ابو وليد البحيرى
2020-01-02, 11:29 AM
أسلوبية الانزياح في النص القرآني
محمد تحريشي
أسلوبية الانزياح في النص القرآني
من خلال مجاز القرآن لأبي عُبيَدة:
لقد أسهمت ثقافة أبي عبيدة في تشكل رؤيته النقدية، وهي رؤية تعتمد على الكشف عن خصوصية النص القرآني الفنية والجمالية، وهي التي وجهت طريقة تحليل هذا التركيب المقدس، بالإضافة إلى استغلاق هذا النص على أفهام الكثير من الناس، ولاسيما الأعجام منهم، وظهور قضية اللحن في نطاق القرآن الكريم.
لقد حارب العلماء هذه الظاهرة فـ"كانوا وهم يلحظون هذا التطور في اللغة لا يهمهم أن يسجلوه ويقارنوا بينه وبين أصله، بقدر ماكان يعنيهم أن يقفوا في وجهه، ويعيبونه ويحاولون إرجاع الناس إلى القديم"(1). وألفوا في ذلك كتباً، ككتاب الفصيح لثعلب (2)، تدرس الخطأ في الأصوات والأبنية والإعراب متناسين أن اللحن ـ في جوهره ـ ماهو إلا شكل من أشكال التطور الدلالي في عصر من العصور، ومن هنا نجد أن هؤلاء الدارسين، وبخاصة المفسرين قد تجاوزوا التعامل العاطفي مع النص إلى التعامل الفعلي الذي يقوم على معالجة النص من زاوية التركيب والوقوف عند المستويات الدلالية للألفاظ في سياقها الجديد، وعلاقة كل ذلك بالكلام العربي، كما خاضوا في مباحث بلاغية وأسلوبية، "وإذا كانت الدراسات الأسلوبية المعاصرة لا تفصل بين اللغة والبلاغة وتدخل في صميم عملها جنباً إلى جنب دراسة: موقع اللفظ، التكرار، الوسائل الإيقاعية، والموسيقية، والاستعارة والرمز والصورة"(3).
ويبدو أن أبا عبيدة ربط النحو بالأساليب والتراكيب "والنحو بالمعنى الذي عناه المتقدمون هو الذي مثله أبو عبيدة معمر بن المثنى بالمجاز عندما سمى كتابه "المجاز في القرآن"، وهو طريق العرب في التعبير عن مقاصدهم وأغراضهم وبيان ما طرأ على الجملة العربية من تقديم وتأخير أو حذف أو نحو ذلك"(4). وهو يسعى إلى التأكيد على صواب العبارة القرآنية انطلاقاً من هذا الأساس؛ ليكشف عن الدلالة الدقيقة لصيغ القرآن الكريم من ذلك أنه وقف عند الآية الكريمة (كما بدأكم تعودون فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة)
(5)، ليقول: "نصبها جميعاً على إعمال الفعل فيهما أي هدى فريقاً ثم أشرك الآخر في نصب الأول، وإن لم يدخل في معناه، والعرب تدخل الآخر المشترك بنصب ماقبله على الجوار، وإن لم يكن في معناه، وفي آية أخرى "يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعدّ لهم عذاباً أليماً"(6).
وخرج فعل الضلالة مذكراً والعرب تفعل ذلك إذا فرّقوا بين الفعل وبين المؤنثة لقولهم مضى من الشهر ليلة"(7).
إنه يسعى إلى إخراج النص مخرجاً لا يتعارض وصواب المنطق القرآني، ويوظف لذلك طريقة العرب في التعبير، وهو حريص على تبيان معاني الآيات، وهذا مايدفعنا إلى القول إن كتاب مجاز القرآن هو قراءة متميزة للنص القرآني. إنه قراءة جديدة تتماشى والطرق التعبيرية لهذا النص. وقد تنبه القدماء إلى هذا كابن تيمية الذي يقول:
"أول من عرف أنه تكلم بلفظ المجاز أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتابه، ولكن لم يعن بالمجاز ماهو قسيم الحقيقة، وإنما عنى بمجاز الآية مايعبر به عن الآية"(8).ولخدمة هذا الهدف؛ فإنه كان حريصاً على التنويع وقفاته عند نماذج النص القرآني، والتي تمثل ألواناً متنوعة في الصياغة والدلالة، وتشمل دراسة الأساليب، ودفعه هذا إلى الكشف عما في الآيات من استعارة وتشبيه وكناية وتقديم وتأخير وحذف وتكرار وإضمار، للوصول إلى الخصائص الأسلوبية للقرآن الكريم خصوصاً، وللغة العربية عموماً، عن طريق الاستشهاد والتمثيل من نصوص هذه اللغة، وقد لمسنا حضوراً قوياً للنصوص الشعرية في هذا المؤلف، حتى إنه لا تخلو صفحة من صفحاته من نص شعري أو قول مأثور.
