محمدعبداللطيف
2020-04-26, 11:51 AM
قال جل وعلا : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} يعني وحده دون ما سواه
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: (الله: هو المألوه المعبود ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين لما اتصف به من صفات الألوهية التي هي صفات الكمال)
[بيان معنى العبادة]
لما تقرر أن الرب هو المعبود، كان من المناسب أن تُذكر أنواع العبادة التي يعبد الله -جل وعلا- بها، والتي يجب إفراد الله -جل وعلا- بها.
والعبادة عرفت بعدة تعريفات، فمنها: أنها عرفت بأن العبادة: هي كل ما أُمر به، من غير اقتضاء عقلي، ولا اطراد عرفي.
وهذا هو تعريف الأصوليين في كتبهم.
ومعنى ذلك: أن الشيء الذي أُمر به من غير أن يقتضي العقل المجرد الأمر به، ومن غير أن يطرد به عُرف؛ هذا يسمى: عبادة.
يفسر ذلك تعريف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى للعبادة
حيث قال: (إن العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة).
وهذا التعريف مناسب؛ لأنه أيسر في الفهم أولاً.
والثاني: أنه قريب المأخذ من النصوص، فقال: إن العبادة (اسم جامع) يجمع أشياء كثيرة.
جامع لأي شيء؟ (لكل ما يحبه الله ويرضاه).
كيف نصل إلى أن هذا العمل أو القول يحبه الله ويرضاه؟
لا بد أن يكون مأموراً به، أو مُخبَراً عنه بأن الله -جل وعلا- يحبه ويرضاه.
[بيان أنواع العبادة]
أنواعها، قال: (من الأقوال والأعمال) فهناك قول وعمل.
فإذاً: العبادات تنقسم إلى:
- عبادات قولية.
- وعبادات عملية.
ليس ثَم قسم ثالث، إما أن تكون العبادة قولية، وإما أن تكون عملية.
قال: (الظاهرة والباطنة) قد يكون القول ظاهراً، وقد يكون باطناً، وقد يكون العمل ظاهراً، وقد يكون باطناً.
فَتَحَصَّل أن أنواع العبادات هي: الأقوال والأعمال التي يحبها الله ويرضاها.
والقول قد يكون باللسان، وقد يكون بالجنان.
قول اللسان أنواع كثيرة مما أمر الله جل وعلا به، مثل: الذكر والتلاوة وكلمة المعروف، ونحو ذلك، هذه كلها من أنواع العبادات اللسانية.
قول القلب: هو نيته، قصده...
العمل: عمل القلب، وعمل الجوارح.
وهذه الأنواع التي ذكرها الشيخ رحمه الله تعالى ممثلاً؛ بعضها من الأقوال والأعمال، بعضها ظاهر وبعضها باطن، بعضها لساني وبعضها قلبي، وبعضها عملي قلبي، وبعضها من عمل الجوارح.
فمثلاً: الإخلاص؛ هذا عمل القلب، التوكل عمل القلب، لا يصلح الإخلاص إلا لله جل وعلا، إخلاص العبادة، إخلاص الدين، إلا لله جل وعلا، كما قال تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}، {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} .
التوكل كذلك من أعمال القلب التي ليست إلا لله.
الخوف من أعمال القلب التي ليست إلا لله، يعني: خوف العبادة، خوف السر، وسيأتي إيضاحه إن شاء الله في موضعه.
الرغبة، الرهبة، الإنابة، الخضوع، الذل؛ ذُل العبادة؛ خضوع العبادة، إلى آخره.
هذه كلها من أعمال القلب؛ هي داخلة في أنواع العبادة.
الأعمال الظاهرة مثل: الاستغاثة، الاستغاثة: طلب الغوث، طلب الغوث طلب ظاهر.
مثل الاستعانة: طلب العون، هذه من الأعمال الظاهرة.
الذبح واضح أنه عمل جوارح، النذر واضح أنه قول اللسان وعمل الجوارح، ونحو ذلك.
فإذاً: هذه العبادات التي مثل بها؛ أراد أن يشمل تمثيله أقسام العبادات؛ القولية والعملية، الظاهرة والباطنة، يجمعها جميعاً أنها عبادات، والعبادة لا تصلح إلا لله جل وعلا، العبادات الظاهرة أو الباطنة، القلبية أو اللسانية، أو التي موردها الجوارح، فهي لا تصلح إلا لله، فمن صرف شيئاً منها لغير الله، فقد توجه بالعبادة لغير الله؛ منافياً لما قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}، ومنافياً لإقراره بأن معبوده هو الله جل وعلا.
