ابو وليد البحيرى
2020-03-05, 10:28 AM
التحلل الأسري
أ·د·محمد رواس
مفهوم الأسرة:
الأسرة مشتقة من )أسر( بمعنى )قيد(، والأسرة في لغة العرب ترد بثلاثة معان:
الأول: الدرع الحصينة، والثاني: أهل الرجل وعشيرته، والثالث: الجماعة يربطها أمر مشترك، كأسرة التعليم، وأسرة الفن، ونحو ذلك··
هذه المعاني كلها تحمل بين طياتها معنى التعاون والتناصر، وكأن كل واحد مشدود مقيد بالآخر يقويه ويشد أزره·
والأسرة في المفهوم الغربي: تعني الزوج والزوجة والأولاد ما داموا تحت كنف أبيهم وفي بيته، فإذا استقلوا عنه في حياتهم، وملكوا حريتهم في التصرف بمعزل عن أبيهم ـ وذلك ببلوغ سن معينة يحددها القانون ـ خرجوا عن كونهم من الأسرة·
أما في الإسلام فإن الأسرة تحمل معنى أوسع من هذا بكثير، فهي تضم:
أولاً: الزوجان ما بقيا على الزوجية، فإذا طُلِّقت الزوجة خرجت عن كونها من أسرة زوجها·
ثانياً:جميع العصبات مهما بعدوا، سواء كانوا من المحارم أم لم يكونوا من المحارم، وسواء كانوا في كنف رب الأسرة يعيشون معه، أم لم يكونوا في كنفه، كالجد أبي الأب، وأبي الجد، والأبناء، وأبناء الأبناء مهما بعدوا، والإخوة وأبناء الإخوة مهما بعدوا، والعم وأبناء العم مهما بعدوا، أما أولاد البنت، وأولاد بنت العم، فإنهم ليسوا من الأسرة، لأنهم ليسوا بعصبات·
ثالثاً: من كانوا في كنف رب الأسرة، ويعيشون معه في بيته، وهو الذي يكفلهم ويرعاهم وينفق عليهم، ولو لم يكونوا من العصبات، كبنت زوجته التي تعيش معه، وبنت بنته، واليتيمة التي لا قرابة بينه وبينها إذا كان هو الذي يكفلها وتعيش معه، واللقيط الذي تكفل برعايته والإنفاق عليه، ونحو ذلك·
مما تقدم نلاحظ توسع الإسلام في مفهوم الأسرة، لأنه سيرتب على هذا المفهوم واجبات، من شأنها أن تسهم في بناء المجتمع المتماسك المتناصر·
استطالات الأسرة:
لم يكتف الإسلام بتوسيع مفهوم الأسرة، بل أقام جسوراً تربط بين الأسر المختلفة، هذه الجسور هي جسور المصاهرة، وما تقتضيه هذه المصاهرة من المناصحة والنصرة، فإذا تزوج رجل بأحد أفراد أسرة كذا، صارت أسرة زوجته أحماؤه، وصارت أسرة زوجها أحماؤها ـ والأحماء في اللغة هم: المنعة والمدافعون ـ وصارت أم زوجته محرمة عليه كأمه، لا تمتد منه إليها عين خيانة، وصار أبو زوجها محرماً عليها كأبيها، وبذلك تمتد جسور المحبة والمناصرة بين الأسرتين·
الرابطة الأسرية:
الروابط بين الأفراد والجماعات كثيرة، فهناك رابطة العرق: كالعربي والكردي، والجركسي، ورابطة الوطن: كالسوري، والمصري، والعراقي، والسعودي، ورابطة البلد: كالحلبي، والبغدادي، ورابطة الدين: كالمسلم والنصراني والمجوسي ورابطة الأسرة أو العشيرة، وهي رابطة تقوم في أصلها على الدم، كالقلعجي، والنخعي، والكتاني·
ورابطة الأسرة أمر الإسلام بتحقيقها برأسها، بقطع النظر عن تحقق الروابط الأخرى أو عدم تحققها، فالابن مطالب ببر أبيه مسلماً كان الأب أو كافراً، كما قال تعالى في سورة لقمان: في الآية 15 (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا)·
مسلتزمات رابطة الأسرة:
إذا وجدت رابطة الأسرة، لزم على من ينخرط في هذه الرابطة ما يلي:
أولاً: الاهتمام بأمور أفراد الأسرة: إذ كل فرد من أفراد الأسرة عليه أن يهتم بكل فرد فيها، بحيث يكون على علم دائم بأحواله، ويكون ذلك بالسؤال عنه، ليتمكن من مواساته في الحزن، ومشاركته في الفرح، وكشف الغم عنه إن نزل به غم، ونحو ذلك·