ويبدو أن الحاجة هي التي دفعت بأبي عبيدة إلى وضع كتابه هذا، حاجة الجمهور إلى من يكشف عن خصوصية التعبير القرآني، وخاصة أولئك الأعاجم الذين دخلوا الإسلام، فكاتب الفضل بن ربيع "هو في الغالب من الفرس المتعربين الذين لا يدركون أسرار التركيب العربي وإن عرفوا مفرداته، وأساليبه الشائعة، ومثل هذا يتوقف أمام التركيب اللغوي الذي لا يتفق والقواعد التي درس على أساسها اللغة".
لقد اهتم أبو عبيدة بأهم الانحرافات المميزة للنص المقدس، وقد كان في تتبعه دقيقاً للكشف عن أسلوبية الانزياح في هذا النص، والتي "تقيم على أساس المعيار النحوي (الذي هو، على العموم، اللغة المعيارStandard أو اليومية)، نحواً ثانوياً مكوناً من صورة الانزياح. ويمكن أن تكون هذه الصورة من طبيعتين: فهي خرق للمعيار النحوي، من جهة، وتقييد لهذا المعيار بالاستعانة بقواعد إضافية من جهة ثانية"(9)..
ويبدو أن "مجاز القرآن" جاء ليجسد هذه الخاصية الأسلوبية المهمة، وليقف عند مستويات هذه السمة في نماذج متعددة. ولعل هذا المؤلف هو الذي فتح آفاق هذه المعالجة، والتي تلقفها الدارسون فيما بعد وخاصة البلاغيون ليطوروا هذا المبحث بالإسهام النظري والإجراء التطبيقي. فلقد أدرك البلاغيون مافي هذه المغايرات من انحراف عن القواعد المثالية عند النحاة قصداً لغايات أسلوبية، ونبهوا إلى انتشارها وكثرة حالاتها في كلامهم". ذلك أن الانحراف الذي كشف عنه هذا الناقد كان لأغراض أسلوبية إبلاغية غرضها الإقناع، وهدفها التوكيد على الإعجاز والتحدي.
ويمثل عدم التناسب بين العدد والمعدود سمة من سمات الانحراف وقد وقف أبو عبيدة عند الآية الكريمة (تولوا وأعينهم تفيض من الدّمع)(10)، ليقول: "والعرب إذا بدأت بالأسماء قبل الفعل جعلت أفعالها على العدد فهذا المستعمل، وقد يجوز أن يكون الفعل على لفظ واحد، كأنه مقدّم ومؤخر كقولك: وتفيض أعينهم كما قال الأعشى:
فإن الحوادث أودى بها
فإن تَعْهَديني ولي لمة
ووجه الكلام أن يقول: أو دين بها، فلما توسع للقافية جاز على النكس، كأنه قال: فإنه أودى الحوادث بها"(11)، ويكشف هذا التحليل على النحو المعياري للغة، والنحو الخارج عن المعيار، والموازي له، والمتمثل في النص المبدع؛ لأن الإبداع هو توكيد لهذا الخروج، فقد "لاحظ اللغويون أثر الاستخدامات اللغوية في الانحراف عن المطابقة التي يوجبها نحو العربية"
(12)، ولعل أبا عبيدة كان من الأوائل الذين نبهوا على هذه القضية من خلال كتابه هذا في مواضع عديدة منه تحت عناوين متباينة كقوله: "مجاز ما جاء لفظه لفظ واحد والذي له جماع منه ووقع معنى هذا الواحد على الجميع. قال تعالى: (يخرجكم طفلاً)(13)، في موضع أطفالاً (14). أو كقوله: "مجاز ماجاء لفظ خبر الجميع على لفظ الواحد. قال تعالى: (والملائكة بعد ذلك ظهير)(15)، في موضع "ظهراء". وهذا وقد عالج القضية نفسها ابن جني في كتابه الخصائص، فقد تحدث عن إفراد الجمع وجمع المفرد وتثنيته، وقد عدّها ضروب الحمل على المعنى (16). واهتم بالموضوع ذاته ابن فارس(17).
وقد أرجع العرب أسباب العدول إلى الاتساع والتوكيد والتشبيه، قال ابن جني في الخصائص "الحقيقة ما أقرّ في الاستعمال على أصل وضعه في اللغة، والمجاز: ماكان ضد ذلك، وإنما يقع المجاز يعدل إليه عن الحقيقة لمعان ثلاثة وهي الاتساع والتوكيد والتشبيه، فإن عدمت الثلاثة تعينت الحقيقة؛ فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الفرس هو بحر، فالمعاني الثلاثة موجودة فيه، أما الاتساع، فلأنه زاد في أسماء الفرس، التي هي: فرس، وطرف، وجواد.. ونحوها ـ البحر، حتى إنه احتيج إليه في شعر أو سجع أو اتساع استعمل استعمال بقية تلك الأسماء، ولكن لا يقضي إلى ذلك إلا بقرينة تسقط الشبهة، وذلك كأن يقول الشاعر:
وقد ثمد الجياد فكان بحرا
عَلوت مَطا جوادك يوم يوم
وكأن يقول الساجع: فرسك هذا إذا سما بغرّته كان فجراً، وإذا جرى إلى غايته كان بحراً، فإن عري من دليل فلا؛ لئلا يكون إلباساً وإلغازاً ـ وأما التشبيه فلأن جريه يجري في الكثرة مجرى مائة ـ وأما التوكيد، فلأنه شبه العرض بالجوهر، وهو أثبت في النفوس منه وكذلك قوله تعالى: (وأدخلنه في رحمتنا)، وهو مجاز، وفي المعاني الثلاثة ـ أما السعة، كأنه زاد في اسم الجهات والمحال اسماً هو الرحمة، أما التشبيه، فلأنه شبّه الرحمة ـ وإن لم يصح دخولها ـ بما يجوز دخوله فلذلك وضعها موضعه. أما التوكيد، لأنه أخبر عن المعنى بما يخبر عن الذات"(18).
