتِهِ بهِ، لكنَّ العبدَ لِجَهْلِهِ وَظُلْمِهِ يَتَّهِمُ رَبَّهُ بِابْتِلائِهِ، ولا يَعْلَمُ إحْسَانَهُ إليهِ بابْتِلائِهِ وَامْتِحَانِهِ.

وقدْ جاءَ في الأثرِ: " إنَّ المُبْتَلَى إِذَا دُعِيَ لَهُ: اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، يَقُولُ اللهُ سُبْحَانَهُ: كَيْفَ أَرْحَمُهُ مِنْ شَيْءٍ بِهِ أَرْحَمُهُ؟ " . وَفِي أثرٍ آخرَ: " إنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدَهُ حَمَاهُ الدُّنْيَا وَطَيِّبَاتِهَا وَشَهَوَاتِهَا، كَمَا يَحْمِي أَحَدُكُمْ مَرِيضَهُ " .
فهذا منْ تمامِ رحمتِهِ بهِ، لا مِنْ بُخْلِهِ عليهِ. كيفَ وهوَ الجَوَادُ المَاجِدُ، الذي لهُ الجُودُ كُلُّهُ، وَجُودُ الخلائقِ في جَنْبِ جُودِهِ أَقلُّ مِنْ ذَرَّةٍ في جِبَالِ الدنيا ورِمَالِهَا؟!

فمِنْ رَحْمَتِهِ سُبْحَانَهُ بِعِبَادِهِ: ابْتِلاؤُهُم بالأوامرِ والنَّواهِي رحمَةً وحِمْيَةً، لا حاجةً منهُ إليهم بما أَمَرَهُم بهِ، فهوَ الغنيُّ الحميدُ، ولا بُخْلاً منهُ عَلَيهم بما نَهَاهُم عنهُ، فهوَ الجَوَادُ الكَرِيمُ.
ومِنْ رَحْمَتِهِ: أنْ نَغَّصَ عليهم الدُّنْيَا وَكَدَّرَهَا ؛ لِئَلاَّ يَسْكُنُوا إِلَيْهَا، ولا يَطْمَئِنُّوا إليها، وَيَرْغَبُوا في النَّعِيمِ المُقِيمِ في دَارِهِ وَجِوَارِهِ، فَسَاقَهُم إلى ذلكَ بِسياطِ الابتلاءِ والامتحانِ، فمَنَعَهُمْ لِيُعْطِيَهُم، وَابْتَلاهُم لِيُعَافِيَهُم، وَأَمَاتَهُم لِيُحْييَهُمْ.

ومِنْ رَحْمَتِهِ بهمْ: أنْ حَذَّرَهُم نَفْسَهُ؛ لِئَلاَّ يَغْتَرُّوا بهِ، فَيُعَامِلُوهُ بِمَا لا تَحْسُنُ مُعَامَلَتُهُ بهِ كما قالَ تَعَالَى: {وَيُحَذِّرُكُم اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)} [آل عمرانَ:30].
قالَ غيرُ واحدٍ من السلفِ: مِنْ رَأْفَتِهِ بالعِبَادِ: حَذَّرَهُم منْ نَفْسِهِ؛ لِئَلاَّ يَغْتَرُّوا بهِ.

وَلَمَّا كَانَ تَمَامُ النِّعْمَةِ على العبدِ إِنَّمَا هوَ بالهُدَى والرَّحْمَةِ، كانَ لَهُمَا ضِدَّانِ: الضلالُ والغَضَبُ؛ فَأَمَرَنَا اللهُ أنْ نَسْأَلَهُ كلَّ يومٍ وليلةٍ مَرَّاتٍ عديدةً أَنْ يَهْدِيَنَا صِرَاطَ الذينَ أَنْعَمَ عليهم، وهمْ أُولُو الهُدَى والرحمةِ، ويُجَنِّبَنَا طَرِيقَ المغضوبِ عليهم، وهمْ ضِدُّ المَرْحُومِينَ، وطريقَ الضَّالِّينَ، وهمْ ضِدُّ المُهْتَدِينَ. ولهذا كانَ هذا الدعاءُ منْ أَجْمَعِ الدعاءِ وَأَفْضَلِهِ وَأَوْجَبِهِ، وَباللهِ التوفيقُ).

فائدةٌ:
استَبْعَدَ قومٌ أنْ يكونَ الرحمنُ نَعْتاً للهِ منْ قَوْلِنَا: (( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ))، وقالُوا: (( الرَّحْمَنُ )) عَلَمٌ، والأعلامُ لا يُنْعَتُ بها، ثُمَّ قالوا: هُوَ بَدَلٌ من اسمِ اللهِ.

قالوا: وَيَدُلُّ على هذا أنَّ الرحمنَ عَلَمٌ مُخْتَصٌّ باللهِ لا يُشَارِكُهُ فيهِ غَيْرُهُ، فليسَ هوَ كالصِّفَاتِ التي هيَ كالعليمِ والقديرِ والسميعِ والبصيرِ، ولهذا تَجْرِي على غيرِهِ تَعَالَى.
قالوا: وَيَدُلُّ عليهِ أيضاً وُرُودُهُ في القرآنِ غيرَ تابعٍ لِمَا قَبْلَهُ كَقَوْلِـهِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5]، {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآَنَ (2)} [الرحمن: 1-2]، {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ} [الملك: 20]، وهذا شأنُ الأسماءِ المحضَةِ؛ لأنَّ الصِّفَاتِ لا يُقْتَصَرُ على ذِكْرِهَا دُونَ المَوْصُوفِ.

قالَ السُّهَيْلِيُّ: والبَدَلُ عِنْدِي فيهِ مُمْتَنِعٌ، وكذلكَ عَطْفُ البيانِ؛ لأنَّ الأوَّلَ ([18]) لا يَفْتَقِرُ إلى تَبْيِينٍ، فَإِنَّهُ أَعْرَفُ المَعَارِفِ كُلِّهَا وَأَبْيَنُهَا، ولهذا قالُوا: {وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان: 60]، ولمْ يَقُولُوا: " وَمَا اللهُ "، ولكنَّهُ وَإِنْ جَرَى مَجْرَى الأعلامِ فهوَ وَصْفٌ يُرَادُ بهِ الثناءُ، وكذلكَ الرحيمُ، إلاَّ أَنَّ الرحمنَ منْ أَبْنِيَةِ المبالغةِ كَغَضْبَانَ وَنَحْوِهِ، وإنَّمَا دَخَلَهُ مَعْنَى المبالغةِ مِنْ حيثُ كانَ في آخرِهِ ألفٌ ونونٌ كَالتَّثْنِيَةِ ؛ فإنَّ التثنيَةَ في الحقيقةِ تَضْعِيفٌ، وكذلكَ هذهِ الصفةُ فَكَأَنَّ غَضْبَانَ وَسَكْرَانَ حَامِلٌ لِضِعْفَيْنِ مِنَ الغَضَبِ والسُّكْرِ، فكانَ اللَّفظُ مُضَارِعَاً للفظِ التَّثْنِيَةِ؛ لأنَّ التثنيَةَ ضِعْفَانِ في الحقيقةِ، أَلاَ تَرَى أنَّهم أَيْضاً قدْ شَبَّهُوا التَّثْنِيَةَ بهذا البناءِ إذا كَانَتْ لِشَيْئَيْنِ مُتَلازِمَيْنِ، فقالوا: الحَكَمَانِ والعَلَمَانِ، وَأَعْرَبُوا النُّونَ كأنَّهُ اسمٌ لشيءٍ واحدٍ، فقالُوا: اشْتَرَكَ بَابُ فَعْلانَ وَبَابُ التَّثْنِيَةِ، ومنهُ قولُ فاطمةَ: يا حَسَنَانُ، يا حُسَيْنَانُ بِرَفْعِ النُّونِ لابْنَيْهَا. وَلِمُضَارَعَةِ التَّثْنِيَةِ امْتَنَعَ جَمْعُهُ فلا يُقَالُ: غَضَّابِينَ، وَامْتَنَعَ تَأْنِيثُهُ فَلا يُقَالُ: غَضْبَانَةٌ، وَامْتَنَعَ تَنْوِينُهُ كَمَا لا يُنَوَّنُ نُونَ المُثَنَّى؛ فَجَرَتْ عليهِ كثيرٌ منْ أحكامِ التثنيَةِ لمضارَعَتِهِ إِيَّاهَا لَفْظاً وَمَعْنًى.

وفائدةُ الجمعِ بينَ الصِّفَتَيْنِ (( الرحمنِ والرحيمِ )) الإنْبَاءُ عنْ رحمةٍ عاجلةٍ وَآجِلَةٍ وَخَاصَّةٍ وَعَامَّةٍ. تَمَّ كَلامُهُ.

قُلْتُ: أسماءُ الربِّ تَعَالَى هيَ أسماءٌ وَنُعُوتٌ، فإنَّها دالَّةٌ على صفاتِ كمالِهِ، فلا تَنَافِيَ فيها بينَ العَلَمِيَّةِ والوصفيَّةِ، فالرحمنُ اسمُهُ تَعَالَى وَوَصْفُهُ، لا تُنَافِي اسْمِيَّتُهُ وَصْفِيَّتَهُ، فمِنْ حَيْثُ هوَ صِفَةٌ جَرَى تَابِعاً على اسمِ اللهِ، ومِنْ حَيْثُ هوَ اسمٌ وَرَدَ في القرآنِ غيرَ تَابِعٍ، بلْ وُرُودَ الاسمِ العَلَمِ.

وَلَمَّا كَانَ هذا الاسمُ مُخْتَصًّا بهِ تَعَالَى حَسُنَ مَجِيئُهُ مُنْفَرِداً غيرَ تابِعٍ كَمَجِيءِ اسمِ ((اللهِ)) كذلكَ، وهذا لا يُنَافِي دَلالَتَهُ على صفةِ الرحمنِ كاسمِ اللهِ، فإنَّهُ دالٌّ على صفةِ الأُلوهيَّةِ ولم يَجِئْ قَطُّ تَابِعاً لِغَيْرِهِ بَلْ مَتْبُوعاً، وهذا بخلافِ العليمِ والقديرِ والسميعِ والبصيرِ ونحوِهَا، ولهذا لا تَجِيءُ هذهِ مُفْرَدَةً بلْ تَابِعَةً.

فتَأَمَّلْ هذهِ النُّكْتَةَ البديعةَ يَظْهَرْ لكَ بها أنَّ (( الرحمنَ )) اسمٌ وصِفَةٌ لا يُنَافِي أَحَدُهُمَا الآخرَ، وجاءَ اسْتِعْمَالُ القرآنِ بالأَمْرَيْنِ جَمِيعاً.

* * *
وأمَّا الجمعُ بَيْنَ (( الرحمنِ الرحيمِ )) ففيهِ مَعْنًى هوَ أحسنُ من المعنيَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا، وهوَ أنَّ (( الرحمنَ )) دَالٌّ على الصفةِ القائمةِ بهِ سبحانَهُ، و (( الرحيمَ )) دَالٌّ على تَعَلُّقِهَا بالمرحومِ، فكانَ الأوَّلُ للوصفِ، والثاني للفعلِ.
- فالأوَّلُ دالٌّ على أنَّ الرحمةَ صِفَتُهُ.
- والثاني دَالٌّ على أنَّهُ يَرْحَمُ خَلْقَهُ بِرَحْمَتِهِ.
وإذا أَرَدْتَ فَهْمَ هذا فَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِين َ رَحِيمًا (43)} [الأحزاب: 43]، {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)} [التوبة: 117]. ولمْ يَجِئْ قَطُّ رَحْمَنُ بِهِمْ، فَعُلِمَ أنَّ " رَحْمَن " هوَ الموصوفُ بالرحمةِ و " رَحِيم " هوَ الراحمُ بِرَحْمَتِهِ.

وهذهِ نُكْتَةٌ لا تَكَادُ تَجِدُهَا في كتابٍ وإنْ تَنَفَّسَتْ عِنْدَهَا مِرْآةُ قَلْبِكَ لمْ تَنْجَلِ لَكَ صُورَتُهَا). [المرتبع الأسنى]

محمدعبداللطيف
2020-05-04, 12:19 PM
قال ابن القيم رحمه الله: ( (الحَيُّ ):
([اللهُ] سُبْحَانَهُ حَيٌّ حَقِيقَةً، وَحَيَاتُهُ أَكْمَلُ الحياةِ وَأَتَمُّهَا، وهيَ حَيَاةٌ تَسْتَلْزِمُ جَمِيعَ صفاتِ الكمالِ، وَنَفْيَ أَضْدَادِهَا مِنْ جميعِ الوجوهِ).

(فإنَّ الحياةَ مُسْتَلْزِمَةٌ لِجَمِيعِ صفاتِ الكمالِ، ولا يَتَخَلَّفُ عنها صفةٌ منها إلاَّ لِضَعْفِ الحياةِ، فإذا كانتْ حَيَاتُهُ تَعَالَى أَكْمَلَ حَيَاةٍ وَأَتَمَّهَا اسْتَلْزَمَ إِثْبَاتُهَا إثباتَ كلِّ كمالٍ يُضَادُّ نَفْيَ كمالِ الحياةِ.

وبهذا الطريقِ العَقْلِيِّ أَثْبَتَ مُتَكَلِّمُو أهلِ الإثباتِ لهُ تَعَالَى صِفَةَ السمعِ والبصرِ والعلمِ والإرادةِ والقدرةِ والكلامِ وسائرَ صفاتِ الكمالِ)

(والحياةُ التامَّةُ تُضَادُّ جَمِيعَ الأسقامِ والآلامِ، ولهذا لَمَّا كَمُلَتْ حَيَاةُ أهلِ الجنَّةِ لمْ يَلْحَقْهُم هَمٌّ ولا غمٌّ ولا حُزْنٌ ولا شيءٌ من الآفاتِ، ونُقْصَانُ الحياةِ تَضُرُّ بالأفعالِ، وَتُنَافِي القَيُّومِيَّةَ ، فكمالُ القَيُّومِيَّةِ لِكَمَالِ الحياةِ، فالحَيُّ المُطْلَقُ التامُّ الحياةِ لا تَفُوتُهُ صِفَةُ الكمالِ الْبَتَّةَ). [المرتبع الأسنى]

محمدعبداللطيف
2020-05-04, 12:21 PM
قال ابن القيم رحمه الله:
(( القَيُّومُ )) هوَ القائِمُ بِنَفْسِهِ، الذي قِيَامُ كلِّ شيءٍ بهِ؛ أيْ: هوَ المُقِيمُ لِغَيْرِهِ، فَلا قِيَامَ لغيرِهِ بدونِ إقامتِهِ لهُ، وقيامُهُ هوَ بنفسِهِ لا بِغَيْرِهِ).

([فـ]هوَ الذي قَامَ بِنَفْسِهِ، فلمْ يَحْتَجْ إلى أحدٍ، وقامَ كلُّ شيءٍ بهِ، فكلُّ ما سِوَاهُ مُحْتَاجٌ إليهِ بالذَّاتِ)([2]).
(و[هوَ] قَائِمٌ على كلِّ شيءٍ، وقائِمٌ على كلِّ نفسٍ بما كَسَبَتْ، [فهوَ] تَعَالَى القائِمُ بِنَفْسِهِ، المُقيمُ لغيرِهِ، القائمُ عليهِ بِتَدْبِيرِهِ ورُبُوبِيَّتِهِ وَقَهْرِهِ، وإيصالِ جزاءِ المُحْسِنِ إليهِ وجزاءِ المُسِيءِ إليهِ، و[لـ]كمالِ قَيُّومِيَّتِهِ لا يَنَامُ ولا يَنْبَغِي لهُ أنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ القسطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إليهِ عَمَلُ الليلِ قبلَ النهارِ، وَعَمَلُ النهارِ قبلَ الليلِ، لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ولا نومٌ، ولا يَضِلُّ وَلا يَنْسَى)
([فهوَ] القيُّومُ القائِمُ بِتَدْبِيرِ عبادِهِ، فلا خَلْقَ ولا رِزْقَ، ولا عطاءَ ولا مَنْعَ، ولا قَبْضَ ولا بَسْطَ، ولا مَوْتَ ولا حياةَ، ولا إضلالَ ولا هُدَى، ولا سَعَادَةَ ولا شَقَاوَةَ إلاَّ بعدَ إِذْنِهِ، وكلُّ ذلكَ بِمَشِيئَتِهِ وَتَكْوِينِهِ؛ إذْ لا مَالِكَ غَيْرُهُ، ولا مُدَبِّرَ سِوَاهُ، ولا رَبَّ غَيْرُهُ).

([فـ]صفةُ القَيُّومِيَّةِ مُتَضَمِّنَةٌ لجميعِ صفاتِ الأفعالِ). ، ([وَ] (( القَيُّومُ )) … مُتَضَمِّنٌ [لـ]كمالِ غِنَاهُ وكمالِ قُدْرَتِهِ، فإنَّهُ القائمُ بِنَفْسِهِ، لا يَحْتَاجُ إلى مَنْ يُقِيمُهُ بِوَجْهٍ من الوجوهِ؛ وهذا منْ كمالِ غِنَاهُ بِنَفْسِهِ عمَّا سِوَاهُ، وهوَ المُقِيمُ لغيرِهِ، فلا قِيَامَ لغيرِهِ إلاَّ بإقامتِهِ، وهذا مِنْ كمالِ قُدْرَتِهِ وَعِزَّتِهِ)(، ([فـ] (( القيُّومُ )) … لا يَتَعَذَّرُ عليهِ فِعْلٌ مُمْكِنٌ الْبَتَّةَ).
(هذا ومِنْ أوصافِهِ القيُّومُ والـْ = قَيُّومُ في أوصافِهِ أَمْرَانِ
إِحْدَاهُمَا: القيُّومُ قَامَ بِنَفْسِهِ = والكونُ قامَ بهِ هُمَا الأَمْرَانِ
فالأوَّلُ: اسْتِغْنَاؤُهُ عَنْ غَيْرِهِ = والفَقْرُ مِنْ كُلٍّ إليهِ الثانِي
وَالوصفُ بالقيُّومِ ذُو شَأْنٍ عَظِيمٍ هَـ = كَذَا مَوْصُوفُهُ أَيْضاً عَظِيمُ الشَّانِ). [المرتبع الأسنى]

محمدعبداللطيف
2020-05-04, 12:24 PM
قال ابن القيم رحمه الله:
(( السَّمِيعُ )) الذي لهُ السَّمْعُ)، (الذي قد اسْتَوَى في سَمْعِهِ سِرُّ القولِ وَجَهْرُهُ، وَسِعَ سَمْعُهُ الأصواتَ، فلا تَخْتَلِفُ عليهِ أصواتُ الخلقِ، ولا تَشْتَبِهُ عليهِ ولا يَشْغَلُهُ منها سَمْعٌ عنْ سَمْعٍ، ولا تُغْلِطُهُ المسائلُ، ولا يُبْرِمُهُ كثرةُ السائِلِينَ.
قَالَتْ عَائِشَةُ: " الحمدُ للهِ الذي وَسِعَ سَمْعُهُ الأصواتَ، لقدْ جَاءَت المُجَادِلَةُ تَشْكُو إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ((وأَنَا فِي جَانِبِ البيتِ)) ([2]) وإنَّهُ لَيَخْفَى عَلَيَّ بَعْضُ كَلامِهَا، فَأَنْزَلَ اللهُ عزَّ وَجَلَّ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ }

([فَوَسِعَ] سَمْعُهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى لأصواتِ عبادِهِ على اختلافِهَا وجهرِهَا وخفائِهَا، وَسَوَاءٌ عِنْدَهُ مَنْ أَسَرَّ القَوْلَ ومَنْ جَهَرَ بهِ، لا يَشْغَلُهُ جَهْرُ مَنْ جَهَرَ عنْ سَمْعِهِ لصوتِ مَنْ أَسَرَّ، ولا يَشْغَلُهُ سَمْعٌ عنْ سَمْعٍ، ولا تُغْلِطُهُ الأصواتُ على كَثْرَتِهَا واختلافِهَا واجتماعِهَا، بلْ هيَ عندَهُ كُلُّهَا كَصَوْتٍ واحدٍ، كما أنَّ خَلْقَ الخلقِ جَمِيعِهِم وَبَعْثَهُم عندَهُ بمنـزلةِ نفسٍ واحدةٍ).

([فـَ]يَسْمَعُ ضَجِيجَ الأصواتِ، باختلافِ اللغاتِ، على تَفَنُّنِ الحاجاتِ، في أَقْطَارِ الأرضِ والسَّمَاواتِ، فلا يَشْتَبِهُ عليهِ، ولا يَخْتَلِطُ، ولا يَلْتَبِسُ، ولا يُغْلِطُهُ سَمْعٌ).
(وأمَّا قولُ إبراهيمَ الخليلِ صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39)} [إبراهيم: 39]، فالمرادُ بالسمعِ هنا: السَّمْعُ الخاصُّ، وهوَ سَمْعُ الإجابةِ والقَبُولِ، لا السَّمْعُ العامُّ؛ لأنَّهُ سَمِيعٌ لكلِّ مسموعٍ.

وإذا كانَ كذلكَ فالدعاءُ هنا يَتَنَاوَلُ دعاءَ الثناءِ ودعاءَ الطلبِ، وسمْعُ الربِّ تَبَارَكَ وتَعَالَى لهُ إِثَابَتُهُ على الثناءِ وإجابتُهُ للطلبِ، فهوَ سميعٌ لهذا وهذا).

[و] السمعُ يُرَادُ بهِ أربعةُ مَعَانٍ:
- أحدُهَا: سَمْعُ إِدْرَاكٍ؛ ومُتَعَلَّقُهُ الأصواتُ.
- الثاني: سَمْعُ فَهْمٍ وعَقْلٍ؛ ومُتَعَلَّقُهُ المعاني.
- الثالثُ: سَمْعُ إجابةٍ وإعطاءِ ما سُئِلَ.
- الرابعُ: سَمْعُ قَبُولٍ وانْقِيَادٍ.

فمِن الأَوَّلِ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1]، و {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا} [آل عمرانَ: 181].
ومِن الثاني: قولُهُ: {لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا} [البقرة: 104]. لَيْسَ المرادُ سَمْعَ مُجَرَّدِ الكلامِ، بلْ سَمْعَ الفَهْمِ والعَقْلِ، ومِنْهُ: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة: 285].
ومن الثالثِ: ((سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ))، وفي الدعاءِ المأثورِ: ((اللَّهُمَّ اسْمَعْ)) ([8])؛ أيْ: أَجِبْ وَأَعْطِ مَا سَأَلْتُكَ.
ومن الرابعِ: قولُهُ تَعَالَى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} [المائدة: 42]؛ أيْ: قَابِلُونَ لهُ وَمُنْقَادُونَ غيرُ مُنْكِرِينَ لهُ. ومنهُ على أَصَحِّ القَوْلَيْنِ: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة:47]؛ أيْ: قَابِلُونَ وَمُنْقَادُونَ. وقيلَ: عُيُونٌ وجَوَاسِيسُ. وليسَ بِشَيْءٍ؛ فإنَّ العيونَ والجواسيسَ إِنَّما تكونُ بينَ الفِئَتَيْنِ غيرِ المُخْتَلِطَتَي ْنِ، فَيُحْتَاجُ إلى الجواسِيسِ والعيونِ.

وهذهِ الآيَةُ إِنَّمَا هيَ في حقِّ المنافِقِينَ، وهمْ كانوا مُخْتَلِطِينَ بالصحابةِ بينَهُم، فلم يَكُونُوا مُحْتَاجِينَ إلى عيونٍ وجواسيسَ.

وإذا عُرِفَ هذا فَسَمْعُ الإدْرَاكِ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ، وَسَمْعُ القَبُولِ يَتَعَدَّى باللامِ تَارَةً وَبِمِنْ أُخْرَى، وهذا بِحَسَبِ المَعْنَى؛ فإذا كانَ السياقُ يَقْتَضِي القَبُولَ عُدِّيَ بِمِنْ، وإذا كانَ يَقْتَضِي الانقيادَ عُدِّيَ باللامِ.

وأمَّا سَمْعُ الإجابةِ فَيَتَعَدَّى باللامِ، نحوَ: ((سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ))؛ لَتَضَمُّنِهِ مَعْنَى اسْتَجَابَ لهُ. ولا حَذْفَ هُنَاكَ، وإنَّمَا هُوَ مُضَمَّنٌ.

وأمَّا سَمْعُ الفَهْمِ فَيَتَعَدَّى بنفسِهِ؛ لأنَّ مَضْمُونَهُ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ).



وهو السميع يرى ويسمع كل ما



في الكون من سر ومن إعلان


ولكل صوت منه سمع حاضر


فالسر والإعلان مستويان


والسمع منه واسع الأصوات لا


يخفى عليه بعيدها والداني



فسمعه تعالى نوعان: أحدهما سمعه لجميع الأصوات الظاهرة والباطنة الخفية والجلية، وإحاطته التامة بها.
الثاني: سمع الإجابة منه للسائلين والداعين والعابدين فيجيبهم ويثيبهم، ومنه قوله تعالى: إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء وقول المصلي (سمع الله لمن حمده) أي استجاب
[المرتبع الأسنى]

محمدعبداللطيف
2020-05-04, 12:30 PM
قال ابن القيم رحمه الله :
( (( البَصِيرُ )) الذي لهُ البَصَرُ)، (الذي لكمالِ بَصَرِهِ يَرَى تَفَاصِيلَ خَلْقِ الذرَّةِ الصغيرةِ، وَأَعْضَاءَهَا وَلَحْمَهَا وَدَمَهَا وَمُخَّهَا وَعُرُوقَها، وَيَرَى دَبِيبَهَا على الصخرةِ الصَّمَّاءِ في اللَّيْلَةِ الظلماءِ، وَيَرى ما تَحْتَ الأَرَضِينَ السبعِ كما يَرَى ما فوقَ السَّمَاواتِ السبعِ).

(قدْ أَحَاطَ سَمْعُهُ بجميعِ المسموعاتِ، وبَصَرُهُ بجميعِ المُبْصَرَاتِ، وَعِلْمُهُ بِجَمِيعِ المعلوماتِ، وقدرتُهُ بجميعِ المَقْدُورَاتِ، وَنَفَذَتْ مَشِيئَتُهُ في جميعِ البَرِيَّاتِ، وَعَمَّتْ رَحْمَتُهُ جَمِيعَ المخلوقاتِ، وَوَسِعَ كُرْسِيُّهُ الأرضَ والسَّمَاواتِ).[المرتبع الأسنى: ؟؟]

فالبصير): الذي أحاط بصره بجميع المبصرات في أقطار الأرض والسموات، فيرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء. وجميع أعضائها الباطنة والظاهرة، وسريان القوت في أعضائها الدقيقة، ويرى سريان المياه في أغصان الأشجار وعروقها، وجميع النباتات على اختلاف أنواعها وصغرها ودقتها، ويرى نياط عروق النملة والنحلة والبعوضة وأصغر من ذلك .
قال ابن القيم:

وهو البصير يرى دبيب النملة السـ

ـــــوداء تحت الصخر والصوان


ويرى مجاري القوت في أعضائها

ويرى نياط عروقها بعيان


ويرى خيانات العيون بلحظها

ويرى كذلك تقلب الأجفان



فهو سبحانه وتعالى البصير الذي يشاهد الأشياء كلها، ظاهرها وخفيها، يبصر خائنة الأعين وما تخفي الصدور. يشاهد ويرى ولا يغيب عنه ما فوق السموات العلا أو ما تحت الثرى.

محمدعبداللطيف
2020-05-04, 12:36 PM
قال ابن القيم رحمه الله:
(وهوَ (( القَدِيرُ )) وليسَ يُعْجِزُهُ إِذَا = ما رَامَ شَيْئاً قَطُّ ذُو سُلْطَانِ)
([فهوَ الـ]قَادِرُ على كلِّ شيءٍ، فلا يُعْجِزُهُ شيءٌ يُرِيدُهُ، بلْ هوَ الفعَّالُ لِمَا يُرِيدُ)، (و[هُوَ] على كلِّ شيءٍ قَدِيرٌ: فلا يَخْرُجُ عنْ مَقْدُورِهِ شيءٌ من الموجوداتِ؛ أَعْيَانُهَا وأفعالُهَا وَصِفَاتُهَا، كما لا يَخْرُجُ عنْ عِلْمِهِ، فكلُّ ما تَعَلَّقَ بهِ عِلْمُهُ من العالَمِ تَعَلَّقَتْ بهِ قُدْرَتُهُ ومَشِيئَتُهُ)

(وَتَأَمَّلْ ما جَاءَتْ بهِ النصوصُ، أنَّهُ سبحانَهُ لمْ يَزَلْ مَلِكاً، رَبًّا غَفُوراً، رحيماً، مُحْسِناً، قادراً، لا يُعْجِزُهُ الفِعْلُ، ولا يَمْتَنِعُ عليهِ)

(وهوَ القَدِيرُ فكلُّ شيءٍ فهوَ مقْـ = ـدورٌ لهُ طَوْعاً بلا عصيانِ
وعمومُ قُدْرَتِهِ تَدُلُّ بِأَنَّهُ = هوَ خالِقُ الأفعالِ للحيوانِ
هيَ خَلْقُهُ حَقًّا وأفعالٌ لهم = حَقًّا ولا يَتَنَاقَضُ الأمرانِ
لكنَّ أهلَ الجبرِ والتكذيبِ بالـ = أقدارِ ما انْفَتَحَتْ لهم عَيْنَانِ
نَظَرُوا بِعَيْنَيْ أَعْوَرٍ إذْ فَاتَهم = نَظَرُ البصيرِ وَغَارَتِ العَيْنَانِ
فحقيقةُ القَدَرِ الذي حَارَ الوَرَى = في شأنِهِ هوَ قدرةُ الرَّحْمَنِ
وَاسْتَحْسَنَ ابنُ عَقِيل ذا مِنْ أَحْمَدٍ = لَمَّا حَكَاهُ عن الرِّضَى الرَّبَّانِي
قالَ الإمامُ شَفَا القُلُوبَ بِلَفْظَةٍ = ذاتِ اخْتِصَارٍ وهيَ ذاتُ بَيَانِ). [المرتبع الأسنى]

محمدعبداللطيف
2020-05-04, 12:37 PM
قال ابن القيم رحمه الله:
( (( القَوِيُّ )) منْ أسمائِهِ، وَمَعْنَاهُ الموصوفُ بالقُوَّةِ)

(ولو اجْتَمَعَتْ قُوَى الخلائقِ على شخصٍ واحدٍ منهم، ثُمَّ أُعْطِيَ كلٌّ منهم مثلَ تلكَ القوَّةِ لكانتْ نِسْبَتُهَا إلى قُوَّتِهِ سبحانَهُ دونَ نسبةِ قوَّةِ البَعُوضَةِ إلى حَمَلَةِ العَرْشِ).

(وهوَ القويُّ بِقُوَّةٍ هيَ وَصْفُهُ = وعليكَ يَقْدِرُ يا أَخَا السُّلْطَانِ)
(وهوَ القويُّ لهُ القُوَى جَمْعاً تَعَا = لَى رَبُّ ذِي الأَكْوَانِ والأزمانِ). [المرتبع الأسنى]

محمدعبداللطيف
2020-05-04, 12:43 PM
قال ابن القيم :
( (( اللَّطِيفُ )) الذي لَطُفَ صُنْعُهُ وَحِكْمَتُهُ وَدَقَّ حَتَّى عَجَزَتْ عنهُ الأفهامُ)([1]).


(وهوَ اللَّطِيفُ بِعَبْدِهِ وَلِعَبْدِهِ ... واللطفُ في أوصافِهِ نَوْعَانِ
إدراكُ أسرارِ الأمورِ بِخِبْرَةٍ ... واللطفُ عندَ مَوَاقِعِ الإحسانِ
فَيُرِيكَ عِزَّتَهُ وَيُبْدِي لُطْفَهُ ... والعبدُ في الغَفَلاتِ عنْ ذا الشَّانِ)([2])


([فتَأَمَّلْ] قولَ يُوسُفَ الصِّدِّيقِ: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)} [يوسف: 100].

فَأَخْبَرَ أنَّهُ يَلْطُفُ لِمَا يُرِيدُ؛ فَيَأْتِي بهِ بِطُرُقٍ خَفِيَّةٍ لا يَعْلَمُهَا الناسُ. واسمُهُ ((اللطيفُ)) يَتَضَمَّنُ عِلْمَهُ بالأشياءِ الدقيقةِ وإيصالَهُ الرحمةَ بالطُّرُقِ الخفيَّةِ، ومنهُ: التَّلَطُّفُ كما قالَ أهلُ الكَهْفِ: {وَلْيَتَلَطَّف وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19)} [الكهف: 19]، فكانَ ظَاهِرُ ما امْتُحِنَ بهِ يُوسُفُ منْ مُفَارَقَةِ أَبِيهِ، وإِلْقَائِهِ في السجنِ، وَبَيْعِهِ رَقِيقاً، ثُمَّ مُرَاوَدَةِ الَّتِي هوَ في بَيْتِهَا عنْ نفسِهِ، وَكَذِبِهَا عليهِ، وَسَجْنِهِ مِحَناً وَمَصَائِبَ، وَبَاطِنُهَا نِعَمَاً وَفَتْحاً جَعَلَهَا اللهُ سَبَباً لسعادتِهِ في الدنيا والآخرةِ.

ومِنْ هذا البابِ ما يَبْتَلِي بهِ عبادَهُ من المصائبِ، وَيَأْمُرُهُم بهِ من المكارهِ، وَيَنْهَاهُم عنهُ من الشَّهَوَاتِ، هيَ طُرُقٌ يُوصِلُهُم بها إلى سعادتِهِم في العاجلِ والآجلِ، وقدْ حُفَّت الجنَّةُ بالمكارهِ، وَحُفَّت النارُ بالشهواتِ.

وقدْ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا يَقْضِي اللهُ لِلْمُؤْمِنِ قَضَاءً إِلاَّ خَيْراً لَهُ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ))

القضاءُ كُلُّهُ خَيْرٌ لِمَنْ أُعْطِيَ الشكرَ والصبرَ جَالِباً ما جَلَبَ، وكذلكَ ما فَعَلَهُ بآدَمَ وإبراهيمَ وموسَى وعيسَى ومحمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأمورِ التي هيَ في الظاهرِ مِحَنٌ وابتلاءٌ، وهيَ في الباطنِ طُرُقٌ خَفِيَّةٌ أَدْخَلَهُم بها إلى غايَةِ كَمَالِهِم وَسَعَادَتِهِم.

فتَأَمَّلْ قِصَّةَ موسَى وما لَطُفَ لهُ منْ إخراجِهِ في وقتِ ذَبْحِ فرعونَ للأطفالِ، وَوَحْيِهِ إلى أُمِّهِ أنْ تُلْقِيَهُ في الْيَمِّ، وَسَوْقِهِ بلُطْفِهِ إلى دارِ عَدُوِّهِ الذي قَدَّرَ هلاكَهُ على يَدَيْهِ، وهوَ يَذْبَحُ الأطفالَ في طَلَبِهِ، فَرَمَاهُ في بَيْتِهِ وحِجْرِهِ على فراشِهِ، ثُمَّ قدَّرَ لهُ سَبَباً أَخْرَجَهُ منْ مِصْرَ وأَوْصَلَهُ بهِ إلى موضعٍ لا حُكْمَ لفرعونَ عليهِ، ثُمَّ قدَّرَ لهُ سَبَباً أَوْصَلَهُ بهِ إلى النِّكَاحِ والغِنَى بعدَ العزوبةِ والعَيْلَةِ، ثُمَّ سَاقَهُ إلى بلدِ عَدُوِّهِ فَأَقَامَ عليهِ بهِ حُجَّتَهُ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ وَقَوْمَهُ في صُورةِ الفَارِّينَ منهُ، وكانَ ذلكَ عَيْنَ نُصْرَتِهِم على أعدائِهِم وإهلاكِهم وهمْ يَنْظُرُونَ.

وهذا كلُّهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أنَّهُ سُبْحَانَهُ يَفْعَلُ ما يَفْعَلُهُ لِمَا يُرِيدُهُ من العواقبِ الحميدةِ والـحـِكَمِ العظيمةِ التي لا تُدْرِكُهَا عقولُ الخلقِ معَ ما في ضِمْنِهَا من الرحمةِ التامَّةِ والنعمةِ السابغةِ والتَّعَرُّفِ إلى عبادِهِ بأسمائِهِ وصفاتِهِ.

فَكَمْ في أَكْلِ آدَمَ من الشجرةِ التي نُهِيَ عنها وإخراجِهِ بسببِهَا من الجنَّةِ منْ حكمةٍ بالغةٍ لا تَهْتَدِي العقولُ إلى تَفَاصِيلِهَا!!

وكذلكَ ما قَدَّرَهُ لسيِّدِ وَلَدِهِ مِن الأمورِ التي أَوْصَلَهُ بها إلى أشرفِ غاياتِهِ، وَأَوْصَلَهُ بالطُّرُقِ الخفيَّةِ فيها إلى أَحْمَدِ العواقِبِ!!

وكذلكَ فِعْلُهُ بعبادِهِ وأَوْلِيَائِهِ يُوصِلُ إليهم نِعَمَهُ وَيَسُوقُهُم إلى كمالِهِم وسعادَتِهِم في الطُّرُقِ الخفيَّةِ التي لا يَهْتَدُونَ إلى مَعْرِفَتِهَا إلاَّ إذا لاحَتْ لهم عَوَاقِبُهَا.

