تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : كشف شبهات وحجج ومعارضات المشركين التى يتوصلون بها إلى تزيين الشرك وهدم التوحيد [متجدد]



محمدعبداللطيف
2019-12-21, 01:33 PM
قال الامام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله فى رسالة كشف الشبهات


فَإِنَّ أعْداءَ اللهِ لَهُمُ اعْتِرَاضاتٌ كَثيرةٌ عَلى دِينِ الرُّسُل يَصُدُّونَ بِها النَّاسَ عَنْهُ.

مِنْهَا: [الشبهة الأولى]
قَولُهُم:نَحْنُ لا نُشْرِكُ بِاللهِ شيئاً، بَلْ نَشْهَدُ أنَّهُ لا يَخْلُقُ وَلا يَرْزُقُ ولا يحُيْي ولا يُمِيْتُ وَلا يُدَبِّرُ الأمْرَ وَلا يَنْفعُ ولا يَضُرُّ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ نَفْعاً وَلا ضَرّاً، فَضْلاً عن عَبْدِ القَادِرِ أَوْ غَيْرِهِ.
وَلَكِنْ أَنا مُذْنِبٌ، وَالصَّالِحُونَ لَهُم جاهٌ عِنْدَ اللهِ، وَأَطْلُبُ مِنَ اللهِ بِهِمْ.

فَجَاوِبْهُ بِما تَقَدَّمَ وَهُوَ:أَنَّ الَّذِينَ قَاتَلَهُم رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُقِرُّونَ بِمَا ذَكَرْتَ لِي أَيُّهَا المُبْطِلُ، وَمُقِرُّونَ أَنَّ أَوْثَانَهُم لا تُدَبِّرُ شَيْئاً، وَإِنَّمَا أَرَادُوا ممن قصدوا الجاهَ وَالشَّفَاعَةَ، واَقْرَأْ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَ اللهُ في كِتَابِهِ وَوَضَّحَهُ.----------

محمدعبداللطيف
2019-12-21, 01:48 PM
قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ فى رد الشبهه الاولى
(وَأَمَّا الجَوَابُ المُفَصَّلُ) وَهُوَ الَّذِي يُجَابُ بِهِ عَنْ كُلِّ شُبْهَةٍ بِجَوَابٍ يَخُصُّهَا (فَإِنَّ أَعْدَاءَ اللهِ) - المُشْرِكُونَ عَبَدَةُ غَيْرِ اللهِ- (لَهُمْ اعْتِرَاضَاتٌ كَثِيرَةٌ عَلَى دِينِ الرُّسُلِ يَصُدُّونَ بِهَا النَّاسَ عِنْهُ مِنْهَا قَوْلُهُم) مَعَ شِرْكِهِم باللهِ: (نَحْنُ لاَ نُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا) وَهُمْ قَدْ وَقَعُوا فِيهِ لَكِنْ نَفَوْهُ عَنْ أَنْفُسِهِم جَهْلاً وَضَلاَلاً.

(بَلْ نَشْهَدُ أَنَّهُ لاَ يَخْلُقُ وَلاَ يَرْزُقُ ولاَ يَنْفَعُ وَلاَ يَضُرُّ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا فَضْلاً عَنْ عَبْدِ القَادِرِ) الجِيلاَنِيِّ (أَوْ غَيْرِهِ) مِمَّنْ لَهُ جَاهٌ ومَنْـزِلَةٌ ومَقَامٌ كَبِيرٌ (وَلَكِنْ أَنَا مُذْنِبٌ) وَلَمْ أُؤَهَّلْ إِلَى الطَّلَبِ مِن الجَانِبِ الأَعْلَى (والصَّالِحُونَ لَهُم جَاهٌ عِنْدَ اللهِ وَأَطْلُبُ مِن اللهِ بِهِمْ) فَأَطْلُبُ مِنْهُم وَهُم يَسْأَلُونَ ويَطْلُبُونَ لي وَيُقَرِّبُونِي إِلَى اللهِ زُلْفَى، لاَ أَطْلُبُهُم ذَوَاتَهُم.

(فجَاوِبْهُ بِمَا تَقَدَّمَ؛ وَهُوَ أَنَّ الَّذِينَ قَاتَلَهُم رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقِرُّونَ بِمَا ذَكَرْتَ، ومُقِرُّونَ أَنَّ أَوْثَانَهُم لاَ تُدَبِّرُ شَيْئًا) وَأَنَّ اللهَ هو النَّافِعُ الضَّارُّ وَحْدَه (وَإِنَّمَا أَرَادُوا الجَاهَ والشَّفَاعَةَ) فَقَطْ تَعَلَّقُوا عَلَيْهِم لأَِجْلِ جَاهِهِم عِنْدَ اللهِ؛ فَإِنَّ المُشْرِكَ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ القُرْآنُ هو هَذَا: دُعَاءُ مَنْ يَشْفَعُ لَهُم عِنْدَ اللهِ؛ لاَ أَنَّهُ يَخْلُقُ ويَرْزُقُ (وَاقْرَأْ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَ اللهُ فِي كِتَابِهِ ووَضَّحَهُ) اقْرَأْ عَلَيْهِ الآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى هَذَا وهَذَا.
فَمِن الآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى إِقْرَارِهِم بالرُّبُوبِيَّة ِ:
-قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ}.

-وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} إلى قَوْلِهِ: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ}.
-وَقَوْلُه: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} .
-وَقَوْلُهُ: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} وَغَيْرُ ذَلِكَ مِن الآيَاتِ.
واقْرَأْ عَلَيْهِ الآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى أَنَّ اللهَ كَفَّرَهُم بِشِرْكِهِم في الإِلَهِيَّةِ،و َأَنَّهُم مَا أَرَادُوا إِلاَّ شَفَاعَتَهُم وتَقْرِيبَهُم، وَأَنَّ هؤلاء مَا زَادُوا عَلَى مَا فَعَلَهُ المُشْرِكُونُ الأَوَّلُونَ، لَيَتَبَيَّنَ أَنَّهُ في عَمَايَةٍ عَمَّا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ ومُعَاكَسَةٍ لِمَا جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ:
-كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ}.
- وَقَوْلِه تَعَالَى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَـفَّارٌ}.
-وَقَولِهِ تَعَالَى: {وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَـنُ بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونَ}.
-وَقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}.
وَنَظَائِرِهَا مِن الآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُم مَا أَرَادُوا مِمَّنْ قَصَدُوا إِلاَّ الجَاهَ والشَّفَاعَةَ
فحَاصِلُ جَوَابِ هَذِه الشُّبْهَةِ: أَنَّكَ مَا زِدْتَ عَلَى مَا أَقَرَّ بِهِ المُشْرِكُونَ الأَوَّلُونَ، وَلاَ زَادَ فِعْلُكَ عَنْ فِعْلِهِم، بَلْ أَنْتَ وَهُمْ سَوَاءٌ.------------------------قال الشيخ صالح الفوزان فى رد الشبهه الاولى
ذَكَرَ الشَّيْخُ -رَحِمَهُ اللهُ- في هذا المَقْطَعِ ثَلاَثَ شُبُهاتٍ للمُشْرِكِينَ هي مِن أَهَمِّ مَا عِنْدَهُم، فإذا عَرَفْتَ الإِجَابَةَ الصَّحِيحَةَ عنها فما بَعْدَها مِن الشُّبُهاتِ أَيْسَرُ مِنْهَا:

الشُّبْهَةُ الأُولَى: أنَّهم يَقُولُونَ: نَحْنُ نَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ وأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-، ونَعْلَمُ أنَّه لاَ يَنْفَعُ ولاَ يَضُرُّ إلاَّ اللهُ سُبْحَانَه وتَعَالَى، وأَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- لاَ يَمْلِكُ نَفْعًا ولاَ ضَرًّا فَضْلاً عن عَبْدِ القَادِرِ -يَعْنِي: عَبْدَ القَادِرِ الجِيلاَنِيَّ- لَكِنْ هؤلاء لَهُم جَاهٌ عِنْدَ اللهِ، فَنَطْلُبُ مِن اللهِ بِهِم -يَعْنِي: نَجْعَلُهُم وَسَائِطَ بَيْنَنَا وبَيْنَ اللهِ- لِمَا لَهُم مِن الفَضْلِ.


فالجَوَابُ سَهْلٌ جِدًّا مِن كِتَابِ اللهِ بِأَنْ تَقُولَ:إنَّ المُشْرِكِينَ مَعَ أَصْنَامِهِم مَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَ فيها أَنَّها تَخْلُقُ وتَرْزُقُ وتَنْفَعُ وتَضُرُّ، وإِنَّمَا اتَّخَذُوهَا وسَائِطَ بَيْنَهُم وبَيْنَ اللهِ، وهَذَا واضِحٌ في قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
نَزَّهَ نَفْسَهُ عن فِعْلِهِم وسَمَّاهُ شِرْكًا،مَعَ أنَّهم يَقُولُونَ: هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ، ويَعْتَقِدُونَ أنَّهم لاَ يَنْفَعُونَ ولاَ يَضُرُّونَ، وإنَّما قَصْدُهُم التَّعلُّقُ بالجَاهِ فَقَطْ، فالآيَاتُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ المُشْرِكِينَ مُعْتَرِفُونَ بأنَّه لاَ يَخْلُقُ ولاَ يَرْزُقُ ولاَ يُدَبِّرُ الأَمْرَ إلاَّ اللهُ سُبْحَانَه وتَعَالَى، وأَنَّ أَصْنَامَهُم ومَعْبُودَاتِهِ م لاَ تَخْلُقُ ولاَ تَرْزُقُ ولاَ تُدَبِّرُ مَعَ اللهِ، وإنَّما اتَّخَذُوها وَسَائِطَ، ولاَ فَرْقَ بَيْنَكُمْ وبَيْنَهُم.
وإِذَا كُنْتَ مُذْنِبًا فَلِمَاذَا لاَ تَسْتَغْفِرُ اللهَ وتَطْلُبُ مِن اللهِ، واللهُ -جَلَّ وَعَلاَ- أَمَرَكَ بالاسْتِغْفَارِ ووَعَدَكَ التَّوْبَةَ، وأَنْ يَقْبَلَ مِنْكَ ويَغْفِرَ ذُنُوبَكَ، ولَمْ يَقُلْ: إِذَا أَذْنَبْتَ فاذْهَبْ إِلَى قَبْرِ الوَلِيِّ الفُلاَنِيِّ أو العَبْدِ الصَّالِحِ الفُلاَنِيِّ وتَوَسَّلْ بِهِ واجْعَلْهُ واسِطَةً بَيْنِي وبَيْنَكَ.


وتَقُولُ أَيْضًا:هَؤُلاَ ِ إِذَا كَانَ لَهُم جَاهٌ عِنْدَ اللهِ فإِنَّ جَاهَهُم لَهُم، وصَلاَحَهُم لَهُم، وأَنْتَ لَيْسَ لَكَ إلاَّ عَمَلُكَ، وصَلاَحُ الصَّالِحِينَ لَهُم وجَاهُهُم عِنْدَ اللهِ لَهُم، مَا عَلاَقَتُكَ بِعَمَلِ فُلاَنٍ وصَلاَحِ فُلاَنٍ؟ كُلٌّ لَهُ عَمَلُهُ: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}{وَل اَ تُجْزَوْنَ إلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} فَجَاهُهُم وصَلاَحُهُم لَهُم، ولاَ يَنْفَعُكَ إِذَا كُنْتَ مُذْنِبًا، حتَّى والِدُكَ أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَيْكَ، ووَلَدُكَ لاَ يَسْتَطِيعُ ولو كَانَ مِن أَصْلَحِ النَّاسِ أَنْ يَنْفَعَكَ {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَومَئِذٍ لِّلَّه}.
- {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}.
- {وَاخْشَوْا يَوْمًا لاَ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا} .
- {يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} --------------قال الشيخ صالح آل الشيخ لما ذكر إمام الدعوة -رحمه الله تعالى- ورفع درجته، أن جواب أهل الباطل من طريقين:

مجمل ومفصل، ذكر المجمل ثم ذكر المفصل.
ومن المعلوم في فن التأليف أن التقاسيم إذا وردت، فإنه يناسب أن يقَدَّم ما كان الكلام عليه مختصراً، وما كان الكلام عليه مطولاً فإنه يؤخر.
ولهذا الشيخ -رحمه الله- قدم المجمل على المفصل لاعتبارات:
منها: أن الكلام على المجمل قليل، والكلام على المفصل كثير، ولو أخر الكلام القليل لذهب الذهن في المفصل، ونسي أنه سيأتي المجمل.
ومن فوائد تقديم المجمل على المفصل:
أن المجمل يفهمه كل أحد، يحتاجه كل موحد، وسَهْل الفهم إذا عَلِم عقيدة التوحيد، وفهم بعض أدلتها؛ فإنه يمكنه أن يجعل ذلك محكماً، فإذا أتى من يشبّه عليه دينه، ومن يجعله يتردد في بعض هذه أو يشككه أو يورد عليه الشبه فإنه يحتج عليه بالمحكم، فلا يجد ذلك صعباً.

وأما المفصل فيحتاج إلى علم،يحتاج إلى مقدمات، تارة لغوية وتارة أصولية، وتارة من واقع حال العرب.
فقال -رحمه الله تعالى- ابتداءً بالمفصل بعد المجمل، ابتداءً برد شبهة، وهي شبهة تحتاج إلى نوع تأمل؛ لأن أكثر الذين يكون عندهم نوع قرب أو قبول للتوحيد ربما تروج عليهم هذه أكثر من غيرها، فقال: (وأما الجواب المفصل: فإن أعداء الله لهم اعتراضات كثيرة على دين الرسل، يصدون بها الناس عنه) هذه الكلمة (وأما الجواب المفصل) ليست موجودة في كثير من النسخ المطبوعة، ولم أر النسخ الخطية حتى نتثبت هل هي موجودة أم لا؟
وعلى العموم فإن الشبهة على الجواب المفصل، الشبهة التي سيجيب عليها بالمفصل هي قولهم: (نحن لا نشرك بالله) إلى آخره.



فقوله إذاً: (وأما الجواب المفصل: فإن أعداء الله لهم اعتراضات كثيرة على دين الرسل يصدون بها الناس عنه) هو إيراد لهذه الاعتراضات الكثيرة على التفصيل، ويلزم من إيراد الاعتراضات إيراد الأجوبة.
فقوله: (فإن أعداء الله لهم اعتراضات) هذا لأجل أنه سيورد بعد الاعتراضات الأجوبة، وهذا من ناحية الأسلوب ومن ناحية التأليف، ولكن المعنى ظاهر.



قال: (منها قولهم: نحن لا نشرك بالله بل نشهد أنه لا يخلق ولا يرزق ولا ينفع ولا يضر إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً -صلى الله عليه وسلم- لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، فضلاً عن عبد القادر أو غيره، ولكن أنا مذنب والصالحون لهم جاه عند الله، وأطلب من الله بهم).



قال: (فجاوبه بما تقدم وهو: أن الذين قاتلهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مقرون بما ذكرت، ومقرون بأن أوثانهم لا تدبر شيئاً، وإنما أرادوا الجاه والشفاعة، واقرأ عليه ما ذكر الله في كتابه ووضحه) هذه الشبهة يمكن تقسيمها إلى أقسام:

القسم الأول: قولهم، أو الجملة الأولى: قولهم: (نحن لا نشرك بالله).



وهذا القول منهم - نحن لا نشرك بالله - يريدون به الإشراك بالله في الربوبية، ولهذا قالوا بعده: (بل نشهد أنه لا يخلق ولا يرزق) إلى آخره.
وقولهم: (نحن لا نشرك بالله) راجع إلى أن الشرك له حقيقة شرعية جاءت في النصوص؛ ولكن حُرِّفت هذه الحقيقة وصرفت عن وجهها.
ففي النصوص: الإشراك والشرك هو اتخاذ الند مع الله -جل وعلا- في المحبة والعبادة.
الإشراك أو الشرك: هو أن يجعل لله شريك إما في ربوبيته، أو في ألوهيته، أو في أسمائه وصفاته، يعني: أن يُعتقد أن له مماثلاً في اتصافه وفي أسمائه.



هذا معنى الشرك، ولهذا فالشرك في النصوص تارة يتوجه إلى الشرك في الإلهية، وتارة يتوجه إلى الشرك في الربوبية.


أما الشرك في الربوبية: فكقوله -جل وعلا- في سورة سبأ مثلاً: {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} يعني: من شرك في التدبير والتصريف.

وتارة يكون نفي الشرك أو النهي عنه لأجل الألوهية، كقوله -جل وعلا- في آخر سورة الكهف: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} هذا شرك في الألوهية - في العبادة - والآيات في هذا أيضاً كثيرة.

والشرك الثالث: في الأسماء والصفات:
-كقوله جل وعلا: {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً}.
-وكقوله: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ}.
-وكقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.
-وكقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}.
هذا هو الذي يعلمه أهل العلم بما دلت عليه - بالتنصيص - الآيات، فكان ذلك معلوماً عند العرب تفهمه بلغتها.
لما أتى اليونان إلى بلاد المسلمين بكتبهم، يعني: استقدم بعض المسلمين كتب اليونان - في قصة معلومة، ولا بأس أن نذكرها:
وهو أن أحد ولاة العباسيين أرسل وفداً إلى ملك الروم، وطلب منه أن يرسل إليه بكتب الأوائل التي عنده - كتب الأوائل المقصود بها كتب الروم واليونان، وكتب من يسمونهم الحكماء والفلاسفة - فعرضوا هذا على الملك، مُوفَدين من الوالي المسلم من ولاة العباسيين.
فقال:(أمهلوني) فاستشار علماء النصرانية، وعلماء بلده.
فقالوا له:هذه - وكانت موجودة في بيت للكتب - هي زينة مملكتنا، فكيف تعطيهم إياها؟* فأجبه بالنفي، فإن هذه لا يجوز أن تخرج من بلدنا.وسكت واحد منهم، فقال له: ما لك سكتَّ؟ وكان من حكمائهم وحذاق علماء نحلتهم وملتهم.
فقال:يا عظيم قومنا، أرى أن ترسل بالكتب إليهم، ولا تمنعهم منها.فقال له:ولم؟ قال:لأن هذه الكتب ما دخلت إلى أمة إلا أفسدت عليها دينها، ووافقه عليه البقية، فحصل أنها أُرسلت الكتب - كتب اليونان - وترجمت إلى آخر ذلك.
اليونان فلاسفة، الذين أُرسلت كتبهم، أرسطو، إلى آخره، وأفلاطون.
هذه الفلسفة غايتها توحيد الربوبية، غايتها أن ينظر في الملكوت، وينظر في الوجود فيثبت أن هذا الكون له صانع؛ لأن هذا غاية الحكمة، يثبت أن هذا الكون معلول عن علة، وهذه العلة عاقلة، فيسمونها علة العلل أو العقل الأول، في كلام فلسفي، يعني له تفاصيل.
فدخل هذا على المسلمين، فلما دخل رأى من قرأ تلك الكتب بعد ترجمتها أن هذه هي كتب الحكمة، وكتب الحكماء، وكتب الفلسفة - يعني: طلب الحكمة - قالوا: إن هذه هي الغاية، فكيف نوجد وسيلة للجمع مابين الشريعة، ما بين الإسلام -القرآن- وما بين هذه الكتب، وفلسفة اليونان؟
فأخرجوا ما يسمى بعلم الكلام، وهو خليط من الشريعة - من النصوص - وما بين عقل الفلاسفة.
وهذا الخليط جُعلت فيه الشريعة والعقل، هذا يقارن هذا، وهذه تقارن ذاك، يعني: ما قدموا الشريعة على العقل، ولا العقل على الشريعة، فنظروا في هذا ونظروا في هذا، لكن ينظرون في الشريعة بالعقل، وينظرون في العقلانيات بالشريعة.
هنا نظروا إلى أن غاية الغايات: هو النظر في الملكوت، فلهذا أجمع المتكلمون على أن أول واجب على العبد أن ينظر في الملكوت، ويثبت وجود الله جل وعلا.
هذا الأصل صار مستغرقاً عندهم لا محيد عنه، وخاصة بعد مرور عقيدة جهم وأن الغاية عنده: إثبات وجود الله أيضاً في مناظرته مع طائفة السُّمنِيَّة، كما ذكرت لكم فيما سبق.
هذا الخليط الذي نتج صار هو الغاية عند كثير من الناس، فبالتالي نظروا في تفسير كلمة التوحيد.
الشريعة فيها: (لا اله إلا الله) هذه أصل التوحيد، وكلام الحكماء - كما يقولون - فيه: (أن الغاية هو إثبات وجود الله، والنظر في علة العلل، والنظر في الملكوت حتى يطلب الحكمة فيما وراء الطبيعة).
فقالوا: إذاً: معنى هذا - لأن ذاك عقل صحيح وهذه شريعة صحيحة - معناه أن يفسر (الإله) بالعلة، علة العلل.
- لأن أول واجب في الشريعة:(لا إله إلا الله).
- وأول واجب في الفلسفة:
أن ينظرَ في الملكوت، فيثبت أن لهذا الملكوت، أو لهذا الكون علة نتج عنها، فخلطوا ما بين هذا وهذا.
فقالوا: ولا يمكن للعقل أن يكون مخطئا؛ لأن عندهم نتاج الفلاسفة عقل قطعي، ولا يمكن أن تكون الشريعة فاسدة، فهذا صحيح وهذا صحيح، فقالوا: إذاً نفسر الإله بأنه الخالق، بأنه القادر على الاختراع.
قالوا: لكن (إله) في اللغة ليس معناه الخالق، فتأملوا فيما جاء في كتب اللغة فوجدوا أن هناك من قال: (إله) هذا بمعنى: (آلِه) إذا جَعَل غيره متحيراً، فأَلَه الرجل: تحير وتردد.وهذه مادة ربما تكون موجودة في بعض استعمالات العرب، أَلَه الرجل، يعني: تحير وتردد.
فقالوا: إذاً (لا اله إلا الله) إذا كان معنى (الإله) هو الخالق القادر على الاختراع، فهو الذي فيه تتحير الأفهام؛ لأن قصدهم هناك أن ينظر وهم إذا نظروا وتأملوا تحيرت الأفهام حتى يثبت الوجود، فقالوا: هنا التقت اللغة مع الشريعة مع العقل.


وهذا قرروه في كتبهم، فحصل منه أن معنى (لا إله إلا الله) عندهم يعني: لا قادر على الاختراع إلا الله، لا خالق إلا الله، وإذا كان كذلك فيكون الشرك الذي يخرج من كلمة التوحيد هو أن يقول: ثمَّ قادر على الاختراع، ثمَّ رازق، ثمَّ من تحيرت الأفهام في حقيقته غير الله جل وعلا، فمتى يكون مشركاً عندهم؟.


إذا لم يثبت (لا إله إلا الله) ومتى لا يثبت (لا إله إلا الله)؟

إذا قال: إنه ثَم خالق غير الله جل وعلا، هذا الخليط من العقل واللغة الضعيفة التي نقلوها أو القليلة، والشرع فيما نظروا فيه - يعني في بعض النصوص - أنتج لهم أن الشرك هو الشرك في الربوبية- يعني: اعتقاد أن ثَم خالقاً مع الله جل جلاله، ودُوّن هذا في كتب المتكلمين الأوائل، ونقله عنهم الأشاعرة وأثبتوا ذلك في كتبهم، ولهذا الأشاعرة يقولون، والماتريدية: أول واجب على العبد: النظر، وبعضهم يقول: الشك، وبعضهم يقول: القصد إلى النظر، فهذا أول واجب.

و(الإله) من هو؟
(الإله)منهم من يقول: (الإله) هو القادر على الاختراع.






ومنهم من يقول: (الإله) هو المستغني عما سواه، المفتقر إليه كل ما عداه.
ومنهم من يقول:(الإله) بمعنى آله وهو المُحَيِّرُ، فلا يوصل إلى حقيقته، وهو الله جل وعلا.
فنتج من هذا - وهو موجود في كتب المتكلمين وكتب الأشاعرة والماتريدية إلى يومنا هذا - نتج من هذا انحراف خطير في الأمة، وهو أن (الإله) ليس هو المعبود، وأن (لا إله إلا الله) معناها: لا قادر على الاختراع إلا الله، لا مستغنياً عما سواه ولا مفتقراً إليه كل ما عداه إلا الله، لا متحيراً في حقيقته إلا الله.
-فنتج من ذلك إخراج العبودية عن أن تكون في كلمة التوحيد.
- ونتج من ذلك الانحراف الخطير: أن (لا اله إلا الله) ليست نفياً لاستحقاق أحد العبادة مع الله جل جلاله، فنتج - وهي النتيجة التي قدم لها الشيخ هنا - أن طوائف كثيرة من المؤمنين - يعني من المسلمين - فشا فيهم كلام الأشاعرة هذا، وكلام المتكلمين، وكلام المبتدعة هذا، في معنى كلمة التوحيد.
فيكون معنى الشرك عندهم، راجعاً إلى واحد مما دلت عليه النصوص، وهو الإشراك في الربوبية، الذي جاء -مثلاً- في سورة سبأ وفي غيرها.
أما الإشراك في العبادة: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} فهذا عندهم لا ينقض كلمة التوحيد. نظروا بعد ذلك فيما فعلته العرب -وستأتي الشبهة التي تليها- بم أشركت العرب؟قالوا: أشركت بعبادتها الأصنام، وبأنها ما وحدت الله في ربوبيته، ولم تقل (لا اله إلا الله) بل قالت: إن الأصنام لها نصيب من الإلهية، يعني لها نصيب من الربوبية.


ولهذا من أعظم ما راج على كثير من المفسرين، من المتقدمين والمتأخرين، وراج على كثير من علماء الأمصار؛ أن الألوهية تفسر بالربوبية، وأن (لا إله إلا الله) تفسر بالربوبية أو بمقتضيات الربوبية، هذا نتيجة لهذا الانحراف.
لهذا: هذا المشرك الذي قال في شبهته - قد يكون عالماً وقد يكون غير عالم - يقول: (نحن لا نشرك بالله) هو قال هذه بحسب اعتقاده، هو لا يشرك بالله بحسب اعتقاده أن الشرك إنما هو الشرك في الربوبية وليس في الإلهية، وهذا نتيجة لما ذكرت لكم.
فإذاً: هذه الكلمة (لا نشرك بالله) ردك عليها، كشف هذه الشبهة - كما ذكر الشيخ رحمه الله في آخر الكلام، وبما أوضحت لك - في أنه:
أولاً:توضح موارد الشرك في القرآن، ما الذي نفي من الإشراك بالله؟ نفي الثلاثة التي ذكرت لك، وكل واحدة عليها أدلة، حبذا تجمع هذه الأدلة في كل نوع وتحفظ ذلك، هذا نوع.
الثاني: معنى الإشراك في النصوص.
الثالث: أن تبين أن الانحراف وقع، فصُرف الإشراك - معنى الإشراك - عن معناه في النصوص إلى المعنى الباطل، ونتج عنه أن كلمة التوحيد فهمت أيضاً غلطاً، ففهم منها أنها نفي لربوبية غير الله جل وعلا، وهذا باطل.
فإذاً: قولهم (نحن لا نشرك بالله) هذه جملة يمكن أن تردها تفصيلاً، وهذه الشبهة التي أوردوها لها ردٌ بما أورده الشيخ رحمه الله.
الشيخ ما أجاب عن كل جملةٍ جملة، لكن أجاب عن النتيجة التي وصلوا إليها بهذه المقدمات الباطلة.
قالوا: (نحن لا نشرك بالله).لم لا تشركون بالله؟ قالوا: لأننا (نشهد أنه لا يخلق ولا يرزق ولا ينفع ولا يضر إلا الله وحده لا شريك له) يعني: لا يخلق ولا يرزق استقلالاً، ولاينفع ولا يضر استقلالاً، إلا الله وحده لا شريك له.(وأن محمداً -صلى الله عليه وسلم- لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً) كما جاء في النصوص، يقولون: نحن نقول ذلك، فهو -عليه الصلاة والسلام- لا يملك نفعاً ولا ضراً استقلالاً، ما يمكن أن يعطينا شيئاً، ولكن هو -عليه الصلاة والسلام- يمكن أن يعطينا عن طريق الوساطة، عن طريق التقريب، عن طريق التزلف، يعنى أن يقربنا زلفى.
وهذه الشبهة أول من أوردها- فيما أعلم في كتابه - إخوان الصفا في كتابهم ورسائلهم المشهورة (رسائل إخوان الصفا) الرسائل الخمسين المعروفة، فإنهم قرروا: أن التوحيد هو الربوبية، وأن هؤلاء الأموات من الأنبياء والصالحين أنهم لا يملكون نفعاً ولا ضراً - كما قال هنا هذا الذي أورد الشبهة - ولكن نتوسط بهم، لم تتوسط بهم ؟ عللوا لأن أرواحهم عند الله؛ لأن الله قال عن أرواح الشهداء: {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} والعندية: معناها أنهم لهم القربى عند الله، فلهم الجاه، ولهم الزلفى عند الله جل وعلا، فإذا سألتهم، إذا دعوتهم فإنما تتوسط بهم؛ لا تسألهم استقلالاً.
فيقول هؤلاء: نحن لا نعتقد أن هذا ينفع ويضر بنفسه، ينفع ويضر استقلالاً، يخلق استقلالاً، يرزق استقلالاً، حاشا وكلا، ولكن يمكن أن يخلق الله بواسطته الولد في رحم الأم، إذا سألناه يمكن أن يرزق الله بواسطة شفاعته؛ لأنه مقرب عند الله جل جلاله.
هذا التقريب عند الله -جل جلاله- وصفوه بقولهم: (ولكن أنا مذنب، والصالحون لهم جاه عند الله) فقدموا هاتين المقدمتين، يقول: أنا مذنب، والمذنب لا يمكن أن يكون ولياً لله أو مقرباً عند الله، فعلى اعتقاده لا يمكن أن يصل إلى الله مباشرة.
وأولئك قالوا: والصالحون لهم جاه عند الله، هذا الجاه ماذا يفعل؟
قالوا: هذا الجاه بمعنى أنه لو سأل لم يُرد ((وإن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره)).


فأتى من هذه الشبهة، ورد التوحيد باعتبار أن هذا الصالح الذي هو عند الله -جل وعلا- مقرب، وهذا الصالح الذي هو عند الله له الزلفى والمقام الأعظم، بحيث إنه لو سأل لم يرد.


قالوا: (وأطلب من الله بهم) أطلب من الله؛ لا منهم، يعني: أنا لا أسألهم، ولكن أطلب من الله بهم.

كلمة (بهم)هنا ليس معناه التوسل بهم، يعني بجاههم، يقول: أسأل الله بالنبي، أسأل الله بالولي، أسأل الله بـأبي بكر وعمر؛ لأن سؤال الله بالصالحين هذا بدعة ووسيلة إلى الشرك، وليس شركاً أكبر، لكن القصد من قولهم: (وأطلب من الله بهم) يعني: أطلب من الله بوساطتهم وبشفاعتهم وبتقريبهم إياي عند الله زلفى.

فإذاً كلمة (بهم) لا يقصد بها التوسل بالجاه؛ لأن هذا بدعة وليس شركاً، وإنما يقصدون بها الشفاعة والتقريب زلفى.
قال: (فجاوبه بما تقدم) هذه الشبهة تلحظ: شكلها مركبة، لا شك أنها شبهة، وهي التي تروج عند الجميع، كيف واحد يؤمن بالله، ويقول: إن الله واحد في ربوبيته، لاينفع إلا هو، ولا يخلق إلا هو، ولا يرزق إلا هو، إلى آخر ذلك، ويقول: أنا مذنب، ولكن أتوسل، يعني: أتقرب إلى الله بالصالحين بشفاعتهم، أسألهم أن يدعوا الله لي، أتقرب إليهم بالدعاء ،حتى يشفعوا لي عند الله جل وعلا، هذا لا يجعلني مشركاً، فأنا - على حد قولهم- يقول: هو لا يشرك بالله، وهذا ليس شركاً بالله، فما الجواب؟
قال: (فجاوبه بما تقدم، وهو أن الذين قاتلهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-مقرون بما ذكرت) فهذا الآن الدرجة الأولى من الجواب.
نقول الآن له: نحن معك فيما ذكرت، لكن ننظر إلى حال المشركين الذين قاتلهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وحكم عليهم بالكفر والشرك ما حالهم؟ ننظر إلى القرآن ماذا فيه؟
القرآن فيه أنهم مقرون بأن الله هو الخالق وحده، وهو الرازق وحده، وهو الذي ينفع وحده، وهو الذي يضر وحده.
إذا قال:ما الدليل على هذا؟ هل المشرك كان يعتقد هذا؟




نقول:نعم، مشركو العرب كانوا يعتقدون ذلك:
-كما قال الله جل وعلا: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}.
-{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} وفي الآية الأخرى: {لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ}.
- وقال جل وعلا: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ}.
- وفي آية سورة يونس: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ}.
إذاً:في آيات كثيرة هذا الاعتقاد الذي وصفت أنك لست مشركاً باعتقاده، نقول: هذا وصف الله -جل وعلا- به مشركي العرب، ومشركي أهل الجاهلية، فهذا الدرجة الأولى من جواب هذه الشبهة
الدرجة الثانية: (ومقرون بأن أوثانهم لا تدبر شيئاً) الأوثان: جمع وثن، وهو المتجَه إليه بالعبادة، وفي غالبه لا يكون على هيئة صورة، والأصنام ما كان على هيئة صورة، وقد يقال للأصنام: أوثاناً، باعتبار أنها معبودة من دون الله جل وعلا؛ كما قال -جل وعلا- في سورة العنكبوت، في قصة إبراهيم: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} وفي الآيات الأخر في قصة إبراهيم قال: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} فإذاً: هي أصنام وأوثان، فالأوثان: ما لم يكن على هيئة صورة.
فإذاً:نذهب إلى شرك المشركين ونقول له: المشركون مقرون بأن أوثانهم لا تدبر شيئا.
إذاً:المشرك مقر بأن الوثن ليس له نصيب في التدبير.
فإذاً:ما رفضه من كلمة (لا اله إلا الله) وصار به مشركاً، ليس من جهة اعتقاده أن ثم مدبراً غير الله جل جلاله؛ لأن الله -جل وعلا- قال: {وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ}.
هذا الآن المقدمة الثانية.
المقدمة الأولى: اعتقاد المشركين في الربوبية في الله -جل وعلا- أنه هو المتفرد بالأمر، كما قال ذلك عن نفسه، يعني: كما قال المشرك عن نفسه أنه يشهد هذه الشهادة.
الخطوة الثانية: اعتقاد أولئك في الأوثان، بم؟
قالوا: اعتقدوا في الأوثان - العرب - أنها لا تدبر شيئاً، إذا استدللت بالآيات وبحال العرب يأتي النتيجة وهي: (وإنما أرادوا الجاه والشفاعة).لماذا أرادوا الجاه والشفاعة فقط؟
لأن الله -جل وعلا- قال: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} ومن المتقرر في اللغة أن كلمة (ما) النافية التي يأتي بعدها (إلا) هذه تفيد الحصر، فكأنه قال عن قولهم: لا نعبدهم لشيء ولا لعلة من العلل، لا لأنهم يملكون الرزق ولا يملكون الموت والحياة، ولا لأنهم يدبرون الأمر، ولا نعبدهم إلا لشيءٍ واحد، وهو أن يقربونا إلى الله زلفى.
فإذاً: ينتج من ذلك، أن المشركين كان شركهم باعتقاد أن هذه الأوثان تقرب إلى الله زلفى، باعتقاد أن هذه الأوثان لأجل أن لها منـزلة عند الله، وأن لها جاهاً عند الله فهي تقرب.
ما هذه الأوثان التي عبدت؟الملائكة، أليس كذلك؟ {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ}.
وقال -جل وعلا- في الأولياء: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ}.
وقال -جل وعلا- في قصة عيسى عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ}.


وقال للنبي عليه الصلاة والسلام: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً}.


إذاً:نوعت المعبودات المنفية، ولما نزل قول الله جل وعلا: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا} فرح المشركون، قالوا إذاً سنكون مع الصالحين، سنكون مع اللاتَّ، وسنكون مع عيسى، وسنكون مع عزير، وسنكون مع كذا وكذا، مع من عبدنا، فأنزل الله -جل وعلا- قوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ} الآيات.

فإذاً:ترتب على ما ذكرنا أن ما قاله صاحب الشبهة هي دعوى.

لا تجابهه بأن تقول: هذه دعوى بل أنت مشرك، لا، تقول له نأخذها واحدة واحدة، أنت الآن تقول: أنا لا أشرك بالله، وأنك تشهد كذا وكذا.
فنقول: ننظر إلى حال المشركين في الآيات، فإذا تأملت حال المشركين، وقصصت عليه وتلوت عليه الآيات وأفهمته إياها، كيف كانت حالة المشركين، وأنهم مقرون بما أقر هذا به.
فإذاً:تنقله إلى الخطوة الثانية، وهي أن المشركين كانوا لا يعتقدون في أوثانهم أنها تدبر شيئاً.

تنقله بعد ذلك للخطوة الثالثةفيما قدمت لك سالفاً في معنى الشرك، ما معنى الشرك، ومعنى كلمة (لا إله إلا الله) ثم تنقله إلى أن أولئك لم يرضوا بـ (لا إله إلا الله) لأنهم إنما أرادوا الزلفى، بنص الآية، وأرادوا الشفاعة، بنص آية الزمر أيضاً: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً}.
فهي له وحده دون ما سواه، يعني مِلكاً: هو الذي يخبرك عن حكمها جل وعلا، لا تبتدئ أنت بتصريف أمرك في الشفاعة كما تريد، لا، هي لله -جل وعلا- سبحانه استحقاقاً، وله -جل وعلا- مِلكاً، ومُلكاً، وأمراً ونهياً.
قال: (واقرأ عليه ما ذكر الله في كتابه ووضحه).بهذا يتبين لك أن هذه الشبهة - وهي من الشبه التي قد تواجهها - كثيرٌ من الناس تروج عليه، يقول: (كيف؟ أنا مؤمن وأناكذا وكذا، يعني: لأجل أني ذهبت إلى رجل من الصالحين، من الأولياء عند قبره، وقلت له: اشفع لي فإن لك جاهاً عند الله، ولك مقاماً عند الله، فاسأل الله لي أن يرزقني ولداً، اسال الله لي أن يعطيني وظيفة، اسأل الله لي أن ييسر أمري، أكون مشركاً كـأبي جهل وكذا؟)
هذه تروج على كثير من جهة العاطفة،ومن جهة التقرير، يقول: (أنا أصلي، وأنا أزكي، وأنا كذا، وأعتقد أن الله هو الخالق الرازق، وأنا لا أشرك بالله جل وعلا) فينفي شيئاً، هو في حقيقته واقع فيه.
لهذا قال الصنعاني في رسالته: (تطهير الاعتقاد) وكذلك الشوكاني في رسالته (توحيد العبادة) المعروفة، قالوا فيما جابهوه في اليمن، قالوا: (إن الأسماء لا تغير الحقائق) يعني: إن غيَّر المشركون وعلماء المشركين الأسماء فإن الحقائق لا تتغير، إذا سموا طلب الشفاعة وطلب الزلفى توسلاً، فإن هذا لا يغير الحقيقة، إذا سموه سؤالاً بهم، كما قال الشيخ هنا عنهم.
قالوا: (وأطلب من الله بهم) فهذا لا يغير حقيقة الأمر، وهو أنهم يطلبون من الله صحيح، ولكن متوسلين بشفاعة أولئك لا بذواتهم، والتوسل بشفاعتهم: اشفع لي واسأل الله لي، واطلب من الله لي، واسأل الله لي، وأشباه ذلك: هذا كله هو طلب الزلفى، أو يتقرب إليهم ليشفعوا من دون التنصيص على الشفاعة، يقول: أنا أتقرب إليه، أذبح - صحيح للولي- لكن أنا أقصد الذبح لله لكن للولي، حتى ينعطف قلب هذا العبد الصالح عليّ لأني ذبحت، فيسأل الله لي.
فإذاً: مقصود من عبد غير الله،من عبد الأوثان، من عبد الأصنام، من عبد القبور، من عبد الأولياء، من عبد الموتى، مقصودهم أن يشفع أولئك لهم، ليس مقصود أولئك أن يتخذوا هذه أرباباً أو آلهة استقلالاً، ما هذا مقصود أحد ممن أشرك، ولكن هذا مقصود أولئك من أنهم يريدون القربى والزلفى.
فإذاً: تحتاج في رد الشبه إلى: أن تتدرج في المقدمات،أولاً.

الثاني: أن تفهم كيف ترد الشبهة بعمومها، وكيف تفصل جمل الشبهة فترد عليها بخصوصها.
الثالث: أن تقدم الرد المجمل أو الرد الإجمالي على ما أورده من الشبهة، برد مفصل على تفصيل كل جملة جملة، مثل ما ذكر الشيخ -رحمه الله- هنا، هنا قال: حالتهم، اذكر لهم حالة المشركين، لا تجادله: أنت مشرك؛ لأنه كذا وكذا أولاً، لا.
ولكن صف له حال المشركين، على تفصيل الكلام الذي ذكرنا، ثم انتقل بعد ذلك إلى معنى كونه مشركاً، إلى معنى كونه نافى كلمة التوحيد، إلى آخر ما ذكرنا.
هذه من المهمات في أن تتصور كيف تتدرج في رد الشبهة، واحذر من أن تنساق في رد الشبهة مع العاطفة فتجبهه بكلام قد يقوي الشبهة عنده، فلا بد أن يكون الانتقال - كما عليه قواعد إقامة البرهان وإقامة الحجاج مع المخالف - أن تنتقل في شأنه من المتفق عليه إلى ما هو أقل اختلافاً، ثم إلى ما هو أكثر، وهكذا.
المسألة التي يقوى الاختلاف فيها لا تبتدئ بها،ابتدئ بالواضح جداً، ثم انتقل بعده درجة إلى الأقل وضوحاً ثم إلى الأقل وضوحاً، وهكذا.
أما إذا ابتدأت بما هو أكثر إشكالاً، فإنَّه لن يقتنع؛ لأن ما هو أكثر إشكالاً يحتاج إلى مقدمات كثيرة.
فإذاً:تبتدئ معه بما هو أكثر وضوحاً، والأكثر وضوحاً: وصف حال المشركين - مشركي العرب - من جهة إقرارهم بالربوبية، واحد.
الثاني: إقرارهم بأن أوثانهم لا تدبر شيئاً.
الثالث:بأنهم إنما أرادوا الزلفى والشفاعة، بنصوص القرآن في ذلك.
لكن لو ابتدأت معه بمعنى العبادة ربما يأتيك بمخالفات، يقول لك: لا، العبادة هي كذا، إذا أتيت معه في التكفير هنا يخالفك يقول لك: لا، هي كذا وكذا وكذا.
فتبتدئ معه بتقرير شرك المشركين،وترد عليه شبهته هذه بأن أولئك ما أرادوا إلا الزلفى.
فالتدرج إذاً مهم، وبعض الذين دعوا إلى التوحيد - مع الأسف - أوقعوا المدعو في شبهة أعظم مما كانت عنده؛ لأنه جاء للمستغلِق من المسائل فأراد أن يجيب عليها بما عنده واضح، لكن ذاك عنده ليست بواضحة، فأراد أن يجيبه فزاد الإشكال إشكالا.