وتولد هذه الممارسة الإجرائية إشكالاً عند الدارسين المحدثين، لأن خصوم أسلوبية الانزياح يأخذون على هذه "الأخيرة عدم تحديدها لمعيار الانحياز تحديداً مباشراً دقيقاً، وإهمالها لمقولتي الكاتب والقارئ، وعدم أخذها بعين الاعتبار لاحتمال وجود انزياحات غير ذات أثر أسلوبي بالنسبة للقارئ دون وجود انزياح(19)، وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة لهؤلاء، فإنّ أبا عبيدة قد ابتعد عن مثل هذا المأخذ، لأنه خصّ المقولتين بحضور قوي من خلال الحيز الذي أفرده لهما في كتابه.
وقد أكّد أبو عبيدة على أن الانحراف في القرآن الكريم هو من جنس الانحراف عند العرب، وذلك من خلال وقفاته العديدة (20). إلا أنه لم يلتفت إلى تلك الانزياحات غير ذات أثر أسلوبي؛ لأنها لا توجد فيما تعامل معه من النصوص سواء أكانت من الكتاب المقدس، أم من القول المأثور، فقد تعامل مع النص من منظور أثره الأسلوبي الذي يحقق التواصل والتفاعل بين هذا النص والمتلقي، على أساس توافق القرآن الكريم وكلام العرب في النحو المعياري أو النحو الموازي الذي يجسد مراوغة اللغة تجسيداً فنياً جمالياً، فيعطي للنص خصوصيته الإبلاغية والإقناعية. فقد وقف عند الآية الكريمة "ولله ملك السموات والأرض ومابينهما"، وقال: "السموات جماع والارض واحد". فقال:
مابينهما. فذهب إلى لفظ الاثنين، والعرب إذا وحّدوا جماعة في كلمة، ثم أشركوا بينهما وبين واحد جعلوا لفظ الكلمة التي وقع معناها على الجميع كالكلمة الواحدة، كما قال الراعي:
قنصا لوّاقِحَ كالقسي وحُولا
طرقا فتلك هُماهمِي أقريهما
وقد فرغنا منه في موضع قبل هذا (22).
ويؤكد هذا الناقد على أن التوجه التعبيري كان لغرض أسلوبي، ويكشف بذلك عن حضور المتلقي في هذه المعالجة، ولهذا يحرص على مثل هذا التخرج الذي يعكس طواعية اللغة العربية ومرونتها التي تسمح بمثل هذا الانحراف الذي قد لا يتماشى والنحو المعياري، ولكنه يعبّر عن أوضاع دلالية لا يمكن الوصول إليها إلا بمثل هذا التعديل التركيبي.
ثم إن هذا الدارس كان حريصاً على تتبع هذه الظاهرة بوعي وإدراك كاملين، فقد أشار في نهاية المعالجة إلى ذلك حيث قال: "وقد فرغنا منه في موضع قبل هذا"، ويعني هذا أيضاً أنه كان يستحضر هذه القضية ليكشف عن توافق النص المقدس والنص البشري.
ويبدو أن النظرة ذاتها جاءت لتؤكد على أن "انشقاق صورة البحث اللغوي والبلاغي في تراثنا العربي إلى شقين، يأخذ فيها البلاغيون عن اللغويين ويتلقون قواعدهم المعيارية للغة القياسية بالتأسيس عليها في عرض صورة عن البلاغة والبيان في اللغة الأدبية الفنية. وتبقى الصورة هكذا، لا يكاد يتقدم أحد من النحاة أو اللغويين باختيار قواعده أو مسائله اللغوية من خلال النصوص الأدبية ذاتها، وتكاد هذه الصورة تلتئم في تراثنا، إلا على أيدي طائفة من المفسرين الذين انطلقوا من منطلق لغوي تسانده المعرفة البلاغية الواسعة والذوق السليم والحس المرهف"(23).