وهذا أَمْرٌ يَضِيقُ الجَنَانُ عنْ معرفةِ تفاصيلِهِ، وَيُحْصَرُ اللسانُ عن التعبيرِ عنهُ، وَأَعْرَفُ خَلْقِ اللهِ بهِ أَنْبِيَاؤُهُ وَرُسُلُهُ، وَأَعْرَفُهُم بهِ خَاتَمُهُم وَأَفْضَلُهُم. وأُمَّتُهُ في العلمِ بهِ على مَرَاتِبِهم وَدَرَجَاتِهِم وَمَنَازِلِهم من العلمِ باللهِ وبأسمائِهِ وصفاتِهِ).
[المرتبع الأسنى]

قال السعدي رحمه الله: "اللطيف": الذي لطف علمه حتى أدرك الخفايا، والخبايا، وما احتوت عليه الصدور، وما في الأراضي من خفايا البذور. ولطف بأوليائه، وأصفيائه، فيسرهم لليسرى وجنبهم العسرى، وسهل لهم كل طريق يوصل إلى مرضاته وكرامته وحفظهم من كل سبب ووسيلة توصل إلى سخطه، من طرق يشعرون بها، ومن طرق لا يشعرون بها، وقدر عليهم أمورا يكرهونها لينيلهم ما يحبون، فلطف بهم في أنفسهم فأجراهم على عوائده الجميلة، وصنائعه الكريمة، ولطف لهم في أمور خارجة عنهم لهم فيها كل خير وصلاح ونجاح، فاللطيف متقارب لمعاني الخبير، الرؤوف، الكريم (2)
وقال في موضع آخر: وهذا من آثار علمه وكرمه ورحمته، فلهذا كان معنى اللطيف أنه الخبير الذي أحاط علمه بالأسرار والبواطن والخبايا والخفايا ومكنونات الصدور ومغيبات الأمور، وما لطف ودقَّ من كل شيء. النوع الثاني: لطفه بعبده ووليه الذي يريد أن يتم عليه إحسانه، ويشمله بكرمه ويرقيه إلى المنازل العالية فييسره لليسرى، ويجنبه العسرى، ويجري عليه من أصناف المحن التي يكرهها وتشق عليه وهي عين صلاحه، والطريق إلى سعادته، كما امتحن الأنبياء بأذى قومهم وبالجهاد في سبيله وكما ذكر الله عن يوسف عليه السلام وكيف ترقت به الأحوال ولطف الله به وله بما قدره عليه من تلك الأحوال التي حصلت له في عاقبتها حسن العقبى في الدنيا والآخرة. وكما يمتحن أولياءه بما يكرهونه لينيلهم ما يحبون، وكم لله من لطف، وكرم لا تدركه الأفهام ولا تتصوره الأوهام، وكم استشرف العبد على مطلوب من مطالب الدنيا من ولاية ورياسة أو سبب من الأسباب المحبوبة فيصرفه الله عنها ويصرفها عنه رحمة به لئلا تضره في دينه، فيظل العبد حزينا من جهله وعدم معرفته بربه، ولو علم ما ادخر له في الغيب وأريد إصلاحه لحمد الله وشكره على ذلك، فإن الله بعباده رؤوف رحيم، لطيف بأوليائه. وفي الدعاء المأثور: ((اللهم ما رزقتني مما أحب فاجعله قوة لي فيما تحب، وما زويت عني مما أحب فاجعله فراغا لي فيما تحب))

محمدعبداللطيف
2020-05-04, 12:45 PM
قال ابن القيم رحمه الله :
[اللهُ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ] (الإلَهُ الحقُّ المُبِينُ الذي أَقَرَّت الفِطَرُ بِرُبُوبِيَّتِه ِ وَإِلَهِيَّتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ).
(فإنَّهُ سُبْحَانَهُ هوَ الحقُّ، وقولُهُ الحَقُّ، ودينُهُ الحقُّ، وَوَعْدُهُ حَقٌّ، ولقاؤُهُ حَقٌّ، وفِعْلُهُ كُلُّهُ حَقٌّ، لَيْسَ في أفعالِهِ شَيْءٌ باطلٌ، بلْ أَفْعَالُهُ سُبْحَانَهُ بَرِيئَةٌ من الباطِلِ)
(وَجَزَاؤُهُ المُسْتَلْزِمُ لِشَرْعِهِ وَدِينِهِ ولليومِ الآخرِ حَقٌّ.

فَمَنْ أَنْكَرَ شَيْئاً منْ ذلكَ فما وَصَفَ اللهَ بأنَّهُ الحقُّ المُطْلَقُ منْ كلِّ وَجْهٍ وَبِكُلِّ اعْتِبَارٍ.

فكونُهُ حَقًّا يَسْتَلْزِمُ شَرْعَهُ وَدِينَهُ وَثَوَابَهُ وَعِقَابَهُ، فكيفَ يُظَنُّ بالملكِ الحقِّ أنْ يَخْلُقَ خَلْقَهُ عَبَثاً؟! وأنْ يَتْرُكَهُم سُدًى، لا يَأْمُرُهُم ولا يَنْهَاهُم، ولا يُثِيبُهُم ولا يُعَاقِبُهُم، كما قالَ تَعَالَى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36)} [القيامة: 36]) . [المرتبع الأسنى]

محمدعبداللطيف
2020-05-04, 12:48 PM
قال ابن القيم
(و... مِنْ أَسْمَائِهِ (( الحَكِيمُ )) ) (الذي لا يَضَعُ الشيءَ إلاَّ في مَوْضِعِهِ). (والحكمةُ مِنْ صفاتِهِ سبحانَهُ، وحكمتُهُ تَسْتَلْزِمُ وَضْعَ كلِّ شيءٍ مَوْضِعَهُ الذي لا يَلِيقُ بهِ سِوَاهُ)

(و... اسمُ (( الحكيمِ )) منْ لوازمِهِ ثبوتُ الغاياتِ المحمودةِ المقصودةِ لهُ بأفعالِهِ، ووضعُهُ الأشياءَ في موضعِهَا، وإيقاعُهَا على أحسنِ الوجوهِ) [فهوَ سبحانَهُ] ( ((الحكيمُ)) الذي بَهَرَتْ حِكْمَتُهُ الألبابَ)، [وهوَ] (سبحانَهُ (( الحكيمُ الخبيرُ )) الذي يَضَعُ الأشياءَ مواضعَهَا وَيُنَـزِّلُهَا مَنَازِلَهَا اللائقةَ بها، فلا يَضَعُ الشيءَ في غيرِ موضعِهِ، ولا يُنْـزِلُهُ غيرَ منـزلتِهِ التي يَقْتَضِيهَا كمالُ عِلْمِهِ وحكمتِهِ وخبرتِهِ، فلا يَضَعُ الحرمانَ والمَنْعَ موضعَ العطاءِ والفضلِ، ولا الفضلَ والعطاءَ موضعَ الحرمانِ والمنعِ، ولا الثوابَ موضعَ العقابِ، ولا العقابَ موضعَ الثوابِ، ولا الخفضَ موضعَ الرفعِ، ولا الرفعَ موضعَ الخفضِ، ولا العزَّ مكانَ الذلِّ، ولا الذلَّ مكانَ العزِّ، ولا يَأْمُرُ بما يَنْبَغِي النَّهْيُ عنهُ، ولا يَنْهَى عَمَّا يَنْبَغِي الأمرُ بهِ)

[فـ]( " الحكمةُ " تَتَضَمَّنُ كمالَ علمِهِ وخبرتِهِ، وأنَّهُ أَمَرَ وَنَهَى، وَخَلَقَ وَقَدَّرَ، لِمَا لهُ في ذلكَ من الحِكَمِ والغاياتِ الحميدةِ التي يَسْتَحِقُّ عليها كمالَ الحمدِ) [فإ]نَّهُ سبحانَهُ حكيمٌ، لا يَفْعَلُ شيئاً عَبَثاً ولا لِغَيْرِ مَعْنًى ومصلحةٍ وحكمةٍ هيَ الغايَةُ المقصودةُ بالفعلِ، بلْ أَفْعَالُهُ سبحانَهُ صادرةٌ عنْ حكمةٍ بالغةٍ لأجلِهَا فَعَلَ)

([فهوَ سبحانَهُ] (( الحكيمُ )) الذي إذا أَمَرَ بأمرٍ كانَ حسناً في نفسِهِ، وإذا نَهَى عنْ شيءٍ كانَ قَبِيحاً في نَفْسِهِ، وإذا أَخْبَرَ بِخَبَرٍ كانَ صَادِقاً، وإذا فَعَلَ فِعْلاً كانَ صَوَاباً، وإذا أَرَادَ شَيْئاً كانَ أَوْلَى بالإرادةِ منْ غيرِهِ، وهذا الوصفُ على الكمالِ لا يكونُ إلاَّ للهِ وحدَهُ)

(وقدْ تَقَرَّرَ أنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ كامِلُ الصِّفَاتِ، لهُ الأسماءُ الحسنَى، ولا يكونُ عن الكاملِ في ذاتِهِ وصفاتِهِ إلاَّ الفعلُ المُحْكَمُ)

(ولهذا كانَ (( الحكيمُ )) منْ أسمائِهِ الحُسْنَى، و (( الحكمةُ )) منْ صفاتِهِ العُلَى، والشريعةُ الصادرةُ عنْ أمرِهِ مَبْنَاهَا على الحكمةِ، والرسولُ المبعوثُ بها مبعوثاً بالكتابِ والحكمةِ... فَكَمَا لا يَخْرُجُ مَقْدُورٌ عنْ علمِهِ وقُدْرتِهِ ومشيئتِهِ، فهكذا لا يَخْرُجُ عنْ حكمتِهِ وحمدِهِ).

([فـ]اسمُهُ سبحانَهُ (( الحكيمُ )) يَتَضَمَّنُ حِكْمَتَهُ في خلقِهِ وأمرِهِ، في إرادتِهِ الدِّينِيَّةِ والكَوْنِيَّةِ، وهوَ حكيمٌ في كلِّ ما خَلَقَ، حَكِيمٌ في كلِّ ما أَمَرَ بهِ)
(وهوَ الحكيمُ الذي لَهُ الحُكْمُ، قالَ تَعَالَى: {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ } [غافر: 12])

(وهوَ الحكيمُ وذاكَ مِنْ أوصافِهِ = نوعانِ أيضاً ما هُمَا عَدَمَانِ
حُكْمٌ وإحكامٌ فكلٌّ منهما = نوعانِ أيضاً ثابِتَا البُرْهَانِ
والحُكْمُ شَرْعِيٌّ وَكَوْنِيٌّ وَلا = يَتَلازَمَانِ وما هُمَا سِيَّانِ
بلْ ذاكَ يُوجَدُ دونَ هذا مُفْرَداً = والعكسُ أيضاً ثُمَّ يَجْتَمِعَانِ
لنْ يَخْلُوَ المَرْبُوبُ مِنْ إِحْدَاهُمَا = أو مِنْهُمَا بلْ ليسَ يَنْتَفِيَانِ
لَكِنَّمَا الشَّرْعِيُّ مَحْبُوبٌ لَهُ = أَبَداً ولنْ يَخْلُو من الأكوانِ
هوَ أَمْرُهُ الدِّينِيُّ جَاءَتْ رُسْلُهُ = بِقِيَامِهِ في سائِرِ الأزمانِ
لَكِنَّمَا الكَوْنِيُّ فَهْوَ قَضَاؤُهُ = في خلقِهِ بالعَدْلِ والإحسانِ
هُوَ كُلُّهُ حَقٌّ وَعَدْلٌ ذُو رِضاً = والشأنُ في المَقْضِيِّ كلُّ الشَّانِ
فَلِذَاكَ نَرْضَى بالقضاءِ وَنَسْخَطُ الْـ = مَقْضِيَّ حينَ يكونُ بالعصيانِ
فاللهُ يَرْضَى بالقضاءِ وَيَسْخَطُ الـ = مَقْضِيَّ ما الأمرانِ مُتَّحِدَانِ
فَقَضَاؤُهُ صفةٌ بهِ قامَتْ وَمَا الـ = مَقْضِيُّ إلاَّ صنعةُ الإنسانِ
والكونُ مَحْبُوبٌ ومبغوضٌ لَهُ = وكلاهُمَا بِمَشِيئَةِ الرحمنِ
هذا البيانُ يُزِيلُ لَبْساً طَالَمَا = هَلَكَتْ عليهِ الناسُ كلَّ زَمَانِ
وَيَحُلُّ مَا قَدْ عَقَّدُوا بأُصُولِهِم = وَبُحُوثِهِم فَافْهَمْهُ فَهْمَ بَيَانِ
مَنْ وَافَقَ الكَوْنِيَّ وَافَقَ سُخْطَهُ = [إِنْ] لَمْ يُوَافِقْ طَاعَةَ الدَّيَّانِ
فلذاكَ لا يَعْدُوهُ ذَمٌّ أوْ فَوَا = تُ الحمدِ معْ أَجْرٍ وَمَعْ رِضْوَانِ
وَمُوَافِقُ الدِّينِيِّ لا يَعْدُوهُ أَجْـ = ـرٌ بلْ لهُ عندَ الصوابِ اثْنَانِ


والحكمةُ العُلْيَا على نَوْعَيْنِ أَيْــ = ـضاً حُصِّلاَ بقواطِعِ البرهانِ
إِحْدَاهُمَا فِي خَلْقِهِ سُبْحَانَهُ = نَوْعَانِ أَيْضاً ليسَ يَفْتَرِقَانِ
إِحْكَامُ هذا الخَلْقِ إذْ إِيجَادُهُ = في غايَةِ الإحكامِ والإتْقَانِ
وَصُدُورُهُ مِنْ أَجْلِ غَايَاتٍ لَهُ = وَلَهُ عليها حَمْدُ كلِّ لِسَانِ
وَالحكمةُ الأُخْرَى فَحِكْمَةُ شَرْعِهِ = أيضاً وفيها ذَانِكَ الوَصْفَانِ
غَايَاتُهَا اللاَّتِي حُمِدْنَ وَكَوْنُهَا = فِي غايَةِ الإتقانِ والإحسانِ). [المرتبع الأسنى]

محمدعبداللطيف
2020-05-04, 12:52 PM
قال ابن القيم
( (( الوَدُودُ )) منْ أسماءِ الربِّ تَعَالَى، وفيهِ قَوْلانِ:
- أحدُهُمَا: أنَّهُ المَوْدُودُ.
قالَ البُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللهُ في صحيحِهِ: (( الودودُ: الحبيبُ )) (([فـ]هوَ المَحْبُوبُ الذي يَسْتَحِقُّ أنْ يُحَبَّ الحبَّ كلَّهُ، وأنْ يكونَ أَحَبَّ إلى العبدِ منْ سمعِهِ وبصرِهِ ونَفْسِهِ وجميعِ مَحْبُوبَاتِهِ))
- والثاني: أنَّهُ الوادُّ لعبادِهِ؛ أي: المُحِبُّ لَهُم)، (الذي يُحِبُّ أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ وأولياءَهُ وَعِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ)
وهوَ الودودُ يُحِبُّهُم وَيُحِبُّهُ = أحبابُهُ والفضلُ لِلْمَنَّانِ
وهوَ الذي جَعَلَ المَحَبَّةَ في قُلُو = بِهِمُ وَجَازَاهُم بِحُبٍّ ثَانِ
هذا هوَ الإحسانُ حَقًّا لا مُعَا = وَضَةً ولا لِتَوَقُّعِ الشُّكْرَانِ
لكنْ يُحِبُّ شُكُورَهُم وَشَكُورَهُم = لا لاحْتِيَاجٍ منهُ للشُّكْرَانِ)
(ولوْ لمْ يَكُنْ مِنْ تَحَبُّبِهِ إلى عبادِهِ وإحسانِهِ إليهم وَبِرِّهِ بهم إلاَّ أنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ لهم ما في السَّمَاواتِ والأرضِ وما في الدنيا والآخرةِ، ثُمَّ أَهَّلَهُم وَكَرَّمَهم، وَأَرْسَلَ إليهمْ رُسُلَهُ وأَنْزَلَ عليهمْ كُتُبَهُ، وَشَرَعَ لهم شَرَائِعَهُ، وَأَذِنَ لهم في مُنَاجَاتِهِ كلَّ وقتٍ أَرَادُوا، وَكَتَبَ لهم بكُلِّ حسنةٍ يَعْمَلُونَهَا عَشْرَ أَمْثَالِهَا إلى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إلى أضعافٍ كثيرةٍ، وكَتَبَ لهم بالسيِّئَةِ واحدةً، فإنْ تَابُوا منها مَحَاهَا وأَثْبَتَ مكانَهَا حسنةً، وإذا بَلَغَتْ ذُنُوبُ أحدِهِم عَنانَ السماءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرَهُ غَفَرَ لهُ، ولوْ لَقِيَهُ بِقِرَابِ الأرضِ خَطَايَا، ثُمَّ لَقِيَهُ بالتوحيدِ لا يُشْرِكُ بهِ شيئاً لأَتَاهُ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً، وَشَرَعَ لهم التوبةَ الهادمةَ للذنوبِ؛ فَوَفَّقَهُم لِفِعْلِهَا ثُمَّ قَبِلَهَا مِنْهُم، وَشَرَعَ لهم الحجَّ الذي يَهْدِمُ ما قَبْلَهُ؛ فَوَفَّقَهُم لِفِعْلِهِ، وَكَفَّرَ عنهم سَيِّئَاتِهِم بهِ، وكذلكَ ما شَرَعَهُ لهمْ من الطاعاتِ والقُرُباتِ، هوَ الذي أَمَرَهُم بها، وَخَلَقَهَا لهم، وَأَعْطَاهُم إيَّاها، وَرَتَّبَ عليها جَزَاءَهَا.

فمنهُ السببُ، ومنهُ الجزاءُ، ومنهُ التوفيقُ، ومنهُ العطاءُ أَوَّلاً وآخِراً، وهمْ مَحَلُّ إِحْسَانِهِ فقطْ، ليسَ منهم شيءٌ، إنَّما الفضلُ كُلُّهُ والنعمةُ كُلُّهَا والإحسانُ كلُّهُ منهُ أَوَّلاً وآخِراً، أَعْطَى عَبْدَهُ مالَهُ، وقالَ: تَقَرَّبْ بهذا إِلَيَّ أَقْبَلْهُ منكَ، فالعبدُ لهُ، والمالُ لهُ، والثوابُ منهُ.

فهوَ المُعْطِي أوَّلاً وآخِراً، فكيفَ لا يُحَبُّ مَنْ هذا شأنُهُ؟!! وكيفَ لا يَسْتَحِي العبدُ أنْ يَصْرِفَ شَيْئاً منْ مَحَبَّتِهِ إلى غَيْرِهِ؟!! ومَنْ أَوْلَى بالحمدِ والثناءِ والمَحَبَّةِ منهُ سبحانَهُ؟!! ومَنْ أَوْلَى بالكَرَمِ والجُودِ والإحسانِ منهُ؟!!

فسبحانَهُ وبحمدِهِ لا إلهَ إلاَّ هوَ العزيزُ الحكيمُ، وَيَفْرَحُ سبحانَهُ وتَعَالَى بتوبةِ أحدِهِم إذا تَابَ إليهِ أَعْظَمَ فَرَحٍ وأكملَهُ، ويُكَفِّرُ عنهُ ذنوبَهُ، ويُوجِبُ لهُ محبَّتَهُ بالتوبةِ، وهوَ الذي أَلْهَمَهُ إيَّاها، وَوَفَّقَهُ لها، وَأَعَانَهُ عليها، وَمَلأَ سبحانَهُ وتَعَالَى سماواتِهِ منْ ملائكتِهِ، واسْتَعْمَلَهُم في الاستغفارِ لأهلِ الأرضِ، وَاسْتَعْمَلَ حَمَلَةَ العرشِ منهم في الدعاءِ لعبادِهِ المؤمنينَ والاستغفارِ لذنوبِهِم وَوِقَايَتِهِم عذابَ الجحيمِ، والشفاعةِ إليهِ بإذنِهِ أنْ يُدْخِلَهُم جنَّاتِهِ.

فَانْظُرْ إلى هذهِ العنايَةِ وهذا الإحسانِ وهذا التَّحَنُّنِ والعَطْفِ والتَّحَبُّبِ إلى العبادِ واللُّطْفِ التامِّ بهم، ومعَ هذا كُلِّهِ بعدَ أنْ أَرْسَلَ إليهم رُسُلَهُ وأَنْزَلَ عليهم كُتُبَهُ، وَتَعَرَّفَ إليهم بأسمائِهِ وصفاتِهِ وآلائِهِ، يَنْـزِلُ كلَّ ليلةٍ إلى سماءِ الدنيا يَسْأَلُ عنهم، وَيَسْتَعْرِضُ حَوَائِجَهُم بنفسِهِ، وَيَدْعُوهُم إلى سؤالِهِ، فَيَدْعُو مُسِيئَهُم إلى التوبةِ، وَمَرِيضَهُم إلى أنْ يَسْأَلَهُ أنْ يَشْفِيَهُ، وفقيرَهُم إلى أنْ يَسْأَلَهُ غِنَاهُ، وذا حَاجَتِهِم يَسْأَلُهُ قَضَاءَهَا كلَّ ليلةٍ، وَيَدْعُوهُم سبحانَهُ إلى التوبةِ وقدْ حَارَبُوهُ وَعَذَّبُوا أولياءَهُ وأَحْرَقُوهُم بالنارِ، قالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10)} [البروج: 10]. وقالَ بعضُ السلفِ: انْظُرُوا إلى كَرَمِهِ كيفَ عَذَّبُوا أولياءَهُ وَحَرَّقُوهُم بالنارِ، ثُمَّ هوَ يَدْعُوهُم إلى التوبةِ.

فهذا البابُ يَدْخُلُ منهُ كلُّ أحدٍ إلى مَحَبَّتِهِ سبحانَهُ وتَعَالَى؛ فإنَّ نِعْمَتَهُ على عبادِهِ مَشْهُودَةٌ لهم، يَتَقَلَّبُونَ فيها على عددِ الأنفاسِ واللحظاتِ.

وقدْ رُوِيَ في بعضِ الأحاديثِ مَرْفُوعاً: ((أَحِبُّوا اللهَ لِمَا يَغْذُوكُمْ بِهِ مِنْ نِعَمِهِ، وَأَحِبُّونِي بِحُبِّ اللهِ)). فهذهِ مَحَبَّةٌ تَنْشَأُ منْ مُطَالَعَةِ المِنَنِ والإحسانِ، ورُؤْيَةِ النِّعَمِ والآلاءِ، وَكُلَّمَا سَافَرَ القلبُ بِفِكْرِهِ فيها ازْدَادَتْ مَحَبَّتُهُ وَتَأَكَّدَتْ، ولا نهايَةَ لها فَيَقِفَ سَفَرُ القلبِ عِنْدَهَا، بلْ كُلَّمَا ازْدَادَ فيها نَظَراً ازْدَادَ فيها اعْتِبَاراً وَعَجْزاً عنْ ضبطِ القليلِ منها، فَيَسْتَدِلُّ بِمَا عَرَفَهُ على ما لمْ يَعْرِفْهُ، واللهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى دَعَا عبادَهُ إليهِ منْ هذا البابِ، حتَّى إذا دَخَلُوا منهُ دُعُوا من البابِ الآخرِ، وهوَ بابُ الأسماءِ والصِّفَاتِ الذي إِنَّمَا يَدْخُلُ منهُ إليهِ خَواصُّ عِبَادِهِ وأوليائِهِ، وهوَ بابُ المُحِبِّينَ حَقًّا الذي لا يَدْخُلُ منهُ غيرُهُم، ولا يَشْبَعُ مِنْ مَعْرِفَتِهِ أحدٌ منهمْ، كُلَّمَا بَدَا لهُ منهُ عِلْمٌ ازْدَادَ شَوْقاً وَمَحَبَّةً وَظَمَأً.
فإذا انْضَمَّ دَاعِي الإحسانِ والإنعامِ إلى داعِي الكمالِ والجمالِ لمْ يَتَخَلَّفْ عنْ مَحَبَّةِ مَنْ هذا شأنُهُ إلاَّ أَرْدَأُ القلوبِ وَأَخْبَثُها، وَأَشَدُّها نَقْصاً، وَأَبْعَدُهَا منْ كلِّ خيرٍ؛ فإنَّ اللهَ فَطَرَ القلوبَ على مَحَبَّةِ المُحْسِنِ الكاملِ في أوصافِهِ وأخلاقِهِ، وإذا كانتْ هذهِ فِطْرَةَ اللهِ التي فَطَرَ عليها قلوبَ عبادِهِ، فمِن المعلومِ أنَّهُ لا أَحَدَ أَعْظَمُ إحساناً منهُ سبحانَهُ وتَعَالَى، ولا شيءَ أكملُ منهُ ولا أَجْمَلُ، فكلُّ كمالٍ وجمالٍ في المخلوقِ منْ آثارِ صُنْعِهِ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى، وهوَ الذي لا يُحَدُّ كَمَالُهُ، ولا يُوصَفُ جلالُهُ وَجَمَالُهُ، ولا يُحْصِي أحدٌ منْ خلقِهِ ثناءً عليهِ بِجَمِيلِ صفاتِهِ وعظيمِ إحسانِهِ وبديعِ أفعالِهِ، بلْ هوَ كما أَثْنَى على نفسِهِ.

وإذا كانَ الكمالُ مَحْبُوباً لذاتِهِ ونفسِهِ وَجَبَ أنْ يَكُونَ اللهُ سُبْحَانَهُ هوَ المحبوبَ لذاتِهِ وصفاتِهِ؛ إذْ لا شيءَ أكملُ منهُ؛ وكلُّ اسمٍ منْ أسمائِهِ وصِفَةٍ منْ صفاتِهِ تَسْتَدْعِي محبَّةً خاصَّةً، فإنَّ أسماءَهُ كُلَّهَا حُسْنَى، وهيَ مُشْتَقَّةٌ منْ صفاتِهِ، وأفعالُهُ دالَّةٌ عليها.

فهوَ المحبوبُ المحمودُ لذاتِهِ وصفاتِهِ وأفعالِهِ وأسمائِهِ؛ فهوَ المحبوبُ المحمودُ على كلِّ ما فَعَلَ وعلى كلِّ ما أَمَرَ؛ إذْ ليسَ في أفعالِهِ عَبَثٌ، ولا في أوامرِهِ سَفَهٌ، بلْ أفعالُهُ كُلُّهَا لا تَخْرُجُ عن الحكمةِ والمصلحةِ والعدلِ والفضلِ والرحمةِ، وكلُّ واحدٍ منْ ذلكَ يَسْتَوْجِبُ الحمدَ والثناءَ والمَحَبَّةَ عليهِ. وكلامُهُ كلُّهُ صدقٌ وعدلٌ، وجزاؤُهُ كلُّهُ فضلٌ وعدلٌ؛ فإنَّهُ إنْ أَعْطَى فَبِفَضْلِهِ ورحمتِهِ ونعمتِهِ، وإنْ مَنَعَ أوْ عَاقَبَ فَبِعَدْلِهِ وحكمتِهِ:
مَا للعبادِ عليهِ حقٌّ واجِبٌ = كَلاَّ ولا سَعْيٌ لَدَيْهِ ضَائِعُ
إنْ عُذِّبُوا فَبِعَدْلِهِ أوْ نُعِّمُوا = فبفضلِهِ وهوَ الكريمُ الواسِعُ
ولا يُتَصَوَّرُ نَشْرُ هذا المقامِ حقَّ تَصَوُّرِهِ فَضْلاً عنْ أنْ يُوَفَّاهُ حَقَّهُ، فَأَعْرَفُ خَلْقِهِ بهِ وأحبُّهُم لهُ صلى الله عليه وسلم يقولُ: ((لا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ)).

ولوْ شَهِدَ بِقَلْبِهِ صِفَةً وَاحِدَةً منْ أوصافِ كمالِهِ لاسْتَدْعَتْ منهُ المحبَّةَ التامَّةَ عليها، وهلْ معَ المُحِبِّينَ مَحَبَّةٌ إلاَّ منْ آثارِ صفاتِ كمالِهِ؟!! فإنَّهُم لمْ يَرَوْهُ في هذهِ الدارِ، وإنَّمَا وَصَلَ إليهم العلمُ بآثارِ صفاتِهِ وآثارِ صُنْعِهِ، فَاسْتَدَلُّوا بما عَلِمُوهُ على ما غَابَ عنهم، وإلاَّ فَلَوْ شَاهَدُوهُ وَرَأَوْا جلالَهُ وكمالَهُ وجمالَهُ سبحانَهُ وتَعَالَى لكانَ لهم في حُبِّهِ شأنٌ آخرُ، وإنَّمَا تَفَاوَتَتْ مَنَازِلُهُم ومراتِبُهُم في مَحَبَّتِهِ على حَسَبِ تَفَاوُتِ مَرَاتِبِهِم في معرفتِهِ والعلمِ بهِ، فَأَعْرَفُهُم لهُ أَشَدُّهُم حُبًّا لهُ، ولهذا كانتْ رُسُلُهُ أَعْظَمَ الناسِ حُبًّا لهُ، والخَلِيلانِ مِنْ بَيْنِهِم أَعْظَمُهُم حُبًّا، وَأَعْرَفُ الأمَّةِ بهِ أَشَدُّهُم لهُ حُبًّا مِنْ غَيْرِهِ، ولهذا كانَ المُنْكِرُونَ لِحُبِّهِ مِنْ أجهلِ الخلقِ بهِ، فإنَّهُم مُنْكِرُونَ لحقيقةِ إِلَهِيَّتِهِ وَلخُلَّةِ الخليلَيْنِ صلَّى اللهُ عليهِمَا وَسَلَّمَ وَلِفِطْرَةِ اللهِ التي فَطَرَ اللهُ عبادَهُ عليها، ولوْ رَجَعُوا إلى قلوبِهِم لَوَجَدُوا حُبَّهُ فيها، وَوَجَدُوا مُعْتَقَدَهُم وَبَحْثَهُم يُكَذِّبُ فِطَرَهُم، وإنَّمَا بُعِثَت الرُّسُلُ بِتَكْمِيلِ هذهِ الفِطَرِ وإعادةِ ما فَسَدَ منها إلى الحالةِ الأولى التي فُطِرَتْ عليها، وإنَّمَا دَعَوْا إلى القيامِ بحقوقِهَا ومُرَاعَاتِهَا؛ لِئَلاَّ تَفْسُدَ وَتَنْتَقِلَ عمَّا خُلِقَتْ لهُ، وهل الأوامرُ والنواهِي إلاَّ خَدَمٌ وتوابعُ ومُكَمِّلاتٌ وَمُصْلِحَاتٌ لهذهِ الفطرةِ؟!!
وهلْ خَلَقَ اللهُ سبحانَهُ وتَعَالَى خَلْقَهُ إلاَّ لعبادتِهِ التي هيَ غايَةُ مَحَبَّتِهِ والذُّلِّ لَهُ؟!!
وهلْ هُيِّئَ الإنسانُ إلاَّ لها؟!! كَمَا قِيلَ:



قَدْ هَيَّأُوكَ لأَمْرٍ لَوْ فَطِنْتَ لَهُ = فَارْبَأْ بِنَفْسِكَ أَنْ تَرْعَى مَعَ الْهَمَلِ

وهلْ في الوجودِ مَحَبَّةٌ حقٌّ غيرُ باطلةٍ إلاَّ محبَّتُهُ سبحانَهُ؟!! فإنَّ كلَّ محبَّةٍ مُتَعَلِّقَةٌ بغيرِهِ فباطلةٌ زائلةٌ ببُطْلانِ مُتَعَلَّقِهَا، وأمَّا مَحَبَّتُهُ سبحانَهُ فهوَ الحقُّ الذي لا يَزُولُ ولا يَبْطُلُ، كما لا يَزُولُ مُتَعَلَّقُهَا ولا يَفْنَى، وكلُّ ما سِوَى اللهِ باطلٌ، ومَحَبَّةُ الباطلِ باطلٌ.

فَسُبْحَانَ اللهِ كَيْفَ يُنْكِرُ المَحَبَّةَ الحقَّ التي لا مَحَبَّةَ أَحَقُّ منها، وَيَعْتَرِفُ بِوُجُودِ المَحَبَّةِ الباطلةِ المُتَلاشِيَةِ؟ !!

وهلْ تَعَلَّقَت المَحَبَّةُ بوجودٍ مُحْدَثٍ إلاَّ لكمالٍ في وجودِهِ بالنسبةِ إلى غيرِهِ؟!! وهلْ ذلكَ الكمالُ إلاَّ منْ آثارِ صُنْعِ اللهِ الذي أَتْقَنَ كلَّ شيْءٍ؟!! وهل الكمالُ كُلُّهُ إلاَّ لَهُ؟!!

فكلُّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئاً لكمالِ ما يَدْعُوهُ إلى مَحَبَّتِهِ فَهُوَ دَلِيلٌ وَعِبْرَةٌ على مَحَبَّةِ اللهِ، وأنَّهُ أَوْلَى بكمالِ الحبِّ منْ كلِّ شيءٍ، ولكنْ إذا كانت النفوسُ صِغَاراً كانتْ مَحْبُوبَاتُهَا على قَدْرِهَا، وأمَّا النفوسُ الكِبَارُ الشريفةُ فإنَّهَا تَبْذُلُ حُبَّهَا لأَجَلِّ الأشياءِ وَأَشْرَفِهَا.

والمقصودُ أنَّ العبدَ إذا اعْتَبَرَ كُلَّ كَمَالٍ في الوجودِ وَجَدَهُ منْ آثارِ كمالِهِ سبحانَهُ، فهوَ دالٌّ على كمالِ مُبْدِعِهِ، كما أنَّ كلَّ عِلْمٍ في الوجودِ فمِنْ آثارِ عِلْمِهِ، وكلَّ قُدْرَةٍ فَمِنْ آثارِ قُدْرَتِهِ.

ونسبةُ الكمالاتِ الموجودةِ في العالمِ العُلْوِيِّ والسُّفْلِيِّ إلى كمالِهِ كَنِسْبَةِ علومِ الخلقِ وقُدْرَتِهِم وَقُوَاهُم وحياتِهِم إلى عِلْمِهِ سبحانَهُ وقُدْرتِهِ وقوَّتِهِ وحياتِهِ. فَإِذَنْ لا نسبةَ أصلاً بينَ كمالاتِ العالمِ وكمالِ اللهِ جلَّ جلالُهُ؛ فَيَجِبُ أنْ لا يَكُونَ بينَ مَحَبَّتِهِ ومَحَبَّةِ غيرِهِ من الموجوداتِ نسبةٌ، بلْ يكونُ حبُّ العبدِ لهُ أَعْظَمَ منْ حُبِّهِ لكلِّ شيءٍ بِمَا لا نسبةَ بينَهُما.
ولهذا قالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165]؛ فالمؤمنونَ أَشَدُّ حُبًّا لِرَبِّهِم وَمَعْبُودِهِم تَعَالَى منْ كلِّ مُحِبٍّ لكلِّ محبوبٍ، هذا مُقْتَضَى عقدِ الإيمانِ الذي لا يَتِمُّ إلاَّ بهِ.

وَلَيْسَتْ هذهِ المسألةُ من المسائلِ التي للعبدِ عنها غِنًى أوْ منها بُدٌّ، كدقائقِ العلمِ والمسائلِ التي يَخْتَصُّ بها بعضُ الناسِ دونَ بعضٍ، بلْ هذهِ مسألةٌ تُفْرَضُ على العبدِ، وهيَ أَصْلُ عقدِ الإيمانِ الذي لا يَدْخُلُ فيهِ الداخلُ إلاَّ بها، ولا فلاحَ للعبدِ ولا نجاةَ لهُ منْ عذابِ اللهِ إلاَّ بها، فَلْيَشْتَغِلْ بها العبدُ أوْ لِيُعْرِضْ عَنْهَا.

ومَنْ لمْ يَتَحَقَّقْ بها علماً وحالاً وعملاً لم يَتَحَقَّقْ بشهادةِ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ، فإنَّهَا سِرُّهَا وَحَقِيقَتُهَا وَمَعْنَاهَا، وإنْ أَبَى ذلكَ الجاحدونُ، وقَصُرَ عنْ علمِهِ الجاهلونَ؛ فإنَّ الإلهَ هوَ المحبوبُ المعبودُ الذي تَأْلَهُهُ القلوبُ بِحُبِّهَا، وَتَخْضَعُ لهُ وَتَذِلُّ لهُ وَتَخَافُهُ وَتَرْجُوهُ وَتُنِيبُ إليهِ في شَدَائِدِهَا وَتَدْعُوهُ في مَهَمَّاتِهَا، وَتَتَوَكَّلُ عليهِ في مَصَالِحِهَا، وَتَلْجَأُ إليهِ، وَتَطْمَئِنُّ بِذِكْرِهِ، وَتَسْكُنُ إلى حُبِّهِ، وليسَ ذلكَ إلاَّ اللهَ وَحْدَهُ، ولهذا كانتْ (( لا إلهَ إلاَّ اللهُ )) أصدقَ الكلامِ، وكانَ أَهْلُهَا أهلَ اللهِ وَحِزْبَهُ، والمنكرونَ لها أَعْدَاءَهُ وأهلَ غَضَبِهِ ونقمتِهِ.

فهذهِ المسألةُ قطبُ رَحَى الدينِ الذي عليهِ مَدَارُهُ، وإذا صَحَّتْ صَحَّ بها كلُّ مسألةٍ وحالٍ وذوقٍ، وإذا لمْ يُصَحِّحْهَا العبدُ فالفسادُ لازمٌ لهُ في علومِهِ وأعمالِهِ وأحوالِهِ وأقوالِهِ، ولا حولَ ولا قوَّةَ إلاَّ باللهِ).

( ولوْ لمْ يَكُنْ في مَحَبَّةِ اللهِ إلاَّ أنَّهَا تُنْجِي مُحِبَّهُ منْ عذابِهِ لكانَ يَنْبَغِي للعبدِ أنْ لا يَتَعَوَّضَ عنها بشيءٍ أبداً. وَسُئِلَ بعضُ العلماءِ: أينَ تَجِدُ في القرآنِ أنَّ الحبيبَ لا يُعَذِّبُ حَبِيبَهُ؟ فقالَ: في قولِهِ تَعَالَى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} [المائدة: 18].