ثانياً: الإنفاق: من حق كل مقيم في دولة الإسلام أن يكون مكفياً جميع ضرورات العيش، من طعام وشراب ودواء وكساء ومأوى وتعليم ونحو ذلك، ويكلف هو نفسه بتمويل هذه الضرورات لعيشه عندما يكون قادراً على ذلك، فإن بلغ به الفقر مبلغاً لم يعد معه قادراً على تمويلها، فإنه يكلف بتمويلها له أفراد أسرته ـ إن كانوا قادرين على ذلك ـ، فيكلف الابن بالإنفاق على الأب، ويكلف الابن بالإنفاق على ولده، ويكلف الأخ بالإنفاق على أخيه، وابن الأخ بالإنفاق على عمه، وهكذا، فإن لم تكن له أسرة، أو كانت أسرته فقيرة، فتأمين هذه الضرورات يكون على الدولة، فإن لم تقم بها الدولة، فتأمينها يكون على من علم حاله من المسلمين، وفي ذلك يقول عليه الصلاة والسلام: )ما آمن بي من بات شبعان وجاره إلى جنبه جائع وهو يعلم)·
ثالثاً: التواصل: ويتحقق هذا التواصل بزيارته في المواسم والأعياد، وإذا بعد زمن اللقاء، وفي مواساته في الأحزان، ومشاركته في الأفراح، ونحو ذلك، وقد قرن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الصلة بالإيمان بالله سبحانه، فقال صلى الله عليه وسلم: )من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه)(1(، وجعل هذه الصلة سبباً في بسط الرزق، والمباركة في الأجل، قال عليه الصلاة والسلام: )من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه)(2·(
رابعاً: التناصح : فإذا رأى أحد أفراد الأسرة من آخر تقصيراً نبهه إليه، وبين له مكامن الخطر فيه، وإن رأى منه خيراً حثه وشجعه عليه، وهو ما يعرف بالمصطلح الإسلامي بـ )الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر( وهو أمارة صحة المجتمع الإسلامي، فمجتمع لا يرى خيراً إلا ويدل ويحض عليه القريب والغريب، ولا يرى منكراً إلا ويصد عنه ويمنع منه القريب والغريب، هو مجتمع جدير بالسيادة والبقاء، ولذلك جعل الله تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجباً على كل مسلم قدر استطاعته، فقال تعالى في سورة آل عمران: 401 (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر(·
والأسرة يرفع شأنها شخص واحد منها، ويسيء سمعتها شخص واحد منها، فكم من الأسر المغمورة قد ارتفع ذكرها، وعلا شأنها، بتفوق شخص واحد منها في العلم أو في التقوى، أو في عمل الخير، وكم من أسرة ساءت سمعتها بسوء تصرف شخص منها، لأن الأسرة خلية واحدة، يؤدي كل فرد فيها مهمة له، فإذا أساء أداءها فتح في الخلية ثغرة يمكن أن يتسلل منها الضعف، للذي يؤدي إلى خراب الخلية، وما أَجَلَّ ذلك المثال الذي ضربه الرسول صلى الله عليه وسلم حين شبه الأسرة بسفينة، ركابها أفرادها، فإذا خرق أحد الركاب ـ كائناً من كان ـ في السفينة خرقاً، كان هذا الخرق سبباً في غرق السفينة وغرق الناس، فقال صلى الله عليه وسلم: (مثل القائم في حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً)(3) وكذلك الأسرة إذا فتح أحد ثغرة فيها، تسلل الخطر من هذه الثغرة، ثم استشرى أمره، واستفحل، حتى يؤدي ذلك إلى تفكك الأسرة·