ثم إن تفاعل علوم اللغة العربية، وتداخل حقولها الإجرائية هما اللذان جعلا ذلك ممكن الوقوع والحدوث، والكشف عنه من خلال ممارسة نقدية رائدة، بفعل الأثر الأسلوبي القرآني، وكان أبو عبيدة يريد الوصول إلى أن هذا الكتاب المقدس هو من جنس كلام العرب، وفي الوقت ذاته يتصف
بخصوصية تجعله منفرداً ومتميزاً له أثر قوي على المتلقين، ولهذا اعتنى هذا الناقد باللفظ ومدلوله استناداً إلى الاستخدام المعياري، والانحراف والعدول كالانتقال من الضمير الغائب إلى الضمير المخاطب. فقد قال في الآية الكريمة: "براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم"(24)، ثم خاطب شاهداً فقال: "فسيحوا في الأرض"(24)، مجازه: سيروا وأقبلوا وأدبروا، والعرب تفعل هذا، قال عنتر:
عسيراً علي طلابك ابنة مخرم(25).
شطت مزار العاشقين فأصبحتْ
ويبدو أن مثل هذا الانتقال يكشف عن طاقة تعبيرية للغة، وعن وسيلة إبداعية مساعدة لتجاوز حالات فكرية قد يمرّ بها المتكلم.
ويبدو أيضاً أن في جنس مثل هذا الكلام مايوحي إلى أنه قد وقع انحراف، وفي هذا الكلام كذلك، مايدل على المقصود ـ ذلك أنه من يقرأ بيت عنترة يصل إلى حقيقة هذا الأمر، ويبقى السياق وحده عاملاً هاماً في سبيل توجيه الفهم، والكشف عن هذا المستوى من الالتفات.
وتقوم هذه الظاهرة على أنها مستوى من مستويات خروج الكلام على خلاف مقتضى الحال والظاهر، و"الالتفات نقل الكلام من حالة التكلم أو الخطاب أو الغيبة إلى حالة أخرى، وهو نوع من الخروج على المطالبة في الضمائر"(26). وقد ظهر عند الدارسين العرب القدماء اهتمام كبير بهذه القضية، ولاسيما الفراء (27) والمبرد (27) وابن فارس (28) والثعالبي (29). وكان ابن رشيق من أهم الذين وقفوا عند الالتفات، فعرفه بقوله: "وهو الاعتراض عند قوم، وسماه آخرون الاستدراك، وسبيله أن يكون الشاعر آخذاً في معنى ثم يعرض له غيره فيعدل عن الأول إلى الثاني فيأتي به، ثم يعود إلى الأول من غير أن يخلّ في شيء مما يشدُّ الأول… لأن الالتفات تأتي به عفواً وانتهازاً، ولم يكن لك في خلد فتقطع كلامك، ثم تصل بعد إن شئت"(30)، ثم يستوضح كلامه هذا بتعريف ابن المعتز للالتفات، يقول: "وقد أحسن ابن المعتز في العبارة عن الالتفات بقوله. وهو انصراف المتكلم من الإخبار إلى المخاطبة، ومن المخاطبة إلى الإخبار"(31).
إن مثل هذا التحديد يعكس أهمية هذا الموضوع بالنسبة إلى القراءة بحماسة، أو المعالجة النصية، ويعكس أيضاً خصوصية التعبير الذي يعتمد على الانحراف والعدول للوصول إلى حقائق تواصلية لا يمكن الوصول إليها إلا عن طريق هذا المنحى.
وقد اهتم أبو عبيدة بمظاهر انحراف أخرى تتعلق بعلاقة الدال بالمدلول في استخدام الأدبي والفني متمثلة في ظواهر المجاز والاستعارة والتشبيه، وهي من ظواهر الانحراف بالدلالة الحقيقية إلى دلالات أخرى مجازية"(32)، ويمثل هذا الجانب قمة العدول، وتكمن اللغة وطواعية الاستعمال، كما يعدمعياراً للتمييز بين الوضع والاستعمال، أو بين اللغة اليومية، واللغة الإبداعية العالية، والواقع أنه كان "للغويين إشارات مبكرة تعد بذوراً للبحث في هذه المسألة، ومن هؤلاء أبو عبيدة وابن فارس اللذان بحثا مسألة المجاز من باب الإسناد والتقدير، وباعتبار المجاز ـ كما يفهم من كلام أبي عبيدة ـ أسلوباً أو استخداماً مختلفاً عن المألوف من كلامهم"(33).
لقد أشار الناقد أبو عبيدة في مواضع عديدة من كتابه (34) إلى هذا الاستخدام فقال عن الآية الكريمة: "وأرسلنا السماء عليهم مدراراً"(35)، "مجاز السماء هاهنا مجاز المطر، يقال: مازلنا في سماء، أي في مطر، ومازلنا نطأ السماء، أي أثر المطر، وأنى أخذتكم هذه السماء؟ مجاز، "أرسلنا أنزلنا وأمطرنا"(36)، وبذلك كشف لنا عن عدول في الاستعمال من خلال نقل المعنى وتوسيعه ليشمل المعنى الذي أرادته الآية الكريمة.