وقالَ الإمامُ أحمدُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ يُونُسَ، عَن الحسنِ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((وَاللهِ، لا يُعَذِّبُ اللهُ حَبِيبَهُ، وَلَكِنْ قَدْ يَبْتَلِيهِ فِي الدُّنْيَا))

وقالَ الإمامُ أحمدُ: حَدَّثَنَا سَيَّارٌ، حَدَّثَنَا جَعْفَرٌ، حَدَّثَنَا أبو غالبٍ, قالَ: بَلَغَنَا أنَّ هذا الكلامَ في وَصِيَّةِ عِيسَى ابنِ مَرْيَمَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَا مَعْشَرَ الْحَوَارِيِّين َ، تَحَبَّبُوا إِلَى اللهِ بِبُغْضِ أَهْلِ الْمَعَاصِي، وَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِالْمَقْتِ لَهُمْ، وَالْتَمِسُوا رِضَاهُ بِسَخَطِهِمْ))، قالُوا: يَا نَبِيَّ اللهِ، فَمَنْ نُجَالِسُ؟ قالَ: ((جَالِسُوا مَنْ يَزِيدُ فِي أَعْمَالِكُمْ مَنْطِقُهُ، وَمَنْ تُذَكِّرُكُمْ بِاللهِ رُؤْيَتُهُ، وَيُزَهِّدُكُمْ فِي دُنْيَاكُمْ عِلْمُهُ))

وَيَكْفِي في الإقبالِ على اللهِ تَعَالَى ثَوَاباً عَاجِلاً أنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى يُقْبِلُ بقلوبِ عبادِهِ إلى مَنْ أَقْبَلَ عليهِ، كما أَنَّهُ يُعْرِضُ بِقُلُوبِهِم عَمَّنْ أَعْرَضَ عنهُ، فقلوبُ العبادِ بِيَدِ اللهِ لا بِأَيْدِيهِم.

وقالَ الإمامُ أحمدُ: حَدَّثَنَا حَسَنٌ في تَفْسِيرِ شَيْبَانَ عنْ قتادةَ قالَ: ذُكِرَ لَنَا أنَّ هَرِمَ بْنَ حَيَّانَ كَانَ يقولُ: ما أَقْبَلَ عَبْدٌ عَلَى اللهِ بِقَلْبِهِ إلاَّ أَقْبَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بقلوبِ المؤمنينَ إليهِ حتَّى يَرْزُقَهُ مَوَدَّتَهُم وَرَحْمَتَهُم

وقدْ رُوِيَ هذا مَرْفُوعاً، وَلَفْظُهُ: ((وَمَا أَقْبَلَ عَبْدٌ عَلَى اللهِ بِقَلْبِهِ إِلاَّ أَقْبَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ بِقُلُوبِ عِبَادِهِ، وَجَعَلَ قُلُوبَهُمْ تَفِدُ إِلَيْهِ بِالْوُدِّ وَالرَّحْمَةِ، وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ خَيْرٍ إِلَيْهِ أَسْرَعَ))

وإذا كانت القلوبُ مَجْبُولَةً على حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إليها، وكلُّ إحسانٍ وَصَلَ إلى العبدِ فَمِن اللهِ عَزَّ وجلَّ، كما قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53]، فلا أَلأَمَ مِمَّنْ شَغَلَ قلبَهُ بحبِّ غيرِهِ دونَهُ.

قالَ الإمامُ أحمدُ: حَدَّثَنَا أبو مُعَاوِيَةَ قالَ: حَدَّثَنِي الأعمشُ، عن المِنْهَالِ، عنْ عبدِ اللهِ بنِ الحارثِ قالَ: أَوْحَى اللهُ إلى دَاوُدَ عليهِ السلامُ: (( يا دَاوُدُ، أَحْبِبْنِي وَحَبِّبْ عِبَادِي إِلَيَّ، وَحَبِّبْنِي إلى عِبَادِي ))، قالَ: (( يا ربِّ، هذا أنا أُحِبُّكَ وَأُحَبِّبُ عِبَادَكَ إليكَ، فَكَيْفَ أُحَبِّبُكَ إلى عِبَادِكَ؟!! )) قالَ: (( تَذْكُرُنِي عِنْدَهُم؛ فَإِنَّهُم لا يَذْكُرُونَ منِّي إلاَّ الحَسَنَ ))

ومنْ أفضلِ ما سُئِلَ اللهُ عزَّ وجلَّ حُبُّهُ، وَحُبُّ مَنْ يُحِبُّهُ، وَحُبُّ عَمَلٍ يُقَرِّبُ إلى حُبـِّهِ. ومِنْ أَجْمَعِ ذلكَ أنْ يَقُولَ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُنِي إِلَى حُبِّكَ، اللَّهُمَّ مَا رَزَقْتَنِي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ قُوَّةً لِي فِيمَا تُحِبُّ، وَمَا زَوَيْتَ عَنِّي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ فرَاغاً لي فِيمَا تُحِبُّ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ حُبَّكَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَهْلِي وَمَالِي وَمِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ عَلَى الظَّمَأِ، اللَّهُمَّ حَبِّبْنِي إِلَيْكَ وَإِلَى مَلائِكَتِكَ وَأَنْبِيَائِكَ وَرُسُلِكَ وَعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ، وَاجْعَلْنِي مِمَّنْ يُحِبُّكَ وَيُحِبُّ مَلائِكَتَكَ وَأَنْبِيَاءَكَ وَرُسُلَكَ وَعِبَادَكَ الصَّالحِينَ، اللَّهُمَّ أَحْيِ قَلْبِي بِحُبِّكَ وَاجْعَلْنِي لَكَ كَمَا تُحِبُّ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي أُحِبُّكَ بِقَلْبِي كُلِّهِ، وَأُرْضِيكَ بِجُهْدِي كُلِّهِ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ حُبِّي كُلَّهُ لَكَ، وَسَعْيِي كُلَّهُ في مَرْضَاتِكَ)).

وهذا الدعاءُ هوَ فُسْطَاطُ خَيْمَةِ الإسلامِ الذي قِيَامُهَا بهِ، وهوَ حقيقةُ شهادةِ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ، وأنَّ مُحَمَّداً رسـولُ اللهِ، والقائمونَ بحقيقةِ ذلكَ هم الذينَ همْ بِشَهَادَتِهِم قائمونَ.
واللهُ سبحانَهُ تَعَرَّفَ إلى عبادِهِ منْ أسمائِهِ وصفاتِهِ وأفعالِهِ بما يُوجِبُ مَحَبَّتَهُم لهُ؛ فإنَّ القلوبَ مَفْطُورَةٌ على مَحَبَّةِ الكمالِ وَمَنْ قامَ بهِ، واللهُ سبحانَهُ وتَعَالَى لهُ الكمالُ المُطْلَقُ منْ كلِّ وَجْهٍ، الذي لا نَقْصَ فيهِ بِوَجْهٍ ما، وهوَ سبحانَهُ (( الجَمِيلُ )) الذي لا أَجْمَلَ منهُ، بلْ لَوْ كانَ جَمَالُ الخلقِ كُلِّهِم على رجلٍ واحدٍ منهم، وكانُوا جَمِيعُهُم بذلكَ الجمالِ لَمَا كانَ لِجَمَالِهِم قَطُّ نِسْبَةٌ إلى جمالِ اللهِ، بلْ كَانَت النسبةُ أَقَلَّ منْ نِسْبَةِ سِرَاجٍ ضعيفٍ إلى حِذاءِ جِرْمِ الشَّمْسِ؛ وللهِ المَثَلُ الأَعْلَى)[المرتبع الأسنى]

محمدعبداللطيف
2020-05-04, 12:55 PM
قال ابن القيم
(( المنَّانُ )): ذُو المَنِّ - الذي إنَّمَا يَتَقَلَّبُ الخلائقُ في بَحْرِ منَّتِهِ عليهم، وَمَحْضِ صَدَقَتِهِ عليهم، بلا عِوَضٍ منهم الْبَتَّةَ، وإنْ كانتْ أَعْمَالُهُم أَسْبَاباً لِمَا يَنَالُونَهُ منْ كَرَمِهِ وَجُودِهِ، فهوَ المنَّانُ عليهم بأنْ وَفَّقَهُم لتلكَ الأسبابِ وَهَدَاهُم لها، وَأَعَانَهُم عليها، وَكَمَّلَهَا لهم، وَقَبِلَهَا منهم على ما فيها)

(و [أمَّا] قولـُهُ [تَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } [التين: 6]؛ أيْ: غيرُ مقطوعٍ ولا منقوصٍ، ولا مُكَدَّرٍ عليهم، وهذا هوَ الصوابُ.
وقالتْ طائفةٌ: غيرُ مَمْنُونٍ بهِ عليهم، بلْ هوَ جزاءُ أَعْمَالِهِم، وَيُذْكَرُ هذا عنْ عِكْرِمَةَ وَمُقَاتِلٍ، وهوَ قولُ كثيرٍ من القَدَرِيَّةِ، قالَ هؤلاءِ: إنَّ المنَّةَ تُكَدِّرُ النعمةَ.

فَتَمَامُ النعمةِ أنْ يكونَ غَيْرَ مَمْنُونٍ بها على المُنْعَمِ عليهِ، وهذا القولُ خطأٌ قَطْعاً، أُتِيَ أَرْبَابُهُ منْ تَشْبِيهِ نعمةِ اللهِ على عبدِهِ بإنعامِ المخلوقِ على المخلوقِ.

وهذا منْ أبْطَلِ الباطلِ؛ فإنَّ المنَّةَ التي تُكَدِّرُ النِّعمةَ هيَ مِنَّةُ المخلوقِ على المخلوقِ، وأمَّا مِنَّةُ الخالقِ على المخلوقِ ففيها تَمَامُ النعمةِ وَلَذَّتُها وَطِيبُهَا؛ فإنَّها مِنَّةٌ حَقِيقَةً، قالَ تَعَالَى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17)} [الحجرات: 17]، وقالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُم َا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115)} [الصافَّات: 114-115]، فتكونُ مِنَّةً عليهما بنعمةِ الدنيا دُونَ نعمةِ الآخرةِ، وقالَ لِمُوسَى: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37)} [طه: 37]، وقالَ أهلُ الجنَّةِ: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27)} [الطور: 27]، وقالَ تَعَالَى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ}ال يَةَ [آل عمرانَ: 164]، وقالَ: {نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ} الآيَةَ [القصص: 5]. وفي الصحيحِ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ للأنصارِ: ((أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلاَّلاً فَهَدَاكُمُ اللهُ بِي؟ أَلَمْ أَجِدْكُمْ عَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللهُ بِي؟)) فَجَعَلُوا يقولونَ لَهُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ

فهذا جوابُ العَارِفِينَ باللهِ ورسولِهِ، وهل المنَّةُ إلاَّ للهِ المانِّ بِفَضْلِهِ الذي جَمِيعُ الخلقِ في مِنَنِهِ؟!!

وإنَّمَا قَبُحَتْ مِنَّةُ المخلوقِ؛ لأنَّها منَّةٌ بما ليسَ مِنْهُ، وهيَ مِنَّةٌ يَتَأَذَّى بها المَمْنُونُ عليهِ، وأمَّا مِنَّةُ (( المنَّانِ )) بِفَضْلِهِ التي ما طَابَ العيشُ إلاَّ بمنَّتِهِ، وكلُّ نعمةٍ منهُ في الدنيا والآخرةِ فهيَ مِنَّةٌ يَمُنُّ بها على مَنْ أَنْعَمَ عليهِ، فَتِلْكَ لا يَجُوزُ نَفْيُهَا.

وكيفَ يَجُوزُ أنْ يُقَالَ: إنَّهُ لا منَّةَ للهِ على الذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالحاتِ في دخولِ الجنَّةِ؟! وهلْ هذا إلاَّ منْ أبطلِ الباطلِ؟!!

فإنْ قِيلَ: هذا القدرُ لا يَخْفَى على مَنْ قالَ هذا القولَ من العلماءِ، وليسَ مُرَادُهُم ما ذُكِرَ، وإنَّمَا مُرَادُهُم أنَّهُ لا يَمُنُّ عليهم بهِ، وإنْ كانتْ للهِ فيهِ المنَّةُ عليهم، فإنَّهُ لا يَمُنُّ عليهم بهِ، بلْ يُقَالُ: هذا جَزَاءُ أعمالِكُم التي عَمِلْتُمُوهَا في الدُّنيا، وهذا أَجْرُكُم، فَأَنْتُم تَسْتَوْفُونَ أُجُورَ أَعْمَالِكُم، لا نَمُنُّ عَلَيْكُم بما أَعْطَيْنَاكُم.

قيلَ: وهذا أيضاً هوَ الباطلُ بِعَيْنِهِ؛ فإنَّ ذلكَ الأجرَ لَيْسَت الأعمالُ ثَمَناً لهُ ولا مُعَاوَضَةً عنهُ، وقدْ قالَ أعلمُ الخلقِ باللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ مِنْكُمُ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ))، قالُوا: ولا أنتَ يا رسولَ اللهِ؟ قالَ: ((وَلا أَنَا، إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ)). فَأَخْبَرَ أنَّ دخولَ الجنَّةِ برحمةِ اللهِ وفضلِهِ، وذلكَ مَحْضُ مِنَّتِهِ عليهِ وعلى سائرِ عبادِهِ، وكما أنَّهُ سبحانَهُ المَانُّ بإرسالِ رُسُلِهِ، وبالتوفيقِ لطاعتِهِ وبالإعانةِ عليها، فهوَ المانُّ بِإِعْطَاءِ الجزاءِ، وذلكَ كُلُّهُ مَحْضُ مِنَّتِهِ وفضلِهِ وَجُودِهِ، لا حقَّ لأحدٍ عليهِ بحيثُ إذا وَفَّاهُ إيَّاهُ لمْ يَكُنْ لهُ عليهِ منَّةٌ، فإنْ كانَ في الدنيا باطلٌ، فهذا ليسَ منهُ في شيءٍ

فإنْ قِيلَ: كيفَ تَقُولونَ هذا وقدْ أَخْبَرَ رسولُهُ عنهُ بأنَّ حقَّ العبادِ عليهِ إذا وَحَّدُوهُ أنْ لا يُعَذِّبَهُم وقدْ أَخْبَرَ عنْ نفسِهِ أنَّ حَقًّا عليهِ نَصْرَ المؤمنينَ؟!

قِيلَ: لَعَمْرُ اللهِ هذا منْ أَعْظَمِ منَّتِهِ على عبادِهِ؛ أنْ جَعَلَ على نفسِهِ حَقًّا بِحُكْمِ وَعْدِهِ الصادقِ: أنْ يُثِيبَهُم ولا يُعَذِّبَهُم إذا عَبَدُوهُ وَوَحَّدُوهُ، فهذا مِنْ تَمَامِ مِنَّتِهِ، فإنَّهُ لوْ عَذَّبَ أهلَ سَمَاواتِهِ وأرضِهِ لَعَذَّبَهُم وهوَ غيرُ ظالمٍ لهم، ولكنَّ مِنَّتَهُ اقْتَضَتْ أنْ أَحَقَّ على نفسِهِ ثوابَ عَابِدِيهِ وإجابةَ سَائِلِيهِ.

مَا للعبادِ عليهِ حقٌّ واجِبُ = إنْ عُذِّبُوا فَبِعَدْلِهِ أوْ نُعِّمُوا
كَلاَّ ولا سَعْيٌ لَدَيْهِ ضَائِعُ = فَبِفَضْلِهِ فهوَ الكريمُ الوَاسِعُ)

(وحَظَرَ اللهُ سبحانَهُ على عبادِهِ المنَّ بالصنيعةِ، واخْتَصَّ بهِ صفةً لنفسِهِ؛ لأنَّ مَنَّ العبادِ تَكْدِيرٌ وتَعْيِيرٌ وَمَنُّ اللهِ سبحانَهُ إفضالٌ وتذكيرٌ.
- وأيضاً: فإنَّهُ هوَ المُنْعِمُ في نفسِ الأمرِ، والعبادُ وَسَائِطُ، فهوَ المُنْعِمُ على عبدِهِ في الحقيقةِ.
- وأيضاً: فالامْتِنَانُ اسْتِعْبَادٌ وكَسْرٌ وإِذْلالٌ لِمَنْ يُمَنُّ عليهِ، ولا تَصْلُحُ العبوديَّةُ والذلُّ إلاَّ للهِ.
- وأيضاً: فَالمنَّةُ أنْ يَشْهَدَ المُعْطِي أنَّهُ هوَ ربُّ الفضلِ والإنعامِ وأنَّهُ وَلِيُّ النعمةِ وَمُسْدِيهَا، وليسَ ذلكَ في الحقيقةِ إلاَّ اللهَ.
- وأيضاً: فالمَانُّ بِعَطَائِهِ يَشْهَدُ نَفْسَهُ مُتَرَفِّعاً على الآخِذِ مُسْتَعْلِياً عليهِ غَنِيًّا عنهُ عَزِيزاً، وَيَشْهَدُ ذُلَّ الآخذِ وحاجَتَهُ إليهِ وفاقَتَهُ، ولا يَنْبَغِي ذلكَ للعبدِ.
- وأيضاً: فإنَّ المُعْطِيَ قدْ تَوَلَّى اللهُ ثَوَابَهُ وَرَدَّ عليهِ أضعافَ ما أَعْطَى، فَبَقِيَ عِوَضُ ما أَعْطَى عندَ اللهِ، فَأَيُّ حَقٍّ بَقِيَ لهُ قِبَلَ الآخِذِ؟!! فإذا امْتَنَّ عليهِ فقدْ ظَلَمَهُ ظُلْماً بَيِّناً، وادَّعَى أنَّ حَقَّهُ في قَلْبِهِ.
ومِنْ هنا- واللهُ أَعْلَمُ- بَطَلَتْ صَدَقَتُهُ بالمنِّ، فإنَّهُ لَمَّا كَانتْ مُعَاوَضَتُهُ ومعامَلَتُهُ معَ اللهِ، وعِوَضُ الصدقةِ عندَهُ، فلمْ يَرْضَ بهِ ولاحَظَ العِوَضَ مِن الآخِذِ والمعاملةَ عندَهُ، فمَنَّ عليهِ بما أَعْطَاهُ، أَبْطَلَ مُعَاوَضَتَهُ معَ اللهِ ومُعامَلَتَهُ لَهُ) [المرتبع الأسنى]

محمدعبداللطيف
2020-05-04, 12:57 PM
قال ابن القيم
( (( المُحْسِنُ )) الذي تَعَرَّفَ إلى عبادِهِ بأوصافِهِ وأفعالِهِ وأسمائِهِ، وَتَحَبَّبَ إليهم بِنِعَمِهِ وآلائِهِ، وَابْتَدَأَهُم بإحسانِهِ وعطائِهِ، فهوَ المحسنُ إليهم والمجازِي على إحسانِهِ بالإحسانِ، فلهُ النعمةُ والفضلُ والثناءُ الحسنُ الجميلُ)
(وهوَ سبحانَهُ كَتَبَ على نفسِهِ الرحمةَ والإحسانَ، فَرَحْمَتُهُ وإحسانُهُ منْ لوازمِ ذاتِهِ، فلا يكونُ إلاَّ رَحِيماً مُحْسِناً).

([فـ]الإحسانُ صِفَتُهُ، وهوَ المحسنُ ويُحِبُّ المُحْسِنِينَ)؛ (فهوَ مُحْسِنٌ إلى عبدِهِ معَ غِنَاهُ عنهُ، يُرِيدُ بهِ الخيرَ، وَيَكْشِفُ عنهُ الضُرَّ، لا لِجَلْبِ منفعةٍ إليهِ من العبدِ، ولا لِدَفْعِ مَضَرَّةٍ بلْ رَحْمَةً منهُ وَإِحْسَاناً، فهوَ سبحانَهُ لمْ يَخْلُقْ خَلْقَهُ لِيَتَكَثَّرَ بهم منْ قِلَّةٍ، ولا لِيَتَعَزَّزَ بهم مِنْ ذلَّةٍ، ولا لِيَرْزُقُوهُ ولا لِيَنْفَعُوهُ، ولا لِيَدْفَعُوا عنهُ، كما قالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} [الذاريات: 56-58]، وقالَ: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)} [الإسراء: 111].

فهوَ سبحانَهُ لا يُوَالِي مَنْ يُوَالِيهِ من الذلِّ، كما يُوَالِي المخلوقُ المخلوقَ، وإنَّمَا يُوَالِي أولياءَهُ إِحْسَاناً ورحمةً ومَحَبَّةً لهم، وأمَّا العِبَادُ فإنَّهُم كما قالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} [محمَّد: 38]، فهم لِفَقْرِهِم وحاجَتِهِم إنَّمَا يُحْسِنُ بَعْضُهُم إلى بعضٍ لحاجتِهِ إلى ذلكَ وانتفاعِهِ بهِ عَاجِلاً أوْ آجِلاً. ولَوْلا تَصَوُّرُ ذلكَ النَّفْعِ لَمَا أَحْسَنَ إليهِ، فهوَ في الحقيقةِ إنَّمَا أَرَادَ الإحسانَ لنفسِهِ، وَجَعَلَ إِحْسَانَهُ إلى غيرِهِ وسيلةً وطريقاً إلى حصولِ ذلكَ الإحسانِ إليهِ؛ فإنَّهُ إمَّا أنْ يُحْسِنَ إليهِ لِتَوَقُّعِ جزائِهِ في العاجلِ، فهوَ مُحْتَاجٌ إلى ذلكَ الجزاءِ، أوْ مُعَاوَضَةً بإحسانِهِ، أوْ لِتَوَقُّعِ حمدِهِ وشكرِهِ، فهوَ أيضاً إنَّمَا يُحْسِنُ إليهِ لِيَحْصُلَ لهُ منهُ ما هوَ مُحْتَاجٌ إليهِ من الثناءِ والمدحِ، فهوَ مُحْسِنٌ إلى نفسِهِ بإحسانِهِ إلى الغيرِ، وإمَّا أنْ يُرِيدَ الجزاءَ من اللهِ في الآخرةِ، فهوَ أيضاً مُحْسِنٌ إلى نفسِهِ بذلكَ، وإنَّمَا أَخَّرَ جزاءَهُ إلى يومِ فَقْرِهِ وَفَاقَتِهِ، فهوَ غيرُ مَلُومٍ في هذا القصدِ، فإنَّهُ فَقِيرٌ مُحْتَاجٌ، وَفَقْرُهُ وحاجتُهُ أَمْرٌ لازمٌ لهُ منْ لوازمِ ذاتِهِ، فكمالُهُ أنْ يَحْرِصَ على ما يَنْفَعُهُ، ولمْ يَعْجَزْ عنهُ، قالَ تَعَالَى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ} [الإسراء: 7]، وقالَ تَعَالَى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)} [البقرة: 272]، وقالَ تَعَالَى، فيما رَوَاهُ عنهُ رَسُولَهُ: ((يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي. يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْراً فَلْيَحْمَدِ اللهَ، ومَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ))

فالمخلوقُ لا يَقْصِدُ مَنْفَعَتَكَ بالقصدِ الأوَّلِ، بلْ إِنَّمَا يَقْصِدُ انْتِفَاعَهُ بكَ، والربُّ تَعَالَى إنَّمَا يُرِيدُ نَفْعَكَ لا انتفاعَهُ بكَ، وذلكَ منفعةٌ محضةٌ لكَ خالصةٌ من المضرَّةِ، بخلافِ إرادةِ المخلوقِ نَفْعَكَ؛ فإنَّهُ قدْ يَكُونُ فيهِ مَضَرَّةٌ عليكَ، ولوْ بِتَحَمُّلِ منَّتِهِ.

فَتَدَبَّرْ هذا؛ فإنَّ مُلاحَظَتَهُ تَمْنَعُكَ أنْ تَرْجُوَ المخلوقَ، أوْ تُعَامِلَهُ دونَ اللهِ، أوْ تَطْلُبَ منهُ نَفْعاً أوْ دَفْعاً، أوْ تُعَلِّقَ قَلْبَكَ بهِ؛ فإنَّهُ إِنَّمَا يُرِيدُ انْتِفَاعَهُ بكَ لا مَحْضَ نَفْعِكَ، وهذا حالُ الخلقِ كُلِّهِم بعضِهِم منْ بعضٍ، وهوَ حالُ الولدِ معَ وَالِدِهِ، والزوجِ معَ زَوْجِهِ، والمَمْلُوكِ معَ سَيِّدِهِ، والشَّرِيكِ معَ شَرِيكِهِ، فالسعيدُ مَنْ عَامَلَهُم للهِ لا لَهُم، وَأَحْسَنَ إليهم للهِ، وَخَافَ اللهَ فيهم، ولمْ يَخَفْهُم معَ اللهِ، وَرَجَا اللهَ بالإحسانِ إليهم، ولمْ يَرْجُهُم معَ اللهِ، وَأَحَبَّهُم بِحُبِّ اللهِ، ولمْ يُحِبَّهُم معَ اللهِ، كما قالَ أولياءُ اللهِ عزَّ وجلَّ: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)} [الإنسان: 9])

(و[المقصودُ أنَّهُ] لا أَحَدَ أعظمُ إِحْسَاناً من اللهِ سبحانَهُ؛ فإنَّ إحسانَهُ على عبدِهِ في كلِّ نَفَسٍ ولحظةٍ، وهوَ يَتَقَلَّبُ في إحسانِهِ في جميعِ أحوالِهِ، ولا سبيلَ لهُ إلى ضَبْطِ أجناسِ هذا الإحسانِ فَضْلاً عنْ أنواعِهِ أوْ عنْ أفرادِهِ، وَيَكْفِي أنَّ مِنْ بَعْضِ أنواعِهِ نعمةَ النفسِ التي لا تَكَادُ تَخْطُرُ ببالِ العبدِ، ولَهُ عليهِ في كلِّ يومٍ وليلةٍ فيهِ أربعةٌ وعشرونَ ألفَ نِعْمَةٍ، فإنَّهُ يَتَنَفَّسُ في اليومِ والليلةِ أربعةً وعشرينَ ألفَ نَفَسٍ، وكلُّ نَفَسٍ نعمةٌ منهُ سُبحانَهُ، فإذا كانَ أَدْنَى نعمةٍ عليهِ في كلِّ يومٍ وليلةٍ أربعةً وعشرينَ ألفَ نِعْمَةٍ، فما الظَّنُّ بِمَا فَوْقَ ذلكَ وأَعْظَمُ مِنْهُ!! {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34]، [النحل: 18].

هذا إلى مَا يَصْرِفُ عنهُ من المضَرَّاتِ وأنواعِ الأذَى التي تَقْصِدُهُ، وَلَعَلَّهَا تُوَازِنُ النِّعَمَ في الكثرةِ، والعَبْدُ لا شُعُورَ لهُ بأَكْثَرِهَا أَصْلاً، واللهُ سُبْحَانَهُ يَكْلَؤُهُ منها بالليلِ والنهارِ كما قالَ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} [الأنبياء: 42]. وَسَوَاءٌ كانَ المعنَى: مَنْ يَكْلَؤُكُمْ وَيَحْفَظُكُم منهُ إذا أَرَادَ بكمْ سُوءاً، ويكونُ " يَكْلَؤُكُمْ " مُضَمَّناً معنَى يُجِيرُكُم وَيُنْجِيكُمْ مِنْ بَأْسِهِ، أوْ كانتْ " مِن " البَدَلِيَّةَ؛ أيْ: مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بَدَلَ الرحمنِ سُبْحَانَهُ؛ أيْ: هوَ الذي يَكْلَؤُكُمْ وَحْدَهُ لا كَالِئَ لكم غَيْرُهُ.

وَنَظِيرُ " مِنْ " هذهِ قولُهُ: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ } [الزخرف: 60] على أحدِ القَوْلَيْنِ؛ أيْ: عِوَضَكُم وَبَدَلَكُم، وَاسْتَشْهَدُوا على ذلكَ بقولِ الشاعِرِ:

جَارِيَةٌ لَمْ تَأْكُل الْمُرَقَّقَا = وَلَمْ تَذُقْ مِنَ الْبُقُولِ الْفُسْتُقَا
أيْ: لمْ تَأْكُل الفُسْتُقَ بَدَلَ البقولِ.
وعلى كِلا القَوْلَيْنِ: فهوَ سبحانَهُ مُنْعِمٌ عليهم بِكَلاءَتِهِم وحفظِهِم وحراستِهِم ممَّا يُؤْذِيهم بالليلِ والنهارِ وحدَهُ، لا حَافِظَ لهم غيرُهُ، هذا معَ غِنَاهُ التامِّ عَنْهُم وَفَقْرِهِم التامِّ إليهِ؛ فإنَّهُ سبحانَهُ غَنِيٌّ عنْ خَلْقِهِ منْ كلِّ وجهٍ، وَهُمْ فقراءُ مُحْتَاجُونَ إليهِ منْ كلِّ وجهٍ.

وفي بعضِ الآثارِ يقولُ تَعَالَى: ((أَنَا الجَوَادُ، ومَنْ أَعْظَمُ مِنِّي جُوداً وَكَرَماً؟ أَبِيتُ أَكْلأُ عِبَادِي في مضاجِعِهم وهمْ يُبَارِزُونَنِي بالعظائِمِ)). وفي " الــتِّرْمِذِيّ ِ " أنَّ النــبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَأَى الســحـــابَ قالَ: ((هَـذِهِ رَوَايَا الأَرْضِ، يَسُوقُهَا اللهُ إِلَى قَوْمٍ لا يَذْكُرُونَهُ، وَلا يَعْبُدُونَهُ)) وفي الصَّحِيحَيْنِ: عنهُ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قالَ: ((لا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللهِ، إِنَّهُمْ لَيَجْعَلُونَ لَهُ الْوَلَدَ، وَهُوَ يَرْزُقُهُمْ وَيُعَافِيهِمْ)) وفي بعضِ الآثارِ يقولُ اللهُ: ((ابْنَ آدَمَ، خَيْرِي إِلَيْكَ نَازِلٌ، وَشَرُّكَ إِلَيَّ صَاعِدٌ، كَمْ أَتَحَبَّبُ إِلَيْكَ بِالنِّعَمِ، وَأَنَا غَنِيٌّ عَنْكَ، وَكَمْ تَتَبَغَّضُ إِلَيَّ بِالْمَعَاصِي، وَأَنْتَ فَقِيرٌ إِلَيَّ، وَلا يَزَالُ الْمَلَكُ الْكَرِيمُ يَعْرُجُ إِلَيَّ مِنْكَ بِعَمَلٍ قَبِيحٍ)).[المرتبع الأسنى]

محمدعبداللطيف
2020-05-04, 12:58 PM
قال ابن القيم
( (( القُدُّوسُ )) المُنَـزَّهُ منْ كُلِّ شرٍّ ونقصٍ وعَيْبٍ *، كما قالَ أهلُ التفسيرِ: هوَ الطَّاهِرُ منْ كلِّ عيبٍ المنُـَزَّهُ عَمَّا لا يَلِيقُ بهِ، وهذا قولُ أهلِ اللُّغَةِ.
وأصلُ الكلمةِ من الطَّهارةِ والنـَّزَاهَةِ:
- ومنهُ: " بَيْتُ المَقْدِسِ "؛ لأنَّهُ مكانٌ يُتَطَهَّرُ فيـهِ من الـذنوبِ، ومـَنْ أَمَّهُ لا يُـرِيـدُ إلاَّ الصَّـلاةَ فـيهِ رَجَعَ منْ خَطِيئَتِهِ كيومَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ.
- ومنهُ: سُمِّيَت الجنَّةُ " حَظِيرَةَ القُدْسِ "؛ لِطَهَارَتِهَا منْ آفَاتِ الدُّنْيَا.
- ومنهُ: سُمِّيَ جِبْرِيلُ " رُوحَ القُدُسِ "؛ لأنَّهُ طَاهِرٌ منْ كلِّ عَيْبٍ.
- ومنهُ: قولُ الملائكةِ: {نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 30]. فقيلَ: المَعْنَى: وَنُقَدِّسُ أَنْفُسَنَا لكَ، فَعُدِّيَ باللامِ، وهذا ليسَ بشيءٍ، والصوابُ أنَّ المَعْنَى نُقَدِّسُكَ وَنُنَـزِّهُكَ عَمَّا لا يَلِيقُ بكَ.
هذا قَوْلُ جُمْهُورِ أهلِ التفسيرِ.

وقالَ ابنُ جَرِيرٍ: ونُقَدِّسُ لكَ: نَنْسُبُكَ إلى ما هوَ منْ صِفَاتِكَ من الطهارةِ من الأدْنَاسِ، ومِمَّا أضَافَ إليكَ أهلُ الكفرِ بكَ.

قالَ: وقالَ بَعْضُهُم: نُعَظِّمُكَ وَنُمَجِّدُكَ؛ قالَهُ أبو صالحٍ، وقالَ مُجَاهِدٌ: نُعَظِّمُكَ وَنُكَبِّرُكَ.
وقالَ بعضُهُم: نُنـَزِّهُكَ عن السوءِ فلا نَنْسِبُهُ إليكَ، واللامُ فيهِ على حَدِّهَا في قولِهِ: {رَدِفَ لَكُمْ} [النمل: 72]؛ لأنَّ المَعْنَى تَنـْزِيهُ اللهِ لا تَنـْزِيهُ نُفُوسِهِم لأجلِهِ.

قُلْتُ: ولهذا قُرِنَ هذا اللفظُ بقولِهِم: {نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ}؛ فإنَّ التسبيحَ تَنـْزِيهُ اللهِ سبحانَهُ عنْ كلِّ سوءٍ. قالَ ميمونُ بنُ مِهْرَانَ: (( سُبْحَانَ اللهِ )) كلمةٌ يُعَظَّمُ بها الربُّ، ويُحَاشَى بها من السوءِ.
وقالَ ابنُ عبَّاسٍ: هيَ تَنـْزِيهٌ للهِ منْ كلِّ سوءٍ.
وأصلُ اللفظةِ من المُبَاعَدَةِ؛ منْ قولِهِم: سَبَحْتُ في الأرضِ، إذا تَبَاعَدْتَ فيها، ومِنْهُ: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)} [الأنبياء: 33]، فَمَنْ أَثْنَى على اللهِ وَنَزَّهَهُ عن السوءِ فقدْ سَبَّحَهُ، وَيُقَالُ: سَبَّحَ اللهَ وَسَبَّحَ لهُ، وَقَدَّسَهُ وَقَدَّسَ لَهُ)


(هَذَا ومِن أوصافِهِ القُدُّوسُ ذُو التَّـ = ـنـْزِيهِ بالتَّعْظِيمِ للرَّحْمَنِ) [المرتبع الأسنى]

محمدعبداللطيف
2020-05-04, 01:00 PM
قال ابن القيم
( (( السَّلامُ ))... منْ أسماءِ الربِّ تَبَارَكَ وتَعَالَى، وهوَ اسمُ مصدرٍ في الأصلِ - كالكلامِ والعطاءِ - بِمَعْنَى السلامةِ،... [و] الربُّ تَعَالَى أَحَقُّ بهِ منْ كلِّ ما سِوَاهُ؛ لأنَّهُ السالِمُ منْ كلِّ آفةٍ وَعَيْبٍ وَنَقْصٍ وَذَمٍّ؛ فإنَّ لهُ الكمالَ المُطْلَقَ منْ جميعِ الوجوهِ، وكمالُهُ منْ لوازمِ ذاتِهِ، فلا يكونُ إلاَّ كذلكَ.

و (( السَّلامُ )) يَتَضَمَّنُ:
- سلامةَ أفعالِهِ من العبثِ والظلمِ وخلافِ الحكمةِ.
- وسلامةَ صفاتِهِ منْ مُشابهةِ صفاتِ المخلوقينَ.
- وسلامةَ ذاتِهِ منْ كلِّ نقصٍ وعيبٍ.
- وسلامةَ أسمائِهِ منْ كُلِّ ذَمٍّ.
فاسْمُ (( السَّلامِ )) يَتَضَمَّنُ إثباتَ جميعِ الكمالاتِ لهُ، وَسَلْبَ جميعِ النقائصِ عنهُ، وهذا مَعْنَى: (( سُبْحَانَ اللهِ والحمدُ للهِ )). وَيَتَضَمَّنُ إفرادَهُ بالألوهيَّةِ، وإفرادَهُ بالتعظيمِ، وهذا معنَى: (( لا إلهَ إلاَّ اللهُ، واللهُ أكبرُ )). فَانْتَظَمَ اسمُ (( السَّلامِ )) البَاقِيَاتِ الصالحاتِ التي يُثْنَى بها على الربِّ جلَّ جلالُهُ)

(و... حقيقةُ هذهِ اللفظةِ... البراءةُ والخلاصُ والنجاةُ من الشرِّ والعيوبِ. وعلى هذا المعنَى تَدُورُ تَصَارِيفُهَا، فمِنْ ذلكَ قولُكَ: " سَلَّمَكَ اللهُ، وَسَلِمَ فلانٌ من الشرِّ "، ومنهُ دعاءُ المؤمنينَ على الصراطِ: " رَبِّ سَلِّمْ، اللَّهُمَّ سَلِّمْ ". ومنهُ: " سَلِمَ الشيءُ لفلانٍ، أيْ: خَلَصَ لهُ وَحْدَهُ، فَخَلَصَ منْ ضَرَرِ الشركةِ فيهِ؛ قالَ تَعَالَى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ} [الزمر: 29]؛ أيْ: خَالِصاً لهُ وَحْدَهُ لا يَمْلُكُهُ معهُ غَيْرُهُ.

ومنهُ: (السِّلْمُ) ضِدُّ الحربِ، قالَ تَعَالَى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61]؛ لأنَّ كُلاًّ من المُتَحَارِبَيْ نِ يَـخْلُصُ وَيَسْلَمُ منْ أَذَى الآخرِ، ولهذا يُبْنَى منهُ على المُفَاعَلَةِ، فَيُقَالُ:
المُسَالَمَةُ، مِثلُ المُشَارَكَةِ.

