المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : التهور والاندفاع



ابو وليد البحيرى
2020-02-27, 07:22 PM
التهور والاندفاع
سعيد عبد العظيم


بسم الله و الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله و على آله و صحبه و من والاه.
أما بعد:
فالتأني والحلم والرفق والوقار ومجاهدة النفس دليل رجاحة العقل واتزان النفس وعلى العكس والنقيض فإن التهور والاندفاع والطيش والهوي والسفه والعجلة دليل خفة العقل وجهالة النفس، وقد يظهر ذلك في سرعة الغضب من يسير الأمور، والمبادرة بالطيش، والإيقاع بالمؤذي، والسرف في العقوبة، وإظهار الجزع من أدنى ضرر، والسب الفاحش، أو استعمال العبد قواه فيما لا ينبغي وكما لا ينبغي، والتهور خلق مستقبح من كل أحد إلا أنه من الملوك و الرؤساء أقبح، وعلى هذا فإذا ترتب على الطيش محرم كان محرماً و إذا ترتب عليه مكروه كان مكروهاً، وهو على كل حال مستقبح وفي كل وقت مسترذل، فكم من اندفاعة في غير موضعها أورثت حزناً طويلا، وكم من قول أو فعل متهور طائش أهلك صاحبه وحرمه النجاة وألقي به في عداد الظلمة الفسقة.
ومن ذلك إساءة الظن بالمسلمين وعدم التثبت في نقل الأخبار و إشاعة الاتهام في حق الأبرياء دون بينة أوضح من شمس النهار، قال تعالي: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُم ْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) (النور: 15).
وفي صحيح مسلم " أن المسيح - عليه السلام - رأي رجلاً يسرق فقال: سرقت، فقال الرجل: والله ما سرقت، فقال المسيح: آمنت بالله وكذبت عيني ".
ومن ذلك التهور في تكفير المسلمين الذين ورثوا الإسلام جهلوا معانيه بزعم التحاكم للطاغوت وغير ذلك من شبهات غلاة التكفير، ومن المعلوم أن الإنسان متى خرج من الملة لا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين ولا يورث ويفسخ عقده مع امرأته و يفقد ولايته على أولاده.... إلى غير ذلك من الأمور التي تدعو إلى التثبت والسعي في درء الشبهات وإقامة الحجة الرسالية التي يكفر مخالفها على يد عالم أو ذي سلطان مطاع.
من صور التهور:
ومن ذلك التهور في إيقاع الطلاق مع الاستثارة أو وقت الانفعال والغضب ثم الندم بعد فوات الأوان وتخريب البيوت وتشريد الأولاد، ومن ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دون مراعاة الضوابط الشرعية، فتجد من ينصب نفسه قاضياً وجلاداً ومجنياً عليه في نفس الوقت، ومن يتصرف كأنه دولة داخل دولة فيقيم الحدود الشرعية بلا ضابط ولا رابط مع كثرة الشبهات وواقع الغربة وانجرار المفاسد الكبيرة من وراء ذلك.
والثالث قد يكسر عضوا أو يقبح أو يضرب الوجه بزعم أن الزوجة أو الولد ارتكب كذا أو صنع كذا و كأن الغاية تبرر الوسيلة، والرابع قد يهدم قبراً مشرفاً ويعاد بناؤه في نفس اليوم وينسب من فعل ذلك لانتهاك حرمة الموتى، ويتعدى الأذى إلى الأبرياء من الأهل والإخوان و الأصدقاء، وقد تستثمر هذه السلوكيات في التنفير من الدعوة وفي الصد عن سبيل الله، وبالجملة فصور التهور والاندفاع كثيرة ومن شانها أن تستجلب المضرة والمفسدة وتفوت المصلحة، وفي الحديث: " إن الله - عز وجل - ليعطي على الرفق، ما لا يعطي على الخرق، وإذا أحب الله عبداً أعطاه الرفق، وما من أهل بيت يحرمون الرفق إلا حرموا " (رواه الطبراني).
وقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " التأني من الله والعجلة من الشيطان، وما أحد أكثر معاذير من الله " (رواه البيهقي، و حسنه الألباني)، وورد في الحديث: " يأتي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان (صغار) سفهاء الأحلام (ضعفاء العقول) يقولون من قول خير البرية، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم يوم القيامة " (رواه البخاري).
وقد ظهر الخوارج بهذه الصفات وقاتلهم علي - رضي الله عنه -.
السلف يحذرون من التهور:
ولما اشتكى بعض الرعية من عمال عمر، فأمرهم أن يوافوه، فلما أتوه قام، فحمد الله وأثنى عليه، قال: " أيها الناس، أيتها الرعية، إن لنا عليكم حقاً، النصيحة بالغيب والمعاونة على الخير، أيها الرعاة إن للرعية عليكم حقا فاعلموا أنه لا شيء أحب إلى الله ولا أعز من حلم إمام ورفقه، و ليس جهل أبغض إلى الله ولا أغم من جهل إمام وخرقه ".
وقال أبو منصور: "الأناة حصن السلامة، والعجلة مفتاح الندامة ". وقال: " التأني مع الخيبة خير من التهور مع النجاح ". وقال " السباب مظنة الجهل ومطية الذنوب ".
فالتهور والاندفاع قريب من الشباب وصغر السن وبسبب الجهل الملازم لهذه المرحلة في الأعم الأغلب، و لذلك قالوا: تفقهوا قبل أن ترأسوا، وقالوا: تفقهوا قبل أن تسودوا، و كان ابن مسعود - رضي الله عنه - يقول لأهل زمانه: "أنتم في زمان خيركم المسارع في الأمر، و سيأتي على الناس زمان خيرهم المتوقف المتثبت لكثرة الشبهات ". فالإنسان طبعه العجلة ": (وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً) (الإسراء: من الآية11).