محمدعبداللطيف
2019-12-21, 01:53 PM
كشف الشبهة الثانية: وهي زعمهم أن المشركين إنما هم عُبَّاد الأصنام
فَإِنْ قَالَ: إن هَؤلاءِ الآياتِ نَزَلَتْ فِيمَنْ يَعْبُدُ الأَصْنَامَ، وَنَحْنُ لا نَعْبُدُ الأصْنَامَ، كَيْفَ تَجْعَلُونَ الصَّالحِينَ مِثْلَ الأَصْنَامِ؟ أَمْ كَيْفَ تَجْعَلُونَ الأَنْبِيَاءَ أصْنَاماً؟
فَجاوِبْهُ بِمَا تَقَدَّمَ، فَإِنَّهُ إِذا أَقَرَّ أَنَّ الكُفَّارَ يَشْهَدُونَ بِالرُّبُوبيَّة ِ كُلِّها للهِ، وَأَنَّهُم مَا أَرَادُوا مما قَصَدُوا إِلاَّ الشَّفَاعَةَ، وَلَكِنْ أرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ فِعْلِهِمْ وَفِعْلِهِ بِمَا ذَكَرَ.
فَاذْكُرْ لَهُ أَنَّ الْكُفَّارَ مِنْهُمْ مَنْ يَدْعُو الأَصْنامَ، وَمِنْهُمْ مَن يَدْعُو الأَوْلياءَ الَّذِينَ قالَ اللهُ فِيهِمْ: {أُوْلَئِكَ الَّذينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ ويَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوْراً}[الإسراء: 57].
وَيَدْعُونَ عيسى ابنَ مَرْيمَ وَأُمَّهُ وَقَدْ قالَ تَعالى: {مَا المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} الآية [المائدة: 75].
وَاذْكُرْ لَهُ قَوْلَهُ تَعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ} الآية [سبأ: 40، 41].
وَقَوْلَهُ تَعالى: {وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى اْبنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} الآية [المائدة: 116].
فَقُلْ لَهُ: عَرَفْتَ أَنَّ اللهَ كَفَّرَ مَنْ قَصَدَ الأَصْنَامَ، وَكَفَّرَ أَيْضاً مَنْ قَصَدَ الصَّالِحِينَ، وَقَاتَلَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟. [رسالة كشف الشبهات للامام محمد بن عبد الوهاب]

محمدعبداللطيف
2019-12-21, 01:54 PM
قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ
(فَإِنْ قَالَ) المُشَبِّهُ: (هَؤُلاَءِ الآيَاتُ)- يَعْنِي: آيَةَ: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ} ونَحْوَهَا- (نَزَلَتْ فِيمَنْ يَعْبُدُ الأَصْنَامَ) إِن انْتَقَلَ إلَى هَذِه الشُّبْهَةِ وهي حَصْرُ عِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ في الأَصْنَامِ، يَعْنِي وَما سِوَاهُ فَلَيْسَ بِعِبَادَةٍ، فَلَيْسَ مِثْلَهُم، هو يَدْعُو الصَّالِحِينَ وَلَيْسَ بِمُشْرِكٍ! (كيف تَجْعَلُونَ الصَّالِحِينَ مِثْلَ الأَصْنَامِ؟) حَصَرَ عِبَادَةَ غَيْرِ اللهِ في الأَصْنَامِ (أَمْ كَيْفَ تَجْعَلُونَ الأَنْبِيَاءَ أَصْنَامًا؟) مِن شَأْنِ أَهْلِ البَاطِلِ وأَشْبَاهِهِم نِسْبَتُهُم مَن نَزَّلَ الصَّالِحِيَن مَنَازِلَهُم أَنْ يَقُولُوا: تَنَقَّصُوهُم وَهَضَمُوهُم.
وفي الحَقِيقَةِ هُمُ النَّاقِصُونَ المَتَنَقِّصُون َ للرُّسُلِ وَأَرَادُوا أَنْ يُعْطَوْا بَاطِلاً.
وَأَهْلُ الحَقِّ نَزَّلُوهُم مَنَازِلَهُم الحَقَّ اللاَّئِقَةَ بِهِم وَمَا جَاءُوا بِهِ، وَلاَ زَادُوا وَلاَ نَقَصُوا؛ أَعْطَوْهُم حَقَّهُم الوَاجِبَ ونَزَّهُوهُم عَمَّا لاَ يَصْلُحُ لَهُم مِن البَاطِلِ.(فجَاو ِبْهُ بِمَا تَقَدَّمَ) وهو أَنَّ المُشْرِكِينَ الأَوَّلِينَ مُقِرُّونَ بالرُّبُوبِيَّة ِ؛ أَنَّ اللهَ تَعَالَى الخَالِقُ وَحْدَه لاَ شَرِيكَ لَهُ الرَّازِقُ، وإِنَّمَا كَانُوا مُشْرِكِينَ باتِّخَاذِهِم الوَسَائِطَ… إلخ.
لَكِنَّهُم مَا أَعْطَوُا الرُّبُوبِيَّةَ حَقَّهَا فَإِنَّ تَوْحِيدَ الأُلُوهِيَّةِ هو نَتِيجَةُ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ (فَإِنَّهُ إِذَا أَقَرَّ أَنَّ الكُفَّارَ يَشْهَدُونَ بالرُّبُوبِيَّة ِ كُلِّهَا للهِ، وَأَنَّهُم مَا أَرَادُوا مِمَّنْ قَصَدُوا إِلاَّ الشَّفَاعَةَ) والمُشَبِّهُ مُقِرٌّ بِذَلِكَ (وَلَكِنْ أَرَادَ) المُشَبِّهُ (أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ فِعْلِهِم وَفِعْلِهِ بِمَا ذَكَرَ) وهو أَنَّ المُشْرِكِينَ يَعْبُدُونَ أَصْنَامًا وهو لاَ يَعْبُدُ صَنَمًا.


(فَاذْكُرْ لَهُ أَنَّ الكُفَّارَ مِنْهِمْ مَنْ يَعْبُدُ الأَصْنَامَ) وَالأَوْثَانَ كَمَا ذَكَرَ اللهُ عَنْهُم:
-{قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ}.
-{إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا}.
-{مَا هَـذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ}.



(وَمِنْهُمْ مَنْ يَدْعُو الأَوْلِيَاءَ الَّذِينَ قَالَ اللهُ فِيهِمْ: {أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} الآيةَ) فَمَعْبُودَاتُه ُم مُتَنَوِّعَةٌ؛ لَيْسَت الأَصْنَامَ وَحْدَهَا، مِن دَلِيلِ تَنَوُّعِهَا هَذِهِ الآيَةُ فَإِنَّهَا نَزَلَتْ في أُنَاسٍ يَعْبُدُونَ الجِنَّ فَأَسْلَمَ الجِنُّ وبَقِيَ الإِنْسُ عَلَى عِبَادَتِهِم.
وَقِيلَ:نَزَلَت فِيمَنْ يَعْبُدُ العُزَيْرَ والمَسِيحَ كَمَا هو قَوْلُ أَكْثَرِ المُفَسِّرِينَ.
وَلاَ مُنَافَاةَ بَيْنَ القَوْلَيْنِ فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَنْ يَدْعُو مَدْعُوًّا وَذَلِكَ المَدْعُوُّ صَالِحٌ في نَفْسِهِ يَرْجُو رَحْمَةَ الرَّبِّ ويَخَافُ عِقَابَهُ، فَكَأَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ قَالَ في الرَّدِّ عَلَيْهِم: إِنَّ مَنْ تَدْعُونَهُ عَبِيدِي كَمَا أَنَّكُمْ عَبِيدِي، يَرْجُونَ رَحْمَتِي ويَخَافُونَ عَذَابِي، فَيَنْبَغِي أَنْ تَفْعَلُوا مِثْلَمَا تَفْعَلُ تَلْكَ الآلِهَةُ.
فَصَارُوا عَبِيدَهُ بِثَلاَثَةِ أَشْيَاءَ: بِعِبَادَتِه وَحْدَهُ، ورَجَائِهِ وَحْدَهُ، وَخَوْفِهِ وَحْدَهُ، هَذَا هو المُوصِلُ لَهُمْ والوَسِيلَةُ والسَّبَبُ المُوصِلُ، لاَ عِبَادَةُ سِوَاهُ مِن الأَوْلِيَاءِ ونَحْوِهِم.
فَهَذِه الآيَةُ مِن جُمْلَةِ الأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ مِن مَعْبُودَاتِهِم الأَوْلِيَاءَ.



(وَيَدْعُونَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ) وَهُو صَرِيحٌ في شِرْكِ النَّصَارَى بالرُّسُلِ؛ عِيسَى رَسُولٌ (وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ}) يَعْنِي عَظِيمَةَ التَّصْدِيقِ بالحَقِّ {كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} فَهَذَا بَعْضُ أَنْوَاعِ شِرْكِ الأَوَّلِينَ أَهْلِ الكِتَابِ.



(وَاذْكُرْ لَهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَهَـؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ (40) قَالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْـثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ}) هَذِه الآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ مِن المُشْرِكِينَ مَن يَعْبُدُ المَلاَئِكَةَ.
فَعَرَفْتَ مِن هذه الآيَاتِ أَنَّ مِن المُشْرِكِينَ مَن يَدْعُو الأَوْلِيَاءَ والصَّالِحِينَ، وَمِنْهُم مَن يَدْعُو الأَنْبِيَاءَ، وَمِنْهُم مَن يَدْعُو المَلاَئِكَةَ، وأَنَّ الآيَاتِ مِنْهَا مَا نَزَلَ فِيمَنْ يَعْبُدُ الأَوْلِيَاءَ، وَبَعْضَهَا فِيمَنْ يَعْبُدُ الأَنْبِيَاءَ، وبَعْضَهَا فِيمَنْ يَعْبُدُ المَلاَئِكَةَ، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ مُنْحَصِرَةً فِيمَنْ يَعْبُدُ الأَصْنَامَ فَقَطْ؛ فَلاَ فَرْقَ بَيْنَ المَعْبُودَاتِ، بَل الكُلُّ تَسْوِيَةُ المَخْلُوقِ بالخَالِقِ، والكُلُّ عَدَلَ بِهِ تَعَالَى سِوَاهُ في العِبَادَةِ، فالكُلُّ شِرْكٌ، والكُلُّ مُشْرِكُونَ.
فَعَرَفْتَ مِن الآيَاتِ أَنَّهُ مِثْلُهُم فَبِذَلِكَ انْكَشَفَتْ شُبْهَتُهُ وانْدَحَضَتْ حُجَّتُهُ.



وقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ} وهو تَعَالَى أَعْلَمُ أَنَّ عِيسَى لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ، ولَكِنَّ المُرَادَ نُطْقُهُ عَلَى رُؤُوسِ الأَشْهَادِ وبَيَانُ بُطْلاَنِ عِبَادَتِهِم لَهُ، وَأَنَّه لَمْ يَرْضَ بذلك.
وهَذَا الخَبَرُ مِن اللهِ ذَمٌّ وَعَيْبٌ لِمَن اتَّخَذَ المَسِيحَ وأُمَّهُ إِلَهَيْنِ مِن دونِ اللهِ {قَالَ سُبْحَانَكَ} أي: تَنْـزِيهًا لَكَ عمَّا لاَ يَلِيقُ بِجَلاَلِكَ وعَظَمَتِكَ {مَا يَكُونُ لِي} يَعْنِي: مَا يَنْبَغِي لِي {أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} أَنْ أَجْعَلَ حَقَّ رَبِّ العَالَمِينَ الَّذِي لاَ يَشْرَكُهُ فِيهِ غَيْرُه لِي: {إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} وأَنْتَ أَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ مِنِّي ذَلِكَ {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ}.



(فَقُلْ) للمُشَبِّهِ الشُّبْهَةَ السَّابِقَةَ: (عَرَفْتَ أَنَّ اللهَ كَفَّرَ مَنْ قَصَدَ الأَصْنَامَ وَكَفَّرَ أَيْضًا مَنْ قَصَدَ الصَالِحِينَ) بَلْ لاَبُدَّ أَنْ يَنْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ تَكْفِيرُهُم واعْتِقَادُ ذَلِكَ، فَمَنْ لَمْ يُكَفِّرْهُم دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَرَى عَمَلَهُم كُفْرًا (وَقَاتَلَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمْ) بَلْ جَعَلَ سَبِيلَهُمْ واحِدًا، وإِنْ تَفَرَّقَتْ مَعْبُودَاتُهُم ، فَكُلُّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ وهو عِبَادَةُ غَيْرِ اللهِ مَعَ اللهِ.
وبِذَلِكَ انْكَشَفَتْ شُبْهَتُهُ وانْدَحَضَتْ حُجَّتُهُ وَأَنَّهُ في غَايَةِ الجَهَالَةِ عَمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

محمدعبداللطيف
2019-12-21, 01:56 PM
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين
قولُهُ: (فإنْ قالَ: هؤلاءِ) - يَعْنِي: أهلُ الشِّركِ - هذهِ الآياتُ نَزَلَتْ في المشركينَ الَّذينَ يَعْبُدونَ الأصنامَ، وهؤلاءِ الأولياءُ ليْسُوا بِأصنامٍ.

فَجاوِبْهُ بِما تَقَدَّمَ، أيْ: بأنَّ كلَّ مَنْ عبَدَ غيرَ اللهِ فقدْ جعَلَ مَعْبودَهُ وَثَنًا، فأيُّ فَرْقٍ بينَ مَنْ عبَدَ الأصنامَ وعبَدَ الأنبياءَ والأولياءَ؟! إذْ إنَّ الجميعَ لا يُغْنِي شيئًا عنْ عابِدِيهِ.

يَقولُ: (فَإِنَّهُ) أيْ: هذا القائلَ، يَعْلَمُ أنَّ المُشرِكِينَ قدْ أَقَرُّوا بالرُّبوبيَّةِ، وأنَّ اللهَ سُبحانَهُ وتعالى هوَ رَبُّ كلِّ شيءٍ وخالِقُهُ ومالِكُهُ، ولكنَّهم عَبَدُوا هذهِ الأصنامَ مِنْ أجْلِ أنْ تُقَرِّبَهم إلى اللهِ زُلْفَى، وتَشْفَعَ لهم، فقدْ أَقَرَّ بأنَّ مَقْصودَهم كَمقصودِهِ، ومعَ ذلكَ لم يَنْفَعْهم هذا الاعْتِقادُ كما سبَقَ.

قولُهُ: (فاذْكُرْ لهُ...) إلخ، جوابُ قولِهِ: (فإنَّهُ إذا أقَرَّ أنَّ الكُفَّارَ...) إلخ، يَعْنِي: فاذْكُرْ لهُ أنَّ هؤلاءِ المشركينَ:
- مِنهم:مَنْ يَدْعو الأصنامَ لطلبِ الشَّفاعةِ كما أَنْتَ كذلكَ مُوافِقٌ لهم في المقصودِ.

- ومنهم:مَنْ يَعْبُدُ الأولياءَ كما أنتَ كذلكَ مُوافِقٌ لهم في المقصودِ والمعبودِ، ودَليلُ أنَّهم يَدْعُونَ الأولياءَ قولُهُ تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ}، وكذلكَ يَعْبُدُونَ الأنبياءَ كِعبادةِ النَّصارَى المَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ، وكذلكَ يَعْبُدُونَ الملائكةَ كقولِهِ تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَهَؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ}[ سبأٌ: 40 ] الآيةَ.
فتَبَيَّنَ بذلكَ الجوابُ عنْ تَلْبِيسِهِ بِكَوْنِ المشرِكِينَ يَعْبُدونَ الأصنامَ وهو يَعْبُدُ الأولياءَ والصَّالحينَ مِنْ وجْهَيْنِ:
الوجهُ الأوَّلُ: أنَّهُ لا صِحَّةَ لتَلْبِيسِهِ؛ لأنَّ مِنْ أولئكَ المشركينَ مَنْ يَعْبُدُ الأولياءَ والصَّالحينَ(2).
الوجهُ الثَّاني: لوْ قَدَّرْنا أنَّ أولئكَ المشركينَ لا يَعْبُدُونَ إلاَّ الأصنامَ، فلا فَرْقَ بينَهُ وبينَهم؛ لأنَّ الكلَّ عَبَدَ مَنْ لا يُغْنِي عنهُ شيئًا(3).


قولُهُ: (واذْكُرْ لهُ قولَهُ تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ }) الآيتَيْنِ. هذهِ معطوفةٌ على قولِهِ سابِقًا: (فاذْكُرْ لهُ أنَّ الكفَّارَ منهم مَنْ يَدْعُو الأصنامَ...) إلخ، والمقصودُ مِنْ هذا أنْ يَتَبَيَّنَ لهُ أنَّ مِن الكفَّارِ مَنْ يَعْبُدُ الملائكةَ وهمْ مِنْ خِيارِ خَلْقِ اللهِ وأوليائِهِ، فيَبْطُلُ تَلْبِيسُهُ بأنَّ الفَرْقَ بينَهُ وبينَ الكُفَّارِ أنَّهُ هوَ يَدْعُو الصَّالحينَ والأولياءَ، والكفَّارُ يَعْبُدونَ الأصنامَ مِن الأحْجارِ ونَحْوِها.

قولُهُ: (وقوْلَهُ تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ}) الآيةَ، أيْ: واذْكُرْ لهُ قولَهُ تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى …} لِتُلْقِمَهُ حَجَرًا في أنَّ الكفَّارَ كانوا يَعْبُدونَ الأولياءَ والصَّالِحِينَ، فلا فَرْقَ بينَهُ وبينَ أُولئِكَ الكفَّارِ.



قولُهُ: (فقُلْ لهُ...) إلخ، أيْ: قُلْ ذلكَ مُبَيِّنًا لهُ أنَّ اللهَ سُبحانَهُ وتعالى كَفَّرَ مَنْ عَبَدَ الصَّالِحِينَ ومَنْ عبَدَ الأصنامَ، والنبيُّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاتَلَهم على هذا الشِّركِ ولم يَنْفَعْهم أنْ كانَ المَعْبودونَ مِنْ أولياءِ اللهِ وأنبيائِهِ. ---------------- قال الشيخ صالح الفوزان
الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا قَرَأْتَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ} وقَوْلَهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى} وَقَالَ لَكَ: هذه الآياتُ نَزَلَتْ في الَّذِينَ يَعْبُدونَ الأَصْنَامَ، وأَنَا لَسْتُ أَعْبُدُ الأَصْنَامَ، وإِنَّما أَتَوَسَّلُ إِلَيْهِ بالصَّالِحِينَ، فكيف تَجْعَلُ الصَّالِحِينَ أَصْنَامًا؟!
والجَوابُ عن هذا وَاضِحٌ جِدًّا:وهو أَنَّ اللهَ ذَكَرَ أَنَّ المُشْرِكِينَ مِنْهُم مَن يَعْبُدُ الأَصْنَامَ، ومِنْهُم مَن يَعْبُدُ الأَوْلِيَاءَ والصَّالِحِينَ، وسَوَّى اللهُ بَيْنَهُم في الحُكْمِ، ولَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُم، وأَنْتَ فَرَّقْتَ بَيْنَهُم في ظَنِّكَ أَنَّ عِبَادَةَ الأَصْنَامِ لاَ تَجُوزُ، وأَنَّ عِبَادَةَ الصَّالِحِينَ تَجُوزُ بِقَصْدِ التَّوَسُّطِ، والدَّلِيلُ عَلَى هَذَا أَنَّ اللهَ ذَكَرَ أَنْوَاعًا مِن المُشْرِكِينَ يَعْبُدُونَ الصَّالِحِينَ، مِنْهُم مَن يَعْبُدُ المَلاَئِكَةَ.
والمَلاَئِكَةُ مِن أَصْلَحِ الصَّالِحِينَ، قَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلمَلاَئِكَةِ أَهَؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ}.

وفي يَوْمِ القِيَامَةِ يَسْأَلُ اللهُ -جَلَّ وَعَلاَ- المَلاَئِكَةَ وهو أَعْلَمُ -سُبْحَانَه وَتَعَالَى- لَكِنْ لأَِجْلِ إِبْطَالِ حُجَّةِ هَؤُلاءِ: {أَهَؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مِنْهُم مَن يَعْبُدُ المَلاَئِكَةَ، لكنَّ المَلاَئِكَةَ تَتَبَرَّأُ مِنْهُم يَوْمَ القِيَامَةِ، وتَقُولُ: نَحْنُ مَا أَمَرْنَاهُم بِذَلِكَ ولاَ رَضِينَا بذلك {سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الجِنَّ} -يَعْنِي الشَّيَاطِينَ- فالشَّياطِينُ هي الَّتِي أَمَرَتْهُم بِعِبَادَةِ المَلاَئِكَةِ؛ لأَِنَّ المَلاَئِكَةَ لاَ تَأْمُرُ إلاَّ بِعِبَادَةِ اللهِ {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِين} فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مِنْهُم مَن يَعْبُدُ المَلاَئِكَةَ، والمَلاَئِكَةُ أَصْلَحُ الصَّالِحِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِيهِم: {بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} ومنهم مَن يَعْبُدُ الأَنْبِيَاءَ والصَّالِحِينَ كالمَسِيحِ ابْنِ مَرْيَمَ وأُمِّه.

وإِذَا بَطَلَ التَّوَسُّلُ بالمَلاَئِكَةِ والأَنْبِيَاءِ؛ ودُعَاؤُهُم مِن دونِ اللهِ، بَطَلَ التَّوَسُّلُ بِغَيْرِهِم مِن الصَّالِحِينَ ودُعَاؤُهُم مِن دونِ اللهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ}لأَِنّ الوَاجِبَ إِخْلاَصُ العِبَادَةِ للهِ -عَزَّ وَجَلَّ- بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهَا مِن الدُّعَاءِ والذَّبْحِ والنَّذْرِ وغَيْرِ ذَلِكَ.
فَمَنْ ذَبَحَ لغَيْرِ اللهِ وَدَعَا غَيْرَ اللهِ كَانَ مُشْرِكًا خَارِجًا مِن الدِّينِ.

محمدعبداللطيف
2019-12-21, 01:59 PM
قال الشيخ صالح آل الشيخ
(فإن قال: هؤلاء الآيات نزلت فيمن يعبد الأصنام، كيف تجعلون الصالحين مثل الأصنام؟ أم كيف تجعلون الأنبياء أصناماً؟!).
قال: (فجاوبه بما تقدم، فإنه إذا أقر أن الكفار يشهدون بالربوبية كلها): إلى آخر كلامه.
يعني بقوله: (فجاوبه بما تقدم) ما قدمه في المقدمات فيما سبق.
وقوله: (فإنه) هذا تفصيل لذلك الجواب.
قال: (إذا أقر أن الكفار يشهدون بالربوبية كلها لله).

فأول إبطال لقولهم أن يقام عليه حال الكفار مع الربوبية، والله -جل وعلا- بين لنا أن أفراد توحيد الربوبية، كان الكفار يقرون بها، فلما كان الكفار مقرين بتوحيد الربوبية كان شركهم جائياً من جهة توحيد الإلهية، وقد بين ذلك -جل وعلا- في آيات كثيرة:

- كقوله جل وعلا: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ}.
-وكقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}.
-وكقوله: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء} الآية.
- وكقوله: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ} الآيات، وكقوله في الآيات التي في أول الجزء، في النمل، والآيات ذكرناها وهي كثيرة في بيان إقرار المشركين بالربوبية، إذا كان كذلك وأقر بهذا، فإن جزءاً من شبهته قد زال، حتى يعلم أن شرك مشركي العرب لم يكن من جهة اعتقادهم أن هذه الأصنام تخلق، أو قادرة على الاختراع، أولها نصيب في الملك.
فإذا كان كذلك نقول: هم - من هذه الجهة - أرادوا من الأصنام هذه الشفاعة؛ كما قال جل وعلا: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}.
- وكقوله جل وعلا: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}.
- وكقوله جل وعلا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}.
فإذاً: المشركون لهم اعتقاد في إلهية هذه الأصنام، ويرون أنهم إنما يتقربون إليها لأجل التوسط، لأجل الشفاعة، فهذا برهان ثانٍ.
فالبرهان الأول على هذه الشبهة: حال المشركين مع إقرار الربوبية.
والبرهان الثاني في الرد على هذه الشبهة: بيان أنهم مع الأصنام ما قصدوا إلا التوسط والشفاعة؛ لأن الله -جل وعلا- بين لنا أنهم لا يعتقدون في الأصنام أنها تخلق وترزق وتأتي بالمطر وتسير الرياح إلى آخر ذلك، بل إنما قصدوا منها الشفاعة واتخاذ الأصنام وسائط.
البرهان الثالث: ما ذكره الشيخ بعد ذلك بقوله: (ولكن إذا أراد أن يفرق بين فعلهم وفعله بما ذكره، فاذكر له أن الكفار منهم من يدعو الأصنام، ومنهم من يدعو الأولياء) كما أسلفنا أن عبادة المشركين لغير الله، كانت متجهة إلى أربعة أنواع، ذكرناها لكم فيما سبق، وتلخيصها: -أنهم عبدوا الأصنام المصورة، وعبدوا الملائكة، وعبدوا الأنبياء والأولياء، وعبدوا الأشجار، والأحجار، يعني اعتقدوا فيها وعبدوها.
فهذه جملة الأنواع، ويدخل في الأشجار والأحجار عبادة الشمس والقمر والكواكب؛ لأن لها نصيباً من كونها أحجاراً، ويدخل في عبادة النوع الثاني أصناف، ويدخل في النوع الأول أصناف، إلى آخره.
فإذاً:لم تكن عبادة العرب منصبة على نوع واحد.
إذا أراد الدليل فنقول له: من جهة أن العرب وغير العرب من المشركين والكفار عبدوا أنبياء وعبدوا صالحين، فالآيات في هذا كثيرة:
-كقوله جل وعلا: {مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ}.
-وكقوله جل وعلا: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ}.
-وكقوله جل وعلا: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ}.
-وكقوله جل وعلا: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ}.
-وكقوله جل وعلا: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} على القراءة: {اللَّاتَ وَالْعُزَّى}وهو رجل صالح كان يلت السويق، فمات فعكفوا على قبره.
إذاً: فنجمع لهم الآيات التي هي صريحة في أن الصالحين عُبِدوا.
ثم الدرجة الثانية من هذا البرهان الثالث: أن نقول: في القرآن أيضاً بيَّن -جل وعلا- أن الذين عبدهم المشركون كانوا أمواتاً غير أحياء، كما قال -جل وعلا- في سورة النحل، في ذكر الحجاج مع المشركين، قال في وصف الآلهة: {لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} فهذه الآية فيها بيان أن الذين عبدهم المشركون والكفار من العرب كانوا لا يخلقون شيئاً؛ وهم يخلقون، وأنهم أموات غير أحياء.
ومعنى قوله: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} أنهم الآن ليسوا على وصف الحياة بل هم على وصف الموت، وهذا يعني: أنهم كانوا قبل هذا الوصف أحياء؛ لأن الذي يوصف بأنه ميت هو من كان حياً، قال -جل وعلا- هنا: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} ثم أكد ذلك بقوله: {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} يعني: ما يشعرون متى يبعث، والذي يبعث هو الميت الذي يوصف بأنه كان حياً فمات.
وهذا واضح في خروج الجمادات والأصنام عنها، الذي يُبعث ذووا النفوس، الجن والإنس والحيوان، وهنا معلوم أن المقصود من عُبد منَ الإنس، فإذا كان كذلك بطل ادعاء أن العرب إنما عبدت أصناماً لها وصف الحجارة فقط، وقد ذكرنا لكم لِمَ تعلقَ العربُ ومن قبلهم بالأصنام؟.
لأنهم يعتقدون أن هذا الصنم الذي هو مصور على هيئة صورة ما، تحله روح-أو كما يقولون- روحانية تلك الصورة، فإذا كانت الصورة صورة بشرٍ حلت فيه حين الخطاب، وإذا كانت الصورة صورة كوكبٍ، حلت فيه روحانية الكوكب حين الخطاب، وإذا كانت الصورة صورة ملك، حضر الملك حين الخطاب، وهكذا فيما يزعمون.
وكل الذين يحضرون ويخاطبونهم -وهم صادقون- حين يقولون: خاطبنا الصنم فخاطبنا، وكلمناه فكلمنا، وسألناه فأجابنا، ولكن لم تجبهم الأرواح الطيبة، وإنما أجابتهم الأرواح الخبيثة، أرواح الشياطين والجن.
ولهذا قال -جل وعلا- في آية سبأ: {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} يعني: أن الحقيقة أن الذي خاطبهم وأوقعهم في هذا إنما هم شياطين الجن، وقد قال جل وعلا: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} وكان إضلال الشيطان ليس من جهة الشهوات فحسب؛ بل هو في أعظم إضلال، وهو في عبادة غير الله جل وعلا.
إذاً: جواب هذه الشبهة ترتب على - ثلاثة أنواع من البراهين مرتبة:
الأول:في أن إقرار المشركين بالربوبية على وجه التفصيل، وتسوق الآيات.
الثاني:أنهم ما أرادوا ممن عبدوهم - ولو كانت الأصنام - إلا التوسط والشفاعة، كما هي الآيات.
الثالث:أن الآيات فيها ذكر أن تلك المعبودات لم تكن أصناماً فحسب، بل كانت تلك المعبودات من البشر والملائكة والجن، يعني أن غير الله -جل وعلا- عبد بجميع أنواع غير الله، فعبدت الملائكة، وعبد الصالحون، وعبد الأولياء، وعبد الأنبياء.
إذا تبين ذلك واتضح، فنأتي إلى خاتمة هذا البرهان، قبل أن نمشي مع كلام الإمام رحمه الله تعالى.
فنقول: إن هذا البرهان، ورَدَّ هذه الشبهة بما ذكرنا واضح، ولكن يبقى نتيجته، وهو فهم معنى التوسط، وفهم معنى التوسل، وفهم معنى الشفاعة، وهذا سيأتي في جواب الشيخ، أو في تكملة كلام الشيخ رحمه الله.
لكن المقدمة قبل هذا: أنه إن سلّم بهذه البراهين الثلاثة مرتبة، فانتقل معه إلى الكلام على الشفاعة، ولا تتكلم في الشفاعة قبل هذه البراهين؛ لأن الكلام في الشفاعة الشبهُ القوليةُ فيه والعملية والنقلية كثيرة، فيحتاج إلى محكم، وإلى واضح، حتى يُرْجَع إليه عند الاختلاف.
فإذاً:حين الحجاج مع المشركين، يقدم لهم إذا قالوا إن الأولين ماعبدوا إلا الأصنام، البراهين الثلاثة ولا يُتكلم في الشفاعة إلا بعدها.

ما معنى الشفاعة؟ وكيف توسلوا هم ؟ ومعنى التوسل ؟ وماشابه ذلك.

محمدعبداللطيف
2019-12-21, 02:01 PM
كشف الشبهة الثالثة: وهي أنهم مقرون بأن الله هو النافع الضار وإنما يسألونهم الشفاعة
فَإِنْ قَالَ:
الكُفَّارُ يُريدُونَ مِنْهُمُ النَّفْعَ والضُّرَّ، وَأنَا أَشْهَدُ أَنَّ اللهَ هُوَ النَّافِعُ الضَّارُّ المُدَبِّرُ لاَ أُرِيدُ إِلاَّ مِنْهُ، وَالصَّالِحُون لَيْسَ لَهُمْ مِن الأَمْرِ شَيْءٌ وَلَكِنْ أَقْصِدُهُم أَرْجُو من اللهِ شَفَاعَتَهُم.
فَالجَوابُ:
أَنَّ هَذا قَوْلُ الكُفَّارِ سَواءً بسَواءٍ، فَاقْرَأْ عَلَيْهِ قَوْلَهُ تَعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلى اللهِ زُلْفَى}[الزُّمر: 3]، وَقَوْلَهُ تَعالى: {وَيَقُولُونَ هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ}[يونس: 18].
وَاعْلَمْ: أَنَّ هَذِهِ الشُّبَهَ الثَّلاثَ هِيَ أَكْبَرُ ما عِنْدَهُمْ، فَإذا عَرَفْتَ أَنَّ اللهَ وَضَّحَها في كِتَابِهِ وَفَهِمْتَها فَهْماً جَيِّداً فَما بَعْدَها أَيْسَرُ مِنْها.

محمدعبداللطيف
2019-12-21, 02:05 PM
قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ
(فَإِنْ قَالَ: الكُفَّارُ) الَّذِينَ نَزَلَ فِيهِم القُرْآنُ؛ أَبُو جَهْلٍ وأَضْرَابُهُ: (يُرِيدُونَ مِنْهُمْ) يُرِيدُونَ مِن الآلِهَةِ الَّتِي يَدْعُونَ، وَيَطْلُبُونَ مِنْهُمْ؛ لأَِنَّهُمْ أَبْوابُ حَوَائِجِهم إِلَى اللهِ؛ فَهُم يُبَاشِرُونَهُم بالعِبَادَاتِ (وَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّ اللهَ هو النَّافِعُ الضَّارُّ لاَ أُرِيدُ إِلاَّ مِنْهُ، والصَّالِحُونَ لَيْسَ لَهُمْ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ، وَلَكِنْ أَقْصِدُهُم أَرْجُو مِنَ اللهِ شَفَاعَتَهُم) والمَالِكُ لَهُمْ والمطْلُوبُ هو اللهُ وَأَقْصِدُهُم ليَطْلُبُوا لي مِن اللهِ الشَّفَاعَةَ.
إِذَا انْتَقَلَ بَعْدَ كَشْفِ الشُّبْهَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ وشَبَّهَ بِهَذِه الشُّبْهَةِ.


(فالجَوَابُ) عَن هَذِه الشُّبْهَةِ (أَنَّ هَذَا قَوْلُ الكُفَّارِ) بِعَيْنِهِ حَرْفًا بِحَرْفٍ (سَوَاءً بِسَوَاءٍ) مَا وُجِدَ شَيْءٌ مُخَفَّفٌ بَلْ وُجِدَ مِنْهُ شَيْءٌ أَعْظَمُ مِنْهُم؛ فَإِنَّهُم مُقِرُّونَ بالرُّبُوبِيَّة ِ؛ أَنَّ اللهَ هو المُدَبِّرُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ كَمَا تَقَدَّمَت الإِشَارَةُ إِلَيْهِ أَوَّلَ الكِتَابِ، اقْرَأْ عَلَيْهِ الآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى إِقْرَارِهِم بالرُّبُوبِيَّة ِ المُتَقَدِّمَةِ ، (وَاقْرَأْ عَلَيْهِ) الآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى أَنَّهُم مَا أَرَادُوا إِلاَّ الشَّفَاعَةَ، مِنْهَا (قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى}) فَإِنَّ في هَذِه الآيَةِ حَصْرَ مَطْلُوبِهِم وهو شَيْءٌ وَاحِدٌ؛ يَقُولُونَ: لَيْسَ لَنَا صَلاَحِيَةُ السُّؤَالِ مِن اللهِ فنَطْلُبَ مِنْهُم وَهُمْ يَطْلُبُونَ لَنَا مِن اللهِ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى.
(وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ هَـؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ}) فَفِي هَذِه الآيَةِ بَيَانُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُم قَصْدٌ إِلاَّ شَيْءٌ وَاحِدٌ وهو طَلَبُ الشَّفَاعَةِ إِلَى رَبِّ الجَمِيعِ.



(واعْلَمْ أَنَّ هَذِه الشُّبَهَ الثَّلاَثَ هي أَكْبَرُ مَا عِنْدَهُم) هَذِه، والشُّبْهَتَانِ قَبْلَهَا: شُبْهَةُ انْتِفَاءِ الشِّرْكِ مَعَ الإِقْرَارِ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ ، وَشُبْهَةُ حَصْرِ الشِّرْكِ في عِبَادَةِ الأَصْنَامِ، وشُبْهَةُ أَنَّ الكُفَّارَ يُرِيدُونَ مِنْهُم وَأَنَّهُ لاَ يُرِيدُ مِنْهُم إِلاَّ الشَّفَاعَةَ (فَإِذَا عَرَفْتَ أَنَّ اللهَ وَضَّحَهَا فِي كِتَابِهِ وفَهِمْتَهَا فَهْمًا جَيِّدًا فَمَا بَعْدَهَا أَيْسَرُ مِنْهَا) يَعْنِي: إِذَا صَارَ هَذِه سُهُولَةَ رَدِّ أَعْظَمِ شُبَهِهِم فَغَيْرُهَا بِطَرِيقِ الأَوْلَى أَسْهَلُ وأَسْهَلُ؛ تَجِدُ في النُّصُوصِ أَسْهَلَ شَيْءٍ الرَّدَّ عَلَيْهِم.------------------------- قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين
قولُهُ: (فإن قالَ) يَعْنِي: هذا المشركُ: الكُفَّارُ يُرِيدونَ مِنهم؛ أيْ: يُرِيدونَ أنْ يَنْفَعوهم أوْ يَضُرُّوهم، وأنا لا أُرِيدُ إلاَّ مِن اللهِ، والصَّالِحونَ ليسَ لهم مِن الأمْرِ شيءٌ، وأنا لا أَعْتَقِدُ فيهم، ولكنْ أتَقَرَّبُ بهم إلى اللهِ عزَّ وجلَّ؛ لِيَكونوا شُفعاءَ.

فقُلْ لهُ: وكذلكَ المشرِكونَ الَّذين بُعِثَ فيهم رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، هم لا يَعْبُدونَ هؤلاءِ الأصنامَ لاعْتِقادِهم أنَّها تَنْفَعُ وتَضُرُّ، ولكنَّهم يَعْبُدونها لِتُقَرِّبَهم إلى اللهِ زُلْفَى، كما قالَ تعالى عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى}، وقالَ: {وَيَقُولُونَ هَؤُلاَءِ شُفُعَاؤُنَا عِندَ اللهِ}، فتَكونُ حالُهُ كِحالِ هؤلاءِ المشرِكينَ سَوَاءً بسَوَاءٍ.

قولُهُ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: (هذهِ الشُّبَهَ الثَّلاثَ).
الشُّبْهةُ الأُولَى: قولُهم: (إنَّنا لا نَعْبُدُ الأصنامَ، إنَّما نَعْبُدُ الأولياءَ).

الشُّبْهةُ الثَّانيةُ: قولُهم: (إنَّنا ما قَصَدْناهُم، وإنَّما قَصَدْنا اللهَ عزَّ وجلَّ في العبادةِ).
الشُّبْهةُ الثَّالثةُ: قولُهم: (إنَّنا ما عَبَدْناهُم لِيَنْفَعونا أوْ يَضُرُّونا؛ فإنَّ النَّفعَ والضَّرَرَ بِيَدِ اللهِ عزَّ وجلَّ، ولكنْ لِيُقَرِّبُونَا إلى اللهِ زُلْفَى، فنحنُ قَصَدْنا شَفاعتَهم بذلكَ، يَعْنِي: فنحنُ لا نُشْرِكُ باللهِ سُبحانَهُ وتعالى). فإذا تَبَيَّنَ لكَ انْكِشافُ هذهِ الشُّبَهِ، فانكشافُ ما بعدَها مِن الشُّبَهِ أَهْوَنُ وأَيْسَرُ؛ لأَِنَّ هذهِ مِنْ أقْوَى الشُّبَهِ الَّتي يُلَبِّسونَ بها.----------------------- قال الشيخ صالح الفوزان
الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا سَلَّمَ بأنَّ الدُّعاءَ لغَيْرِ اللهِ شِرْكٌ، ولَكِنَّه قَالَ: أَنَا لاَ أَدْعُو النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- ولاَ غَيْرَه، وهَذَا الَّذي أَفْعَلُهُ لَيْسَ دُعَاءً وإِنَّما هو طَلَبٌ لِشَفَاعَةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- وهل تُنْكِرُ شَفَاعَةَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-؟!
فإنَّك حينَئذٍ تَدْخُلُ مَعَهُ في خُصُومَةٍ أُخْرَى، وشُبْهَةٍ أُخْرَى وهي: أَنَّه سَمَّى دُعَاءَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- والاسْتِغَاثَةَ بِهِ طَلَبًا للشَّفاعَةِ، ولَمْ يُسَمِّهِ دُعَاءً، ويَقُولُ: إنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- أُعْطِيَ الشَّفَاعَةَ فَأَنَا أَطْلُبُ مِنْهُ الشَّفَاعَةَ.

فتَقُولُ لَهُ: أَنَا لاَ أُنْكِرُ الشَّفَاعَةَ، وأُقِرُّ أَنَّ شَفَاعَةَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- حَقٌّ، وأَنَّه شَافِعٌ مُشَفَّعٌ، أَنَا لاَ أُنْكِرُ هَذَا، ولكنَّ الشَّفَاعَةَ لاَ تُطْلَبُ مِن النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- وهو ميِّتٌ، وإنَّما تُطْلَبُ مِن اللهِ؛ لأَِنَّ الشَّفَاعَةَ مُلْكٌ للهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {قُل لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}فَجَ ِيعُ أَنْوَاعِ الشَّفَاعَةِ مُلْكٌ للهِ، ومَادَامَتْ مُلْكًا للهِ فَإِنَّها لاَ تُطْلَبُ إلاَّ مِمَّن يَمْلِكُهَا وهو اللهُ سُبْحَانَه وتَعَالَى.
والنَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- لاَ يَمْلِكُ الشَّفَاعَةَ ولاَ أَحَدٌ يَمْلِكُ الشَّفَاعَةَ إلاَّ بإِذْنِ اللهِ، وإنَّما هي مُلْكٌ للهِ عَزَّ وجَلَّ، وأَيْضًا الشَّفَاعَةُ لاَ تَنْفَعُ كُلَّ أَحَدٍ وإنَّما تَنْفَعُ أَهْلَ التَّوْحِيدِ، وأَنْتَ لَسْتَ مِن أَهْلِ التَّوْحِيدِ؛ لأَِنَّك تَدْعُو غَيْرَ اللهِ.

فالشَّفَاعَةُ لَهَا شَرْطَانِ:

الشَّرْطُ الأَوَّلُ: أَنْ تُطْلَبَ مِن اللهِ -سُبْحَانَه وتَعَالَى- ولاَ تُطْلَبَ مِن غَيْرِه.

الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ المَشْفُوعُ فيه مِن أَهْلِ التَّوْحِيدِ، لاَ مِن أَهْلِ الشِّرْكِ والكُفْرِ.
والدَّلِيلُ عَلَى الشَّرْطِ الأَوَّلِ: قَوْلُه: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إلاَّ بِإِذْنِهِ} لاَ المَلاَئِكَةُ ولاَ الرُّسُلُ ولاَ الأَوْلِيَاءُ ولاَ الصَّالِحُونَ، لاَ أَحَدَ يَشْفَعُ عِنْدَ اللهِ إلاَّ بَعْدَ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ {وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى}.

ودَلِيلُ الشَّرْطِ الثَّانِي: قَوْلُه تَعَالَى: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى}وهو لاَ يَرْضَى إلاَّ عن أَهْلِ التَّوْحيدِ.
فَلاَ تُطْلَبُ الشَّفَاعَةُ مِن المَخْلُوقِ، وإِنَّمَا تُطْلَبُ الشَّفَاعَةُ مِن اللهِ، فَتَقُولُ: اللهُمَّ شَفِّعْ فِيَّ نَبِيَّكَ، لاَ تَطْلُبْهَا مِن الأَمْوَاتِ.

وهذا الَّذي تَقُولُ: إنَّه طَلَبٌ للشَّفَاعَةِ هو الَّذي كَفَّرَ اللهُ بِهِ المُشْرِكِينَ، فإنَّ المُشْرِكِينَ حِينَمَا لَجَؤُوا إلى الأَوْلِيَاءِ والصَّالِحِينَ، وإِلَى المَلاَئِكَةِ وإلى الأَنْبِيَاءِ، حِينَمَا لَجَؤُوا إلى هَؤُلاَءِ وطَلَبُوا منهم الشَّفَاعَةَ كَفَّرَهُمُ اللهُ بِذَلِكَ فَقَالَ تَعَالَى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ} فَهَذَا الَّذِي تَقُولُه هو الَّذي كَفَّرَ اللهُ بِهِ المُشْرِكِينَ، وهو عِبَادَةُ الأَوْلِيَاءِ والصَّالِحِينَ طَلَبًا لشَفَاعَتِهِم.