ومنهُ: (القلبُ السليمُ) ، وهوَ النَّقِيُّ من الغلِّ والدَّغَلِ، وحقيقتُهُ الذي قدْ سَلِمَ للهِ وحدَهُ فَخَلَصَ منْ دَغَلِ الشركِ وغِلِّهِ ودَغَلِ الذنوبِ والمخالفاتِ، بلْ هوَ المستقيمُ على صدقِ حُبِّهِ وَحُسْنِ معاملتِهِ، فهذا هوَ الذي ضَمِنَ لهُ النجاةَ منْ عذابِهِ والفوزَ بكرامتِهِ.

ومنهُ أُخِذَ (الإسلامُ)؛ فإنَّهُ منْ هذهِ المادَّةِ؛ لأنَّهُ: الاستسلامُ والانقيادُ للهِ والتخلُّصُ منْ شوائبِ الشركِ، فسَلِمَ لربِّهِ وخَلَصَ لهُ كالعبدِ الذي سَلِمَ لمولاهُ، ليسَ فيهِ شركاءُ مُتَشَاكِسُونَ، ولهذا ضَرَبَ سبحانَهُ هَذَيْنِ المَثَلَيْنِ للمسلمِ المُخْلِصِ لربِّهِ، والمُشْرِكِ بهِ.

ومنهُ: ( السَّلَمُ ) للسَّلَفِ، وحقيقتُهُ العِوَضُ المُسَلَّمُ فيهِ؛ لأنَّ مَنْ هوَ في ذمَّتِهِ قدْ ضَمِنَ سلامَتَهُ لِرَبِّهِ، ثُمَّ سُمِّيَ العقدُ سَلَماً وحقيقتُهُ ما ذَكَرْنَاهُ.
فإنْ قِيلَ: فهذا يَنْتَقِضُ بقولِهِم للَّدِيغِ: سَلِيماً.
قيلَ: ليسَ هذا بِنَقْضٍ لهُ، بلْ طردٌ لما قُلْنَاهُ؛ فإنَّهُم سَمَّوْهُ سَلِيماً باعْتِبَارِ ما يَهُمُّهُ ويَطْلُبُهُ ويَرْجُو أنْ يَؤُولَ إليهِ حالُهُ من السلامةِ، فليسَ عندَهُ أَهَمُّ من السلامةِ، ولا هوَ أَشَدُّ طَلَباً منهُ لغيرِهَا، فسُمِّيَ: ( سَلِيماً ) لذلكَ، وهذا مِنْ جنسِ تَسْمِيَتِهِم المهلكةَ " المَفَازَةَ "؛ لأنَّهُ لا شيءَ أَهَمُّ عندَ سالِكِهَا منْ فَوْزِهِ منها؛ أيْ: نَجَاتِهِ، فَسُمِّيَتْ مَفَازَةً؛ لأنَّهُ يَطْلُبُ الفوزَ منها. وهذا أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِهِم: إنَّمَا سُمِّيَتْ "مَفَازَةً "، وَسُمِّيَ اللَّدِيغُ " سَلِيماً " تَفَاؤُلاً، وإنْ كانَ التَّفَاؤُلُ جُزْءَ هذا المَعْنَى الذي ذَكَرْنَاهُ وَدَاخِلاً فيهِ، فهوَ أَعَمُّ وَأَحْسَنُ.
فإنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يُمْكِنُكُم رَدُّ السُّلَّمِ إلى هذا الأصلِ؟!!
قِيلَ: ذلكَ ظَاهِرٌ؛ لأنَّ الصاعدَ إلى مكانٍ مرتفعٍ لَمَّا كَانَ مُتَعَرِّضاً للهُوِيِّ والسقوطِ طَالِباً للسلامةِ رَاجِياً لها سُمِّيَت الآلةُ التي يَتَوَصَّلُ بها إلى غرضِهِ " سُلَّماً " لِتَضَمُّنِهَا سلامتَهُ؛ إذْ لوْ صَعَدَ بِتَكَلُّفٍ منْ غيرِ سُلَّمٍ لكانَ عَطَبُهُ مُتَوَقَّعاً، فَصَحَّ أنَّ السُّلَّمَ منْ هذا المعنَى.

ومنهُ تَسْمِيَةُ الجنَّةِ: بـ ( دارِ السلامِ ). وفي إِضَافَتِهَا إلى السلامِ ثلاثةُ أقوالٍ:
- أحدُهَا: أنَّهَا إضافةٌ إلى مالِكِهَا (( السَّلامِ )) سبحانَهُ.
- الثاني: أنَّهَا إضافةٌ إلى تَحِيَّةِ أَهْلِهَا؛ فإنَّ تَحِيَّتَهُم فيها سلامٌ.
- الثالث: أنَّهَا إضافةٌ إلى معنَى السلامةِ؛ أيْ: دارِ السلامةِ منْ كلِّ آفةٍ ونقصٍ وشرٍّ.

والثلاثةُ متلازمةٌ وإنْ كانَ الثالِثُ أَظْهَرَهَا؛ فإنَّهُ لوْ كانت الإضافةُ إلى مَالِكِهَا لأُضِيفَتْ إلى اسمٍ منْ أسمائِهِ غيرِ السلامِ، وكانَ يُقَالُ: دارُ الرَّحْمَنِ، أوْ: دارُ اللهِ، أوْ: دارُ المَلِكِ، ونحوُ ذلكَ.
فإذا عُهِدَتْ إِضَافَتُهَا إليهِ ثُمَّ جَاءَ: (( دارُ السلامِ )) حُمِلَتْ على المعهودِ.
وأيضاً فإنَّ المعهودَ في القرآنِ إضَافَتُهَا إلى صِفَتِهَا أوْ إلى أهلِهَا.
- أمَّا الأوَّلُ، فَنَحْوُ: دارُ القرارِ، دارُ الخُلْدِ، جَنَّةُ المأوى، جَنَّاتُ النَّعِيمِ، جنَّاتُ الفِرْدَوْسِ.
- وأمَّا الثاني، فَنَحْوُ: دارُ المُتَّقِينَ.

ولمْ تُعْهَدْ إِضَافَتُهَا إلى اسمٍ منْ أسماءِ اللهِ في القرآنِ، فالأَوْلَى حَمْلُ الإضافةِ على المعهودِ في القرآنِ، وكذلكَ إِضَافَتُهَا إلى التحيَّةِ ضَعِيفٌ منْ وجهَيْنِ:
- أحدُهُمَا: أنَّ التحيَّةَ بالسَّلامِ مُشْتَرِكَةٌ بينَ دارِ الدنيا والآخرةِ، وما يُضَافُ إلى الجنَّةِ لا يَكُونُ إلاَّ مُخْتَصًّا بها كالخُلْدِ والقرارِ والبقاءِ.
- الثاني: أنَّ مِنْ أَوْصَافِهَا - غيرَ التَّحِيَّةِ - ما هوَ أَكْمَلُ منها؛ مِثْلَ كَوْنِهَا دائمةً وباقيَةً ودارَ الخلدِ، والتَّحِيَّةُ فيها عارضةٌ عندَ التَّلاقِي والتَّزَاورِ بخلافِ السلامةِ منْ كلِّ عَيْبٍ ونَقْصٍ وَشَرٍّ؛ فإنَّها منْ أكملِ أَوْصَافِها المقصودةِ على الدوامِ التي لا يَتِمُّ النعيمُ فيها إلاَّ بهِ، فإضافَتُهَا إليهِ أَوْلَى، وهذا ظاهِرٌ.

... إذا عُرِفَ هذا فَإِطْلاقُ (( السلامِ )) على اللهِ تَعَالَى اسْماً منْ أسمائِهِ هوَ أَوْلَى منْ هذا كلِّهِ , وَأَحَقُّ بهذا الاسمِ منْ كلِّ مُسَمًّى بهِ لسلامتِهِ سبحانَهُ منْ كلِّ عيبٍ ونقصٍ منْ كلِّ وجهٍ، فهوَ (( السلامُ )) الحَقُّ بِكُلِّ اعتبارٍ، والمخلوقُ سلامٌ بالإضافةِ.
فهوَ سبحانَهُ سلامٌ في ذاتِهِ منْ كلِّ عَيْبٍ ونقصٍ يَتَخَيَّلُهُ وَهْمٌ، وسلامٌ في صفاتِهِ منْ كلِّ عيبٍ ونقصٍ، وسلامٌ في أفعالِهِ منْ كلِّ عيبٍ ونقصٍ وشرٍّ وظُلْمٍ وفعلٍ واقعٍ على غيرِ وجهِ الحكمةِ، بلْ هوَ (( السلامُ )) الحقُّ منْ كلِّ وجهٍ وبكلِّ اعتبارٍ.

فعُلِمَ أنَّ استحقاقَهُ تَعَالَى لهذا الاسمِ أَكْمَلُ من استحقاقِ كلِّ ما يُطْلَقُ عليهِ، وهذا هوَ حقيقةُ التَّنـْزِيهِ الذي نَـزَّهَ بهِ نفسَهُ وَنَزَّهَهُ بهِ رسولُهُ، فهوَ السلامُ من الصاحبةِ والولدِ، والسلامُ من النظيرِ والكُفْءِ والسَّمِيِّ والمُمَاثِلِ، والسلامُ من الشريكِ.
ولذلكَ إذا نَظَرْتَ إلى أفرادِ صفاتِ كمالِهِ وَجَدْتَ كلَّ صفةٍ سلاماً مِمَّا يُضَادُّ كَمَالَهَا:
- فحياتُهُ سلامٌ من الموتِ ومن السِّنَةِ والنومِ.
- وكذلكَ قَيُّومِيَّتُهُ وقُدْرَتُهُ سلامٌ من التعبِ واللُّغُوبِ.
- وَعِلْمُهُ سلامٌ منْ عُزُوبِ شيءٍ عنهُ أوْ عُرُوضِ نسيانٍ أوْ حاجةٍ إلى تَذَكُّرٍ وَتَفَكُّرٍ.
- وإرادتُهُ سلامٌ منْ خُرُوجِهَا عن الحكمةِ والمصلحةِ.
- وكَلِمَاتُهُ سلامٌ من الكذبِ والظلمِ، بلْ تَمَّتْ كَلِمَاتُهُ صِدْقاً وَعَدْلاً.
- وَغِنَاهُ سلامٌ من الحاجةِ إلى غيرِهِ بوَجْهٍ ما، بلْ كُلُّ ما سِوَاهُ مُحْتَاجٌ إليهِ، وهوَ غَنِيٌّ عنْ كلِّ ما سِوَاهُ.
- وَملكُهُ سلامٌ منْ مُنَازِعٍ فيهِ، أوْ مُشَارِكٍ، أوْ مُعَاوِنٍ، مُظَاهِرٍ، أوْ شَافِعٍ عندَهُ بدونِ إذنِهِ.
- وَإِلَهِيَّتُهُ سَلامٌ منْ مُشَارِكٍ لهُ فيها، بلْ هوَ اللهُ الذي لا إلهَ إلاَّ هوَ.
- وَحِلْمُهُ وعفوُهُ وصَفْحُهُ ومغفرتُهُ وتجاوزُهُ سلامٌ منْ أنْ تكونَ عنْ حاجةٍ منهُ، أوْ ذُلٍّ أوْ مُصَانَعَةٍ كما يكونُ منْ غيرِهِ، بلْ هوَ مَحْضُ جُودِهِ وَإِحْسَانِهِ وَكَرَمِهِ.
- وكذلكَ عَذَابُهُ وانتقامُهُ وشدَّةُ بَطْشِهِ وَسُرْعَةُ عِقَابِهِ سلامٌ منْ أنْ يكونَ ظُلْماً أوْ تَشَفِّياً أوْ غِلْظَةً أوْ قسوةً، بلْ هوَ محضُ حِكْمَتِهِ وعدلِهِ ووضعِهِ الأشياءَ مَوَاضِعَهَا، وهوَ مِمَّا يَسْتَحِقُّ عليهِ الحمدَ والثناءَ كما يَسْتَحِقُّهُ على إحسانِهِ وثوابِهِ وَنِعَمِهِ، بلْ لوْ وَضَعَ الثوابَ مَوْضِعَ العقوبةِ لكانَ مُنَاقِضاً لحكمتِهِ وَلِعِزَّتِهِ، فَوَضْعُهُ العقوبةَ موضعَهَا هوَ منْ حَمْدِهِ وحكمتِهِ وَعِزَّتِهِ؛ فهوَ سلامٌ ممَّا يَتَوَهَّمُ أَعْدَاؤُهُ والجاهلونَ بهِ منْ خلافِ حكمتِهِ.
- وَقَضَاؤُهُ وَقَدَرُهُ سَلامٌ من العبثِ والجَورِ والظلمِ، ومِنْ تَوَهُّمِ وُقوعِهِ على خلافِ الحكمةِ البالغةِ.
- وَشَرْعُهُ وَدِينُهُ سلامٌ من التناقضِ، والاختلافِ، والاضطرابِ، وخلافِ مصلحةِ العبادِ وَرَحْمَتِهِم والإحسانِ إليهم، وخلافِ حِكْمَتِهِ، بلْ شَرْعُهُ كُلُّهُ حِكْمَةٌ ورحمةٌ ومصلحةٌ وعدلٌ.
- وكذلكَ عَطَاؤُهُ سلامٌ منْ كونِهِ مُعَاوَضَةً أوْ لحاجةٍ إلى المُعْطَى.
- وَمَنْعُهُ سَلامٌ من البخلِ وخوفِ الإملاقِ؛ بلْ عَطَاؤُهُ إحسانٌ مَحْضٌ لا لمعاوضةٍ ولا لحاجةٍ، ومنعُهُ عَدْلٌ مَحْضٌ وَحِكْمَةٌ لا يَشُوبُهُ بُخْلٌ ولا عَجْزٌ.
- واستواؤُهُ وَعُلُوُّهُ على عرشِهِ سلامٌ منْ أنْ يَكُونَ مُحْتَاجاً إلى ما يَحْمِلُهُ أوْ يَسْتَوِي عليهِ، بل العرشُ مُحْتَاجٌ إليهِ، وَحَمَلَتُهُ مُحْتَاجُونَ إليهِ؛ فهوَ الغنيُّ عن العرشِ وعنْ حَمَلَتِهِ وعنْ كلِّ ما سِوَاهُ، فهوَ اسْتِوَاءٌ وَعُلُوٌّ لا يَشُوبُهُ حَصْرٌ، ولا حَاجَةٌ إلى عرشٍ ولا غيرِهِ، ولا إحاطةُ شيءٍ بهِ سبحانَهُ وتَعَالَى؛ بلْ كانَ سبحانَهُ ولا عَرْشَ، ولمْ يَكُنْ بهِ حاجةٌ إليهِ، وهوَ الغنيُّ الحميدُ، بل اسْتِوَاؤُهُ على عرشِهِ وَاسْتِيلاؤُهُ على خَلْقِهِ منْ مُوجَباتِ مُلْكِهِ وقَهْرِهِ منْ غيرِ حاجةٍ إلى عرشٍ ولا غيرِهِ بوجهٍ ما.
- ونزولُهُ كلَّ ليلةٍ إلى سماءِ الدنيا سلامٌ مِمَّا يُضَادُّ عُلُوَّهُ، وسلامٌ ممَّا يُضَادُّ غِنَاهُ.
- وكمالُهُ سلامٌ منْ كلِّ ما يَتَوَهَّمُ مُعَطِّلٌ أوْ مُشَبِّهٌ، وَسَلامٌ منْ أنْ يَصِيرَ تَحْتَ شَيْءٍ أوْ مَحْصُوراً في شيءٍ، تَعَالَى اللهُ ربُّنَا عنْ كلِّ ما يُضَادُّ كَمَالَهُ.
- وَغِنَاهُ وَسَمْعُهُ وَبَصَرُهُ سلامٌ منْ كلِّ ما يَتَخَيَّلُهُ مُشَبِّهٌ أوْ يَتَقَوَّلُهُ مُعَطِّلٌ.
- وَمُوَالاتُهُ لأوليائِهِ سلامٌ منْ أنْ تكونَ عنْ ذلٍّ كما يُوَالِي المخلوقُ المخلوقَ، بلْ هيَ موالاةُ رحمةٍ وخيرٍ وإحسانٍ وبِرٍّ كما قالَ: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} [الإسراء: 111]. فَلَمْ يَنْفِ أنْ يَكُونَ لَهُ وَلِيٌّ مُطْلَقاً، بلْ نَفَى أنْ يَكُونَ لهُ وَلِيٌّ من الذُّلِّ.
- وكذلكَ مَحَبَّتُهُ لِمُحِبِّيهِ وَأَوْلِيَائِهِ سلامٌ منْ عوارِضِ مَحَبَّةِ المخلوقِ للمخلوقِ منْ كَوْنِهَا مَحَبَّةَ حاجةٍ إليهِ، أوْ تَمَلُّقٍ لهُ، أو انْتِفَاعٍ بِقُرْبِهِ، وسلامٌ مِمَّا يَتَقَوَّلُهُ المُعَطِّلُونَ فيها.
- وكذلكَ ما أَضَافَهُ إلى نفسِهِ من اليدِ والوجهِ، فإنَّهُ سلامٌ مِمَّا يَتَخَيَّلُهُ مُشَبِّهٌ أوْ يَتَقَوَّلُهُ مُعَطِّلٌ.

فتَأَمَّلْ كَيْفَ تَضَمَّنَ اسمُهُ " السلامُ " كلَّ ما نُزِّهَ عنهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى. وَكَمْ مِمَّنْ حَفِظَ هذا الاسمَ لا يَدْرِي ما تَضَمَّنَهُ منْ هذهِ الأسرارِ والمعانِي.

واللهُ المُسْتَعَانُ المَسْئُولُ أنْ يُوَفِّقَ للتعليقِ على الأسماءِ الحُسْنَى على هذا النَّمَطِ؛ إنَّهُ قَرِيبٌ مُجِيبٌ)[المرتبع الأسنى]

محمدعبداللطيف
2020-05-04, 01:01 PM
قال ابن القيم
(ومِنْ أسمائِهِ تَعَالَى (( المُؤْمِنُ ))، وهوَ في أحدِ التفسيرَيْنِ: المُصَدِّقُ الذي يُصَدِّقُ الصادِقِينَ بما يُقِيمُ لهمْ منْ شواهدِ صِدْقِهِم، فهوَ الذي صَدَّقَ رُسُلَهُ وأنبياءَهُ فيما بَلَّغُوا عنهُ، وَشَهِدَ لهم بأنَّهُم صَادِقُونَ بالدلائلِ التي دَلَّ بها على صِدقِهِم قَضَاءً وَخَلْقاً؛ فإنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ- وخبرُهُ الصدقُ، وقولُهُ الحقُّ - أنَّهُ لا بُدَّ أنْ يُرِيَ العبادَ من الآياتِ الأُفُقِيَّةِ والنفسيَّةِ ما يُبَيِّنُ لهمْ أنَّ الوحيَ الذي بَلَّغَتْهُ رُسُلُهُ حَقٌّ، فقالَ تَعَالَى: {سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فُصِّلَتْ: 53]؛ أي: القرآنُ، فإنَّهُ هوَ المُتَقَدِّمُ في قولِهِ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ}، ثُمَّ قالَ: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)} [فُصِّلَتْ: 53]. فَشَهِدَ سبحانَهُ لرسولِهِ بقولِهِ: إِنَّ ما جَاءَ بهِ حَقٌّ، وَوَعَدَهُ أنْ يُرِيَ العبادَ منْ آياتِهِ الفعليَّةِ الخَلْقيَّةِ: ما يَشْهَدُ بذلكَ أيضاً)

(فـ... آياتُ الأنبياءِ وَبَرَاهِينُهُم وأَدِلَّتُهُم... هيَ شهادةٌ من اللهِ سبحانَهُ لهم، بَيَّنَهَا لِعِبَادِهِ غايَةَ البيانِ، وَأَظْهَرَهَا لهم غايَةَ الإظهارِ بقولِهِ وفِعْلِهِ.

وفي الصحيحِ عنهُ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قالَ: (( مَا مِنْ نَبِيٍّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ إِلاَّ وَقَدْ أُوتِيَ مِنَ الآيَاتِ مَا آمَنَ عَلَى مِثْلِهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْياً أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعاً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ))[المرتبع الأسنى]

محمدعبداللطيف
2020-05-04, 01:02 PM
قال ابن القيم
( (( العزيزُ )) الذي لهُ العزَّةُ التامَّةُ).
(يُقَالُ: عَزَّ يَعَزُّ - بِفَتْحِ العَيْنِ - إذا اشْتَدَّ وَقَوِيَ، ومنهُ: الأرضُ العَزَازُ: الصُّلْبَةُ الشديدةُ.
و: عَزَّ يَعِزُّ - بِكَسْرِ العَيْنِ- إذا امْتَنَعَ مِمَّنْ يَرُومُهُ.
و: عَزَّ يَعُزُّ - بِضَمِّ العَيْنِ - إذا غَلَبَ وَقَهَرَ).

(والعِزَّةُ كُلُّهَا لهُ [سبحانَهُ] وَصْفاً وَملكاً، وهوَ العزيزُ الذي لا شَيْءَ أَعَزُّ منهُ، ومَنْ عَزَّ منْ عبادِهِ فَبِإِعْزَازِهِ لهُ)

(فالعزيزُ مَنْ لهُ العِزَّةُ)، (والعِزَّةُ تَتَضَمَّنُ كمالَ قدرتِهِ وقوَّتِهِ وقَهْرِهِ... فاسْمُهُ ((العزيزُ )) يَتَضَمَّنُ المُلْكَ).

(وهوَ العزيزُ فلنْ يُرَامَ جنابُهُ = أنَّى يُرَامُ جنابُ ذي السلطانِ
وهوَ العزيزُ القاهرُ الغلاَّبُ لَمْ = يَغْلِبْهُ شَيْءٌ هذهِ صِفَتَانِ
وهوَ العزيزُ بقوَّةٍ هيَ وَصْفُهُ = فالعزُّ حينئذٍ ثلاثُ مَعَانِ
وهيَ التي كَمُلَتْ لهُ سُبْحَانَهُ = من كلِّ وَجْهٍ عَادِمِ النُّقْصَانِ)
(ومِنْ تمامِ عِزَّتِهِ بَرَاءَتُهُ منْ كلِّ سوءٍ وَشَرٍّ وَعَيْبٍ؛ فإنَّ ذلكَ يُنَافِي العزَّةَ التَّامَّةَ) [المرتبع الأسنى ]

محمدعبداللطيف
2020-05-04, 01:03 PM
قال ابن القيم
( (( الجَبَّارُ )) اسمٌ منْ أسماءِ التَّعظيمِ كالمُتَكَبِّرِ والمَلِكِ والعظيمِ والقَهَّارِ. قالَ ابنُ عبَّاسٍ في قولـِهِ تَعَالَى: {الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} [الحشر: 23] هوَ العظيمُ.
وجَبَرُوتُ اللهِ عظمتُهُ، والجَبَّارُ منْ أسماءِ الملوكِ. والْجَبْرُ: المَلِكُ، والجَبَابِرَةُ: المُلُوكُ، قالَ الشاعرُ:

* انْعَمْ صَبَاحاً أيُّهَا الجَبْرُ *
أيْ: أَيُّهَا المَلِكُ * *.
وقال السُّدِّيُّ: هوَ الذي يُجْبِرُ الناسَ وَيَقْهَرُهُم على ما يُرِيدُ.
وعلى هذا فالجَبَّارُ مَعْنَاهُ القهَّارُ.
وقالَ محمَّدُ بنُ كَعْبٍ: إنَّمَا سُمِّيَ الجَبَّارَ؛ لأنَّهُ جَبَرَ الخلقَ على ما أَرَادَ، والخَلْقُ أَدَقُّ شَأْناً منْ أنْ يَعْصُوا رَبَّهُم طَرْفَةَ عَيْنٍ إلاَّ بمشيئتِهِ.
قالَ الزجَّاجُ: الجَبَّارُ الذي جَبَرَ الخلقَ على ما أَرَادَ.
وقالَ ابنُ الأَنْبَارِيِّ: الجَبَّارُ في صفةِ الربِّ سُبْحَانَهُ الذي لا يُنَالُ، ومنهُ قولُهُم: نخلةٌ جَبَّارَةٌ، إذا فَاتَتْ يَدَ المُتَنَاوِلِ.
فـ (( الجَبَّارُ )) في صفةِ الربِّ سبحانَهُ يَرْجِعُ إلى ثلاثةِ مَعَانٍ:
- المُلْكِ.
- والقَهْرِ.
- والعُلُوِّ. فإنَّ النخلةَ إذا طَالَتْ وَارْتَفَعَتْ وَفَاتَت الأَيْدِيَ سُمِّيَتْ جَبَّارَةً.

ولهذا جَعَلَ سبحانَهُ اسمَهُ الجَبَّارَ مَقْرُوناً بالعزيزِ والمُتَكَبِّرِ، وكلُّ وَاحِدٍ منْ هذهِ الأسماءِ الثلاثةِ تَضَمَّنَ الاسمَيْنِ الآخَرَيْنِ، وهذهِ الأسماءُ الثلاثةُ نَظِيرُ الأسماءِ الثلاثةِ، وهيَ الخالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ.
فالجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ يَجْرِيَانِ مَجْرَى التفصيلِ لِمَعْنَى اسمِ العزيزِ، كما أنَّ البَارِئَ المُصَوِّرَ تَفْصِيلٌ لِمَعْنَى اسمِ الخالقِ.

فالجَبَّارُ منْ أوصافِهِ يَرْجِعُ إلى كمالِ القدرةِ والعزَّةِ والمُلْكِ، ولهذا كانَ منْ أسمائِهِ الحُسْنَى، وأمَّا المخلوقُ فَاتِّصَافُهُ بالجَبَّارِ ذَمٌّ لهُ وَنَقْصٌ، كما قالَ تَعَالَى: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)}[غافر: 35]، وقالَ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [ق: 45]؛ أيْ: مُسَلَّطٍ تَقْهَرُهُم وَتُكْرِهُهُم على الإيمانِ. وفي التِّرْمِذِيِّ وغيرِهِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (( يُحْشَرُ الْجَبَّارُونَ وَالْمُتَكَبِّر ُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ، يَطَأُهُمُ النَّاسُ))

(وكذلكَ الجَبَّارُ منْ أوصافِهِ = والجبرُ في أوصافِهِ قِسْمَانِ
جَبْرُ الضعيفِ وَكُلُّ قلبٍ قدْ غَدَا = ذَا كسرةٍ فالجبرُ منهُ دَانِ
وَالثانِ جبرُ القهرِ بالعزِّ الذي = لا يَنْبَغِي لسواهُ منْ إنسانِ
ولهُ مُسَمًّى ثالثٌ وهوَ العُلُوُّ = فليسَ يَدْنُو منهُ منْ إنسانِ
مِنْ قولِهِم جَبَّارَةٌ للنخلةِ الـ = ـعَلْيَا الَّتِي فَاتَتْ لِكُلِّ بَنَانِ). [المرتبع الأسنى]

محمدعبداللطيف
2020-05-04, 01:04 PM
قال ابن القيم
(وكذلكَ (( الكبيرُ )) مِنْ أسمائِهِ وَ (( المُتَكَبِّرُ )). قالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ: هوَ الذي تَكَبَّرَ عن السوءِ. وقالَ أيضاً: الذي تَكَبَّرَ عن السَّيِّئَاتِ. وقالَ مُقَاتِلٌ: المُتَعَظِّمُ عنْ كلِّ سوءٍ. وقالَ أبو إِسْحَاقَ:
الذي يَكْبُرُ عنْ ظُلْمِ عِبَادِهِ)

([و] (( الكبيرُ )) يُوصَفُ بهِ الذَّاتُ وَصِفَاتُهَا القائمةُ بها)
(ومِنْ هذا قولُ المُسْلِمِينَ: اللهُ أَكْبَرُ؛ فإنَّهُ " أَفْعَلُ " تَفْضِيلٍ يَقْتَضِي كونَهُ أَكْبَرَ منْ كلِّ شيءٍ بجميعِ الاعتباراتِ، وبهذا فَسَّرَهُ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديثِ الذي رَوَاهُ أحمدُ والترمذيُّ وابنُ حِبَّانَ في صحيحِهِ منْ حديثِ عَدِيِّ بنِ حاتمٍ في قصَّةِ إسلامِهِ، حيثُ قالَ لهُ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَا عَدِيُّ، مَا يُفِرُّكَ؟! أَيُفِرُّكَ أنْ يُقَالَ: لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ؟! فَهَلْ تَعْلَمُ مِنْ إِلَهٍ سِوَى اللهِ))؟! ثُمَّ قَالَ: ((يَا عَدِيُّ، مَا يُفِرُّكَ؟! أَيُفِرُّكَ أَنْ يُقَالَ: اللهُ أَكْبَرُ؟! فَهَلْ تَعْلَمُ شَيْئاً أَكْبَرَ مِنَ اللهِ))؟!

فاللهُ سبحانَهُ أكبرُ منْ كلِّ شيءٍ: ذَاتاً، وَقَدْراً، وَمَعْنًى، وَعِزَّةً، وجلالةً؛ فهوَ أَكْبَرُ منْ كلِّ شيءٍ في ذاتِهِ وصفاتِهِ وأفعالِهِ كما هوَ فوقَ كلِّ شيءٍ، وعالٍ على كلِّ شيءٍ، وأعظمُ منْ كلِّ شيءٍ، وَأَجَلُّ منْ كلِّ شيءٍ في ذاتِهِ وصفاتِهِ وأفعالِهِ). [المرتبع الأسنى]

محمدعبداللطيف
2020-05-04, 01:05 PM
قال ابن القيم
(الربُّ تَعَالَى... هوَ الغَنِيُّ بذاتِهِ، الذي كلُّ ما سِوَاهُ مُحْتَاجٌ إليهِ، وليسَ بهِ حاجةٌ إلى أحدٍ) ، ([كما] أنَّهُ... لا يَأْكُلُ ولا يَشْرَبُ ولا يَحْتَاجُ إلى شيءٍ مِمَّا يَحْتَاجُ إليهِ خَلْقُهُ بوجهٍ من الوجوهِ)
(فـ[هُوَ]… (( الغَنِيُّ )) الذي غِنَاهُ منْ لوازمِ ذاتِهِ، وكلُّ مَنْ في السَّمَاواتِ والأرضِ عبيدٌ لهُ، مَقْهُورُونَ بِقَهْرِهِ، مُصَرَّفُونَ بِمَشِيئَتِهِ، لَوْ أَهْلَكَهُم جميعاً لمْ يَنْقُصْ منْ عِزِّهِ وَسُلْطَانِهِ وَمُلْكِهِ وَرُبُوبِيَّتِه ِ وَإِلَهِيَّتِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ، قالَ تَعَالَى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)} [المائدة: 17])
(فَلَهُ الغِنَى الكاملُ التامُّ منْ كلِّ وجهٍ عنْ كلِّ أحدٍ بكلِّ اعْتِبَارٍ)
([واللهُ سبحانَهُ وتَعَالَى] يُذَكِّرُ عِبَادَهُ فَقْرَهُم إليهِ، وَشِدَّةَ حَاجَتِهِم إليهِ منْ كلِّ وجهٍ، وأنَّهُم لا غِنَى لهمْ عنهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَيَذْكُرُ غِنَاهُ عنهم وعنْ جميعِ الموجوداتِ، وأنَّهُ الغَنِيُّ بنفسِهِ عنْ كلِّ ما سِوَاهُ، وكلُّ ما سِوَاهُ فَقِيرٌ إليهِ بنفسِهِ، وأنَّهُ لا يَنَالُ أحدٌ ذرَّةً من الخيرِ فما فَوْقَهَا إلاَّ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، ولا ذَرَّةً من الشرِّ فما فَوْقَهَا إلاَّ بِعَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ)
( قالَ اللهُ سبحانَهُ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)} [فاطر: 15].
بَيَّنَ سبحانَهُ في هذهِ الآيَةِ أنَّ فَقْرَ العبادِ إليهِ أَمْرٌ ذَاتِيٌّ لهم، لا يَنْفَكُّ عنهم، كما أنَّ كَوْنَهُ غَنِيًّا حَمِيداً أَمْرٌ ذَاتِيٌّ لهُ، فَغِنَاهُ وَحَمْدُهُ ثابِتٌ لهُ لذاتِهِ لا لأمرٍ أَوْجَبَهُ، وَفَقْرُ مَنْ سِوَاهُ أمرٌ ثابتٌ لهُ لذاتِهِ لا لأمرٍ أَوْجَبَهُ، فلا يُعَلَّلُ هذا الفقرُ بحدوثٍ ولا إمكانٍ، بلْ هوَ ذَاتِيٌّ للفقيرِ، فحاجةُ العبدِ إلى رَبِّهِ لذاتِهِ , لا لِعِلَّةٍ أَوْجَبَتْ تلكَ الحاجةَ، كما أنَّ غِنَى الربِّ سُبْحَانَهُ لِذَاتِهِ لا لأمرٍ أَوْجَبَ غِنَاهُ، كما قالَ شَيْخُ الإسلامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ:
وَالْفَقْرُ لِي وَصْفُ ذَاتٍ لازِمٌ أَبَداً = كَمَا الغِنَى أَبَداً وَصْفٌ لَهُ ذَاتِي
فالخلقُ فَقِيرٌ مُحْتَاجٌ إلى ربِّهِ بالذاتِ لا بِعِلَّةٍ، وكلُّ ما يُذْكَرُ ويُقَرَّرُ منْ أسبابِ الفقرِ والحاجةِ فهيَ أَدِلَّةٌ على الفقرِ والحاجةِ , لا عِلَلٌ لذلكَ؛ إذْ ما بالذاتِ لا يُعَلَّلُ، فالفقيرُ بذاتِهِ مُحْتَاجٌ إلى الغنيِّ بذاتِهِ، فما يُذْكَرُ منْ إمكانٍ وحدوثٍ واحتياجٍ فهيَ أَدِلَّةٌ على الفقرِ لا أَسْبَابٌ لهُ، ولهذا كانَ الصوابُ في مسألةِ علَّةِ احتياجِ العالمِ إلى الربِّ سبحانَهُ غيرَ القَوْلَيْنِ اللَّذَيْنِ يَذْكُرُهُمَا الفلاسفةُ والمُتَكَلِّمُو نَ؛ فإنَّ الفلاسفةَ قالُوا: عِلَّةُ الحاجةِ الإمكانُ، والمُتَكَلِّمُو نَ قالُوا: عِلَّةُ الحاجةِ الحدوثُ، والصوابُ أنَّ الإمكانَ والحدوثَ مُتَلازِمَانِ، وَكِلاهُمَا دليلُ الحاجةِ والافتقارِ، وفَقْرُ العالَمِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ أَمْرٌ ذاتيٌّ لا يُعَلَّلُ، فهوَ فَقِيرٌ بذاتِهِ إلى رَبِّهِ الغَنِيِّ بذاتِهِ، ثُمَّ يُسْتَدَلُّ بإمكانِهِ وحدوثِهِ وغيرِ ذلكَ من الأَدِلَّةِ على هذا الفقرِ.
والمقصودُ أنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ عنْ حقيقةِ العبادِ وَذَوَاتِهِم بأنَّهَا فَقِيرَةٌ إليهِ عَزَّ وَجَلَّ، كما أَخْبَرَ عنْ ذاتِهِ المُقَدَّسَةِ وَحَقِيقَتِهِ أنَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ.
فالفقرُ المُطْلَقُ منْ كلِّ وجهٍ ثابتٌ لِذَوَاتِهِم وَحَقَائِقِهم منْ حيثُ هيَ، والغِنَى المُطْلَقُ منْ كلِّ وجهٍ ثابتٌ لذاتِهِ تَعَالَى وَحَقِيقَتِهِ منْ حيثُ هيَ.
فَيَسْتَحِيلُ أنْ يكونَ العبدُ إلاَّ فَقِيراً، وَيَسْتَحِيلُ أنْ يكونَ الربُّ سبحانَهُ إلاَّ غَنِيًّا، كما أنَّهُ يَسْتَحِيلُ أنْ يكونَ العبدُ إلاَّ عَبْداً، والربُّ إلاَّ رَبًّا.
إذا عُرِفَ هذا فالفَقْرُ فَقْرَانِ:
- فقرٌ اضْطِرَارِيٌّ: وهوَ فَقْرٌ عامٌّ, لا خُرُوجَ لِبَرٍّ ولا فاجرٍ عنهُ، وهذا لا يَقْتَضِي مَدْحاً ولا ذَمًّا, ولا ثَوَاباً ولا عِقَاباً، بلْ هوَ بِمَنـْزِلَةِ كونِ المخلوقِ مَخْلُوقاً وَمَصْنُوعاً.
- والفقرُ الثاني: فَقْرٌ اخْتِيَارِيٌّ، هوَ نَتِيجَةُ عِلْمَيْنِ شَرِيفَيْنِ:
● أَحَدُهُمَا: مَعْرِفَةُ العبدِ بِرَبِّهِ.
● والثاني: مَعْرِفَتُهُ بِنَفْسِهِ.
فَمَتَى حَصَلَتْ لهُ هاتانِ المعرفتانِ أَنْتَجَتَا لهُ فَقْراً هوَ عَيْنُ غِنَاهُ وَعُنْوَانُ فَلاحِهِ وسعادتِهِ، وَتَفَاوُتُ الناسِ في هذا الفقرِ بِحَسَبِ تَفَاوُتِهِم في هاتَيْنِ المعرفتَيْنِ.
فمَنْ عَرَفَ رَبَّهُ بالغِنَى المُطْلَقِ عَرَفَ نفسَهُ بالفقرِ المطلقِ، ومَنْ عَرَفَ ربَّهُ بالقدرةِ التامَّةِ عَرَفَ نفسَهُ بالعجزِ التامِّ، ومَنْ عَرَفَ ربَّهُ بالعِزِّ التامِّ عَرَفَ نفسَهُ بالمسكنةِ التامَّةِ، ومَنْ عَرَفَ ربَّهُ بالعلمِ التامِّ والحكمةِ عَرَفَ نفسَهُ بالجهلِ(7).
فاللهُ سبحانَهُ أَخْرَجَ العبدَ منْ بَطْنِ أُمِّهِ لا يَعْلَمُ شيئاً ولا يَقْدِرُ على شيءٍ، ولا يَمْلِكُ شيئاً، ولا يَقْدِرُ على عطاءٍ ولا منعٍ ولا ضُرٍّ ولا نفعٍ ولا شيءٍ الْبَتَّةَ، فكانَ فَقْرُهُ في تلكَ الحالِ إلى ما بهِ كمالُهُ أَمْراً مَشْهُوداً مَحْسُوساً لكلِّ أَحَدٍ، ومعلومٌ أنَّ هذا لهُ منْ لَوَازِمِ ذاتِهِ، وما بالذاتِ دائمٌ بِدَوَامِهَا، وهوَ لمْ يَنْتَقِلْ منْ هذهِ الرُّتْبَةِ إلى رتبةِ الربوبيَّةِ أو الغِنَى، بلْ لمْ يَزَلْ عَبْداً فَقِيراً بذاتِهِ إلى بَارِئِهِ وفاطِرِهِ.
فَلَمَّا أَسْبَغَ عليهِ نعمتَهُ، وأفاضَ عليهِ رحمتَهُ، وساقَ إليهِ أسبابَ كمالِ وجودِهِ ظاهراً وباطناً، وَخَلَعَ عليهِ ملابسَ إِنْعَامِهِ، وجَعَلَ لهُ السَّمعَ والبصرَ والفؤادَ، وعلَّمَهُ وأَقْدَرَهُ وصَرَّفَهُ وحَرَّكَهُ ومَكَّنَهُ من استخدامِ بَنِي جِنْسِهِ، وسَخَّرَ لهُ الخيلَ والإبلَ، وَسَلَّطَهُ على دوابِّ الماءِ، وَاسْتِنـْزَالِ الطَّيْرِ من الهواءِ، وقَهْرِ الوحوشِ العاديةِ، وَحَفْرِ الأنهارِ، وغَرْسِ الأشجارِ، وَشَقِّ الأرضِ، وتَعْلِيَةِ البناءِ، والتَّحَيُّلِ على جميعِ مصالحِهِ، والتحَرُّزِ والتَّحَفُّظِ مماَّ يُؤْذِيهِ، ظَنَّ المسكينُ أنَّ لهُ نَصِيباً من الملكِ، وادَّعَى لنفسِهِ مُلْكاً معَ اللهِ سبحانَهُ، ورأى نَفْسَهُ بغيرِ تلكَ العينِ الأُولَى، ونَسِيَ ما كانَ فيهِ منْ حالةِ الإعدامِ والفقرِ والحاجةِ، حتَّى كأنَّهُ لمْ يكُنْ هوَ ذلكَ الفقيرَ المحتاجَ، بلْ كانَ ذلكَ شَخْصاً آخرَ غيرَهُ، كما رَوَى الإمامُ أحمدُ في " مُسندِهِ " منْ حديثِ بُسْرِ بنِ جَحَّاشٍ القُرَشِيِّ، أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَصَقَ يوماً في كفِّهِ فَوَضَعَ عليها إِصْبَعَهُ ثُمَّ قالَ: ((قَالَ اللهُ تَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ أَنَّى تُعْجِزُنِي وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ، حَتَّى إِذَا سَوَّيْتُكَ وَعَدَلْتُكَ مَشَيْتَ بَيْنَ بُرْدَيْنِ وَلِلأَرْضِ مِنْكَ وَئِيدٌ، فَجَمَعْتَ وَمَنَعْتَ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ قُلْتَ: أَتَصَدَّقُ، وأَنَّى أَوَانُ الصَّدَقَةِ))
ومِنْ هَا هُنَا خُذِلَ مَنْ خُذِلَ، وَوُفِّقَ مَنْ وُفِّقَ، فَحُجِبَ المخذولُ عنْ حقيقتِهِ، ونَسِيَ نفسَهُ؛ فَنَسِيَ فَقْرَهُ وحاجتَهُ وضرورتَهُ إلى ربِّهِ، فَطَغَى وبَغَى وعَتَا فَحَقَّتْ عليهِ الشِّقْوَةُ، قالَ تَعَالَى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى (7)} [العلق: 6 - 7]، وقالَ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)} [الليل: 5 -10]، فَأَكْمَلُ الخلقِ أَكْمَلُهُم عبوديَّةً وأعظُمُهُم شُهُوداً لفقرِهِ وضرورتِهِ وحاجتِهِ إلى ربِّهِ وعدمِ استغنائِهِ عنهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ، ولهذا كانَ منْ دُعَائِهِ صلى الله عليه وسلم: ((أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، وَلا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَلا إِلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ)) . وكانَ يَدْعُو: ((يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ)) . يَعْلَمُ أنَّ قَلْبَهُ بِيَدِ الرحمنِ عزَّ وجلَّ لا يَمْلُكُ منهُ شَيْئاً، وأنَّ اللهَ سبحانَهُ يُصَرِّفُهُ كَمَا يَشَاءُ، كيفَ وهوَ يَتْلُو قولَهُ تَعَالَى: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74)} [الإسراء: 74]. فَضَرُورَتُهُ صلى الله عليه وسلم إلى رَبِّهِ وَفَاقَتُهُ إليهِ بِحَسَبِ مَعْرِفَتِهِ بهِ، وَحَسَبِ قُرْبِهِ منهُ ومنـزلتِهِ عندَهُ، وهذا أَمْرٌ إِنَّمَا بَدَا منهُ لمَنْ بَعْدَهُ ما يَرْشَحُ منْ ظاهرِ الوعَاءِ، ولهذا كانَ أقربَ الخلقِ إلى اللهِ وَسِيلَةً وَأَعظَمَهُم عندَهُ جَاهاً وأرفعَهُم عندَهُ منـزلةً؛ لتكميلِهِ مقامَ العبوديَّةِ والفقرِ إلى ربِّهِ عزَّ وجلَّ، وكانَ يقولُ لهم: ((أَيُّهَا النَّاسُ، مَا أُحِبُّ أَنْ تَرْفَعُونِي فَوْقَ مَنْـزِلَتِي، إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ)). وكانَ يَقُولُ: ((لا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَت النَّصَارَى المَسِيحَ ابنَ مَرْيَمَ، إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ)) [المرتبع الأسنى]