إذا أقر العبد بأن قوله: من ربك ؟ يعني: من معبودك؟ وأن الله -جل وعلا- قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} يعني وحده دون ما سواه؛ فإنه إذا توجه بشيء من هذه الأنواع لغير الله -جل وعلا- كان متوجهاً بالعبادة لغير الله، وذلك هو الشرك.
الدليل قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} {فَلا تَدْعُوا}، الدعاء هو العبادة، كما جاء في الحديث الذي استدل به الشيخ، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: ((الدعاء مخ العبادة)) وهو حديث أنس بن مالك وإسناده فيه ضعف، لكن معناه هو معنى الحديث الصحيح حديث النعمان بن بشير الذي رواه أبو داود والترمذي وجماعة وهو قوله عليه الصلاة والسلام: ((الدعاء هو العبادة)) (هو العبادة): يعني: مخ العبادة؛ لأن الدعاء هو العبادة بمنزلة قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الحج عرفة)) .
[تفسير قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا} فَلا تَدْعُوا...} ]
قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (لا تدعوا) يعني - كما ذكرت لكم من قبل - لا دعاء مسألة، ولا دعاء عبادة، {فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} يعني: لا تعبدوا مع الله أحداً {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} هذا نهي أن يدعوَ الناس أحداً مع الله جل وعلا، يعني: أن يعبدوا أحداً مع الله جل وعلا.
وإذا كان الدعاء هنا بمعنى دعاء المسألة فيكون معنى الآية: وأن المساجد لله فلا تسألوا - سؤال عبادة - مع الله أحدا، لا تطلبوا - طلب عبادة - مع الله أحدا.
واللفظ (تدعوا) يشمل دعاء العبادة ودعاء المسألة، فهذه الآية دليل على وجوب إفراد الله -جل وعلا- بالعبادة.
[بيان شمول معنى الدعاء لنوعيه:(العبادة والمسألة)]
فإن قال قائل لك - حين الاستدلال بها-: إن الدعاء هنا دعاءُ المسألة، وغيرُهُ من أنواع العبادة التي تزعمون - من الذبح والنذر ومن الاستغاثة والاستعاذة ونحو ذلك - أنها لا تدخل في النهي في هذه الآية؛ فيكون جوابك:
أن الدعاء في القرآن جاء بمعنيين:
- جاء ويراد به العبادة.
- وجاء ويراد به المسألة.
فمثلاً في قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} ظاهرٌ أن الدعاء المراد به العبادة؛ لأنه قال: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}، وكذلك في قوله تعالى - مخبراً عن قول إبراهيم عليه السلام -: {وَأَعْتَزِلُكُ ْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} قال جل وعلا بعد ذلك: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}.
ففي الآية الأولى أخبر عن إبراهيم أنه قال: - واعتزلكم وما تدعون - ثم قال جل وعلا: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ} فدل على أن إبراهيم عليه السلام حين قال: - واعتزلكم وما تدعون - أي: وما تعبدون؛ لأن الله -جل وعلا- قال بعدها: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ} وهذا من الأدلة الظاهرة؛ أن الآية هذه تشمل دعاء المسألة ودعاء العبادة.
وقد أُورد على أئمتنا رحمهم الله تعالى حين قرروا التوحيد في مقالهم وفي كتبهم: أن هذه الآية إنما هي دليل للمسألة، وأما غيرها مما تَدَّعون أنه عبادة، وأن هذه الآية فيها نهي عنه، كالذبح والنذر ونحو ذلك؛ أنه لا يدخل في الآية.
فكان الجواب:
أن الدعاء نوعان:
- دعاء عبادة .
- ودعاء مسألة.
وهذا يأتي في القرآن وذاك يأتي في القرآن، والآية تشمل النوعين؛ لأن الدعاء إذا كان في القرآن يأتي تارات لهذا وتارات لهذا؛ فتحديده في هذه الآية بأحد النوعين ونفي النوع الآخر؛ هذا نوع تحكم، وهو ممتنع.
[ فمن صرف منها شيئاً لغير الله فهو مشرك]
فهذه صلة لما سبق الكلام عليه، من أن العبادة حق لله جل وعلا، وأن كل معبود سوى الله -جل وعلا- فإن عبادته بغير الحق، وأنها بالباطل والظلم والطغيان والجور والتعدي من الخلق، فالله -جل وعلا- هو الذي يستحق العبادة وحده دون ما سواه من خلقه.