محمدعبداللطيف
2019-12-21, 02:06 PM
قال الشيخ صالح آل الشيخ
وهذه الشبهة وأنهم ما قصدوا إلا الشفاعة، تحتاج إلى شيءٍ من التقرير، فإن المشركين وأشباه المشركين والمدافعين عن المشركين، يقولون: إن الأسباب جعلها الله -جل وعلا- منتجة لمسبباتها، فجعل الأكسية سبباً في دفع الحر، في دفع البرد، وجعل القلم سبباً للكتابة، وجعل الطعام سبباً لدفع الجوع، وجعل الشراب والماء سبباً لدفع الظمأ، إلى آخر ذلك، وجعل بيتك سبباً، وجعل العصا التي تحملها سبباً، وجعل كذا وكذا سبباً.
قالوا: فكيف يعقل أن تكون هذه الأسباب نافعة والأنبياء والأولياء والصالحون بعد الموت لا ينفعون؟ فلا شك أنهم أعظم قدراً، وسببيتهم أعظم من هذه الأشياء.

فكيف يقال: إن الطعام ينفع، والنبي -صلى الله عليه وسلم- لا ينفع؟ كما يقولون، وكيف يقال: إن الأكسية تنفع والنبي -صلى الله عليه وسلم- بعد مماته لا ينفع، أو الأولياء والصالحون لا تنفع، فيدخلون لك في تقرير الشفاعة والتوسل من جهة الأسباب والارتباط بالمسببات.


وجواب هذا يكون بمعرفة حال المشركين،فإن المشركين حين أشركوا ما أرادوا إلا أن يتخذوا هذه الأسباب مسبِّبات، حينما توجهوا إلى عيسى عليه السلام، وإلى أمه، وإلى اللاتِّ، وإلى الصالحين، وإلى القبور، لم توجهوا؟ هل يعتقدون فيها الاستقلالية؟ إنما اعتقدوها أسباباً.
فإذاً: شبهة السببية هي مقدمة شبهة الشفاعة، فإنهم يقررون السببية، حتى يصلوا منها إلى أنه لا بأس أن تتشفع برسول الله صلى الله عليه وسلم، أو تتشفع بالأولياء والصالحين.
فإذاً: فهمك لعبادة المشركين، يقضي على هذه الشبهة من أساسها،وتستطيع بفهمك لعبادة المشركين أن ترد على من أتى بهذه الشبهة، التي هي مقدمة للقول بالشفاعة.
الأسباب - كما هو معلوم - في الشرع نوعان:



1- أسباب مأذون بها.
2-وأسباب محرمة.
فليس كل سبب جائز في الشرع أن يتعاطى، وكون النبي -صلى الله عليه وسلم- سبباً بعد موته، أو كون الصالحين أسباباً بعد موتهم، هذا عند الجدال والبرهان نقول: هذا احتمال، احتمال أن يكونوا أسباباً، واحتمال أن لا يكونوا أسباباً؛ لأن السبر والتقسيم ومقتضى الجدل الصحيح يقضي أن نقسم، بأنهم احتمال أن يكونوا كذلك، واحتمال ألا يكونوا كذلك.


فننظر في حال الأولين:


1-نقول: الله -جل وعلا- بين لناأن أرواح الشهداء عنده في مقام عظيم، وأنه لا يجوز لنا أن نقول: إن الشهيد ميت، كما قال جل وعلا: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ}.



وقال -جل وعلا- في آية آل عمران: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}.


وأولهم شهداء بدر، وشهداء أحد وهم كثير، ففي زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- من السنة الثانية إلى وفاته -عليه الصلاة والسلام- ننظر في هذا السبب، هل كان شيء من النبي -عليه الصلاة والسلام- أو فيما تنزل من القرآن وجهنا إلى الانتفاع بهذا السبب على فرض أنه سبب نافع؟ فهذا باليقين لا يقول أحد: إن ثمة آية أو حديثاً أو سلوكاً للصحابة بأنهم توجهوا إلى أرواح الشهداء وهم أحياء بنص القرآن للانتفاع بهذا السبب.


وحال الصالحين والأولياء الذين توجه لهم المشركون - غير الأنبياء - لا شك أنهم أقل حالاً من هؤلاء الشهداء الذين شهد الله -جل وعلا- لهم بأنهم أحياء عند ربهم يرزقون؛ لأن أولئك ما شاركوهم في وصف الشهادة، الأنبياء أعظم وأرفع درجة من الشهداء.

فإذا كان كذلك، صار هذا إجماعاً قطعياً في زمن النبوة، وهو أعلى أنواع الإجماع، أن هذا السبب ولو فرض أنه ينفع فإنهم تركوه قصداً ولم ينزل فيه شيء، فدل على أنه سبب غير نافع، وأنه سبب غير مأذون به.

والدرجة الثانية: أنه بعد وفاة النبي -عليه الصلاة والسلام- وكونه عليه الصلاة والسلام في الرفيق الأعلى، أو مع الرفيق الأعلى، واضحاً كان هذا عند الصحابة، ومع ذلك لم يتوجه الصحابة ولا التابعون، قطعاً إلى روح النبي عليه الصلاة والسلام، يطلبون منها أو يجعلونها سبباً، فهذا إجماع ثانٍ توالت عليه أعصر.




والإجماع الثالث: في حادثة نقلت، أن عمر -رضي الله عنه- لما أصاب الناس في عام الرمادة سنة سبعة عشر، لما أصاب الناس الضيق، والكرب، والجفاف، والجوع، كان يستسقي -كما في الحديث المعروف في البخاري وفي غيره- فلما دعا، أو فلما خطب قال: (إنا كنا نستسقي برسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني في حياته - والآن نستسقي بعم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يا عباس قم فادع) فقام العباس ودعا، وأمّنَ الناس على دعائه.
وهذا يدل دلالة قطعية على أنهم انتفعوا بسبب دعاء العباس، ولم يطلبوا الانتفاع بسبب دعاء النبي عليه الصلاة والسلام، لعلمهم بأن ذلك السبب غير مشروع، وأنه من توجه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- طالباً منه أن يدعو، أنه مخالف للشريعة، وأنه شرك؛ لأنه لا يمكن أن يتوجهوا إلى المفضول ويتركوا الفاضل، لا يمكن أن يتوجهوا إلى الأقل ويتركوا الأعلى، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هذا لو كان لغير المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وهم في حياته كانوا يستغيثون به فيما يقدر عليه، ويستشفعون به فيما يقدر عليه، عليه الصلاة والسلام، إلى آخر ذلك، وهذا إجماع ثالث؛ لأن الحديث صحيح.
إذا تقرر هذا، فنقول:هذا كله على فرض أن السبب نافع؛ ولكنه لم يؤذن بالسبب، فقد تكون الخمرة نافعة لكن لم يؤذن بها، والله -جل وعلا- قال في الخمر والميسر: {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}ومع ذلك حرمها، وقال عليه الصلاة والسلام: ((تداووا عباد الله ولا تتداووا بحرام)) وقال: ((إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها))الحديث في أبي داود وفي غيره.
إذا تبين ذلك فنقول: إذاً: على فرض أن هذا السبب ينفع؛ فإنه سبب محرم غير مأذون به في الشرع؛ لتلك الأنواع الثلاثة من الإجماعات.
ثم ننتقل إلى درجة ثانية من الحجاج معهم، فنقول:في الحقيقة هذا السبب غير نافع في الدنيا، وهو ما تعلقوا به من جهة الشفاعة أيضاً، نقول: تقرر أنه ـ أن هذا السبب - غير مأذون به، وأنه مردود في الشريعة؛ لأنه شرك المشركين.
نقول:الدرجة الثانية: هذا السبب في الحقيقة غير نافع، لمَ؟
نقول للآتي: أولاً: أن الله -جل وعلا- بين أن روح عيسى -عليه السلام- وروح أمه، لا تنفعهم ولا تضرهم، بنص القرآن فقال جلّ وعلا: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ} يعني: عيسى وأمه {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.


فإذاً: في هاتين الآيتين من سورة المائدة، والتي ساقها الشيخ رحمه الله، في الأولى بيان التوجه إلى أرواح الأنبياء والصالحين؛ لأن عيسى -عليه السلام- من أولي العزم من الرسل؛ ولأن أمه من عباد الله الصالحين، ومن القانتات، فتوجهوا إلى روح نبي وإلى روح أَمَةٍ صالحة، وأم نبي وأم أحد أولي العزم من الرسل، بين -جل وعلا- أن توجههم لتلك الأرواح تعلق بسبب غير نافع، ما الدليل؟ قال {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً} وهذا يدل على أن هذا السبب غير نافع.


وقال -جلّ وعلا- في الآية الأخرى في سورة الجن، في وصف النبي -عليه الصلاة والسلام- وفي الأمر له بأن يقول: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً} بين -جل وعلا- أن محمداً -عليه الصلاة والسلام- لا يملك لهم ضراً ولا رشداً، إلا فيما جعله الله -جل وعلا- سبباً نافعاً في حياته؛ وهو أعظم عليه الصلاة والسلام، أعظم سبب نفع الناس وأعظم الأسباب النافعة في حياته، حيث هداهم إلى الإيمان وأنقذهم من الضلالة إلى الهدى، وأخرجهم من الظلمات إلى النور.

وبعد وفاته عليه الصلاة والسلام السبب ـ هذا الذي هو سبب الهداية، وما أقدره الله عليه في الدنيا - أصبح باطلاً؛ لأنه -جلّ وعلا- بين أن الأنبياء والصالحين لا يملكون ضراً ولا نفعاً لمن عبدوهم، وقد قال -جلّ وعلا- في أول سورة الفرقان: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} اربطها بمن اتخذ ولداً بمن اعتقد أن لله -جل وعلا- ولداً قال: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً}

إذاً: فهذه كلها تبين أن هذه الأسباب غير نافعة، وإنما هي نافعة في حياتها أو يوم القيامة، تنفع لأن الله -جل وعلا- جعلها أسباباً نافعة في هذين النوعين من الحياة.


هذا تدرج في البرهان وإيضاح فيما ذكره الإمام رحمه الله تعالى، وهو الذي فتح هذه المعاني فيما ذكر بعد توفيق الله جل وعلا.


قال: (فإن قال: الكفار يريدون منهم، وأنا أشهد أن الله هو النافع الضار المدبر، لا أريد إلا منه، والصالحون ليس لهم من الأمر شيء ولكن أقصدهم أرجو من الله شفاعتهم.


فالجواب: أن هذا قول الكفار سواءً بسواء) لأنهم ما عبدوهم إلا ليشفعوا، ما توجهوا إليهم إلا للشفاعة، ما قصدوهم إلا لاعتقاد أنهم أسباب تنفع، الصنم سبب ينفع، والروح سبب ينفع، وروح النبي سبب ينفع، والوثن والقبر سبب ينفع، والجني سبب ينفع، فيما حرم الله جلّ وعلا، وهذا من الشرك الذي يبنه الله -جلا وعلا- في القرآن.


قال: (فاقرأ عليه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} وقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}) ثم قال: (واعلم أن هذه الشبه الثلاث هي أكبر ما عندهم، فإذا عرفت أن الله وضحها في كتابه، وفهمتها فهماً جيداً، فما بعدها أيسر منها).

ورحمه الله رحمةً واسعةً، كم كان بصيراً بشبه المشركين؛ وبالحجاج عنها والجدال؛ وبيان الصواب ووجه الحجة في ردها ودحضها، فكانت واضحة - كانت الشبه واضحة - عند إمام الدعوة رحمه الله، وكان فقه الكتاب والسنة والرد عليها أوضح وأبين عنده، فشرح الله صدره لذلك، وإلا فإن كثيرين إذا جاءتهم الشبه وراجت عليهم فإنهم يترددون، ولكن الله -جلّ وعلا- شرح صدره للقيام بهذه الدعوة وبيان التوحيد فضلاً من الله -جلّ وعلا- ونعمة.

محمدعبداللطيف
2019-12-22, 12:44 PM
كشف الشبهة الرابعة: وهي زعمهم أن دعاء الأولياء الصالحين والذبح لهم ليس عبادة قال الامام محمد بن عبد الوهاب فى رسالة كشف الشبهات
فَإِنْ قَالَ:
أَنَا لاَ أعْبُدُ إِلاَّ اللهَ، وَهَذا الالْتِجَاءُ إِليهم وَدُعاؤُهُمْ لَيْسَ بِعِبادَةٍ.
فَقُلْ لَهُ: أَنْتَ تُقِرُّ أَنَّ اللهَ فَرَضَ عَلَيْكَ إِخْلاصَ الْعِبَادةِ وَهُوَ حَقُّهُ عَلَيْكَ.
فإذا قال: نَعَم.
فقل له: بين لي هذا الفرضَ الذي فرضه اللهُ عليكَ، وهو إخلاصُ العبادةِ للهِ، وهو حقُّه عليكَ، فإنه لا يَعْرفُ العِبادَةَ، وَلا أنْوَاعَهَا، فَبَيِّنْها لَهُ بِقَوْلِكَ: قالَ اللهُ تَعَالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} الآية [الأعراف: 55].
فَإِذَا أَعْلَمْتَهُ بِهَذا، فَقُلْ لَهُ: هَلْ هو عِبَادَةٌ لله تعالى؟
فَلا بُدَّ أَنْ يَقُولَ: نَعَمْ، وَالدُّعاءُ من العِبَادَةِ.
فَقُلْ لَهُ: إِذَا أَقْرَرْتَ أَنَّه عِبَادَةٌ، وَدَعَوْتَ اللهَ لَيْلاً وَنَهَاراً، خَوْفاً وَطَمَعاً، ثُمَّ دَعَوْتَ في تِلْكَ الحَاجَةِ نَبِيّاً أَوْ غَيْرَهُ هَلْ أَشْرَكْتَ في عِبَادةِ اللهِ غَيْرَهُ؟ فلابُدَّ أَنْ يَقُولَ: نَعَمْ.
فَقُلْ لَهُ: قال الله تَعالى:{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}[الكوثر: 2]، فإذا أَطَعْتَ اللهَ وَنَحَرْتَ لَهُ، هَلْ هَذِه عِبَادَةٌ؟
فَلابُدَّ أَنْ يَقُولَ: نَعَمْ.
فَقُلْ لَهُ: إِذَا نَحَرْتَ لِمَخْلُوقٍ؛ نَبِيٍّ، أَوْ جِنِّيٍّ، أَوْ غَيْرِهِما، هَلْ أَشْرَكْتَ في هَذِهِ العِبَادَةِ غَيْرَ اللهِ؟ فَلابُدَّ أَنْ يُقِرَّ وَيَقُولَ: نَعَمْ.
وَقُلْ لَهُ أَيْضاً: المُشْرِكُون الَّذِينَ نَزَلَ فِيهمُ القُرآنُ، هَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ المَلائِكَةَ وَالصَّالِحِينَ وَالَّلاتَ وغَيْرَ ذَلِكَ؟
فَلابُدَّ أَنْ يَقُولَ: نَعَمْ.
فَقُل لَهُ:وَهَلْ كَانَتْ عِبَادَتُهُمْ إِيَّاهُمْ إِلاَّ في الدُّعَاءِ وَالذَّبْحِ وَالالْتِجَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِلاَّ فَهُمْ مُقِرُّونَ أَنَّهُمْ عبيدٌ تحتَ قهرِ اللهِ، وَأَنَّ اللهَ هُوَ الَّذِي يُدَبِّرُ الأَمْرَ، وَلَكنْ دَعَوْهُمْ وَالتَجَؤُوا إِلَيْهِمْ لِلْجَاهِ وَالشَّفَاعَةِ، وَهَذا ظاهِرٌ جِدّاً.

محمدعبداللطيف
2019-12-22, 12:46 PM
قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ
(فَإِنْ قَالَ: أَنَا لاَ أَعْبُدُ إِلاَّ اللهَ وَهَذَا الالْتِجَاءُ إِلَيْهِم وَدُعَاؤُهُم لَيْسَ بِعِبَادَةٍ) جَحَدَ أَنَّهُ صَادِرٌ مِنْهُ شِرْكٌ (فَقُلْ لَهُ) مُجِيبًا: (أَنْتَ تُقِرُّ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْكَ إِخْلاَصَ العِبَادَةِ للهِ؟) فَلاَ يُمْكِنُهُ جَحْدُ ذَلِكَ، وَإِنْ جَحَدَ ذَلِكَ كَفَانَا مَؤُونَةَ الرَّدِّ عَلَيْهِ (فَإِذَا قَالَ: نَعَمْ. فَقُلْ لَهُ: بَيِّنْ لِي هَذَا الذي فَرَضَهُ عَلَيْكَ وهو إِخْلاَصُ العِبَادَةِ للهِ وهو حَقُّهُ عَلَيْكَ) فَإِنْ سَأْلْتَهُ عَنْ حَقِيقَةِ مَا فَرَضَهُ اللهُ عَلَيْهِ، وهو يَعْلَمُ وَيُقِرُّ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِ إِخْلاَصَهَا (فَإِنَّهُ لاَ يَعْرِفُ العِبَادَةَ ولاَ أَنْوَاعَهَا) إِذْ لو عَرَفَهَا وأَنْوَاعَهَا لَمَا نَفَاهَا عن نَفْسِهِ ولَمَا قَدَّمَ عَلَى عِبَادَةِ اللهِ غَيْرَهُ؟ لَكِنَّهُ مِن أَجْهَلِ الجَاهِلِينَ وأَضَلِّ الضَّالِّينَ؛ فَإِنَّ الجَهْلَ أَنْوَاعٌ أَعْظَمُهَا الجَهْلُ باللهِ تَعَالَى وأَسْمَائِهِ وصِفَاتِهِ، وهو أَعْظَمُ مِن الجَهْلِ بِشَرْعِهِ ودِينِهِ، فهو مُتَغَلِّظٌ جَهْلُهُ بِأَمْرَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَهْلٌ بالتَّوْحِيدِ الَّذِي هو أَسَاسُ المِلَّةِ،

والثَّانِي: أَنَّه جَهْلٌ بِشَيْءٍ مُسْتَفِيضٍ وَاضِحٍ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ، والجَهْلُ بالشَّيْءِ المَعْلُومِ الوَاضِحِ أَعْظَمُ مِن الجَهْلِ بالشَّيْءِ الخَفِيِّ (فَبَيِّنْهَا لَهُ) يَعْنِي: بَيِّنْ لَهُ أَنَّ الدُّعَاءَ والطَّلَبَ عِبَادَةٌ، وأَحَدُ تَعَارِيفِ العِبَادَةِ: أَنَّهُ مَا أُمِرَ بِهِ شَرْعًا مِنْ غَيْرِ اطِّرَادٍ عُرْفِيٍّ ولاَ اقْتِضَاءٍ عَقْلِيٍّ.
وَقَدْ أَمَرَنَا اللهُ تَعَالَى بِدُعَائِهِ وَحْدَهُ (بِقَوْلِكَ: قَالَ اللهُ تَعَالَى: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}) وَهَذِه الآيَةُ تُفِيدُ ذَلِكَ؛ أَنَّهُ يُحِبُّه وَيْرَضَاهُ، والأَمْرُ عِبَادَةٌ.


(فَإِذَا أَعْلَمْتَهُ بِهَذَا) إِذَا أَعْلَمْتَهُ أَنَّ الآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عِبَادَةٌ (فَقُلْ لَهُ: هَلْ عَلِمْتَ هَذَا عِبَادَةً للهِ، فَلاَ بُدَّ أَنْ يَقُولَ: نَعَمْ) لاَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَجْحَدَ، فَإِنْ جَحَدَ سَقَطَ الكَلاَمُ مَعَهُ، وعُرِفَ أَنَّهُ مُكَابِرٌ وانْتَقِلْ مَعَهُ إلى الجَلاَّدِ، إِنْ أَمْكَنَ.(والدُّ عَاءُ مُخُّ العِبَادَةِ) كَمَا في الحَدِيثِ: ((الدُّعَاءُ مُخُّ العِبَادَةِ)) (فَقُلْ لَهُ: إِذَا أَقْرَرْتَ أَنَّهَا عِبَادَةٌ ودَعَوْتَ اللهَ لَيْلاً وَنَهَارًا، خَوْفًا وَطَمَعًا، ثُمَّ دَعَوْتَ في تَلْكَ الحَاجَةِ نَبِيًّا أَو غَيْرَهُ) يَعْنِي بِعِبَادَةِ الدُّعَاءِ (هَلْ أَشْرَكْتَ في عِبَادَةِ اللهِ غَيْرَهُ؟ فَلاَبُدَّ أَنْ يَقُولَ نَعَمْ) إِنْ كَانَ عِنْدَه الْتِفَاتٌ إِلَى الدَّلِيلِ؛ فَإِنَّ مَن لاَزِمِ إِقْرَارِهِ بالأُولَى إِقْرَارَهِ بالثَّانِيَةِ فبِذَلِكَ انْكَشَفَتْ شُبْهَتُهُ.



(فَقُلْ لَهُ: فَإِذَا عَمِلْتَ بِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} وَأَطَعْتَ اللهَ وَنَحَرْتَ لَهُ، هَلْ هَذَا عِبَادَةٌ؟) ودَلِيلُهُ وَاضِحٌ وبُرْهَانُه قَاطِعٌ (فَلاَبُدَّ أَنْ يَقُولَ نَعَمْ) لاَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَجْحَدَهُ.(فَقُ لْ لَهُ: فَإِنْ نَحَرْتَ لِمَخْلُوقٍ نَبِيٍّ أَوْ جِنِّيٍّ أو غَيْرِهِمَا هَلْ أَشْرَكْتَ في هَذِه العِبَادَةِ) يَعْنِي: عِبَادَةِ النَّحْرِ (غَيْرَ اللهِ؟ فَلاَبُدَّ أَنْ يُقِرَّ وَيَقُولَ نَعَمْ) مَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْحَدَ الثَّانِيَ بَعْدَ الأَوَّلِ، بَلْ إِقْرَارُهُ بالأَوَّلِ يُلْزِمُهُ الإِقْرَارَ بالثَّانِي، يَعْنِي: وَكَذَلِكَ سائرُ العباداتِ إمَّا أن يُقِرَّ أنها عبادةٌ أو لا، فإن أَنْكَرَ كَوْنَهَا عِبَادَةً، أُقِيمَتْ عَلَيْهِ الحُجَّةُ، فَإِنْ أَقَرَّ خُصِمَ.
فَبِهَذَا ظَهَرَ واتَّضَحَ جَهْلُهُ وضَلاَلُهُ وَانْكَشَفَتْ شُبْهَتُهُ وَأَنَّ قَوْلَهُ: أَنَا لاَ أَعْبُدُ إِلاَّ اللهَ… إلخ، مَحْضُ جَهْلٍ مِنْهُ، وأَنَّ هَذَا عِبَادَةٌ لِغَيْرِ اللهِ، وتَبَيَّنَ أَنَّهُ عَابِدٌ غَيْرَ اللهِ، وَأَنَّ مَا يَصْنَعُهُ مَعَهُم عِبَادَةٌ لَهُم وَأَنَّه عَابِدٌ اللهَ وَعَابِدٌ مَعَهُ غَيْرَهُ.



(وَقُلْ لَهُ أَيْضًا) تَقَدَّمَ الجَوَابُ الأَوَّلُ وهو جَوَابٌ كَافٍ وَافٍ، وَأَرْدِفْهُ بِهَذَا الجَوَابِ الثَّانِي عَن شُبْهَتِهِ السَّابِقَةِ -كَمَا هو شَأْنُهُ رَحِمَهُ اللهُ؛ يَذْكُرُ جَوَابَ الشُّبْهَةِ وَافِيًا، ثُمَّ يَزِيدُهُ الجَوَابَ والجَوَابَيْنِ والثَّلاَثَةَ -وهي قَوْلُهُ: أَنَا لاَ أَعْبُدُ إِلاَّ اللهَ، وَهَذَا الالْتِجَاءُ إِلَيْهِم ودُعَاؤُهُم لَيْسَ بِعِبَادَةٍ.



(المُشْرِكُونَ الَّذِينَ نَزَلَ فِيهِم القُرْآنُ هَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ المَلاَئِكَةَ والصَّالِحِينَ واللاَّتَ وغَيْرَ ذَلِكَ؟ فَلاَبُدَّ أَنْ يَقُولَ نَعَمْ) لاَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُنْكِرَ شَيْئًا أَثْبَتَهُ القُرْآنُ واذْكُرْ لَهُ النُّصُوصَ الدَّالَّةَ عَلَى أَنَّهُم كَانُوا يَدْعُونَ المَلاَئِكَةَ والصَّالِحِينَ واللاَّتَ:
-كَقَوْلِهِ: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَهَـؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ} الآيَتَيْنِ.
-وقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} الآيَةَ.
- وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى} الآيَاتِ.



(فَقُلْ لَهُ: وَهَلْ كَانَتْ عِبَادَتُهُم إِيَّاهُمْ إِلاَّ فِي الدُّعَاءِ والذَّبْحِ والالْتِجَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؟) يَعْنِي: أَنَّها مَا كَانَتْ عِبَادَتُهُم إِلاَّ هَكَذَا، هَلْ هو هَذَا أو غَيْرُه؟ فَإِنَّهُ لاَ يَجِدُ دَلِيلاً غَيْرَ هَذَا، فَقُلْ لَهُ: أَنَا عِنْدِي دَلِيلٌ وهي أَنَّ عِبَادَتَهُم هي هَذِه {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ} (وَإِلاَّ فَهُمْ مُقِرُّونَ أَنَّهُم عَبِيدُهُ وَتَحْتَ قَهْرِهِ وَأَنَّ اللهَ هو الذِي يُدَبِّرُ الأَمْرَ، وَلَكِنْ دَعَوْهُمْ والْتَجَأُوا إِلَيْهِم للجَاهِ والشَّفَاعَةِ وَهَذَا ظَاهِرٌ جِدًّا) في كَشْفِ شُبْهَتِهِ.--------------- قال الشيخ صالح الفوزان
يَعْنِي: إِذَا كَانَ يَعْتَرِفُ أنَّ العِبَادَةَ حقٌّ للهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَأَنَّه لاَ يَجُوزُ عِبَادَةُ غَيْرِ اللهِ، ولَكِنَّه يَقُولُ: الالْتِجَاءُ لَيْسَ مِن العِبَادَةِ فهو جَائِزٌ.

فإنَّك تَقُولُ لَهُ:الالْتِجَا ُ إِلَى اللهِ عِبَادَةٌ، والالْتِجَاءُ إِلَى غَيْرِ اللهِ فِيمَا لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلاَّ اللهُ شِرْكٌ؛ لأَِنَّ مَن الْتَجَأَ إلى غَيْرِ اللهِ في الشَّدَائِدِ فَقَدْ أَشْرَكَ مَعَ اللهِ فِيمَا لا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلاَّ اللهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى؛ لأَِنَّه هو الَّذِي يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ ويَكْشِفُ السُّوءَ، وهو المَلْجَأُ -سُبْحَانَه- ولِذَا لَجَأَ إليه النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- حَيْثُ يَقُولُ: ((لاَ مَلْجَأَ وَلاَ مَنْجَا وَلاَ مُلْتَجَا مِنْكَ إلاَّ إِلَيْكَ)) {قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ} وقَوْلُه تَعَالَى: {وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ}.


يَعْنِي: تَسْأَلُهُ أوَّلاً عن حُكْمِ العِبَادَةِ مَا هو؟ وما الفَرْقُ بَيْنَها وبَيْنَ الالْتِجَاءِ؟
وقُلْ له:هل العِبَادَةُ واجِبَةٌ أو مُسْتَحَبَّةٌ؟ فَلاَبُدَّ أَنْ يَعْتَرِفَ أنَّ العِبَادَةَ أَمْرٌ واجِبٌ، وحَتْمٌ عَلَى العِبَادِ، وأَنَّها حَقُّ اللهِ عَلَى العِبَادِ.
فإِذَا اعْتَرَفَ بِهَذَا فَقُلْ لَهُ: فَسِّرْ لِيَ العِبَادَةَ ما مَعْنَاهَا، وبَيِّنْ لي ما أَنْواعُها مَا دُمْتَ أَنَّكَ اعْتَرَفْتَ أَنَّ العِبَادَةَ للهِ وأَنَّها واجِبَةٌ عَلَى العَبْدِ؟
فإِنَّه يَجِبُ عَلَيْكَ أنْ تَعْرِفَ مَعْنَاها وأَنْ تَعْرِفَ أَنْوَاعَهَا وإِلاَّ فكيف يُوجِبُ اللهُ عَلَيْكَ شَيْئًا وأَنْتَ تَجْهَلُهُ ولاَ تَعْرِفُهُ، فإنَّه لاَ يَعْرِفُ العِبَادَةَ ولاَ يَعْرِفُ أَنْوَاعَهَا، وهذه آفَةُ الجَهْل.

ومِن هنا يَتَعَيَّنُ عَلَى العِبَادِ أَنْ يَتَعَلَّمُوا مَا أَوْجَبَ اللهُ عَلَيْهِم، وَمَا فَرَضَهُ اللهُ عَلَيْهِم حَتَّى يُؤَدُّوهُ عَلَى وجْهِهِ الصَّحِيحِ، ويَتَجَنَّبُوا مَا يُخِلُّ بِهِ ومَا يُبْطِلُهُ.

أمَّا أَنْ تَعْبُدَ اللهَ عَلَى جَهْلٍ؛ فإنَّ هذه طَرِيقَةُ النَّصَارَى الضَّالِّينَ يَعْبُدُونَ اللهَ عَلَى جَهْلٍ وضَلاَلٍ، واللهُ أَمَرَكَ أَنْ تَسْأَلَه أَنْ يُجَنِّبَكَ طَرِيقَهُم فَتَقُولَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ}فا ضَّالُّونَ هُم الَّذِينَ يَعْبُدُونَ اللهَ عَلَى غَيْرِ عِلْمٍ، وَعَلَى غَيْرِ مَعْرِفَةٍ بالعِبَادَةِ، وإنَّمَا يَعْبُدُونَ اللهَ بالعَادَاتِ والتَّقَالِيدِ وما وَجَدُوا عَلَيْهِ آبَاءَهُم وأَجْدَادَهُم، دونَ أنْ يَرْجِعُوا إِلَى مَا جَاءَتْ به الرُّسُلُ ونَزَلَتْ به الكُتُبُ، وهَذَا هو سَبَبُ الضَّلاَلِ.

والالْتِجَاءُ: هو طَلَبُ الحِمَايَةِ مِن أَمْرٍ مَخُوفٍ لاَ يَدْفَعُهُ إلاَّ اللهُ، فهو نَوْعٌ مِن أَنْواعِ العِبَادَةِ، واللهُ -سُبْحَانَهُ- يُجِيرُ ولاَ يُجَارُ عَلَيْهِ، ويُعِيذُ مَن اسْتَعَاذَ بِهِ، فَمَن الْتَجَأَ إلى مَيِّتٍ فَقَدْ عَبَدَهُ مِن دونِ اللهِ، وكذلك مِن أَعْظَمِ أَنْواعِ العِبَادَةِ: الدُّعاءُ، حَيْثُ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} وَأَنْتَ بالْتِجَائِكَ إِلَى غَيْرِ اللهِ قَدْ دَعَوْتَ غَيْرَ اللهِ، وهَذَا شِرْكٌ.



أي: لاَبُدَّ إِذَا تَلَوْتَ عَلَيْهِ الآياتِ والأَحَادِيثَ بأَنَّ الدُّعَاءَ عِبَادَةٌ لاَبُدَّ أَنْ يَعْتَرِفَ، فَتَقُولُ لَهُ: لَوْ دَعَوْتَ اللهَ في اللَّيْلِ والنَّهارِ لَكِنَّكَ في بَعْضِ الأَحْيَانِ تَدْعُو غَيْرَ اللهِ، هَلْ تَكُونُ مُشْرِكًا؟ فَلاَبُدَّ أَنْ يَعْتَرِفَ، ويَقُولَ: إنَّه مُشْرِكٌ؛ لأَِنَّه دَعَا غَيْرَ اللهِ، ومَن دَعَا غَيْرَ اللهِ فهو مُشْرِكٌ.
فإذا كَانَ مَن دَعَا غَيْرَ اللهِ ولو مَرَّةً واحِدَةً في العُمُرِ يَكُونُ مُشْرِكًا مَعَ أنَّه يَدْعُو اللهَ في اللَّيْلِ والنَّهارِ، فَكَيْفَ بالَّذي يَلْهَجُ دَائِمًا بِذَلِكَ ويَقُولُ: يَا حُسَيْنُ، يَا بَدَوِيُّ، يا عَبْدَ القَادِرِ، يا فُلاَنُ، فيَصْدُرُ منه الشِّرْكُ كَثِيرًا؟!!



فَإِذَا كَانَ مَن ذَبَحَ لغَيْرِ اللهِ، أو صَلَّى لغَيْرِ اللهِ يَكُونُ مُشْرِكًا فكيف بِمَن يَلْجَأُ إِلَى غَيْرِ اللهِ في كَشْفِ الشَّدَائِدِ أَلاَ يَكُونُ مُشْرِكًا؟! بَلَى؛ لأَِنَّ البَابَ واحِدٌ، وأَنْواعُ العِبَادَاتِ كُلِّهَا بَابُهَا واحِدٌ، لاَ يَجُوزُ أَنْ يُخْلِصَ للهِ في بَعْضِهَا ويُشْرِكَ باللهِ في البَعْضِ الآخَرِ.



أي: أَنَّ المُشْرِكِينَ الأَوَّلِينَ مَا كَانَ شِرْكُهُم إلاَّ في هَذِه الأُمُورِ، وَقَدْ نَزَلَ القُرْآنُ في الإِنْكَارِ عَلَيْهِم، والأَمْرِ بِقِتَالِهِم وإِبَاحَةِ أَمْوَالِهِم ودِمَائِهِم، مَا كَانُوا مَعَ أَصْنَامِهِم يَعْتَقِدُونَ أنَّها تَخْلُقُ وتَرْزُقُ وتُحْيِي وتُمِيتُ، ومَا كَانُوا يَدْعُونَها إلاَّ مِن أَجْلِ الشَّفَاعَةِ، فكذلك عُبَّادُ القُبُورِ اليَوْمَ يَدْعُونَ الأَضْرِحَةَ والأَوْلِيَاءَ والصَّالِحِينَ، ولاَ يَعْتَقِدُونَ فيهم أَنَّهُم يَخْلُقُونَ ويَرْزُقُونَ، وأَنَّهم خَلَقُوا السَّماواتِ والأَرْضَ، وإِنَّما اتَّخَذُوهُم لِقَضَاءِ الحَاجَاتِ والتَّوَسُّلِ بِهِم إِلَى اللهِ لِيَشْفَعُوا لَهُم، ويُقَرِّبُوهُم إِلَيْهِ زُلْفَى، والالْتِجَاءِ إِلَيْهِم في كَشْفِ الكُرَبِ والشَّدَائِدِ.

محمدعبداللطيف
2019-12-22, 12:48 PM
قال الشيخ صالح آل الشيخ
(فإن قال: أنا لا أعبد إلا الله، وهذا الالتجاء إليهم ودعاؤهم ليس بعبادة) [هكذا في الأصل] وهذه صلة للكلام على ما قرره إمام هذه الدعوة، رحمه الله تعالى، في كشف شبهات المشركين، فإن المشركين لهم شبهات متنوعة، وقد مر معنا أعظم شبهاتهم، وأكثرها تأصيلاً، ثم يأتي الآن من شبهاتهم ما انتشر فيهم، لكنه عن طريق المكابرة والجهل، فقال طائفة منهم: إنهم لا يعبدون إلا الله، وإن الالتجاء إلى الصالحين وسؤال الصالحين ودعائهم والاستغاثة بهم ليس بعبادة، وهذا هو الذي ذكره الإمام -رحمه الله- بقوله: (فإن قال: أنا لا أعبد إلا الله).
وإذا قال الشيخ في هذا الكتاب: (فإن قال) فلا يُستحضر أن الذي يقول بهذه الشبهة، هو الذي قال بالشبه التي قبلها، بل هو يَستحضر جنس المدلين بالشبه.
فقال: (فإن قال) يعني: الذي يورد الشبهة، أو الذي يقع في الشرك، وقد يكون من الأولين وقد لا يكون.
قال: (فإن قال: أنا لا أعبد إلا الله، وهذا الالتجاء إلى الصالحين ودعاؤهم ليس بعبادة) وهذه يقولها كل مشرك، فإنه ما من مشرك يقر على نفسه بالشرك، وبأنه يعبد غير الله جلّ وعلا؛ لأن هذه الأمة ببعثة محمد -صلى الله عليه وسلم- أُنقذت من الشرك إلى التوحيد، ومن عبادة غير الله إلى عبادة الله وحده دون ما سواه.

فكل أحد من هذه الأمة يقول:

(أنا لا أعبد إلا الله) وقد يكون مصيباً في قوله، وفعلُهُ يحقق قوله، وقد يكون ضالاً، يقول شيئاً وهو يخالفه إلى غيره.
وهذه المخالفة ناتجة عن أنه يظن أن ما يفعله من صرف العبادة لغير الله أنه ليس بشرك، وليس بعبادة، فعنده أن الدعاء - دعاء غير الله - ليس بعبادة، وأن الالتجاء إلى الصالحين وسؤال الأولياء الأموات كشف الكرب، ورفع الضر، والشفاعة وأشباه ذلك، أنه ليس من العبادة، وكذلك يزعمون أن النحر لهم، والذبح ليس بعبادة، وأن النذر لهم ليس بعبادة، وهكذا.
فما من صورة شركية يفعلها أهل الشرك إلا وإذا احتججت عليهم بأن فعلهم شرك، قالوا: (نحن لا نعبد إلا الله) وهذه الأشياء التي نفعلها ليست بعبادة، وإنما هي للوسيلة، وأما العبادة فإنما هي لله وحده دون ما سواه.
وهذا القول منهم دعوى بلا برهان، ولا دليل بل هم المشركون الذين عبدوا مع الله -جل وعلا- غيره.


قال -رحمه الله- مقرراً لشبهتهم، ومستحضراً الجدال والحجاج مع رجل منهم، قال: (فإن قال: أنا لا أعبد إلا الله، وهذا الالتجاء إلى الصالحين ودعاؤهم ليس عبادة) فترتبت هذه الشبهة على مرتبتين:


الأولى: زعمه أنه لا يعبد إلا الله.
المرتبة الثانية: زعمه أن الالتجاء إلى الصالحين، ودعاء الصالحين بأنواع الدعاء من الاستغاثة والاستعانة والاستشفاع إلى آخره أنه ليس بعبادة.
والثانية هي التي قادتهم إلى الأولى، لأجل عدم وضوح الثانية قالوا إنهم لا يعبدون إلا الله، فلهذا الشيخ -رحمه الله- ابتدأ بالثانية؛ لأنها هي وسيلة إثبات صحة الأولى أو خطأ المرتبة الأولى.


قال: (فقل له: أنت تقر أن الله فرض عليك إخلاص العبادة، وهو حقه عليك) فتسأله وتقول له: هل تقر بأن الله فرض عليك إخلاص العبادة؟ وأن العبادة حق الله عليك؟ لأن الله أمر بها في القرآن في قوله: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}و ي قوله -جل وعلا- في سورة الزمر: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} وكذلك في آية البينة، وغير ذلك من الآيات الكثيرة، التي فيها إثبات وجوب الإخلاص لله جلّ وعلا، وهذا نوع من الأدلة التي فيها الأمر بالإخلاص.
والنوع الثاني من الأدلة الذي فيه الأمر بالإخلاص:
بيان أن المشرك الذي لم يخلص لله -جلّ وعلا- أنه كافر، وأنه من أهل النار:
- كقول الله جل وعلا: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}.
-وكقول الله جل وعلا: {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} ونحو ذلك من الآيات التي فيها بيان مصير المشرك الذي جعل مع الله في العبادة غيره، يعني: لم يخلص دينه لله.
فتقول له: أنت تقر بأن الله فرض عليك إخلاص العبادة، وهو حق الله عليك؟
فكل مؤمن أو كل منتسب للقبلة يقول: نعم، أنا مقر بأن الله -جلّ وعلا- فرض علينا الإخلاص - إخلاص العبادة - وأن إخلاص العبادة حق الله علينا.


قال الشيخ: (فإذا قال: نعم، فقل له: بين لي الذي فُرض عليك، وهو إخلاص العبادة لله وحده) تسأله عن بيان هذا الذي يقر أن الله فرض عليه، كثير بل الأكثر من المشركين جهال، لا يعلمون معنى العبادة، ولا يعلمون معنى الإخلاص، ولا يعلمون معنى الذي فرض الله -جلّ وعلا- عليهم، ولهذا فإذا سألته عن هذه فإنه لن يجيب، بل سيقول: لا أعرف معنى العبادة، أو لا أعرف جواب هذا، بل إخلاص العبادة لله أن أصلي لله وأزكي لله وأشباه ذلك، فإنه يجعل الإخلاص في بعض الصور.


ولهذا قال الشيخ رحمه الله: (فإن كان لا يعرف العبادة ولا أنواعها، فبينها له بقولك:...) إلى آخره.


فإن كان لا يعرف العبادة ولا أنواعها فبينها له، وهذا خلوص منه في الحجاج إلى تعليم الجاهل، فإن المحتج على الخصم لا يسوغ أن يُنزله دائماً منزلة المعاند؛ أو أن يجعله معانداً فيغلظ له في القول ويغلظ له في الحجة؛ لأنه ربما نفر من ذلك وانتصر لنفسه وترك سماع الحجة، فإنك تستدرجه حتى يقر بأنه جاهل، فإذا أقر بأنه جاهل، لا يعرف معنى العبادة، ولا يعرف معنى الإخلاص، ولا يعرف معنى الدعاء، وأشباه ذلك، فإنك تبين له ذلك حتى تقوم الحجة على أفراد واضحة في قلبه وفي عقله وذهنه.


لهذا: هذا الحوار الذي ذكره إمام الدعوة فيه فائدة عظيمة ذكرتها لك الآن، وهي أنه من أقوى وأنفع وسائل الحجاج: أن تنُزل من أمامك منزلة الجاهل، حتى تنقلب معه إلى مُعلِّم غير مناظر؛ لأن المعلم دائماً أعلى من المتعلم، أعلى من جهة الحجة، وأعلى من جهة قبول المتعلم لما يقول، فإن المقابل لك إذا أحس أن عندك علماً ليس عنده فإنه سيصير إلى الاستفادة منك، وهذا يثير كثيراً من النفوس في قبول الحق إذا علم أنه جاهل بما أوجب الله -جلّ وعلا- عليه، وهو يدَّعي شيئاً يجهله، فهذه وسيلة من الوسائل العظيمة في الحجة وفي جواب الشبهة.


فإذاً: نستفيد من هذا أننا إذا رأينا من هو مشرك بالله جل وعلا، أو من جادل عن نفسه بأنه ليس بمشرك، فإنه لا يحسن أن يُنزل دائماً منزلة المعاند، الذي تقام عليه الحجة بنوع من الشدة والغلظة، بل يُنظر في أمره ويُستدرج حتى يُجعل في منزلة الجاهل، وإذا كان كذلك فإنك تقيم عليه الحجة، وتعلمه دين الله جلّ وعلا.


قال: (فإن كان لا يعرف العبادة ولا أنواعها فبينها له) وأن العبادة تحصل معرفتها في الأدلة من الكتاب والسنة، بنوعين من الاستدلال:
أما النوع الأول من الاستدلال: فالنصوص التي فيها الأمر بالعبادة، بعبادة الله وحده دون ما سواه، وأن من صرف العبادة لغير الله فهو كافر مشرك، كقول الله -جلّ وعلا- في الأول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} الآية في أول البقرة.
ومن الثاني:قول الله -جل وعلا- في آخر سورة المؤمنون: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} ومن السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الدعاء هو العبادة)).
فإذا بينت له هذه الأدلة بعامة، فتقول له: نعلم أن هذا الشيء عبادة، بأن الله -جل وعلا- أمر به، أو أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا كان هذا الشيء مأموراً به علمنا أنه عبادة؛ لأن الله -جل وعلا- لم يأمرنا إلا للتعبد، فصح أن هذا الذي أُمرنا به أمر إيجاب فإنه عبادة، وكذلك أمر استحباب.
فتقول له: أمرنا الله -جل وعلا- بإخلاص الدين له؛ فإذاً: إخلاص الدين لله عبادة، أمرنا الله -جل وعلا- بخوفه، فالخوف عبادة، أمرنا الله -جل وعلا- برجائه، فالرجاء عبادة، أمرنا الله بالصلاة فالصلاة عبادة، أمرنا الله بالزكاة فالزكاة عبادة، أمرنا الله بالنحر فالنحر عبادة، أمرنا الله بكذا وكذا فهذه عبادات، هذا النوع الأول من الاستدلال.