يتبع
محمد تحريشي
أسلوبية الانزياح في النص القرآني
من خلال مجاز القرآن لأبي عُبيَدة:
لقد أسهمت ثقافة أبي عبيدة في تشكل رؤيته النقدية، وهي رؤية تعتمد على الكشف عن خصوصية النص القرآني الفنية والجمالية، وهي التي وجهت طريقة تحليل هذا التركيب المقدس، بالإضافة إلى استغلاق هذا النص على أفهام الكثير من الناس، ولاسيما الأعجام منهم، وظهور قضية اللحن في نطاق القرآن الكريم.
لقد حارب العلماء هذه الظاهرة فـ"كانوا وهم يلحظون هذا التطور في اللغة لا يهمهم أن يسجلوه ويقارنوا بينه وبين أصله، بقدر ماكان يعنيهم أن يقفوا في وجهه، ويعيبونه ويحاولون إرجاع الناس إلى القديم"(1). وألفوا في ذلك كتباً، ككتاب الفصيح لثعلب (2)، تدرس الخطأ في الأصوات والأبنية والإعراب متناسين أن اللحن ـ في جوهره ـ ماهو إلا شكل من أشكال التطور الدلالي في عصر من العصور، ومن هنا نجد أن هؤلاء الدارسين، وبخاصة المفسرين قد تجاوزوا التعامل العاطفي مع النص إلى التعامل الفعلي الذي يقوم على معالجة النص من زاوية التركيب والوقوف عند المستويات الدلالية للألفاظ في سياقها الجديد، وعلاقة كل ذلك بالكلام العربي، كما خاضوا في مباحث بلاغية وأسلوبية، "وإذا كانت الدراسات الأسلوبية المعاصرة لا تفصل بين اللغة والبلاغة وتدخل في صميم عملها جنباً إلى جنب دراسة: موقع اللفظ، التكرار، الوسائل الإيقاعية، والموسيقية، والاستعارة والرمز والصورة"(3).
ويبدو أن أبا عبيدة ربط النحو بالأساليب والتراكيب "والنحو بالمعنى الذي عناه المتقدمون هو الذي مثله أبو عبيدة معمر بن المثنى بالمجاز عندما سمى كتابه "المجاز في القرآن"، وهو طريق العرب في التعبير عن مقاصدهم وأغراضهم وبيان ما طرأ على الجملة العربية من تقديم وتأخير أو حذف أو نحو ذلك"(4). وهو يسعى إلى التأكيد على صواب العبارة القرآنية انطلاقاً من هذا الأساس؛ ليكشف عن الدلالة الدقيقة لصيغ القرآن الكريم من ذلك أنه وقف عند الآية الكريمة (كما بدأكم تعودون فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة)
(5)، ليقول: "نصبها جميعاً على إعمال الفعل فيهما أي هدى فريقاً ثم أشرك الآخر في نصب الأول، وإن لم يدخل في معناه، والعرب تدخل الآخر المشترك بنصب ماقبله على الجوار، وإن لم يكن في معناه، وفي آية أخرى "يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعدّ لهم عذاباً أليماً"(6).
وخرج فعل الضلالة مذكراً والعرب تفعل ذلك إذا فرّقوا بين الفعل وبين المؤنثة لقولهم مضى من الشهر ليلة"(7).
إنه يسعى إلى إخراج النص مخرجاً لا يتعارض وصواب المنطق القرآني، ويوظف لذلك طريقة العرب في التعبير، وهو حريص على تبيان معاني الآيات، وهذا مايدفعنا إلى القول إن كتاب مجاز القرآن هو قراءة متميزة للنص القرآني. إنه قراءة جديدة تتماشى والطرق التعبيرية لهذا النص. وقد تنبه القدماء إلى هذا كابن تيمية الذي يقول:
"أول من عرف أنه تكلم بلفظ المجاز أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتابه، ولكن لم يعن بالمجاز ماهو قسيم الحقيقة، وإنما عنى بمجاز الآية مايعبر به عن الآية"(8).ولخدمة هذا الهدف؛ فإنه كان حريصاً على التنويع وقفاته عند نماذج النص القرآني، والتي تمثل ألواناً متنوعة في الصياغة والدلالة، وتشمل دراسة الأساليب، ودفعه هذا إلى الكشف عما في الآيات من استعارة وتشبيه وكناية وتقديم وتأخير وحذف وتكرار وإضمار، للوصول إلى الخصائص الأسلوبية للقرآن الكريم خصوصاً، وللغة العربية عموماً، عن طريق الاستشهاد والتمثيل من نصوص هذه اللغة، وقد لمسنا حضوراً قوياً للنصوص الشعرية في هذا المؤلف، حتى إنه لا تخلو صفحة من صفحاته من نص شعري أو قول مأثور.