وبعد أن ذكر أنواع العبادات التي موردها اللسان والقلب والجوارح، قال رحمه الله: (فمن صرف منها شيئاً لغير الله فهو مشرك كافر، والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ})
(من صرف) يعني: من توجه بشيء من أنواع تلك العبادات (لغير الله فهو مشرك كافر) يريد الشرك الأكبر الذي يخرج من الملة.
والشرك حقيقته: اتخاذ الند مع الله جل وعلا، وهو المذكور في قوله: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} والتنديد يعني: أن يُجعل لله مِثل في الاستحقاق؛ استحقاق التوجه، استحقاق العبادة.
إذا جُعل لله نِدّ - إما بالقول أو بالعمل - فذلكم هو الشرك.
فكل نوع من هذه الأنواع وغيرها من الأنواع التي تدخل في مسمى العبادة صرفها لغير الله -جل وعلا- شرك أكبر، يخرج من الملة، وصاحبه مشرك كافر، إما الكفر الظاهر، وإما الكفر الظاهر والباطن معاً.
وهذا الذي ذكره، برهن له بقوله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ}، وقوله هنا: {لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} هذا بيان لحقيقة من دُعِي مع الله جل وعلا، قال: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} هذا الإله الآخر وهذا الداعي، منعوت بأنه لا برهان له بما فعل ولا دليل، وإنما فعل ما فعل من دعوة غير الله بهواه وبتعديه.
فقوله: {لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} ليس مفهومه أن ثمَّ دعوة لغير الله تعالى لها برهان، وإنما كل دعوة لغير الله {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} أيَّ إلهٍ كان؛ فإن ذلك الداعي لا برهان له بما فعل.
والدليل على أن دعوة غير الله -جل وعلا- كفر، قوله جل وعلا في الآية نفسها: {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} فدل على أن دعاء غير الله - كما أنه شرك إذ دُعي إله آخر مع الله -جل وعلا- فهو كفر؛ لأنه قال: {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} .
[ الشرك فى العبادة]
والشرك أقسام، والعلماء يقسِمون الشرك باعتبارات مختلفة:
- فتارة يُقسم الشرك إلى شرك ظاهر وشرك خفي.
- وتارة يُقسم الشرك إلى شرك أكبر وشرك أصغر.
- وتارة يُقسم إلى شرك أكبر وأصغر وخفي.
وهذه تقسيمات معروفة عند العلماء، وكل تقسيم باعتبار، وهي تلتقي في نتيجة كل قسم والتعريف، لكنه اختلاف في التقسيم باعتبارات مختلفة.
فمثلاً: من يقسمون الشرك إلى جلي وخفي؛ فيكون الجلي: منه ما هو أصغر؛ ومنه ما هو أكبر.
الجلي الظاهر الذي يُحَسّ، مثل الذبح لغير الله، النذر لغير الله؛ هذا جلي، هذا من نوع الشرك الأكبر، هو جليٌ أكبر.
كذلك مثل: الاستغاثة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، كذلك هذه من نوع الشرك الجلي الأكبر.
الحلف بغير الله تعالى شرك جلي، ولكنه أصغر، هذا قسم.
قسيمه الشرك الخفي، الشرك الخفي منه ما هو أكبر كشرك المنافقين؛ فإن شركهم خفي لم يظهروه، وإنما أظهروا الإسلام، فما قام بقلوبهم من التنديد والشرك صار خفياً؛ لأنهم لم يظهروه؛ فهو شرك خفي، ولكنه أكبر.
وهناك شرك خفي أصغر، مثل: يسير الرياء، فإن كان الرياء كاملاً كان ذلك شركاً أكبر كشرك المنافقين، وإن كان يسيراً كتصنع المرء بالعبادة لمخلوق مثله لغير الله؛ فهذا إذا كان يسيراً، فإنه شرك أصغر خفي.
هذا نوع من أنواع التقاسيم.
بعض العلماء يقول:
الشرك قسمان:
- أكبر.
- وأصغر.
قسم الأكبر إلى جلي وخفي.
وقسم الأصغر إلى جلي وخفي.
والأوضح أن يقسم إلى ثلاثة: إلى أكبر وأصغر وخفي، ويكون الخفي مثل يسير الرياء، والأصغر مثل الحلف بغير الله و تعليق التمائم ونحو ذلك، والأكبر مثل الذبح والنذر والاستغاثة ودعوة غير الله جل وعلا.