والنوع الثاني: ما جاء في كل مسألة من تلك المسائل التي عددناها من العبادة؛ لأن الله أمرنا بها، ما جاء في كل مسألة من دليل خاص، يُثبت وجوب اختصاص الله -جل وعلا- بهذا النوع من العبادة.
فإذاً:الدليل الأول:دليل عام: تقول: إن هذا الشيء قد أمر الله به فهو عبادة، والله -جل وعلا- أمرنا أن نعبده دون ما سواه، وأخبرنا أن من عبد غيره فإنه مشرك كافر.
والنوع الثاني من الأدلة والاستدلال: ما كان في كل مسألة بحسبها، فنقول مثلاً: أمر الله -جل وعلا- بإفراده بالعبادة بقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} فقدم المفعول على الفعل والفاعل ليفيد اختصاص العبادة به، وقصر العبادة عليه وحده، دون ما سواه.
وقال: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فقدم المفعول على الفعل {نَسْتَعِينُ} والفاعل، ليدلنا على أن الاستعانة في العبادة إنما تكون بالله -جل وعلا- وحده هو المختص بها.
وكذلك قوله جل وعلا:{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ} فيها أن هذه الأشياء لله وحده مستحقة، يعني: الصلاة والنسك، مستحقة لله دون ما سواه، لا شريك له.
كذلك تأتي للإنابة والتوكل،فتقول: قال الله جل وعلا: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} فدل على أن التوكل عليه وحده دون ما سواه؛ لأنه قدم الجار والمجرور على ما يتعلق به، وهو الفعل فدل على اختصاص التوكل بالله جل وعلا، يعني بأن التوكل يكون عليه وليس على غيره، وكذلك الإنابة فإنها إليه لا إلى غيره.
وهكذا في غيرها من المسائل، وكذلك الدعاء فإن الدعاء: أمر الله بدعائه وحده فقال: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} وقال: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً}.


إذاً: تُوضِح له معنى العبادة، ثم تُوضح له الأمر بالعبادة، بأن يعبد الله دون ما سواه، ثم تبين له ما أمر الله به، وأن كل مسألة مما أمر الله بها أنها تدخل في العبادة، فدخل الذبح في العبادة، ودخلت الصلاة في العبادة، ودخل الخوف في العبادة، ودخل التوكل في العبادة، ودخلت الاستغاثة في العبادة، ودخل الرجاء في العبادة، إلى آخر مفردات توحيد العبادة.
ثم بعد ذلك تقيم له الدليل الثاني،أو النوع الثاني من الأدلة والاستدلال بأن الله في القرآن؛ والنبي -صلى الله عليه وسلم- في السنة، جعل هذه الأنواع مختصة به وحده دون ما سواه، فصار الدليل من جهتين:
1-من جهة دخولها في العبادة، والله أمر بعبادته وحده دون ما سواه.
2-ومن جهة أن الله جعلها مختصة به دون ما سواه.
وهذان نوعان من الأدلة يكثر أفرادهما، وتكثر الآيات والأحاديث في كل واحد من هذين النوعين.
فإذا بينت له ذلك فقد تم البيان في إيضاح أن هذه المسائل من العبادة.


والشيخ - رحمه الله - مثل لذلك بمثال في الدعاء؛ لأن الدعاء هو الذي يدخل فـيه كثير من الصور فقال: (فبينها له بقولك: قال الله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً}) وفي قوله رحمه الله: (فبينها له بقولك: قال الله تعالى:...) أن حجة الموحد يجب أن تكون دائماً بالأدلة، وألا يحتج بحجج عقلية؛ لأنه قد يكون الخصم عنده من العقليات ما ليس عند الموحد فيغلبه، إما بتأصيل، أو برد إلى المنطق، أو ما أشبه ذلك؛ فتضعف حجة الموحد، ولكن يبين له الحجة بالأدلة، ثم يوضح له وجه الاستدلال من الدليل.


قال: (فبينها له بقولك: قال الله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً}) ووجه الاستدلال من هذا الدليل: أن الله -جل وعلا- أمرنا بدعائه، فيكون الدعاء عبادة؛ لأنه مأمور به، وأمر بدعائه تضرعاً وخفية، وسبب ذلك أن المشركين يدعون آلهتهم التي يعبدونها مع الله، أو من دونه، يدعونها جهاراً، يدعونها برفع الصوت، والله -جل وعلا- حي سميع بصير، أقرب إلى الداعي من نفسه، ومن عنق راحلته، فلما أمر الله -جل وعلا- بذلك، علمنا أن هذا مخالفة لصنيع المشركين.


قال سبحانه: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} وذلك لأنه سبحانه يعلم السر وأخفى، وقد قال الحسن رحمه الله تعالى: (ما كان دعاؤهم فيما بينهم وبين ربهم إلا همهمة، أو قال: إلا حديثاً بينهم وبين ربهم، حتى إنه يدعو الداعي والرجل بجنبه لا يسمعه) في حديث له، ساقه ابن جرير رحمه الله تعالى في تفسيره، ونقله أيضاً عنه ابن كثير وجماعة.
فالتضرع والخفية صفة الداعي، فنقول له: أليس الدعاء - دعاء الرب جل وعلا - على هذه الحال عبادة لله جل وعلا.(فلابد أن يقول: نعم، والدعَاء مُخ العبادة) يعني: أن الدعاء لب العبادة، فإن العبادة أنواع، وأعظم أنواعها الدعاء، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: ((الدعاء هو العبادة)) تعظيماً لشأن الدعاء، كما قال: ((الحج عرفة)) فالدعاء مخ العبادة ومعظمها ولبها؛ ولهذا قال الشيخ رحمه الله: (فلابد أن يقول: نعم، والدعاء مخ العبادة) هذه جملة استطرادية.



قال: (فقل له: إذا أقررت أنه عبادة) لأن الخصم لابد أن يقر أن دعاء الله وحده عبادة.
قال: (إذا أقررت أنه عبادة، ودعوت الله ليلاً ونهاراً خوفاً وطمعاً، ثم دعوت في تلك الحاجة نبياً أو غيره).
تبدأ تناقشه بعد تعريف العبادة وما قدمنا، تقول: إذا دعوت الله وحده ليلاً ونهاراً في حاجة خوفاً وطمعاً، ثم في هذه الحاجة بعينها سألت الولي، أو الميت، أو صاحب السر، أو صاحب المشهد، أو صاحب القبة، أو ما أشبه ذلك، دعوته وسألته هذا السؤال هل يكون هذا شركاً في العبادة أم لا؟(فلابد أن يقول: نعم) إلا أن يكون مكابراً، لابد أن يقول: نعم؛ لأن عين الشيء سأله الله جل وعلا، ودعا به الله وحده طمعاً وخوفاً ورجاءً ليلاً ونهاراً، ثم توجه به إلى غير الله في الحاجة عينها، فلابد أن يقول: نعم، سألت الله الحاجة وسألت الولي الحاجة،فيقول: نعم، هذا شرك بالله جلّ وعلا.
لهذا قال الشيخ رحمه الله: (فقل له: إذا أقررت أنه عبادة، ودعوت الله ليلاً ونهاراً، خوفاً وطمعاً، ثم دعوت في تلك الحاجة نبياً أو غيره، هل أشركت في عبادة الله غيره؟ فلابد أن يقول: نعم، فقل له: فإذا علمت بقول الله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}) هذه صورة ثانية، الصورة الأولى في الدعاء، الصورة الثانية في النحر.
قال: (إذا علمت قول الله جل وعلا: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}) يعني: انحر لربك ولا تنحر لغيره {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ}.
قل له:إذا نحرت لله وحده، وذكرت اسم الله على الذبيحة، ونحرت الإبل أو البقر، أو ذبحت الذبائح متقرباً بها إلى الله -جل وعلا- هل هذا عبادة؟
فسيقول: نعم، هذا من أعظم العبادات؛ لأن الذبح في الأضاحي والنحر في الحج وأشباه ذلك، هذا من أعظم العبادات لله جل وعلا.
فقل له:إذا نحرت لمخلوق، يعني: تقربت بهذا الدم لمخلوق -كما فعلت بأن تقربت بدم آخر لله- فتقربت بالدم لمخلوق، فما الفرق بين هذا وهذا؟
لا فرق؛ لأنك تقربت بالذبح الأول لله؛ وبالذبح الثاني تقربت للنبي أو لولي أو لصالح ،أو لجني تخاف شره، أو لساحر أو ما أشبه ذلك، هل أشركت في هذه العبادة غير الله؟(فلابد أن يقر ويقول: نعم) لأنه لا مفر له، فعين الفعل فعلته لله، والفعل عينه فعلته لغير الله، فهل هذا شرك أم لا؟.
فلابد أن يقول:إن هذا النوع عبادة لغير الله؛ لأني قصدت بها غير الله، وذاك عبادة لله؛ لأني قصدت بها الله جل وعلا.
ولا يمكن أن يقول في الصورة الثانية: إن هذا ليس بعبادة ولم أقصد بها غير الله؛ لأنه حين فعل تقرباً إلى الله بالذبح أقر بأن الذبح عبادة، وحين توجه إلى غير الله بهذا الذبح وبإراقة الدم، أقر بأن هذه العبادة توجه بها لغير الله، فلابد إذاً أن يقول نعم؛ للحجة.
وهذا تمام الوجه الأول من هذا الاحتجاج، وهو ظاهر بين قوي في أن يتدرج مع المشرك، ومع هذا الذي يعبد غير الله، ويدعو غير الله، ويستغيث بغير الله - نعوذ بالله من الخذلان - أو يذبح لغير الله، أو أنواع الصور الشركية، فإنه يتدرج معه في هذا حتى يقر بأن الحجة واضحة، وأنه إذا فعل ذلك فقد عبد مع الله -جل وعلا- غيره، نسأل الله السلامة والعافية.
وعلى هذا الاحتجاج، هو لابد أن يقر، وما أمر به فهو عبادة، هذا باتفاق العلماء.
فإن جادلت عالماً، فإنه إن لم يكن مكابراً فسيقر بأن ما أمر به عبادة؛ لأن الله -جل وعلا- لا يأمر بشيء ويكون مباحاً، لابد أن يكون عبادة، إما أن تكون عبادة واجبة، أو أن تكون عبادة مستحبة، يترتب عليها الثواب.


وإذا كان لا يعلم، ليس بعالم فتدرجه مثل ما ذكر الشيخ رحمه الله، حتى ولو كان عالماً، فإنك إذا ذكرت هذه الحجج مع المقدمات التي ذكرنا؛ فإنها أبلغ ما يكون من الحجاج معه.
والحْظ أن الشيخ -رحمه الله- اختار هذا النوع من الحجاج لتجربته ولكثرة ما جادل المشركين، فهو أعلم - رحمه الله - بالحجة الأقوى، وبالشبه التي أدلى بها الخصوم، وكيف تُكشف هذه الشبه.
هذا نوع.
النوع الثاني: قال: (وقل له أيضاً) هذا وجه آخر من الحجة.(المشركون الذين نزل فيهم القرآن، هل كانوا يعبدون الملائكة والصالحين واللات وغير ذلك؟ فلابد أن يقول: نعم) إن كان عارفاً بما حصل من المشركين، وإن كان غير عالم بذلك؛ فتقيم عليه الحجة بإيضاح حال شرك المشركين، بما قدمناه لك في الدروس السابقة، فإذا أقمت عليه ذلك وأوضحته فلابد أن يقول: نعم؛ لأن القرآن أوضح ذلك أتم إيضاح.


قال: (فقل له: وهل كانت عبادتهم إياهم إلا في الدعاء والذبح والالتجاء ونحو ذلك) عبادتهم لآلهتهم فيم كانت؟
إنما كانت في الدعاء، كانوا يدعونهم، قال: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} يعني: ما ندعوهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، وكانوا يذبحون لغير الله؛ كما في حديث ثابت بن الضحاك: (أن رجلاً نذر أن ينحر إبلاً ببوانة، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: ((هل كان فيها وثن من أوثانهم؟)) قال: لا.


قال: ((هل كان فيها عيد من أعيادهم؟)) قال: لا.


قال: ((فأوف بنذرك)).


فدل قوله: ((هل كان فيها وثن من أوثانهم))أنهم كانوا يذبحون للأوثان، فإذاً تعبد المشركين بالذبح وبالنذر وبالدعاء ونحو ذلك هذا أمر معروف، ولم يكن شركهم من جهة أنهم يصلون لهم، أو أنهم يزكون لهم، أو أنهم يحجون لها، لهذه الآلهة، لا، كانوا يحجون لله، وكانوا يصلون، لهم صلاة، وكانوا يغتسلون من الجنابة، وكانوا يذكرون الله، ونحو ذلك مما ذكرناه في أنواع العبادات في أول هذا الشرح.


إنما كان شركهم من جهة أنهم يدعون غير الله، ويذبحون لغير الله، ويلتجئون لغير الله، ويتخذون تلك الآلهة، والأولياء والأنبياء وسطاء بينهم وبين الله جلّ وعلا.


قال: (وهل كانت عبادتهم إياهم إلا في الدعاء والذبح والالتجاء ونحو ذلك، وإلا فهم مقرون أنهم عبيد الله وتحت قهره) يعني بما قال الله -جل وعلا- في آيات كثيرة في إقرار المشركين بالربوبية.(وأن الله هو الذي يدبر الأمر، ولكن دعوهم والتجأوا إليهم للجاه والشفاعة، وهذا ظاهر جداً) لا شك أنه ظاهر جداً، وحجة واضحة، مبنية على فهم حال المشركين، وقد أوضحنا حالهم مفصلاً في أول شرح هذا الكشف المبارك.

محمدعبداللطيف
2019-12-22, 12:50 PM
كشف الشبهة الخامسة وهي احتجاجهم بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم على جواز طلب الشفاعة من المخلوقين
قال الامام محمد بن عبد الوهاب فى رسالة كشف الشبهات


فَإِنْ قَالَ:
أَتُنْكِرُ شَفَاعَةَ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَبْرَأُ مِنْها؟
فَقُلْ: لا أُنْكِرُها وَلاَ أَتَبَرَّأُ مِنْهَا، بَلْ هُوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّافِعُ المُشَفَّعُ في المحشر وَأَرْجُو شَفَاعَتَهُ، وَلكِنَّ الشَّفَاعَةَ كُلَّهَا للهِ، كَمَا قالَ تَعالى: {قُلْ للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً}[الزُّمر: 44]، وَلاَ تَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ إِذْنِ اللهِ كَما قَالَ تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}[البقرة: 255].
وَلا يَشْفَعُ في أَحَدٍ إِلاَّ بَعْدَ أَنْ يأْذَنَ اللهُ فِيهِ، ولا يَأذَنُ إلا لأَهْلِ التَّوْحِيدِ والإِخْلاصِ، كَمَاقَالَ تعالى:{وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى}[الأنبياء: 28]، وَهُوَ لا يَرْضَى إِلاَّ التَّوْحِيدَ كَمَا قَالَ تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وهو في الآخرة من الخاسرين}[آل عمران: 85].
فَإِذَا كَانَتِ الشَّفَاعَةُ كُلُّهَا للهِ، وَلا تَكُونُ إلاَّ بَعْدَ إذْنِهِ، وَلا يَشْفَعُ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا غَيْرُهُ في أحَدٍ حَتَّى يَأْذَنَ اللهُ فِيهِ، وَلاَ يَأذَنُ إِلاَّ لأَهْلِ التَّوْحِيدِ، تَبَيَّنَ أَنَّ الشَّفَاعَةَ كُلَّها للهِ وأنا أطلبها منه، فَأقُوْلُ: اللَّهُمَّ لا تَحْرِمْنِي شفَاعَتَهُ، اللَّهُمَّ شَفِّعْهُ فِيَّ، وَأَمْثَالَ هَذا.

محمدعبداللطيف
2019-12-22, 12:53 PM
قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ
(فَإِن) انْتَقَلَ المُشَبِّهُ إِلَى هَذِه الشُّبْهَةِ الأُخْرَى و(قَالَ: أَتُنْكِرُ شَفَاعَةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَتَبَرَّأُ مِنْهَا؟) هَذَا شَأْنُ أَعْدَاءِ اللهِ القُبُورِيِّينَ ؛ إِذَا أُنكِرَ عَلَيْهِم البَاطِلُ قَالُوا: هَذَا إِنْكَارٌ للحَقِّ، وإِذَا أُنْكِرَ عَلَيْهِم دُعَاءُ غَيْرِ اللهِ قَالُوا: هَذَا إِنْكَارٌ للشَّفَاعَةِ.

مِن شَأْنِ أَهْلِ البَاطِلِ المُشْبِهِينَ أَهْلَ الشِّرْكِ المُبَاهَتَةُوَ إِلْبَاسُهُم أَهْلَ الحَقِّ الشُّبَهَ البَاطِلَةَ، إِذَا أُنْكِرَ عَلَيْهِم دُعَاءُ غَيْرِ اللهِ وشِرْكِيَّاتُهُ م وَضَلاَلاَتُهُم أَخَذُوا في الطَّعْنِ عَلَى أَهْلِ التَّوْحِيدِ وَقَالُوا: إِنَّكُم تُنْكِرُونَ الشَّفَاعَةَ، وَأَنْتُم تَنْتَقِصُونَ الأَوْلِيَاءَ والصَّالِحِينَ - ولَيْسَ كَذَلِكَ- خَالَفُوا طَرِيقَةَ الرُّسُلِ وأَلْزَمُوهُم أَنْ يَكُونُوا رَاضِينَ بِذَلِكَ، وَهَذَا عَكْسُ مَا دَعَوْهُم إِلَيْهِ.(فَقُلْ : لاَ أُنْكِرُهَا) وَأَوْلَى مِن ذَلِكَ أَنْ لاَ أَتَبَرَّأَ مِنْهَا، وهي أَصْلٌ لأَِهْلِ التَّوْحِيدِ دونَ غَيْرِهِم، بل أَنَا وَأَمْثَالِي أَرْجَى لِشَفَاعَتِهِ لِكَوْنِي مُتَمَسِّكًا بِسُنَّتِهِ، بَلْ هُمْ المَحْرُمُونَ لِكَوْنِهِم تَعَلَّقُوا بِأَذْيَالٍ لاَ تُوصِلُهُم بَلْ هُمْ تَرَكُوا سَبَبَ شَفَاعَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بَلْ هو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّافِعُ المُشَفَّعُ وأَرْجُو شَفَاعَتَهُ، وَلَكِنَّ الشَّفَاعَةَ كُلَّهَا للهِ) فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَمْلِكُهَا اسْتِقْلاَلاً، بَلْ لاَ يَشْفَعُ إِلاَّ في أُنَاسٍ مَخْصُوصِينَ، قَائِمٍ بِهِمُ التَّأَهُّلُ لأَِنْ يُشْفَعَ لَهُم (كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُل للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا}) وَهَذَا في سِياقِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمِ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَـانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلاَ يَعْقِلُونَ}فال اَّمُ عِنْدَ جَمِيعِ العُلَمَاءِ للمِلْكِ.
بَيَّنَتِ الآيَةُ أَنَّ الشَّفَاعَةَ مِلْكٌ للهِ وَحْدَهُ، وَكَوْنُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُعْطِيَهَا لاَ اسْتِقْلاَلاً مِن دونِ اللهِ بَلْ أَكْرَمَهُ المَالِكُ لَهَا لأُِنَاسٍ مَخْصُوصِينَ في مِقْدَارٍ مَخْصُوصٍ، فهي شَيْءٌ مَحْدُودٌ لِشَيْءٍ مَحْدُودٍ، (وَلاَ تَكُونُ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِ اللهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}) فَأَيُّ قَائِلٍ أو أَيُّ إِنْسَانٍ يُخْرِجُ النَّبِيَّ مِن هَذَا العُمُومِ.

(وَلاَ يَشْفَعُ فِي أَحَدٍ إِلاَّ بَعْدَ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ فيه، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى}) يَعْنِي: مَن رَضِيَ اللهُ قَوْلَه وَعَمَلَهُ (وهو سُبْحَانَهُ لاَ يَرْضَى) مِن عِبَادِهِ إِلاَّ عَمَلاً وَاحِدًا هو الإِسْلاَمُ والذِي يَدُورُ عَلَيْهِ هو التَّوْحِيدُ؛ فالتَّوْحِيدُ مَنْـزِلَتُهُ مِن الإِسْلاَمِ كَمَنْـزِلَةِ الأَسَاسِ مِن البُنْيَانِ، فالْمِحْوَرُ هو التَّوْحِيدُ والرَّبُّ لاَ يَرْضَى (إِلاَّ التَّوْحِيدَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ}) .
وَقَالَ عَنِ المُشْرِكِينَ: {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} فَإِذَا كَانَتِ الشَّفَاعَةُ كُلُّهَا للهِ كَمَا في الآيَةِ الأُولَى (وَلاَ تَكُونُ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ) كَمَا في الآيَةِ الثَّانِيَةِ وَلاَ يَشْفَعُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ غَيْرُهُ في أَحَدٍ حَتَّى يَأْذَنَ اللهُ فِيهِ كَمَا في الآيَةِ الثَّالِثَةِ (وَلاَ يَأْذَنُ اللهُ إِلاَّ لأَِهْلِ التَّوْحِيدِ) كَمَا في الآيَةِ الرَّابِعَةِ (تَبَيَّنَ لَكَ) بِذَلِكَ كُلِّهِ، بَلْ بَعْضُهُ كَافٍ (أَنَّ الشَّفَاعَةَ كُلَّهَا للهِ) مِلْكٌ لَهُ وَحْدَهُ، وَأَنَّهَا لاَ تُطْلَبُ مِن غَيْرِ اللهِ بل تُطْلَبُ مِن اللهِ (وَأَطْلُبُهَا مِنْهُ) فَأَطْلُبُهَا بِمَا هو دُعَاءٌ لِرَبِّ العَالَمِينَ المَالِكِ لِهَا وَحْدَه، لاَ دُعَاءٌ للنَّبِيِّ (فَأَقُولُ: اللهُمَّ لاَ تَحْرِمْنِي شَفَاعَتَهُ، اللهُمَّ شَفِّعْهُ فِيَّ وأَمْثَالَ هَذَا) فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ ذَلِكَ نِلْتَهَا، وَمُرَادُهُ أَنَّكَ تَطْلُبُهُ بِالْمَعْنَى وَلَوْ مَا لَفَظْتَ؛ فَإِذَا عَمِلْتَ بالتَّوْحِيدِ فَأَنْتَ تَطْلُبُ أَسْبَابًا فِيهِا نَيْلُ الشَّفَاعَةِ سَوَاءٌ قُلْتَ باللَّفْظِ أَوْ لاَ أو مَا هَذَا مَعْنَاهُ.--------------- قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين
قولُهُ: (فإنْ قالَ) يَعْنِي: إذا قالَ لكَ المُشْرِكُ المُشَبِّهُ: هلْ تُنْكِرُ شَفاعةَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وهوَ يَقولُ هذا مِنْ أجلِ أنْ يُلْزِمَكَ بِجَوازِ دُعاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَسَى أنْ يَشْفَعَ لكَ عندَ اللهِ إذا دَعَوْتَهُ.
فقُلْ لهُ:لا أُنْكِرُ هذهِ الشَّفاعةَ ولا أَتَبَرَّأُ مِنها، ولكنِّي أَقولُ: إنَّ الشَّفاعةَ للهِ ومَرْجِعَها كُلِّها إليهِ، وهوَ الَّذي يَأْذَنُ فيها إذا شَاءَ ولِمَنْ شاءَ؛ لِقولِ اللهِ تعالى: {قُلْ للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}[الزُّمَرُ: 44].


قولُهُ: (ولا تَكونُ إلاَّ بعدَ إِذْنِ اللهِ...) إلخ، بَيَّنَ رَحِمَهُ اللهُ أنَّ الشَّفاعةَ لا تَكونُ إلاَّ بشرْطَيْنِ:
الشَّرطُ الأوَّلُ: أنْ يَأْذَنَ اللهُ بها؛ لِقولِهِ تعالى: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}.
الشَّرطُ الثَّاني: أنْ يَرْضَى اللهُ عزَّ وجلَّ عن الشَّافِعِ والمَشْفوعِ لهُ؛ لِقولِهِ تعالى: {يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً}[طه: 109]، ولقولِ اللهِ تعالى: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}[الأنبياءُ: 28 ].
ومن المعلومِ أنَّ اللهَ لا يَرْضَى إلاَّ بالتَّوحيدِ،ولا يُمْكِنُ أنْ يَرْضَى الكفرَ؛ لقولِهِ تعالى: {إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ}[ الزُّمَرُ: 7]، فإذا كانَ لا يَرْضَى الكفرَ، فإنَّهُ لا يَأْذَنُ بالشَّفاعةِ للكافرِ.



قولُهُ: (فإذا كانت الشَّفاعةُ كلُّها للهِ...) إلخ، أَرادَ المؤلِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تعالى أنَّهُ إذا كانت الشَّفاعةُ للهِ، ولا تَكونُ إلاَّ بِإذنِهِ، ولا تَكونُ إلاَّ لِمَن ارْتَضَى، ولا يَرْضَى إلاَّ التَّوحيدَ، لَزِمَ مِنْ ذلكَ أنْ لا تُطْلَبَ الشَّفاعةُ إلاَّ مِن اللهِ تعالى، لا مِن النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيَقولَ: اللهُمَّ شَفِّعْ فيَّ نَبِيَّكَ، اللهُمَّ لا تَحْرِمْني شفاعتَهُ، وأمثالَ ذلكَ ----------------------- قال الشيخ صالح الفوزان
شَفَاعَةُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- لاَ يُنْكِرُها إلاَّ أَهْلُ البَاطِلِ، والفِرَقُ الضَّالَّةُ كالخَوَارِجِ والمُعْتَزِلَةِ .
أمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ فإنَّ مِن أُصُولِ عَقِيدَتِهِم الإِقْرَارَ بشَفَاعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وشَفَاعَةِ الأَوْلِيَاءِ والصَّالِحِينَ، ولَكِنَّها لاَ تُطْلَبُ منهم وهم أَمْوَاتٌ، وإنَّما تُطْلَبُ مِن اللهِ؛ لأَِنَّ أَحَدًا لاَ يَشْفَعُ عِنْدَ اللهِ إلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ، ولاَبُدَّ أَنْ يَكُونَ المَشْفُوعُ فيه مِمَّن يَرْضَى اللهُ عَنْهُ مِن أَهْلِ التَّوْحِيدِ، والنَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- وهو أَعْظَمُ الشُّفَعَاءِ يَوْمَ القِيَامَةِ إِذَا تَقَدَّمَ له أَهْلُ المَحْشَرِ وطَلَبُوا منه أَنْ يَشْفَعَ لَهُم عِنْدَ اللهِ في فَصْلِ القَضَاءِ بَيْنَهُم، فإنَّه لاَ يَشْفَعُ ابْتِدَاءً، وإنَّما يَسْتَأْذِنُ رَبَّه ويَطْلُبُ منه أَنْ يَأْذَنَ لَهُ بالشَّفَاعَةِ، فَيَخِرُّ سَاجِدًا بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ ويَدْعُوه ويَتَضَرَّعُ إِلَيْهِ، ويَسْتَمِرُّ حَتَّى يُقَالَ لَهُ: ((يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ وَسَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ)) ولكن كيف تُطْلَبُ الشَّفَاعَةُ؟
الشَّفَاعَةُ تُطْلَبُ مِن اللهِ وَلاَ تُطْلَبُ مِن المَخْلُوقِ، فَتَقُولُ: اللهُمَّ لاَ تَحْرِمْنِي شَفَاعَةَ نَبِيِّكَ، اللهُمَّ شَفِّعْهُ فِيَّ، وأَمْثَالَ هَذَا، والنَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- بَعْدَ مَوْتِهِ لاَ يُطْلَبُ منه شَيْءٌ، لاَ شَفَاعَةٌ وَلاَ غَيْرُهَا؛ لأَِنَّ طَلَبَ الأَشْيَاءِ مِن الأَمْوَاتِ شِرْكٌ أَكْبَرُ.

محمدعبداللطيف
2019-12-22, 12:55 PM
قال الشيخ صالح آل الشيخ الشبهة الخامسة: (فإن قال: أتنكر شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبرأ منها؟ فقل: لا أنكرها ولا أتبرأ منها، بل هو -صلى الله عليه وسلم- الشافع والمشفع، وأرجو شفاعته، لكن الشفاعة كلها لله).
شفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- جنس تحته أنواع، فهو -عليه الصلاة والسلام- يشفع يوم القيامة في أنواعٍ من الشفاعة، وأعظمها وأجلها شفاعته -عليه الصلاة والسلام- في أهل الموقف، أن يعجَّل لهم الحساب، بعد أن نالهم من الكرب والشدة ما جعلهم يستغيثون به عليه الصلاة والسلام، في عرصات القيامة، في ذلك الموقف العظيم، وهذا هو المقام المحمود الذي خص الله -جل وعلا- به محمداً عليه الصلاة والسلام؛ كما قال سبحانه: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً}.

وهذا المقام المحمود، هو شفاعته -عليه الصلاة والسلام- في الناس جميعاً، لكي يفصل بينهم، ولكي يعجل لهم الحساب، ولهذا جاء في حديث جابر وغيره أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من سمع النداء فقال مثل ما يقول المؤذن ثم قال: -في الدعاء المعروف بعد الأذان- اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته إلا حلت له شفاعتي يوم القيامة)) وذلك أنه سأل الله -جل وعلا- لنبيه صلى الله عليه وسلم المقام المحمود، وسأل له الوسيلة والفضيلة، وهي متحققة للنبي عليه الصلاة والسلام، ولكن السائل إذا دعا الله -جل وعلا- بذلك وسألها للنبي صلى الله عليه وسلم، ففي سؤاله ذلك له -عليه الصلاة والسلام- أنواع من العبادات التي بها استحق أن تحل عليه وله شفاعة المصطفى صلى الله عليه وسلم:
منها: يقينه بما وعد الله -جل وعلا- نبيه.
ومنها: حبه للمصطفى صلى الله عليه وسلم، ودخوله في أمته، ورغبتُه ومحبتُه أن يكون -عليه الصلاة والسلام- أنفع الخلق للناس يوم القيامة، وهو -عليه الصلاة والسلام-كذلك، إذ خصه الله -جل وعلا- بالشفاعة.
ومر معنا في شرح (الواسطية) ومر معنا في غير ذلك أنواع الشفاعات، التي أعطاها الله -جل وعلا- نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، في ذلك المقام العظيم يوم القيامة.
فهنا قال: (فإن قال: أتنكر شفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- وتبرأ منها) هذا يشمل إنكار الشفاعة العظمى، والشفاعات الأخر، الشفاعة في أهل المعاصي ألا يُدخلوا النار، والشفاعة فيمن دخل النار واستحقها ودخلها أن يخرجه الله -جل وعلا- منها، والشفاعة في أقوام تساوت حسناتهم وسيئاتهم أن يدخلهم ربهم -جل وعلا- الجنة، وأشباه هذا.(فإن قال: أتنكر شفاعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتبرأ منها؟
فقل: لا أنكرها ولا أتبرأ منها، بل هو -صلى الله عليه وسلم- الشافع والمشفع) (الشافع) يعني: بما أعطاه الله جل وعلا.(والمشفَّع) فيمن شفع له عليه الصلاة والسلام، فإنه لا يشفع في أحد يوم القيامة إلا أعطاه الله -جل وعلا- ما سأله وإلا أعطاه الله -جل وعلا- ما شفع فيه، حتى الكافر عَمُّه فإنه يشفع فيه عليه الصلاة والسلام، ويخفف عنه من العذاب بسبب شفاعته عليه الصلاة والسلام، فهو -عليه الصلاة والسلام- الشافع، وهو -عليه الصلاة والسلام- المشفع، ونرجو شفاعته، نرجو أن نكون ممن شفَّع الله -جل وعلا- فيهم نبيه عليه الصلاة والسلام، ونأخذ بأسباب تلك الشفاعة، فإن شفاعة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فيمن يشفع فيه؛ هي بإذن الله؛ كما سيأتي.


قال: (لكنَّ الشفاعةَ كلها لله؛ كما قال تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً}) الشفاعة معناها: ضم الداعي والسائل طلبه إلى طلب سائل آخر ليتحقق طلبه، ويكون الشافع ـ يعني: الثاني ـ أقوى من الأول، هذا في مقتضى اللغة.
وهي مأخوذة من الشفع وهو ضد الوِتر؛ كما قال جل وعلا: {وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} فالشفع مغاير للوَتْر، وسمي الشافع شافعاً والشفيع شفيعاً لأنه صار بالنسبة للسائل زوجاً وشفعاً، بعد أن كان الطالب والسائل واحداً.
فشفع طلبه، يعني: صار هذا الشافع ثانياً في السؤال، فبدل أن يطلب الشيءَ واحدٌ بالشفاعة صار الطالب له اثنين، الأول صاحب الحاجة والثاني صاحب الشفاعة.
فإذاً: الشفاعة حقيقتها:ضم الشافع طلبه لطلب السائل ليُحقَّق له مراده، وهذا عام في موارد الشفاعة في اللغة.
فإذاً: على هذا تكون الشفاعة ممن يمكنه ذلك، فإذا دعا الداعي في الدنيا لأخ من إخوانه، أو لمن دعا له، فإنه شافع له في الدعاء، يعني: أنه سأل الله -جل وعلا- أن يعطي فلاناً مطلوبه الذي هو كيت وكيت.
وكما جاء في حديث الأعمى المروي في السنن بإسناد حسن، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما جاءه الأعمى يشكو حاله علمه دعاءً، ثم قال له: ((فقل: اللهم إني استشفع إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم)) وهذا يعني أنه يجعل دعاء المصطفى -صلى الله عليه وسلم- في حياته شافعاً له، يعني: دعا هو بما أوصى به عليه الصلاة والسلام، ثم رَغِب في أن يكون الشافع له محمداً عليه الصلاة والسلام، يعني الداعي له بما أراده من الرب جل وعلا.
فإذا كان كذلك صارت حقيقة الشفاعة قائمةً على أن الشافع يطلب كما طلب الأول؛ وأنه لا يشفع إلا فيمن رضي أن يشفع له، لا يشفع ممن طلب منه الشفاعة رغماً عنه، يعني: إذا سأل سائل آخرَ أن يشفع له، فالشافع لا يشفع إلا إذا رغب أن يشفع، وليس كل من طلب الشفاعة من غيره من الناس من فلان، من النبي عليه الصلاة والسلام، من أهل العلم أن يجاب إلى طلبه، فيشفع فيه المصطفى عليه الصلاة والسلام، ويشفع فيه العلماء، إلى آخرذلك، في الدعاء في الدنيا، فإنه قد يطلب ويرد، قد يطلب من الشافع أن يشفع فيقول الشافع: لا أشفع لك.


والمصطفى -عليه الصلاة والسلام- هو الذي أنزل الله -جل وعلا- عليه قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} ولهذا قال الشيخ رحمه الله: (ولا تكون إلا من بعد إذن الله؛ كما قال عز وجل: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}) وإذن الله في القرآن وفي الشفاعة نوعان:
1-إذن قدري كوني.
2-وإذن شرعي ديني.
فحصول الشفاعة لا يكون إلا بعد أن يأذن الله بالنوعين.
فالأول:الإذن الشرعي، يعني: أن يكون هذا المشفوع له ممن أُذن شرعاً أن يُشفع فيه، ومعلوم أن الله -جل وعلا- نهى المؤمنين أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى، فقال -جل وعلا- في سورة براءة: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} فدل هذا على أن الشرع نهى أن يستغفر للمشرك، يعني: أن يُشْفَعَ في مغفرة الذنوب عند الله -جل وعلا- لأهل الشرك.
وإذا كان كذلك، فإن اشتراط الإذن الشرعي، يعني: أن من طلب الشفاعة من النبي -صلى الله عليه وسلم- في الدنيا وهو من أهل الشرك، أو في الآخرة وهو من أهل الشرك؛ فإنه لم يؤذن الإذن الشرعي في أن يُشفع فيهم، أو أن يسأل الشفاعة لهم.
وكذلك في البرزخ - وهو ما بين الحياتين الأولى والآخرة وهو حياة خاصة - كذلك فإن من سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- الشفاعة، وهو في قبره عليه الصلاة والسلام، فقد سأل ما لم يؤذن به شرعاً.


ولهذا الصحابة -رضوان الله عليهم- ما سألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- الشفاعة بعد موته، وكذلك ما سألوا شهداء أحد الشفاعة، والشهداء يشفعون كما جاء في الحديث؛ لأن الشفاعة مشروطة بالإذن الشرعي.


ولو حصل من أحد أنه طلب الشفاعة، فإنه لو فرض أنه -عليه الصلاة والسلام-يشفع في البرزخ، فإن هذا الذي طلب الشفاعة، فإنه أشرك، حيث سأل الشفاعة بما لم يؤذن به في الشرع؛ لأنه طلب الشفاعة ممن لم يؤذن له في ذلك، والشفاعة كلها لله جل وعلا.


فتحصل لنا من الشرط الأول -وهو الإذن- أنه ينقسم إلى قسمين:


1-الإذن الشرعي:وهو أن يكون الله -جل وعلا- أذن للشافع أن يشفع، الإذن الشرعي، وكذلك أذن للمستشفع أن يطلب الشفاعة الإذن الشرعي، وربنا -جل وعلا- قال في الشافع: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} يعني: لا أحد يشفع عند الله -جل وعلا- إلا بعد أن يأذن الله -جل وعلا- الإذن الشرعي.
فإن أهل الإيمان من الرسل والأنبياء والصالحين والملائكة لا يشفعون لمن لم يؤذن له شرعاً، لمن خالف الشرع، وطلب الشفاعة من غير الله؛ لأن الله -جل وعلا- قال: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً}.
فإذاً: طلب الشفاعة منهي عنه بقوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ }وطلب الشفاعة معناه: طلب الدعاء، فالشفاعة وطلب الدعاء واحد.
فإذا جاء أحد إلى قبر، وقال لصاحب القبر: أسألك أن تدعو الله لي، معناه: أنه سأل الشفاعة، فهي بمنزلة قوله: أسألك أن تشفع لي؛ لأن الشفاعة - كما ذكرت لك - هي طلب الدعاء، ضم الشافع طلبه إلى المشفوع له.
فقول القائل لأحد: أسألك أن تدعو لي، يعني: أن تشفع لي، وهذا بالنسبة للأموات مهما علت مرتبتهم فإنه لا يجوز، وطلبها منهم لا يوافق إذن الله -جل وعلا- الشرعي.
إذا تبين ذلك: فالقسم الثاني من الإذن: الإذن الكوني القدري، يعني: أن الشافع عند الله -جل وعلا- لا يشفع ابتداء، كما هو الحال في الدنيا في أحوال الشافعين عند البشر، يأتي ويطلب، سواء كان المشفوع عنده يرضى بهذه الشفاعة أو لا يرضى، يرغب فيها أو لا يرغب.
هذا من حال أهل القصور، حال أهل الفقر والمسكنة، يعني: من أهل الدنيا.
أما ربنا -جل وعلا- ذو الكمال المطلق، وذو الإحسان إلى خلقه، وذو الغنى التام، وذو القدرة التامة جل وعلا، فإنه لا يشفع عنده أحد ابتداء، بل لا يشفع أحد حتى يأذن الله للشافع أن يشفع: الإذن الكوني القدري، يعني: يعلم الله -جل وعلا- أن هذا يريد أن يشفع فيقول له: اشفع، كما ثبت في الصحيح أنه -عليه الصلاة السلام- إذا كانت الشفاعة العظمى يوم القيامة ويأتيه الناس قال: ((فآتي فأخر بين يدي العرش فأحمد ربي بمحامد يفتحها علي لا أحسنها الآن)).
يخر ساجداً، فيبتدئ بالحمد والثناء على الله جل وعلا، والله سبحانه يعلم أنه يريد أن يشفع، ولا يشفع ابتداءً؛ لأنه لابد من الإذن الكوني، لابد أن يقال له: اشفع، قال عليه الصلاة والسلام: ((فيقول الرب، أو فيقول: يا محمد ارفع رأسك وسل تعط واشفع تُشَفَّع)).


فهذا يدل على أن الشفاعة يوم القيامة لا يبتدىء بها أهلها حتى يأذن الله -جل وعلا- لهم في أن يشفعوا،وهذا أصل عظيم في هذا الباب.
إذاً: الإذن الكوني القدري - بالدليل الذي ذكرت لك - يدل على أن هذا الذي شفع لا يملك الشفاعة، وإنما هو محتاج لأن يشفع، كما أن الطالب محتاج في أن يشفع له، والله -جل وعلا- هو الذي يملك الشفاعة، والنبي -عليه الصلاة والسلام- لا يملكها فيشفع شفاعة من يملك، وإنما هو يرجو أن يقبل منه أن يشفع كما جاء في هذا الحديث، ودلالته واضحة على ما ذكرنا.
إذاً: قوله جل وعلا: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} يعني: لا أحد يشفع عند الله -جل وعلا- إلا بإذنه سبحانه الشرعي، وبإذنه سبحانه القدري، فإن شفع من لم يأذن الله فيه شرعاً فإنه لا تقبل شفاعته، مثل ما شفع نوح -عليه السلام- في ابنه قال: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} فأجابه ربنا -جل وعلا- بقوله: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ} الآيات.
فإذاً:دل على أنه إذا ابتدأ أحد في أن يشفع فيمن لم يؤذن له بالشفاعة شرعاً، فإنه لا تقبل شفاعته، وترد عليه.
وأما الإذن الكوني:فإنه في الآخرة لا يحصل - يعني بعد الموت - لا يحصل الإذن، لا تحصل الشفاعة ولا تقع إلا بعد الإذن الكوني.
أما في الدنيا: فإنه قد يشفع أحد فيؤذن له كوناً بالشفاعة بحسب إرادته، فيبتدئ بالشفاعة، ثم ترد عليه إن لم تكن شفاعته موافقة للإذن الشرعي، أولم تكن شفاعته موافقة لحكمة الله جل وعلا.
فتحصَّل من هذا أن الشفاعة لها - من حيث الزمن - حالان:
في الدنيا، وما بعد الممات.
أما في الدنيا:فإن الإذن الكوني للشافع يحصل بإرادة الشافع، فقد يشفع والله -جل وعلا- يأذن سبحانه، ولو كانت حكمته في أن يرد هذا الشافع في الدنيا مثل ما حصل من شفاعة نوح -عليه السلام- في ابنه، ومن شفاعة إبراهيم في أبيه، ومن شفاعة النبي -عليه الصلاة والسلام- في عمه، فأنزل الله جل وعلا: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى}.
أما بعد الممات: فإنه لا يبتدئ أحد الشفاعة -يعني: في يوم القيامة ولا في البرزخ- حتى يأذن الله جل وعلا، ومعلوم أن الله -جل وعلا- لا يأذن في وقوع الشرك، ولا يأذن إذناً كونياً ولا إذناً شرعياً في حصول ذلك من الأموات، لكن من الأحياء قد يبتدئون ويطلبون ذلك؛ لأنها دار تكليف، فيأذن الله -جل وعلا- كوناً بحصول مالم يأذن به شرعاً؛ لأنها دار تكليف.
فقوله سبحانه: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} معناها: لا أحد يشفع عند الله إلا بإذنه، وذلك لكمال قدرته -جل وعلا- وقهره وجبروته، وكمال ملكه، وكمال عزته، وكمال صفاته -سبحانه- وأسمائه.
أما الخلق فقد يُشفع عندهم بلا إذن منهم.