محمدعبداللطيف
2020-05-04, 01:07 PM
قال ابن القيم
([اعْلَمْ - أَسْبَغَ اللهُ عليكَ نِعَمَهُ- أنَّ اللهَ] سبحانَهُ هوَ (( الجوَادُ )) الذي لا يُنْقِصُ خَزَائِنَهُ الإنفاقُ، ولا يُغِيضُ ما في يَمِينِهِ سَعَةُ عطائِهِ)
([فـ]هُوَ (( الجوَادُ الماجِدُ )) الذي لهُ الجودُ كلُّهُ، وجُودُ الخلائقِ في جَنْبِ جُودِهِ أقلُّ منْ ذرَّةٍ في جبالِ الدنيا وَرِمَالِهَا)

(و[هوَ]... سبحانَهُ يُحِبُّ منْ عِبَادِهِ أنْ يُؤَمِّلُوهُ وَيَرْجُوهُ وَيَسْأَلُوهُ منْ فضلِهِ؛ لأنَّهُ الملكُ الحقُّ الجوَادُ: أَجْوَدُ مَنْ سُئِلَ، وَأَوْسَعُ مَنْ أَعْطَى، وَأَحَبُّ ما إلى الجوَادِ أنْ يُرْجَى وَيُؤَمَّلَ ويُسْأَلَ. وفي الحديثِ: (( مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ)) ([3]). والسائلُ راجٍ وطالبٌ، فَمَنْ لمْ يَرْجُ اللهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ)

(وَهُوَ الجَوَادُ فَجُودُهُ عَمَّ الوُجُو = دَ جميعَهُ بالفضلِ والإحسانِ
وهوَ الجَوَادُ فلا يُخَيِّبُ سائلاً = ولوْ انَّهُ منْ أُمَّةِ الكُفْرَانِ)
([فهوَ سبحانَهُ] أَجْوَدُ الأَجْوَدِينَ، وأكرَمُ الأَكْرَمِينَ، وَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ... سَبَقَتْ رَحْمَتُهُ غَضَبَهُ، وَحِلْمُهُ عُقُوبَتَهُ، وعفوُهُ مُؤَاخذتَهُ... قدْ أَفَاضَ على خَلْقِهِ النعمةَ، وكَتَبَ على نفسِهِ الرحمةَ.
و... يُحِبُّ الإحسانَ والجُودَ والعطاءَ والبِرَّ. و... الفضلُ كلُّهُ بيدِهِ، والخيرُ كلُّهُ منهُ، والجودُ كلُّهُ لهُ، وَأَحَبُّ ما إليهِ: أنْ يَجُودَ على عبادِهِ ويُوسِعَهُم فضلاً، وَيَغْمُرَهُم إحساناً وَجُوداً، وَيُتِمَّ عليهم نِعْمَتَهُ، وَيُضَاعِفَ لديهم مِنَّتَهُ، وَيَتَعَرَّفَ إليهم بأوصافِهِ وأسمائِهِ، وَيَتَحَبَّبَ إليهم بِنِعَمِهِ وآلائِهِ.

فهوَ الجوَادُ لذاتِهِ، وجُودُ كلِّ جَوَادٍ خلقَهُ اللهُ وَيَخْلُقُهُ أبداً أقلُّ منْ ذرَّةٍ بالقياسِ إلى جُودِهِ، فليسَ (( الجوَادُ )) على الإطلاقِ إلاَّ هوَ، وجُودُ كلِّ جَوَادٍ فَمِنْ جُودِهِ.

وَمَحَبَّتُهُ للجودِ والإعطاءِ والإحسانِ والبِرِّ والإنعامِ والإفضالِ فوقَ ما يَخْطُرُ ببالِ الخلقِ أوْ يَدُورُ في أَوْهَامِهِم، وَفَرَحُهُ بعطائِهِ وَجُودِهِ وإفضالِهِ أَشَدُّ منْ فَرَحِ الآخذِ بما يُعْطَاهُ وَيَأْخُذُهُ أَحْوَجَ ما هوَ إليهِ أَعْظَمَ ما كانَ قَدْراً، فإذا اجْتَمَعَ شِدَّةُ الحاجةِ وعِظَمُ قَدْرِ العطيَّةِ والنفعِ بها، فما الظَّنُّ بِفَرَحِ المُعْطَى؟!!

فَفَرَحُ المُعْطِي سُبْحَانَهُ بعطائِهِ أَشَدُّ وَأَعْظَمُ منْ فرحِ هذا بما يَأْخُذُهُ - وللهِ المَثَلُ الأعلى - إذْ هذا شأنُ الجوَادِ من الخلقِ، فإنَّهُ يَحْصُلُ لهُ من الفرحِ والسرورِ والابتهاجِ واللَّذَّةِ بعطائِهِ وجُودِهِ فوقَ ما يَحْصُلُ لمَنْ يُعْطِيهِ، ولكنَّ الآخِذَ غائبٌ بِلَذَّةِ أَخْذِهِ عنْ لذَّةِ المُعْطِي وابتهاجِهِ وسرورِهِ.

هذا معَ كمالِ حاجتِهِ إلى ما يُعْطِيهِ وَفَقْرِهِ إليهِ، وَعَدَمِ وُثُوقِهِ باستخلافِ مِثْلِهِ، وخوفِ الحاجةِ إليهِ عندَ ذهابِهِ، والتَّعَرُّضِ لِذُلِّ الاستعانةِ بنظيرِهِ ومَنْ هوَ دونَهُ، وَنَفْسُهُ قدْ طُبِعَتْ على الحرصِ والشحِّ، فما الظنُّ بِمَنْ تَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ عنْ ذلكَ كُلِّهِ؟!

ولوْ أنَّ أَهْلَ سماواتِهِ وأرضِهِ وأوَّلَ خَلْقِهِ وَآخِرَهُم، وَإِنْسَهُم وجِنَّهُم، ورَطْبَهُم ويابِسَهُم، قَامُوا في صعيدٍ واحدٍ فَسَأَلُوهُ فَأَعْطَى كلَّ واحدٍ ما سَأَلَهُ ما نقصَ ذلكَ مِمَّا عندَهُ مثقالَ ذرَّةٍ.

وهوَ الجوَادُ لذاتِهِ، كما أنَّهُ الحيُّ لذاتِهِ، العليمُ لذاتِهِ، السميعُ البصيرُ لذاتِهِ، فَجُودُهُ العالِي منْ لَوَازِمِ ذاتِهِ، والعفوُ أَحَبُّ إليهِ من الانتقامِ، والرحمةُ أَحَبُّ إليهِ من العقوبةِ، والفضلُ أَحَبُّ إليهِ من العدلِ، والعطاءُ أَحَبُّ إليهِ من المنعِ.

فإذا تَعَرَّضَ عبدُهُ ومحبوبُهُ الذي خَلَقَهُ لِنَفْسِهِ وَأَعَدَّ لهُ أنواعَ كرامتِهِ، وَفَضَّلَهُ على غيرِهِ، وجَعَلَهُ محَلَّ مَعْرِفَتِهِ، وَأَنْزَلَ إليهِ كتابَهُ وأرسلَ إليهِ رسولَهُ، وَاعْتَنَى بأمرِهِ، ولمْ يُهْمِلْهُ، ولمْ يَتْرُكْهُ سُدًى، فَتَعَرَّضَ لغضبِهِ، وَارْتَكَبَ مَسَاخِطَهُ وما يَِكْرَهُهُ وَأَبِقَ منهُ، وَوَالَى عَدُوَّهُ وَظَاهَرَهُ عليهِ، وَتَحَيَّزَ إليهِ، وَقَطَعَ طريقَ نِعَمِهِ وإحسانِهِ إليهِ التي هيَ أحبُّ شيءٍ إليهِ، وفَتَحَ طريقَ العقوبةِ والغضبِ والانتقامِ: فَقَد اسْتَدْعَى من الجوَادِ الكريمِ خلافَ ما هوَ موصوفٌ بهِ من الجُودِ والإحسانِ والبِرِّ، وَتَعَرَّضَ لإغضابِهِ وإسخاطِهِ وانتقامِهِ، وأنْ يَصِيرَ غَضَبُهُ وسَخَطُهُ في موضعِ رِضَاهُ، وانتقامُهُ وعقوبتُهُ في موضعِ كَرَمِهِ وبِرِّهِ وعطائِهِ، فَاسْتَدْعَى بمعصيَتِهِ منْ أفعالِهِ ما سِوَاهُ أَحَبُّ إليهِ منهُ، وخلافَ ما هوَ منْ لَوَازمِ ذاتِهِ من الجُودِ والإحسانِ.
فَبَيْنَمَا هوَ حَبِيبُهُ المُقَرَّبُ المخصوصُ بالكرامةِ إذ انْقَلَبَ آبِقاً شَارِداً، رَادًّا لكرامتِهِ، مَائِلاً عنهُ إلى عَدُوِّهِ معَ شِدَّةِ حاجتِهِ إليهِ وعدمِ استغنائِهِ عنهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ.

فَبَيْنَمَا ذلكَ الحبيبُ معَ العدوِّ في طاعتِهِ وخدمتِهِ، نَاسِياً لسَيِّدِهِ، مُنْهَمِكاً في مُوَافَقَةِ عَدُوِّهِ؛ قد اسْتَدْعَى منْ سَيِّدِهِ خلافَ ما هوَ أهلُهُ: إذْ عَرَضَتْ لهُ فكرةٌ، فَتَذَكَّرَ بِرَّ سيِّدِهِ وَعَطْفَهُ وَجُودَهُ وَكَرَمَهُ، وَعَلِمَ أنَّهُ لا بُدَّ لهُ منهُ، وأنَّ مصيرَهُ إليهِ، وَعَرْضَهُ عليهِ، وَأَنَّهُ إنْ لمْ يُقْدِمْ عليهِ بنفسِهِ قُدِمَ بهِ عليهِ على أَسْوَأِ الأحوالِ.

فَفَرَّ إلى سَيِّدِهِ منْ بلدِ عَدُوِّهِ، وَجَدَّ في الهربِ إليهِ حتَّى وَصَلَ إلى بابِهِ، فوَضَعَ خَدَّهُ على عَتَبَةِ بابِهِ، وَتَوَسَّدَ ثَرَى أعتابِهِ، مُتَذَلِّلاً مُتَضَرِّعاً، خَاشِعاً بَاكِياً آسِفاً، يَتَمَلَّقُ سَيِّدَهُ، وَيَسْتَرْحِمُه ُ، وَيَسْتَعْطِفُه ُ، وَيَعْتَذِرُ إليهِ، قدْ أَلْقَى بيَدِهِ إليهِ، وَاسْتَسْلَمَ لهُ وأعطاهُ قِيَادَهُ، وَأَلْقَى إليهِ زِمَامَهُ.

فَعَلِمَ سَيِّدُهُ ما في قلبِهِ فَعَادَ مكانَ الغضبِ عليهِ رِضاً عنهُ، ومكانَ الشدَّةِ عليهِ رَحْمَةً بهِ، وَأَبْدَلَهُ بالعقوبةِ عَفْواً، وبالمنعِ عطاءً، وبالمُؤَاخَذَةِ حِلْماً. فَاسْتَدْعَى بالتوبةِ والرجوعِ منْ سَيِّدِهِ ما هوَ أَهْلُهُ، وما هوَ مُوجَبُ أسمائِهِ الحُسْنَى وصفاتِهِ العُلْيَا.

فكيفَ يكونُ فَرَحُ سَيِّدِهِ بهِ وقدْ عادَ إليهِ حَبِيبُهُ وَوَلِيُّهُ طَوْعاً وَاخْتِيَاراً؟! وَرَاجَعَ ما يُحِبُّهُ سَيِّدُهُ منهُ بِرِضَاهُ، وَفَتَحَ طريقَ البرِّ والإحسانِ والجُودِ، التي هيَ أَحَبُّ إلى سَيِّدِهِ منْ طريقِ الغضبِ والانتقامِ والعقوبةِ؟!!

وهذا موضعُ الحكايَةِ المشهورةِ عنْ بعضِ العارِفِينَ: أَنَّهُ حَصَلَ لهُ شُرُودٌ وَإِبَاقٌ منْ سَيِّدِهِ، فَرَأَى في بعضِ السِّكَكِ بَاباً قدْ فُتِحَ، وَخَرَجَ منهُ صَبِيٌّ يَسْتَغِيثُ وَيَبْكِي، وأُمُّهُ خَلْفَهُ تَطْرُدُهُ حتَّى خَرَجَ، فَأَغْلَقَت البابَ في وجهِهِ وَدَخَلَتْ. فَذَهَبَ الصَّبِيُّ غَيْرَ بعيدٍ، ثُمَّ وَقَفَ مُفَكِّراً، فلمْ يَجِدْ لهُ مَأْوًى غيرَ البيتِ الذي أُخْرِجَ منهُ، ولا مَنْ يُؤْوِيهِ غيرَ وَالِدَتِهِ، فَرَجَعَ مكسورَ القلبِ حَزِيناً، فوجدَ البابَ مُرْتَجا(، فَتَوسَّدَهُ وَوَضَعَ خَدَّهُ على عتبةِ البابِ وَنَامَ، فَخَرَجَتْ أُمُّهُ, فَلَمَّا رَأَتْهُ على تلكَ الحالِ لمْ تَمْلِكْ أنْ رَمَتْ نَفْسَهَا عليهِ، وَالْتَزَمَتْهُ تُقَبِّلُهُ وَتَبْكِي وَتَقُولُ: يا وَلَدِي، أَيْنَ تَذْهَبُ عَنِّي؟ وَمَنْ يُؤْوِيكَ سِوَايَ؟ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ: لا تُخَالِفْنِي، ولا تَحْمِلْنِي بِمَعْصِيَتِكَ لي على خلافِ ما جُبِلْتُ عليهِ من الرحمةِ بكَ، والشفقةِ عليكَ، وَإِرَادَتِي الخيرَ لكَ؟ ثُمَّ أَخَذَتْهُ وَدَخَلَتْ.

فتَأَمَّلْ قولَ الأمِّ: " لا تَحْمِلْنِي بِمَعْصِيَتِكَ لي على خلافِ ما جُبِلْتُ عليهِ من الرحمةِ والشفقةِ "، وتَأَمَّلْ قولـَهُ صلى الله عليه وسلم: ((للهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنَ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا)) وَأَيْنَ تَقَعُ رَحْمَةُ الْوَالِدَةِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ؟!!

فإذا أَغْضَبَهُ العبدُ بِمَعْصِيَتِهِ فقد اسْتَدْعَى منهُ صَرْفَ تلكَ الرحمةِ عنهُ، فإذا تَابَ إليهِ فقد اسْتَدْعَى منهُ ما هوَ أهلُهُ وأَوْلَى بهِ.

فهذهِ نُبْذَةٌ يَسِيرَةٌ تُطْلِعُكَ على سِرِّ فَرَحِ اللهِ بتوبةِ عبدِهِ أعظمَ منْ فَرَحِ هذا الواجدِ لراحلتِهِ في الأرضِ المهلكةِ بعدَ اليَأْسِ منها، وَوَرَاءَ هذا ما تَجْفُو عنهُ العبارةُ، وَتَدِقُّ عنْ إدراكِهِ الأذهانُ.

وإيَّاكَ وطريقةَ التعطيلِ والتمثيلِ؛ فإنَّ كلاًّ منهما مَنـْزِلٌ ذَمِيمٌ، وَمَرْتَعٌ على عِلاَّتِهِ وَخِيمٌ، ولا يَحِلُّ لأحدِهِمَا أنْ يَجِدَ رَوَائِحَ هذا الأمرِ ونَفَسَهُ؛ لأنَّ زُكَامَ التعطيلِ والتمثيلِ مُفْسِدٌ لحاسَّةِ الشَّمِّ كما هوَ مُفْسِدٌ لحاسَّةِ الذوقِ، فلا يَذُوقُ طعمَ الإيمانِ، ولا يَجِدُ رِيحَهُ.

والمحرومُ كلُّ المحرومِ مَنْ عُرِضَ عليهِ الغِنَى والخيرُ فلمْ يَقْبَلْهُ، فلا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى اللهُ، ولا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ، والفضلُ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، واللهُ ذُو الفضلِ العظيمِ). [المرتبع الأسنى]

محمدعبداللطيف
2020-05-04, 01:08 PM
قال ابن القيم
( (( الأَكْرَمُ )) الذي فيهِ كلُّ خيرٍ وكلُّ كمالٍ، فلهُ كلُّ كمالٍ وَصْفاً، ومنهُ كلُّ خيرٍ فِعْلاً، فهوَ الأَكْرَمُ في ذاتِهِ وأوصافِهِ وأفعالِهِ).
([و] (( الأكرمُ ))... هوَ الأفعلُ من الكرمِ، وهوَ: كثرةُ الخيرِ، ولا أَحَدَ أَوْلَى بذلكَ منهُ سبحانَهُ؛ فإنَّ الخيرَ كُلَّهُ بِيَدَيْهِ، والخيرَ كُلَّهُ منهُ، والنِّعَمَ كُلَّهَا هوَ مَوْلاهَا، والكمالَ كُلَّهُ وَالْمَجْدَ كُلَّهُ لهُ، فهوَ الأَكْرَمُ حَقًّا).
(و[لْيَعْرِف] العبدُ كَرَمَ ربِّهِ في قَبُولِ العُذْرِ منهُ إذا اعْتَذَرَ إليهِ... فَيَقْبَلُ عُذْرَهُ بكرمِهِ وَجُودِهِ، فَيُوجِبُ لهُ ذلكَ اشْتِغَالاً بِذِكْرِهِ وشُكْرِهِ، وَمَحَبَّةً أُخْرَى لمْ تَكُنْ حاصلةً لهُ قبلَ ذلكَ؛ فإنَّ مَحَبَّتَكَ لِمَنْ شَكَرَكَ على إحسانِكَ وَجَازَاكَ بهِ، ثُمَّ غَفَرَ لكَ إساءَتَكَ، ولمْ يُؤَاخِذْكَ بها: أَضْعَافُ مَحَبَّتِكَ على شُكْرِ الإحسانِ وَحْدَهُ، والواقعُ شاهدٌ بذلكَ؛ فعبوديَّةُ التوبةِ بعدَ الذنبِ لونٌ، وهذا لونٌ آخَرُ). [المرتبع الأسنى]

محمدعبداللطيف
2020-05-04, 01:12 PM
قال ابن القيم
([اللهُ] سبحانَهُ [هوَ] (( الجميلُ )) الذي لا أَجْمَلَ منهُ، بلْ لوْ كانَ جمالُ الخلقِ كلِّهِم على رجلٍ واحدٍ منهم، وكانوا جَمِيعُهُم بذلكَ الجمالِ لَمَا كانَ لِجَمَالِهِم قطُّ نِسْبَةً إلى جمالِ اللهِ، بلْ كانت النسبةُ أَقَلَّ منْ نسبةِ سراجٍ ضعيفٍ إلى حِذاءِ جِرْمِ الشمسِ {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل: 60].
وقدْ رَوَى عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قولَهُ: ((إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ)) ....
ومِنْ أَسْمَائِهِ الحُسْنَى: (( الجميلُ ))، وَمَنْ أَحَقُّ بالجمالِ مِمَّنْ كُلُّ جمالٍ في الوجودِ فهوَ منْ آثارِ صُنْعِهِ؛ فَلَهُ:
- جمالُ الذاتِ.
- وجمالُ الأوصافِ.
- وجمالُ الأفعالِ.
- وجمالُ الأسماءِ.
فأسماؤُهُ كُلُّهَا حُسْنَى، وصفاتُهُ كُلُّهَا كمالٌ، وأفعالُهُ كلُّهَا جميلةٌ، فلا يَسْتَطِيعُ بَشَرٌ النظرَ إلى جلالِهِ وجمالِهِ في هذهِ الدارِ، فإذا رَأَوْهُ سبحانَهُ في جنَّاتِ عدنٍ أَنْسَتْهُم رُؤْيَتُهُ ما هُمْ فيهِ من النعيمِ، فلا يَلْتَفِتُونَ حينئذٍ إلى شيءٍ غيرِهِ.
(وهوَ الجميلُ على الحقيقةِ كيفَ لا = وجمالُ سائرِ هذهِ الأكوانِ
مِنْ بعضِ آثارِ الجميلِ فَرَبُّهَا = أَوْلَى وأَجْدَرُ عندَ ذِي العرفانِ
فجمالُهُ بالذاتِ والأوصافِ والـ = أَفْعَالِ والأسماءِ بالبرهانِ
لا شَيْءَ يُشْبِهُ ذَاتَهُ وصفاتِهِ = سُبْحَانَهُ عنْ إِفْكِ ذِي البُهْتَانِ)
(فمِن المعلومِ أنَّهُ... لا شَيْءَ أَكْمَلُ مِنْهُ [سبحانَهُ وتَعَالَى]، ولا أَجْمَلُ، فكلُّ كمالٍ وجمالٍ في المخلوقِ منْ آثارِ صنعِهِ سبحانَهُ وتَعَالَى. وهوَ الذي لا يُحَدُّ كمالُهُ، ولا يُوصَفُ جلالُهُ وجمالُهُ، ولا يُحْصِي أحدٌ منْ خلقِهِ ثناءً عليهِ بجميلِ صفاتِهِ وعظيمِ إحسانِهِ وبديعِ أفعالِهِ).

(مِنْ أعزِّ أنواعِ المعرفةِ معرفةُ الربِّ سبحانَهُ بالجمالِ، وهيَ معرفةُ خواصِّ الخلقِ، وكلُّهُم عَرَفَهُ بصفةٍ منْ صفاتِهِ، وأَتَمُّهُم معرفةً مَنْ عَرَفَهُ بكمالِهِ وجلالِهِ وجمالِهِ سبحانَهُ، ليسَ كمثلِهِ شيءٌ في سائرِ صفاتِهِ، ولوْ فَرَضْتَ الخلقَ كلَّهُم على أجـمـلـِهِم صورةً وكُلُّـهُم على تلكَ الصورةِ، وَنَسَبْتَ جمالَهُم الظاهرَ والباطنَ إلى جمالِ الربِّ سبحانَهُ لكانَ أقلَّ منْ نسبةِ سراجٍ ضعيفٍ إلى قُرْصِ الشمسِ.
- ويَكْفِي في جمالِهِ: أنَّهُ لوْ كَشَفَ الحجابَ عنْ وجهِهِ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُهُ ما انْتَهَى إليهِ بَصَرُهُ منْ خلقِهِ.
- وَيَكْفِي في جمالِهِ: أنَّ كلَّ جمالٍ ظاهرٍ وباطنٍ في الدنيا والآخرةِ فَمِنْ آثَارِ صَنْعَتِهِ؛ فما الظنُّ بمَنْ صَدَرَ عنهُ هذا الجمالُ؟!!
- وَيَكْفِي في جمالِهِ أنَّهُ لهُ العِزَّةُ جَمِيعاً، والقوَّةُ جميعاً، والجُودُ كُلُّهُ، والإحسانُ كلُّهُ، والعلمُ كُلُّهُ، والفضلُ كُلُّهُ، ولِنورِ وجهِهِ أَشْرَقَت الظلماتُ، كما قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في دعاءِ الطائفِ: ((أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وَصَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ)) ([17]).
وقالَ عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ: ليسَ عندَ ربِّكُم ليلٌ ولا نهارٌ، نورُ السَّمَاواتِ والأرضِ منْ نُورِ وجْهِهِ ".
فهوَ سبحانَهُ نورُ السَّمَاواتِ والأرضِ، ويومَ القيامةِ إذا جاءَ لفَصْلِ القضاءِ تُشْرِقُ الأرضُ بنورِهِ.
ومِنْ أسمائِهِ الحُسْنَى (( الجميلُ ))، وفي الصحيحِ عنهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ))
وجمالُهُ سُبْحَانَهُ على أَرْبَعِ مَرَاتِبَ:
- جمالِ الذاتِ.
- وجمالِ الصِّفَاتِ.
- وجمالِ الأفعالِ.
- وجمالِ الأسماءِ.
فأسماؤُهُ كُلُّهَا حُسْنَى، وصفاتُهُ كُلُّهَا صفاتُ كمالٍ، وأفعالُهُ كُلُّهَا حكمةٌ ومصلحةٌ وعدلٌ ورحمةٌ.
وأمَّا جمالُ الذاتِ وما هوَ عليهِ فَأَمْرٌ لا يُدْرِكُهُ سِوَاهُ، ولا يَعْلَمُهُ غيرُهُ، وليسَ عندَ المَخْلُوقِينَ منهُ إلاَّ تعريفاتٌ تَعَرَّفَ بها إلى مَنْ أَكْرَمَهُ منْ عبادِهِ؛ فإنَّ ذلكَ الجمالَ مَصُونٌ عن الأَغْيَارِ، محجوبٌ بِسترِ الرداءِ والإزارِ، كما قالَ رسولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يَحْكِي عنهُ: ((الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي))، وَلَمَّا كانت الكبرياءُ أَعْظَمَ وأَوْسَعَ كَانَتْ أحقَّ باسمِ الرداءِ؛ فإنَّهُ سبحانَهُ الكبيرُ المتعالُ، فهوَ سبحانَهُ العليُّ العظيمُ. [المرتبع الأسنى]

محمدعبداللطيف
2020-05-04, 01:16 PM
قال ابن القيم
([اعْلَمْ- نَوَّرَ اللهُ بَصِيرَتَكَ- أنَّ] النَّصَّ قدْ وَرَدَ بِتَسْمِيَةِ الربِّ نوراً، وبأنَّ لهُ نوراً مضافاً إليهِ، وبأنَّهُ نورُ السَّمَاواتِ والأرضِ، وبأنَّ حِجَابَهُ نورٌ، فهذهِ أربعةُ أنواعٍ:
- فالأوَّلُ: يُقَالُ عليهِ سُبْحَانَهُ بالإطلاقِ؛ فإنَّهُ النُّورُ الهادِي.
- والثاني: يُضَافُ إليهِ كما يُضَافُ إليهِ حَيَاتُهُ وَسَمْعُهُ وَبَصَرُهُ وَعِزَّتُهُ وقُدْرَتُهُ وعِلْمُهُ، وَتَارَةً يُضَافُ إلى وجهِهِ، وتارةً يُضَافُ إلى ذاتِهِ:
- فالأوَّلُ: إِضَافَتُهُ [إلى وجهِهِ الكريمِ]؛ كقولِهِ: ((أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ)) . وقولِهِ: ((نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مِنْ نُورِ وَجْهِهِ)).
- والثاني: إضافتُهُ إلى ذاتِهِ؛ كقولِهِ: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [الزمر: 69]، وقولِ ابنِ عبَّاسٍ: " ذَلِكَ نُورُهُ الذي إذا تَجَلَّى بهِ "، وقولِهِ صلى الله عليه وسلم في حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو: ((إِنَّ اللهَ خَلَقَ خَلْقَهُ فِي ظُلْمَةٍ، ثُمَّ أَلْقَى عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ))
- والثالثُ: وهوَ إضافةُ نُورِهِ إلى السَّمَاواتِ والأرضِ، كقولـِهِ: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [ النور : 35 ].
- والرابعُ: كقولِهِ: ((حِجَابُهُ النُّورُ)).
فهذا النورُ المُضَافُ إليهِ يَجِيءُ على أحدِ الوجوهِ الأربعةِ، والنورُ الذي احْتَجَبَ بهِ سُمِّيَ نُوراً وَنَاراً، كما وَقَعَ التَّرَدُّدُ في لفظِهِ في الحديثِ الصحيحِ، حديثِ أبي موسَى الأَشْعَرِيِّ. وهوَ قولُهُ: ((حِجَابُهُ النُّورُ أَوِ النَّارُ)) ([3])؛ فإنَّ هذهِ النارَ هيَ نورٌ، وهيَ التي كَلَّمَ اللهُ كَلِيمَهُ مُوسَى فيها، وهيَ نارٌ صافيَةٌ لها إشراقٌ بلا إحراقٍ.
فالأقسامُ ثلاثةٌ:
- إشراقٌ بلا إحراقٍ: كنورِ القمرِ.
- وإحراقٌ بلا إشراقٍ: وهيَ نارُ جَهَنَّمَ؛ فَإِنَّهَا سوداءُ مُحْرِقَةٌ لا تُضِيءُ.
- وإشراقٌ بإحراقٍ: وهيَ هذهِ النارُ المضيئةُ، وكذلكَ نُورُ الشمسِ لهُ الإشراقُ والإحراقُ.

فهذا في الأنوارِ المشهودةِ المخلوقةِ، وحجابُ الربِّ تباركَ وتَعَالَى نورٌ، وهوَ نارٌ. وهذهِ الأنواعُ كلُّهَا حقيقةٌ بحسَبِ مراتِبِهَا، فنورُ وجهِهِ حقيقةٌ لا مجازٌ.

وإذا كانَ نُورُ مخلوقاتِهِ كالشمسِ والقمرِ والنارِ حقيقةً، فكيفَ يكونُ نورُهُ الذي نسبةُ الأنوارِ المخلوقةِ إليهِ أَقَلُّ منْ نسبةِ سراجٍ ضعيفٍ إلى قرصِ الشمسِ، فكيفَ لا يكونُ هذا النورُ حقيقةً)، ([و] الربُّ سبحانَهُ أَخْبَرَ أنَّهُ لَمَّا تَجَلَّى للجبلِ وَظَهَرَ لهُ أَمْرٌ ما منْ نورِ ذاتِهِ المقدَّسَةِ صارَ الجبلُ دَكًّا؛ فَرَوَى حُمَيْدٌ عنْ ثابتٍ، عنْ أنسٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في قولِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} [الأعراف: 143]، أَشَارَ أنسٌ بطرفِ أصبعِهِ على طرفِ خِنْصَرِهِ، وكذلكَ أَشَارَ ثابتٌ، فقالَ لهُ حُمَيْدٌ الطويلُ: ما تُرِيدُ يا أَبَا مُحَمَّدٍ؟ فَرَفَعَ ثابتٌ يَدَهُ، فَضَرَبَ صدرَهُ ضربةً شديدةً وقالَ: مَنْ أَنْتَ يا حُمَيْدُ، يُحَدِّثُنِي أنسٌ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم وتقولُ أنتَ: ما تُرِيدُ بهذا؟! ومعلومٌ أنَّ الذي أَصَارَ الجبلَ إلى هذهِ الحالِ ظهورُ هذا القدْرِ منْ نورِ الذاتِ لهُ بلا واسطةٍ، بلْ تَجَلَّى رَبُّهُ لهُ سبحانَهُ.

... [وَقَدْ] ثَبَتَ في الصحيحَيْنِ عن ابنِ عَبَّاسٍ، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ يقولُ إذا قامَ مِن الليلِ: ((اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)) الحديثَ. وهوَ يَقْتَضِي أنَّ كونَهُ نورَ السَّمَاواتِ والأرضِ مُغَايِرٌ لكونِهِ ربَّ السَّمَاواتِ والأرضِ، ومعلومٌ أنَّ إِصْلاحَهُ السَّمَاواتِ والأرضَ بالأنوارِ وهدايتَهُ لمَنْ فيهما هيَ رُبُوبِيَّتُهُ، فَدَلَّ على أنَّ مَعْنَى كونِهِ نورَ السَّمَاواتِ والأرضِ أَمْرٌ وراءَ رُبُوبِيَّتِهِم َا...