هذه تقسيمات للشرك، قد تجد هذا أو ذاك في كلام طائفة من أهل العلم، لكن كلها محصلها واحد، وإنما التقسيم باعتبارات، وهي ملتقية في التعريف وفي النتيجة.
مراد الشيخ رحمه الله تعالى ههنا بقوله: (فمن صرف منها شيئاً لغير الله فهو مشرك كافر) يريد: الشرك الأكبر الذي يخرج من الملة.
فكل شيء صح عليه قيد العبادة، فإن صرفه لغير الله - يعني التوجه به، التعبد به لغير الله - هذا كفر، مثل نداء الموتى، أو نداء الغائبين، أو خوف السر، أو الذبح لغير الله، أو النذر لغير الله، أو الاستغاثة بالأموات، أو طلب أنواع الطلب المختلفة؛ من الاستعانة ونحوها، أو بعض أعمال القلوب، مثل الاستعاذة ونحو ذلك؛ هذه كلها أنواع للعبادات، بعضها في القلب وبعضها للجوارح جميعاً من توجه بشيء منها لغير الله، فهو مشرك الشرك الأكبر الذي يخرج من الملة.
البرهان: قوله: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} وقد قدمت لك أنّ الدعاء في القرآن قد يكون دعاء مسألة وقد يكون دعاء عبادة، فإذا لم يكن في الدليل - في النص - قرينة تحدد أحد المعنيين حُمِل على المعنيين جميعاً؛ لأن حمل النص على أحد المعنيين دون دليل وبرهان تحكم في النص، وذلك لا يجوز.
[شرح حديث: ((الدعاء مخ العبادة)) ]
قال رحمه الله: (وفي الحديث: ((الدعاء مخ العبادة)) )
((الدعاء مخ العبادة)) يعني لُبُّها وجوهرها، وهو كما جاء في الحديث الآخر الصحيح؛ حديث النعمان: ((الدعاء هو العبادة)) وكما قال جل وعلا: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} .
وسبق أن أوضحت لكم هذه المسألة بتفصيل، في ما مضى.
[أهمية تنويع الأدلة في إثبات الحجة]
بعد ذلك شرع المؤلف - رحمه الله تعالى وأجزل له المثوبة - في بيان أدلة كون تلك التي ذكر من العبادات.
هو ذكر الخوف، وذكر الرجاء، وذكر الرغبة، وذكر الرهبة، وذكر الخشوع، وذكر التوكل، وذكر أشياء، والذبح والنذر، إلى آخره.
فكأن قائلاً قال: ما الدليل على أن هذه من العبادات التي مَن صرفها لغير الله -جل وعلا- كفر؟
والأدلة على هذه المسألة على نوعين:
الأول: أن يُستدل بدليل يثبت كون تلك المسألة من العبادة، يثبت كون الخوف من العبادة، يثبت كون الرجاء من العبادة.
فإذا ثبت كونه من العبادة استدل بالأدلة السابقة، كقوله: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً}، وقوله: ((الدعاء هو العبادة))، ((الدعاء مخ العبادة))، {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادتِي} ونحوها من الأدلة العامة بأن من توجه بالعبادة لغير الله فهو مشرك.
الدليل الأول - إذاً - يتركب من شيئين، النوع الأول متركب من شيئين.
الأول: أن يقام الدليل على أن هذه المسألة من العبادة، على أن الخوف من العبادة، على أن الرجاء من العبادة، فإذا استقام الدليل والاستدلال على أن هذه المسألة من العبادة؛ استدللت بالأدلة العامة على أن من صرف شيئاً من العبادة لغير الله فهو مشرك، هذا نوع.
النوع الثاني خاص، وهو: أن كل نوع من تلك الأنواع له دليل خاص يثبت أن صرفه لغير الله جل وعلا شرك، وأنه يجب إفراد المولى جل وعلا بذلك النوع من أنواع العبادة.
وهذا مما ينبغي أن يتنبه له طالب العلم، في مقامات الاستدلال؛ لأن تنويع الاستدلال عند الاحتجاج على الخرافيين والقبوريين وأشباههم؛ مما يقوي الحجة، تُنوِّع الاستدلال؛ مرة بأدلة مجملة، مرة بأدلة مفصلة، مرة بأدلة عامة، مرة بأدلة خاصة؛ حتى لا يُتوهم أنه ليس ثمَّ إلا دليل واحد يمكن أن ينازَعَ المستدِل به الفهم.