خامساً: التعاون: التعاون على الخير أمر وجه إليه الإسلام بعامة، بقوله تعالى في سورة المائدة: 2 (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) ولكن توجيهه إليه في رحاب الأسرة أشد، لما بين أفراد الأسرة من القرابة، ومن تشابك المصالح، وليس لهذا التعاون سوى ميدان واحد هو عمل الخير والدعوة إليه، وهو ميدان فسيح، ومجالاته كثيرة، فهناك تعاون في أعمال البيت، فقد سئلت السيدة عائشة رضي الله عنها: ما كان رسول الله يصنع في بيته؟ قالت: (كان يكون في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج فصلى( 4) (ـ أي: يساعدهم في الأعمال البيتية، وتعاون في تربية الأولاد، وتعاون على العبادة، وقد أثنى رسول الله على من يوقظ أهله لصلاة قيام الليل، فإذا تثاقلت داعبها وأيقظها برش وجهها بالماء، فقال صلى الله عليه وسلم: )رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى، ثم أيقظ امرأته، فإن أبت نضح وجهها بالماء، ورحم امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء)(5) وتعاون في الترفيه عن الأسرة، قالت عائشة رضي الله عنها )لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد، حتى أكون أنا التي أسأمه))6(، وهكذا·
سادساً: التناصر: وأعني بالتناصر: التعاون لرفع الضيم، حتى إذا ما وقع على أحد أفراد الأسرة ضيم، هبت الأسرة كلها لمناصرته حتى يرفع الضيم عنه، وقد يكون هذا الضيم ظلماً وقع عليه كسطو ظالم على ماله، وقد يكون مصيبة أصابته من الله تعالى كمرض عضال تحتاج إزالته إلى مال كثير، وهو غير موجود عنده، وقد يكون نتيجة خطأ لا يريده، كما لو قتل شخصاً خطأ، فإن ديته تفرض على عاقلة القاتل، لأن القاتل ليس بمجرم، بل هو مخطئ·
سابعاً: ثبوت المحرمية: تثبت المحرمية بين الأقارب الأقربين رجالاً ونساء من أفراد الأسرة، وهم الذين يسمون بـ )الرحم المحرمة) وهذه المحرمية تعطي نوعاً من القداسة لهذه العلاقة الأسرية·
ثامناً: الإرث: وهو يثبت بين أفراد الأسرة، كما هو مفصَّل في الشريعة·
التفكك الأسري:
إذا قلنا )أسرة) فإن ذلك يعني تطبيق تلك المستلزمات التي ذكرناها في الفقرة السابقة، فهي في جملتها تعطي للأسرة معناها، والخلل الذي يصيب أحد مستلزمات الأسرة يعني أن خللاً قد أصاب لبنة أساسية في بناء الأسرة، فإذا سرى الخلل إلى لبنة أخرى، وثالثة ورابعة، وهن بناء الأسرة، وتصدعت أبراجه، وأصبحت هذه اللبنات عبئاً عليه ينوء بحمله، بل يهدد بقاءه·
أسباب التفكك الأسري:
الإنسان اجتماعي بطبعه، تلك مُسلَّمة قرأناها صغاراً، ورددناها كباراً، لأنه لم يثبت عكسها، وبناء على ذلك فإن الأمر الطبيعي أن تكون الأسرة وحدة متراصة، لأنها تحقق فطرة الإنسان في نزوعه للعيش في مجتمع، ولما بين أفرادها من رابطة الدم، ومن المصالح المشتركة، فإذا رأينا الأسرة مفككة، علمنا أنه لابد من وجود أسباب أدت إلى هذا التفكك، فما الأسباب هذه؟
بعد تقليب النظر في أسباب التفكك الأسري أرى أن أسباب هذا التفكك يعود إلى سبب، أو أكثر من الأسباب التالية:
أولاً: التحلل من القيم الدينية: إن المحافظة على وحدة الأسرة وتماسكها عبادة أمر الله تعالى بها، وتفكيك بنية الأسرة معصية يعاقب الله تعالى عليها، قال عليه الصلاة والسلام: )كلكم راع ومسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راع وهو مسؤول عن رعيته، والولد في مال أبيه راع وهو مسؤول عن رعيته، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) (7) فأنت ترى عظم هذه المسؤولية التي حملها الله تعالى كل فرد من أفراد الأسرة، وإنها ليحاسبه عليها يوم القيامة إن هو فرط فيها·
وتأمل هذه الرابطة التي فرضها الله تعالى على المرء تجاه والديه، حين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: )رغم أنفه، رغم أنفه، قيل: من يا رسول الله؟ قال: من أدرك أبويه عند الكبر، أحدهما أو كلاهما، ثم لم يدخل الجنة)(8) إنها رابطة مفروضة بسلطان الدين، يغذيها الإيمان بالله واليوم الآخر·