و[هذا]... الحديثُ تَضَمَّنَ ثلاثةَ أُمُورٍ شاملةٍ عامَّةٍ للسماواتِ والأرضِ، وهيَ رُبُوبِيَّتُهُم َا وقَيُّومِيَّتُه ُمَا ونورُهُمَا، فَكَوْنُهُ سُبْحَانَهُ ربًّا لهما وَقَيُّوماً لهما وَنُوراً لهما أَوْصَافٌ لهُ، فَآثَارُ رُبُوبِيَّتِهِ وَقَيُّومِيَّتِ هِ ونورِهِ قائمةٌ بهما... وَمُقْتَضَاهَا هوَ المخلوقُ المُنْفَصِلُ، وهذا كما أنَّ صفةَ الرحمةِ والقدرةِ والإرادةِ والرِّضَى والغضبِ قائمةٌ بهِ سُبْحَانَهُ، والرحمةُ الموجودةُ في العالمِ والإحسانُ والخيرُ والنعمةُ والعقوبةُ آثارُ تلكَ الصِّفَاتِ، وهيَ منفصلةٌ عنهُ، وهكذا عِلْمُهُ القائمُ بهِ هوَ صِفَتُهُ، وأمَّا علومُ عبادِهِ فمِنْ آثارِ عِلْمِهِ، وَقُدْرَتُهُم منْ آثارِ قدرتِهِ.

فَالْتَبَسَ هذا المَوْضِعُ على مُنْكِرِي نورِهِ سبحانَهُ، وَلَبَّسُوا على الجُهَّالِ فَقَالُوا: كلُّ عاقلٍ يَعْلَمُ بالبديهةِ أنَّ اللهَ سبحانَهُ ليسَ هوَ هذا النورَ الفائضَ منْ جِرمِ الشمسِ والقمرِ والنارِ، فلا بُدَّ مِنْ حملِ قولِهِ: ((نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)) على معنَى أنَّهُ: مُنَوِّرُ السَّمَاواتِ والأرضِ، وهادٍ لأهلِ السَّمَاواتِ والأرضِ...

فنقولُ...: أَسَأْتُم الظنَّ بكلامِ اللهِ ورسولِهِ صلى الله عليه وسلم؛ حيثُ فَهِمْتُمْ أنَّ حقيقتَهُ وَمَدْلُولَـهُ أنَّهُ سُبْحَانَهُ هوَ هذا النورُ الواقعُ على الحِيطَانِ والجدرانِ . وهذا الفَهْمُ الفاسدُ هوَ الذي أَوْجَبَ لكُمْ إِنْكَارَ حقيقةِ نُورِهِ وجحدَهُ، وَجَمَعْتُمْ بينَ الفَهْمِ الفاسدِ وإنكارِ المعنَى الحقِّ، وليسَ ما ذَكَرْتُمْ من النورِ هوَ نورَ الربِّ القائمَ بهِ الذي هوَ صِفَتُهُ، وإنَّمَا هوَ مخلوقٌ لهُ مُنْفَصِلٌ عنهُ، فإنَّ هذهِ الأنوارَ المخلوقةَ إنَّمَا تكونُ في محلٍّ دُونَ مَحَلٍّ، فالنورُ الفائضُ عن النارِ أو الشمسِ أو القمرِ إنَّمَا هوَ نورٌ لبعضِ الأرضِ دُونَ بعضٍ، فإنَّا نَعْلَمُ أنَّ نورَ الشمسِ الذي هوَ أعظمُ منْ نورِ القمرِ والكواكبِ والنارِ ليسَ هوَ نورَ جميعِ السَّمَاواتِ والأرضِ ومَنْ فِيهِنَّ.

فمَن ادَّعَى أنَّ ظاهرَ القرآنِ وكلامِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم أنَّ نورَ الربِّ سبحانَهُ هوَ هذا النورُ الفائضُ فقدْ كَذَبَ على اللهِ ورسولِهِ.

فلوْ كانَ لفظُ النصِّ: اللهُ هوَ النورُ الذي تُعَايِنُونَهُ وتَرَوْنَهُ في السَّمَاواتِ والأرضِ لَكَانَ لِفَهْمِ هؤلاءِ وَتَحْرِيفِهِم مُسْتَنَدٌ ما. أمَّا ولفظُ النصِّ: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35]، فمِنْ أينَ يَدُلُّ هذا بوَجْهٍ ما أنَّهُ النورُ الفائضُ عنْ جرمِ الشمسِ والقمرِ والنارِ؟!

فإخراجُ نورِ الربِّ تَعَالَى عنْ حقيقتِهِ وحملُ لفظِهِ على مجازِهِ إنَّمَا اسْتَنَدَ إلى هذا الفَهْمِ الباطلِ الذي لمْ يَدُلَّ عليهِ اللفظُ...

[و] رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَسَّرَ هذهِ الآيَةَ بِقَوْلِهِ: ((أَنْتَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)). ولمْ يَفْهَمْ منها أنَّهُ هوَ هذا النورُ المُنْبَسِطُ على الحيطانِ والجدرانِ، ولا فَهِمَهُ الصحابةُ عنهُ، بلْ عَلِمُوا أنَّ لِنُورِ الربِّ تَعَالَى شَأْناً آخرَ هوَ أعظمُ منْ أنْ يكونَ لهُ مثالٌ.

قالَ عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ: " ليسَ عندَ ربِّكُم ليلٌ ولا نهارٌ، نورُ السَّمَاواتِ والأرضِ منْ نورِ وجهِهِ ".

فهلْ أَرَادَ ابنُ مسعودٍ أنَّ هذا النورَ الذي على الحيطانِ وَوَجْهِ الأرضِ هوَ عَيْنُ نورِ الوجهِ الكريمِ؟!!
أو فَهِمَ هذا عَنْهُم ذُو فَهْمٍ مستقيمٍ؟!!

فالقرآنُ والسُّنَّةُ وأقوالُ الصحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم مُتَطَابِقَةٌ يُوَافِقُ بَعْضُهَا بَعْضاً، وَتُصَرِّحُ بالفرقِ الذي بينَ النورِ الذي هوَ صِفَتُهُ، والنورِ الذي هوَ خَلْقٌ منْ خلقِهِ، كما تُفَرِّقُ بينَ الرحمةِ التي هيَ صفتُهُ، والرحمةِ التي هيَ مخلوقةٌ، ولَكِنْ لَمَّا وُجِدَتْ في رحمتِهِ سُمِّيَتْ بِرَحْمَتِهِ، وكما أنَّهُ لا يُمَاثِلُ في صفةٍ منْ صفاتِهِ خَلْقَهُ، فكذلكَ نُورُهُ سُبْحَانَهُ.
فأيُّ نورٍ من الأنوارِ المخلوقةِ إذا ظَهَرَ للعالمِ وَوَاجَهَهُ أَحْرَقَهُ؟!!
وأيُّ نورٍ إذا ظَهَرَ منهُ للجبالِ الشامخةِ قَدْرٌ ما جَعَلَهَا دَكًّا؟!!
وإذا كانتْ أنوارُ الحُجُبِ لوْ دَنَا جَبْرَائِيلُ في أَدْنَاهَا لاحترقَ، فما الظنُّ بنورِ الذَّاتِ؟!!)([8])

(فنسبةُ الأنوارِ كُلِّهَا إلى نورِ الربِّ كنسبةِ العلومِ إلى علمِهِ، والقُوَى إلى قوَّتِهِ، والغِنَى إلى غِنَاهُ، والعزَّةِ إلى عِزَّتِهِ، وكذلكَ باقِي الصِّفَاتِ.

والعبدُ إذا سَمَا بَصَرُهُ صُعُوداً إلى نورِ الشمسِ غَشِيَ دونَ إدراكِهِ وَتَعَذَّرَ عليهِ غايَةَ التَّعَذُّرِ!! وأيُّ نسبةٍ لنورِ الشمسِ إلى نورِ خالِقِهَا وَمُبْدِعِهَا؟!!
وإذا كانَ نورُ البرقِ يَكَادُ يَلْتَمِعُ البصرَ وَيَخْطَفُهُ، ولا يَقْدِرُ العبدُ على إدراكِهِ، فكيفَ بنُورِ الحجابِ؟!! فكيفَ بما فَوْقَهُ؟!!

والأمرُ أعظمُ منْ أنْ يَصِفَهُ واصِفٌ، أوْ يَتَصَوَّرَهُ عَاقِلٌ، فَتَبَارَكَ اللهُ ربُّ العالَمِينَ الذي أَشْرَقَت الظُّلُمَاتُ بنورِ وجهِهِ، وَعَجَزَت الأفكارُ عنْ إدراكِ كُنْهِهِ، وَدَلَّت الآياتُ وَشَهِدَت الفِطَرُ باستحالةِ شِبْهِهِ، فَلَوْلا وَصْفُ نفسَهُ لعبادِهِ لَمَا أَقْدَمُوا على وصفِهِ، فهوَ كما وَصَفَ نفسَهُ وَأَثْنَى على نفسِهِ، وَفَوْقَ ما يَصِفُهُ الواصفونَ)([9]).



(وَلَمَّا كانَ النورُ منْ أسمائِهِ الحسنى وصفاتِهِ كانَ دِينُهُ نُوراً، ورسولُهُ نوراً، وكلامُهُ نوراً، ودارُهُ نوراً يَتَلأْلأُ، والنورُ يَتَوَقَّدُ في قلوبِ عبادِهِ المؤمنينَ، وَيَجْرِي على أَلْسِنَتِهِم، وَيَظْهَرُ على وُجُوهِهِم)

(فَدِينُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ نورٌ، وكتابُهُ نورٌ، ورسولُهُ نورٌ، ودارُهُ التي أَعَدَّهَا لأوليائِهِ نورٌ يَتَلأْلأُ، وهوَ تَبَارَكَ وتَعَالَى نورُ السماواتِ والأرضِ، ومِنْ أسمائِهِ النورُ، وَأَشْرَقَت الظلماتُ لنورِ وجهِهِ، وفي دعاءِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومَ الطائِفِ: ((أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وَصَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، أَنْ يَحِلَّ عَلَيَّ غَضَبُكَ، أَوْ يَنْـزِلَ بِي سَخَطُكَ، لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ بِكَ))

وقالَ ابنُ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: ليسَ عندَ رَبِّكُمْ ليلٌ ولا نهارٌ، نورُ السماواتِ والأرضِ منْ نورِ وجهِهِ. وفي بعضِ ألفاظِ هذا الأثرِ: نورُ السَّمَاواتِ منْ نورِ وجهِهِ.
ذَكَرَهُ عثمانُ الدَّارِمِيُّ.

وقدْ قالَ تَعَالَى: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [الزمر: 69]. فإذا جاءَ تباركَ وتَعَالَى يومَ القيامةِ للفَصْلِ بينَ عبادِهِ، وَأَشْرَقَتْ بنورِهِ الأرضُ، وليسَ إشراقُهَا يومئذٍ بشمسٍ ولا قمرٍ؛ فإنَّ الشمسَ تُكَوَّرُ، والقمرَ يُخْسَفُ، وَيَذْهَبُ نُورُهُمَا، وَحِجَابُهُ تباركَ وتَعَالَى النورُ.

قالَ أبو مُوسَى: قامَ فِينَا رسولُ اللهِ بخمسِ كلماتٍ فقالَ: ((إِنَّ اللهَ لا يَنَامُ وَلا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، وَلَكِنَّهُ يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ)) ([12]). ثُمَّ قَرَأَ أبو عُبَيْدَةَ: {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} [النمل: 8].

فاستنارةُ ذلكَ الحجابِ بنورِ وجهِهِ، ولَوْلاهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وجهِهِ ونورُه ما انْتَهَى إليهِ بصرُهُ، ولهذا لَمَّا تَجَلَّى تَبَارَكَ وتَعَالَى للجَبَلِ، وَكَشَفَ من الحجابِ شَيْئاً يَسِيراً سَاخَ الجبلُ في الأرضِ وَتَدَكْدَكَ، ولمْ يَقُمْ لِرَبِّهِ تباركَ وتَعَالَى. وهذا معنَى قولِ ابنِ عَبَّاسٍ في قولِهِ سبحانَهُ وتَعَالَى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103]، قالَ: ذلكَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إذا تَجَلَّى بنورِهِ لمْ يَقُمْ لهُ شيءٌ، وهذا مِنْ بديعِ فهمِهِ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عنهُ، ودقيقِ فِطْنَتِهِ، كيفَ لا وَقَدْ دَعَا لهُ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنْ يُعَلِّمَهُ اللهُ التأويلَ.

فالربُّ تَبَارَكَ وتَعَالَى يُرَى يومَ القيامةِ بالأبصارِ عِياناً، ولكنْ يَسْتَحِيلُ إدراكُ الأبصارِ لهُ وإنْ رَأَتْهُ، فالإدراكُ أمرٌ وراءَ الرؤيَةِ، وهذهِ الشمسُ - وللهِ المَثَلُ الأَعْلَى - نَرَاهَا ولا نُدْرِكُهَا كما هيَ عليهِ، ولا قَرِيباً منْ ذلكَ.

ولذلكَ قالَ ابنُ عبَّاسٍ لِمَنْ سَأَلَهُ عن الرؤيَةِ، وَأَوْرَدَ عليهِ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103]، فقالَ: أَلَسْتَ تَرَى السَّمَاءَ؟ قالَ: بَلَى، قالَ: أَفَتُدْرِكُهَا ؟ قالَ: لا، قالَ: فاللهُ تَعَالَى أَعْظَمُ وَأَجَلُّ.

وقدْ ضَرَبَ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى النورَ في قلبِ عبدِهِ مثلاً لا يَعْقِلُهُ إلاَّ العالِمونَ، فقالَ سبحانَهُ وتَعَالَى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)} [النور: 35]. قالَ أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ: مَثَلُ نُورِهِ في قلبِ المسلمِ، وهذا هوَ النورُ الذي أَوْدَعَهُ في قلبِهِ منْ معرفتِهِ وَمَحَبَّتِهِ والإيمانِ بهِ وَذِكْرِهِ، وهوَ نورُهُ الذي أَنْزَلَهُ إليهم، فَأَحْيَاهُم بهِ، وَجَعَلَهُم يمشونَ بهِ بينَ الناسِ، وَأَصْلَهُ في قلوبِهِم، ثُمَّ تَقْوَى مَادَّتُهُ، فَتَتَزَايَدُ حتَّى يَظْهَرَ على وجوهِهِم وَجَوَارِحِهِم وَأَبْدَانِهِم، بلْ وَثِيَابِهِم وَدُورِهِم، يُبْصِرُهُ مَنْ هوَ مِنْ جِنْسِهِم، وسائرُ الخلقِ لهُ مُنْكِرُونَ، فإذا كانَ يومُ القيامةِ بَرَزَ ذلكَ النورُ، وَصَارَ بِأَيْمَانِهِم يَسْعَى بينَ أَيْدِيهِم في ظُلْمَةِ الجسرِ حتَّى يَقْطَعُوهُ، وهُمْ فيهِ على حَسَبِ قُوَّتِهِ وضَعْفِهِ في قلوبِهِم في الدُّنيا، فمِنْهُم مَنْ نُورُهُ كالشمسِ، وآخرُ كالقمرِ، وآخرُ كالنجمِ، وآخرُ كالسراجِ، وآخرُ يُعْطَى نوراً على إبهامِ قَدَمِهِ يُضِيءُ مَرَّةً وَيُطْفَأُ أُخْرَى، إذا كانتْ هذهِ حالَ نورِهِ في الدنيا، فَأُعْطِيَ على الجسرِ بمقدارِ ذلكَ، بلْ هوَ نفسُ نورِهِ ظَهَرَ لهُ عِياناً، ولَمَّا لمْ يَكُنْ للمُنَافِقِ نورٌ ثابتٌ في الدنيا، بلْ كانَ نورُهُ ظاهراً لا باطناً، أُعْطِيَ نُوراً ظاهراً مَآلُهُ إلى الظلمةِ والذهابِ.

وَضَرَبَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لهذا النورِ، وَمَحَلِّهِ، وحاملِهِ، ومادَّتِهِ مثلاً بالمِشْكَاةِ، وهيَ الكُوَّةُ في الحائطِ، فَهِيَ مِثْلُ الصدرِ، وفي تلكَ المشكاةِ زجاجةٌ منْ أصفَى الزجاجِ، وحتَّى شُبِّهَتْ بالكوكبِ الدُّرِّيِّ في بَيَاضِهِ وصفائِهِ، وَهِيَ مثلُ القلبِ، وَشُبِّهَتْ بالزجاجةِ؛ لأنَّهَا جَمَعَتْ أوصافاً هيَ في قلبِ المؤمنِ، وهيَ: الصفاءُ، والرِّقَّةُ، والصلابةُ، فَيُرَى الحقُّ والهُدَى بِصَفَائِهِ، وَتَحْصُلُ منهُ الرأفةُ والرحمةُ والشفقةُ بِرِقَّتِهِ، وَيُجَاهِدُ أعداءَ اللهِ تَعَالَى، وَيُغْلِظُ عليهم، وَيَشْتَدُّ في الحقِّ، وَيصْلُبُ فيهِ بصلابتِهِ، ولا تُبْطِلُ صفةٌ منهُ صفةً أُخْرَى، ولا تُعَارِضُهَا، بلْ تُسَاعِدُهَا وَتُعَاضِدُهَا {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]، وقالَ تَعَالَى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمرانَ: 159]، وقالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِي نَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}[التوبة: 73]. وفي أثرٍ: ((القُلُوبُ آنيَةُ اللهِ تَعَالَى في أرضِهِ، فَأَحَبُّهَا إليهِ أَرَقُّهَا وَأَصْلَبُهَا وَأَصْفَاهَا))

وبإزاءِ هذا القلبِ قَلْبَانِ مَذْمُومَانِ في طَرَفَيْ نَقِيضٍ:
- أحدُهُمَا: قَلْبٌ حَجَرِيٌّ قَاسٍ لا رحمةَ فيهِ، ولا إحسانَ ولا بِرَّ، ولا لهُ صفاءٌ يَرَى بهِ الحقَّ، بلْ هوَ جَبَّارٌ جاهلٌ، لا عالِمٌ بالحقِّ، ولا راحمٌ بالخلقِ.
- وبإزائِهِ قَلْبٌ ضعيفٌ مَائِيٌّ، لا قُوَّةَ فيهِ ولا استمساكَ، بلْ يَقْبَلُ كلَّ صورةٍ، وليسَ لهُ قُوَّةُ حفظِ تلكَ الصُّوَرِ، ولا قوَّةُ التأثيرِ في غيرِهِ، وكلُّ ما خَالَطَهُ أَثَّرَ فيهِ منْ قَوِيٍّ وضعيفٍ، وَطَيِّبٍ وخبيثٍ.

وفي الزجاجةِ مِصْبَاحٌ، وهوَ النورُ الذي في الفَتِيلَةِ، وهيَ حَامِلَتُهُ، ولذلكَ النورِ مادَّةٌ، وهوَ زَيْتٌ قدْ عُصِرَ منْ زَيْتُونَةٍ في أعدلِ الأماكنِ تُصِيبُهَا الشمسُ أوَّلَ النهارِ وآخرَهُ، فَزَيْتُهَا منْ أَصْفَى الزيتِ وأبعدِهِ من الكدرِ، حتَّى إنَّهُ لَيَكَادُ منْ صفائِهِ يُضِيءُ بلا نارٍ، فهذهِ مادَّةُ نورِ المصباحِ، وكذلكَ مادَّةُ نُورِ المصباحِ الذي في قَلْبِ المؤمنِ هوَ مِنْ شجرةِ الوَحْيِ التي هيَ أعظمُ الأشياءِ بَرَكَةً، وَأَبْعَدُهَا من الانحرافِ، بلْ هيَ أَوْسَطُ الأمورِ وَأَعْدَلُهَا وأفضلُهَا، لمْ تَنْحَرِف انْحِرَافَ النصرانيَّةِ، ولا انحرافَ اليهوديَّةِ، بلْ هيَ وسطٌ بينَ الطرفَيْنِ المذمومَيْنِ في كلِّ شيءٍ، فهذهِ مادَّةُ مصباحِ الإيمانِ في قلبِ المؤمنِ.

وَلَمَّا كانَ ذلكَ الزيتُ قد اشْتَدَّ صفاؤُهُ حتَّى كادَ أنْ يُضِيءَ بنفسِهِ، ثُمَّ خَالَطَ النارَ فَاشْتَدَّتْ بها إضاءَتُهُ، وَقَوِيَتْ مادَّةُ ضوءِ النارِ بهِ، كانَ ذلكَ نُوراً على نورٍ.

وهكذا المُؤْمِنُ قَلْبُهُ مُضِيءٌ يَكَادُ يَعْرِفُ الحقَّ بفِطْرَتِهِ وعقلِهِ، ولكنْ لا مادَّةَ لهُ منْ نفْسِهِ، فجاءَتْ مادَّةُ الوحيِ، فَبَاشَرَتْ قَلْبَهُ، وَخَالَطَتْ بَشَاشَتَهُ، فازْدَادَ نوراً بالوحيِ على نُورِهِ الذي فَطَرَهُ اللهُ تَعَالَى عليهِ، فَاجْتَمَعَ لهُ نورُ الوحيِ إلى نورِ الفطرةِ، فَصَارَ نوراً على نورٍ، فَيَكَادُ يَنْطِقُ بالحقِّ وإنْ لمْ يَسْمَعْ فيهِ أثراً، ثُمَّ يَسْمَعُ الأثرَ مطابقاً لِمَا شَهِدَتْ بهِ فطرتُهُ، فيكونُ نوراً على نورٍ. فهذا شأنُ المؤمنِ، يُدْرِكُ الحقَّ بفطرتِهِ مُجْمَلاً، ثُمَّ يَسْمَعُ الأثرَ جاءَ بهِ مُفَصَّلاً، فَيَنْشَأُ إيمانُهُ عنْ شهادةِ الوحيِ والفطرةِ.

فَلْيَتَأَمَّل اللبيبُ هذهِ الآيَةَ العظيمةَ، وَمُطَابَقَتَهَ ا لهذهِ المعاني الشريفةِ، فَذَكَرَ سبحانَهُ وتَعَالَى نورَهُ في السَّمَاواتِ والأرضِ، ونورَهُ في قلوبِ عبادِهِ المؤمنينَ؛ النورَ المعقولَ المشهودَ بالبصائرِ، والنورَ الذي اسْتَنَارَتْ بهِ البصائرُ والقلوبُ، والنورَ المحسوسَ المشهودَ بالأبصارِ الذي اسْتَنَارَتْ بهِ أقطارُ العالمِ العلويِّ والسفليِّ، فَهُمَا نُورَانِ عَظِيمَانِ، أَحَدُهُمَا أعظمُ من الآخرِ، وكما أنَّهُ إذا فُقِدَ أَحَدُهُمَا منْ مكانٍ أوْ موضعٍ لمْ يَعِشْ فيهِ آدَمِيٌّ ولا غَيْرُهُ؛ لأنَّ الحيوانَ إِنَّمَا يَتَكَوَّنُ حيثُ النورُ، ومواضِعُ الظلمةِ التي لا يُشْرِقُ عليها نورٌ لا يَعِيشُ فيها حيوانٌ ولا يَتَكَوَّنُ الْبَتَّةَ، فكذلكَ أُمَّةٌ فُقِدَ فيها نورُ الوحيِ والإيمانِ، وقَلْبٌ فُقِدَ منهُ هذا النورُ مَيِّتٌ ولا بُدَّ لا حياةَ لهُ الْبَتَّةَ، كما لا حياةَ للحيوانِ في مكانٍ لا نورَ فيهِ.

واللهُ سبحانَهُ وتَعَالَى يَقْرِنُ بينَ الحياةِ والنورِ، كما في قولِهِ عزَّ وجلَّ: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122]. وكذلكَ قولُهُ عزَّ وجلَّ: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52]. وقدْ قِيلَ: إنَّ الضميرَ في " جَعَلْنَاهُ " عائِدٌ إلى الأمرِ، وقيلَ: إلى الكتابِ، وقيلَ: إلى الإيمانِ. والصوابُ أنَّهُ عائِدٌ إلى الروحِ؛ أيْ: جَعَلْنَا ذلكَ الروحَ الذي أَوْحَيْنَاهُ إليكَ نُوراً، فَسَمَّاهُ رُوحاً لِمَا يَحْصُلُ بهِ من الحياةِ، وَجَعَلَهُ نُوراً لِمَا يَحْصُلُ بهِ من الإشراقِ والإضَاءَةِ، وَهُمَا مُتَلازِمَانِ، فَحَيْثُ وُجِدَتْ هذهِ الحياةُ بهذا الروحِ وُجِدَت الإضاءةُ والاستنارةُ، وحيثُ وُجِدَت الاستنارةُ والإضاءةُ وُجِدَت الحياةُ، فَمَنْ لمْ يَقْبَلْ قَلْبُهُ هذا الروحَ، فهوَ مَيِّتٌ مُظْلِمٌ، كما أنَّ مَنْ فَارَقَ بَدَنَهُ روحُ الحياةِ فهوَ هَالِكٌ مُضْمَحِلٌّ) [المرتبع الأسنى]

محمدعبداللطيف
2020-05-04, 01:17 PM
قال ابن القيم
([اللهُ] سُبْحَانَهُ طَيِّبٌ، وكلامُهُ طَيِّبٌ، وَفِعْلُهُ كلُّهُ طَيِّبٌ، ولا يَصْدُرُ منهُ إلاَّ الطَّيِّبُ، ولا يُضَافُ إليهِ إلاَّ الطَّيِّبُ، ولا يَصْعَدُ إليهِ إلاَّ الطَّيِّبُ، فالطَّيِّبَاتُ لهُ وصفاً وفعلاً وقولاً ونسبةً، وكلُّ طَيِّبٍ مُضَافٌ إليهِ، وكلُّ مُضَافٍ إليهِ طَيِّبٌ، فلهُ الكلماتُ الطيِّبَاتُ والأفعالُ الطيِّبَاتُ، وكلُّ مضافٍ إليهِ كَـ " بَيْتِهِ " و " عَبْدِهِ " و " رُوحِهِ " و " نَاقَتِهِ " و " جَنَّتِهِ "، فهيَ طَيِّبَاتٌ.
وأيضاً فمعاني الكلماتِ الطيِّبَاتِ للهِ وحدَهُ؛ فإنَّ الكلماتِ الطَّيِّبَاتِ تَتَضَمَّنُ تَسْبِيحَهُ وتحميدَهُ وتكبيرَهُ وتمجيدَهُ والثناءَ عليهِ بآلائِهِ وأوصافِهِ، فهذهِ الكلماتُ الطيِّبَاتُ التي يُثْنَى عليهِ بها وَمَعَانِيهَا لهُ وحدَهُ لا يَشْرَكُهُ فيها غيرُهُ، كَسُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وتَعَالَى جَدُّكَ وَلا إِلَهَ غَيْرُكَ، وَنَحْوَ: سُبْحَانَ اللهِ، والحمدُ للهِ، ولا إلهَ إلاَّ اللهُ، واللهُ أكبرُ، ونحوَ: سُبحانَ اللهِ وبحمدِهِ سبحانَ اللهِ العظيمِ.
فكلُّ طَيِّبٍ فَلَهُ وعندَهُ ومنهُ وإليهِ، وهوَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلاَّ طَيِّباً، وهوَ إِلَهُ الطَّيِّبِينَ، وَجِيرَانُهُ في دارِ كرامتِهِ هم الطَّيِّبُونَ.
فتَأَمَّلْ أَطْيَبَ الكلماتِ بعدَ القرآنِ كيفَ لا تَنْبَغِي إلاَّ للهِ، وهيَ: ((سُبْحَانَ اللهِ، والحمدُ للهِ، ولا إلهَ إلاَّ اللهُ، واللهُ أكبرُ، ولا حولَ ولا قُوَّةَ إلاَّ باللهِ)).
فإنَّ (( سُبْحَانَ اللهِ )) تَتَضَمَّنُ تَنْـزِيهَهُ عنْ كلِّ نقصٍ وعَيْبٍ وسُوءٍ، وعنْ خصائصِ المخلوقِينَ وَشَبَهِهِم.
و (( الحَمْدُ للهِ )) تَتَضَمَّنُ إثباتَ كلِّ كمالٍ لهُ قولاً وفعلاً ووصفاً على أتمِّ الوجوهِ وأكملِهَا أَزَلاً وأبداً.
و (( لا إلهَ إلاَّ اللهُ )) تَتَضَمَّنُ انفرادَهُ بالإِلهيَّةِ، وأنَّ كلَّ معبودٍ سواهُ فباطلٌ، وأنَّهُ وحدَهُ الإلهُ الحقُّ، وأنَّهُ مَنْ تَأَلَّهَ غيرَهُ فهوَ بمنـزلةِ مَن اتَّخَذَ بَيْتاً منْ بُيُوتِ العَنْكَبوتِ يَأْوِي إليهِ وَيَسْكُنُهُ.
و (( اللهُ أَكْبَرُ )) تَتَضَمَّنُ أنَّهُ أكبرُ منْ كلِّ شيءٍ وَأَجَلُّ وأعظمُ وأعزُّ وَأَقْوَى وَأَقْدَرُ وأَعْلَمُ وأَحْكَمُ، فهذهِ الكلماتُ الطَّيِّبَاتُ لا تَصْلُحُ هيَ وَمَعَانِيهَا إلاَّ للهِ وحدَهُ)
(فهوَ طَيِّبٌ، وأفعالُهُ طَيِّبَةٌ، وصفاتُهُ أَطْيَبُ شَيْءٍ، وأسماؤُهُ أَطْيَبُ الأسماءِ، واسمُهُ ((الطَّيِّبُ)) لا يَصْدُرُ عنهُ إلاَّ طَيِّبٌ، ولا يَصْعَدُ إليهِ إلاَّ طيِّبٌ، ولا يَقْرُبُ منهُ إلاَّ طيِّبٌ، فكلُّهُ طيِّبٌ، وإليهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطيِّبُ، وَفِعْلُهُ طيِّبٌ، والعملُ الطيِّبُ يَعْرُجُ إليهِ، فالطيِّبَاتُ كُلُّهَا لهُ، ومُضَافةٌ إليهِ، صادرةٌ عنهُ، ومُنْتَهِيَةٌ إليهِ، قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّباً)). وفي حديثِ رُقْيَةِ المريضِ الذي رَوَاهُ أبو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ: ((أَنْتَ رَبُّ الطَّيِّبِينَ)) . ولا يُجَاوِرُهُ مِنْ عبادِهِ إلاَّ الطيِّبُونَ كما يُقَالُ لأهلِ الجنَّةِ: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73)}[الزمر: 73].
وقدْ حَكَّمَ سبحانَهُ شَرْعَهُ وقَدَرَهُ أنَّ الطيِّبَاتِ للطيِّبِينَ، فإذا كانَ هوَ سُبْحَانَهُ الطيِّبَ على الإطلاقِ، فالكلماتُ الطيِّبَاتُ، والأفعالُ الطيِّبَاتُ، والصِّفَاتُ الطيِّبَاتُ، والأسماءُ الطيِّبَاتُ كُلُّهَا لهُ سبحانَهُ لا يَسْتَحِقُّــهَ ا أحدٌ سِوَاهُ، بلْ ما طَابَ شَيْءٌ قَطُّ إلاَّ بِطِيبَتِهِ سبحانَهُ، فَطِيبُ كُلِّ ما سِوَاهُ منْ آثَارِ طِيبَتِهِ). [المرتبع الأسنى]

محمدعبداللطيف
2020-05-04, 01:18 PM
قال ابن القيم م
(ومِنْ أسمائِهِ الحُسْنَى (( العدلُ )) الذي كلُّ أفعالِهِ وأحكامِهِ سدادٌ وصوابٌ وحقٌّ)، ([فهوَ] العدلُ الذي لا يَجُورُ ولا يَظْلِمُ، ولا يَخَافُ عبادُهُ منهُ ظُلْماً. [و] هذا مِمَّا اتَّفَقَتْ عليهِ جميعُ الكتبِ والرُّسُلِ، وهوَ من المُحْكَمِ الذي لا يَجُوزُ أنْ تَأْتِيَ شريعةٌ بخلافِهِ، ولا يُخْبِرُ نَبِيٌّ بخلافِهِ أصلاً)
([قالَ] تَعَالَى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَة ُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمرانَ: 18].
[و] القِسْطُ: هوَ العدلُ، فَشَهِدَ اللهُ سبحانَهُ: أنَّهُ قائمٌ بالعدلِ في توحيدِهِ بالوحدانيَّةِ في عدلِهِ. و (( التوحيدُ )) و (( العدلُ )) هما جِمَاعُ صفاتِ الكمالِ: فإنَّ " التوحيدَ " يَتَضَمَّنُ تَفَرُّدَهُ سبحانَهُ بالكمالِ والجلالِ والمَجْدِ والتعظيمِ الذي لا يَنْبَغِي لأحدٍ سِوَاهُ.
و (( العدْلَ )) يَتَضَمَّنُ وُقُوعَ أفعالِهِ كُلِّهَا على السدادِ والصوابِ وموافقةِ الحكمةِ)
([فـ]العدْلُ يَتَضَمَّنُ وَضْعَهُ الأشياءَ مَوْضِعَهَا، وَتَنْـزِيلَهَا مَنَازِلَهَا، وأنَّهُ لمْ يَخُصَّ شيئاً منها إلاَّ بمُخَصِّصٍ اقْتَضَى ذلكَ، وأنَّهُ لا يُعَاقِبُ مَنْ لا يَسْتَحِقُّ العقوبةَ، ولا يَمْنَعُ مَنْ يَسْتَحِقُّ العطاءَ، وإنْ كانَ هوَ الذي جَعَلَهُ مُسْتَحَقًّا)

(والعدلُ منْ أوصافِهِ في فعلِهِ = ومقالِهِ والحكمُ بالميزانِ
فعلى الصراطِ المستقيمِ إِلَهُنَا = قَوْلاً وفعلاً ذاكَ في القرآنِ)
([فـ]هوَ على الصراطِ المستقيمِ، وهوَ صِرَاطُ العدلِ والإحسانِ في أمرِهِ ونهْيِهِ، وثوابِهِ وعقابِهِ). [المرتبع الأسنى]

محمدعبداللطيف
2020-05-04, 01:19 PM
قال ابن القيم
( (( المجيدُ )) مَن اتَّصَفَ بصفاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ منْ صفاتِ الكمالِ، ولَفْظُهُ يَدُلُّ على هذا؛ فإنَّهُ مَوْضُوعٌ للسَّعَةِ والكثرةِ والزيادةِ؛ ((لأنَّ لَفْظَ " م ج د " في لُغَتِهِم يدُورُ على معنَى الاتِّسَاعِ والكثرةِ، فمنهُ قولُهُم: أَمْجَدَ النَّاقَةَ عَلَفاً؛ أيْ: أَوْسَعَهَا عَلَفاً، ومنهُ: مَجُدَ الرَّجُلُ فهوَ مَاجِدٌ إذا كَثُرَ خَيْرُهُ وإحسانُهُ إلى الناسِ، قالَ الشاعِرُ:



أَنْتَ تَكُونُ مَاجِدٌ نَبِيل = إذا تَهُبُّ شَمْأَلٌ بَلِيلُ


ومنهُ قولُهُم: في كلِّ شَجَرٍ نارٌ، وَاسْتَمْجَدَ المَرْخُ والعَفَارُ؛ أيْ: كَثُرَت النَّارُ فيهما)). ومنهُ: { ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15)} [البروج: 15] صفةٌ للعرشِ لِسَعَتِهِ وعِظَمِهِ وشَرَفِهِ.
وتَأَمَّلْ كيفَ جاءَ هذا الاسمُ مُقْتَرِناً بطلبِ الصلاةِ من اللهِ على رسولِهِ كما عَلَّمَنَاهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنَّهُ في مَقَامِ طَلَبِ المزيدِ والتَّعَرُّضِ لِسَعَةِ العطاءِ وكثرتِهِ ودوامِهِ، فَأَتَى في هذا المطلوبِ باسمٍ تَقْتَضِيهِ كما تقولُ: اغْفِرْ لي وَارْحَمْنِي إنَّكَ أنتَ الغفورُ الرحيمُ، ولا يَحْسُنُ: إنَّكَ أنتَ السميعُ البصيرُ)

(وهوَ المجيدُ صفاتُهُ أوصافُ تعـظيمٍ = فَشَأْنُ الوصفِ أَعْظَمُ شَانِ)

([فـ]المَجْدُ....مستلز م للعظمةِ والسَّعَةِ والجلالِ كما يَدُلُّ عليهِ موضوعُهُ في اللغةِ، فهوَ دالٌّ على صفاتِ العظمةِ والجلالِ) (و…التَّمْجِيدُ هوَ الثناءُ بصفاتِ العظمةِ والجلالِ). [المرتبع الأسنى]

محمدعبداللطيف
2020-05-04, 01:21 PM
قال ابن القيم
(منْ أسمائِهِ (( الشهيدُ )) الذي لا يَغِيبُ عنهُ شيءٌ، ولا يَعْزُبُ عنهُ مثقالُ ذرَّةٍ في الأرضِ ولا في السماءِ، بلْ هوَ مُطَّلِعٌ على كلِّ شيءٍ مُشَاهِدٌ لهُ، عليمٌ بتفاصيلِهِ... بحيثُ لا يَغِيبُ عنهُ وَجْهٌ منْ وُجُوهِ تفاصيلِهِ، ولا ذَرَّةٌ منْ ذَرَّاتِهِ بَاطِناً وظاهراً.