قال الشيخ -رحمه الله- تعالى بعد ذلك: (ولا يَشفع في أحد) يعني: النبي صلى الله عليه وسلم، أو: (لا يُشفع في أحد) يعني: جميع أنواع الشفعاء (إلا من بعد أن يأذن الله فيه)


وهذا إذن آخر، فباعتبار آخر: الإذن ينقسم إلى قسمين:
1-إذن للشافع أن يشفع.
2-وإذن للمشفوع فيه أن يُشفع له.
قال: (ولا يشفع في أحد إلا من بعد أن يأذن الله فيه) يعني: في حق المشفوع له أن يشفع، أما أن يشفع لكل أحد، والله -جل وعلا- لا يأذن لهذا أن يشفع له فإن هذا لا يحصل، والله -سبحانه وتعالى- لا يرضى إلا بالشفاعة لأهل التوحيد، كما سيأتي.


قال: (كما قال عز وجل: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى}) {وَلا يَشْفَعُونَ} يعني: الملائكة؛ لأن هذه الآية في سورة الأنبياء {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى}يعني: الملائكة، فلا يشفعون فيمن يريدون، كما يظن أهل الشرك، بل لا يشفعون إلا لمن رضي الله -جل وعلا- قوله وعمله، فيمن ارتضاهم ربنا جل وعلا.
والله -سبحانه- لا يرضى إلا لأهل التوحيد؛ كما ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: ((أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه)).


فقوله: ((أسعد الناس بشفاعتي)) قال العلماء: (أسعد) هنا جاءت على أفعل التفضيل، لكن معناها الوصف لا التفضيل، يعني: سعيد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال (لا إله إلا الله) خالصاً من قلبه أو نفسه.


فأسعد بمعنى سعيد؛ كقوله -جل وعلا- في سورة الفرقان:{أَصْحَا بُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} ومعلوم أن مقيل أهل النار ليس فيه حسن، بل هو قبيح وشر وعذاب عليهم، فقوله: {وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} يعني: حسناً مقيلهم.


فهذا معلوم في اللغة أن (أفعل) قد تخرج عن بابها إلى الوصف، وهذا كقوله كما ذكرنا: ((أسعد الناس بشفاعتي)) فسعيد الناس بشفاعته -عليه الصلاة والسلام- أهل التوحيد.


والذين يرضاهم الله -جل وعلا- ورضي لهم قولاً هم أهل التوحيد.


فإذا كان كذلك، فمن سأل من لا يملك الشفاعةَ الشفاعةَ، فإنه ليس ممن رضي الله -جل وعلا- قوله، ولا رضي عمله؛ لأن الله نهانا عن ذلك، ولأن الصحابة -رضوان الله عليهم- لم يفعلوا ذلك.

قال جل وعلا: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى}وهذا هو الشرط الثاني، وهو شرط الرضا، فإن الشفاعة لا تنفع عند الله -جل وعلا- إلا بتحقق شرطين:

1-الإذن.



2-والرضا.
والرضا نوعان أيضاً:
1-رضا عن الشافع.
2-ورضا عن المشفوع له.
الذين يشفعون هم الذين رضي الله عنهم، وهم الأصناف الذين جاء ذكرهم في الأحاديث: الأنبياء، وأولهم محمد عليه الصلاة والسلام، والعلماء، والشهداء، والصالحون، هؤلاء هم الذين يشفعون فرضي الله -جل وعلا- قولهم.
وكذلك النوع الثاني: الرضا لمن شُفع له، وهذا الرضا قد يكون رضاً عن مآل حاله؛ لأنه من أهل الإسلام، وقد يكون رضاً في الشفاعة لحكمة يعلمها جل وعلا، وهذا إخراج لحال أبي طالب.


قال: ({وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} وهو جل وعلا لا يرضى إلا التوحيد) بدلالة الحديث الذي ذكرنا، وكذلك دلالة قول الله جل وعلا: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.
وكقوله جل وعلا: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} يعني: التوحيد، الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله، هذا هو الإسلام، وهو التوحيد الذي جاء به الأنبياء والرسل جميعاً.
فإذاً: هو سبحانه لا يرضى إلا الإسلام العام،ومن كان من هذه الأمة فلا يرضى - يعني: بعد بعث محمد عليه الصلاة والسلام - فلا يرضى إلا ما فيه، بل لا يرضى إلا اتباع المصطفى عليه الصلاة والسلام.
فقوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} يعني: من ابتغى غير دين محمد -عليه الصلاة والسلام- فلن يقبل منه؛ لأن محمداً -عليه الصلاة والسلام- بعثه الله، وبعثه بالإسلام الخاتَم الذي نسخ كل دين قبله.


قال -رحمه الله- بعد ذلك: (فإذا كانت الشفاعة كلها لله) هذا استنتاج، ترتيب النتائج على المقدمات.(فإذا كانت الشفاعة كلها لله، ولا تكون إلا بعد إذنه، ولا يشفع النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا غيره، في أحد حتى يأذن الله فيه، ولا يأذن إلا لأهل التوحيد) هذه أربعة أشياء، إذا كانت الشفاعة كلها لله أولاً، هذه مقدمات في الحجة ليبني على هذه المقدمات النتيجة، وهذه المقدمات كل واحدة منها سبق شرحها ودليلها.


قال: (فإذا كانتِ الشفاعة كلها لله) يعني: من جهة المِلك؛ لأن الذي يملكها الرب جل وعلا، فإذاً هو الذي يتصرف ويقول سبحانه: هذا يُشفع فيه، وهذا يَشفع، وهذه الحال فيها شفاعة، وهذه الحال ليس فيها شفاعة، إذ هو المالك للشفاعة سبحانه، بخلاف أهل الدنيا، فإنه يملك المرء الشفاعة في أحد.
أنا الآن -مثلاً- أريد أن أشفع لفلان، فإني أملكها بحيث أبتدئ الشفاعة ولو لم يرض المشفوع عنده، فأبتدئ سواء قبل أو لم يقبل، هذا لأجل حال القصور الذي أنا عليه والضعف والمسكنة، فلا أملك ولا أستطيع أن أفرض على أحد شيئاً.
أما حقيقة الشفاعة:فإنها لله جل وعلا، يملكها سبحانه، فالشفاعة عنده -جل وعلا- ليست كالشفاعة عند خلقه جل وعلا، بل هو الذي يملك الشفاعة، فالذي يجيء يطلب الشفاعة، لا يجيء وهو يتقدم عند الله -جل وعلا- بشيء يملكه هو، بل الذي يملك الشفاعة الرب سبحانه وتعالى.
فحقيقة الشروط {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}، {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} ونحو ذلك من الآيات، دالة على أن الشفاعة مِلك لله، فالآية - آية الزمر - {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} دالة، وكذلك الشروط دالة على أن الشفاعة كلها لله جل وعلا.


قال في الشرط الثاني: (ولا تكون إلا بعد إذنه) مثل ما مر معنا. (ولا يشفع النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا غيره في أحد حتى يأذن الله فيه) هذا الشرط الثالث.(ولا يأذن إلا لأهل التوحيد) هذا الشرط الرابع (تبين لك أن الشفاعة كلها لله) يعني: أن أحداً ليس له من الأمر شيء، كما قال جل وعلا: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}.


قال بعدها: (فأطلبها منه) يعني: إذا كانت لله، وهذه الشروط الأربعة والمقدمات الأربع واضحة، فتحصَّل أن الشفاعة لله، والطلب إذاً يكون ممن يملك.


قال: (فأطلبها منه، فأقول: اللهم لاتحرمني شفاعة المصطفى صلى الله عليه وسلم، اللهم شفعه فيَّ) فتسأل الله -جل وعلا- أن يأذن للنبي صلى الله عليه وسلم، وأن يسخره -عليه الصلاة والسلام- للشفاعة فيك، وهذا هو وجه التوحيد، والطريقة الشرعية المأذون بها.


قال: (وأمثال هذا) يعني: من الأدعية التي تناسب هذا المقام.
إذاً: فهذا الكلام الذي ذكرناه جواب على قول من قال: (أتنكر شفاعة رسول الله-صلى الله عليه وسلم- وتبرأ منها؟) وهذه الشبهة كثيراً ما تقال لأهل التوحيد.
فإذا قالوا لغيرهم ممن طلبوا الشفاعة من المصطفى صلى الله عليه وسلم، أو من الأولياء قالوا لهم: الشفاعة لله، وطلب الشفاعة من الموتى شرك؛ لأن الله -جل وعلا- لم يأذن بهذا، والله هو الذي يملك الشفاعة، هذا لا يملكها، ومن طلب من الميت ما لا يملكه، ولا يقدر عليه ابتداءً، فقد طلب منه ما هو مختص بالله، وهذا يعني أنه أشرك به.(قالوا: أتنكر الشفاعة؟)
فإذاً: هم إذا أنكر عليهم الشرك، قالوا: أتنكر شفاعة المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ لأن أهل العلم من أهل السنة ومن الفرق الأخرى مجمعون - يعني: غير المعتزلة الأشاعرة والماتريدية وأشباه هؤلاء، مجمعون على أن المصطفى -صلى الله عليه وسلم- يشفع، وعلى أن الأولياء والصالحين يشفعون.
فإذا قلت لهم:طلب الشفاعة شرك، أرادوا أن ينسبوك لأهل الضلال ممن ينكرون الشفاعة.
فقالوا: أتنكر الشفاعة؟ حتى يَنسبك إلى الخوارج أو إلى المعتزلة أو ما أشبه ذلك.


فإذاً:قوله هنا: (فإن قال: أتنكر شفاعةَ رسول اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وتبرأ منها؟) هذه يقولها المشرك للموحد حتى ينسِبه وحتى ينسُبه - يصح الوجهان - لأهل البدع من الخوارج والمعتزلة، فكأنه قال لك: أأنت خارجي؟ - إذا أنكرت عليه طلب الشفاعة - أأنت خارجي؟ أو أأنت معتزلي؟
فتقول له:لا أنكرها ولا أتبرأ منها، بل أنا سلفي سني موحد، ولست من أهل البدع والفرق الضالة، بل هو عندنا -عليه الصلاة السلام- هو الشافع المشفع بأنواع من الشفاعات نثبتها قد لا يثبتها بعض أهل البدع، كالأشاعرة ونحوهم، وأرجو شفاعته عليه الصلاة السلام، نرجو شفاعته، ونبذل الأسباب في ذلك.
فنسأل الله -جل وعلا- أن يُشَفِّعَ فينا نبيه عليه الصلاة والسلام، وكذلك نأتي بالأسباب، من الدعاء بعد الأذان، ومن محبة المدينة، ومن الرغبة في الموت فيها، وكذلك في السعي في القتال في سبيل الله، وأشباه ذلك، مما هو من أسباب نيل شفاعته عليه الصلاة والسلام، هذا حقيقة هذا البرهان، وهذا التفصيل من الشيخ رحمه الله تعالى.

محمدعبداللطيف
2019-12-22, 12:58 PM
كشف الشبهة السادسة: وهي قولهم: النبي صلى الله عليه وسلم أعطي الشفاعة ونحن نطلبه مما أعطاه الله
قال الامام محمد بن عبد الوهاب فى رسالة كشف الشبهات


فَإِنْ قَالَ:
النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُعْطِيَ الشَّفَاعَةَ وَأَنَا أَطْلُبُهُ مِمَّا أَعْطَاهُ اللهُ؟
فَالْجَوابُ:
أَنَّ اللهَ أَعْطَاهُ الشَّفَاعَةَ وَنَهَاكَ أنْ تَدْعُوَ مَعَهُ أحَدَاً، وَقَالَ تَعَالَى: {فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً}[الجن: 18]، وطلبُكَ من اللهِ شَفَاعَةَ نبيهِ عَبَادَةٌ، وَاللهُ نَهَاكَ أنْ تُشْرِكَ فِي هَذِهِ العِبَادَةِ أحَدَاً، فَإِذَا كُنْتَ تَدْعُو اللهَ أَنْ يُشفِّعَهُ فِيْكَ فَأَطِعْهُ في قَوْلِهِ: {فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً}.
وَأَيْضاً فَإِنَّ الشَّفَاعَةَ أُعْطِيها غَيْرُ النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَحَّ أَنَّ المَلائِكَةَ يَشْفَعُونَ، وَالأَفْرَاطَ يَشْفَعُونَ، وَالأَوْلياءَ يَشْفَعُونَ، أتَقُولُ: إِنَّ اللهَ أَعْطاهُمُ الشَّفَاعَةَ فَأَطْلُبُها مِنْهُمْ؟
فَإِنْ قُلْتَ هَذا وجَوَّزْتَ دعاء هؤلاء رَجَعْتَ إِلى عِبَادةِ الصَّالِحينَ الَّتِي ذَكَرها اللهُ في كِتابِهِ.
وَإِنْ قُلْتَ: لاَ، بَطَلَ قَوْلُكَ: أَعْطاهُ اللهُ الشَّفَاعَةَ وَأَنَا أَطْلُبُهُ مِمَّا أَعْطَاهُ اللهُ.

محمدعبداللطيف
2019-12-22, 01:01 PM
قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ
(فَإِنْ قَالَ) المُشَبِّهُ: (النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُعْطِيَ الشَّفَاعَةَ وَأَنَا أَطْلُبُهُ مِمَّا أَعْطَاهُ اللهُ) إِن انْتَقَلَ لِهَذِه الشُّبْهَةِ -في زَعْمِهِ: أَنَّه كَمَا أَنَّ مَن أُعْطِيَ المَالَ يُعْطِي مَنْ شَاءَ فَكَذَلِكَ مَن أُعْطِيَ الشَّفَاعَةَ.

(فالجَوَابُ) نَعَمْ (أَنَّ اللهَ أَعْطَاهُ الشَّفَاعَةَ) وهو سَيِّدُ الشُّفَعَاءِ لَكِنَّ الذِي أَعْطَاهُ الشَّفَاعَةَ هو اللهُ (ونَهَاكَ عن هَذَا) نَهَاكَ أَنْ تَطْلُبَهَا مِنْهُ فَهَذَا مِن جَهْلِهِ يَطْلُبُ شَيْئًا مَنْهِيًّا عَنْهُ، مَعَ أَنَّ إِعْطَاءَهُ الشَّفَاعَةَ إِعْطَاءٌ مُقَيَّدٌ لاَ مُطْلَقًا، كَمَا أَنَّ إِعْطَاءَهُ المَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يُعْطِيهِ مَن شَاءَ إِنَّما يُعْطِيهِ مَن أُمِرَ أَنْ يُعْطِيَهُ فَقَالَ تَعَالَى: {فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللهِ أَحَدًا} فَهَذَا نَهْيٌ عَنْ دَعْوَةِ غَيْرِ اللهِ.
وَدَعْوَةُ غَيْرِ اللهِ أَنْوَاعٌ:
- مِنْهَا: دَعْوَةُ غَيْرِ اللهِ فِيمَا يَرْجُونَه مِن شَفَاعَتِهِم.
- وَمِنْهَا:دَعْو ةُ غَيْرِ اللهِ لكَشْفِ الكُرُبَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ وَهَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ، بَلْ هو حَقِيقَةُ دِينِ المُشْرِكِينَ الأَوَّلِينَ، إِنَّمَا كَانَتْ عِبَادَتُهُم آلِهَتَهُم بالدُّعَاءِ وَطَلَبِ الشَّفَاعَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ (فَإِذَا كُنْتَ تَدْعُو اللهَ) الظَّاهِرُ أنَّ مُرَادَهُ تَرْجُو اللهَ (أَنْ يُشَفِّعَ نَبِيَّهُ فِيكَ فأَطِعْهُ في قَوْلِهِ: {فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللهِ أَحَدًا}) إِذَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ تَكُونَ أَهْلاً لِشَفَاعَةِ سَيِّدِ الشُّفَعَاءِ فَوَحِّدِ اللهَ، وأَخْلِصْ لَهُ العَمَلَ تَنَلْ شَفَاعَةَ المُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَإِنَّ الشَّفَاعَةَ الَّتِي هي حَقٌّ وَأُعْطِيَهَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَشْرُوطَةٌ بِشُرُوطٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وبَيَّنَتِ الشَّرِيعَةُ أَنَّ سَبَبَ نَيْلِهَا اتِّبَاعُ الرُّسُلِ وإِخْلاَصُ العَمَلِ، فَبِذَلِكَ يَكُونُ مِن أَهْلِ الشَّفَاعَةِ فالمُشْرِكُونَ ضَيَّعُوا سَبَبَ الشَّفَاعَةِ وضَادُّوهُ وخَالَفُوهُ.


الشَّرِيعَةُ بَيَّنَتْ أَنَّ سَبَبَ إِعْطَائِهِ إِيَّاهَا غَيْرُ طَلَبِهَا مِنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا سَبَبُهَا الإِيمَانُ بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالإِيمَانُ بِمَا جَاءَ بِهِ؛ قَالَ تَعَالَى:{فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ} وَمَا لاَ يَعْلَمُهُ اللَّه فَهُو بَاطِلٌ؛ يَعْنِي: لاَ يَعْلَمُ أَنَّ مِن دُونِهِ شُفَعَاءَ.
وَسُئِلَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ؟ فَقَالَ: ((مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ)) وَقَالَ: ((فَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللهُ مَنْ مَاتَ لاَ يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا)).
فالشَّفَاعَةُ للعُصَاةِ، أَمَّا المُشْرِكُونَ فَلاَ شَفَاعَةَ لَهُم.


(وَأَيْضًا فَإِنَّ الشَّفَاعَةَ أُعْطِيَهَا غَيْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) هَذَا جَوَابٌ ثَانٍ لِكَشْفِ الشَّبْهَةِ السَّابِقَةِ، تَقَدَّمَ الأَوَّلُ، وهو كَافٍ في كَشْفِ شُبْهَتِهِ، وَهَذَا الثَّانِي (فَصَحَّ أَنَّ المَلاَئِكَةَ يَشْفَعُونَ والأَفْرَاطَ يَشْفَعُونَ) فجِنْسُ الشَّفَاعَةِ أُعْطِيَهَا غَيْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّ هَذَا الإِعْطَاءَ مُقَيَّدٌ.



(أَتَقُولُ إِنَّ اللهَ أَعْطَاهُمُ الشَّفَاعَةَ فَأَطْلُبُهَا مِنْهُم) يَعْنِي مُقْتَضَى قَوْلِهِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُعْطِيَ الشَّفَاعَةَ وَأَنَا أَطْلُبُهَا مِنْهُ، يُدَلِّلُ عَلَى ذَلِكَ (فَإِنْ قُلْتَ هَذَا رَجَعْتَ إِلَى عِبَادَةِ الصَّالِحِينَ الَّتِي ذَكَرَهَا اللهُ فِي كِتَابِهِ) فَإِنَّها لَيْسَتْ أَكْثَرَ مِن طَلَبِهِم منهم الشَّفَاعَةَ، والذَّبْحِ لَهُم لِقَصْدِ تَقْرِيبِهِم إِلَى اللهِ، وطَلَبِ شَفَاعَتِهِم، لاَ غَيْرُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى} الآيةَ.



(وَإِنْ قُلْتَ لاَ) أَطْلُبُهَا منهم وَلَوْ أُعْطُوهَا (بَطَلَ قَوْلُكَ: أَعْطَاهُ اللهُ الشَّفَاعَةَ وَأَنَا أَطْلُبُهُ مِمَّا أَعْطَاهُ اللهُ) وَاتَّضَحَ لَكَ أَنَّ كَوْنَ شَخْصٍ أُعْطِيَهَا لاَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُعْطِيهَا مَن سَأَلَهَا.
وَلَلَزِمَ مِن ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَن طَلَبَ الشَّفَاعَةَ يُعْطِي إِيَّاهَا مَن سَأَلَهُ، ولَفَسَدَتِ الشَّرَائِعُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ إْعَطَاءَهُ الشَّفَاعَةَ مُقَيَّدٌ، ولَيْسَ دَالاًّ عَلَى أَنَّهَا تُطْلَبُ مِنْهُ، وَلَوْ كَانَتْ تُطْلَبُ منه لَكَانَ الصَّحَابَةُ أَوَّلَ مَن يَطْلُبُهَا مِنْهُ؛ بل أَنْكَرَ زَيْنُ العَابِدِينَ عَلَى مَن أَتَى إِلَى فُرْجَةٍ كَانَتْ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَدْخُلُ فيها فَيَدْعُو.



وَحِينَئذٍ انْكَشَفَتْ شُبْهَتُهُ، وانْدَحَضَتْ حُجَّتُهُ، وتَبَيَّنَ لَكَ بِذَلِكَ جَهْلُهُ وضَلاَلُهُ. ------------------------ قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين
قولُهُ: (فإنْ قالَ) أي: المشركُ الَّذي يَدْعو رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ اللهَ أَعْطَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ الشَّفاعةَ، فأنا أَطْلُبُها منهُ.
فالجوابُ: مِنْ ثلاثةِ أَوْجُهٍ:
الأوَّلُ: أنَّ اللهَ أَعْطَاهُ الشَّفاعةَ ونَهَاكَ أنْ تُشْرِكَ بهِ في دُعائِهِ، فقالَ: {فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا}.
الثَّاني: أنَّ اللهَ سُبحانَهُ وتعالى أَعْطَاهُ الشَّفاعةَ، ولكنَّهُ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يَشْفَعُ إلاَّ بإذنِ اللهِ، ولا يَشْفَعُ إلاَّ لِمَن ارْتَضاهُ اللهُ، ومَنْ كانَ مُشركًا فإنَّ اللهَ لا يَرْتَضِيهِ، فلا يَأْذَنُ أنْ يَشْفَعَ لهُ، كما قالَ تعالى: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى}[الأنبياءُ: 28].
الثَّالثُ: أنَّ اللهَ تعالى أَعْطَى الشَّفاعةَ غيرَ محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فالملائكةُ يَشْفَعونَ، والأفْراطُ يَشْفَعونَ، والأوْلِياءُ يشْفَعونَ.
فقُلْ لهُ: هلْ تَطْلُبُ الشَّفاعةَ مِنْ كلِّ هؤلاءِ؟ فإنْ قالَ: لا، فقدْ خُصِمَ وبَطَلَ قولُهُ.
وإنْ قالَ: نَعَمْ، رَجَعَ إلى القولِ بعبادةِ الصالحين.
ثمَّ إنَّ هذا المشركَ المُشَبِّهَ ليسَ يُرِيدُ مِنْ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أنْ يَشْفَعَ لهُ، ولوْ كانَ يُرِيدُ ذلكَ لقالَ: اللَّهمَّ شَفِّعْ فِيَّ نَبيَّكَ مُحمَّدًا رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ؛ ولكنَّهُ يَدْعو الرَّسولَ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُباشَرةً، ودُعاءُ غيرِ اللهِ شركٌ أَكْبَرُ مُخْرِجٌ مِن الْمِلَّةِ، فكيفَ يُرِيدُ هذا الرَّجلُ الَّذي يَدْعو معَ اللهِ غيرَهُ أنْ يَشْفَعَ لهُ أحدٌ عندَ اللهِ سُبحانَهُ وتعالى؟!


وقولُهُ: (وَالأَفْرَاطُ يَشْفَعونَ) الأفراطُ: هم الَّذينَ ماتُوا قبلَ البُلوغِ، وسَنَدُهُ حديثُ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((لاَ يَمُوتُ لِمُسْلِمٍ ثَلاَثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ فَيَلِجُ النَّارَ إِلاَّ تَحِلَّةَ الْقَسَمِ)) أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ، ولهُ عنهُ وعنْ أَبِي سَعِيدٍ مِنْ حديثٍ آخَرَ: ((لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ))(2).



وقالَ المؤلِّفُ: (إنَّ الملائكةَ يَشْفَعونَ، والأولياءَ يَشْفَعونَ)، سَنَدُهُ(3) حديثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، الَّذي رَوَاهُ مُسْلِمٌ مُطَوَّلاً، وفيهِ: ((فيَقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: شَفَعَتِ الْمَلاَئِكَةُ، وَشَفَعَ النَّبِيُّونَ، وَشَفَعَ المُؤْمِنُونَ)) الحديثَ.----------- قالالشيخ صالح الفوزان
أي: لَيْسَ مِن لاَزِمِ إِعْطَاءِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- وغَيرِه الشَّفَاعَةَ جَوَازُ طَلَبِهَا مِنْهُم، وهُمْ أَمْوَاتٌ، بِدَلِيلِ: أَنَّ اللهَ -سُبْحَانَه وتَعَالَى- نَفَى أَنْ يَشْفَعَ أَحَدٌ عِنْدَه إلاَّ بإذْنِهِ ورِضَاهُ عن المَشْفُوعِ فيه، ولأَِنَّ طَلَبَ الشَّفَاعَةِ مِن الأَمْوَاتِ شِرْكٌ، واللهُ قَدْ حَرَّمَ الشِّرْكَ وأَحْبَطَ عَمَلَ صَاحِبِه، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الجَنَّةَ، وقَدْ أَنْكَرَ -سُبْحَانَهُ- عَلَى الَّذِينَ يَدْعُونَ غَيْرَه، ويَقُولُونَ: هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ، ونَزَّهَ نَفْسَهُ عن ذلك وسَمَّاهُ شِرْكًا.
وأَيْضًا إِعْطَاءُ اللهِ الشَّفَاعَةَ لَيْسَ خَاصًّا بالنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- فهل كُلُّ مَن أُعْطِيَ الشَّفَاعَةَ تُطْلَبُ منه مِن دونِ اللهِ، كَمَا كَانَ المُشْرِكُونَ الأَوَّلُونَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ؟!{وَيَقُو لُونَ هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ الله}.

محمدعبداللطيف
2019-12-22, 01:02 PM
قال الشيخ صالح آل الشيخ
قال: (فإن قال: النبي -صلى الله عليه وسلم- أعطي الشفاعة، وأنا أطلبه مما أعطاه الله، فالجواب: أن الله أعطاه الشفاعة ونهاك عن هذا - يعني: نهاك عن طلب الشفاعة - فقال سبحانه: {فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} فإذا كنت تدعو الله أن يشفع نبيه فيك فأطعه في قوله: {فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً}) وهذا دليل وبرهان سديد للغاية.
كما ذكرت لك أن الشفاعة طلب، والشفاعة هي الدعاء، فإذا طلب أحد من النبي-صلى الله عليه وسلم- وهو في البرزخ - مع حياته الكاملة عليه الصلاة والسلام، أكمل من حياة الشهداء، عليه الصلاة والسلام - إذا طلب منه أن يشفع فهذا الطالب سأله، والسؤال دعاء، فحقيقة طلب الشفاعة أنها دعوة الميت، سؤال الميت، سؤال النبي -عليه الصلاة والسلام- في قبره وهو في الرفيق الأعلى عليه الصلاة والسلام، سؤاله ودعاؤه والطلب منه، فإذا قال القائل: يا محمد يا رسول الله اشفع لي، فقد دعاه وطلب منه.
إذا قال:يا محمد يا رسول الله اسأل الله لي، فقد سأله وطلب منه عليه الصلاة السلام، وهذا طلبٌ للدعاء ممن ليس في الحياة الدنيا - ممن هو عند الله جل وعلا - والله سبحانه نهانا أن ندعو أحداً غيره؛ فقال جل وعلا: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً}.
وقوله: {فَلا تَدْعُوا} هذا نهي، نهانا عن الدعاء، ومن المعلوم المتقرر في الأصول أن الفعل المضارع لاشتماله على مصدر، ينزل منزلة النكرة في سياق النهي أو النفي، فتعم أنواع الدعاء.
{فَلا تَدْعُوا} هذا يعم جميع أنواع الدعاء، لا يدعى مع الله أحد، دعاء استغاثة، دعاء استعانة، دعاء استسقاء، دعاء شفاعة، دعاء نذر، إلى آخره، فجميع هذه الأنواع داخلة في النهي، في قوله جل وعلا: {فَلا تَدْعُوا} دعاء العبادة ودعاء المسألة.

وكذلك دلت الآية على عموم آخر، وهو قوله جل وعلا: {فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} لأن {أَحَداً} نكرة جاءت في سياق النهي فدلت على عموم كل أحد، فالملائكة لا يُدعون والأنبياء والرسل -عليهم صلوات الله وسلامه- لا يدعون، وكذلك الصالحون ممن انتقلوا عن الدنيا لا يدعون، والأولياء من الأموات لا يدعون، والشهداء - شهداء المعركة - لا يدعون أيضاً.
وكما ذكرت لكم في درسٍ سبق، أن الصحابة أجمعوا في حياة النبي عليه الصلاة والسلام، والنبي -صلى الله عليه وسلم- مقرهم على ذلك، بل والتشريع ينزل، أن أحداً منهم لم يسأل الشهداء - شهداء أحد - الشفاعة، ولم يطلب منهم شيئاً، مع أنهم كانوا في حياةِ أولئك الشهداء ربما طلبوا منهم، لكن لما ماتوا تركوا الطلب، مع أنهم كما قال الله جل وعلا: {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُو نَ} الآية.

فدل هذا على أن طلب الشفاعة من الميت داخل في سؤال الميت وفي دعاء الميت، وهذا كما قال الشيخ رحمه الله: (فإن قال: النبي -صلى الله عليه وسلم- أُعطي الشفاعة، وأنا أطلبه مما أعطاه الله)
فقل: نعم النبي -صلى الله عليه وسلم- أُعطي الشفاعة في عرصات القيامة بأنواع من الشفاعة، لكن الذي أعطاه الشفاعة في عرصات القيامة هو الذي نهاك عن طلب الشفاعة وأنت في الحياة الدنيا، وهو في البرزخ.
فالجواب كما ذكر الشيخ: أن الله أعطاه الشفاعة ونهاك عن هذا.
ما الدليل على النهي؟
قال: (فقال تعالى: {فَلا تَدْعُوا معَ اللَّهِ أَحَداً}) ووجه دخول طلب الشفاعة في الدعاء، ما ذكرته لك، وما هو واضح تقريره.
قال: (فإذا كنت تدعو الله أن يشفع نبيه فيك) إذا كنت تريد أن يشفع فيك المصطفى صلى الله عليه وسلم.(فأطعِ الله في قوله: {فَلا تَدْعُوا معَ اللَّهِ أَحَداً}) يعني: فلا تسألوا مع الله أحداً.
وقوله: {مَعَ اللَّهِ} فيه إشارة إلى سؤال من لا يملك الشيء ومن لا يقدر عليه، وأن من سأل غير الله وهذا الغير لا يملك الشيء فقد دعا مع الله أحداً، وهذا ظاهر من جهة الاستدلال ومن جهة البرهان الواضح القوي.
قال في برهان آخر: (وأيضاً) هذا نوع آخر من البرهان على المسألة.(فإن الشفاعة أعطيها غير النبي صلى الله عليه وسلم، فصح أن الملائكة يشفعون، وأن الأفراط يشفعون، والأولياء يشفعون، أتقول: إن الله أعطاهم الشفاعة وأطلبها منهم؟) لأنه يقول: النبي -صلى الله عليه وسلم- أُعطي الشفاعة، وأنا أطلبه مما أعطاه الله.
فقل: - وهذا من جهة الإلزام؛ لأن الإلزام إن التزمه تناقض وصار مبطلاً، وإن لم يلتزمه تناقض أيضاً وصار مبطلاً، فقل له: الأفراط يشفعون، لهذا إذا مات فرط - صغير - فندعوا لوالديه بالمغفرة، وندعوا أن يشفعه في والديه، كما جاء في السنة من الدعاء في الآثار.
فإذاً:هل يقول هذا الذي احتج بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أُعطي الشفاعة، يقول بأن كل من أعطي الشفاعة يُسأل الشفاعة ؟
فنقول: هؤلاء الأفراط يشفعون فاسألهم الشفاعة، ولا قائل به، أن الأطفال الصغار يؤتى إلى قبورهم ويطلب منهم الشفاعة، مع أن الحجة التي احتجوا بها في حق النبي -صلى الله عليه وسلم- هي الحجة التي تسوغ في حق هؤلاء الصبية.
كذلك الملائكة يشفعون،فهل يطلب المسلم الشفاعة من الملائكة، ويقول: يا جبريل اشفع لي عند الله، وهذا لا قائل به حتى عباد القبور لا يقولون بهذا؛ لأنهم لو قالوا به صاروا إلى دين الجاهلية بالاتفاق، وصاروا إلى دين المشركين بالاتفاق.
فإذاً: هذه الحجة حجة إلزامية، يُحتج عليهم بما يقرون به على ما يحتجون له، فهم يقرون أن الملائكة يشفعون.
فيقال لهم:النبي -صلى الله عليه وسلم- أُعطي الشفاعة كما ذكرتم، ولكن نهينا أن نسأله الشفاعة.
فإن قالوا: لا، بل أعطيها ونسأله الشفاعة.
نقول لهم: الملائكة، يعني: نبرهن لهم بالبرهان الأول: {فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} فإن لم ينفع فيهم، فنقول لهم: الملائكة أيشفعون؟
فإن قالوا:لا.
فنقول لهم: بل يشفعون؛ لأن الله -جل وعلا- قال فيهم: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} ولأنه ثبت في الحديث الصحيح أن الله -جل وعلا- يقول يوم القيامة: ((شفعت الملائكة، وشفعت الأنبياء، وشفع العلماء، ولم يبق إلا رحمة أرحم الراحمين)) فيُخرجُ بعثاً من النار، إلى آخر الحديث.
فإذاً:إذا قلنا له: الملائكة تشفع بنص القرآن، وأخبر الله أنهم يشفعون، والنبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر، فاسأل الملائكة أن يشفعوا لك.
فإن قال به - ولا قائل به - فيصير إلى دين المشركين بالاتفاق فيما بيننا وبين عُبَّاد القبور.
كذلك قل: الأفراط يشفعون - لما جاء في الحديث - أفتذهب إلى قبر طفل، وتسأله الشفاعة؟ وهذا لا قائل به بالاتفاق.
إلى أن قال: (أتقول: إنَّ اللهَ أعطاهم الشفاعة وأطلبها منهم؟ فإن قلت هذا رجعت إلى عبادة الصاحين التي ذكر الله في كتابه) يعني: بالاتفاق، هذه عبادة الصالحين، عبادة الملائكة، عبادة غير الله التي أجمع عليها الناس، بأن يُسألون الشفاعة، ويُتعبد ويُتقرب إليهم بطلب الشفاعة.(وإن قلت: لا) لا أطلبها من هؤلاء، لا أطلب الشفاعة من الملائكة، ولا أطلب الشفاعة من الأفراط.
قال الشيخ رحمه الله: (وإن قلت: لا) يعني: لا تطلبها منهم (بطل قولك: أعطاه الله الشفاعة، وأنا أطلبه مما أعطاه الله) لأن هذا إلزام بما هو لازم في نفس الأمر، فإما أن يطرد الباب فيجعل هذا وهذا باباً واحداً، وهذا يرجعه بالاتفاق إلى دين المشركين.
وإما أن يفرق بين هذا وهذا فيتناقض، فيدل على بطلان حجته التي ادعاها بقوله: أطلبه مما أعطاه الله.

محمدعبداللطيف
2019-12-22, 01:04 PM
كشف الشبهة السابعة وهي زعمهم أن الالتجاء إلى الصالحين ليس بشرك
قال الامام محمد بن عبد الوهاب فى رسالة كشف الشبهات


فَإِنْ قَالَ:
أَنَا لا أُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئاً حاشَا وَكلاَّ، وَلَكِنَّ الالْتِجَاءَ إِلى الصَّالِحينَ لَيْسَ بِشِرْكٍ.
فَقُلْ لَهُ: إِذَا كُنْتَ تُقِرُّ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ الشِّرْكَ أَعْظمَ مِن تَحْريمِ الزِّنا، وَتُقِرُّ أَنَّ اللهَ لا يَغْفِرُهُ؛ فَمَا هذا الأَمْرُ الَّذِي عَظَّمَهُ اللهُ وَذَكَرَ أَنَّهُ لا يَغْفِرُهُ؟
فَإِنَّهُ لا يَدْرِي.
فَقُلْ لَهُ: كَيْفَ تُبَرِّئُ نَفْسَكَ مِنَ الشِّرْكِ وَأَنْتَ لا تَعْرِفُهُ؟
كَيْفَ يُحَرِّمُ اللهُ عَلَيْكَ هَذَا، وَيَذْكُرُ أَنَّهُ لا يَغْفِرُهُ، وَلاَ تَسْألُ عَنْهُ ولا تَعْرِفُهُ؟
أَتَظُنُّ أَنَّ اللهَ عز وجل يُحَرِّمُهُ هذا التحريمَ، وَلا يُبَيِّنُهُ لَنَا؟

محمدعبداللطيف
2019-12-22, 01:06 PM
قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ
(فَإِنْ قَالَ: أَنَا لاَ أُشْرِكُ باللهِ شَيْئًا، حَاشَا وَكَلاَّ، وَلَكِنَّ الالْتِجَاءَ إلى الصَّالِحِينَ لَيْسَ بِشِرْكٍ) يَعْنِي: نَفَى عن نَفْسِهِ الشِّرْكَ.(فَقُل ْ لَهُ) مُجِيبًا بالاسْتِفْصَالِ والتَّحَدِّي حَتَّى تَنْكَشِفَ شُبْهَتُهُ: (إِذَا كُنْتَ تُقِرُّ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ الشِّرْكَ أَعْظَمَ مِن تَحْرِيمِ الزِّنَا، وَتُقِرُّ أَنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُهُ) وهو لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَجْحَدَهُ (فَمَا هَذَا الأَمْرُ الَّذِي حَرَّمَهُ اللهُ وَذَكَرَ أَنَّهُ لاَ يَغْفِرُهُ؟) يَعْنِي: فَسِّرْ لِي حَقِيقَةَ الشِّرْكِ باللهِ، يَعْنِي: وَمَا مَعْنَى عِبَادَةِ اللهِ (فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِي) عَنِ الشِّرْكِ وَلاَ عَنِ التَّوْحِيدِ إِذَا طَلَبْتَ مِنْهُ بَيَانَ هَذَا وهَذَا وَقَفَ، فَأَيْنَ هَذَا مِن التَّوْحيدِ؟ (فَقُلْ لَهُ: كَيْفَ تُبَرِّئُ نَفْسَكَ مِن الشِّرْكِ وَأَنْتَ لاَ تَعْرِفُهُ؟) فَإِنَّ الحُكْمَ عَلَى الشَّيْءِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا لاَبُدَّ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ العِلْمِ والتَّصَوُّرِ؛ فَلاَ عَرَفْتَ الشِّرْكَ حَتَّى تَنْفِيَهُ، ولاَ عَرَفْتَ التَّوْحِيدَ حَتَّى تُثْبِتَهُ (كَيْفَ يُحَرِّمُ اللهُ عَلَيْكَ هَذَا، وَيَذْكُرُ أَنَّهُ لاَ يَغْفِرُهُ، وَلاَ تَسْأَلُ عَنْهُ، وَلاَ تَعْرِفُهُ؟) عَدَمُ مَعْرِفَتِكَ لَهُ وَعَدَمُ مُبَالاَتِكَ بِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّكَ لاَ تَعْرِفُ دِينَكَ، وَأَنَّكَ لَسْتَ مِن التَّدَيُّنِ في شَيْءٍ، صَادٌّ غَافِلٌ مُعرِضٌ عَن الدِّينِ ومَعْرِفَتِهِ، فَحَقُّكَ السُّكُوتُ، وَلأَيِّ شَيْءٍ تَتَكَلَّمُ (أَتَظُنُّ أَنَّ اللهَ يُحَرِّمُهُ ولاَ يُبَيِّنُهُ لَنَا) فَإِنْ ظَنَّ ذَلِكَ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً أَعْظَمَ مِن ضَلاَلِهِ الأَوَّلِ، وَأَضَافَ إِلَى ذَلِكَ كُفْرًا آخَرَ.
وَإِنَّمَا صَدَرَ مِنْهُ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ كَانَ فيه، وَغَمَرَهُ واسْتَحْكَمَ عَلَيْهِ، وَلاَ دَرَى أَنَّهُ في الشِّرْكِ؛ فَإِنَّ اللهَ قَدْ بَيَّنَ لَنَا الدَّقِيقَ والجَلِيلَ وَأَكْمَلَ لَنَا الدِّينَ.------------------------------ قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين
إذا قالَ هذا المُشركُ: أنا لا أُشْرِكُ باللهِ شَيْئًا، والالْتِجَاءُ إلى الصَّالحينَ ليسَ بشركٍ.
فجوابُهُ: أن يُقالَ لهُ: ألسْتَ تُقِرُّ أنَّ اللهَ حَرَّمَ الشِّركَ أَعْظَمَ مِنْ تَحْريمِ الزِّنا؟ وأنَّ اللهَ لا يَغْفِرُهُ؟ فما هذا الشِّركُ؟
فإنَّهُ سَوفَ لا يَدْرِي ولا يُجِيبُ بِالصَّوابِ ما دامَ يَعْتَقِدُ أنَّ طَلبَ الشَّفاعةِ مِنْ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ليسَ بشركٍ؛ فهوَ دَليلٌ على أنَّهُ لا يَعْرِفُ الشِّركَ الَّذي عَظَّمَهُ اللهُ تعالى، وقالَ فيهِ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}[ لُقْمَانُ: 13 ]. (2) قولُهُ: (فقُلْ لهُ: كيفَ تُبَرِّئُ نفسَكَ...) إلخ، يَعْنِي: إذا بَرَّأ نفسَهُ مِن الشِّركِ بِلُجُوئِهِ إلى الصَّالحينَ فجوابُهُ مِنْ وجهَيْنِ:
الأوَّلُ: أن يُقالَ: كيفَ تُبَرِّئُ نفسَكَ مِن الشِّركِ وأنتَ لا
وهل الحُكْمُ على الشَّيءِ إلاَّ بعدَ تَصَوُّرِهِ؟ فحُكْمُكَ ببَراءةِ نفسِكَ مِن الشِّركِ وأنتَ لا تَعْلَمُهُ حُكْمٌ بلا عِلمٍ؛ فيَكونُ مَرْدودًا.
الوجهُ الثَّاني: أن يُقالَ: لماذا لا تَسْأَلُ عن الشِّركِ الَّذي حَرَّمَهُ اللهُ تعالى أَعْظَمَ مِنْ تحريمِ قتْلِ النَّفْسِ والزِّنا، وأَوْجَبَ لفاعلِهِ النَّارَ وحَرَّمَ عليهِ الجنَّةَ؟
أتَظُنُّ أنَّ اللهَ حرَّمَهُ على عِبادِهِ ولم يُبَيِّنْهُ لهمْ؟ حاشاهُ مِنْ ذلكَ.--------------------------- قال الشيخ صالح الفوزان
يُبَيِّنُ الشَّيْخُ -رَحِمَهُ اللهُ- أَنَّ الشِّرْكَ لَيْسَ مَقْصُورًا عَلَى عِبَادَةِ الأَصْنَامِ؛ لأَِنَّ المُشْرِكِينَ الأَوَّلِينَ مِنْهُم مَن يَعْبُدُ المَلاَئِكَةَ، والمَلاَئِكَةُ أَصْلَحُ الصَّالِحِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
{بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ (26) لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}.
ومنهم مَنْ يَعْبُدُ الصَّالِحِينَ،و ذَلِكَ في قَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ}قِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَنْ يَعْبُدُ عُزَيْرًا والمَسِيحَ مِن الأَنْبِيَاءِ.
وقِيلَ: نَزَلَتْ في قَوْمٍ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ فَأَسْلَمَ الجِنُّ، وَلَمْ يَعْلَمْ مَن يَعْبُدُهُم مِن الإِنْسِ أنَّهُم أَسْلَمُوا.
والمَقْصُودُ مِن ذَلِكَ أنَّ اللهَ ذَكَرَ أنَّ المُشْرِكِينَ الأَوَّلِينَ منهم مَن يَعْبُدُ الأَصْنَامَ والأَشْجَارَ والأَحْجَارَ، ومنهم مَن يَعْبُدُ الأَنْبِيَاءَ والصَّالِحِينَ، وسَوَّى بَيْنَهُم في الحُكْمِ، وحَكَمَ عَلَيْهِم بالكُفْرِ والشِّرْكِ.
وأَنْتَ أيُّها المُشَبِّهُ تُرِيدُ أَنْ تُفَرِّقَ بَيْنَ مَن عَبَدَ الأَصْنَامَ ومَن عَبَدَ الصَّالِحِينَ، فَتُفَرِّقَ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللهُ، وهَذَا مِن المُحَادَّةِ للهِ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى.
هَذَا وَجْهُ رَدِّ الشُّبْهَةِ،حَي ْثُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ شِرْكِ الأَوَّلِينَ وشِرْكِ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ يَدَّعُونَ الإِسْلاَمَ وهُمْ يَعْبُدُونَ القُبُورَ والأَوْلِيَاءَ والصَّالِحِينَ؛ لأَِنَّهُم لاَ يَعْرِفُونَ مَعْنَى العِبَادَةِ، ومَعْنَى الشِّرْكِ، فَصَارُوا يَخْلِطُونَ ويَهْرِفُونَ بِمَا لاَ يَعْرِفُونَ، وهَذِه نَتِيجَةُ الجَهْلِ بعَقِيدَةِ التَّوْحِيدِ الصَّحِيحَةِ، والجَهْلِ بِمَا يُضَادُّهَا مِن الشِّرْكِ، فإنَّ مَن لاَ يَعْرِفِ الشَّيْءَ يَقَعْ فيه وهو لاَ يَدْرِي.
وَمِنْ هنا تَتَّضِحُ ضَرُورَةُ العِنَايَةِ بِدِرَاسَةِ العَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ ومَا يُضَادُّهَا.