فإذا نوعتها صارت الحجة أقوى، والبرهان أجلى.[ شرح ثلاثة الاصول للشيخ صالح ال الشيخ]
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: (الله: هو المألوه المعبود ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين لما اتصف به من صفات الألوهية التي هي صفات الكمال)
[بيان معنى العبادة]
لما تقرر أن الرب هو المعبود، كان من المناسب أن تُذكر أنواع العبادة التي يعبد الله -جل وعلا- بها، والتي يجب إفراد الله -جل وعلا- بها.
والعبادة عرفت بعدة تعريفات، فمنها: أنها عرفت بأن العبادة: هي كل ما أُمر به، من غير اقتضاء عقلي، ولا اطراد عرفي.
وهذا هو تعريف الأصوليين في كتبهم.
ومعنى ذلك: أن الشيء الذي أُمر به من غير أن يقتضي العقل المجرد الأمر به، ومن غير أن يطرد به عُرف؛ هذا يسمى: عبادة.
يفسر ذلك تعريف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى للعبادة
حيث قال: (إن العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة).
وهذا التعريف مناسب؛ لأنه أيسر في الفهم أولاً.
والثاني: أنه قريب المأخذ من النصوص، فقال: إن العبادة (اسم جامع) يجمع أشياء كثيرة.
جامع لأي شيء؟ (لكل ما يحبه الله ويرضاه).
كيف نصل إلى أن هذا العمل أو القول يحبه الله ويرضاه؟
لا بد أن يكون مأموراً به، أو مُخبَراً عنه بأن الله -جل وعلا- يحبه ويرضاه.
[بيان أنواع العبادة]
أنواعها، قال: (من الأقوال والأعمال) فهناك قول وعمل.
فإذاً: العبادات تنقسم إلى:
- عبادات قولية.
- وعبادات عملية.
ليس ثَم قسم ثالث، إما أن تكون العبادة قولية، وإما أن تكون عملية.
قال: (الظاهرة والباطنة) قد يكون القول ظاهراً، وقد يكون باطناً، وقد يكون العمل ظاهراً، وقد يكون باطناً.
فَتَحَصَّل أن أنواع العبادات هي: الأقوال والأعمال التي يحبها الله ويرضاها.
والقول قد يكون باللسان، وقد يكون بالجنان.
قول اللسان أنواع كثيرة مما أمر الله جل وعلا به، مثل: الذكر والتلاوة وكلمة المعروف، ونحو ذلك، هذه كلها من أنواع العبادات اللسانية.
قول القلب: هو نيته، قصده...
العمل: عمل القلب، وعمل الجوارح.
وهذه الأنواع التي ذكرها الشيخ رحمه الله تعالى ممثلاً؛ بعضها من الأقوال والأعمال، بعضها ظاهر وبعضها باطن، بعضها لساني وبعضها قلبي، وبعضها عملي قلبي، وبعضها من عمل الجوارح.
فمثلاً: الإخلاص؛ هذا عمل القلب، التوكل عمل القلب، لا يصلح الإخلاص إلا لله جل وعلا، إخلاص العبادة، إخلاص الدين، إلا لله جل وعلا، كما قال تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}، {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} .
التوكل كذلك من أعمال القلب التي ليست إلا لله.
الخوف من أعمال القلب التي ليست إلا لله، يعني: خوف العبادة، خوف السر، وسيأتي إيضاحه إن شاء الله في موضعه.
الرغبة، الرهبة، الإنابة، الخضوع، الذل؛ ذُل العبادة؛ خضوع العبادة، إلى آخره.
هذه كلها من أعمال القلب؛ هي داخلة في أنواع العبادة.
الأعمال الظاهرة مثل: الاستغاثة، الاستغاثة: طلب الغوث، طلب الغوث طلب ظاهر.
مثل الاستعانة: طلب العون، هذه من الأعمال الظاهرة.
الذبح واضح أنه عمل جوارح، النذر واضح أنه قول اللسان وعمل الجوارح، ونحو ذلك.
فإذاً: هذه العبادات التي مثل بها؛ أراد أن يشمل تمثيله أقسام العبادات؛ القولية والعملية، الظاهرة والباطنة، يجمعها جميعاً أنها عبادات، والعبادة لا تصلح إلا لله جل وعلا، العبادات الظاهرة أو الباطنة، القلبية أو اللسانية، أو التي موردها الجوارح، فهي لا تصلح إلا لله، فمن صرف شيئاً منها لغير الله، فقد توجه بالعبادة لغير الله؛ منافياً لما قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}، ومنافياً لإقراره بأن معبوده هو الله جل وعلا.