وَمَنْ هذا شَأْنُهُ: كيفَ يَلِيقُ بالعبادِ أنْ يُشْرِكُوا بهِ، وأنْ يَعْبُدُوا معهُ غيرَهُ؟! وأنْ يَجْعَلُوا معهُ إلهاً آخَرَ؟! )

([فَهُوَ] الشاهِدُ الذي لا يَغِيبُ، ولا يَسْتَخْلِفُ أحَداً على تَدْبِيرِ مُلْكِهِ، ولا يَحْتَاجُ إلى مَنْ يَرْفَعُ إليهِ حوائجَ عبادِهِ، أوْ يُعَاوِنُهُ عليها، أوْ يَسْتَعْطِفُهُ عليهم، وَيَسْتَرْحِمُه ُ لهمْ). [المرتبع الأ]

محمدعبداللطيف
2020-05-04, 01:22 PM
قال ابن القيم : ( الحَسِيبُ )
( (( الحَسْبُ )) الكافِي)، (قالَ اللهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]؛ أيْ: كَافِيهِ)
(وقالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)} [الأنفال: 64]؛ أي: اللهُ وَحْدَهُ كَافِيكَ وَكَافِي أَتْبَاعِكَ، فلا تَحْتَاجُونَ معهُ إلى أحدٍ)

(وهوَ الحسيبُ كفايَةً وحمايَةً = والحَسْبُ كافِي العبدِ كلَّ أَوَانِ)
(يا مَنْ يُرِيدُ ولايَةَ الرحمنِ دُو = نَ ولايَةِ الشيطانِ والأوثانِ
فَارِقْ جَمِيعَ الناسِ في إشرَاكِهِم = حتَّى تَنَالَ ولايَةَ الرحمنِ
يَكْفِيكَ مَنْ وَسِعَ الخلائقَ رَحْمَةً = وكفايَةً ذُو الفضلِ والإحسانِ
يَكْفِيكَ مَنْ لمْ تَخْلُ منْ إِحْسَانِهِ = في طرفةٍ بِتَقَلُّبِ الأجفانِ
يَكْفِيكَ رَبٌّ لم تَزَلْ أَلْطَافُهُ = تَأْتِي إليكَ برحمةٍ وحنانِ
يَكْفِيكَ رَبٌّ لمْ تَزَلْ في ستْرِهِ = وَيَرَاكَ حينَ تَجِيءُ بالعصيانِ
يَكْفِيكَ رَبٌّ لم تَزَلْ في حِفْظِهِ = ووقايَةٍ منهُ مَدَى الأزمانِ
يَكْفِيكَ رَبٌّ لم تَزَلْ في فَضْلِهِ = مُتَقَلِّباً في السرِّ والإعلانِ
يَدْعُوهُ أهلُ الأرضِ معْ أهلِ السَّمَا = ءِ فكُلُّ يومٍ رَبُّنَا في شانِ) [المرتبع الأسنى]

محمدعبداللطيف
2020-05-04, 01:23 PM
قال ابن القيم
(وهوَ القَريبُ وَقُرْبُهُ المُخْتَصُّ بِالدَّ = اعِي وَعابدِهِ عَلَى الإيمَانِ

([فـَ]قُرْبُ الربِّ تَعَالَى إِنَّمَا وَرَدَ خاصًّا لا عَامًّا، وهوَ نَوْعَانِ:
- قُرْبُهُ منْ داعِيهِ بالإجابةِ.
- ومِنْ مُطِيعِهِ بالإثابةِ.
ولمْ يَجِئ القُرْبُ كما جَاءَت المَعِيَّةُ خَاصَّةً وعامَّةً، فليسَ في القرآنِ ولا في السُّنَّةِ أنَّ اللهَ قَرِيبٌ منْ كلِّ أحدٍ، وأنَّهُ قريبٌ من الكافرِ والفاجرِ، وإنَّمَا جاءَ خاصًّا كقولِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة: 186]، فهذا قُرْبُهُ منْ داعِيهِ وسائِلِيهِ.

وقالَ تَعَالَى: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)} [الأعراف: 56]، ولم يَقُلْ: قَرِيبةٌ، وَإِنَّمَا كَانَ الخبرُ عنها مُذَكَّراً:
· إمَّا لأنَّ " فَعِيلاً " بينَهُ وبينَ " فَعُولٍ " اشْتِرَاكٌ منْ وُجُوهٍ: منها الوزنُ والعددُ والزيادةُ والمبالغةُ، وكونُ كلٍّ منهما يَكُونُ مَعْدُولاً عنْ فاعلٍ تارةً، وعنْ مفعولٍ أُخْرَى، وَمَجِيئُهُمَا صِفَتَيْنِ وَاسْمَيْنِ، و " فعولٌ " إذا كانَ مَعْدُولاً عنْ فاعلٍ اسْتَوَى مُذَكَّرُهُ ومُؤَنَّثُهُ في عدمِ إِلْحَاقِ التاءِ؛ كامرأةٍ نَؤُومٍ وَضَحُوكٍ، فَحَمَلُوا فَعِيلاً عليهِ في بعضِ المواضعِ لعقدِ الأُخُوَّةِ التي بَيْنَهُمَا.
وإمَّا لأنَّ قريباً مَعْدُولٌ عنْ مفعولٍ في المعنَى، كَأَنَّهَا قُرِّبَتْ منهم وَأُدْنِيَتْ، وهمْ يُرَاعُونَ اللفظَ تارةً والمعنى أُخْرَى...
وإمَّا على حَذْفِ مضافٍ يكونُ " قريبٌ " خبراً عنهُ، تقديرُهُ: مكانُ رحمةِ اللهِ أوْ تَنَاوُلُهَا ونحوُ ذلكَ قريبٌ.
وإمَّا على تقديرِ مَوْصُوفٍ محذوفٍ يكونُ " قريبٌ " صفةً لهُ، تقديرُهُ: أَمْرٌ أوْ شيءٌ قريبٌ؛ كقولِ الشاعرِ:

قَامَتْ تُبَكَّيهِ على قَبْرِهِ = مَنْ لِيَ مِنْ بَعْدِكَ يا عَامِرُ
تَرَكْتَنِي في الدارِ ذا غُرْبَةٍ = قدْ ذَلَّ مَنْ ليسَ لهُ نَاصِرُ

أيْ: شَخْصاً ذا غُرْبَةٍ. وعلى هذا حَمَلَ سِيبَوَيْهِ " حَائِضاً " و " طَالِقاً " و " طَامِثاً " ونحْوَهَا.
وإمَّا على اكتسابِ المضافِ حُكْمَ المضافِ إليهِ، نحوَ: ذَهَبَتْ بَعْضُ أصابعِهِ، وَتَوَاضَعَتْ سُورُ المدينةِ وبابُهُ.
وإمَّا مِن الاستغناءِ بأحدِ المذكورَيْنِ عن الآخرِ والدلالةِ بالمذكورِ على المحذوفِ، والأصلُ: إنَّ اللهَ قَرِيبٌ من المحسنِينَ، ورحمتَهُ قريبةٌ منهم، فيكونُ قدْ أَخْبَرَ عنْ قُرْبِ ذاتِهِ وقُرْبِ ثوابِهِ من المحسنِينَ، واكْتَفَى بالخبرِ عنْ أَحَدِهِمَا عن الآخرِ، وقريبٌ منهُ: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62]، {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34]. وَمِثْلُهُ على أحدِ الوُجُوهِ: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً} الآيَةَ [الشعراء: 4]؛ أيْ: فَذَلُّوا لها خَاضِعِينَ، فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُم لها خَاضِعَةً.
وإمَّا لأنَّ القريبَ يُرَادُ بهِ شيئانِ:
أحدُهُمَا: النَّسَبُ والقرابةُ، فهذا يُؤَنَّثُ، تقولُ: هذهِ قريبةٌ لي وقَرَابَةٌ.
والثاني: قُرْبُ المكانِ والمنـزلةِ. وهذا يُجَرَّدُ عن التاءِ، تقولُ: جَلَسَتْ فلانةُ قَرِيباً مِنِّي. هذا في الظرفِ، ثُمَّ أَجْرَوا الصفةَ مُجْرَاهُ للأُخُوَّةِ التي بَيْنَهُمَا، حيثُ لمْ يُرَدْ بكلِّ واحدٍ منهما نَسَبٌ ولا قرابةٌ، وإنَّمَا أُرِيدَ قربُ المكانةِ والمنـزلةِ
وإمَّا لأنَّ تأنيثَ الرحمةِ لَمَّا كانَ غيرَ حَقِيقِيٍّ سَاغَ حذفُ التاءِ منْ صفتِهِ وخبرِهِ كما سَاغَ حَذْفُهَا من الفعلِ، نحوَ: طَلَعَ الشمسُ.
وإمَّا لأنَّ قَرِيباً مصدرٌ لا وَصْفٌ كالنقيضِ والعويلِ والوجيبِ مُجَرَّدٍ عن التاءِ؛ لأنَّكَ إذا أَخْبَرْتَ عن المُؤَنَّثِ بالمصدرِ لمْ تَلْحَقْهُ التاءُ، كما تَقُولُ: امْرَأَةٌ عَدْلٌ، وصَوْمٌ ونَوْمٌ.

والذي عندي أنَّ الرحمةَ لَمَّا كانتْ منْ صفاتِ اللهِ تَعَالَى، وصفاتُهُ قائمةٌ بذاتِهِ، فإذا كانتْ قَرِيبَةً من المحسنينَ، فهوَ قريبٌ سبحانَهُ منهم قَطْعاً، وقدْ بَيَّنَّا أنَّهُ سبحانَهُ قريبٌ منْ أهلِ الإحسانِ، ومنْ أهلِ سُؤَالِهِ بإجابتِهِ.

وَيُوَضِّحُ ذلكَ أنَّ الإحسانَ يَقْتَضِي قُرْبَ العبدِ منْ ربِّهِ، فَيُقَرِّبُ ربَّهُ منهُ... فإنَّهُ مَنْ تَقَرَّبَ منهُ شِبْراً يَتَقَرَّبُ منهُ ذِرَاعاً، ومَنْ تَقَرَّبَ منهُ ذِرَاعاً تَقَرَّبَ منهُ بَاعاً، فهوَ قريبٌ من المُحْسِنِينَ بذاتِهِ ورحمتِهِ قُرْباً ليسَ لهُ نظيرٌ، وهوَ معَ ذلكَ فَوْقَ سَمَاواتِهِ على عرشِهِ، كما أنَّهُ سبحانَهُ يَقْرُبُ منْ عبادِهِ في آخرِ الليلِ وهوَ فَوْقَ عرشِهِ، وَيَدْنُو منْ أهلِ عَرَفَةَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ, وهوَ على عرشِهِ، فإنَّ عُلُوَّهُ سبحانَهُ على سَمَاواتِهِ منْ لَوَازِمِ ذاتِهِ، فلا يكونُ قطُّ إلاَّ عَالِياً، ولا يكونُ فَوْقَهُ شيءٌ الْبَتَّةَ، كما قالَ أعلمُ الخلقِ: ((وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ)) وهوَ سبحانَهُ قريبٌ في عُلُوِّهِ، عالٍ في قُرْبِهِ، كما في الحديثِ الصحيحِ عنْ أبي مُوسَى الأشعريِّ قالَ: كُنَّا معَ رسولِ اللهِ في سَفَرٍ فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُنَا بالتكبيرِ، فقالَ: ((أَيُّهَا النَّاسُ، ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ؛ فَإِنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلا غَائِباً، إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ، أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ))

فَأَخْبَرَ وهوَ أَعْلَمُ الخلقِ بهِ أنَّهُ أقربُ إلى أحدِهِم منْ عُنُقِ راحلتِهِ، وَأَخْبَرَ أنَّهُ فوقَ سَمَاواتِهِ على عَرْشِهِ مُطَّلِعٌ على خلقِهِ، يَرَى أَعْمَالَهُم، وَيَعْلَمُ ما في بُطُونِهِم، وهذا حَقٌّ لا يُنَاقِضُ أَحَدُهُمَا الآخرَ.

والذي يُسَهِّلُ عليكَ فَهْمَ هذا: مَعْرِفَةُ عظمةِ الربِّ وإحاطتِهِ بخلقِهِ، وأنَّ السَّمَاواتِ السبعَ في يَدِهِ كَخَرْدَلَةٍ في يَدِ العبدِ، وأنَّهُ سبحانَهُ يَقْبِضُ السَّمَاواتِ بيدِهِ والأرضَ بيدِهِ الأُخْرَى، ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ.
فكيفَ يَسْتَحِيلُ في حقِّ مَنْ هذا بعضُ عَظَمَتِهِ أنْ يكونَ فوقَ عرشِهِ، وَيقْرُبَ منْ خلقِهِ كيفَ شَاءَ وهوَ على العرشِ) [المرتبع الأسنى]

محمدعبداللطيف
2020-05-04, 01:54 PM
قال ابن القيم
(وكذلكَ التوَّابُ منْ أوصافِهِ = والـتَّوْبُ في أوصافِهِ نَوْعَانِ
إِذْنٌ بتوبةِ عبدِهِ وَقَبُـولُهَـا = بعدَ المَتَابِ بِمِنَّـةِ المنـَّـانِ

([فـ]توبةُ العبدِ إلى اللهِ محفوفةٌ بتوبةٍ من اللهِ عليهِ قَبْلَهَا، وتوبةٍ منهُ بعدَهَا، فتوبتُهُ بينَ تَوْبَتَيْنِ منْ ربِّهِ: سابقةٍ ولاحقةٍ؛ فإنَّهُ تَابَ عليهِ أَوَّلاً إِذْناً وَتَوْفِيقاً وَإِلْهَاماً فتابَ العبدُ؛ فَتَابَ اللهُ عليهِ ثانياً قَبُولاً وإثابةً.
قالَ اللهُ سبحانَهُ وتَعَالَى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِي نَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)} [التوبة: 117-118]. فَأَخْبَرَ سبحانَهُ أنَّ تَوْبَتَهُ عليهم سَبَقَتْ تَوْبَتَهُم، وأنَّهَا هيَ التي جَعَلَتْهُم تَائِبِينَ. فكانتْ سَبَباً مُقْتَضِياً لِتَوْبَتِهِم، فَدَلَّ على أنَّهُم ما تَابُوا حتَّى تَابَ اللهُ تَعَالَى عليهم، والحكمُ يَنْتَفِي لانتفاءِ عِلَّتِهِ.

وَنَظِيرُ هذا: هِدَايَتُهُ لِعَبْدِهِ قبلَ الاهتداءِ، فَيَهْتَدِي بهدايتِهِ، فَتُوجِبُ لهُ تلكَ الهدايَةُ هدايَةً أُخْرَى يُثِيبُهُ اللهُ بها هدايَةً على هدايتِهِ، فإنَّ مِنْ ثوابِ الهُدَى: الهُدَى بعدَهُ، كما أنَّ منْ عُقُوبةِ الضلالةِ: الضلالةَ بَعْدَهَا. قالَ اللهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [محمَّد: 17]. فَهَدَاهُم أَوَّلاً فَاهْتَدَوْا، فَزَادَهُم هُدًى ثانياً. وَعَكْسُهُ في أهلِ الزَّيْغِ، كقولِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}[الصف: 5]. فهذهِ الإزاغةُ الثانيَةُ عُقُوبَةٌ لهم على زَيْغِهِم.

وهذا القدرُ منْ سرِّ اسْمَيْهِ (( الأوَّلِ والآخرِ )) فهوَ المُعِدُّ وهوَ المُمِدُّ، ومنهُ السَّبَبُ والمُسَبَّبُ، وهوَ الذي يُعِيذُ منْ نفسِهِ بنفسِهِ، كما قالَ أَعْرَفُ الخلقِ بهِ: ((وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ)).

والعبدُ تَوَّابٌ، واللهُ تَوَّابٌ، فتوبةُ العبدِ: رُجُوعُهُ إلى سَيِّدِهِ بعدَ الإِبَاقِ، وتوبةُ اللهِ نَوْعَانِ: إِذْنٌ وَتَوْفِيقٌ، وَقَبُولٌ وإمدادٌ). [المرتبع الأسنى]

محمدعبداللطيف
2020-05-04, 01:58 PM
قال ابن القيم
( (( الوَاجِدُ )) في أسمائِهِ سبحانَهُ... بمعنَى: ذُو الوُجدِ والغِنَى، وهوَ ضِدُّ الفاقِدِ، وهوَ كالمُوسِعِ ذِي السَّعَةِ، قالَ تَعَالَى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47)} [الذاريات: 47]؛ أيْ: ذَوُو سَعَةٍ وقدرةٍ وملكٍ، كما قالَ تَعَالَى: {ومتعوهنَّ على الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236].

وَدَخَلَ في أسمائِهِ سبحانَهُ (( الواجِدُ )) دونَ " المُوجِدِ "؛ فإنَّ (( المُوجِدَ )) صفةُ فِعْلٍ، وهوَ مُعْطِي الوجودِ؛ كالمْحُيْيِ مُعْطِي الحياةِ، وهذا الفعلُ لمْ يَجِئْ إطلاقُهُ في أفعالِ اللهِ في الكتابِ ولا في السُّنَّةِ، فلا يُعْرَفُ إطلاقُ: أَوْجَدَ اللهُ كذا وكذا. وَإِنَّمَا الذي جَاءَ: خَلَقَهُ وَبَرَأَهُ وَصَوَّرَهُ وَأَعْطَاهُ خَلْقَهُ، ونحوُ ذلكَ.

فَلَمَّا لمْ يَكُنْ يُسْتَعْمَلُ فِعْلُهُ لمْ يَجِئ اسمُ الفاعلِ منهُ في أسمائِهِ الحُسْنَى؛ فإنَّ الفعلَ أَوْسَعُ من الاسمِ، ولهذا أَطْلَقَ اللهُ على نفسِهِ أَفْعَالاً لمْ يَتَسَمَّ منها بأسماءِ الفاعلِ، كَأَرَادَ، وَشَاءَ، وَأَحْدَثَ. ولمْ يُسَمَّ " بالمُرِيدِ " و " الشَّائِي " و " المُحْدِثِ "، كَمَا لمْ يُسَمِّ نَفْسَهُ " بالصَّانِعِ " و " الفاعِلِ " و " المُتْقِنِ " وغيرِ ذلكَ من الأسماءِ التي أَطْلَقَ على نفسِهِ [أَفْعَالَهَا]، فبابُ الأفعالِ أَوْسَعُ منْ بابِ الأسماءِ.

وقدْ أَخْطَأَ أَقْبَحَ خَطَإٍ مَن اشْتَقَّ لهُ منْ كلِّ فِعْلٍ اسْماً، وبَلَغَ بأسمائِهِ زيادةً على الأَلْفِ، فَسَمَّاهُ " المَاكِرَ، والمُخَادِعَ، والفَاتِنَ، والكَائِدَ "، ونحوَ ذلكَ.

وكذلكَ بابُ الإخبارِ عنهُ بالاسمِ أَوْسَعُ منْ تَسْمِيَتِهِ بهِ، فإنَّهُ يُخْبَرُ عنهُ بأنَّهُ " شَيْءٌ وَمَوْجُودٌ، وَمَذْكُورٌ، وَمَعْلُومٌ، وَمُرَادٌ "، لا يُسَمَّى بذلكَ.

فأمَّا (( الواجِدُ )) فلمْ تَجِئْ تَسْمِيَتُهُ بهِ إلاَّ في حديثِ تَعْدَادِ الأسماءِ الحُسْنَى ([1]). والصحيحُ: أنَّهُ ليسَ منْ كلامِ النبيِّ، ومعناهُ صحيحٌ؛ فإنَّهُ ذو الوُجْدِ والغِنَى، فهوَ أَوْلَى بأنْ يُسَمَّى بهِ من (( الموجودِ )) ومن (( المُوجِدِ ))، أمَّا (( المَوْجُودُ )) فَإِنَّهُ مُنْقَسِمٌ إلى كاملٍ وناقصٍ، وخيرٍ وشرٍّ، وما كانَ مُسَمَّاهُ مُنْقَسِماً لمْ يَدْخُل اسْمُهُ في الأسماءِ الحُسْنَى، كالشيءِ والمعلومِ، ولذلكَ لمْ يُسَمَّ بالمُرِيدِ، ولا بالمُتَكَلِّمِ وإنْ كانَ لهُ الإرادةُ والكلامُ، لانْقِسَامِ مُسَمَّى (( المُرِيدِ )) و (( المُتَكَلِّمِ )). وأمَّا (( المُوجِدُ )) فقدْ سَمَّى نَفْسَهُ بأكملِ أنواعِهِ، وهوَ (الخالِقُ، البارِئُ، المُصَوِّرُ)، فالمُوجِدُ كالمُحْدِثِ والفاعلِ والصانعِ، وهذا مِنْ دقيقِ فِقْهِ الأسماءِ الحُسْنَى، فتَأَمَّلْهُ. وباللهِ التوفيقُ) [المرتبع الأسنى]

محمدعبداللطيف
2020-05-04, 02:01 PM
قال ابن القيم ...
(أمَّا تَسْمِيَتُهُ سبحانَهُ بـ (( الشكورِ )) فهوَ في حديثِ أبي هُرَيْرَةَ ([1])، وفي القرآنِ تَسْمِيَتُهُ ((شَاكِراً))، قالَ اللهُ تَعَالَى: {وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)} [النساء: 147]. وَتَسْمِيَتُهُ أيضاً (( شكورٌ )) قالَ اللهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17)} [التغَابُن: 17]. ((وقالَ أهلُ الجنَّةِ: {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)} [فاطر: 34]، فهذا الشُّكْرُ … هوَ وَصْفُهُ سُبْحَانَهُ))

وقالَ تَعَالَى: {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)} [الإنسان: 22]. فَجَمَعَ لهم سُبْحَانَهُ بينَ الأمرَيْنِ: أنْ شَكَرَ سَعْيَهُم، وَأَثَابَهُم عليهِ، واللهُ تَعَالَى يَشْكُرُ عبدَهُ إذا أَحْسَنَ طاعَتَهُ، وَيَغْفِرُ لهُ إذا تَابَ عليهِ، فَيَجْمَعُ للعبدِ بينَ شُكْرِهِ لإحسانِهِ ومغفرتِهِ لإساءتِهِ، إنَّهُ غفورٌ شكورٌ)

(وهوَ الشَّكورُ فَلَنْ يُضَيِّعَ سَعْيَهُم = لكنْ يُضَـاعِفُهُ بلا حُسْبَانِ
مَا للعبادِ عليهِ حقٌّ وَاجِبٌ = هوَ أَوْجَبَ الأجْرَ العظيمَ الشانِ
كَلاَّ ولا عَمَلٌ لَدَيْهِ ضَائـِـعٌ = إنْ كانَ بالإخلاصِ والإحسانِ
إِنْ عُذِّبُوا فَبِعَدْلِهِ أوْ نُعِّمُوا = فبِفَضْلِهِ " والحمدُ للمنَّانِ([4]))

(فـ]اللهُ تَعَالَى شكورٌ إذا رَضِيَ من العبدِ عملاً منْ أعمالِهِ نَجَّاهُ، وأَسْعَدَهُ بهِ وَثَمَّرَهُ لهُ وَبَارَكَ لهُ فيهِ، وَأَوْصَلَهُ بهِ إليهِ، وَأَدْخَلَهُ بهِ عليهِ، ولمْ يَقْطَعْهُ بهِ عنهُ)([5]).

(فهوَ أَوْلَى بصفةِ الشكرِ منْ كلِّ شكورٍ، بلْ هوَ الشكورُ على الحقيقةِ، فإنَّهُ يُعْطِي العبدَ وَيُوَفِّقُهُ لِمَا يَشْكُرُهُ عَلَيْهِ، ويَشْكُرُ القليلَ من العملِ والعطاءِ، فلا يَسْتَقِلُّهُ أنْ يَشْكُرَهُ، وَيَشكُرُ الحسنةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إلى أضعافٍ مُضَاعَفَةٍ، وَيَشْكُرُ عَبْدَهُ:
بقولِهِ: بأنْ يُثْنِيَ عليهِ بينَ ملائكتِهِ وفي مَلأِهِ الأَعْلَى، وَيُلْقِيَ لهُ الشُّكْرَ بينَ عبادِهِ.
وَيَشْكُرُهُ بفعلِهِ: فإذا تَرَكَ لهُ شيئاً أَعْطَاهُ أَفْضَلَ منهُ، وإذا بَذَلَ لهُ شَيْئاً رَدَّهُ عليهِ أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً، وهوَ الذي وَفَّقَهُ للتَّرْكِ والبَذْلِ, وشُكْرُهُ على هذا وذاكَ.

وَلَمَّا عَقَرَ نَبِيُّهُ سُلَيْمَانُ الخيلَ غضباً لهُ؛ إذْ شَغَلَتْهُ عنْ ذِكْرِهِ، فَأَرَادَ ألاَّ تَشْغَلَهُ مَرَّةً أُخْرَى أَعَاضَهُ عنها متنَ الريحِ، ولَمَّا تَرَكَ الصحابةُ ديارَهُم وَخَرَجُوا منها في مَرْضَاتِهِ، أَعَاضَهُم عنها أنْ مَلَّكَهُم الدُّنْيا وَفَتَحَهَا عليهم.

ولَمَّا احْتَمَلَ يُوسُفُ الصدِّيقُ ضِيقَ السجنِ شَكَرَ لهُ ذلكَ بأنْ مَكَّنَ لهُ في الأرضِ يَتَبَوَّأُ منها حيثُ يَشَاءُ، ولَمَّا بَذَلَ الشهداءُ أَبْدَانَهُم لهُ حَتَّى مَزَّقَهَا أعداؤُهُ شَكَرَ لهم بأنْ أَعَاضَهُم منها طَيْراً خُضْراً أَقَرَّ أَرْوَاحَهُم فيها تَرِدُ أنهارَ الجنَّةِ وتأكلُ منْ ثمارِهَا إلى يومِ البعثِ، فَيَرُدُّهَا عليهم أَكْمَلَ ما تكونُ وأجملَهُ وأَبْهَاهُ، ولَمَّا بَذَلَ رُسُلُهُ أَعْرَاضَهُم فيهِ لأَعْدَائِهِم فَنَالُوا منهم وَسَبُّوهُم، أَعَاضَهُم منْ ذلكَ بأنْ صَلَّى عليهم هوَ وملائكتُهُ، وَجَعَلَ لهم أَطْيَبَ الثناءِ في سماواتِهِ وبينَ خلقِهِ، فَأَخْلَصَهُم بخالصةٍ ذِكْرَى الدارِ.

ومِنْ شُكْرِهِ سبحانَهُ: أنَّهُ يُجَازِي عَدُوَّهُ بما يَفْعَلُهُ من الخيرِ والمعروفِ في الدنيا، وَيُخَفِّفُ بهِ عنهُ يومَ القيامةِ، فلا يُضَيِّعُ عليهِ ما يَعْمَلُهُ من الإحسانِ وهوَ منْ أَبْغَضِ خَلْقِهِ إليهِ.

ومِنْ شُكْرِهِ أنَّهُ غَفَرَ للمرأةِ البَغِيِّ بِسَقْيِهَا كَلْباً كانَ قدْ جَهَدَهُ العطشُ حتَّى أَكَلَ الثَّرَى، وَغَفَرَ لآخرَ بِتَنْحِيَتِهِ غُصْنَ شوكٍ عنْ طريقِ المسلمينَ.

فهوَ سبحانَهُ يَشْكُرُ العبدَ على إحسانِهِ لنفسِهِ، والمخلوقُ إنَّمَا يَشْكُرُ مَنْ أَحْسَنَ إليهِ. وَأَبْلَغُ منْ ذلكَ أنَّهُ سبحانَهُ هوَ الذي أَعْطَى العبدَ ما يُحْسِنُ بهِ إلى نفسِهِ، وَشَكَرَهُ على قليلِهِ بالأضعافِ المضاعفةِ التي لا نِسْبَةَ لإحسانِ العبدِ إليها، فهوَ المُحْسِنُ بإعطاءِ الإحسانِ وإعطاءِ الشكرِ، فَمَنْ أَحَقُّ باسمِ (( الشكورِ )) منهُ سُبْحَانَهُ؟!!
وتَأَمَّلْ قولَهُ سبحانَهُ: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)} [النساء: 147]، كيفَ تَجِدُ في ضِمْنِ هذا الخطابِ أنَّ شُكْرَهُ تَعَالَى يَأْبَى تَعْذِيبَ عبادِهِ بغيرِ جُرْمٍ كما يَأْبَى إضاعةَ سَعْيِهِم باطلاً، فالشكورُ لا يُضِيعُ أَجْرَ مُحْسِنٍ، ولا يُعَذِّبُ غيرَ مُسِيءٍ.

وفي هذا رَدٌّ لقولِ مَنْ زَعَمَ أنَّهُ سبحانَهُ يُكَلِّفُهُ ما لا يُطِيقُهُ، ثُمَّ يُعَذِّبُهُ على ما لا يَدْخُلُ تحتَ قُدْرَتِهِ، تَعَالَى اللهُ عنْ هذا الظنِّ الكاذبِ والحِسبانِ الباطلِ عُلُوًّا كبيراً، فَشُكْرُهُ سبحانَهُ اقْتَضَى أنْ لا يُعَذِّبَ المؤمنَ الشكورَ، ولا يُضَيِّعَ عَمَلَهُ، وذلكَ منْ لوازمِ هذهِ الصفةِ، فهوَ مُنَـزَّهٌ عنْ خلافِ ذلكَ كما يُنَـزَّهُ عنْ سائرِ العيوبِ والنقائصِ التي تُنَافِي كمالَهُ وغِنَاهُ وحمدَهُ.

ومِنْ شُكْرِهِ سبحانَهُ أَنَّهُ يُخْرِجُ العبدَ من النارِ بِأَدْنَى مثقالِ ذرَّةٍ منْ خيرٍ، ولا يُضِيعُ عليهِ هذا القدرَ. ومِنْ شُكْرِهِ سبحانَهُ أنَّ العبدَ منْ عبادِهِ يَقُومُ لهُ مَقَاماً يُرْضِيهِ بينَ الناسِ، فَيَشْكُرُهُ لهُ، وَيُنَوِّهُ بذكرِهِ، وَيُخْبِرُ بهِ ملائكتَهُ وعبادَهُ المؤمنينَ، كما شَكَرَ لمُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ ذلكَ المقامَ، وَأَثْنَى بهِ عليهِ، وَنَوَّهَ بذكرِهِ بينَ عبادِهِ، وكذلكَ شَكَرَ لصاحبِ يس مَقَامَهُ وَدَعْوَتَهُ إليهِ، فلا يَهْلِكُ عليهِ بينَ شُكْرِهِ ومغفرتِهِ إلاَّ هَالِكٌ، فإنَّهُ سبحانَهُ غفورٌ شكورٌ، يَغْفِرُ الكثيرَ من الزَّلَلِ، ويَشْكُرُ القليلَ من العملِ.

وَلَمَّا كانَ سُبْحَانَهُ هوَ الشكورَ على الحقيقةِ كانَ أحبُّ خَلْقِهِ إليهِ مَن اتَّصَفَ بصفةِ الشكرِ، كما أنَّ أبغضَ خلقِهِ إليهِ مَنْ عَطَّلَهَا وَاتَّصَفَ بِضِدِّهَا. وهذا شَأْنُ أَسْمَائِهِ الحُسْنَى أَحَبُّ خَلْقِهِ إليهِ مَن اتَّصَفَ بِمُوجَبِهَا، وَأَبْغَضُهُم إليهِ مَن اتَّصَفَ بِأَضْدَادِهَا، ولهذا يُبْغِضُ الكفورَ والظالمَ والجاهلَ والقاسِيَ القلبِ والبخيلَ والجبانَ والمهينَ واللئيمَ، وهوَ سبحانَهُ جميلٌ يُحِبُّ الجمالَ، عليمٌ يُحِبُّ العلماءَ، رَحِيمٌ يُحِبُّ الراحمِينَ، مُحْسِنٌ يُحِبُّ المحسنِينَ، شَكُورٌ يُحِبُّ الشاكِرِينَ، صَبُورٌ يُحِبُّ الصابِرِينَ، جَوَادٌ يُحِبُّ أَهْلَ الجودِ، سَتَّارٌ يُحِبُّ أَهْلَ السترِ، قادِرٌ يَلُومُ على العجزِ، والمؤمنُ القَوِيُّ أَحَبُّ إليهِ من المؤمنِ الضعيفِ، عَفُوٌّ يُحِبُّ العفوَ، وِتْرٌ يـُحِبُّ الـوِتْرَ، وَكُـلُّ ما يُحِبُّهُ فهوَ منْ آثارِ أسمائِهِ وصفاتِهِ وموجَبِهَا، وكلُّ ما يُبْغِضُهُ فهوَ ممَّا يُضَادُّهَا وَيُنَافِيهَا)[المرتبع الأسنى]

محمدعبداللطيف
2020-05-04, 02:03 PM
قال ابن القيم ...... ( (الصَّبُورُ):
(أمَّا الصبرُ فقدْ أَطْلَقَهُ عليهِ أَعْرَفُ الخلقِ بهِ وأعظمُهُم تَنْـزِيهاً لهُ بصيغةِ المبالغةِ، ففي الصحيحَيْنِ منْ حديثِ الأعمشِ: عنْ سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، عنْ أبي عبدِ الرحمنِ السُّلَمِيِّ، عنْ أبي مُوسَى، عن النبيِّ قالَ: ((مَا أَحَدٌ أَصْبَرَ عَلَى أَذًى سَمِعَه مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، يَدَّعُونَ لَهُ وَلَداً وَهُوَ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ))

وفي أسمائِهِ الحُسْنَى: (( الصَّبُورُ ))، وهوَ منْ أمثلةِ المبالغةِ، أَبْلَغُ من الصابرِ والصبَّارِ، وَصَبْرُهُ تَعَالَى يُفَارِقُ صبرَ المخلوقِ ولا يُمَاثِلُهُ منْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ:
منها: أنَّهُ على قدرةٍ تَامَّةٍ.
ومنها: أنَّهُ لا يَخَافُ الغَوْثَ، والعبدُ إِنَّمَا يَسْتَعْجِلُ لِخَوْفِ الغوثِ.
ومنها: أنَّهُ لا يَلْحَقُهُ بِصَبْرِهِ أَلَمٌ ولا حزنٌ ولا نقصٌ بوجهٍ ما.
وظهورُ أثرِ هذا الاسمِ في العالمِ مشهودٌ بالعِيانِ كظهورِ اسمِهِ الحليمِ. والفرقُ بينَ الصبرِ والحِلمِ أنَّ الصبرَ ثمرةُ الحلمِ ومُوجَبُهُ، فعلى قدرِ حِلْمِ العبدِ يكونُ صَبْرُهُ.

فالحِلْمُ في صفاتِ الربِّ تَعَالَى أَوْسَعُ من الصبرِ، ولهذا جاءَ اسمُهُ الحليمُ في القرآنِ في غيرِ موضعٍ، وَلِسَعَتِهِ يَقْرِنُهُ سبحانَهُ باسمِ العليمِ كقولِهِ: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51)} [الأحزاب: 51]، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)} [النساء: 12].

وفي أثرٍ: إِنَّ حَمَلَةَ الْعَرْشِ أَرْبَعَةٌ: اثْنَانِ يَقُولانِ: ((سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، لَكَ الْحَمْدُ عَلَى حِلْمِكَ بَعْدَ عِلْمِكَ)). وَاثْنَانِ يَقُولانِ: ((سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، لَكَ الحَمْدُ عَلَى عَفْوِكَ بَعْدَ قُدْرَتِكَ)).

فإنَّ المخلوقَ يَحْلُمُ عنْ جهلٍ، وَيَعْفُو عنْ عَجْزٍ، والربُّ تَعَالَى يَحْلُمُ معَ كمالِ علمِهِ، وَيَعْفُو معَ تمامِ قُدرتِهِ، وما أُضِيفَ شيءٌ إلى شيءٍ أَزْيَنَ منْ حلمٍ إلى علمٍ، ومنْ عفوٍ إلى اقْتِدَارٍ، ولهذا كانَ في دُعَاءِ الكربِ وصفُهُ سبحانَهُ بالحلمِ معَ العظمةِ، وكونُهُ حَلِيماً منْ لَوَازِمِ ذاتِهِ سبحانَهُ.

وأمَّا صَبْرُهُ سبحانَهُ فَمُتَعَلِّقٌ بكُفْرِ العبادِ وشركِهِم، وَمَسَبَّتِهِم لهُ سبحانَهُ، وأنواعِ معاصِيهِم وَفُجُورِهِم، فلا يُزْعِجُهُ ذلكَ كلُّهُ إلى تعجيلِ العقوبةِ، بلْ يَصْبِرُ على عبدِهِ وَيُمْهِلُهُ وَيَسْتَصْلِحُه ُ وَيَرْفُقُ بهِ وَيَحْلُمُ عليهِ، حتَّى إذا لمْ يَبْقَ فيهِ موضعٌ للصنيعةِ، ولا يَصْلُحُ على الإمهالِ والرفقِ والحِلْمِ ولا يُنِيبُ إلى رَبِّهِ وَيَدْخُلُ عليهِ، لا مِنْ بابِ الإحسانِ والنِّعَمِ، ولا منْ بابِ البلاءِ والنِّقَمِ، أَخَذَهُ أَخْذَ عزيزٍ مُقْتَدِرٍ بعدَ غايَةِ الإعذارِ إليهِ وَبَذْلِ النصيحةِ لهُ ودُعَائِهِ إليهِ منْ كلِّ بابٍ، وهذا كُلُّهُ منْ مُوجباتِ صفةِ حِلْمِهِ، وهيَ صفةٌ ذاتيَّهٌ لهُ لا تَزُولُ.

وأمَّا الصبرُ فإذا زَالَ مُتَعَلَّقُهُ كَانَ كسائرِ الأفعالِ التي تُوجَدُ بوجودِ الحكمةِ وتَزُولُ بزوالِهَا، فتَأَمَّلْهُ؛ فَإِنَّهُ فَرْقٌ لطيفٌ ما عَثَرَت الحُذَّاقُ بعُشْرِهِ، وَقَلَّ مَنْ تَنَبَّهَ لهُ وَنَبَّهَ عليهِ.

وَأُشْكِلَ على كثيرٍ منهم هذا الاسمُ، وقالُوا: لمْ يَأْتِ في القرآنِ، فَأَعْرَضُوا عن الاشتغالِ بهِ صَفْحاً، ثُمَّ اشْتَغَلُوا بالكلامِ في صبرِ العبدِ وأقسامِهِ.