محمدعبداللطيف
2019-12-22, 01:07 PM
قال الشيخ صالح آل الشيخ

[قال: (فإن قال: أنا لا أشرك بالله شيئا حاشا وكلا، ولكن الالتجاء إلى الصالحين ليس بشرك)] فهذا الكلام الذي سمعناه جواب على شبهة أدلى بها طائفة أخرى، وهذه الشُبه التي ذكرها الشيخ -رحمه الله- تجد فيها تكريراً؛ وذلك لأنه أورد ما أورده الناس من الشبه على التوحيد، وقد يكون ما قاله فلان يدخل بعضه فيما قاله الآخر؛ ولهذا ترى أن فيها نوع تكرير ونوع إعادة؛ لأن الشبه متداخلة.
وهذا يدل على أن القوم يتواردون على شُبهٍ أصلها واحد،فإذا أحكم طالب العلم المقدمات التي ذكرناها في أول هذا الشرح وجواب الشبه الثلاث التي هي أكبر ما عندهم، سهل عليه الجواب عن الشبه الأخرى، مهما اختلفت وتلونت.

وهذا الذي ذُكر هنا جواب الشبهة التي يمكن أن تُعنْون بقولهم:الالتجاء إلى الصالحين ليس بشرك، وأن الشرك مخصوص بعبادة الأصنام.
وفي الحقيقة أن الذين عبدوا غير الله -جل وعلا- لا يعرفون معنى الشرك، كجهلهم بعلوم الشريعة وبأصول الدين، فإنهم لا يعرفون معنى العبادة ولا يعلمون معنى الشرك، ولا يعلمون معنى التوحيد؛ لهذا قد ينكرون شيئاً وهم واقعون فيه.
وقد ذكر الشوكاني -رحمه الله- في رسالته (الدر النضيد): أن عباد القبور عندهم تغيير للأسماء، فيسمونها بغير اسمها، فيسمون الشرك توسلاً، ويسمون طلب الشفاعة من الأولياء توسلاً، ويسمون إنزال الحاجات بالأولياء والأنبياء التجاءً إلى الصالحين؛ لأنهم عند الله -جل وعلا- لهم المقامات العالية وأشباه ذلك.


قال الشوكاني: (وهذا لا يغير من الحقائق شيئاً، إذ العبرة بالحقائق لا بالأسماء، العبرة بالمسميات لا بالأسماء) فلو سميت الخمر ماء -هذه تتمة من عندي- فلو سميت الخمر ماءً فإنها خمر، ولو سمي سرقة الأموال هدايا فإنه سرقة، فالأسماء لا تغير في الأحكام الشرعية، إذ الأحكام مرتبطة بحقائق الأمور، فإذا وجدت حقيقة الأمر الذي حرمه الشرع، أو أمر به الشرع، فإنه هو المقصود بالتحريم، وهو المقصود بالأمر، وإن اختلفت الأسماء، إذ لا عبرة باختلاف الأسماء.


هنا تفريعاً على ذلك،قال الإمام رحمه الله تعالى ورفع درجته في الجنة: (فإن قال - يعني: المدلي بالشبهة - أنا لا أشرك بالله شيئاً، حاشا وكلا) وهذا صنيع كل من يعبد غير الله، يعبد الأولياء والأنبياء ويتقرب إليهم، أو يتقرب إلى المشاهد، أو إلى الجن، أو إلى ما شابه ذلك من أنواع المعبودات من دون الله، كلهم يقولون: نحن لا نشرك؛ إذ لا أحد يقر على نفسه بالشرك والكفر.


قال: (فإن قال - يعني: بعد ما ذكرنا من مسألة الشفاعة أو من أدلى بهذه الشبهة - أنا لا أشرك بالله شيئاً حاشا وكلا) يعني: أنا لست من المشركين، وعندي إباء أن أكون من أهل الشرك، أو أن أفعل الشرك، فحاشا وكلا أن أشرك بالله شيئاً، لِمَ؟


قال: (لأن الالتجاء إلى الصالحين ليس بشرك).


إذاً: رجع أمر هذه الطائفة إلى أنهم يتبرؤون من شيء يفعلونه،وإذا كان هذا المُتبَرأُ منه من أصول الدين، من التوحيد، فإن فعله يدل على أنهم لم يعلموا معنى الشرك ومعنى التوحيد، فلا بد لهم إذاً من إقامة الحجة؛ لأنه ينفي عن نفسه أن يكون من المشركين، ويكره الشرك، ويكره الكفر، لكنه واقع فيه، فلابد من البيان له والتعليم وإقامة الحجة عليه في أن ما يفعله داخل فيما نفاه عن نفسه.


قال رحمه الله: (فقل له) هذا ابتداء جواب الشبهة.(إذا كنت تقر أن الله حرم الشرك أعظم من الزنى، وتقرُّ أن الله لا يغفره) إلى آخر الكلام.


هذا الجواب للشبهة مبني على مراتب:
الأولى: هذه المرتبة التي سمعت، وهي: أن يطلب منه تفسير الشرك، ما هو هذا الشرك الذي لا يغفره الله وأنت تنفيه عن نفسك؟ هات معنى الشرك.
المرتبة الثانية: أن يفسِّر الشرك بعبادة الأصنام، فيُسأل ما معنى عبادة الأصنام؟
الثالثة: هل الشرك مخصوص بعبادة الأصنام، أم لا؟
فهذه ثلاث مراتب لجواب هذا الإشكال، فمن قال: إن التوسل بالصالحين ليس بشرك، يعني التوسل الشركي الذي يفعله عباد القبور والخرافيون، ويعدونه توسلاً، وهو دعاء غير الله -جل وعلا- وطلب الشفاعة من الأموات، هذا مبني على هذه الثلاث مراتب، فنأتيها واحدة واحدة.


فالأولى: قال الشيخ رحمه الله: (إذا كنت تقر أن الله حرم الشرك أعظم من الزنى، وتقر أن الله لا يغفره، فما هذا الأمر الذي عظمه الله وذكر أنه لا يغفره؟ فإنه لا يدري) هذا تنزيل لطائفة، إذا قلت له: ما هذا الشرك الذي حرمه الله وعظمه، وبين أنه لا يغفره، وأنه أعظم من الزنى ومن شرب الخمر، ومن إتيان المحارم، إلى غير ذلك؟.
فطائفة منهم يقولون:لا ندري، ما هذا الشرك؟ لا نعلم ما هذا الشرك!
فإذاً: هذه الطائفة يقال لها: (كيف تبرئ نفسك من الشرك وأنت لا تعرفه؟) إذا كنت لا تعرف حقيقة الشرك، فكيف تقول: أنا لا أشرك بالله شيئاً؟
ومعلوم أن المشركين الذين بعث فيهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينفون عن أنفسهم الكفر، وينفون عن أنفسهم الشرك بالله جل وعلا؛ لأن هذا الشريك الذي دعوه مع الله -جل وعلا- هو لله جل وعلا، فنفوا أن يكونوا مشركين على الحقيقة، مثل ما قال قائلهم وهو يلبي: (إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك).
فإذا كان الشريك لله، فإن سؤاله لا يعد سؤالاً لأحد غير الله جل وعلا، مثل اعتقاد النصارى، والاعتقاد في الملائكة، أي: أنها بنات الله، وكذلك الاعتقاد في الأصنام والأوثان.
فهم إذاً لا أحد يقرّ على نفسه بأنه مشرك مطلقاً، إذ يلزم من ذلك أن الشرك المطلق يعني أنه يقر بأن ثمة مصرفاً للأمور غير الرب جل وعلا؛ والمشركون مقرّون بأن المصرف للأمور هو الله -جل وعلا- وحده، إذ يلزم لازماً عقلياً واضحاً وأيضاً شرعياً؛ أن من اعتقد بأن مع الله إلهاً آخر يلزمه أن يعتقد أنه رب، وأنه يعطي ويمنع، وأنه هو الذي يدبر الأمر، وهو الذي يسخر السحاب وينزل المطر.
ولهذا تجد أن في القرآن كثيراً ما يُحتج على المشركين بتوحيد الربوبية على توحيد الإلهية،
فهم خروجاً من هذا الإلزام، قالوا: إن هذه الآلهة لله -جل وعلا- فهو يملكها وهي تحت تصرفه، وهم ينقلون ما يحتاجه خلقه إلى الله جل وعلا، مثل ما فعل غلاة المتصوفة، حيث قالوا: إن العالم له أقطاب أربعة، فوض الله إليهم رفع حاجات أهل الأرض، فالقطب الفلاني في مصر، والقطب الثاني في الهند، والقطب الثالث في الشمال، والقطب الرابع في الجنوب، يعني: أن هؤلاء فوض الله إليهم أمر رفع الحاجات.
فنخلص من ذلك: أن من وقع في الشرك فإنه قد يقول: أنا لم أقع في الشرك، وحاشاي أن أشرك، فإذا طلب منه تفسير الشرك لم يعرف تفسيره، وهذه مرتبة العوام، فهؤلاء جوابهم أن يقال: كيف تبرئ نفسك من شيء وأنت لا تعرفه؟ (كيف تبرئ نفسك من الشرك وأنت لا تعرفه؟ كيف يحرم الله عليك هذا ويذكر أنه لا يغفره ولا تسأل عنه ولا تعرفه؟).
لا شك أن هذا يدل على عدم رغبة في الخير، بل يدل على عدم معرفة وعلم بما خلق الله -جل وعلا- العباد له، فإنه إذا علم أن الشرك محرم، وأنه لا يغفره الله، وأن أهله مخلدون في النار إن لم يتوبوا، فكيف يقول: أنا لا أعرف هذا الشرك؟


فهذا إعراض عن الدين؛ كما قال الله جل وعلا: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ}


فإذاً:كيف لا تسأل عنه؟ كيف لا تتعرفه؟ (أتظن أن الله يحرمه ولا يبينه لنا؟) وهذا في الحقيقة جواب يصلح للعوام؛ لأن العامي لا يصلح له ما يصلح لمن يجادل ببعض الشبه العلمية.
فهذا يقول:أنا لا أشرك، فتسأله عن الشرك، فيقول:أنا لا أعرفه.
فيقال له:كيف تنفي عن نفسك شيئاً وأنت لا تعرفه؟.
فهذا يكفي في جواب هذا العامي أن يجعلك معلماً له، وكما ذكرنا لك في السابق: إذا استطعت في مجادلة عوام المشركين، في أن تجعلهم في مرتبة أدنى منك، فتكون معلماً بحسن عبارة، في أن تجره إلى أن يعترف على نفسه بالجهل، ثم تنتقل من مناظر إلى معلم، فهذا من أعظم الوسائل للإقناع ولإحداث الخير وإقامة الحجة وبيان المحجة.
فلا يُنزل العامي منزلة العالم،لا ينزل من هو خال من الحجة أصلاً، جاهل، منزلة من هو عنده شبه، فإذا عاملت هذا معاملة هذا فإنك تخسر، بل ينبغي أن تسلك ما ذكره الشيخ -رحمه الله- هنا في أن تطلب منه تفسير الشيء، فإذا كان عنده علم ناقِشه برد تفسيره، وإذا لم يكن عنده علم؛ فتقول له: كيف تكون على هذه الحال، تنفي عن نفسك شيئاً وأنت واقع فيه، وأنت جاهل بمعناه؟
فإذاً:تنتقل معه إلى التعليم، لهذا تقول له كما قال الشيخ رحمه الله: (أتظن أن الله يحرمه ولا يبينه لنا؟)
فلا شك أنه سيقول: لا، بل إن الله إذا حرم علينا هذا فهو سيبينه لنا، فتبدأ معه في بيان التوحيد، ومعنى (لا إله إلا الله) والشرك، والكفر بالطاغوت، والعبادة، إلى غير ذلك.

محمدعبداللطيف
2019-12-22, 01:08 PM
كشف الشبهة الثامنة وهي قولهم: الشرك عبادة الأصنام ونحن لا نعبد الأصنام
قال الامام محمد بن عبد الوهاب فى رسالة كشف الشبهات


فَإِنْ قَالَ: الشِّرْكُ عِبَادَةُ الأَصْنَامِ، وَنَحْنُ لا نَعْبُدُ الأَصْنَامَ.
فَقُلْ لَهُ: ما مَعْنَى عِبَادَةِ الأَصْنَامِ؟
أَتَظُنُّ أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ تِلْكَ الأَحْجَارَ وَالأَخْشَابَ والأشجارَ تَخْلُقُ وَتَرْزُقُ وَتُدَبِّرُ أَمْرَ مَنْ دَعَاها؟ فَهَذَا يُكَذِّبُهُ القُرْآنُ.
فَإِنْ قالَ: إنهم يَقْصِدونَ خَشَبةً، أَوْ حَجَراً، أَوْ بُنْيَةً على قَبْرٍ أَوْ غَيْرِهِ، يَدْعُونَ ذَلِكَ وَيَذْبَحُونَ لَهُ يَقُولُونَ: إِنَّهُ يُقَرِّبُنا إِلى اللهِ زُلْفَى، وَيَدْفَعُ عَنَّا اللهُ بِبَرَكَتِهِ ويُعْطِينا بِبَرَكَتِهِ.
فَقُلْ: صَدَقْتَ، وَهَذا هُوَ فِعْلُكُمْ عِنْدَ الأَحْجَارِ والبِنَا الَّذِي عَلى القُبُورِ وَغَيْرِها، فَهَذا أَقَرَّ أَنَّ فِعْلَهُم هَذَا هُوَ عِبَادَةُ الأَصْنَامِ، وهو المطْلُوبُ.
وأَيْضاً: قَوْلُكَ: الشِّرْكُ عِبَادَةُ الأَصْنَامِ، هَلْ مُرَادُكَ أَنَّ الشِّرْكَ مخصُوصٌ بِهَذا، وَأَنَّ الاعْتِمَادَ عَلى الصَّالِحِينَ وَدُعَاءَهُمْ لا يَدْخُلُ في ذَلِكَ؟
فَهَذا يَرُدُّهُ ما ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى في كِتَابِهِ مِنْ كُفْرِ مَنْ تَعَلَّقَ على الملائِكَةِ أَوْ عِيسَى أَوِ الصَّالِحينَ.
فَلابُدَّ أَنْ يُقِرَّ لَكَ أَنَّ مَنْ أَشْرَكَ فِي عِبَادَةِ اللهِ أَحَداً مِن الصَّالِحِينَ فهُوَ الشِّرْكُ المَذْكُورُ في القُرْآنِ، وَهَذَا هُوَ المَطْلُوبُ.

وَسِرُّ المَسْأَلَةِ:أن َهُ إِذا قالَ: أَنَا لا أُشْرِكُ بِاللهِ شيئاً.
فَقُلْ لَهُ:وَمَا الشِّرْكُ بِاللهِ؟ فَسِّرْهُ لِي.
فَإِنْ قالَ: هُوَ عِبَادَةُ الأَصْنَامِ.
فَقُلْ له: ومَا عِبَادَةُ الأَصْنَامِ؟ فَسِّرْهَا لِي.
وإِنْ قَال: أَنا لا أَعْبُدُ إِلاَّ اللهَ.
فَقُلْ: ما مَعْنَى عِبَادَةِ اللهِ وحده لا شريك له؟ فَسِّرْهَا لِي.
- فَإِنْ فَسَّرَها بِمَا بَيَّنْتَهُ فَهُوَ المَطْلُوبُ.
- وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ فَكَيْفَ يَدَّعِي شَيْئاً وَهُوَ لاَ يَعْرِفُهُ؟
-وَإِنْ فَسَّرَها بِغَيْرِ مَعْنَاهَا بَيَّنْتَ لَهُ الآيَاتِ الوَاضِحَاتِ في مَعْنَى الشِّركِ بِاللهِ وَعِبادَةِ الأَوْثانِ أَنَّهُ الَّذِي يَفْعَلُونَ في هذا الزَّمَانِ بِعَيْنِهِ، وَأَنَّ عِبَادَةَ اللهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ هِيَ الَّتِي يُنْكِرُونَ عَلَيْنَا وَيصِيحُونَ منه كَمَا صَاحَ إِخْوَانُهُم حَيْثُ قَالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}[ص: 5].

محمدعبداللطيف
2019-12-22, 01:12 PM
الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ
(فَإِنْ قَالَ: الشِّرْكُ عِبَادَةُ الأَصْنَامِ وَنَحْنُ لاَ نَعْبُدُ الأَصْنَامَ) فَإِن انْتَقَلَ إِلَى هَذِه الشُّبْهَةِ؛ زَعَمَ أَنَّ الشِّرْكَ عِبَادَةُ الأَصْنَامِ بِخُصُوصِهِ، وهو في زَعْمِهِ أَنَّه لاَ يَعْبُدُ الأَصْنَامَ بل وَلِيٌّ، فَجَاوِبْهُ بالاسْتِفْسَارِ والتَّحَدِّي فبه يَنْدَحِضُ وتَنْكَشِفُ شُبْهَتُهُ، وَيَظْهَرُ جَهْلُهُ وضَلاَلُهُ، وَأَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ مِمَّا عَلَيْهِ المُرْسَلُونَ وَمَا هو دِينُ المُشْرِكِينَ.(ف َقُلْ لَهُ: مَا مَعْنَى عِبَادَةِ الأصْنَامِ؟) الَّتِي حَصَرْتَ الشِّرْكَ فِيهَا (أَتَظُنُّ أَنَّهُم يَعْتَقِدُونَ أَنَّ تِلْكَ الأَخْشَابَ والأَحْجَارَ تَخْلُقُ وتَرْزُقُ وَتُدَبِّرُ أَمْرَ مَنْ دَعَاهَا؟)
فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ (فَهَذَا يُكَذِّبُهُ القُرْآنُ) وَيَرُدُّهُ؛ فَإِنَّ القُرْآنَ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُم لاَ يَعْتَقِدُونَ فيها ذلك أصلاً.(وَإِنْ قَالَ: هو مَنْ قَصَدَ خَشَبَةً أو حَجَرًا أَوْ بِنْيَةً عَلَى قَبْرٍ أو غَيْرِهِ، يَدْعُونَ ذَلِكَ ويَذْبَحُونَ لَهُ، ويَقُولُونَ: إِنَّهُ يُقَرِّبُنَا إِلَى اللهِ زُلْفَى، وَيَدْفَعُ اللهُ عَنَّا بِبَرَكَتِهِ أو يُعْطِينَا بِبَرَكَتِهِ) فَهَذَا تَفْسِيرٌ لعِبَادَةِ الأَصْنَامِ صَحِيحٌ. (فَقُلْ: صَدَقْتَ و) لَكِنْ (هَذَا هو) بِعَيْنِهِ (فِعْلُكُمْ) الَّذِي وَقَعْتُمْ فيه (عِنْدَ الأَحْجَارِ والأَبْنِيَةِ الَّتِي عَلَى القُبُورِ وَغَيْرِهَا)، وهَذَا المُطَابِقُ هو حَقِيقَةُ تَفْسِيرِهَا. (فَهَذَا أَقَرَّ أَنَّ فِعْلَهُم هَذَا هو عِبَادَةُ الأَصْنَامِ، فَهُو المَطْلُوبُ) المَطْلُوبُ إِقْرَارُهُ بالْحَقِّ وكَشْفُ شُبْهَتِهِ، وَقَدِ انْكَشَفَتْ شُبْهَتُهُ وانْدَحَضَتْ حُجَّتُهُ، وَتَبَيَّنَتْ جَهَالَتُهُ وضَلاَلَتُهُ.
وحَاصِلُهُ أَنَّكَ تَقُولُ: هَلْ هُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا تَخْلُقُ؟
- فَإِنْ قَالَ:نَعَمْ، فَبَيِّنْ لَهُم الآيَاتِ الوَارِدَةَ. إلخ.
- وَإِنْ قَالَ:هو مَن قَصَدَ.. إلخ؛ فَقُلْ: نَعَمْ، وهَذَا هو فِعْلُكُم.
فهو إِمَّا أَنْ يُفَسِّرَهُ بِبَاطِلٍ؛ فَيُبَيَّنَ له باطِلَهُ، وإِمَّا أَنْ يُقِرَّ أَنَّ فِعْلَهُم مُوَافِقٌ له.


(وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا) هَذَا جَوَابٌ ثَانٍ لَهُ: (قَوْلُكَ: الشِّرْكُ عِبَادَةُ الأَصْنَامِ، هَلْ مُرَادُكَ أَنَّ الشِّرْكَ مَخْصُوصٌ بِهَذا؟) مَحْصُورٌ دونَ عِبَادَةِ مَن سِوَاهُم (وَأَنَّ الاعْتِمَادَ عَلَى الصَّالِحِينَ) والأَنْبِياءِ والأَوْلِيَاءِ والمَلاَئِكَةِ (ودَعَاءَهُم لاَ يَدْخُلُ في ذَلِكَ) لاَ يَكُونُ شِرْكًا (فهَذَا) أَمْرٌ بَاطِلٌ (يَرُدُّهُ مَا ذَكَرَهُ اللهُ في كِتَابِهِ) ويُبْطِلُهُ (مِن كُفْرِ مَن تَعَلَّقَ عَلَى المَلاَئِكَةِ أو عِيسَى أو الصَّالِحِينَ) فَإِنَّ القُرْآنَ العَزِيزَ بَيَّنَ كُفْرَ مَن تَعَلَّقَ عَلَى هَؤُلاَءِ، وكُفْرَ مَن تَعَلَّقَ عَلَى هَؤُلاَءِ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَنَّ عِبَادَةَ الأَصْنَامَ قِسْمٌ مِن أَقْسَامِ الشِّرْكِ (فَلاَبُدَّ) حِينَئذٍ (أَنْ يُقِرَّ لَكَ أَنَّ مَن أَشْرَكَ في عِبَادَةِ اللهِ أَحَدًا مِن الصَّالِحِينَ فَهَذَا هو الشِّرْكُ المَذْكُورُ في القُرْآنِ، وَهَذَا هو المَطْلُوبُ) وَتَبَيَّنَ أَنَّ مَن عَبَدَ صَنَمًا أو وَثَنًا أو غَيْرَ ذَلِكَ فهو مُشْرِكٌ، وبِهَذَا تَنْكَشِفُ شُبْهَتُهُ وتَنْدَحِضُ حُجَّتُهُ.



(وَسِرُّ المَسْأَلَةِ) يَعْنِي: خَالِصَ وَحَاصِلَ الأَجْوِبَةِ عَن الشُّبَهِ الثَّلاَثِ: ذَكَرَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ أَوَّلاً جَوَابَ الشُّبَهِ؛ خَصَّ كُلَّ شُبْهَةٍ بِجَوَابٍ وبَعْضَهَا بِجَوَابَيْنِ، ثُمَّ ذَكَرَ جَوَابَهَا هنا عَلَى سَبِيلِ اللَّفِّ بَعْدَ النَّشْرِ.



(أَنَّهُ إِذَا قَالَ: أَنَا لاَ أُشْرِكَ باللهِ، فَقُلْ لَهُ: مَا مَعْنَى الشِّرْكِ باللهِ؟ فَسِّرْهُ لي. فَإِنْ قَالَ: هو عِبَادَةُ الأَصْنَامِ، فَقُلْ: وَمَا مَعْنَى عِبَادَةِ الأَصْنَامِ؟ فَسِّرْهَا لِي. فَإِنْ قَالَ: أَنَا لاَ أَعْبُدُ إِلاَّ اللهَ وَحْدَهُ، فَقُلْ: مَا مَعْنَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ؟ فَسِّرْهَا لِي. فَإِنْ فَسَّرَهَا بِمَا بَيَّنَهُ القُرْآنُ فهو المَطْلُوبُ، وإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ فَكَيْفَ يَدَّعِي شَيْئًا وهو لاَ يَعْرِفُهُ وإِنْ فَسَّرَ ذَلِكَ بِغَيْرِ مَعْنَاهُ بَيَّنْتَ لَهُ الآيَاتِ الوَاضِحَاتِ في مَعْنَى الشِّرْكِ باللهِ وعِبَادَةِ الأَوْثَانِ أَنَّهُ الذي يَفْعَلُونَه في هَذَا الزَّمَانِ بِعَيْنِهِ).
يَعْنِي: وَحَاصِلُ الجَوَابِ عَنِ الشُّبَهِ الثَّلاَثِ أَنَّكَ تَتَحَدَّاهُ؛ فَلَهُ ثَلاَثَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَتَوَقَّفَ، فَقُلْ لَهُ: أَنْتَ لاَ تَعْرِفُ الحَقَّ مِن البَاطِلِ، فَإِذَا حَادَ وَلاَ دَرَى وَوَقَفَ؛ فهو كَافٍ في ردِّ شُبَهِهِ، وحِينَئذٍ كَفَانَا مَؤُونَةَ جَوَابِهِ؛ فَإِنَّ هَذَا حَالُ كَثِيرٍ مِمَّنْ يَعْبُدُ الأَصْنَامَ؛ لاَ يَدْرِي عن الشِّرْكِ وَلاَ أَهْلِهِ، وَلاَ دَرَى عن عِبَادَةِ الأَصْنَامِ، وَلاَ مَيَّزَ عِبَادَةَ الأَصْنَامِ من غَيْرِهَا.
2-وَإِنْ فَسَّرَهَا بِمَا فَسَّرَهُ القُرْآنُ، فَهَذَا أَيْضًا كَفَانَا مَؤُونَتَهُ وَهَدَمَ أَصْلَهُ الَّذِي بَنَى عَلَيْهِ.
3-وإِنْ فَسَّرَهُ بالبَاطِلِ المُخَالِفِ لتَفْسِيرِ القُرْآنِ بَيَّنْتَ لَهُ الآيَاتِ الوَاضِحَاتِ في مَعْنَى الشِّرْكِ باللهِ وعِبَادَةِ الأَوْثَانِ.
فالحَاصِلُ أَنَّهُ يَتَحَصَّلُ مِنْهُ تِسْعُ صُوَرٍ مِن ضَرْبِ ثَلاَثِ الشُّبَهِ في جَوَابِهِ.(وَأَن َّ عِبَادَةَ اللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ) وهو تَوْحِيدُه (هي الَّتِي يُنْكِرُونَ عَلَيْنَا وَيَصِيحُونَ فيه كَمَا صَاحَ إِخْوَانُهُم حَيْثُ قَالُوا) في إِنْكَارِهِم التَّوْحِيدَ عَلَى الرَّسُولِ لَمَّا دَعَاهُم: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَـهًا وَاحِدًا إِنَّ هَـذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} اسْتَنْكَرُوا أَنْ يَجْعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا.
وبه تَعْرِفُ أَنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إِلَى الإِسْلاَمِ مِن هذه الأُمَّةِ لَيْسُوا عَلَى الدِّينِ، إِنَّمَا مَعَهُم اسْمُه فَقَطْ، وَلاَ يَعْرِفُونَ مَا هو شِرْكُ الأَوَّلِينَ.
فَلَوْ عَرَفَ أَحَدُهُم شِرْكَ الأَوَّلِينَ وَشِرْكَ أَهْلِ هَذَا الزَّمَانِ لَوَجَدَهُ هو، بل مُشْرِكُو هَذِه الأَزْمِنَةِ أَعْظَمُ مِن شَرْكِ أولئك بكَثِيرٍ؛ لِمَا يَأْتِيكَ مِن كَلاَمِ المُصَنِّفِ.
شِرْكُ الأَوَّلِينَ لَيْسَ أَكْثَرَ مِن اعْتِقَادِهِم أَنَّ أَحَدَهُم يَطْلُبُ مِمَّنْ يَعْتَقِدُ فيه أَنْ يَطْلُبَ لَهُ مِن اللهِ، وَأَنَّهُ بَابُ وَسَائِطِهِم وَحَوَائِجِهِم إِلَى اللهِ كَمَا قَالَ اللهُ عَنْهُم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى}.---------------------------- قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين
يَعْنِي: إذا قالَ لكَ المُشرِكُ المُشَبِّهُ: الشِّركُ عبادةُ الأصنامِ، ونحنُ لا نَعْبُدُ الأصنامَ، فأَجِبْهُ بجوابَيْنِ:

الأوَّلُ:قُلْ لهُ: ما هيَ عبادةُ الأصنامِ؟ أتَظُنُّ أنَّ مَنْ عبَدَها يَعْتَقِدُ أنَّها تَخْلُقُ وتَرْزُقُ وتُدَبِّرُ أمْرَ مَنْ دَعاها؟ فإنْ زَعَمَ ذلكَ فقدْ كَذَّبَ القرآنَ.

قولُهُ: (وإنْ قالَ...) إلخ، هذا مُقابِلُ قَوْلِنَا: (إنْ زَعَمَ ذلكَ فقدْ كَذَّبَ القُرآنَ) يَعْنِي: إنْ قالَ: عِبادةُ الأصنامِ أنْ يَقْصِدَ خَشَبةً أوْ حَجَرًا أوْ بِنْيَةً على قبْرٍ أوْ غيرِهِ، يَدْعونَ ذلكَ، ويَذْبَحونَ لهُ، ويَقولونَ: إنَّهُ يُقَرِّبُنا إلى اللهِ زُلْفَى.
قُلْنا: صَدَقْتَ، وهذا هوَ فِعْلُكَ سَواءً بسَواءٍ، وعليهِ فتَكونُ مُشرِكًا بإقْرارِكَ على نفْسِكَ، وهذا هوَ المَطْلوبُ.


قولُهُ: (ويُقالُ لهُ أيضًا: قولُكَ: الشِّركُ عبادةُ الأصنامِ) إلى قولِهِ: (وهذا هوَ المُطلوبُ) هذا هوَ الجوابُ الثَّاني؛ أنْ يُقالَ: هلْ مُرادُكَ أنَّ الشِّركَ مَخْصوصٌ بهذا، وأنَّ الاعْتِمَادَ على الصَّالحينَ ودُعاءَ الصَّالحينَ لا يَدْخُلُ في ذلكَ؟
فهذا يَرُدُّهُ القرآنُ؛فلا بُدَّ أنْ يُقِرَّ لكَ بأنَّ مَنْ أَشْرَكَ في عبادةِ أحدٍ مِن الصَّالحينَ فهوَ الشِّركُ المَذْكورُ في القرآنِ، وهذا هوَ المطلوبُ.

قولُهُ: (وسِرُّ المسألةِ) يَعْنِي: لُبُّهَا، أنَّهُ إذا قالَ: أنا لا أُشْرِكُ باللهِ؛ فاسْأَلْهُ: ما معْنى الشِّركِ؟ فإنْ قالَ: هوَ عبادةُ الأصنامِ؛ فاسْأَلْهُ: ما معنى عبادةِ الأصنامِ؟ ثمَّ جَادِلْهُ على ما سبَقَ بَيانُهُ.



قولُهُ: (فإنْ قالَ...) إلخ، يَعْنِي: إذا ادَّعَى هذا المشركُ أنَّهُ لا يَعْبُدُ إلاَّ اللهَ وحْدَهُ فاسْأَلْهُ: ما معنى عبادةِ اللهِ وحْدَهُ؟
وحينَئِذٍ لا يَخْلو مِنْ ثلاثِ حالاتٍ:
الأولى: أنْ يُفَسِّرَها بما دَلَّ عليهِ القرآنُ؛ فهذا هوَ المطلوبُ والمقبولُ، وبهِ يَتَبَيَّنُ أنَّهُ لم يُحَقِّقْ عبادةَ اللهِ وحْدَهُ حيثُ أَشْرَكَ بهِ.
الثَّانيةُ: أنْ لا يَعْرِفَ معناها، فيُقالُ: كيفَ تَدَّعِي شَيئًا وأنتَ لا تَعْرِفُهُ؟ أمْ كيفَ تَحْكُمُ بهِ لنفسِكَ، والحُكْمُ على الشَّيءِ فَرعٌ عنْ تَصَوُّرِهِ؟
الثَّالثةُ: أن يُفَسِّرَ عبادةَ اللهِ بغيرِ معناها، وحينَئذٍ يُبَيَّنُ لهُ خَطَؤُهُ بِبَيانِ المعنى الشَّرعيِّ للشِّركِ وعبادةِ الأوثانِ، وأنَّهُ الَّذي يَفْعَلُونَهُ بعينِهِ ويَدَّعُونَ أنَّهم مُوَحِّدونَ غيرُ مُشرِكِينَ(1).



يَعْنِي: ويُبَيَّنُ لهُ أيضًا: أنَّ عبادةَ اللهِ وحْدَهُ هيَ الَّتي يُنْكِرُونَها علينا، ويَصْرُخونَ بها علينا كما فَعَلَ ذلكَ أَسْلافُهم حينَ قالوا للرَّسولِ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلأَُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ}------------------------- قال الشيخ صالح الفوزان
يُبَيِّنُ الشَّيْخُ -رَحِمَهُ اللهُ- أَنَّ الشِّرْكَ لَيْسَ مَقْصُورًا عَلَى عِبَادَةِ الأَصْنَامِ؛ لأَِنَّ المُشْرِكِينَ الأَوَّلِينَ مِنْهُم مَن يَعْبُدُ المَلاَئِكَةَ، والمَلاَئِكَةُ أَصْلَحُ الصَّالِحِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
{بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ (26) لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}.
ومنهم مَنْ يَعْبُدُ الصَّالِحِينَ،و ذَلِكَ في قَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ}قِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَنْ يَعْبُدُ عُزَيْرًا والمَسِيحَ مِن الأَنْبِيَاءِ.
وقِيلَ: نَزَلَتْ في قَوْمٍ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ فَأَسْلَمَ الجِنُّ، وَلَمْ يَعْلَمْ مَن يَعْبُدُهُم مِن الإِنْسِ أنَّهُم أَسْلَمُوا.


والمَقْصُودُ مِن ذَلِكَ أنَّ اللهَ ذَكَرَ أنَّ المُشْرِكِينَ الأَوَّلِينَ منهم مَن يَعْبُدُ الأَصْنَامَ والأَشْجَارَ والأَحْجَارَ، ومنهم مَن يَعْبُدُ الأَنْبِيَاءَ والصَّالِحِينَ، وسَوَّى بَيْنَهُم في الحُكْمِ، وحَكَمَ عَلَيْهِم بالكُفْرِ والشِّرْكِ.
وأَنْتَ أيُّها المُشَبِّهُ تُرِيدُ أَنْ تُفَرِّقَ بَيْنَ مَن عَبَدَ الأَصْنَامَ ومَن عَبَدَ الصَّالِحِينَ، فَتُفَرِّقَ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللهُ، وهَذَا مِن المُحَادَّةِ للهِ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى.


هَذَا وَجْهُ رَدِّ الشُّبْهَةِ،حَي ْثُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ شِرْكِ الأَوَّلِينَ وشِرْكِ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ يَدَّعُونَ الإِسْلاَمَ وهُمْ يَعْبُدُونَ القُبُورَ والأَوْلِيَاءَ والصَّالِحِينَ؛ لأَِنَّهُم لاَ يَعْرِفُونَ مَعْنَى العِبَادَةِ، ومَعْنَى الشِّرْكِ، فَصَارُوا يَخْلِطُونَ ويَهْرِفُونَ بِمَا لاَ يَعْرِفُونَ، وهَذِه نَتِيجَةُ الجَهْلِ بعَقِيدَةِ التَّوْحِيدِ الصَّحِيحَةِ، والجَهْلِ بِمَا يُضَادُّهَا مِن الشِّرْكِ، فإنَّ مَن لاَ يَعْرِفِ الشَّيْءَ يَقَعْ فيه وهو لاَ يَدْرِي.
وَمِنْ هنا تَتَّضِحُ ضَرُورَةُ العِنَايَةِ بِدِرَاسَةِ العَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ ومَا يُضَادُّهَا.

محمدعبداللطيف
2019-12-22, 01:14 PM
قال الشيخ صالح آل الشيخ
[قال: (فإن قال: أنا لا أشرك بالله شيئا حاشا وكلا، ولكن الالتجاء إلى الصالحين ليس بشرك)] فهذا الكلام الذي سمعناه جواب على شبهة أدلى بها طائفة أخرى، وهذه الشُبه التي ذكرها الشيخ -رحمه الله- تجد فيها تكريراً؛ وذلك لأنه أورد ما أورده الناس من الشبه على التوحيد، وقد يكون ما قاله فلان يدخل بعضه فيما قاله الآخر؛ ولهذا ترى أن فيها نوع تكرير ونوع إعادة؛ لأن الشبه متداخلة.
وهذا يدل على أن القوم يتواردون على شُبهٍ أصلها واحد،فإذا أحكم طالب العلم المقدمات التي ذكرناها في أول هذا الشرح وجواب الشبه الثلاث التي هي أكبر ما عندهم، سهل عليه الجواب عن الشبه الأخرى، مهما اختلفت وتلونت.

وهذا الذي ذُكر هنا جواب الشبهة التي يمكن أن تُعنْون بقولهم:الالتجاء إلى الصالحين ليس بشرك، وأن الشرك مخصوص بعبادة الأصنام.
وفي الحقيقة أن الذين عبدوا غير الله -جل وعلا- لا يعرفون معنى الشرك، كجهلهم بعلوم الشريعة وبأصول الدين، فإنهم لا يعرفون معنى العبادة ولا يعلمون معنى الشرك، ولا يعلمون معنى التوحيد؛ لهذا قد ينكرون شيئاً وهم واقعون فيه.
وقد ذكر الشوكاني -رحمه الله- في رسالته (الدر النضيد): أن عباد القبور عندهم تغيير للأسماء، فيسمونها بغير اسمها، فيسمون الشرك توسلاً، ويسمون طلب الشفاعة من الأولياء توسلاً، ويسمون إنزال الحاجات بالأولياء والأنبياء التجاءً إلى الصالحين؛ لأنهم عند الله -جل وعلا- لهم المقامات العالية وأشباه ذلك.
قال الشوكاني: (وهذا لا يغير من الحقائق شيئاً، إذ العبرة بالحقائق لا بالأسماء، العبرة بالمسميات لا بالأسماء) فلو سميت الخمر ماء -هذه تتمة من عندي- فلو سميت الخمر ماءً فإنها خمر، ولو سمي سرقة الأموال هدايا فإنه سرقة، فالأسماء لا تغير في الأحكام الشرعية، إذ الأحكام مرتبطة بحقائق الأمور، فإذا وجدت حقيقة الأمر الذي حرمه الشرع، أو أمر به الشرع، فإنه هو المقصود بالتحريم، وهو المقصود بالأمر، وإن اختلفت الأسماء، إذ لا عبرة باختلاف الأسماء.
هنا تفريعاً على ذلك،قال الإمام رحمه الله تعالى ورفع درجته في الجنة: (فإن قال - يعني: المدلي بالشبهة - أنا لا أشرك بالله شيئاً، حاشا وكلا) وهذا صنيع كل من يعبد غير الله، يعبد الأولياء والأنبياء ويتقرب إليهم، أو يتقرب إلى المشاهد، أو إلى الجن، أو إلى ما شابه ذلك من أنواع المعبودات من دون الله، كلهم يقولون: نحن لا نشرك؛ إذ لا أحد يقر على نفسه بالشرك والكفر.
قال: (فإن قال - يعني: بعد ما ذكرنا من مسألة الشفاعة أو من أدلى بهذه الشبهة - أنا لا أشرك بالله شيئاً حاشا وكلا) يعني: أنا لست من المشركين، وعندي إباء أن أكون من أهل الشرك، أو أن أفعل الشرك، فحاشا وكلا أن أشرك بالله شيئاً، لِمَ؟
قال: (لأن الالتجاء إلى الصالحين ليس بشرك).
إذاً: رجع أمر هذه الطائفة إلى أنهم يتبرؤون من شيء يفعلونه،وإذا كان هذا المُتبَرأُ منه من أصول الدين، من التوحيد، فإن فعله يدل على أنهم لم يعلموا معنى الشرك ومعنى التوحيد، فلا بد لهم إذاً من إقامة الحجة؛ لأنه ينفي عن نفسه أن يكون من المشركين، ويكره الشرك، ويكره الكفر، لكنه واقع فيه، فلابد من البيان له والتعليم وإقامة الحجة عليه في أن ما يفعله داخل فيما نفاه عن نفسه.
قال رحمه الله: (فقل له) هذا ابتداء جواب الشبهة.(إذا كنت تقر أن الله حرم الشرك أعظم من الزنى، وتقرُّ أن الله لا يغفره) إلى آخر الكلام. هذا الجواب للشبهة مبني على مراتب:
الأولى: هذه المرتبة التي سمعت، وهي: أن يطلب منه تفسير الشرك، ما هو هذا الشرك الذي لا يغفره الله وأنت تنفيه عن نفسك؟ هات معنى الشرك.
المرتبة الثانية: أن يفسِّر الشرك بعبادة الأصنام، فيُسأل ما معنى عبادة الأصنام؟
الثالثة: هل الشرك مخصوص بعبادة الأصنام، أم لا؟
فهذه ثلاث مراتب لجواب هذا الإشكال، فمن قال: إن التوسل بالصالحين ليس بشرك، يعني التوسل الشركي الذي يفعله عباد القبور والخرافيون، ويعدونه توسلاً، وهو دعاء غير الله -جل وعلا- وطلب الشفاعة من الأموات، هذا مبني على هذه الثلاث مراتب، فنأتيها واحدة واحدة.
فالأولى: قال الشيخ رحمه الله: (إذا كنت تقر أن الله حرم الشرك أعظم من الزنى، وتقر أن الله لا يغفره، فما هذا الأمر الذي عظمه الله وذكر أنه لا يغفره؟ فإنه لا يدري) هذا تنزيل لطائفة، إذا قلت له: ما هذا الشرك الذي حرمه الله وعظمه، وبين أنه لا يغفره، وأنه أعظم من الزنى ومن شرب الخمر، ومن إتيان المحارم، إلى غير ذلك؟.
فطائفة منهم يقولون: لا ندري، ما هذا الشرك؟ لا نعلم ما هذا الشرك!
فإذاً: هذه الطائفة يقال لها: (كيف تبرئ نفسك من الشرك وأنت لا تعرفه؟) إذا كنت لا تعرف حقيقة الشرك، فكيف تقول: أنا لا أشرك بالله شيئاً؟
ومعلوم أن المشركين الذين بعث فيهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينفون عن أنفسهم الكفر، وينفون عن أنفسهم الشرك بالله جل وعلا؛ لأن هذا الشريك الذي دعوه مع الله -جل وعلا- هو لله جل وعلا، فنفوا أن يكونوا مشركين على الحقيقة، مثل ما قال قائلهم وهو يلبي: (إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك).
فإذا كان الشريك لله، فإن سؤاله لا يعد سؤالاً لأحد غير الله جل وعلا، مثل اعتقاد النصارى، والاعتقاد في الملائكة، أي: أنها بنات الله، وكذلك الاعتقاد في الأصنام والأوثان.
فهم إذاً لا أحد يقرّ على نفسه بأنه مشرك مطلقاً، إذ يلزم من ذلك أن الشرك المطلق يعني أنه يقر بأن ثمة مصرفاً للأمور غير الرب جل وعلا؛ والمشركون مقرّون بأن المصرف للأمور هو الله -جل وعلا- وحده، إذ يلزم لازماً عقلياً واضحاً وأيضاً شرعياً؛ أن من اعتقد بأن مع الله إلهاً آخر يلزمه أن يعتقد أنه رب، وأنه يعطي ويمنع، وأنه هو الذي يدبر الأمر، وهو الذي يسخر السحاب وينزل المطر.