يتبع
أ·د·محمد رواس
مفهوم الأسرة:
الأسرة مشتقة من )أسر( بمعنى )قيد(، والأسرة في لغة العرب ترد بثلاثة معان:
الأول: الدرع الحصينة، والثاني: أهل الرجل وعشيرته، والثالث: الجماعة يربطها أمر مشترك، كأسرة التعليم، وأسرة الفن، ونحو ذلك··
هذه المعاني كلها تحمل بين طياتها معنى التعاون والتناصر، وكأن كل واحد مشدود مقيد بالآخر يقويه ويشد أزره·
والأسرة في المفهوم الغربي: تعني الزوج والزوجة والأولاد ما داموا تحت كنف أبيهم وفي بيته، فإذا استقلوا عنه في حياتهم، وملكوا حريتهم في التصرف بمعزل عن أبيهم ـ وذلك ببلوغ سن معينة يحددها القانون ـ خرجوا عن كونهم من الأسرة·
أما في الإسلام فإن الأسرة تحمل معنى أوسع من هذا بكثير، فهي تضم:
أولاً: الزوجان ما بقيا على الزوجية، فإذا طُلِّقت الزوجة خرجت عن كونها من أسرة زوجها·
ثانياً:جميع العصبات مهما بعدوا، سواء كانوا من المحارم أم لم يكونوا من المحارم، وسواء كانوا في كنف رب الأسرة يعيشون معه، أم لم يكونوا في كنفه، كالجد أبي الأب، وأبي الجد، والأبناء، وأبناء الأبناء مهما بعدوا، والإخوة وأبناء الإخوة مهما بعدوا، والعم وأبناء العم مهما بعدوا، أما أولاد البنت، وأولاد بنت العم، فإنهم ليسوا من الأسرة، لأنهم ليسوا بعصبات·
ثالثاً: من كانوا في كنف رب الأسرة، ويعيشون معه في بيته، وهو الذي يكفلهم ويرعاهم وينفق عليهم، ولو لم يكونوا من العصبات، كبنت زوجته التي تعيش معه، وبنت بنته، واليتيمة التي لا قرابة بينه وبينها إذا كان هو الذي يكفلها وتعيش معه، واللقيط الذي تكفل برعايته والإنفاق عليه، ونحو ذلك·
مما تقدم نلاحظ توسع الإسلام في مفهوم الأسرة، لأنه سيرتب على هذا المفهوم واجبات، من شأنها أن تسهم في بناء المجتمع المتماسك المتناصر·
استطالات الأسرة:
لم يكتف الإسلام بتوسيع مفهوم الأسرة، بل أقام جسوراً تربط بين الأسر المختلفة، هذه الجسور هي جسور المصاهرة، وما تقتضيه هذه المصاهرة من المناصحة والنصرة، فإذا تزوج رجل بأحد أفراد أسرة كذا، صارت أسرة زوجته أحماؤه، وصارت أسرة زوجها أحماؤها ـ والأحماء في اللغة هم: المنعة والمدافعون ـ وصارت أم زوجته محرمة عليه كأمه، لا تمتد منه إليها عين خيانة، وصار أبو زوجها محرماً عليها كأبيها، وبذلك تمتد جسور المحبة والمناصرة بين الأسرتين·
الرابطة الأسرية:
الروابط بين الأفراد والجماعات كثيرة، فهناك رابطة العرق: كالعربي والكردي، والجركسي، ورابطة الوطن: كالسوري، والمصري، والعراقي، والسعودي، ورابطة البلد: كالحلبي، والبغدادي، ورابطة الدين: كالمسلم والنصراني والمجوسي ورابطة الأسرة أو العشيرة، وهي رابطة تقوم في أصلها على الدم، كالقلعجي، والنخعي، والكتاني·
ورابطة الأسرة أمر الإسلام بتحقيقها برأسها، بقطع النظر عن تحقق الروابط الأخرى أو عدم تحققها، فالابن مطالب ببر أبيه مسلماً كان الأب أو كافراً، كما قال تعالى في سورة لقمان: في الآية 15 (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا)·
مسلتزمات رابطة الأسرة:
إذا وجدت رابطة الأسرة، لزم على من ينخرط في هذه الرابطة ما يلي:
أولاً: الاهتمام بأمور أفراد الأسرة: إذ كل فرد من أفراد الأسرة عليه أن يهتم بكل فرد فيها، بحيث يكون على علم دائم بأحواله، ويكون ذلك بالسؤال عنه، ليتمكن من مواساته في الحزن، ومشاركته في الفرح، وكشف الغم عنه إن نزل به غم، ونحو ذلك·