إذا أقر العبد بأن قوله: من ربك ؟ يعني: من معبودك؟ وأن الله -جل وعلا- قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} يعني وحده دون ما سواه؛ فإنه إذا توجه بشيء من هذه الأنواع لغير الله -جل وعلا- كان متوجهاً بالعبادة لغير الله، وذلك هو الشرك.
الدليل قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} {فَلا تَدْعُوا}، الدعاء هو العبادة، كما جاء في الحديث الذي استدل به الشيخ، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: ((الدعاء مخ العبادة)) وهو حديث أنس بن مالك وإسناده فيه ضعف، لكن معناه هو معنى الحديث الصحيح حديث النعمان بن بشير الذي رواه أبو داود والترمذي وجماعة وهو قوله عليه الصلاة والسلام: ((الدعاء هو العبادة)) (هو العبادة): يعني: مخ العبادة؛ لأن الدعاء هو العبادة بمنزلة قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الحج عرفة)) .
[تفسير قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا} فَلا تَدْعُوا...} ]
قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (لا تدعوا) يعني - كما ذكرت لكم من قبل - لا دعاء مسألة، ولا دعاء عبادة، {فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} يعني: لا تعبدوا مع الله أحداً {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} هذا نهي أن يدعوَ الناس أحداً مع الله جل وعلا، يعني: أن يعبدوا أحداً مع الله جل وعلا.
وإذا كان الدعاء هنا بمعنى دعاء المسألة فيكون معنى الآية: وأن المساجد لله فلا تسألوا - سؤال عبادة - مع الله أحدا، لا تطلبوا - طلب عبادة - مع الله أحدا.
واللفظ (تدعوا) يشمل دعاء العبادة ودعاء المسألة، فهذه الآية دليل على وجوب إفراد الله -جل وعلا- بالعبادة.
[بيان شمول معنى الدعاء لنوعيه:(العبادة والمسألة)]
فإن قال قائل لك - حين الاستدلال بها-: إن الدعاء هنا دعاءُ المسألة، وغيرُهُ من أنواع العبادة التي تزعمون - من الذبح والنذر ومن الاستغاثة والاستعاذة ونحو ذلك - أنها لا تدخل في النهي في هذه الآية؛ فيكون جوابك:
أن الدعاء في القرآن جاء بمعنيين:
- جاء ويراد به العبادة.
- وجاء ويراد به المسألة.
فمثلاً في قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} ظاهرٌ أن الدعاء المراد به العبادة؛ لأنه قال: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}، وكذلك في قوله تعالى - مخبراً عن قول إبراهيم عليه السلام -: {وَأَعْتَزِلُكُ ْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} قال جل وعلا بعد ذلك: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}.
ففي الآية الأولى أخبر عن إبراهيم أنه قال: - واعتزلكم وما تدعون - ثم قال جل وعلا: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ} فدل على أن إبراهيم عليه السلام حين قال: - واعتزلكم وما تدعون - أي: وما تعبدون؛ لأن الله -جل وعلا- قال بعدها: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ} وهذا من الأدلة الظاهرة؛ أن الآية هذه تشمل دعاء المسألة ودعاء العبادة.
وقد أُورد على أئمتنا رحمهم الله تعالى حين قرروا التوحيد في مقالهم وفي كتبهم: أن هذه الآية إنما هي دليل للمسألة، وأما غيرها مما تَدَّعون أنه عبادة، وأن هذه الآية فيها نهي عنه، كالذبح والنذر ونحو ذلك؛ أنه لا يدخل في الآية.
فكان الجواب:
أن الدعاء نوعان:
- دعاء عبادة .
- ودعاء مسألة.
وهذا يأتي في القرآن وذاك يأتي في القرآن، والآية تشمل النوعين؛ لأن الدعاء إذا كان في القرآن يأتي تارات لهذا وتارات لهذا؛ فتحديده في هذه الآية بأحد النوعين ونفي النوع الآخر؛ هذا نوع تحكم، وهو ممتنع.
[ فمن صرف منها شيئاً لغير الله فهو مشرك]
فهذه صلة لما سبق الكلام عليه، من أن العبادة حق لله جل وعلا، وأن كل معبود سوى الله -جل وعلا- فإن عبادته بغير الحق، وأنها بالباطل والظلم والطغيان والجور والتعدي من الخلق، فالله -جل وعلا- هو الذي يستحق العبادة وحده دون ما سواه من خلقه.