ويبدو أن الحاجة هي التي دفعت بأبي عبيدة إلى وضع كتابه هذا، حاجة الجمهور إلى من يكشف عن خصوصية التعبير القرآني، وخاصة أولئك الأعاجم الذين دخلوا الإسلام، فكاتب الفضل بن ربيع "هو في الغالب من الفرس المتعربين الذين لا يدركون أسرار التركيب العربي وإن عرفوا مفرداته، وأساليبه الشائعة، ومثل هذا يتوقف أمام التركيب اللغوي الذي لا يتفق والقواعد التي درس على أساسها اللغة".
لقد اهتم أبو عبيدة بأهم الانحرافات المميزة للنص المقدس، وقد كان في تتبعه دقيقاً للكشف عن أسلوبية الانزياح في هذا النص، والتي "تقيم على أساس المعيار النحوي (الذي هو، على العموم، اللغة المعيارStandard أو اليومية)، نحواً ثانوياً مكوناً من صورة الانزياح. ويمكن أن تكون هذه الصورة من طبيعتين: فهي خرق للمعيار النحوي، من جهة، وتقييد لهذا المعيار بالاستعانة بقواعد إضافية من جهة ثانية"(9)..
ويبدو أن "مجاز القرآن" جاء ليجسد هذه الخاصية الأسلوبية المهمة، وليقف عند مستويات هذه السمة في نماذج متعددة. ولعل هذا المؤلف هو الذي فتح آفاق هذه المعالجة، والتي تلقفها الدارسون فيما بعد وخاصة البلاغيون ليطوروا هذا المبحث بالإسهام النظري والإجراء التطبيقي. فلقد أدرك البلاغيون مافي هذه المغايرات من انحراف عن القواعد المثالية عند النحاة قصداً لغايات أسلوبية، ونبهوا إلى انتشارها وكثرة حالاتها في كلامهم". ذلك أن الانحراف الذي كشف عنه هذا الناقد كان لأغراض أسلوبية إبلاغية غرضها الإقناع، وهدفها التوكيد على الإعجاز والتحدي.
ويمثل عدم التناسب بين العدد والمعدود سمة من سمات الانحراف وقد وقف أبو عبيدة عند الآية الكريمة (تولوا وأعينهم تفيض من الدّمع)(10)، ليقول: "والعرب إذا بدأت بالأسماء قبل الفعل جعلت أفعالها على العدد فهذا المستعمل، وقد يجوز أن يكون الفعل على لفظ واحد، كأنه مقدّم ومؤخر كقولك: وتفيض أعينهم كما قال الأعشى:
فإن الحوادث أودى بها
فإن تَعْهَديني ولي لمة
ووجه الكلام أن يقول: أو دين بها، فلما توسع للقافية جاز على النكس، كأنه قال: فإنه أودى الحوادث بها"(11)، ويكشف هذا التحليل على النحو المعياري للغة، والنحو الخارج عن المعيار، والموازي له، والمتمثل في النص المبدع؛ لأن الإبداع هو توكيد لهذا الخروج، فقد "لاحظ اللغويون أثر الاستخدامات اللغوية في الانحراف عن المطابقة التي يوجبها نحو العربية"
(12)، ولعل أبا عبيدة كان من الأوائل الذين نبهوا على هذه القضية من خلال كتابه هذا في مواضع عديدة منه تحت عناوين متباينة كقوله: "مجاز ما جاء لفظه لفظ واحد والذي له جماع منه ووقع معنى هذا الواحد على الجميع. قال تعالى: (يخرجكم طفلاً)(13)، في موضع أطفالاً (14). أو كقوله: "مجاز ماجاء لفظ خبر الجميع على لفظ الواحد. قال تعالى: (والملائكة بعد ذلك ظهير)(15)، في موضع "ظهراء". وهذا وقد عالج القضية نفسها ابن جني في كتابه الخصائص، فقد تحدث عن إفراد الجمع وجمع المفرد وتثنيته، وقد عدّها ضروب الحمل على المعنى (16). واهتم بالموضوع ذاته ابن فارس(17).
وقد أرجع العرب أسباب العدول إلى الاتساع والتوكيد والتشبيه، قال ابن جني في الخصائص "الحقيقة ما أقرّ في الاستعمال على أصل وضعه في اللغة، والمجاز: ماكان ضد ذلك، وإنما يقع المجاز يعدل إليه عن الحقيقة لمعان ثلاثة وهي الاتساع والتوكيد والتشبيه، فإن عدمت الثلاثة تعينت الحقيقة؛ فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الفرس هو بحر، فالمعاني الثلاثة موجودة فيه، أما الاتساع، فلأنه زاد في أسماء الفرس، التي هي: فرس، وطرف، وجواد.. ونحوها ـ البحر، حتى إنه احتيج إليه في شعر أو سجع أو اتساع استعمل استعمال بقية تلك الأسماء، ولكن لا يقضي إلى ذلك إلا بقرينة تسقط الشبهة، وذلك كأن يقول الشاعر:
وقد ثمد الجياد فكان بحرا
عَلوت مَطا جوادك يوم يوم
وكأن يقول الساجع: فرسك هذا إذا سما بغرّته كان فجراً، وإذا جرى إلى غايته كان بحراً، فإن عري من دليل فلا؛ لئلا يكون إلباساً وإلغازاً ـ وأما التشبيه فلأن جريه يجري في الكثرة مجرى مائة ـ وأما التوكيد، فلأنه شبه العرض بالجوهر، وهو أثبت في النفوس منه وكذلك قوله تعالى: (وأدخلنه في رحمتنا)، وهو مجاز، وفي المعاني الثلاثة ـ أما السعة، كأنه زاد في اسم الجهات والمحال اسماً هو الرحمة، أما التشبيه، فلأنه شبّه الرحمة ـ وإن لم يصح دخولها ـ بما يجوز دخوله فلذلك وضعها موضعه. أما التوكيد، لأنه أخبر عن المعنى بما يخبر عن الذات"(18).