ثانياً: الإنفاق: من حق كل مقيم في دولة الإسلام أن يكون مكفياً جميع ضرورات العيش، من طعام وشراب ودواء وكساء ومأوى وتعليم ونحو ذلك، ويكلف هو نفسه بتمويل هذه الضرورات لعيشه عندما يكون قادراً على ذلك، فإن بلغ به الفقر مبلغاً لم يعد معه قادراً على تمويلها، فإنه يكلف بتمويلها له أفراد أسرته ـ إن كانوا قادرين على ذلك ـ، فيكلف الابن بالإنفاق على الأب، ويكلف الابن بالإنفاق على ولده، ويكلف الأخ بالإنفاق على أخيه، وابن الأخ بالإنفاق على عمه، وهكذا، فإن لم تكن له أسرة، أو كانت أسرته فقيرة، فتأمين هذه الضرورات يكون على الدولة، فإن لم تقم بها الدولة، فتأمينها يكون على من علم حاله من المسلمين، وفي ذلك يقول عليه الصلاة والسلام: )ما آمن بي من بات شبعان وجاره إلى جنبه جائع وهو يعلم)·
ثالثاً: التواصل: ويتحقق هذا التواصل بزيارته في المواسم والأعياد، وإذا بعد زمن اللقاء، وفي مواساته في الأحزان، ومشاركته في الأفراح، ونحو ذلك، وقد قرن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الصلة بالإيمان بالله سبحانه، فقال صلى الله عليه وسلم: )من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه)(1(، وجعل هذه الصلة سبباً في بسط الرزق، والمباركة في الأجل، قال عليه الصلاة والسلام: )من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه)(2·(
رابعاً: التناصح : فإذا رأى أحد أفراد الأسرة من آخر تقصيراً نبهه إليه، وبين له مكامن الخطر فيه، وإن رأى منه خيراً حثه وشجعه عليه، وهو ما يعرف بالمصطلح الإسلامي بـ )الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر( وهو أمارة صحة المجتمع الإسلامي، فمجتمع لا يرى خيراً إلا ويدل ويحض عليه القريب والغريب، ولا يرى منكراً إلا ويصد عنه ويمنع منه القريب والغريب، هو مجتمع جدير بالسيادة والبقاء، ولذلك جعل الله تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجباً على كل مسلم قدر استطاعته، فقال تعالى في سورة آل عمران: 401 (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر(·
والأسرة يرفع شأنها شخص واحد منها، ويسيء سمعتها شخص واحد منها، فكم من الأسر المغمورة قد ارتفع ذكرها، وعلا شأنها، بتفوق شخص واحد منها في العلم أو في التقوى، أو في عمل الخير، وكم من أسرة ساءت سمعتها بسوء تصرف شخص منها، لأن الأسرة خلية واحدة، يؤدي كل فرد فيها مهمة له، فإذا أساء أداءها فتح في الخلية ثغرة يمكن أن يتسلل منها الضعف، للذي يؤدي إلى خراب الخلية، وما أَجَلَّ ذلك المثال الذي ضربه الرسول صلى الله عليه وسلم حين شبه الأسرة بسفينة، ركابها أفرادها، فإذا خرق أحد الركاب ـ كائناً من كان ـ في السفينة خرقاً، كان هذا الخرق سبباً في غرق السفينة وغرق الناس، فقال صلى الله عليه وسلم: (مثل القائم في حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً)(3) وكذلك الأسرة إذا فتح أحد ثغرة فيها، تسلل الخطر من هذه الثغرة، ثم استشرى أمره، واستفحل، حتى يؤدي ذلك إلى تفكك الأسرة·
خامساً: التعاون: التعاون على الخير أمر وجه إليه الإسلام بعامة، بقوله تعالى في سورة المائدة: 2 (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) ولكن توجيهه إليه في رحاب الأسرة أشد، لما بين أفراد الأسرة من القرابة، ومن تشابك المصالح، وليس لهذا التعاون سوى ميدان واحد هو عمل الخير والدعوة إليه، وهو ميدان فسيح، ومجالاته كثيرة، فهناك تعاون في أعمال البيت، فقد سئلت السيدة عائشة رضي الله عنها: ما كان رسول الله يصنع في بيته؟ قالت: (كان يكون في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج فصلى( 4) (ـ أي: يساعدهم في الأعمال البيتية، وتعاون في تربية الأولاد، وتعاون على العبادة، وقد أثنى رسول الله على من يوقظ أهله لصلاة قيام الليل، فإذا تثاقلت داعبها وأيقظها برش وجهها بالماء، فقال صلى الله عليه وسلم: )رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى، ثم أيقظ امرأته، فإن أبت نضح وجهها بالماء، ورحم امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء)(5) وتعاون في الترفيه عن الأسرة، قالت عائشة رضي الله عنها )لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد، حتى أكون أنا التي أسأمه))6(، وهكذا·
سادساً: التناصر: وأعني بالتناصر: التعاون لرفع الضيم، حتى إذا ما وقع على أحد أفراد الأسرة ضيم، هبت الأسرة كلها لمناصرته حتى يرفع الضيم عنه، وقد يكون هذا الضيم ظلماً وقع عليه كسطو ظالم على ماله، وقد يكون مصيبة أصابته من الله تعالى كمرض عضال تحتاج إزالته إلى مال كثير، وهو غير موجود عنده، وقد يكون نتيجة خطأ لا يريده، كما لو قتل شخصاً خطأ، فإن ديته تفرض على عاقلة القاتل، لأن القاتل ليس بمجرم، بل هو مخطئ·
سابعاً: ثبوت المحرمية: تثبت المحرمية بين الأقارب الأقربين رجالاً ونساء من أفراد الأسرة، وهم الذين يسمون بـ )الرحم المحرمة) وهذه المحرمية تعطي نوعاً من القداسة لهذه العلاقة الأسرية·
ثامناً: الإرث: وهو يثبت بين أفراد الأسرة، كما هو مفصَّل في الشريعة·
التفكك الأسري:
إذا قلنا )أسرة) فإن ذلك يعني تطبيق تلك المستلزمات التي ذكرناها في الفقرة السابقة، فهي في جملتها تعطي للأسرة معناها، والخلل الذي يصيب أحد مستلزمات الأسرة يعني أن خللاً قد أصاب لبنة أساسية في بناء الأسرة، فإذا سرى الخلل إلى لبنة أخرى، وثالثة ورابعة، وهن بناء الأسرة، وتصدعت أبراجه، وأصبحت هذه اللبنات عبئاً عليه ينوء بحمله، بل يهدد بقاءه·
أسباب التفكك الأسري:
الإنسان اجتماعي بطبعه، تلك مُسلَّمة قرأناها صغاراً، ورددناها كباراً، لأنه لم يثبت عكسها، وبناء على ذلك فإن الأمر الطبيعي أن تكون الأسرة وحدة متراصة، لأنها تحقق فطرة الإنسان في نزوعه للعيش في مجتمع، ولما بين أفرادها من رابطة الدم، ومن المصالح المشتركة، فإذا رأينا الأسرة مفككة، علمنا أنه لابد من وجود أسباب أدت إلى هذا التفكك، فما الأسباب هذه؟
بعد تقليب النظر في أسباب التفكك الأسري أرى أن أسباب هذا التفكك يعود إلى سبب، أو أكثر من الأسباب التالية:
أولاً: التحلل من القيم الدينية: إن المحافظة على وحدة الأسرة وتماسكها عبادة أمر الله تعالى بها، وتفكيك بنية الأسرة معصية يعاقب الله تعالى عليها، قال عليه الصلاة والسلام: )كلكم راع ومسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راع وهو مسؤول عن رعيته، والولد في مال أبيه راع وهو مسؤول عن رعيته، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) (7) فأنت ترى عظم هذه المسؤولية التي حملها الله تعالى كل فرد من أفراد الأسرة، وإنها ليحاسبه عليها يوم القيامة إن هو فرط فيها·
وتأمل هذه الرابطة التي فرضها الله تعالى على المرء تجاه والديه، حين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: )رغم أنفه، رغم أنفه، قيل: من يا رسول الله؟ قال: من أدرك أبويه عند الكبر، أحدهما أو كلاهما، ثم لم يدخل الجنة)(8) إنها رابطة مفروضة بسلطان الدين، يغذيها الإيمان بالله واليوم الآخر·
يتبع