ولهذا تجد أن في القرآن كثيراً ما يُحتج على المشركين بتوحيد الربوبية على توحيد الإلهية،
فهم خروجاً من هذا الإلزام، قالوا: إن هذه الآلهة لله -جل وعلا- فهو يملكها وهي تحت تصرفه، وهم ينقلون ما يحتاجه خلقه إلى الله جل وعلا، مثل ما فعل غلاة المتصوفة، حيث قالوا: إن العالم له أقطاب أربعة، فوض الله إليهم رفع حاجات أهل الأرض، فالقطب الفلاني في مصر، والقطب الثاني في الهند، والقطب الثالث في الشمال، والقطب الرابع في الجنوب، يعني: أن هؤلاء فوض الله إليهم أمر رفع الحاجات.
فنخلص من ذلك: أن من وقع في الشرك فإنه قد يقول: أنا لم أقع في الشرك، وحاشاي أن أشرك، فإذا طلب منه تفسير الشرك لم يعرف تفسيره، وهذه مرتبة العوام، فهؤلاء جوابهم أن يقال: كيف تبرئ نفسك من شيء وأنت لا تعرفه؟ (كيف تبرئ نفسك من الشرك وأنت لا تعرفه؟ كيف يحرم الله عليك هذا ويذكر أنه لا يغفره ولا تسأل عنه ولا تعرفه؟).
لا شك أن هذا يدل على عدم رغبة في الخير، بل يدل على عدم معرفة وعلم بما خلق الله -جل وعلا- العباد له، فإنه إذا علم أن الشرك محرم، وأنه لا يغفره الله، وأن أهله مخلدون في النار إن لم يتوبوا، فكيف يقول: أنا لا أعرف هذا الشرك؟
فهذا إعراض عن الدين؛ كما قال الله جل وعلا: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ}
فإذاً:كيف لا تسأل عنه؟ كيف لا تتعرفه؟ (أتظن أن الله يحرمه ولا يبينه لنا؟) وهذا في الحقيقة جواب يصلح للعوام؛ لأن العامي لا يصلح له ما يصلح لمن يجادل ببعض الشبه العلمية.
فهذا يقول:أنا لا أشرك، فتسأله عن الشرك، فيقول:أنا لا أعرفه.
فيقال له:كيف تنفي عن نفسك شيئاً وأنت لا تعرفه؟.
فهذا يكفي في جواب هذا العامي أن يجعلك معلماً له، وكما ذكرنا لك في السابق: إذا استطعت في مجادلة عوام المشركين، في أن تجعلهم في مرتبة أدنى منك، فتكون معلماً بحسن عبارة، في أن تجره إلى أن يعترف على نفسه بالجهل، ثم تنتقل من مناظر إلى معلم، فهذا من أعظم الوسائل للإقناع ولإحداث الخير وإقامة الحجة وبيان المحجة.
فلا يُنزل العامي منزلة العالم،لا ينزل من هو خال من الحجة أصلاً، جاهل، منزلة من هو عنده شبه، فإذا عاملت هذا معاملة هذا فإنك تخسر، بل ينبغي أن تسلك ما ذكره الشيخ -رحمه الله- هنا في أن تطلب منه تفسير الشيء، فإذا كان عنده علم ناقِشه برد تفسيره، وإذا لم يكن عنده علم؛ فتقول له: كيف تكون على هذه الحال، تنفي عن نفسك شيئاً وأنت واقع فيه، وأنت جاهل بمعناه؟
فإذاً:تنتقل معه إلى التعليم، لهذا تقول له كما قال الشيخ رحمه الله: (أتظن أن الله يحرمه ولا يبينه لنا؟)
فلا شك أنه سيقول: لا، بل إن الله إذا حرم علينا هذا فهو سيبينه لنا، فتبدأ معه في بيان التوحيد، ومعنى (لا إله إلا الله) والشرك، والكفر بالطاغوت، والعبادة، إلى غير ذلك.


ثم قال - وهي المرتبة الثانية - في أناس من أهل هذه الشبهة، وهم الذين يقولون نحن لسنا مشركين، وحاشانا من ذلك، والالتجاء إلى الصالحين ليس بشرك، أهل المرتبة الثانية من هذه الطائفة هم الذين يقولون: (الشرك عبادة الأصنام ونحن لا نعبد الأصنام).

تلحظ أن هذه الكلمة مرت معنا في شبهة قبل ذلك، لكنها مرتبة لطائفة ممن يقولون: (الالتجاء إلى الصالحين ليس بشرك) والشيخ -رحمه الله- كرر؛ لأن المقام يحتاج إلى هذا؛ لأن هؤلاء يدخلون تحت مظلة من يقول: (الالتجاء إلى الصالحين ليس بشرك) وأولئك يدخلون تحت مظلة الشفاعة، يعني: طلب الشفاعة من الأموات، وآخرون يدخلون تحت مظلة أخرى.
إذاً: أصول الشبهات مختلفة،وقد يشترك أهلها في الإيراد في طوائف منهم؛ كما يمر معنا هنا.
إذاً: فهؤلاء طائفة ثانية، مرتبة ثانية من أهل هذه الشبهة.

قال الشيخ رحمه الله: (فإن قال: الشرك عبادة الأصنام ونحن لا نعبد الأصنام).
قد يكون لُقن هذه الحجة، فيكون عامياً، وقد يكون عنده شبهة في هذه المسألة، في أن الشرك إنما هو عبادة الأصنام، ولذلك احتاج إلى التفصيل.(فقل: وما معنى عبادة الأصنام؟) تسأله عن معنى عبادة الأصنام.

إما أن يقول: لا أعرف معنى عبادة الأصنام،وإما أن يقول: عبادة الأصنام كذا وكذا.
فإن قال: لا أعلم معنى عبادة الأصنام.
فنقول له: كيف تفسر شيئاً بشيء وتحتج عليه، وأنت لا تعلمه؟
فإذا سكت فإنك تدلي عليه معنى عبادة الأصنام.

فإن قال: معنى عبادة الأصنام أنهم يتوجهون إلى هذا الحجر بسؤاله، فهم يعتقدون في الأحجار لأنها أحجار.
فتقول له مثل ما قال الشيخ هنا: (أتظن أنهم يعتقدون أن تلك الأخشاب والأحجار تخلق وترزق وتدبر أمر من دعاها؟).

فتسأله: هؤلاء الذين عبدوا الأصنام، كيف عبدوها؟وكيف سُمُّو عبدة للأصنام؟.
فإما أن يقول:لأنهم اعتقدوا فيها الخلق والرزق والإحياء والإماتة.
فتقول له:هذا يكذبه القرآن، وتسرد له الآيات - مثل ما قال الشيخ - كما في قوله تعالى الآية في يونس: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} يعني: إذا كنتم مقرين بتوحيد الربوبية أفلا تتقون الله في إشراككم معه آلهة أخرى؟ فهذا نوع.

إذا قال: يعني اعتقدوا فيها أنها تخلق وترزق وتنفع وتضر وتنزل المطر، إلى آخر ذلك.
فقل:هذا يكذبه القرآن، وتسرد له الأدلة.
وإن قال:- هذا احتمال ثاني - هو من قصد (خشبة أو حجراً أو بِنْية على قبر أو غيره يدعون ذلك، ويذبحون له) فإنه قد يقول هذا نتيجة لعلم له بحال المشركين، بأنه يقصد الخشبة، يقصد الحجر، يقصد البنية على القبر؛ على أنواع مَن أُشرك بهم في الجاهلية، يدعون ذلك، مثل ما أخبر الله -جل وعلا- في كتابه بقوله: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}.
فإذاً: صار الشرك في الدعاء؛ لأنه قال: {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ} ثم قال: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} يعني: الشرك في الدعاء.
فإذا فسره بهذا التفسير، بأنه قَصْد الخشبة أو الحجر أو البنية على قبر، يعني قصد هذه الأشياء، لم يقصد من في القبر، قصد الخشب، قصد الحجر، قصد نفس البناء، يدعون ذلك، ويذبحون له، ويقولون: إنه يقربنا إلى الله زلفى، ويدفع عنا ببركته ويعطينا ببركته.(فقل: صدقت) هذا هو الشرك، وهم ما قصدوا خشبة يدعونها لاعتقاد في الخشبة، بل لاعتقاد في الروح التي تحل في الخشب حين السؤال، فالمشركون يعتقدون أنه إذا سُئلت الخشبة التي هي ممثلة على صورة كوكب من الكواكب المؤثرة في اعتقادهم، أو على صورة ملك، أو على صورة نبي، أو على صورة ولي، أو على صورة صالح، أو على صورة من يعتقدون فيه، فإن هذا الصنم أو الوثن إذا سئل تكلم، وهذا الكلام منه إنما هو من شيطان.
فهم يعتقدون أنهم إذا خاطبوه ودعوه فإن روحانية هذا الكوكب تتكلم، أو روحانية الملك تتكلم، أو روحانية الولي والنبي تتكلم، حتى ربما إنه ينطق الجني على لسان الميت وهم يعرفون أن هذا هو كلامه، فيقولون: سمعنا من القبر كذا وكذا وكذا، بصوت الولي فلان الذي نعرفه، ويكونون قد صدقوا فيما سمعوا؛ لأنهم سمعوا صوت الولي نفسه، ولكنهم لم يسمعوا الولي نفسه، وإنما سمعوا صوته الذي قلده الشيطان والجني.
ومعلوم أن شياطين الجن عندها قدرة على التشكل في الصور،وعندها قدرة على التشكل في الأصوات، وعندها قدرة أيضاً على أن تُري الأشياء على غير حقيقتها، وهذا مما أقدرهم الله -جل وعلا- عليه ليحصل الابتلاء وتحصل الفتنة.
فإبليس - عليه لعنة الله - حصل منه ما حصل من التشكل في صورة رجل وصورة شيخ نجدي عند المشركين، إلى آخره، وفي يوم بدر كذلك، والجن يتشكلون، ربما أتاك جني في صورة آدمي وأنت لا تعلم، ربما تكلم من تكلم بصوت وهو شيطان.
فإذاً: ما يذكرونه من أنهم حين يسألون الأخشاب أو الأحجار أو الغرف التي على القبور أو المشاهد؛ أو يأتون إلى القبر، وأن هناك من تكلم وقال: سألبي حاجتكم، أو أمرهم بأشياء، فهم صادقون، لكن هذا من الجن، ودخولهم في هذا الأمر إنما هو من جراء الشرك بالله جل وعلا.
كما قال -سبحانه- في آخر سورة سبأ: {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ}يعن في الحقيقة، مع أنهم إنما دعوا الملائكة {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} لأنهم كانوا يطلبون من الملائكة، فقالت الملائكة: {سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} يعني: في الحقيقة أنهم كانوا يعبدون الجن؛ لأن الذي تكلم وخاطب هو الجني، وهم تقربوا لمن خاطبهم وهو الجني، ففي الحقيقة العبادة توجهت للجن لا إلى الملائكة؛ كما قال جل وعلا: {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ}.
وكما قال سبحانه في سورة الأنعام:{وَجَعَل ُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} جعلوا له شركاء الجن، فالجن اتخذت شركاء وإن لم يعتقدوا ذلك هم أنهم عبدوا الصنم، يعني عبدوا الجن، لكن في الحقيقة هم عبدوا ذلك واتخذوهم شركاء.


إذاً: فتقول له: صدقت في أنهم قصدوها يدعونها ويذبحون لها ويقولون: إنها تقربنا إلى الله زلفى، ويُدفع عنا ببركتها، ويعطينا الله ببركتها، مثل ما قال بعضهم لبعض الموحدين من نحو أكثر من مائة سنة؛ قابل رجلاً من المشركين فقال له الموحد: كثير من أهل الطائف لا يعرفون الله، إنما يعرفون قبر ابن عباس؛ فأجابه المشرك بقوله: معرفة ابن عباس تكفيه.
لِمَ؟ لهذا الأمر؛ لأنهم إذا توجهوا إلى ابن عباس بمعنى توجهوا إلى الله -جل وعلا- مثل ما قال هذا القائل.(فقل له: صدقت، وهذا هو فعلكم عند الأحجار والبنايات التي على القبور وغيرها) إذا أتوا إلى البنايات التي على القبور، أكثر القبور الآن التي بنيت عليها بنايات لا يوصل إلى القبر ولا يخلص إليه، وإنما هم يدعون ويعتقدون ويتمسحون ويطلبون بركة هذه البنية، وفي قلبهم مَن في هذا القبر، وقد لا يكون في القبر أحد أصلاً، أو يكون فيه مشرك، أو يكون فيه حيوان ونحو ذلك، يكون قد دفن في هذا واعتقد فيه.
فإذاً: الذي فعله أولئك الأولون عند الأصنام والأوثان والخشب والحجر والبنا التي على القبور، هو الذي فعله أهل هذه الأزمان عند البنايات التي على القبور.(فقل له صدقت، وهذا هو فعلكم عند الأحجار والبنايات التي على القبور، فهذا أقرّ أن فعلهم هذا هو عبادة الأصنام، وهو المطلوب) وهذه حجة واضحة بينة.
إن كابر وقال: لسنا معتقدين فيهم الاستقلال، بل نعتقد فيهم الأسباب، مثل ما يقول طائفة، يقولون: نحن لا نعتقد أنهم يعطوننا استقلالاً ولا يغفرون لنا، ولا يشفون مرضانا ولا يدفعون عنا الضر بأنفسهم، وإنما هم أسباب؛ فكما أن الله -جل وعلا- جعل أسباباً تقينا الحر وأسباباً تقينا البرد، وأسباباً تقينا كذا وأسباباً تجلب لنا كذا، فإن الله -جل وعلا- جعل هؤلاء أسباباً.
فيجاب بما أجبته لك مفصلاً من قبل ومطولاً، فيجاب بأن هذا السبب هو عينه الذي تعلق به المشركون، فإنهم قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} وهذا هو معنى السببية بنفسها، وهذا هو معنى طلب الوساطة وطلب الجاه.(ويقال له أيضاً) وهذه الفئة الثالثة من أهل هذه الشبهة.
(قولك) واضح التعلق بين هذا القول وبين قوله: الالتجاء إلى الصالحين ليس بشرك؛ لأن الالتجاء معناه عندهم الدعاء، دعاء الصالحين، طلب بركة الصالحين، بسؤالهم، بطلب الشفاعة عندهم، الالتجاء إليهم، بالذبح لهم، مثل ما فسره هنا.
فإذاً قوله: (الالتجاء) مساو لقوله: (يدعون ذلك ويذبحون له ويقولون إنه يقربنا إلى الله زلفى، ويُدْفع عنا ببركته، ويعطينا ببركته) هذا هو الالتجاء إلى الصالحين، وهذا هو عين ما يفعل عند الأصنام والأوثان والآلهة المختلفة. (ويقال له أيضاً: قولك: الشرك عبادة الأصنام) هذا تتمة لهذا الجواب، لكنه في طائفة ثالثة، فيمن يقول: الشرك مخصوص بعبادة الأصنام.(هل مرادك أن الشرك مخصوص بهذا، وأن الاعتماد على الصالحين ودعاءهم لا يدخل في ذلك؟) فإذا قال: نعم، الشرك مخصوص بعبادة الأصنام.(فهذا يرده ما ذكره الله في كتابه من كفر من تعلق على الملائكة، أو عيسى، أو الصالحين) وهذا قد قدمناه بوضوح في أن أنواع الشرك عند أهل الجاهلية متنوعة، ليست نوعاً واحداً، فمنها الأصنام وفيها أدلة في القرآن كثيرة، ومنها الأوثان المصورة للأنبياء والأولياء وما شابه ذلك، ومنها الاعتقاد في الأحجار والأشجار المصورة على صور الكواكب، وأشباه ذلك.
قال: (فهذا يرده ما ذكره الله في كتابه من كفر من تعلق على الملائكة أو عيسى أو الصالحين، فلابد أن يقرّ لك أن من أشرك في عبادة الله أحداً من الصالحين، فهو الشرك المذكور في القرآن، وهذا هو المطلوب) يعني: تقول لهذا الذي قال: الشرك مخصوص بعبادة الأصنام: هل عيسى -عليه السلام- أُشرك به، أم لا؟فإن قال: لا.
فقل: بل أشرك به؛ كما قال الله -جل وعلا- في القرآن: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} وكذلك كقوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً} والآيات في هذا الباب كثيرة.
فإذاً: قل له:هل عيسى عُبِدَ - عليه السلام- واتخذ إلهاً أم لا؟
فإن قال:لا، بين له الآيات.
وإن قال: نعم، فهو المقصود - أيضاً - وعلى كل من الاحتمالين مع الجواب فإنه يرد هذا تخصيصه الشرك بعبادة الأصنام.
وهذه الكلمة: (الشرك عبادة الأصنام) تراها في كثير من تفاسير المتأخرين، فقلَّ أن ترى تفسيراً من تفاسير المتأخرين إلا وإذا ذكر الشرك بالله في القرآن وعبادة غير الله فسروها بأنها عبادة الأصنام.

والمفسرون الأولون؛ كالإمام ابن جرير - رحمه الله تعالى - وكغيره من الأئمة، يفسرون الشرك حيث ورد، وعبادة غير الله بأنواع ما ورد، فيكثر أن يقول ابن جرير رحمه الله تعالى: (نهى الله عن الشرك به ودعوة غيره من الأصنام والأوثان والأنداد) ابن جرير يكثر من هذه الثلاثة؛ الأصنام والأوثان والأنداد؛ لأنها أنواع ما جاء في القرآن.
قال: (فلابد أن يقر لك أن من أشرك في عبادة الله أحداً من الصالحين فهو الشرك) لأنه إذاً يكون قوله: الشرك مخصوص بعبادة الأصنام، يكون غلطاً.
فتقول له: إذاً (لابد أن تقر أن من أشرك في عبادة الله أحداً من الصالحين فهو الشرك المذكور في القرآن، وهذا هو المطلوب).
قال رحمه الله: (وسر المسألة أنه إذا قال: أنا لا أشرك بالله.فقل له: وما الشرك بالله؟ فسره لي؟فإن قال: هو عبادة الأصنام.فقل له: وما معنى عبادة الأصنام؟ فسرها لي.فإن قال: أنا لا أعبد إلا الله وحده.فقل: ما معنى عبادة الله وحده؟ فسرها لي.فإن فسرها بما بينه القرآن فهو المطلوب، فإن لم يعرفه فكيف يدعي شيئاً وهو لا يعرفه؟وإن فسر ذلك بغير معناه بينت له الآيات الواضحة).
يبين لك الشيخ -رحمه الله- أن سر إقامة الحجة وكشف الشبهة في هذه المسألة مبني على هذه المراتب التي ذكر.(سر المسألة) يعني سر مسألة جواب هذه الشبهة أن تقول إذا قال: أنا لا أشرك بالله.
قل له:وما الشرك بالله؟
دائماً تسأله: ما هذا الذي نفيته؟
إن قال:هو عبادة الأصنام.
فقل:ما عبادة الأصنام؟
إن قال: أنا لا أعبد إلا الله؟
فقل: ما عبادة الله وحده؟

فدائماً تجعله جاهلاً، بمعنى تجره إلى ميدان الجهل، حتى يقول: أنا جاهل.
فإن قال: أنا جاهل، فتنتقل معه من الحجاج إلى التعليم.

إن فسرها - هذا نوع ثان من الناس- إن فسرها بما في القرآن لكنه جهل أو اشتبه عليه دخول المعاصرين وعبادة غير الله في هذه الأزمنة بما جاء في القرآن، ففسرها بما في القرآن، فتقول: هذا هو المطلوب، فتبين له وجه الشبه.
إن فسر ذلك- هذه الحال الثالثة، وهذه خاصة بأهل العلم ومن يدلون الشبه من المنتسبين إلى العلم وعلمهم غير نافع - إن فسر ذلك بغير معناه بينت له الآيات الواضحات في معنى الشرك بالله، إن فسَّر الشرك بغير معناه الصحيح تذكر له الآيات الواضحة في معنى الشرك، وأن الشرك يكون بأنواع؛ كما جاء في القرآن؛ وكما بينه الشيخ -رحمه الله- في (كتاب التوحيد).
بين له معنى عبادة الأوثان، فإذا بينت له ذلك يتضح أنه الذي يفعلونه في هذا الزمان بعينه، وأن عبادة الله وحده لا شريك له هي التي ينكرونها علينا، ويصيحون فيه كما صاح إخوانهم، حيث قالوا:{أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}.

محمدعبداللطيف
2019-12-22, 01:20 PM
كشف الشبهة التاسعة وهي زعمهم أن المشركين إنما كفروا لأنهم قالوا: إن الملائكة بنات الله...
قال الامام محمد بن عبد الوهاب فى رسالة كشف الشبهات


فَإِنْ قَالَ:
إِنَّهُمْ لَمْ يَكْفُروا بِدُعَاءِ المَلائِكَةِ وَالأنْبِياءِ، وَإنَّمَا كَفَروا لَمَّا قَالُوا: (المَلائِكَةُ بَنَاتُ اللهِ) وَنَحْنُ لَمْ نَقُلْ: إِنَّ عَبْدَ القَادِرِ وَلا غَيرَهُ ابنُ اللهِ.
فَالجَوابُ:
أَنَّ نِسْبَةَ الوَلَدِ إِلَى اللهِ تَعَالى كُفرٌ مُسْتَقِلٌّ؛ قَالَ اللهُ تَعالَى: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (1) اللهُ الصَّمَدُ}[الإخلاص: 1-2]وَالأَحَدُ: الَّذِي لا نَظِيرَ لَهُ، وَالصَّمَدُ: المَقْصُودُ فِي الحَوائِجِ، فَمَنْ جَحَدَ هَذَا فَقَدْ كَفَرَ، وَلَوْ لَمْ يَجْحَدْ آخِرَ السُّورَةِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:{لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ}[الإخلاص: 3]، فَمَنْ جَحَدَ هَذَا فَقَدْ كَفَرَ، وَلَوْ لَمْ يَجْحَدْ أَوَّلَ السُّورَةِ.
وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ} الآيةَ [المؤمنون: 91]، فَفَرَّقَ بَيْنَ النَّوعَيْنِ، وَجَعَلَ كُلاًّ مِنْهُمَا كُفْراً مُسْتَقِلاًّ.
وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَجَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ} الآيةَ [الأنعام: 100]، فَفَرَّقَ بَيْنَ الكُفْرَيْنِ.

وَالدَّلِيلُ عَلى هَذَا أَيْضاً:
أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِدُعَاءِ اللاَّتِّ - مَعَ كَونِهِ رَجُلاً صَالِحاً - لَمْ يَجْعَلُوهُ ابنَ اللهِ، وَالَّذينَ كَفَروا بِعِبَادَةِ الجِنِّ لَمْ يَجْعَلُوهُمْ كَذَلِكَ.
وَكَذَلكَ الْعُلَمَاءُ - أَيْضاً - فِي جَميعِ المَذَاهِبِ الأَرْبَعَةِ يَذْكُرُونَ فِي بَابِ حُكْمِ المُرْتَدِّ أَنَّ المُسْلِمَ إِذَا زَعَمَ أَنَّ للهِ وَلَداً فَهُوَ مُرْتَدٌّ، وَإِنْ أَشْرَكَ بِاللهِ فَهُوَ مُرْتَدٌّ، فَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ، وَهَذَا فِي غَايَةِ الوُضُوحِ.

محمدعبداللطيف
2019-12-22, 01:22 PM
قال الشيخ صالح آل الشيخ الشبهة التاسعة:
[قال: (فإن قال: إنهم لا يكفرون بدعاء الملائكة والأنبياء، وإنما يكفرون لما قالوا: الملائكة بنات الله فإنا لم نقل: عبد القادر ابن الله ولا غيره) ]قال -رحمه الله- بعد ذلك: (فإن قال) هذا دخول في شبهة جديدة.(فإن قال) يعني: نوع من موردي الشبه (إنهم لا يكفرون بدعاء الملائكة والأنبياء) هذا نوع من الناس يقول: لا، كفرهم كان بشيء آخر، ليس بالشرك بالله ولا بالتوجه إلى الصالحين ولا التوجه للأنبياء، وهذه الأمور جائزة، لكن كفرهم كان بشيء آخر، ما هذا الشيء؟
قال: (وإنما يكفرون لما قالوا: الملائكة بنات الله، فإنا لم نقل عبد القادر ابن الله ولا غيره) وهذه كثيراً ما يوردها الصوفية في أن الأولين كفروا باعتقادهم أن الملائكة بنات الله جل وعلا، وهذا الاعتقاد مبين في القرآن في سور كثيرة؛ كسورة النحل، وسورة الصافات، وسورة الزخرف، وغيرذلك من السور.

يقول: (لم نقل عبد القادر) يعني: الجيلاني وهو معظم ومؤلَّه في العراق، وفي الباكستان، والهند، وفي غيرها أيضاً.
إن قال:أنا لم أعتقد في عبد القادر أنه ابن لله، ولا في النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه ابن لله، ولا في عيسى أنه ابن لله، ولا في كذا أنه ابن لله، ولا في البدوي أنه ابن لله، ولا في علي -رضي الله عنه- أنه ابن لله، إلى آخر ذلك، وهؤلاء إنما كفروا في أن الملائكة بنات الله، يعني اعتقاد البنوة مثل ما قال البوصيري في قصيدته الميمية المعروفة قال:



دع ما ادعته النصارى في نبيهِمِ = واحكم بما شئت فيه واحتكمِ


أو كما قال.
وقال أيضاً: لو ناسبت قدره يعني: النبي صلى الله عليه وسلم:



لو ناسبت قَدْرَه آياته عظـما = أحيا اسمه حين يدعى دارس الرمم


فيقول:قل ما شئت في النبي -صلى الله عليه وسلم- من وصفه بما شئت، إلا في شيء واحد، وهو أن لا تقول كما قالت النصارى في عيسى إنه ابن الله جل وعلا، ويفهمون هذا على الحديث الذي رواه البخاري وغيره، في قوله عليه الصلاة والسلام: ((لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، وإنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله)).قالوا: فمعنى الحديث: أنه لا تبلغوا بي مبلغ النصارى في قولهم إن عيسى ابن الله، وما هو غير ذلك فجائز لكم، هكذا يفهمونه، وهذه حجة طائفة كثيرة من غلاة الصوفية، وأصحاب الطرق، في قولهم: إن المحرم والشرك هو ادعاء البنوة، أما غير ذلك فليس من الشرك بالله، كما قال:


دع ما ادعته النصارى في نبيهِمِ = واحكم بما شئت فيه واحتكمِ



أو كما قال.قال: (فالجواب) هذا جواب هذه الشبهة.(أن نسبة الولد إلى الله كفر مستقل) بين أن نسبة الولد إلى الله كفر، لكنها ليست كل الكفر، فقال جل وعلا: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}.
و(الأحد) الذي لا نظير له {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}(أحد) يعني: لا نظير له في ذاته، ولا نظير له في أسمائه، ولا نظير له في صفاته جل وعلا، واحد في ألوهيته لا شريك له، واحد في ربوبيته لا شريك له، واحد في أسمائه وصفاته، لا سمي له.
{اللَّهُ الصَّمَدُ}والصم : المقصود في الحوائج.(فمن جحد هذا كفر، ولو لم يجحد السورة)
دلت الآية على نوعين:
النوع الأول:هو من لم يجعل الله واحداً، وجعله اثنين؛ كاعتقاد طائفة من النصارى، أو اعتقده ثلاثة؛ كاعتقاد طائفة أخرى أيضاً من النصارى وغيرهم.
فقوله جل وعلا: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} هذا فيه رد على من اعتقد البنوة.
-وقوله:{اللَّهُ الصَّمَدُ} رد على من اعتقد أنه يُصْمد في الحوائج إلى غيره.
فإذاً: سورة الإخلاص دلت على كفر نوعين من الناس:

-وهم: من لم يجعل الله مختصاً بالأَحَدية.
-ومن لم يجعل الله مختصاً بالصمدية.
والصمد:هو الذي يُصمد إليه في الحوائج، يعني: يقصد وحده دون ما سواه.
قال: (فمن جحد هذا فقد كفر ولو لم يجحد السورة) هذا برهان على أن الشرك في القرآن، وأن المشركين - مشركي العرب وغيرهم - ليسوا معتقدين في البُنُوَّة وحدها؛ بل معتقدين في البنوة، ومعتقدين أيضاً في الشريك مع الله -جل وعلا- في العبادة.(وقال تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ}) قال الشيخ رحمه الله: (ففرق بين النوعين وجعل كلاً منهما كفراً مستقلاً) وهذا استدلال واضح قوي، إذ قال الله جل وعلا: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} يعني: قبل أن يخلق الخلق، ولا بعد أن خلق الخلق، ولو اتخذ الرحمن ولداً لعبدنا ذلك الولد طاعة لله -جل وعلا- وامتثالاً لأمره؛ كما قال -سبحانه- في سورة الزخرف:{قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} على الصحيح في تفسيرها أنها على ظاهرها، يعني: أنا أول من يعبد هذا الولد لو اتخذه الرحمن، امتثالاً لأمر الله وطاعة له جل وعلا.
والواقع أن هذا لا يكون ولا يمكن، إذ الله -جل وعلا- ما اتخذ مما يخلق بنات، ولم يتخذ سبحانه ولداً؛ لأنه لم يلد ولم يولد، ولو أراد الله أن يتخذ ولداً لاصطفى مما يخلق ما يشاء؛ لتنزهه -سبحانه وتعالى- عن الولادة بدءاً وأصلاً وفرعاً.فإذاً: قوله: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} هذا نفي للولادة ولاتخاذ الولد.قال: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} وهذا نفي لنوع آخر، وكما هو مقرر في العربية والأصول: أن واو العطف هذه تفيد التغاير، تغاير الذات وتغاير الصفات، فتغاير الذات، كما تقول: دخل محمد وخالد، فذات محمد غير ذات خالد، وتغاير الصفات، كما في قوله جل وعلا: {تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ} فهنا القرآن هو الكتاب، ولكن الواو دلت على تغاير الصفة فهو كتاب وهو قرآن.
فقوله -جل وعلا- هنا: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} كما قال الشيخ: (فرق بين النوعين) ودلت الواو على تغاير ذات (الإله) عن ذات الولد باعتبار اعتقاد المشركين، وعلى تغاير صفة (الإله) عن صفة الولد؛ وهذا هو الواقع في اعتقادهم، فإنهم إذا توجهوا للولد إنما يتوجهون إلى الله؛ كما يقول النصارى: أب وابن وروح القدس إله واحد، يجعلون الإله واحد له ثلاثة أقانيم، أو كما يقول طائفة أخرى من النصارى: إنه أب وابن، فيجعلونه أقنومين فقط، فهذا توجه لشيء واحد باختلاف الأقانيم، وهذا داخل في الولادة، حيث قال جل وعلا: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} الشيء الثاني: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ}. فالآلهة:في الواقع هذه مغايرة في الذات للولد، ومغايرة في الصفات، لا يقال: إن الولد متَّخَذ إلهاً؛ لأن قول العلماء: مغايرة في الذات يصدق عليه اختلاف الجمع والمفرد والعام والخاص، فإذا عطف عام على خاص فيعتبر عندهم تغايراً في الذات، مثل ما قال جل وعلا: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} فعطف جبريل وميكال على الملائكة، وهذا تغاير في الذات؛ لأن الثاني بعض الأول، فالعام إذا جاء بعده خاص يعتبر تغايراً في الذوات {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}ه ا تغاير في الصفات.
المقصود:أن استدلال الشيخ في محله، بل حجة واضحة، حيث قال: (ففرق بين النوعين وجعل كلاً منهما كفراً مستقلاً)
(وقال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ}) {وَخَلَقَهُمْ} يعني: مع خلقه لهم جعلوا له شركاء الجن.
{وَخَرَقُوا لَهُ} وفي القراءة الأخرى: {وَخَرَّقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ}.(ففرق بين كفرين) فجعل الشرك بالجن هذا نوع، وجعل خرق البنين والبنات له سبحانه نوعاً آخر.
قال: (ففرق بين كفرين).
(والدليل على هذا أيضاً: أن الذين كفروا بدعاء اللات) إلى آخره.
المقصود من هذه الأدلة:أن قول القائل: ما كفرت العرب ولا النصارى ولا اليهود، إلى آخره، إلا باعتقاد البنوة، فهذا الكلام باطل، وهذه الشبهة مردودة على أصحابها بالأدلة التي ذكر.
وتوسع الشيخ -رحمه الله- فقال: (والدليل على هذا أيضاً: أن الذين كفروا بدعاء اللات مع كونه رجلاً صالحاً لم يجعلوه ابناً لله، والذين كفروا بعبادة الجن لم يجعلوهم كذلك، وكذلك أيضاً العلماء في جميع المذاهب الأربعة، يذكرون في باب حكم المرتد: أن المسلم إذا زعم أن لله ولداً فهو مرتد، ويفرقون بين النوعين، وهذا في غاية الوضوح)
الأمة مجمعة والفقهاء والأئمة مجمعون على أن الردة ليست مخصوصة باعتقاد الولد لله جل وعلا، فدل هذا على بطلان هذه الشبهة، وهذا إيراد أو استدلال واضح بين والحمد لله؛ كما قال الشيخ في آخره: (وهذا في غاية الوضوح).وأكرر في أنَّ الانتفاع بما نذكر يعظم عندما تعرف (كتاب التوحيد) وشرحه، وخاصة ما ذكرناه من الأدلة وأوجه الاستدلال في شرحي على (كتاب التوحيد) لأن فهم (كشف الشبهات) مبني على فهم (كتاب التوحيد) لأنك إذا قلت: ما معنى عبادة الأصنام؟ الشفاعة؟ كل هذه تفصيلها هناك، وليس تفصيلها في هذا الكتاب.المغايرة: الواو تقتضي في اللغة مطلق الجمع والمغايرة، وإذا قلنا: مطلق الجمع فالمراد بلا ترتيب في الزمان ولا في المكان ولا في الفضل، وتفيد أيضاً المغايرة، والمغايرة تعني: أن ما بعد الواو غير ما قبل الواو، وقد يكون ما بعد الواو - يعني المعطوف - والمعطوف عليه - ما قبل الواو - قد يكون هذا وهذا من الذوات.
- فإذاً: الثاني غير الأول،مثل ما مثلت لكم، دخل محمد وخالد{مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ} كل شيء مختلف عن الثاني، هذا تغاير في الذوات.
الثاني:التغاير في الصفات.وذكرت لك أن التغاير في الذوات لا يَسقط بأن يكون الأول بعض الثاني، ولا أن يكون الثاني بعض الأول، يعني: إذا جاء عام بعد خاص معطوفاً بالواو فيصدق عليه أنه تغاير ذوات؛ لأن الذات الثانية أعظم وأكثر من الذات الأولى في عطف العام على الخاص، أو الأولى أكثر ذواتاً من الثانية.فإذاً: تغايرٌ في الذوات، يعني: هذا ليس هو هذا من جهة الذات.
والثاني:تغاير في الصفات، والتغاير في الصفات يكون في المعاني، مثل ما ذكرت لكم {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}ا إيمان والعمل الصالح ليس ذاتاً وإنما هو معنى، أليس كذلك؟ الإيمان هل هو ذات ترى؟ العمل الصالح ذات ترى؟ ليس عيناً ولا ذاتاً وإنما هو معنى.
فإذاً: العطف بالواو بين المعاني يدل على تغاير الصفات،يكون الأول غير الثاني من جهة الصفة، ولهذا نقول: إنه إذا قيل: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} على تعريف أهل السنة للإيمان ودخول العمل في مسماه، هذا يُفهم من وجهين:

الأول: أن العمل خاص بعد عام، فالإيمان عام والعمل خاص، فحصل تغاير في الصفة من جهة الشمول.
والثاني: أن الإيمان إذا قرن به العمل الصالح، فيُعنى بالإيمان: التصديق الجازم بالأشياء، والعمل الصالح هو العمل، فهذا يغاير ذاك في الحيثية.
والثاني اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}{إ ِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} يُعنى: بالإيمان الأصل اللغوي ومعناه، وهو أيضاً الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، إلى آخره، يعني: ما هو قسيم للإسلام، الإسلام العمل الظاهر، الإيمان الاعتقاد الباطن، {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}ت اير في الصفة إذ الأول يدل على العمل الباطن، والثاني يدل على العمل الظاهر، مثل قوله جل وعلا: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ}.
بعض المعاصرين الجهلة قال:هذا يدل على أن القرآن غير الكتاب؛ لأن الواو تقتضي المغايرة، فالقرآن شيء والكتاب شيء، والقرآن هو مالا يقبل التغيير، وأما الكتاب فيقبل التغيير، في مؤلف ألفه، باطل معروف، هذا ناتج من الجهل باللغة، فقوله: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ}{تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ} في سورتين، هذا يدل - العطف بالواو ـ على تغاير صفة الكتاب عن صفة القرآن، لا على تغاير القرآن عن الكتاب.
والصفة التي حصل بها التغاير:أن القرآن فيه صفة القراءة، والكتاب فيه صفة الكتابة، فإذاً هذا دليل على أنه مكتوب وأنه سيقرأ حيث كان مكتوباً، وهذا البحث يُبحث في الأصول وأيضاً في النحو وفي كتب حروف المعاني، والبحث معروف، ومهم؛ لأن فهم الاستدلال مبني عليه.
الآية في قوله جل وعلا: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} ما وجه المغايرة في الصفات؟
الجواب: أن الإلهية غير صفة اتخاذ الولد {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} فالاتخاذ - اتخاذ الولد - شيء غير كون إله معه، فاتخاذ الولد من الله، كما يقول أولئك: اتخذ الله عيسى ولداً، أو اتخذ الله العزير ولداً، فإذا جعلوا عيسى ولداً ليس بدعواهم ولكن باتخاذ الله له، وأما وجود الإله {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} فهذا وجود لإلهٍ حق مع الله جل وعلا، فمِن هذه الجهة كان غير متخذ، فالأولى فيها الاتخاذ والثانية فيها وجود الإله، فهذا كفر وهذا كفر.

محمدعبداللطيف
2019-12-22, 01:23 PM
كشف الشبهة العاشرة وهي احتجاجهم بقول الله تعالى: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم} على جواز دعائهم
قال الامام محمد بن عبد الوهاب فى رسالة كشف الشبهات


وَإِنْ قَالَ:
{أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}[يونس: 62].
فَقُلْ: هَذَا هُوَ الحَقُّ، وَلَكِنْ لا يُعْبَدُونَ، وَنَحْنُ لا نُنْكِرُ إِلاَّ عِبَادَتَهُمْ مَعَ اللهِ، وَإِشْرَاكَهُمْ مَعَهُ، وَإِلاَّ فَالْوَاجِبُ عَلَيْكَ حُبُّهُمْ وَاتِّبَاعُهُمْ وَالإِقْرَارُ بِكَرَامَاتِهِم ْ، وَلا يَجْحَدُ كَرَامَاتِ الأَوْلِياءِ إِلاَّ أَهْلُ البِدَعِ وَالضَّلالاتِ، وَدِينُ اللهِ وَسَطٌ بَيْنَ طَرَفَيْنِ، وَهُدىً بَيْنَ ضَلالَتَيْنِ، وَحَقٌّ بَيْنَ بَاطِلَيْنِ.

محمدعبداللطيف
2019-12-22, 01:24 PM
قال الشيخ صالح آل الشيخ [(وإن قال: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} فقل هذا هو الحق،...) ]

ذكر الإمام رحمه الله تعالى مسألة جديدة، يوردها المشركون، ويُلقَّنها من يُلقَّنها من عوام المشركين، ومن المتعلمين عندهم، وهذه المسألة: هي مسألة كرامات الأولياء، فإن عُبَّاد الأموات، وعباد غير الله -جل وعلا- في الأعصر المتأخرة يُروِّجون كرامات الأولياء ليدلّوا الناس بذلك على أن هذا الولي الذي صار له من الكرامات كذا وكذا، أنه يستحق أن يدعى، وأن يستشفع به، وأن يستنصر به، وأن يستعاذ به، وأن يتوكل عليه، إلى آخر أنواع العبادة.فجعلوا حصول الكرامات ورؤية من رأى هذه الكرامات، والإقرار بذلك، وأن أهل السنة يقرون بكرامات الأولياء، جعلوا ذلك سلماً لدعوة الناس لعبادة غير الله جل وعلا، وهذه حجة كثيراً ما يرددها الخرافيون؛ فينبغي لأهل التوحيد وللدعاة إليه أن يقفوا عند هذه الشبهة كثيراً، وهذا الوقوف بينه الشيخ -رحمه الله تعالى- أتم بيان، فقال: (وإن قال: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} فقل: هذا هو الحق، ولكن لا يُعبدون) يعني: أن قوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} رُتِّب آخره على أوله فجعل الأولياء لهم كرامة، وهذه الكرامة هي أنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.فالولي - ولي الله جل وعلا - الذي حقق الولاية بالإيمان والتقوى لا خوف عليه ولا يحزن، وهذا ظاهر الآية، ودل ذلك على أن هؤلاء لهم منزلة خاصة عند أهل الإيمان بل عند الله جل وعلا، وهذه المنزلة إنما هي لأجل إيمانهم ولأجل تقواهم، لهذا قال بعدها في وصف الأولياء: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ}.ففي الآية التي ساقها الشيخ ذِكْر الأولياء، وذكْر أنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وهذه يحتج بها كل من يعبد غير الله جل وعلا، ويحتجون بها على أن الولي له ما ليس لغيره، فماذا يصنع الموحد لجواب هذه الشبهة؟
قد ينساق إلى أن يقول: إن هذا الذي تقول إنه ولي ليس بولي أصلاً، وهذا يجعل الموحد في زاوية ضيقة، ويحرج نفسه كثيراً؛ لأنه يخرج عن ميدان الحجة إلى ميدانٍ الحجةُ فيه متوهمة.