وبعد أن ذكر أنواع العبادات التي موردها اللسان والقلب والجوارح، قال رحمه الله: (فمن صرف منها شيئاً لغير الله فهو مشرك كافر، والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ})
(من صرف) يعني: من توجه بشيء من أنواع تلك العبادات (لغير الله فهو مشرك كافر) يريد الشرك الأكبر الذي يخرج من الملة.
والشرك حقيقته: اتخاذ الند مع الله جل وعلا، وهو المذكور في قوله: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} والتنديد يعني: أن يُجعل لله مِثل في الاستحقاق؛ استحقاق التوجه، استحقاق العبادة.
إذا جُعل لله نِدّ - إما بالقول أو بالعمل - فذلكم هو الشرك.
فكل نوع من هذه الأنواع وغيرها من الأنواع التي تدخل في مسمى العبادة صرفها لغير الله -جل وعلا- شرك أكبر، يخرج من الملة، وصاحبه مشرك كافر، إما الكفر الظاهر، وإما الكفر الظاهر والباطن معاً.
وهذا الذي ذكره، برهن له بقوله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ}، وقوله هنا: {لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} هذا بيان لحقيقة من دُعِي مع الله جل وعلا، قال: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} هذا الإله الآخر وهذا الداعي، منعوت بأنه لا برهان له بما فعل ولا دليل، وإنما فعل ما فعل من دعوة غير الله بهواه وبتعديه.
فقوله: {لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} ليس مفهومه أن ثمَّ دعوة لغير الله تعالى لها برهان، وإنما كل دعوة لغير الله {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} أيَّ إلهٍ كان؛ فإن ذلك الداعي لا برهان له بما فعل.
والدليل على أن دعوة غير الله -جل وعلا- كفر، قوله جل وعلا في الآية نفسها: {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} فدل على أن دعاء غير الله - كما أنه شرك إذ دُعي إله آخر مع الله -جل وعلا- فهو كفر؛ لأنه قال: {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} .
[ الشرك فى العبادة]
والشرك أقسام، والعلماء يقسِمون الشرك باعتبارات مختلفة:
- فتارة يُقسم الشرك إلى شرك ظاهر وشرك خفي.
- وتارة يُقسم الشرك إلى شرك أكبر وشرك أصغر.
- وتارة يُقسم إلى شرك أكبر وأصغر وخفي.
وهذه تقسيمات معروفة عند العلماء، وكل تقسيم باعتبار، وهي تلتقي في نتيجة كل قسم والتعريف، لكنه اختلاف في التقسيم باعتبارات مختلفة.
فمثلاً: من يقسمون الشرك إلى جلي وخفي؛ فيكون الجلي: منه ما هو أصغر؛ ومنه ما هو أكبر.
الجلي الظاهر الذي يُحَسّ، مثل الذبح لغير الله، النذر لغير الله؛ هذا جلي، هذا من نوع الشرك الأكبر، هو جليٌ أكبر.
كذلك مثل: الاستغاثة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، كذلك هذه من نوع الشرك الجلي الأكبر.
الحلف بغير الله تعالى شرك جلي، ولكنه أصغر، هذا قسم.
قسيمه الشرك الخفي، الشرك الخفي منه ما هو أكبر كشرك المنافقين؛ فإن شركهم خفي لم يظهروه، وإنما أظهروا الإسلام، فما قام بقلوبهم من التنديد والشرك صار خفياً؛ لأنهم لم يظهروه؛ فهو شرك خفي، ولكنه أكبر.
وهناك شرك خفي أصغر، مثل: يسير الرياء، فإن كان الرياء كاملاً كان ذلك شركاً أكبر كشرك المنافقين، وإن كان يسيراً كتصنع المرء بالعبادة لمخلوق مثله لغير الله؛ فهذا إذا كان يسيراً، فإنه شرك أصغر خفي.
هذا نوع من أنواع التقاسيم.
بعض العلماء يقول:
الشرك قسمان:
- أكبر.
- وأصغر.
قسم الأكبر إلى جلي وخفي.
وقسم الأصغر إلى جلي وخفي.
والأوضح أن يقسم إلى ثلاثة: إلى أكبر وأصغر وخفي، ويكون الخفي مثل يسير الرياء، والأصغر مثل الحلف بغير الله و تعليق التمائم ونحو ذلك، والأكبر مثل الذبح والنذر والاستغاثة ودعوة غير الله جل وعلا.