ولوْ أنَّهُم أَعْطَوْا هذا الاسمَ حَقَّهُ لَعَلِمُوا أنَّ الربَّ تَعَالَى أَحَقُّ بهِ منْ جميعِ الخلقِ، كما هوَ أحقُّ باسمِ العليمِ والرحيمِ والقديرِ والسميعِ والبصيرِ والحيِّ وسائرِ أسمائِهِ الحُسْنَى من المخلوقِينَ، وأنَّ التَّفَاوُتَ الذي بينَ صبرِهِ سبحانَهُ وصبرِهِم كالتفاوتِ الذي بينَ حياتِهِ وحياتِهِم، وعلمِهِ وعلمِهِم، وسمعِهِ وأسماعِهِم، وكذا سائرُ صفاتِهِ.

ولَمَّا عَلِمَ ذلكَ أَعْرَفُ خَلْقِهِ بهِ قالَ: ((لا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللهِ)). فَعِلْمُ أربابِ البصائرِ بصبرِهِ سبحانَهُ كَعِلْمِهِم برحمتِهِ وعفوِهِ وسَترِهِ، معَ أنَّهُ صَبْرٌ مَعَ كمالِ علمٍ وقدرةٍ وعظمةٍ وعِزَّةٍ، وهوَ صَبْرٌ منْ أعظمِ مَصْبُورٍ عليهِ؛ فإنَّ مُقَابَلَةَ أعظمِ العظماءِ ومَلِكِ المُلُوكِ وأكرمِ الأكرمِينَ ومَنْ إحسانُهُ فوقَ كلِّ إحسانٍ بغايَةِ القبحِ وأعظمِ الفجورِ وأفحشِ الفواحشِ، ونسبتِهِ إلى كلِّ ما لا يَلِيقُ بهِ، والقدحِ في كمالِهِ وأسمائِهِ وصفاتِهِ، والإلحادِ في آياتِهِ وتكذيبِ رُسُلِهِ عليهم السلامُ، وَمُقَابَلَتِهِ م بالسبِّ والشتمِ والأَذَى، وَتَحْرِيقِ أَوْلِيَائِهِ وَقَتْلِهِم وَإِهَانَتِهِم: أمرٌ لا يَصْبِرُ عليهِ إلاَّ (( الصبورُ )) الذي لا أَحَدَ أَصْبَرُ منهُ، ولا نِسْبَةَ لصبرِ جميعِ الخلقِ منْ أَوَّلِهِم إلى آخرِهِم إلى صبرِهِ سبحانَهُ.

وإذا أَرَدْتَ معرفةَ صَبْرِ الربِّ تَعَالَى وَحِلْمِهِ والفرقِ بَيْنَهُمَا فتَأَمَّلْ قولَهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)} [فاطر: 41]. وقولَهُ: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91)} [مريم: 88 –91].
وقولَهُ: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)} [إبراهيم: 46]، على قراءةِ مَنْ فَتَحَ اللامَ.

فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أنَّ حِلْمَهُ وَمَغْفِرَتَهُ يَمْنَعَانِ زوالَ السَّمَاواتِ والأرضِ، فالحِلمُ وَإِمْسَاكُهُمَ ا أنْ تَزُولا هوَ الصبرُ، فَبِحِلْمِهِ صَبَرَ عنْ مُعاجلةِ أعدائِهِ.

وفي الآيَةِ إشعارٌ بأنَّ السَّمَاواتِ والأرضَ تَهِمُّ وَتَسْتَأْذِنُ بالزوالِ لِعِظَمِ ما يَأْتِي بهِ العِبَادُ، فَيُمْسِكُهَا بِحِلْمِهِ ومغفرتِهِ، وذلكَ حبسُ عُقُوبَتِهِ عنهم، وهوَ حقيقةُ صبرِهِ تَعَالَى.
فالذي عنهُ الإمساكُ هوَ صفةُ الحلمِ، والإمساكُ هوَ الصبرُ، وهوَ حبسُ العقوبةِ، ففَرْقٌ بينَ حَبْسِ العقوبةِ وبينَ ما صَدَرَ عنهُ حَبْسُهَا. فتَأَمَّلْهُ.
وفي مُسندِ الإمامِ أحمدَ مرفوعاً: ((مَا مِنْ يَوْمٍ إِلاَّ وَالبَحْرُ يَسْتَأْذِنُ رَبَّهُ أَنْ يُغْرِقَ بَنِي آدَمَ)). وهذا مُقْتَضَى الطبيعةِ؛ لأنَّ كَرَّةَ الماءِ تَعْلُو كرَّةَ الترابِ بالطبعِ، ولكنَّ اللهَ يُمْسِكُهُ بقُدْرَتِهِ وحلمِهِ وصبرِهِ.

وكذلكَ خُرُورُ الجبالِ وَتَفْطِيرُ السَّمَاواتِ، الربُّ تَعَالَى يَحْبِسُهَا عنْ ذلكَ بصبرِهِ وحلمِهِ، فإنَّ ما يَأْتِي بهِ الكفَّارُ والمشركونَ والفجَّارُ في مقابلةِ العظمةِ والجلالِ والإكرامِ يَقْتَضِي ذلكَ.
فَجَعَلَ سبحانَهُ في مقابلةِ هذهِ الأسبابِ أَسْبَاباً يُحِبُّهَا وَيَرْضَاهَا وَيَفْرَحُ بها أكملَ فَرَحٍ وَأَتَمَّهُ، تُقَابِلُ تلكَ الأسبابَ التي هيَ سَبَبُ زَوَالِ العالمِ وخرابِهِ، فَدَفَعَتْ تلكَ الأسبابَ وَقَاوَمَتْهَا.
وكانَ هذا منْ آثارِ مُدافعةِ رحمتِهِ لغضبِهِ وغَلَبَتِهَا لهُ وَسَبْقِهَا إيَّاهُ، فَغَلَبَ أثرُ الرحمةِ أثرَ الغضبِ كما غَلَبَت الرحمةُ الغضبَ، ولهذا اسْتَعَاذَ النبيُّ بصفةِ الرِّضَا منْ صفةِ السَّخَطِ، وبفعلِ المعافاةِ منْ فعلِ العقوبةِ، ثُمَّ جَمَعَ الأمرَيْنِ في الذاتِ إِذْ هُمَا قَائِمَانِ بها، فقالَ: ((أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَأَعُوذُ بِعَفْوِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ))

فإنَّ ما يُسْتَعَاذُ بهِ هوَ صَادِرٌ عنْ مَشِيئَتِهِ وَخَلْقِهِ بإذنِهِ وقضائِهِ، فهوَ الذي أَذِنَ في وقوعِ الأسبابِ التي يُسْتَعَاذُ منها خَلْقاً وَكَوْناً، فمنهُ السَّبَبُ والمُسَبَّبُ، وهوَ الذي حَرَّكَ الأنفسَ والأبدانَ وَأَعْطَاهَا قُوَى التأثيرِ، وهوَ الذي أَوْجَدَهَا وَأَعَدَّهَا وَأَمَدَّهَا وَسَلَّطَهَا على ما شاءَ، وهوَ الذي يُمْسِكُهَا إذا شاءَ وَيَحُولُ بينَهَا وبينَ قُوَاهَا وَتَأْثِيرِهَا.

فتَأَمَّلْ ما تحتَ قولِهِ: ((أَعُوذُ بِكَ مِنْكَ)) مِنْ مَحْضِ التوحيدِ وقَطْعِ الالتفاتِ إلى غيرِهِ، وَتَكْمِيلِ التَّوَكُّلِ عليهِ تَعَالَى والاستعانةِ بهِ وحدَهُ، وَإِفْرَادِهِ بالخوفِ والرجاءِ ودَفْعِ الضرِّ وجلبِ الخيرِ، وهوَ الذي يَمَسُّ بالضرِّ بمشيئتِهِ، وهوَ الذي يَدْفَعُهُ بِمَشِيئَتِهِ، وهوَ المستعاذُ بمشيئتِهِ منْ مشيئتِهِ، وهوَ المُعِيذُ منْ فعلِهِ بفعلِهِ، وهوَ الذي سُبْحَانَهُ خَلَقَ ما يَصْبِرُ عليهِ وما يَرْضَى بهِ، فإذا أَغْضَبَهُ مَعَاصِي الخلقِ بِكُفْرِهِم وَشِرْكِهِم وَظُلْمِهِم أَرْضَاهُ تَسْبِيحُ ملائكتِهِ وعبادِهِ المؤمنينَ لهُ وَحَمْدُهُم إيَّاهُ، وَطَاعَتُهُم لهُ، فَيُعِيذُ رِضَاهُ منْ غضبِهِ.

قالَ عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: ليسَ عندَ رَبِّكُم ليلٌ ولا نهارٌ، نورُ السَّمَاواتِ والأرضِ منْ نُورِ وجهِهِ، وإنَّ مِقْدَارَ يَوْمٍ منْ أيَّامِكُم عندَهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَاعَةً، فَتُعْرَضُ عليهِ أعمالُكُم بالأمسِ أوَّلَ النهارِ الْيَوْمَ، فَيَنْظُرُ فيها ثلاثَ ساعاتٍ فَيَطَّلِعُ منها على ما يَكْرَهُ فَيُغْضِبُهُ ذلكَ، فَأَوَّلُ ما يَعْلَمُ بِغَضَبِهِ حَمَلَةُ العرشِ يَجِدُونَهُ يَثْقُلُ عليهم، تُسَبِّحُهُ حملةُ العرشِ وَسُرَادقَاتُ العرشِ والملائكةُ المُقَرَّبُونَ وسائرُ الملائكةِ، حتَّى يَنْفُخَ جبريلُ في القَرْنِ فلا يَبْقَى شيءٌ إلاَّ يَسْمَعُ، فَيُسَبِّحُونَ الرحمنَ ثلاثَ ساعاتٍ حتَّى يَمْتَلِئَ الرحمنُ رحمةً، فتلكَ سِتُّ سَاعَاتٍ، قالَ: ثُمَّ يُؤْتَى بالأرحامِ فَيَنْظُرُ فيها ثلاثَ ساعاتٍ، فذلكَ قولُهُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} [آل عمرانَ: 6]، و {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} [الشورى: 49 – 50]. فتلكَ تِسْعُ ساعاتٍ، ثُمَّ يُؤْتَى بالأرزاقِ، فَيَنْظُرُ فيها ثلاثَ ساعاتٍ، فذلكَ قولـُهُ: {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الرعد: 26]، وقولُهُ: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)} [الرحمن: 29]. قالَ: هذا شَأْنُكُمْ وَشَأْنُ رَبِّكُمْ ".
رَوَاهُ أبو القاسمِ الطَّبَرَانِيُّ في السُّنَّةِ، وعثمانُ بنُ سعيدٍ الدَّارِمِيُّ، وشيخُ الإسلامِ الأنصاريُّ، وابنُ مَنْدَهْ، وابنُ خُزَيْمَةَ وغيرُهُم.

وَلَمَّا ذَكَرَ سبحانَهُ في سورةِ الأنعامِ أعداءَهُ وكُفْرَهُم وشِرْكَهُم وَتَكْذِيبَ رُسُلِهِ ذَكَرَ في أثرِ ذلكَ شأنَ خليلِهِ إبراهيمَ، وما أَرَاهُ منْ مَلَكُوتِ السَّمَاواتِ والأرضِ، وما حَاجَّ بهِ قومَهُ في إظهارِ دينِ اللهِ وتوحيدِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ الأنبياءَ منْ ذُرِّيَّتِهِ، وأنَّهُ هَدَاهُم وآتَاهُم الكتابَ والحُكْمَ والنُّبُوَّةَ، ثُمَّ قالَ: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89)} [الأنعام: 89]. فَأَخْبَرَ أنَّهُ سبحانَهُ كما جَعَلَ في الأرضِ مَنْ يَكْفُرُ بهِ وَيَجْحَدُ تَوْحِيدَهُ وَيُكَذِّبُ رُسُلَهُ كذلكَ جَعَلَ فيها منْ عبادِهِ مَنْ يُؤْمِنُ بما كَفَرَ بهِ أولئكَ وَيُصَدِّقُ بما كَذَّبُوا بهِ، وَيَحْفَظُ منْ حُرُماتِهِ ما أَضَاعُوهُ.

وبهذا تَمَاسَكَ العالَمُ العلويُّ والسفليُّ، وإلاَّ فَلَو اتَّبَعَ الحقُّ أهواءَ أعدائِهِ لَفَسَدَت السَّمَاواتُ والأرضُ ومَنْ فيهِنَّ وَلَخَرِبَ العالمُ، ولهذا جَعَلَ سبحانَهُ منْ أسبابِ خرابِ العالمِ رَفْعَ الأسبابِ المُمْسِكَةِ لهُ من الأرضِ، وهِيَ كلامُهُ وَبَيْتُهُ ودِينُهُ والقائمونَ بهِ، فلا يَبْقَى لتلكَ الأسبابِ المقتضيَةِ لخرابِ العالمِ أسبابٌ تُقَاوِمُهَا وَتُمَانِعُهَا.

وَلَمَّا كانَ اسمُ الحليمِ أَدْخَلَ في الأوصافِ، واسمُ الصبورِ في الأفعالِ، كانَ الحِلْمُ أَصْلَ الصبرِ؛ فَوَقَعَ الاستغناءُ بِذِكْرِهِ في القرآنِ عن اسمِ " الصبورِ " .[المرتبع الأسنى]

محمدعبداللطيف
2020-05-04, 02:10 PM
- الخالق، الخلاق، البارئ، المصوِّر
قال تعالى: هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الحشر: 24].
قال الخطابي: (-الخالق- هو المبدع للخلق المخترع له على غير مثال سابق، قال سبحانه: هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ [فاطر: 3]. فأما في نعوت الآدميين فمعنى الخلق: التقدير كقوله عز وجل: أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ [آل عمران: 49] (1) اهـ.
والخلاق: من أفعال المبالغة من الخالق تدل على كثرة خلق الله تعالى وإيجاده، فكم يحصل في اللحظة الواحدة من بلايين المخلوقات التي هي أثر من آثار اسمه سبحانه الخلاق: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ [الحجر: 86].
واسمه سبحانه (الخالق والخلاق) مما أقرت به جميع الأمم مؤمنهم وكافرهم، وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في معرض رده على من قال: أن اسم (الخالق) يثبت له سبحانه مجازاً.
(إنه ليس في المعلومات أظهر من كون الله: (خالقاً)، ولهذا أقرت به جميع الأمم – مؤمنهم وكافرهم – ولظهور ذلك؛ وكون العلم به بديهياً فطرياً؛ احتج الله به على من أشرك به في عبادته فقال: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزمر: 38]، في غير موضع من كتابه.
فعلم أن كونه سبحانه (خالقاً): من أظهر شيء عند العقول، فكيف يكون الخبر عنه بذلك مجازاً؛ وهو أصل كل حقيقة، فجميع الحقائق تنتهي إلى خلقه وإيجاده، فهو الذي خلق وهو الذي علم، كما قال تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق: 1-5].
فجميع الموجودات انتهت إلى خلقه وتعليمه، فكيف يكون كونه خالقاً عالماً مجازاً؟ وإذا كان كونه خالقاً عالماً مجازاً: لم يبق له فعل حقيقة ولا اسم حقيقة، فصارت أفعاله كلها مجازات، وأسماؤه الحسنى كلها مجازات... إلى قوله: فإن جميع أهل الإسلام متفقون على أن الله خالق حقيقة لا مجازاً، بل وعباد الأصنام وجميع الملل) (2) .
وقد ذكر رحمه الله تعالى اسمه سبحانه (الخلاق) في نونيته حيث قال:

(وكذاك يشهد أنه سبحانه


الخلاق باعث هذه الأبدان) (3)



(4)
(الباري) أي المنشئ للأعيان من العدم إلى الوجود والبرء هو الفري وهو التنفيذ وإبراز ما قدره وقرره إلى الوجود, وليس كل من قدر شيئا ورتبه يقدر على تنفيذه وإيجاده سوى الله عز وجل كما قيل: ولأنت تفري ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يفري أي أنت تنفذ ما خلقت أي قدرت بخلاف غيرك فإنه لا يستطيع كل ما يريد فالخلق التقدير, والفري التنفيذ.
(المصور) الممثل للمخلوقات بالعلامات التي يتميز بعضها عن بعض, أي الذي ينفذ ما يريد إيجاده على الصفة التي يريدها, يقال هذه صورة الأمر أو مثاله فأولا يكون خلقا ثم برءا ثم تصويرا, وهذه الثلاثة الأسماء التي في سورة الحشر في خاتمتها هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى [الحشر:24] قال ابن كثير رحمه الله تعالى: أي الذي إذا أراد شيئا قال له كن فيكون على الصفة التي يريد والصورة التي يختار كقوله تعالى: فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ [الانفطار:8] (5


https://www.dorar.net/aqadia/556/-%D8%A7%D9%84%D8%AE (https://www.dorar.net/aqadia/556/-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D8%A7%D9%84 %D9%82%D8%8C-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%84%D8%A7 %D9%82%D8%8C-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%A7%D8%B1 %D8%A6%D8%8C-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B5%D9%88 %D8%B1)

محمدعبداللطيف
2020-05-04, 02:13 PM
السبوح
قال تعالى: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [الجمعة: 1]
وكان صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده: ((سبوح قدوس، رب الملائكة والروح)) (1) .
قال في اللسان: (قال أبو إسحاق الزجاج: (السبوح): الذي ينزه عن كل سوء) (2) (وقال ابن فارس والزبيدي وغيرهما: (سبوح) هو الله - عز وجل – فالمراد بالسبوح القدوس: المسبح المقدس، فكأنه قال: مسبح مقدس رب الملائكة والروح، ومعنى سبوح: المبرأ من النقائص والشريك، وكل ما لا يليق بالإلهية) (3) .
والسبوح: هو الذي يسبحه، ويقدسه، وينزهه كل من في السماوات والأرض، كما قال تبارك وتعالى: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [الجمعة: 1]، ويقول سبحانه: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [الإسراء: 44] (4) .
قال في تهذيب اللغة: (-سبحان- في اللغة تنزيه الله عز وجل عن السوء.
قلت: وهذا قول سيبويه فقال: سبحت الله تسبيحاً وسبحاناً بمعنى واحد فالمصدر تسبيح، والاسم سبحانه يقوم مقام المصدر. قال سيبويه: وقال أبو الخطاب الكبير: سبحان الله كقولك: براءة الله من السوء، كأنه قال: أبرئ الله من السوء، قلت: ومعنى تنزيه الله من السوء: تبعيده منه وكذلك تسبيحه: تبعيده من قولك: سبحت في الأرض. إذا أبعدت فيها... وجماع معناه بعده – تبارك وتعالى – عن أن يكون له مثل أو شريك أو ضد أو ند)https://www.dorar.net/aqadia/572/-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%A8%D9%88 %D8%AD

محمدعبداللطيف
2020-05-04, 02:15 PM
الرزاق، الرازق قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ الذاريات: 58.
والرزاق والرازق اسمان من أسماء الله الحسنى، وهما مشتقان من مادة الرزق، والرزق هو كل ما ينتفع به.
والرزق رزقان: رزق الأجسام بالأطعمة ونحوها، ورزق الأرواح بالعلوم والمعارف وهو أشرف الرزقين لأن ثمرته باقية وبه حياة الأبد، ورزق الأبدان إلى مدة قريبة الأمد.



وكذلك الرزاق من أسمائه
والرزق من أفعاله نوعان


رزق على يد عبده ورسوله
نوعان أيضاً ذان معروفان


رزق القلوب العلم والإيمان والـ
رزق المعد لهذه الأبدان


هذا هو الرزق الحلال وربنا
رزاقه والفضل للمنان


والثاني سوق القوت للأعضاء في
تلك المجاري سوقه بوزان


هذا يكون من الحلال كما يكون
من الحرام كلاهما رزقان


والرب رزاقه بهذا الاعتبـ
ـار وليس بالإطلاق دون بيان


(2)
فرزق الله لعباده نوعان: عام وخاص:
[فالعام إيصاله لجميع الخليقة جميع ما تحتاجه في معاشها وقيامها، فسهل لها الأرزاق، ودبرها في أجسامها، وساق إلى كل عضو صغير وكبير ما يحتاجه من القوت، وهذا عام للبر والفاجر والمسلم والكافر، بل للآدميين والجن والملائكة والحيوانات كلها. وعام أيضًا من وجه آخر في حق المكلفين، فإنه قد يكون من الحلال الذي لا تبعة على العبد فيه، وقد يكون من الحرام ويسمى رزقًا ونعمة بهذا الاعتبار، ويقال (رزقه الله) سواء ارتزق من حلال أو حرام وهو مطلق الرزق.
وأما الرزق المطلق فهو النوع الثاني، وهو الرزق الخاص، وهو الرزق النافع المستمر نفعه في الدنيا والآخرة، وهو الذي على يد الرسول صلى الله عليه وسلم: رزق القلوب بالعلم والإيمان وحقائق ذلك، فإن القلوب مفتقرة غاية الافتقار إلى أن تكون عالمة بالحق مريدة له متألهة لله متعبدة، وبذلك يحصل غناها ويزول فقرها. ورزق البدن بالرزق الحلال الذي لا تبعة فيه، فإن الرزق الذي خص به المؤمنين والذي يسألونه منه شامل للأمرين] (3)

قال الشاعر:


يا خالق الرزق للعباد وللو
حش وللطير أنت رزاق


فكل شيء إليك متجه
وكل قلب إليك مشتاق


وأعظم الرزق نور معرفة
له وراء الضلوع إشراق



وقد ورد اسم (الرزاق) مرة واحدة في القرآن الكريم في سورة الذاريات. في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ الذاريات: 58.
أما (الرازق) فقد ورد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله هو المسعِّر، القابض، الباسط، الرازق...))https://www.dorar.net/aqadia/566/-: (https://www.dorar.net/aqadia/566/-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%B2%D8%A7 %D9%82%D8%8C-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A7%D8%B2 %D9%82)

محمدعبداللطيف
2020-05-04, 02:16 PM
الحيي، الستير
قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله عز وجل حليم، حيي ستير يحب الحياء والستر فإذا اغتسل أحدكم فليستتر)) (1) وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله حيي يستحي من عبده إذا مدَّ يديه إليه أن يردهما صفراً)) (2)
قال السعدي رحمه الله: وهذا من رحمته، وكرمه، وكماله، وحلمه أن العبد يجاهره بالمعاصي مع فقره الشديد إليه، حتى أنه لا يمكنه أن يعصي إلا أن يتقوى عليها بنعم ربه، والرب مع كمال غناه عن الخلق كلهم من كرمه يستحيي من هتكه وفضيحته وإحلال العقوبة به، فيستره بما يقيِّض له من أسباب الستر، ويعفو عنه ويغفر له، فهو يتحبب إلى عباده بالنعم وهم يتبغّضون إليه بالمعاصي، خيره إليهم بعدد اللحظات وشرهم إليه صاعد، ولا يزال الملك الكريم يصعد إليه منهم بالمعاصي وكل قبيح ويستحيي تعالى ممن شاب في الإسلام أن يعذبه وممن يمد يديه إليه أن يردهما صفراً، ويدعو عباده إلى دعائه ويعدهم بالإجابة وهو الحيي الستِّير يحب أهل الحياء والستر، ومن ستر مسلماً ستر الله عليه في الدنيا والآخرة، ولهذا يكره من عبده إذا فعل معصية أن يذيعها، بل يتوب إليه فيما بينه وبينه ولا يظهرها للناس، وإن من أمقت الناس إليه من بات عاصياً والله يستره، فيصبح يكشف ستر الله عليه، وقال تعالى:إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [النور:19] وهذا كله من معنى اسمه (الحليم) الذي وسع حلمه أهل الكفر والفسوق والعصيان، ومنع عقوبته أن تحل بأهل الظلم عاجلاً، فهو يمهلهم ليتوبوا، ولا يهملهم إذا أصروا واستمروا في طغيانهم ولم ينيبواhttps://www.dorar.net/aqadia/554/-%D8%A7%D9%84 (https://www.dorar.net/aqadia/554/-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%8A%D9%8A %D8%8C-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%AA%D9%8A %D8%B1)

محمدعبداللطيف
2020-05-04, 02:17 PM
البر
قال تعالى: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ [الطور: 25-28]
اسم الله البر، فهو فاعل البرِّ (بالكسر)، والبر: هو الإحسان والاتساع والصلة والخير، وقيل: البر هو خير الدنيا والآخرة.
فهو سبحانه بر بعباده أي يحسن إليهم، ويوسع عليهم بالخير، ويعطف عليهم، ولا يقطع الإحسان بسبب العصيان.
قال الراغب الأصفهاني: (البر التوسع في فعل الخير، وينسب ذلك إلى الله تارة نحو، إنه هو البر الرحيم: وإلى العبد تارة فيقال: بر العبد به أي توسع في طاعته فمن الله تعالى الثواب ومن العبد الطاعة...) (1) .
فالله عز وجل هو البر بعباده أي العطوف عليهم، المحسن إليهم، عم بره جميع خلقه، فلم يبخل عليهم برزقه – وهو البر بالمحسن في مضاعفة الثواب له، والبر بالمسيء في الصفح والتجاوز عنه.
وقد ورد هذا الاسم مرة واحدة في القرآن الكريم في سورة الطور.https://www.dorar.net (https://www.dorar.net/aqadia/528/-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B1)

محمدعبداللطيف
2020-05-04, 02:18 PM
الوهاب
قال تعالى: رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران: 8].
قال ابن جرير في تفسير قوله إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ [ص: 35] يعني إنك أنت المعطي عبادك التوفيق والسداد للثبات على دينك وتصديق كتابك ورسلك.
وقال: الوهاب لمن يشاء من خلقه، ما يشاء من ملك وسلطان ونبوة.
وقال: إنك وهاب ما تشاء لمن تشاء، بيدك خزائن كل شيء تفتح من ذلك ما أردت لمن أردت (1) .
وقال الخطابي: الوهاب هو الذي يجود بالعطاء عن ظهر يد من غير استثابة (2) أي من غير طلب للثواب من أحد.
وقال الحليمي: (الوهاب) وهو: المتفضل بالعطايا المنعم بها لا عن استحقاق عليه (3) .
وقال النسفي: الوهاب الكثير المواهب المصيب بها مواقعها الذي يقسمها على ما تقتضيه حكمته (4) :
وقال ابن القيم في (النونية):

وكذلك الوهاب من أسمائه


فانظر مواهبه مدى الأزمان


أهل السموات العلى والأرض عن


تلك المواهب ليس ينفكان


https://www.dorar.net/aqadia/530/ (https://www.dorar.net/aqadia/530/-%D8%A7%D9%84%D9%88%D9%87%D8%A7 %D8%A8)

محمدعبداللطيف
2020-05-04, 02:20 PM
الشافي
عن عائشة رضي الله عنها قالت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أتى مريضاً أو أتي به إليه، قال: ((أذهب الباس رب الناس، اشف وأنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سقماً)) (1) .
والشافي سبحانه هو الذي يرفع البأس والعلل، ويشفي العليل بالأسباب والأمل، فقد يبرأ الداء مع انعدام الدواء، وقد يشفي الداء بلزوم الدواء، ويرتب عليه أسباب الشفاء، وكلاهما باعتبار قدرة الله سواء، فهو الشافي الذي خلق أسباب الشفاء ورتب النتائج على أسبابها والمعلولات على عللها فيشفي بها وبغيرها، لأن حصول الشفاء عنده يحكمه قضاؤه وقدره، فالأسباب سواء ترابط فيها المعلول بعلته أو انفصل عنها هي من خلق الله وتقديره ومشيئته وتدبيره، والأخذ بها لازم علينا من قبل الحكيم سبحانه لإظهار الحكمة في الشرائع والأحكام وتمييز الحلال والحرام وظهور التوحيد والإسلام.
فالله عز وجل متصف بالقدرة والحكمة، ومن أسمائه القدير الحكيم، فبالقدرة خلق الأشياء وأوجدها وهداها وسيرها وانفرد بذلك دون شريك وهذا توحيد الربوبية، وبالحكمة رتب الأسباب ونتائجها وابتلانا بها وعلق عليها الشرائع والأحكام تحقيقاً لتوحيد العبودية.
وإنما مثل الأسباب كمثل الآلة بيد الصانع فكما لا يقال: السيف ضرب العنق، ولا السوط ضرب العبد، وإنما يقال: السياف ضرب العنق، وفلان ضرب فلاناً بالسوط، فكذلك لا يقال شفاني الدواء أو الطبيب لأنها أسباب وعلل، والعلل والأسقام كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: ((طبيبها الذي خلقها)) (2) .
فهو سبحانه القادر على الفاعل بلطائف القدرة وخفايا المشيئة، ولذلك قال إبراهيم عليه السلام: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء: 80].
وقد وحد الغلام ربه في اسمه الشافي لما قال له الوزير في قصة أصحاب الأخدود: ((ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني، فقال: إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله، فإن أنت آمنت بالله دعوت الله فشفاك، فآمن بالله فشفاه الله)) (3) (4) .
والله عز وجل هو الشافي الذي يشفي النفوس من أسقامها كما يشفي الأبدان من أمراضها، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِين َ [يونس: 57].
وقد ذكر ابن القيم أن القلب متى اتصل برب العالمين خالق الداء والدواء ومدبر الطب ومصرفه على ما يشاء كانت له أدوية أخرى غير الأدوية التي يعانيها القلب البعيد منه المعرض عنه، فإذا قويت النفس بإيمانها وفرحت بقربها من بارئها وأنسها به وحبها له وتنعمها بذكره وانصراف قواها كلها إليه وجمع أمورها عليه واستعانتها به وتوكلها عليه فإن ذلك يكون لها من أكبر الأدوية في دفع الألم بالكلية https://www.dorar.ne (https://www.dorar.net/aqadia/580/-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%A7%D9%81 %D9%8A)t

محمدعبداللطيف
2020-05-04, 02:23 PM
الهادي
قال تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [الحج: 54].
وقوله تعالى: وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا [الفرقان: 31].
قال ابن جرير: وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [الحج: 54] وإن الله لمرشد الذين آمنوا بالله ورسوله على الحق القاصد، والحق الواضح (1) .
وقال في قوله تعالى: وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا [الفرقان: 31]: يقول تعالى ذكره لنبيه: وكفاك يا محمد بربك هادياً يهديك إلى الحق، ويبصرك الرشد (2) .
وقال الزجاج: (الهادي) هو الذي هدى خلقه إلى معرفته وربوبيته، وهو الذي هدى عباده إلى صراطه المستقيم، كما قال تعالى: وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [يونس: 25] (3) .
وقال الزجاجي تلميذه: الله عز وجل (الهادي) يهدي عباده إليه، ويدلهم عليه، وعلى سبيل الخير والأعمال المقربة منه عز وجل (4) .
وقال الخطابي: (الهادي) هو الذي مَنَّ بهداه على من أراد من عباده فخصه بهدايته، وأكرمه بنور بتوحيده كقوله تعالى: وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [يونس: 25].
وهو الذي هدى سائر الخلق من الحيوان إلى مصالحها، وألهمها كيف تطلب الرزق، وكيف تتقي المضار والمهالك كقوله تعالى: الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه: 50] (5) .
وقال الحليمي: (الهادي) وهو الدال على سبيل النجاة والمبين لها لئلا يزيغ العبد ويضل فيقع فيما يرديه ويهلكه (6) .
وقال البيهقي: هو الذي بهدايته اهتدى أهل ولايته، وبهدايته اهتدى الحيوان لما يصلحه، واتقى ما يضره (7) .
وقال السعدي: (الهادي) أي الذي يهدي ويرشد عباده إلى جميع المنافع وإلى دفع المضار، ويعلمهم مالا يعلمون، ويهديهم لهداية التوفيق والتسديد، ويلهمهم التقوى، ويجعل قلوبهم منيبة، إليه منقادة لأمره
(https://www.dorar.net/aqadia/642/-%D8%A7%D9%84%D9%87%D8%A7%D8%AF %D9%8A)https://www.dorar.net (https://www.dorar.net/aqadia/642/-%D8%A7%D9%84%D9%87%D8%A7%D8%AF %D9%8A)
(https://www.dorar.net/aqadia/642/-%D8%A7%D9%84%D9%87%D8%A7%D8%AF %D9%8A)

محمدعبداللطيف
2020-05-04, 02:24 PM
https://www.dorar.net/aqadia (https://www.dorar.net/aqadia/523/%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A8%D8%AD %D8%AB-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A7%D8%A8 %D8%B9:-%D8%B4%D8%B1%D8%AD-%D8%A3%D8%B3%D9%85%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B3%D9%86 %D9%89)

محمدعبداللطيف
2020-05-04, 02:34 PM
وقال السعدي: (الهادي) أي الذي يهدي ويرشد عباده إلى جميع المنافع وإلى دفع المضار، ويعلمهم مالا يعلمون، ويهديهم لهداية التوفيق والتسديد، ويلهمهم التقوى، ويجعل قلوبهم منيبة، إليه منقادة لأمره
(https://www.dorar.net/aqadia/642/-%D8%A7%D9%84%D9%87%D8%A7%D8%AF %D9%8A)
(https://www.dorar.net/aqadia/642/-%D8%A7%D9%84%D9%87%D8%A7%D8%AF %D9%8A)نعم

قال ابن القيم
"اعلم أن أنواعَ الهداية أربعة:
الهداية العامة المشتركة بين الخلق
في قوله تعالى: { الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } [طه: 50]
أي: أعطى كل شيء صورتهُ التي لا يشتبه فيه بغيره، وأعطى كل عضو شكلهُ وهيئته، وأعطى كل شيء موجودٍ خلْقهُ المختصَّ به،
ثم هداه إلى ما خلَقهُ له من الأعمال.
وهذه هدايةُ الحيوان المتحرِّك بإرادته إلى جلب ما ينفعُه ودفع ما يضرُّه، وهداية الجَمَادِ المسخر لما خُلِق له، فله هدايةٌ تليقُ به.
وكذلك كلٌ عضو له هداية تليقُ به فهدى الرّجلين للمشي، واليدين للبطش والعمل، واللسان للكلام، والأذن للاستماع، والعين لكشف المرئيات،
وكل عضو لما خُلق له،
وهدى الزّوجين من كل حيوان إلى الأزدواج والتناسل وتربية الولد، وهدى الولد إلى التقام الثدْي عند وضعه وطلبه.
ومراتب ُ هدايته سبحانه لا يُحصيها إلا هو، فتبارك الله ربُّ العالمين.
من تأمَّل بعض هدايته المبثوثة في العالم شهد له بأنه الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم.
فهذا أحد أنواع الهداية وأعمُّها.

النوع الثاني:
هداية البيان والدَّلالة لِنجْدي الخير والشّر وطريقي النّجاة والهلاك،
وهذه الهداية لا تستلزمُ الهدى التامَّ، فإنها سببٌ وشرط لا موجب، ولهذا لا ينبغي الهدى معها.
ومنها قوله: { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) } [الشورى: 52].

النوع الثالث:
هداية التوفيق والإلهام
وهي الهداية المستلزمة للاهتداء، فلا يتخلُّفُ عنها،
في قوله تعالى: { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } [القصص: 56]،
فنفى عنه هذه الهداية ،
وأثبت له هداية الدعوة والبيان
في قوله: { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [الشورى: 52].

النّوع الرابع: غاية هذه الهداية وهي الهداية إلى الجنة والنّار إذا سيق أهلُها إليهما
قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [يونس: 9]،...
وقال تعالى عن أهل النار:
{ احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ *مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ } [الصافات: 22 - 23]

من آثار الإيمان باسمه سبحانه
(الهادي) على العبد
أولاً: محبة الله - عز وجل - وتعظيمه والثناء عليه.
حيث أعطى كل شيء خلقه وهداه إلى ما لا بد منه في قضاء حاجاته،
وأعظم من ذلك هدايته سبحانه لعباده حيث أنزل الكتب وأرسل الرسل لبيان سبل الهدى والحق والتحذير من طريق الغواية والضلال،
ومنح لعباده العقول التي تدلهم على الله - عز وجل - وتهديهم إليه بما أودع في هذا الكون من الآيات الباهرات التي تدل على وحدانيته سبحانه.
ثانيًا: لما كانت هداية التوفيق والإلهام لا يملكها إلا الله - عز وجل - فإن هذا يشعر العبد بافتقاره التام إلى ربه سبحانه في طلب هذه الهداية والإعانة عليها،...
ولذا كان على العبد أن يسأل ربه سبحانه ويتضرع إليه بأن يهديه ويثبته ويوفقه.
وحتى هداية الدلالة والإرشاد هي الأخرى لا يملكها على الحقيقة إلا الله تعالى وإنما يختار سبحانه من يشاء من عباده من الرسل والمصلحين في هداية الناس إلى الحق وبيانه لهم،
ولولاه سبحانه لما اهتدى أحد سواء كانت هذه الهداية هداية الإرشاد أو هداية التوفيق.
والهداية أكبر نعمة يُنْعِم بها (الهادي) سبحانه على عبده، إذْ كل نعمة دونها زائلة ومضمحِلَّة،
وبقدر هدايته تكون سعادته في الدنيا، وطيب عيشه وراحة باله، وكذا فوزه ودرجته في الآخرة...

وأمرت هذه الأمة بأن تسأل الله تعالى الهداية في كلِّ ركعة من صلاتها
في قوله سبحانه: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ *صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ }
[الفاتحة: 6، 7].

إن حاجتنا لطلب الهداية من مالكها سبحانه أشد من حاجتنا إلى الطعام والشراب.
ثالثًا: سعي المؤمن إلى أن يكون هاديًا إلى الله - عز وجل - وإلى صراطه المستقيم وذلك بنشر العلم والدعوة إلى الله سبحانه، وإرشاد الناس إلى الحق، وتحذيرهم من الباطل الذي يؤول بهم إلى سخط الله وعذابه.