وتولد هذه الممارسة الإجرائية إشكالاً عند الدارسين المحدثين، لأن خصوم أسلوبية الانزياح يأخذون على هذه "الأخيرة عدم تحديدها لمعيار الانحياز تحديداً مباشراً دقيقاً، وإهمالها لمقولتي الكاتب والقارئ، وعدم أخذها بعين الاعتبار لاحتمال وجود انزياحات غير ذات أثر أسلوبي بالنسبة للقارئ دون وجود انزياح(19)، وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة لهؤلاء، فإنّ أبا عبيدة قد ابتعد عن مثل هذا المأخذ، لأنه خصّ المقولتين بحضور قوي من خلال الحيز الذي أفرده لهما في كتابه.
وقد أكّد أبو عبيدة على أن الانحراف في القرآن الكريم هو من جنس الانحراف عند العرب، وذلك من خلال وقفاته العديدة (20). إلا أنه لم يلتفت إلى تلك الانزياحات غير ذات أثر أسلوبي؛ لأنها لا توجد فيما تعامل معه من النصوص سواء أكانت من الكتاب المقدس، أم من القول المأثور، فقد تعامل مع النص من منظور أثره الأسلوبي الذي يحقق التواصل والتفاعل بين هذا النص والمتلقي، على أساس توافق القرآن الكريم وكلام العرب في النحو المعياري أو النحو الموازي الذي يجسد مراوغة اللغة تجسيداً فنياً جمالياً، فيعطي للنص خصوصيته الإبلاغية والإقناعية. فقد وقف عند الآية الكريمة "ولله ملك السموات والأرض ومابينهما"، وقال: "السموات جماع والارض واحد". فقال:
مابينهما. فذهب إلى لفظ الاثنين، والعرب إذا وحّدوا جماعة في كلمة، ثم أشركوا بينهما وبين واحد جعلوا لفظ الكلمة التي وقع معناها على الجميع كالكلمة الواحدة، كما قال الراعي:
قنصا لوّاقِحَ كالقسي وحُولا
طرقا فتلك هُماهمِي أقريهما
وقد فرغنا منه في موضع قبل هذا (22).
ويؤكد هذا الناقد على أن التوجه التعبيري كان لغرض أسلوبي، ويكشف بذلك عن حضور المتلقي في هذه المعالجة، ولهذا يحرص على مثل هذا التخرج الذي يعكس طواعية اللغة العربية ومرونتها التي تسمح بمثل هذا الانحراف الذي قد لا يتماشى والنحو المعياري، ولكنه يعبّر عن أوضاع دلالية لا يمكن الوصول إليها إلا بمثل هذا التعديل التركيبي.
ثم إن هذا الدارس كان حريصاً على تتبع هذه الظاهرة بوعي وإدراك كاملين، فقد أشار في نهاية المعالجة إلى ذلك حيث قال: "وقد فرغنا منه في موضع قبل هذا"، ويعني هذا أيضاً أنه كان يستحضر هذه القضية ليكشف عن توافق النص المقدس والنص البشري.
ويبدو أن النظرة ذاتها جاءت لتؤكد على أن "انشقاق صورة البحث اللغوي والبلاغي في تراثنا العربي إلى شقين، يأخذ فيها البلاغيون عن اللغويين ويتلقون قواعدهم المعيارية للغة القياسية بالتأسيس عليها في عرض صورة عن البلاغة والبيان في اللغة الأدبية الفنية. وتبقى الصورة هكذا، لا يكاد يتقدم أحد من النحاة أو اللغويين باختيار قواعده أو مسائله اللغوية من خلال النصوص الأدبية ذاتها، وتكاد هذه الصورة تلتئم في تراثنا، إلا على أيدي طائفة من المفسرين الذين انطلقوا من منطلق لغوي تسانده المعرفة البلاغية الواسعة والذوق السليم والحس المرهف"(23).