هذه تقسيمات للشرك، قد تجد هذا أو ذاك في كلام طائفة من أهل العلم، لكن كلها محصلها واحد، وإنما التقسيم باعتبارات، وهي ملتقية في التعريف وفي النتيجة.
مراد الشيخ رحمه الله تعالى ههنا بقوله: (فمن صرف منها شيئاً لغير الله فهو مشرك كافر) يريد: الشرك الأكبر الذي يخرج من الملة.
فكل شيء صح عليه قيد العبادة، فإن صرفه لغير الله - يعني التوجه به، التعبد به لغير الله - هذا كفر، مثل نداء الموتى، أو نداء الغائبين، أو خوف السر، أو الذبح لغير الله، أو النذر لغير الله، أو الاستغاثة بالأموات، أو طلب أنواع الطلب المختلفة؛ من الاستعانة ونحوها، أو بعض أعمال القلوب، مثل الاستعاذة ونحو ذلك؛ هذه كلها أنواع للعبادات، بعضها في القلب وبعضها للجوارح جميعاً من توجه بشيء منها لغير الله، فهو مشرك الشرك الأكبر الذي يخرج من الملة.
البرهان: قوله: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} وقد قدمت لك أنّ الدعاء في القرآن قد يكون دعاء مسألة وقد يكون دعاء عبادة، فإذا لم يكن في الدليل - في النص - قرينة تحدد أحد المعنيين حُمِل على المعنيين جميعاً؛ لأن حمل النص على أحد المعنيين دون دليل وبرهان تحكم في النص، وذلك لا يجوز.
[شرح حديث: ((الدعاء مخ العبادة)) ]
قال رحمه الله: (وفي الحديث: ((الدعاء مخ العبادة)) )
((الدعاء مخ العبادة)) يعني لُبُّها وجوهرها، وهو كما جاء في الحديث الآخر الصحيح؛ حديث النعمان: ((الدعاء هو العبادة)) وكما قال جل وعلا: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} .
وسبق أن أوضحت لكم هذه المسألة بتفصيل، في ما مضى.
[أهمية تنويع الأدلة في إثبات الحجة]
بعد ذلك شرع المؤلف - رحمه الله تعالى وأجزل له المثوبة - في بيان أدلة كون تلك التي ذكر من العبادات.
هو ذكر الخوف، وذكر الرجاء، وذكر الرغبة، وذكر الرهبة، وذكر الخشوع، وذكر التوكل، وذكر أشياء، والذبح والنذر، إلى آخره.
فكأن قائلاً قال: ما الدليل على أن هذه من العبادات التي مَن صرفها لغير الله -جل وعلا- كفر؟
والأدلة على هذه المسألة على نوعين:
الأول: أن يُستدل بدليل يثبت كون تلك المسألة من العبادة، يثبت كون الخوف من العبادة، يثبت كون الرجاء من العبادة.
فإذا ثبت كونه من العبادة استدل بالأدلة السابقة، كقوله: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً}، وقوله: ((الدعاء هو العبادة))، ((الدعاء مخ العبادة))، {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادتِي} ونحوها من الأدلة العامة بأن من توجه بالعبادة لغير الله فهو مشرك.
الدليل الأول - إذاً - يتركب من شيئين، النوع الأول متركب من شيئين.
الأول: أن يقام الدليل على أن هذه المسألة من العبادة، على أن الخوف من العبادة، على أن الرجاء من العبادة، فإذا استقام الدليل والاستدلال على أن هذه المسألة من العبادة؛ استدللت بالأدلة العامة على أن من صرف شيئاً من العبادة لغير الله فهو مشرك، هذا نوع.
النوع الثاني خاص، وهو: أن كل نوع من تلك الأنواع له دليل خاص يثبت أن صرفه لغير الله جل وعلا شرك، وأنه يجب إفراد المولى جل وعلا بذلك النوع من أنواع العبادة.
وهذا مما ينبغي أن يتنبه له طالب العلم، في مقامات الاستدلال؛ لأن تنويع الاستدلال عند الاحتجاج على الخرافيين والقبوريين وأشباههم؛ مما يقوي الحجة، تُنوِّع الاستدلال؛ مرة بأدلة مجملة، مرة بأدلة مفصلة، مرة بأدلة عامة، مرة بأدلة خاصة؛ حتى لا يُتوهم أنه ليس ثمَّ إلا دليل واحد يمكن أن ينازَعَ المستدِل به الفهم.
فإذا نوعتها صارت الحجة أقوى، والبرهان أجلى.[ شرح ثلاثة الاصول للشيخ صالح ال الشيخ]