فيعجل بسؤال الشر كما يعجل بسؤال الخير، ويؤثر العاجل وإن قل على الآجل وإن جل، وقد يفعل الشيء قبل وقته اللائق، ولذلك ذمت العجلة التي هي من مقتضيات الشهوة في جميع القرآن حتى قيل: العجلة من الشيطان، بعكس ما كان في طلب الآخرة فهو محمود، قال - تعالى - عن نبيه موسى: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى) (طـه: من الآية84). وقال عمر بن الخطاب: "التروي في كل أمر خير إلا ما كان من أمر الآخرة ".
وقد عد الحافظ ابن حجر العجلة وترك التثبت في الأمور من الكبائر وجاء في الحديث " العجلة من الشيطان " لأن عندها يروج شره على الإنسان من حيث لا يشعر بخلاف من تمهل وتروى عند الإقدام على عمل يريده فإنه تحصل له بصيرة به ومتى لم تحصل تلك البصيرة فلا ينبغي الاستعجال بل حتى فيما يتعلق بالصالحات فالعجلة تفوت قدراً من الأجر والثواب، ولذلك قالوا: رحم الله عبداً وقف مع أول همه فإن كان لله أمضاه وإن كان لغيره توقف، والعجلة دليل على عدم تقدير الأمور والجهل بحقائقها، يوضح ذلك قوله - تعالى -: (أَفَبِعَذَابِن ا يَسْتَعْجِلُونَ ). (الشعراء: 204). وقوله: (يَسْتَعْجِلُون كَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ) (العنكبوت: 54). وقوله: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سبحانه وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (النحل: 1).
وعن أبى هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي " (رواه البخاري و مسلم). وفي حديث أم زرع قالت الثالثة: " زوجي العشنق (طول بلا نفع) إن أنطق أطلق (إن ذكرت عيوبه طلقها لطيشه) وإن أسكت أعلق (تركها لا عزباء ولا مزوجة)... " الحديث، (رواه البخاري و مسلم).
وقال الحسن بن علي - رضي الله عنهما -: اعلموا أن الحلم زينة، والوفاء مروءة، والعجلة سفه، والسفر ضعف، ومجالسة أهل الدناءة شين، ومخالطة أهل الفسق ريبة ".
وقالوا: لا يستحق أحد اسم الرئاسة حتى يكون فيه ثلاثة أشياء: العقل والعلم والمنطق، ثم يتعرى عن ستة أشياء: عن الحدة والعجلة والحسد والهوى والكذب وترك المشورة.
وعاب مالك العجلة في الأمور وقال: قرأ ابن عمر البقرة في ثمان سنين (بمعنى أنه جمع فيها العلم و العمل معاً كما هو منهج الصحابة - رضي الله عنهم -) وقال أيضاً: العجلة نوع من الجهل. وقال أبو حاتم: العجلة تكون من الحدة، وصاحب العجلة إن أصاب فرصته لم يكن محموداً، وإن أخطأها كان مذموماً، والعَجِل لا يسير إلا مناكباً للقصد، منحرفاً عن الجادة، يلتمس ما هو أنكد وأوعر وأخفى مساراً، يحكم حكم الورهاء (الحمق) يناسب أخلاق النساء، وإن العجلة موكل بها الندم، و ما عجل أحد إلا اكتسب ندامة واستفاد مذمة؛ لأن الزلل مع العجل، ولا يكون المذموم محموداً أبداً.
وفي وصية الخطاب ابن المعلى المخزومي القرشي لابنه قال فيها: يا بني عليك بتقوى الله وطاعته وتجنب محارمه باتباع سنته ومعالمه حتى تصحح عيوبك، وتقر عينك، فإنها لا تخفى على الله خافية، و إني قد وسمت لك وسماً، إن أنت حفظته ووعيته وعملت به ملأت عين الملوك وانقاد لك به الصعلوك ولم تزل مرتجى مشرفاً يحتاج إليك، ويرغب إلى ما في يديك... إلى أن قال: والعجلة شؤم وسوء التدبير وهن.
فالحذر الحذر من التهور والاندفاع فهو دليل على السفه وضعف العقل، ويتسبب في كثرة الزلل والوقوع في الخطأ، وصاحبه محروم من السيادة ومواقع القيادة والريادة، يجلب لنفسه الضرر، ويوقعها في مواضع الندم، حيث لا ينفع الندم، فلابد من وقفة تريث وتمهل وتثبت لنكون على بصيرة من أمرنا وأمر الناس حتى تُستوضح مواضع الأقدام وتحمد العاقبة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين..