ابو وليد البحيرى
2020-02-23, 01:48 PM
شهر رجب
سليمان بن جاسر الجاسر
مقدمة
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فمن باب التواصي بالحق والتعاون على البر والتقوى أردت أن أذكر نفسي وإخواني المسلمين بما ورد في رجب رغبة في البيان وأن الله سبحانه وتعالى أمرنا بالتبليغ لدينه واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم فلا تقبل عبادة من العبادات إلَّا إذا كانت خالصة لله عز وجل صوابًا أي باتباع سنة محمد صلى الله عليه وسلم وقد بين الله عز وجل أثر اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور:54].
ومما لا شك فيه أن الله يختص ويختار بأمره وإرادته ما شاء فقال سبحانه: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68]، وهذا الاختيار يدل على كمال حكمته وعلمه وقدرته ومما اختار سبحانه الأشهر الحرم ومن هذه الأشهر شهر رجب الذي بين جمادى وشعبان، فإليك نبذة مما جاء في شهر رجب، معناه، وبعض الأعمال البدعية المنتشرة فيه وأقوال أهل العلم في ذلك، زادنا الله علمًا نافعًا وعملًا صالحًا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
التعريف بشهر رجب
شهر رجب هو الشهر السابع من شهور السنة الهجرية وهو أحد الأشهر الحرم التي قال الله عز وجل فيها: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُم ْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:36].
قال الإمام القرطبي ـ رحمه الله ـ في تفسيره: «خَصّ الله تعالى الأشهر الحرم بالذكر ونهى عن الظلم فيها تشريفًا لها، وإن كان منهيًا عنه في كل الزمان، وعلى هذا أكثر أهل التأويل، أي: لا تظلموا في الأربعة أشهر الحرم أنفسكم، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «{فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} في الاثني عشر» ا.هـ(1).
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي ـ رحمه الله ـ في تفسيره: «{فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} يحتمل أن الضمير يعود إلى الإثنى عشر شهرًا، وأن الله تعالى بين أنه جعلها مقادير للعباد، وأن تُعمر بطاعته، ويُشكر الله تعالى على منتِه بها وتقييضها لصالح العباد، فلتحذروا من ظلم أنفسكم فيها. ويحتمل أن الضمير يعود إلى الأربعة الحُرم، وأن هذا نهي لهم عن الظلم فيها، خصوصًا مع النهي عن الظلم كل وقت، لزيادة تحريمها، وكون الظلم فيها أشد من غيرها» ا.هـ(2).
وفي الصحيحين(3) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حجته فقال: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا منها أربعة حُرُم، ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مُضر الذي بين جمادى وشعبان».
قال الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله ـ في تفسيره: «فإنما أضافه ـ أي رجب ـ إلى مُضر ليُبين صحة قولهم في رجب إنه الشهر الذي بين جمادى وشعبان، لا كما تظنه ربيعة من أن رجب المحرم هو الشهر الذي بين شعبان وشوال وهو رمضان اليوم، فبَيَّنَ صلى الله عليه وسلم أنه رجب مضر لا رجب ربيعة، وإنما كانت الأشهر المحرمة أربعة، ثلاثة سرد وواحد فرد، لأجل أداء مناسك الحج والعمرة فحُرِّم قبل أشهر الحج شهرًا وهو ذو القعدة؛ لأنهم يقعدون فيه عن القتال، وحُرِّم شهر ذو الحجة لأنهم يوقعون فيه الحج ويشتغلون بأداء المناسك، وحُرِّم بعده شهرًا آخر وهو المحرم؛ ليرجعوا فيه إلى أقصى بلادهم آمنين، وحُرِّم رجب في وسط الحول لأجل زيارة البيت والاعتماد به لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب فيزوره ثم يعود إلى وطنه فيه آمنًا» ا.هـ.(4).
وقال الحافظ ابن رجب ـ رحمه الله ـ: «وأما إضافته ـ أي رجب ـ إلى مُضَر فقيل: لأن مضر كانت تزيد في تعظيمه واحترامه، فنُسِب إليهم لذلك. وقيل: بل كانت ربيعة تحرِّمُ رمضان وتُحرِّمُ مُضَر رجبًا، فلذلك سمَّاه رجبَ مُضَر وحقَّق ذلك بقوله: «الذي بين جمادى وشعبان» ا.هـ.(5)
معنى رجب، وسبب تسميته بهذا الاسم
رجب في اللغة مأخوذ من رجبَ الرجلَ رجَبا، ورَجَبَه يرجُبُه رجبًا ورُجُوبًا، ورجَّبه وترَجَّبَه وأرجبَهَ كلهُّ: هابه وعظَّمه، فهو مَرجُوبٌ.
ورجب: شهر سموه بذلك لتعظيمهم إياه في الجاهلية عن القتال فيه، ولا يستحلِّون القتال فيه، والترجيب التعظيم، والراجب المعظم لسيده(6).
وذكر بعض العلماء أن لشهر رجب أربعة عشر اسمًا: شهر الله، رجب، رجب مضر، منصل الأسنة، الصم، منفس، مطهر، مقيم، هرم، مقشقش، مبريء، فرد، الأصب، مُعلَّى، وزاد بعضهم: رجم، منصل الآل وهي الحربة، منزع الأسنة(7).
وقد فسر بعض العلماء بعض هذه الأسماء بما يلي:
1- رجب: لأنه كان يُرجَّب في الجاهلية أي يُعظم.
2- الأصم: لأنهم كانوا يتركون القتال فيه، فلا يسمع فيه قعقعة السلام، ولا يسمع فيه صوت استغاثة.
3- الأصب: لأن كفار مكة كانت تقول: إن الرحمة تصب فيه صبًا.
4- رجم: بالميم لأن الشياطين ترجم فيه: أي تطرد.
5- الهرم: لأن حرمته قديمة من زمن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
6- المقيم: لأن حرمته ثابتة لم تنسخ، فهو أحد الأشهر الأربعة الحرم.
7- المُعلى: لأنه رفيع عندهم فيما بين الشهور.
8- منصل الأسنة: ذكره البخاري عن أبي رجاء العطاردي.
9- منصل الآل: أي الحراب.
10- المبريء: لأنه كان عندهم في الجاهلية من لا يستحل القتال فيه بريء من الظلم والنفاق.
11- المقشقش: لأن به كان يتميز في الجاهلية المتمسك بدينه، من المقاتل فيه المستحل له.
12- شهر العتيرة: لأنهم كانوا يذبحون فيه العتيرة، وهي المسماة الرجبية نسبة على رجب(8).
13- رجب مضر: إضافة إلى مضر لأنهم كانوا متمسكين بتعظيمه، بخلاف غيرهم، فيقال إن ربيعة كانوا يجعلون بدله رمضان، وكان من العرب من يجعل في رجب وشعبان، ما ذكر في المحرم وصفر، فيحلون رجبًا ويحرمون شعبان(9).
وقال صلى الله عليه وسلم: «ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان»(10). فقيده بهذا التقييد مبالغة في إيضاحه، وإزالة اللبس عنه قالوا: وقد كان بين مضر وبين ربيعة، اختلاف في رجب، فكانت مضر تجعل رجبًا هذا الشهر المعروف الآن، وهو الذي بين جمادي وشعبان، وكانت ربيعة تجعله رمضان، فلهذا أضافه النبي صلى الله عليه وسلم إلى مضر، وقيل لأنهم كانوا يعظمونه أكثر من غيرهم(11).
فكل هذه الأسماء التي أطلقت على شهر رجب، تدل على تعظيم الكفار لهذا الشهر، وربما كان تعظيم مضر لشهر رجب أكثر من تعظيم غيرهم له، فلذلك أضيف إليهم(12).
هل لشهر رجب مزية على غيره من الشهور؟
ينبغي علينا ألَّا نخص شهر رجب إلا بما خصه الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم أنه شهر محرَّم يتأكد فيه اجتناب المحرمات لعموم قول الله عز وجل في الأشهر الحرم: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36].
ولا له مزيد عبادة عن غيره من الشهور بحجة أنه شهر محرم، وقد روُي في هذا الشهر صلوات وأذكار لكنها ضعيفة لا تثبت بها حجة، فالنبي صلى الله عليه وسلم أدرك هذا الشهر ولم يزد فيه على غيره وحري بكل مسلم أن يكون متبعًا لا مبتدعًا.
قال ابن حجر رحمه الله: «لم يرد في فضل شهر رجب، ولا في صيامه، ولا في صيام شيء منه معين، ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه حديث صحيح يصلح للحجة» ا.هـ(13).
بعض الأعمال البدعية المنتشرة في شهر رجب
انتشر عند بعض الناس بعض البدع التي تتعلق بهذا الشهر نذكر منها ما يلي:
1- الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج:
يحتفل بعض المسلمين بالإسراء والمعراج في ليلة السابع والعشرين من شهر رجب، على اعتبار أنه صلى الله عليه وسلم أُسرِيَ به في هذه الليلة، والواقع أنه لم يثبت كون هذه الليلة هي التي أُسرِيَ به صلى الله عليه وسلم فيها، فقيل إنه صلى الله عليه وسلم أُسرِيَ به في ليلة سبع وعشرين من شهر ربيع الآخر(14)، وقيل: ليلة سبع وعشرين من ربيع الأول(15).
قال ابن رجب ـ رحمه الله ـ: «وروي بإسناد لا يصح عن القاسم بن محمد أن الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم كان في سابع وعشرين من رجب، وأنكر ذلك إبراهيم الحربي وغيره»(16).
وحكى الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله ـ ذلك القول عن بعض القُصَّاص(17).
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ: «وهذه الليلة التي حصل فيها الإسراء والمعراج لم يأتِ في الأحاديث الصحيحة تعيينها، لا في رجب ولا غيره، وكل ما ورد في تعيينها فهو غير ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل العلم بالحديث، ولله الحكمة البالغة في إنساء الناس لها»... ولو ثبت تعيينها لم يجز للمسلمين أن يخصوها بشيء من العبادات، ولم يجز لهم أن يحتفلوا بها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ي لم يحتفلوا بها، ولم يخصوها بشيء، ولو كان الاحتفال بها مشروعًا لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم للأمة إما بالقول وإما بالفعل، ولو وقع شيء من ذلك لعرف واشتهر، ولنقله الصحابة ي إلينا»(18).
قال الشيخ محمد بن عثيمين ـ رحمه الله ـ: «فأما ليلة السابع والعشرين من رجب فإن الناس يدّعون أنها ليلة المعراج التي عرج بالرسول صلى الله عليه وسلم فيها إلى الله عز وجل وهذا لم يثبت من الناحية التاريخية، وكل شيء لم يثبت فهو باطل»(19).
وقال ـ رحمه الله ـ في موضع آخر: «ثم على تقدير ثبوت أن ليلة المعراج ليلة السابع والعشرين من رجب فإنه لا يجوز لنا أن نحدث فيها شيئًا من شعائر الأعياد أو شيئًا من العبادات؛ لأن ذلك لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فإذا كان لم يثبت عمن عُرج به، ولم يثبت عن أصحابه الذي هم أولى الناس به، وهم أشد الناس حرصًا على سنته وشريعته، فكيف يجوز لنا أن نحدث ما لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم في تعظيمها شيء، وفي إحيائها!»(20).
مما سبق يتبين أن تخصيص ليلة السابع والعشرين من رجب باحتفال يعود كل عام، يلحقها بالأعياد المحدثة، التي لا دليل عليها من كتاب ولا سنة، ولهذا لم يفعل ذلك السلف، ولا عرفت عنهم، ولا تحدثوا عنها(21).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «وأما اتخاذ موسم غير المواسم الشرعية، كبعض ليالي شهر ربيع الأول التي يقال إنها ليلة المولد، أو بعض ليالي رجب، أو ثامن عشر ذي الحجة، أو أول جمعة من رجب، أو ثامن شوال الذي يسميه الجهال عيد الأبرار، فإنها من البدع التي لم يستحبها السلف، ولم يفعلوها، والله سبحانه وتعالى أعلم»(22).
وقال ابن النحاس ـ رحمه الله ـ: «وكل ذلك [ومنه الاحتفال بالإسراء والمعراج] بدع عظيمة في الدين، ومحدثات أحدثها إخوان الشياطين، مع ما في ذلك من الإسراف في الوقيد، والتبذير وإضاعة المال»(23).
وقال الشقيري ـ رحمه الله ـ: «وقراءة قصة المعراج، والاحتفال لها في ليلة السابع والعشرين من رجب بدعة»(24).
وسئل السيد محمد رشيد رضا عن الاحتفال بليلة المعراج، وما فيه من إيقاد السرج والأغاني فأجاب: «لا شك في أن ما ذكرتم من البدع، وأنه ليس من شعائر الإسلام في شيء، وأما محوه وإبطاله فيراعى فيه الحكمة والموعظة الحسنة، واتقاء الشقاق والتفريق بين المسلمين»(25).
وقال الشيخ على محفوظ ـ رحمه الله ـ: «وقد تفنن أهل هذا الزمان بما يأتون في هذه الليلة من المنكرات، وأحدثوا فيها من أنواع البدع ضروبًا كثيرة»(26).
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ ـ رحمه الله ـ: «الاحتفال بذكر الإسراء والمعراج أمر باطل، وشيء مبتدع، وهو تشبه باليهود والنصارى في تعظيم أيام لم يعظمها الشرع، وصاحب المقام الأسمى رسول الهدى صلى الله عليه وسلم هو الذي شرع الشرائع، وهو الذي وضّح ما يحل وما يحرم، ثم إن خلفاءه الراشدين وأئمة الهدى من الصحابة والتابعين لم يعرف عن أحد منهم أنه احتفل بهذه الذكرى.
المقصود أن الاحتفال بذكرى (الإسراء والمعراج) بدعة، فلا يجوز، ولا تجوز المشاركة فيه، ولا أوافق على أن تشارك الرابطة فيه لا بإرسال أحد من موظفيها، ولا بإنابة الشيخ القليقلي أو غيره عنها في ذلك»(27).
يتبع
سليمان بن جاسر الجاسر
مقدمة
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فمن باب التواصي بالحق والتعاون على البر والتقوى أردت أن أذكر نفسي وإخواني المسلمين بما ورد في رجب رغبة في البيان وأن الله سبحانه وتعالى أمرنا بالتبليغ لدينه واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم فلا تقبل عبادة من العبادات إلَّا إذا كانت خالصة لله عز وجل صوابًا أي باتباع سنة محمد صلى الله عليه وسلم وقد بين الله عز وجل أثر اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور:54].
ومما لا شك فيه أن الله يختص ويختار بأمره وإرادته ما شاء فقال سبحانه: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68]، وهذا الاختيار يدل على كمال حكمته وعلمه وقدرته ومما اختار سبحانه الأشهر الحرم ومن هذه الأشهر شهر رجب الذي بين جمادى وشعبان، فإليك نبذة مما جاء في شهر رجب، معناه، وبعض الأعمال البدعية المنتشرة فيه وأقوال أهل العلم في ذلك، زادنا الله علمًا نافعًا وعملًا صالحًا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
التعريف بشهر رجب
شهر رجب هو الشهر السابع من شهور السنة الهجرية وهو أحد الأشهر الحرم التي قال الله عز وجل فيها: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُم ْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:36].
قال الإمام القرطبي ـ رحمه الله ـ في تفسيره: «خَصّ الله تعالى الأشهر الحرم بالذكر ونهى عن الظلم فيها تشريفًا لها، وإن كان منهيًا عنه في كل الزمان، وعلى هذا أكثر أهل التأويل، أي: لا تظلموا في الأربعة أشهر الحرم أنفسكم، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «{فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} في الاثني عشر» ا.هـ(1).
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي ـ رحمه الله ـ في تفسيره: «{فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} يحتمل أن الضمير يعود إلى الإثنى عشر شهرًا، وأن الله تعالى بين أنه جعلها مقادير للعباد، وأن تُعمر بطاعته، ويُشكر الله تعالى على منتِه بها وتقييضها لصالح العباد، فلتحذروا من ظلم أنفسكم فيها. ويحتمل أن الضمير يعود إلى الأربعة الحُرم، وأن هذا نهي لهم عن الظلم فيها، خصوصًا مع النهي عن الظلم كل وقت، لزيادة تحريمها، وكون الظلم فيها أشد من غيرها» ا.هـ(2).
وفي الصحيحين(3) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حجته فقال: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا منها أربعة حُرُم، ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مُضر الذي بين جمادى وشعبان».
قال الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله ـ في تفسيره: «فإنما أضافه ـ أي رجب ـ إلى مُضر ليُبين صحة قولهم في رجب إنه الشهر الذي بين جمادى وشعبان، لا كما تظنه ربيعة من أن رجب المحرم هو الشهر الذي بين شعبان وشوال وهو رمضان اليوم، فبَيَّنَ صلى الله عليه وسلم أنه رجب مضر لا رجب ربيعة، وإنما كانت الأشهر المحرمة أربعة، ثلاثة سرد وواحد فرد، لأجل أداء مناسك الحج والعمرة فحُرِّم قبل أشهر الحج شهرًا وهو ذو القعدة؛ لأنهم يقعدون فيه عن القتال، وحُرِّم شهر ذو الحجة لأنهم يوقعون فيه الحج ويشتغلون بأداء المناسك، وحُرِّم بعده شهرًا آخر وهو المحرم؛ ليرجعوا فيه إلى أقصى بلادهم آمنين، وحُرِّم رجب في وسط الحول لأجل زيارة البيت والاعتماد به لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب فيزوره ثم يعود إلى وطنه فيه آمنًا» ا.هـ.(4).
وقال الحافظ ابن رجب ـ رحمه الله ـ: «وأما إضافته ـ أي رجب ـ إلى مُضَر فقيل: لأن مضر كانت تزيد في تعظيمه واحترامه، فنُسِب إليهم لذلك. وقيل: بل كانت ربيعة تحرِّمُ رمضان وتُحرِّمُ مُضَر رجبًا، فلذلك سمَّاه رجبَ مُضَر وحقَّق ذلك بقوله: «الذي بين جمادى وشعبان» ا.هـ.(5)
معنى رجب، وسبب تسميته بهذا الاسم
رجب في اللغة مأخوذ من رجبَ الرجلَ رجَبا، ورَجَبَه يرجُبُه رجبًا ورُجُوبًا، ورجَّبه وترَجَّبَه وأرجبَهَ كلهُّ: هابه وعظَّمه، فهو مَرجُوبٌ.
ورجب: شهر سموه بذلك لتعظيمهم إياه في الجاهلية عن القتال فيه، ولا يستحلِّون القتال فيه، والترجيب التعظيم، والراجب المعظم لسيده(6).
وذكر بعض العلماء أن لشهر رجب أربعة عشر اسمًا: شهر الله، رجب، رجب مضر، منصل الأسنة، الصم، منفس، مطهر، مقيم، هرم، مقشقش، مبريء، فرد، الأصب، مُعلَّى، وزاد بعضهم: رجم، منصل الآل وهي الحربة، منزع الأسنة(7).
وقد فسر بعض العلماء بعض هذه الأسماء بما يلي:
1- رجب: لأنه كان يُرجَّب في الجاهلية أي يُعظم.
2- الأصم: لأنهم كانوا يتركون القتال فيه، فلا يسمع فيه قعقعة السلام، ولا يسمع فيه صوت استغاثة.
3- الأصب: لأن كفار مكة كانت تقول: إن الرحمة تصب فيه صبًا.
4- رجم: بالميم لأن الشياطين ترجم فيه: أي تطرد.
5- الهرم: لأن حرمته قديمة من زمن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
6- المقيم: لأن حرمته ثابتة لم تنسخ، فهو أحد الأشهر الأربعة الحرم.
7- المُعلى: لأنه رفيع عندهم فيما بين الشهور.
8- منصل الأسنة: ذكره البخاري عن أبي رجاء العطاردي.
9- منصل الآل: أي الحراب.
10- المبريء: لأنه كان عندهم في الجاهلية من لا يستحل القتال فيه بريء من الظلم والنفاق.
11- المقشقش: لأن به كان يتميز في الجاهلية المتمسك بدينه، من المقاتل فيه المستحل له.
12- شهر العتيرة: لأنهم كانوا يذبحون فيه العتيرة، وهي المسماة الرجبية نسبة على رجب(8).
13- رجب مضر: إضافة إلى مضر لأنهم كانوا متمسكين بتعظيمه، بخلاف غيرهم، فيقال إن ربيعة كانوا يجعلون بدله رمضان، وكان من العرب من يجعل في رجب وشعبان، ما ذكر في المحرم وصفر، فيحلون رجبًا ويحرمون شعبان(9).
وقال صلى الله عليه وسلم: «ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان»(10). فقيده بهذا التقييد مبالغة في إيضاحه، وإزالة اللبس عنه قالوا: وقد كان بين مضر وبين ربيعة، اختلاف في رجب، فكانت مضر تجعل رجبًا هذا الشهر المعروف الآن، وهو الذي بين جمادي وشعبان، وكانت ربيعة تجعله رمضان، فلهذا أضافه النبي صلى الله عليه وسلم إلى مضر، وقيل لأنهم كانوا يعظمونه أكثر من غيرهم(11).
فكل هذه الأسماء التي أطلقت على شهر رجب، تدل على تعظيم الكفار لهذا الشهر، وربما كان تعظيم مضر لشهر رجب أكثر من تعظيم غيرهم له، فلذلك أضيف إليهم(12).
هل لشهر رجب مزية على غيره من الشهور؟
ينبغي علينا ألَّا نخص شهر رجب إلا بما خصه الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم أنه شهر محرَّم يتأكد فيه اجتناب المحرمات لعموم قول الله عز وجل في الأشهر الحرم: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36].
ولا له مزيد عبادة عن غيره من الشهور بحجة أنه شهر محرم، وقد روُي في هذا الشهر صلوات وأذكار لكنها ضعيفة لا تثبت بها حجة، فالنبي صلى الله عليه وسلم أدرك هذا الشهر ولم يزد فيه على غيره وحري بكل مسلم أن يكون متبعًا لا مبتدعًا.
قال ابن حجر رحمه الله: «لم يرد في فضل شهر رجب، ولا في صيامه، ولا في صيام شيء منه معين، ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه حديث صحيح يصلح للحجة» ا.هـ(13).
بعض الأعمال البدعية المنتشرة في شهر رجب
انتشر عند بعض الناس بعض البدع التي تتعلق بهذا الشهر نذكر منها ما يلي:
1- الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج:
يحتفل بعض المسلمين بالإسراء والمعراج في ليلة السابع والعشرين من شهر رجب، على اعتبار أنه صلى الله عليه وسلم أُسرِيَ به في هذه الليلة، والواقع أنه لم يثبت كون هذه الليلة هي التي أُسرِيَ به صلى الله عليه وسلم فيها، فقيل إنه صلى الله عليه وسلم أُسرِيَ به في ليلة سبع وعشرين من شهر ربيع الآخر(14)، وقيل: ليلة سبع وعشرين من ربيع الأول(15).
قال ابن رجب ـ رحمه الله ـ: «وروي بإسناد لا يصح عن القاسم بن محمد أن الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم كان في سابع وعشرين من رجب، وأنكر ذلك إبراهيم الحربي وغيره»(16).
وحكى الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله ـ ذلك القول عن بعض القُصَّاص(17).
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ: «وهذه الليلة التي حصل فيها الإسراء والمعراج لم يأتِ في الأحاديث الصحيحة تعيينها، لا في رجب ولا غيره، وكل ما ورد في تعيينها فهو غير ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل العلم بالحديث، ولله الحكمة البالغة في إنساء الناس لها»... ولو ثبت تعيينها لم يجز للمسلمين أن يخصوها بشيء من العبادات، ولم يجز لهم أن يحتفلوا بها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ي لم يحتفلوا بها، ولم يخصوها بشيء، ولو كان الاحتفال بها مشروعًا لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم للأمة إما بالقول وإما بالفعل، ولو وقع شيء من ذلك لعرف واشتهر، ولنقله الصحابة ي إلينا»(18).
قال الشيخ محمد بن عثيمين ـ رحمه الله ـ: «فأما ليلة السابع والعشرين من رجب فإن الناس يدّعون أنها ليلة المعراج التي عرج بالرسول صلى الله عليه وسلم فيها إلى الله عز وجل وهذا لم يثبت من الناحية التاريخية، وكل شيء لم يثبت فهو باطل»(19).
وقال ـ رحمه الله ـ في موضع آخر: «ثم على تقدير ثبوت أن ليلة المعراج ليلة السابع والعشرين من رجب فإنه لا يجوز لنا أن نحدث فيها شيئًا من شعائر الأعياد أو شيئًا من العبادات؛ لأن ذلك لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فإذا كان لم يثبت عمن عُرج به، ولم يثبت عن أصحابه الذي هم أولى الناس به، وهم أشد الناس حرصًا على سنته وشريعته، فكيف يجوز لنا أن نحدث ما لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم في تعظيمها شيء، وفي إحيائها!»(20).
مما سبق يتبين أن تخصيص ليلة السابع والعشرين من رجب باحتفال يعود كل عام، يلحقها بالأعياد المحدثة، التي لا دليل عليها من كتاب ولا سنة، ولهذا لم يفعل ذلك السلف، ولا عرفت عنهم، ولا تحدثوا عنها(21).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «وأما اتخاذ موسم غير المواسم الشرعية، كبعض ليالي شهر ربيع الأول التي يقال إنها ليلة المولد، أو بعض ليالي رجب، أو ثامن عشر ذي الحجة، أو أول جمعة من رجب، أو ثامن شوال الذي يسميه الجهال عيد الأبرار، فإنها من البدع التي لم يستحبها السلف، ولم يفعلوها، والله سبحانه وتعالى أعلم»(22).
وقال ابن النحاس ـ رحمه الله ـ: «وكل ذلك [ومنه الاحتفال بالإسراء والمعراج] بدع عظيمة في الدين، ومحدثات أحدثها إخوان الشياطين، مع ما في ذلك من الإسراف في الوقيد، والتبذير وإضاعة المال»(23).
وقال الشقيري ـ رحمه الله ـ: «وقراءة قصة المعراج، والاحتفال لها في ليلة السابع والعشرين من رجب بدعة»(24).
وسئل السيد محمد رشيد رضا عن الاحتفال بليلة المعراج، وما فيه من إيقاد السرج والأغاني فأجاب: «لا شك في أن ما ذكرتم من البدع، وأنه ليس من شعائر الإسلام في شيء، وأما محوه وإبطاله فيراعى فيه الحكمة والموعظة الحسنة، واتقاء الشقاق والتفريق بين المسلمين»(25).
وقال الشيخ على محفوظ ـ رحمه الله ـ: «وقد تفنن أهل هذا الزمان بما يأتون في هذه الليلة من المنكرات، وأحدثوا فيها من أنواع البدع ضروبًا كثيرة»(26).
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ ـ رحمه الله ـ: «الاحتفال بذكر الإسراء والمعراج أمر باطل، وشيء مبتدع، وهو تشبه باليهود والنصارى في تعظيم أيام لم يعظمها الشرع، وصاحب المقام الأسمى رسول الهدى صلى الله عليه وسلم هو الذي شرع الشرائع، وهو الذي وضّح ما يحل وما يحرم، ثم إن خلفاءه الراشدين وأئمة الهدى من الصحابة والتابعين لم يعرف عن أحد منهم أنه احتفل بهذه الذكرى.
المقصود أن الاحتفال بذكرى (الإسراء والمعراج) بدعة، فلا يجوز، ولا تجوز المشاركة فيه، ولا أوافق على أن تشارك الرابطة فيه لا بإرسال أحد من موظفيها، ولا بإنابة الشيخ القليقلي أو غيره عنها في ذلك»(27).
يتبع