ثم إن تفاعل علوم اللغة العربية، وتداخل حقولها الإجرائية هما اللذان جعلا ذلك ممكن الوقوع والحدوث، والكشف عنه من خلال ممارسة نقدية رائدة، بفعل الأثر الأسلوبي القرآني، وكان أبو عبيدة يريد الوصول إلى أن هذا الكتاب المقدس هو من جنس كلام العرب، وفي الوقت ذاته يتصف
بخصوصية تجعله منفرداً ومتميزاً له أثر قوي على المتلقين، ولهذا اعتنى هذا الناقد باللفظ ومدلوله استناداً إلى الاستخدام المعياري، والانحراف والعدول كالانتقال من الضمير الغائب إلى الضمير المخاطب. فقد قال في الآية الكريمة: "براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم"(24)، ثم خاطب شاهداً فقال: "فسيحوا في الأرض"(24)، مجازه: سيروا وأقبلوا وأدبروا، والعرب تفعل هذا، قال عنتر:
عسيراً علي طلابك ابنة مخرم(25).
شطت مزار العاشقين فأصبحتْ
ويبدو أن مثل هذا الانتقال يكشف عن طاقة تعبيرية للغة، وعن وسيلة إبداعية مساعدة لتجاوز حالات فكرية قد يمرّ بها المتكلم.
ويبدو أيضاً أن في جنس مثل هذا الكلام مايوحي إلى أنه قد وقع انحراف، وفي هذا الكلام كذلك، مايدل على المقصود ـ ذلك أنه من يقرأ بيت عنترة يصل إلى حقيقة هذا الأمر، ويبقى السياق وحده عاملاً هاماً في سبيل توجيه الفهم، والكشف عن هذا المستوى من الالتفات.
وتقوم هذه الظاهرة على أنها مستوى من مستويات خروج الكلام على خلاف مقتضى الحال والظاهر، و"الالتفات نقل الكلام من حالة التكلم أو الخطاب أو الغيبة إلى حالة أخرى، وهو نوع من الخروج على المطالبة في الضمائر"(26). وقد ظهر عند الدارسين العرب القدماء اهتمام كبير بهذه القضية، ولاسيما الفراء (27) والمبرد (27) وابن فارس (28) والثعالبي (29). وكان ابن رشيق من أهم الذين وقفوا عند الالتفات، فعرفه بقوله: "وهو الاعتراض عند قوم، وسماه آخرون الاستدراك، وسبيله أن يكون الشاعر آخذاً في معنى ثم يعرض له غيره فيعدل عن الأول إلى الثاني فيأتي به، ثم يعود إلى الأول من غير أن يخلّ في شيء مما يشدُّ الأول… لأن الالتفات تأتي به عفواً وانتهازاً، ولم يكن لك في خلد فتقطع كلامك، ثم تصل بعد إن شئت"(30)، ثم يستوضح كلامه هذا بتعريف ابن المعتز للالتفات، يقول: "وقد أحسن ابن المعتز في العبارة عن الالتفات بقوله. وهو انصراف المتكلم من الإخبار إلى المخاطبة، ومن المخاطبة إلى الإخبار"(31).
إن مثل هذا التحديد يعكس أهمية هذا الموضوع بالنسبة إلى القراءة بحماسة، أو المعالجة النصية، ويعكس أيضاً خصوصية التعبير الذي يعتمد على الانحراف والعدول للوصول إلى حقائق تواصلية لا يمكن الوصول إليها إلا عن طريق هذا المنحى.
وقد اهتم أبو عبيدة بمظاهر انحراف أخرى تتعلق بعلاقة الدال بالمدلول في استخدام الأدبي والفني متمثلة في ظواهر المجاز والاستعارة والتشبيه، وهي من ظواهر الانحراف بالدلالة الحقيقية إلى دلالات أخرى مجازية"(32)، ويمثل هذا الجانب قمة العدول، وتكمن اللغة وطواعية الاستعمال، كما يعدمعياراً للتمييز بين الوضع والاستعمال، أو بين اللغة اليومية، واللغة الإبداعية العالية، والواقع أنه كان "للغويين إشارات مبكرة تعد بذوراً للبحث في هذه المسألة، ومن هؤلاء أبو عبيدة وابن فارس اللذان بحثا مسألة المجاز من باب الإسناد والتقدير، وباعتبار المجاز ـ كما يفهم من كلام أبي عبيدة ـ أسلوباً أو استخداماً مختلفاً عن المألوف من كلامهم"(33).
لقد أشار الناقد أبو عبيدة في مواضع عديدة من كتابه (34) إلى هذا الاستخدام فقال عن الآية الكريمة: "وأرسلنا السماء عليهم مدراراً"(35)، "مجاز السماء هاهنا مجاز المطر، يقال: مازلنا في سماء، أي في مطر، ومازلنا نطأ السماء، أي أثر المطر، وأنى أخذتكم هذه السماء؟ مجاز، "أرسلنا أنزلنا وأمطرنا"(36)، وبذلك كشف لنا عن عدول في الاستعمال من خلال نقل المعنى وتوسيعه ليشمل المعنى الذي أرادته الآية الكريمة.
يتبع