فميدان الحجة:أن الولي يَعبد ولا يُعبد، وهو من جهة غيرته يخطئ، فيقول: هذا أصلاً ليس بولي، فمثلاً لو ناقش أحداً عن عبادة البدوي وما يحصل عند قبره من الاستغاثة بغير الله ومن النذور للبدوي، ومن الاستعانة به، ومن طلب كشفه للضر، وأشباه ذلك، لو جاء وناقش من يقول: هذا ولي، والله -جل وعلا- يقول: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}.قد يبتدئ بعض أهل التوحيد فيقول: من قال لك أن هذا ولي، فتنصرف الحجة إلى مسألة يصعب معها الإثبات أو النفي، فيكون ذاك يستدل بما يورده أصحاب الكرامات أنه كان له كذا وكذا وكذا، ونذهب عن أصل المسألة وهي أنه لا يُعبد، سواء كان ولياً أو غير ولي، إلى هل هو ولي أم لا؟
وبعض الموحدين في بعض الأقطار الإسلامية يسلكون هذه الطريقة، وهي غلط،وليست على طريقة أهل العلم وأئمة الدعوة رحمهم الله، وليس كذلك أيضاً ما جاء في القرآن من تقرير التوحيد ومناقشة المشركين في آلهتهم، فإن الذي في القرآن أن الآلهة التي عُبدت أنها لا تستحق العبادة، قال جل وعلا: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} إلى آخره.بين أنها لا تستحق العبادة، وكذلك فيما هو غير ذلك من عبادة من يُعبد، بين أنه لا يستحق العبادة، أما الكلام في ذاته وأحواله فهذا ليس من الدعوة الحقة بل يُترك هذا؛ لأن الغرض هو تقرير التوحيد.
فإذا قال لك: (هذا ولي من أولياء الله) فلو كان عندك ليس بولي بل نقل عنه العلماء ونُقل في التراجم أنه كان يترك الصلاة، وأنه كان يقول كلمات كفرية، أو لم يكن صالحاً، أو كان كافراً إلى آخره، فلا تذهب إلى هذا؛ لأن مصير هذا الرجل عند الله جل وعلا، ولكن اذهب إلى الحق المطلق وهو أن الولي يَعبد ولا يُعبد، وأن الكرامات التي أعطيها الولي له وليست لغيره، وهذا هو الذي بينه الإمام -رحمه الله- هنا.
فقال: (فقل هذا هو الحق) يعني: أن الأولياء لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.(ولكن لا يعبدون) يعني: أن الأولياء في الآية لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وأنهم الذين آمنوا وكانوا يتقون، وأن لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة، لم يذكر أنهم يُعبدون، بل في آيات أخر بين أن من اتخذ ولياً من دون الله فقد ضل وخسر خسراناً مبيناً؛ كما قال جل وعلا: {قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم ْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا} وكقوله جل وعلا: {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً} يعني: أن المردَّ ليس هو إلى كونه ولياً أو غير ولي، المردُّ أن العبادة لله -جل وعلا- وحده.
قال سبحانه: {قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم ْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ}فهذ الآية قد تنفع أهل التوحيد في الاحتجاج على أهل الشرك في أن الله -جل وعلا- ذكر أن الأولياء لا يُتخذون من دونه {قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم ْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} يعني: فيكون {مِنْ دُونِهِ} يعني: من دونه في العبادة أولياء فجعلتم الأولياء معبودين، وهذا وإن كان ليس هو من تفسيرها الصحيح ولكنها حجة في رد الاحتجاج بلفظ الأولياء على العبادة، وإلا فمن المعلوم أن قوله تعالى: {قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم ْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} لا يقصد به فلان الولي وإنما يقصد به الوَلاية يعني النصرة والمودة وأشباه ذلك، لكن هذه الآية وأشباهها في القرآن يحتج بها على إبطال التعلق بلفظ الأولياء.
والشيخ رحمه الله هنا قال: (فقل هذا هو الحق، ولكن لا يعبدون) يعني: أن الآية دلت على أن هؤلاء الأولياء لهم الكرامة، لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ولكن ليس في الآية أنهم يُعبدون ولا أنهم يستغاث بهم، ولا أنهم يدعون من دون الله جل وعلا.
قال بعد ذلك: (ونحن لم نذكر إلا عبادتهم مع الله وشركهم معه) جل وعلا.يعني: أننا لم نتكلم معك في أن هذا ليس بولي، وليس بصالح، وليس له كرامات، بل له كرامات وهو ولي وهو كذا وكذا، لكن ليس معبوداً مع الله جل وعلا.ونحن لم نناقشك في شأنه بل شأنه وكرامته إن حصلت له - والأمر غيـبي - فهو عند الله جل وعلا، ولا يُدرى بماذا خُتم له؟ لكن إن كان مات على الولاية فهو عند الله -جل وعلا- له مقام الأولياء، ونحن لم نتكلم معك في شأن وَلايته هل هو ولي أو ليس بولي؟ إنما الكلام في أنه هل يستحق أن يعبد، هل هو يشرك به مع الله بهذه الأفعال التي تفعلونها أم لا؟فهذا يجعل الموحد منصفاً ويجعله صاحب برهان جيد وواضح، ويجعله أيضاً حاذقاً بألاَّ يجره الخصم إلى ميدان معركة يصرفه فيها عن الحق.مثل مرة أتاني بعض الإخوة وقال: هناك رجل من بعض البلاد الأفريقية يريد أن يبحث بعض الأمور، وأنا ذكرت له أن يأتيك، فجاءني وذكرت له بعض المسائل في التوحيد وتعريف التوحيد، والعبادة وكلام أهل العلم في الشرك، إلى آخره بكلام مطول.فقال: الذي كرَّه الذين يدعون إلى التوحيد في بلادنا، هو أنهم ينشرون في الناس أن هؤلاء الذين يتعلقون بهم أنهم ليسوا بصالحين، وليسوا بأولياء بل هؤلاء الأموات منهم المشرك ومنهم الكافر ومنهم الذي كان يفعل كذا ويفعل الموبقات، فينشرون أشياء عنهم لا يمكن أن نقبل حمية لهم ولهؤلاء الأولياء لا نقبل أن يتكلم أحد فيهم، فأخذتنا الحمية لهم عن سماع ما عند هؤلاء من الكلام في التوحيد.


وهذه في الحقيقة أفادت كثيراً مع أنها واضحة في (كشف الشبهات) لكن أفادت من حيث التطبيق، فإن الذي ينبغي على طالب العلم أن يكون صبوراً في دعوته، وألا يستجره الخصوم إلى ميدان ليس هو ميدان الدعوة، بل يركز على الأصل الذي دعا الناس إليه.أما الكلام في فلان وهل هذا كان ولياً أو ليس بولي، صالح أوليس بصالح ليس الكلام في هذا، أولياء الله -جل وعلا- عندنا لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ولهم الكرامات، ولكن الكلام أنه هل يجعل الولي معبوداً مع الله؟ هل يدعى الولي؟ هل يستغاث بالولي؟ هل يذبح للولي؟وإلا فلا شك أن الولي له المقام عند الله -جل وعلا- إذا ختم له بخير.وهذا يجعل الموحد يحتج بحجة واضحة ولا ينساق بعاطفته إلى إثبات شيء أو إبطاله لا صلة له بمحض الحق، أو ربما يكون هذا متأخراً من حيث الاحتجاج.
قال: (فقل هذا هو الحق ولكن لا يعبدون ونحن لم نذكر إلا عبادتهم مع الله وشركهم معه).وهنا لو قال: كيف أُشرك بهم؟ هل عُبدوا؟ لم يُعبدوا، ترجع إلى المسائل التي مرت في الدرس الماضي بتفصيلاتها.
قال: (وإلا فالواجب عليك حبهم واتباعهم والإقرار بكراماتهم) الواجب علينا جميعاً حب أولياء الله -جل وعلا- إجمالاً وتفصيلاً، فيمن علمنا أنه من أهل الإيمان والتقوى، واتباعهم على ما هم عليه من العمل، ولأنهم لم يكونوا أولياء إلا باتباع محمد عليه الصلاة والسلام، فلهذا نتبعهم فيما به صاروا أولياء، فنحب نبينا عليه الصلاة والسلام، ونتبع سنته، ونحكم ما جاء فيها على مرادات القلب وعلى الظاهر وعلى المقامات والأحوال التي تعرض.(والإقرار بكراماتهم) يعني: الواجب أن نقر بكرامات الأولياء؛ لأنه لا يجحد كرامات الأولياء إلا أهل البدع والضلال.
وذكرنا لك في الكلام على (الواسطية) معنى كرامات الأولياء، ومن هو الولي؟، وما شروط الولاية؟ ومذهب أهل السنة في كرامات الأولياء، والمذاهب في ذلك.فقول الشيخ رحمه الله: (ولا يجحد كرامات الأولياء إلا أهل البدع والضلال).يعني بهم الخوارج والمعتزلة، فإنهم الذين ينكرون كرامات الأولياء، كما سبق.
قال: (ودين الله وسط بين طرفين) هذا بعامة، دين الله وسط بين الغالي والجاف، الإسلام وسط ما بين غلو النصارى وما بين جفاء اليهود، وأهل السنة وسط ما بين الفرق، ما بين الخوارج والمرجئة، وما بين المجسمة والمعطلة، وما بين الطوائف المختلفة في هذا الباب، في الإيمان وفي أسماء الله -جل وعلا- وصفاته، وفي الأسماء والأحكام، وفي الصحابة، وفي أمهات المؤمنين وفي الفتن، إلى آخره، أهل السنة أيضاً وسط؛ لأن دين الله جل وعلا وسط.قال: (وهدى بين ضلالتين وحق بين باطلين) أشار بذلك إلى أن مسألة الأولياء منهم من غلا فيها فجعل الولي ينازع الله في الألوهية أو له نصيب من الألوهية، كقول غلاة الصوفية والباطنية وطوائف جعلوا الولي له شيء من خصائص الألوهية، بل جعلوا الولي يفوض إليه شيء من الربوبية والعياذ بالله، فهذا الجهة الغالية.والجهة الجافية كالخوارج والمعتزلة الذين أنكروا كرامات الأولياء، وذكرنا لكم أنهم أنكروا كرامات الأولياء حتى لا تشتبه حجج الأنبياء والآيات والبراهين والمعجزات التي أعطيها الأنبياء بكرامات الأولياء.



-أهل السنة يقرون بأن الأولياء لهم كرامات.



- وأنهم مُكرَّمون عند الله.
- وأن لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة، كما أخبر الله -جل وعلا- بذلك عنهم، لكن لا نغلو في ذلك فنجعل لهم صفات ليست في البشر، ولا نجفوا عنهم وننكر كراماتهم، بل نحن وسط بين الجافين والغالين.فهم يَعبدون ولا يُعبدون، ويُرزقون ولا يرَزقون،ويدعونه جل وعلا رغباً ورهباً وكانوا له -جل وعلا- خاشعين، ويدعون الناس إلى محبته جل وعلا، وإلى توحيده، وإلى نصرته، كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية عن نفسه أن أصحابه وقعوا مرة في دمشق ومرة في خارجها في شدة فظهر لهم الشيطان في صورة شيخ الإسلام ابن تيمية، وقال: أتحتاجون شيئاً ؟ أأنصركم؟ فمنهم من طلب منه، فلما ذكروا ذلك لشيخ الإسلام ظن بعضهم أنه كان في دمشق وأنه جاءهم فقال: لا، أنا لم أبرح مكاني وهذا شيطان عرض لكم ليوقعكم في الشرك.وإذا تأملت إلى سيرة الأولياء الصالحين من الصحابة فمن بعدهم ومن آل البيت وجدتهم جميعاً ينكرون الشرك بالله جل وعلا، ويأمرون أتباعهم بالإخلاص - إخلاص الدين- لله، واتباع السنة، وعدم مخالفة الكتاب والسنة، والرغب فيما عند الله وحده، وأن لا يعظم البشر كتعظيم الله -جل وعلا- التعظيم الذي لا يجوز له.فمن جمع كلام الأولياء في التوحيد وجد أنهم أقاموا الحجة على من اقتدى بهم أو من اتبعهم.
ومعلوم أن الفرق الصوفية والطرق المختلفة بَنَت كل طريقة على أقوال شيخ لها اعتقدوه ولياً، فأخذوا كلامه، فيناسب الموحد في البلد الذي يكون فيها طائفة من هذه الطوائف الصوفية أو الطريقة أن يجمع كلمات هذا في مؤلف وينشرها بينهم؛ لتكون حجة على من أخذ بطريقة هذا الشيخ، فمثلاً: في البلاد التي فيها عبد القادر الجيلاني، عبد القادر له كتب طيبة، (الغُنية) وغيرها و(الفتوحات) كتب فيها التوحيد وفيها الأمر بعبادة الله وحده، فلو استخرجت لكان في ذلك حجة على أقوامهم.شيخ الإسلام ابن تيمية هو الذي لفت النظر إلى هذه الطريقة حيث كتب (الرسالة السُّنية) المعروفة المسماة (بالوصية الكبرى لأتباع عدي بن مسافر)وعدي بن مسافر يغلو أصحابه فيه، وطائفته يقال لهم: العدوية في الشام، كذلك نقل عن أحمد الرفاعي كلمات في الأمر بالسنة والنهي عن البدع والنهي عن الشرك.فيحسن أن تكون طريقة الداعية في البلد أن يجمع كلام هؤلاء الأولياء - إذا كانوا بحق أولياء - ويقول للناس: هذا كلام الأولياء في التوحيد، فهذا فيه حجة في هذه المسألة، ويعطي الحقيقةَ المخالف أننا نحب أولياء الله بعامة، وأننا نتولاهم ولا نرد كل ما يقولون، وإنما نرد ما خالفوا فيه الحق فقط.

محمدعبداللطيف
2019-12-22, 01:27 PM
كشف الشبهة الحادية عشرة وهي احتجاجهم بأنهم يصلون ويصومون ولا ينكرون البعث ولا يكذبون الرسل...
قال الامام محمد بن عبد الوهاب فى رسالة كشف الشبهات
إِذَا تَحَقَّقْتَ أَنَّ الَّذينَ قَاتَلَهُمْ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَحُّ عُقُولاً، وَأَخَفُّ شِرْكاً مِنْ هَؤُلاءِ، فَاعْلَمْ أَنَّ لِهَؤُلاءِ شُبْهةً يُورِدُونَها على ما ذَكَرْنا وَهِيَ مِنْ أعْظَمِ شُبَهِهِمْ، فَأَصْغِ سَمْعَكَ لِجَوابِهَا.
وَهِيَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ:

(إِنَّ الَّذِينَ نَزَلَ فِيهِم القُرْآنُ لا يَشْهَدونَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، ويُكَذِّبُونَ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُنْكِرونَ البَعْثَ، وَيُكَذِّبُونَ القُرْآنَ وَيَجْعَلُونَهُ سِحْراً، وَنَحْنُ نَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، وَنُصَدِّقُ القُرْآنَ، وَنُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ، وَنُصَلِّي وَنَصُومُ، فَكَيْفَ تَجْعَلونَنا مِثْلَ أُولَئِكَ؟).

محمدعبداللطيف
2019-12-22, 01:29 PM
قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ
(إِذَا تَحَقَّقْتَ) مِمَّا تَقَدَّمَ (أَنَّ الَّذِينَ قَاتَلَهُم رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَحُّ عُقُولاً وَأَخَفُّ شِرْكًا مِنْ هَؤُلاَءِ) يَعْنِي: مِن شِرْكِ مُشْرِكِي زَمَانِنَا (فَاعْلَمْ أَنَّ لِهَؤُلاَءِ شُبْهَةً يُورِدُونَهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا) يُدْلِي بِهَا بَعْضُ مَنْ في زَمَنِ المُؤَلِّفِ مِن كَوْنِ مَا عَلَيْهِ مُشْرِكُو زَمَانِنَا مِن الشِّرْكِ كشِرْكِ الأَوَّلِينَ؛ بَلْ يَقُولُونَ: إِنَّكُم مَا اقْتَصَرْتُمْ عَلَى أَنْ جَعَلْتُمُونَا مِثْلَهُم بل زِدْتُمْ، يُرِيدُ صَاحِبُ هَذِه الشُّبْهَةِ مِمَّا اعْتَرَضَ بِهِ مِن الفُرُوقِ نَفْيَ مَا قَرَّرَهُ المُصَنِّفُ في هَذِه التَّرْجَمَةِ (وهي مِنْ أَعْظَمِ شُبَهِهِمْ فَأْصْغِ سَمْعَكَ لِجَوَابِهَا) وَقَدْ أَجَابَ عَنْهَا المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ بِتِسْعَةِ أَجْوِبَةٍ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا كَافٍ شَافٍ في رَدِّهَا، لَكِنْ كَثَّرَهَا لِمَزِيدِ كَشْفٍ وَإِيضَاحٍ.
(وَهِيَ أَنَّهُم يَقُولُونَ: إِنَّ الَّذِينَ نَزَلَ فِيهِمُ القُرْآنُ لاَ يَشْهَدُونَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) يَعْنِي: لاَ يَنْطِقُونَ بالشَّهَادَتَيْ نِ (وَيُكَذِّبُونَ الرَّسُولَ) وَيَمْتَنِعُونَ عَنْ طَاعَتِهِ (وَيُنْكِرُونَ البَعْثَ) وَلاَ يُصَدِّقُونَ بِهِ (وَيُكَذِّبُونَ القُرْآنَ ويَجْعَلُونَهُ سِحْرًا) وَلاَ يُصَلُّونَ وَلاَ يَصُومُونَ (وَنَحْنُ نَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَنُصَدِّقُ القُرْآنَ، ونُؤْمِنُ بِالبَعْثِ، ونُصَلِّي وَنَصُومُ، فَكَيْفَ تَجْعَلُونَنَا مِثْلَ أُولَئِكَ؟) فَكَيْفَ تُسَوُّونَ مَن يُقِرُّ بِهَذِهِ الأُمُورِ العَظِيمَةِ وبَيْنَ مَن يَجْهَلُهَا؛ يَعْنِي وأَنَّكُمْ سَوَّيْتُم بَيْنَ المُتَفَارِقَيْ نِ وَجَمَعْتُمْ بَيْنَ المُخْتَلِفَيْن ِ؛ بل مَا اقْتَصَرْتُمْ، بل جَعَلْتُمُونَا أَعْظَمَ جَهْلاً وَضَلاَلاً منهم.
فَعَرَفْتَ أَنَّهُم يُعَارِضُونَ مَا قَرَّرَهُ المُصَنِّفُ ويَقُولُونَ لَسْنَا منهم، وَأَنْتُم جَعَلْتُمُونَا أَعْظَمَ مِنْهُم، كَيْفَ تَجْعَلُونَ مَن كَانَتْ فيه هَذِه الخِصَالُ والفُرُوقُ كَمَنْ لَيْسَ فِيهِ مِنْهَا شَيْءٌ؟
ويَأْتِيكَ جَوَابُ المُؤَلِّفِ لَهُم وَأَنَّ هَذِهِ الفُرُوقَ غَيْرُ مُؤَثِّرَةٍ بالكِتَابِ والسُّنَّةِ والإِجْمَاعِ، بَلْ هَذِه الفُرُوقُ مِمَّا يَتَغَلَّظُ كُفْرُهُم بِهَا؛ فَإِنَّ الكَافِرَ الأَصْلِيَّ الذي مَا أَقَرَّ بِشَيْءٍ مِن ذَلِكَ أَهْونُ كُفْرًا مِمَّنْ أَقَرَّ بالحَقِّ وجَحَدَهُ، ولذلك المُرْتَدُّ أَعْظَمُ كُفْرًا مِن الكَافِرِ الأَصْلِيِّ في أَحْكَامِهِ.---------------------------- قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين
في هذه الجملةِ يُبَيِّنُ رَحِمَهُ اللهُ شُبْهَةً مِنْ أَعْظَمِ شُبَهِهم، ويُجِيبُ عنها فيَقولُ: (إذا تَحَقَّقْتَ أنَّ المشركينَ في عهدِهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أصَحُّ عُقولاً وأخَفُّ شركًا مِنْ هؤلاءِ، فاعْلَمْ أنَّهم يُورِدونَ شُبْهةً) حيثُ يَقولونَ: (إنَّ المشركينَ في عهدِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يَشْهَدونَ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ، وأنَّ
مُحمَّدًا رسولُ اللهِ، ولا يُؤْمِنونَ بالبعثِ ولا الحسابِ ويُكَذِّبونَ القرآنَ، ونحنُ - يَعْنِي مُشْرِكِي زَمَانِهِ - نَشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وأنَّ محمَّدًا رسولُ اللهِ، ونُصَدِّقُ القرآنَ، ونُؤْمِنُ بالبعثِ، ونُقِيمُ الصَّلاةَ ونُؤْتِي الزَّكاةَ، ونَصومُ رَمضانَ، فكيفَ تَجْعَلُوننا مِثلَهم، وهذهِ شُبْهَةٌ عظيمةٌ).--------------------------- قال الشيخ صالح الفوزان
مَازَالَ الشَّيْخُ -رَحِمَهُ اللهُ- يُوَاصِلُ الرَّدَّ عَلَى شُبُهَاتِ المُشَبِّهِينَ في مَسْأَلَةِ الشِّرْكِ والتَّوْحِيدِ، فانْتَهَى إِلَى هَذِه الشُّبْهَةِ العَظِيمَةِ الَّتِي هي مِن أَعْظَمِ شُبَهِهِم وأَخْطَرِهَا، أَلاَ وهي قَوْلُهُم: (إنَّ مَن شَهِدَ أَن لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ وأنَّ
مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وصَلَّى وَصَامَ وحَجَّ وأَدَّى الأَعْمَالَ أَنَّه لاَ يَكْفُرُ ولو فَعَلَ مَا فَعَلَ مِن أَنْوَاعِ الرِّدَّةِ.
أَمَّا الَّذِينَ نَزَلَ فيهم القُرْآنُ وهم المُشْرِكُونَ الأَوَّلُونَ فإنَّهم لَيْسُوا مِثْلَ هَؤُلاَءِ، فَهُم لَمْ يَشْهَدُوا أَن لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ وأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، ولَمْ يَدْخُلُوا فِي الإِسْلاَمِ، فَهُم لاَ يُؤْمِنُونَ باللهِ ولاَ بالرَّسُولِ ولاَ بالإِسْلاَمِ ولاَ بالقُرْآنِ.

أَمَّا هَؤُلاَءِ فأَظْهَرُوا الإِيمَانَ بالبَعْثِ ويُصَلُّونَ ويَصُومُونَ ويَحُجُّونَ ويُزَكُّونَ ويَذْكُرُونَ اللهَ كَثِيرًا، فالشَّيْخُ -رَحِمَهُ اللهُ- عِنْدَ هذه الشُّبْهَةِ خَاصَّةً قَالَ: أَصْغِ سَمْعَكَ لِجَوَابِهَا؛ فإِنَّها مِن أَعْظَمِ شُبَهِهِم.

فالشَّيْخُ رَدَّ عَلَى هَذِه الشُّبْهَةِ مِن سِتَّةِ وُجُوهٍ مُهِمَّةٍ:
الوَجْهُ الأَوَّلُ:أَنَّ مَن آمَنَ بِبَعْضِ الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وكَفَرَ بِبَعْضِهَا الآخَرِ فهو كَافِرٌ بالجَمِيعِ؛ لأَِنَّهُم أَنْكَرُوا التَّوْحِيدَ الَّذي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وهو إِفْرَادُ اللهِ بالعِبَادَةِ، فَهَؤُلاَءِ لَمْ يُفْرِدُوا اللهَ بالعِبَادَةِ، وإِنَّمَا أَشْرَكُوا مَعَهُ غَيْرَه مِن الأَوْلِيَاءِ والصَّالِحِين.

فالإِسْلاَمُ لاَ يَقْبَلُ التَّجْزِئَةَ ولاَ التَّفْرِقَةَ،و أَعْظَمُ الإِسْلاَمِ التَّوْحِيدُ وهو دَعْوَةُ جَمِيعِ الرُّسُلِ، وهَؤُلاَءِ جَحَدُوا أَعْظَمَ شَيْءٍ وهو تَوْحِيدُ العِبَادَةِ، وقَالُوا: لاَ بَأْسَ أَنْ يَنْذُرَ الإِنْسَانُ لِفُلاَنٍ، ويَذْبَحَ لِفُلاَنٍ؛ لأَِنَّهُ وَلِيٌّ، والوَلِيُّ يَنْفَعُ ويَضُرُّ، مِمَّا هو مِثْلُ فِعْلِ المُشْرِكِينَ الأَوَّلِينَ.

محمدعبداللطيف
2019-12-22, 01:30 PM
قال الشيخ صالح آل الشيخ قال: (وإذا تحققت أن الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصح عقولاً وأخف شركاً من هؤلاء، فاعلم أن لهؤلاء شبهة يوردونها على ما ذكرنا وهي من أعظم شبههم فأصغ سمعك لجوابها، وهي أنهم يقولون: إن الذين نزل فيهم القرآن لا يشهدون أن لا إله إلا الله، ويكذبون الرسول صلى الله عليه وسلم، وينكرون البعث، ويكذبون القرآن ويجعلونه سحراً، ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ونصدق القرآن ونؤمن بالبعث ونصلي ونصوم، فكيف تجعلوننا مثل أولئك؟)

فهذه شبهة جديدة ذكرها إمام الدعوة -رحمه الله تعالى- مما يورده الخصوم، وهذه الشبهة شبهة العلماء؛ لأن الذي يوردها من أهل العلم، فإن الشبه التي ذكرنا فيما سبق وإن جوابها الذي ذكره الشيخ، أقر بحسنه جمع كثير من أهل العلم في الأمصار؛ كما قال إمام الدعوة رحمه الله تعالى: (وقد عرضت ما عندي على علماء الأمصار فوافقوني في التوحيد وخالفوني في التكفير والقتال).
يعني: وافقوه في معنى العبادة، وفي معنى التوحيد، وفي معنى الشرك بالله جل وعلا، لكن خالفوا في أن عُبّاد القبور، عبَّاد الأضرحة والأوثان والأشجار والأحجار، إلى آخره، خالفوا في أن هؤلاء مشركون تقام عليهم الحجة فإن استجابوا وإلا قوتلوا.


خالفوا لشبهة وهي أن هؤلاء ليسوا كالأولين؛ لأن الأولين الذي بُعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبُعثت إليهم الأنبياء، هؤلاء يقرون بأنهم اتخذوا آلهة مع الله -جل وعلا- ولم ينقادوا للرسل، بل قالوا: إن هناك آلهة مع الله؛ كما قال سبحانه مخبراً عن قولهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ}.
وكقول الله جل وعلا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ}.


وكقوله -جل وعلا- في سورة هود: {إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} إلى آخر الآيات في هذا الباب التي فيها اعتقاد أولئك بأن هناك آلهة مع الله جل وعلا.


قال طائفة من الناس من المنتسبين للعلم: إن المشركين من هذه الأمة من عباد القبور هؤلاء وقعوا في الشرك، ولكن هذا الشرك ليس كفراً منهم؛ لأنهم يشهدون (أن لا إله إلا الله) فإذا سألت الواحد منهم هل هناك إله مع الله؟ قال: لا، فحين يفعل، يفعل الشيء مع عدم اعتقاد أنه تأليه لغير الله جل وعلا، فخالف صنيع أولئك المتقدمين الذين اعتقدوا بإلهين، بل اعتقدوا بآلهة مع الله جل جلاله.



كذلك قالوا: هؤلاء إن وقعوا في هذه الأشياء، فهي كفر عملي لا يخرج من الملة، ككفر من قاتل مسلماً، وكفر من أتى حائضاً، وكفر من أتى امرأة في دبرها، وكفر كذا وكذا مما جاء في النصوص تسميته كفراً وليس بالكفر الأكبر بل هو كفر أصغر، وأشباه ذلك.
وقالوا أيضاً: إن هؤلاء الذين من هذه الأمة فعلوا تلك الشركيات هؤلاء لا يكذِّبون الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا ينكرون البعث، ولا يكذبون القرآن ويجعلونه سحراً، ولا يقولون بإنكار الزكاة والصلاة، أو بعدم تحريم الخمر، أو بعدم تحريم الزنى؛ كفعل المشركين في الزمن الأول، بل هم مقرون بكل هذه التفاصيل لكنهم فعلوا ما فعلوا، وهذا يعني أنه لا يخرجهم من الملة، وليسوا بمشركين الشرك الأكبر.
وإذا تقرر هذا:فإن هذه الشبهة كما ذكر الإمام رحمه الله تعالى - وما أعرفه بشبه القوم - قال: (فاعلم أن لهؤلاء شبهة يوردونها على ما ذكرنا، وهي من أعظم شبههم، فأصغ سمعك لجوابها).
في هذه الجملة ذكر أن هذه الشبهة يوردونها على ما ذكر الإمام، يعني ما ذكره في المحاجة ورد الشبه في التوحيد، في معنى التوحيد، ومعنى الشرك، ومعنى عبادة غير الله، ومعنى الالتجاء إلى الصالحين، وهل الالتجاء إلى الصالحين شرك أم لا؟ ومعنى التوسل، وأشباه ذلك، وتفاصيله مما ذُكر من أول الرسالة إلى هذا الموضع.
فإذا تبين ذلك قال: (لهؤلاء شبهة يوردونها على ما ذكرنا) يعني من كل جواب الشبه السالفة، فإن مُحصلة الشبه السالفة أن يقال: أنت محقٌ في هذا الجواب، وأنّ هذا الذي يفعل شرك، وأن الالتجاء إلى الصالحين شرك، وأن طلب الشفاعة من الأموات شرك، إلى آخر ذلك، وأن صرف أي نوع من أنواع العبادة لغير الله شرك، فأنت محق، وهؤلاء الذين أدلوا بالشبه في استحسان هذه الأفعال مبطلون، وما ذكرته صواب في أن هذه الأشياء شرك، لكن هذه الأشياء شرك ولكنها لا تخرج من الملة من فعلها، وهذا هو جواب هذه الشبهة فيما يأتي من كلام الإمام رحمه الله تعالى.
قال الشيخ رحمه الله: (وهي من أعظم شبههم).
لم صارت من أعظم الشبه؟


لأنها كما ذكرت شبهة العلماء التي يذكرونها ويروجون على العامة هذا الأمر، فكثيرون من الذين ردوا على الشيخ نقلوا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وكلام ابن القيم وقالوا: (أنت محق فيما تقول، لكن كون هؤلاء يكفرون الكفر الأكبر هذا ليس بصحيح، بل هؤلاء على كفر أصغر، هؤلاء على شرك أصغر؛ وليسوا بمشركين الشرك الأكبر).
هذا تقرير الشبهة على حسب ما يوردونها، وهذه الشبهة أجاب عنها الإمام رحمه الله تعالى هنا إجابة مختصرة، وفي ردود أئمة الدعوة ابتداءً من الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- في كتابه (إفادة المستفيد في كفر تارك التوحيد) وكتب تلامذته وأبنائه وتلاميذهم إلى هذا الزمن ما يبين رد هذه الشبهة، فإن هذه الشبهة من أعظم هذه الشبه، فتفصيل رد هذه الشبهة في ردود أئمة الدعوة المختلفة من وقت الشيخ محمد -رحمه الله- إلى زماننا هذا، فيها تفصيل الرد على هذه الشبهة، ولا يتسع المقام لإيراد كل ما ذكروه، لكن نذكر تقرير ما ذكره الإمام رحمه الله تعالى، وهو أصل هذه الردود، وبه كفاية.


قال: (وهي أنهم يقولون: إن الذين نزل فيهم القرآن - يعني من المشركين - لا يشهدون أن لا إله إلا الله، ويكذبون الرسول صلى الله عليه وسلم، وينكرون البعث، ويكذبون القرآن ويجعلونه سحراً، ونحن - يعني: نفارق أولئك - ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ونصدق القرآن، ونؤمن بالبعث، ونصلي ونصوم، فكيف تجعلوننا مثل أولئك؟).


وهذه لاشك أنه إذا أُتي إليها من جهة عاطفية فإنها تروج؛ لأن الناظر نظراً عاطفياً مجرداً عـن الحجة والبرهان قد يروج عليه ذلك فيقول: هؤلاء يصلون ويصومون، وقد يكون بعضهم في جبهته أثر السجود، وبعضهم يصوم يوماً ويفطر يوماً، وبعضهم تصدَّق بكل ماله، وبعضهم مجاهد في سبيل الله وحارب الكفار وفعل ما فعل من أنواع الجهاد، وبعضهم كذا وكذا، فيذكر جملة الأعمال الصالحة التي عملها، فيقول: كيف تجعله مثل أبي جهل؟ وكيف تجعله مثل أبي لهب؟ كيف تجعله مثل فلان وفلان؟ كيف تجعله مثل المشركين؟
وهذه حجة عاطفية، ومعلوم أن الديانة قامت على البرهان، والبرهان العاطفي أو القضية العاطفية ليست برهاناً باتفاق العقلاء؛ لأن العاطفة للهوى مدخل عليها، والبراهين خارجة عن مقتضى الهوى، البرهان يقام بالحجة المتفق على الاحتجاج بها، شرعية سمعية أو عقلية، في كلام العقلاء وكلام النُظّار من جميع الفرق، يعني في كون الحجة تمضي والحجة العاطفية ليست بحجة؛ لأنها ناشئة عن رغبة وهوى.
فلذلك نقول: هذه الشبهة ينبغي أن يتخلص صاحبها أولاً من العاطفة، والعاطفة لا مدخل لها في الدين؛ لأنها ليست أحد الأدلة، وإنما الأدلة على المسائل التي يحتج بها في هذه الشريعة: الكتاب والسنة والإجماع والقياس الصحيح والعقل الصريح وأقوال الصحابة، إلى آخر الأدلة المتفق عليها والمختلف فيها، يعني: أن الحجج في الشريعة ليست فيها الحجة العاطفية: كيف نجعل هذا مثل هذا؟ هذا أمره عظيم، هذا فيه كذا وفيه كذا، فكيف يجعل على شبه بأولئك؟

محمدعبداللطيف
2019-12-22, 01:31 PM
كشف الشبهة الثانية عشرة وهي احتجاجهم بحديث: (أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟)
قال الامام محمد بن عبد الوهاب فى رسالة كشف الشبهات

وَلِلْمُشْرِكين َ شُبْهَةٌ أُخْرَى:
وهي أنهم يَقُولُونَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنْكَرَ عَلَى أُسَامَةَ رضي الله عنه قَتْلَ مَنْ قال: (لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ) وقالَ: ((أَقَتلْتَهُ بعدَما قال لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ)) وَكَذَلِكَ قَولُهُ: ((أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ)) وَكَذَلِكَ أَحَادِيثُ أُخْرَى في الْكَفِّ عَمَّنْ قالَها.وَمُرَاد هَؤلاءِ الجَهَلَةِ:أَنّ مَنْ قَالَها لا يَكْفُرُ، وَلا يُقْتَلُ، وَلَوْ فَعَل مَا فَعَلَ.فَيُقَال لِهَؤُلاءِ الجَهَلَةِ المشركينَ: مَعْلُومٌ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاتَلَ اليَهُودَ وَسَبَاهُمْ وَهُمْ يَقُولُونَ: (لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) وَأَنَّ أَصْحَابَ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاتَلُوا بَنِي حَنِيفَةَ، وَهُمْ يَشْهَدُونَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، وَيُصَلُّونَ ويَدَّعُونَ الإِسْلامَ، وَكَذَلِكَ الَّذينَ حَرَّقَهُم عَليُّ بنُ أَبي طالبٍ رضي الله عنه بِالنَّارِ.وَهَ ُلاءِ الجَهَلةُ مُقِرُّونَ أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ البَعْثَ كَفَرَ وَقُتِلَ وَلَوْ قَالَ (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) وَأَنَّ مَنْ أنكرَ شَيْئاً مِنْ أَرْكَانِ الإِسلامِ كَفَرَ وَقُتِلَ وَلَوْ قالهاَ، فَكَيْفَ لا تَنْفَعُهُ إِذا جَحَدَ شيئاً من هذه الفُرُوعِ، وتَنْفَعُهُ إِذا جَحَدَ التَّوْحِيدَ الَّذِي هُوَ أسَاسُ دِينِ الرُّسُلِ وَرَأْسُهُ؟. وَلَكِنْ أَعْدَاءُ اللهِ ما فَهِمُوا مَعْنَى الأَحَادِيثِ:


فَأَمَّا حَدِيثُ أُسَامَةَ رضي الله عنه فَإِنَّهُ قَتَلَ رَجُلاً ادَّعَى الإِسْلامَ بِسَبَبِ أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ ما ادَّعَاه إِلاَّ خَوْفاً على دَمِهِ وَمَالِهِ.وَالر َجُلُ إِذا أَظْهَرَ الإِسْلامَ وَجَبَ الكَفُّ عَنْهُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ مِنْهُ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ، وَأَنْزَل اللهُ تَعالى في ذَلِكَ {يَا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا} الآية أَيْ: تَثَبَّتُوا، فَالآيةُ تَدُلُّ عَلى أَنَّهُ يَجِبُ الكَفُّ عَنْهُ وَالتَثَبُّتُ، فَإِن تَبَيَّنَ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ ما يُخَالِفُ الإِسْلامَ قُتِلَ؛ لِقولِهِ: {فَتَبَيَّنُوا} وَلَوْ كانَ لا يُقْتَلُ إِذَا قَالَها لَمْ يَكُنْ لِلتَّثَبُّتِ مَعْنىً.وَكَذَل كَ الحدِيثُ الآخَرُ وَأَمْثَالُهُ مَعْنَاهُ ما ذكرتُ أَنَّ مَنْ أَظْهَرَ الإِسْلامَ والتَّوحِيدَ وَجَبَ الكَفُّ عَنْهُ إِلا أنْ يَتَبَيَّنَ مِنْهُ ما يُنَاقِضُ ذَلِكَ.وَالدَّل يلُ عَلَى هَذَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي قال: ((أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ)) وَقَالَ: ((أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ)) هُوَ الَّذِي قَالَ فِي الخَوَارجِ: ((أَيْنَمَا لَقِيْتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُم؛ لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لأَقْتُلَنَّهُم ْ قَتْلَ عَادٍ)) مَعَ كَوْنِهِمْ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ عِبَادَةً تكبيراً وَتَهْلِيلاً، حَتَّى إنَّ الصَّحَابَةَ يَحْقِرُونَ أَنْفُسَهُمْ عِنْدَهُمْ، وَهُمْ تَعَلَّمُوا العِلْمَ مِنَ الصَّحابَةِ، فَلَمْ تَنْفَعْهُم (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) وَلا كَثْرَةُ العِبَادَةِ، وَلا ادِّعَاءُ الإِسْلامِ لَمَّا ظَهَرَ مِنْهُمْ مُخَالَفَةُ الشَّرِيعَةِ.
وَكَذَلِكَ: مَا ذَكَرْنَا مِن قِتَالِ اليَهُودِ، وَقِتَالِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم بَني حَنِيفَةَ.
وَكَذَلِكَ:أَرَ دَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَغْزوَ بَني الْمُصْطَلِقِ لَمَّا أَخْبَرَهُ رَجُلٌ أَنَّهُمْ مَنَعُوا الزَّكَاةَ حَتَّى أَنْزَل اللهُ: {يَا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ} الآية وَكَانَ الرَّجُلُ كَاذِباً عَلَيْهِمْ.فَكُ ُّ هَذَا يَدُلُّ عَلى أَنَّ مُرَادَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الأحَادِيثِ الواردة مَا ذَكَرْنَا.

محمدعبداللطيف
2019-12-22, 01:33 PM
قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ
وَلَهُم (شُبْهَةٌ أُخْرَى: يَقُولُونَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْكَرَ عَلَى أُسَامَةَ قَتْلَ مَن قَالَ (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) وَقَالَ: ((أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ)) وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ)) وَأَحَادِيثُ أُخْرَى في الكَفِّ عَمَّنْ قَالَهَا).( ومراد هؤلاء الجَهَلَةِ) مِن إِيرَادِ هذه الأَحَادِيثِ والتَّشْبِيهِ بِهَا (أَنَّ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ لاَ يَكْفُرُ وَلاَ يُقْتَلُ وَلَوْ فَعَلََ مَا فَعَلَ!) يَعْنِي: أَنَّ النُّطْقَ بِهَا كَافٍ في إِسْلاَمِ العَبْدِ. ومُرَادُهُم أَنَّكُم مَعْشَرَ المُوَحِّدِينَ تُكَفِّرُونَ مَنْ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ…. إلخ، وَهَذَا مِن عَظِيمِ جَهْلِهِم وعَمَايَتِهِم؛ يَرَوْنَ أَنَّ الدِّينَ رُسُومٌ فَقَطْ، مَا دَرَوْا أَنَّ لَهَا أَرْوَاحًا ومَعَانِيَ؛ لَهَا مَعْانٍ هي المُرَادَةُ، الأَلْفَاظُ قَوَالِبُ جُثَّةٍ والمَعَانِي رُوحٌ، ويَأْتِيكَ كَشْفُهَا وَمُرَادُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن هَذِه الأَحَادِيثِ وَأَنَّهُ لاَ كَمَا ظَنُّوا وزَعَمُوا.


(فَيُقَالُ لِهَؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ الجُهَّالِ) في الجَوَابِ عن ذَلِكَ: (مَعْلُومٌ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاتَلَ اليَهُودَ) في عِدَّةِ مَوَاطِنَ (وَسَبَاهُم) أَخَذَ نِسَاءَهُم مَمَاليِكَ وَعَبِيدًا كالصَّنِيعِ بِسَائِرِ الكُفَّارِ (وهم يَقُولُونَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) فَلاَ مَنَعَ قَوْلُ (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) مِن قِتَالِهِم وسَبْيِهِم، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ قَوْلِ (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) لاَ يَمْنَعُ مِن التَّكْفِيرِ، بل يَقُولُها نَاسٌ كَثِيرٌ ويَكُونُونَ كُفَّارًا: إِمَّا لِعَدَمِ العِلْمِ بِهَا، أو وُجُودِ مَا يُنَافِيهَا، فَلاَبُدَّ مَعَ النُّطْقِ بِهَا مِن أَشْيَاءَ أُخَرَ؛ أَكْبَرُهَا مَعْرِفَةُ مَعْنَاهَا والعَمَلُ بِهِ.(وَأَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاتَلُوا بَنِي حَنِيفَةَ وهم يَشْهَدُونَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ ويُصَلُّونَ ويَدَّعُونَ الإِسْلاَمَ) وَمَعَ ذَلِكَ قَاتَلُوهُم، وَسَبَوْا حَرِيمَهُم وذَرَارِيَّهُم، مَعَ قَوْلِهِم لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ … إلخ، لأَِجْلِ مُكَفِّرَاتٍ أُخَرَ.(وَكَذَلِ كَ الَّذِينَ حَرَّقَهُم عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) مَعَ صَلاَتِهِم وادِّعَائِهِمُ الإِسْلاَمَ، وَهُمْ مِن أَصْحَابِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَلَكِنْ وَقَعَ مِنْهُم الغُلُوُّ في عَلِيٍّ وتَجَاوَزُا الحَدَّ في تَعْظِيمِهِ حَتَّى ادَّعَوْا فيه الإِلَهِيَّةَ؛ فَإِنَّه لَيْسَ المُرَادُ اللَّفْظَ، بَلِ اللَّفْظُ وإِقْرَارٌ وَعَمَلٌ؛ فَإِنْ حَصَلَ فهو مَعَهُ (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) وإِلاَّ فَإِنَّهُ مَا جَاءَ إِلاَّ بِلَفْظِهَا فَقَطْ؛ ورُوحُهَا وحَقِيقَتُهَا مَفْقُودٌ.
فَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ يَنْقُضُهَا أَشْيَاءُ لَيْسَتْ هي مِن ذَاتِهَا؛ مِمَّا يَنْفِي (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) مَسَبَّةُ الرَّسُولِ، وَرَمْيُ أَزْوَاجِهِ بالإِفْكِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَنْقُضُ هَذِه الكَلِمَةَ العَظِيمَةَ فَكَيْفَ بِنَفْيِهَا نَفْسِهَا مِن عِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ وَجَعْلِ الأَوْثَانِ قِبْلَةَ قَلْبِ صَاحِبِهَا؟! بل هَذَا أَسْوَأُ حَالاً مِمَّنْ يَمْتَنِعُ عن النُّطْقِ بِهَا؛ لأَِنَّهُ يُؤْخَذُ بِأَنَّهُ دَخَلَ الإِسْلاَمَ، ثُمَّ مَا يُوجَدُ منه يُفِيدُ أَنَّهُ انْتَكَسَ عَمَّا تُسَمَّى بِهِ؛ فَيَكُونُ مُرْتَدًّا، والمُرْتَدُّ أَعْظَمُ حُكْمًا مِن الكَافِرِ الأَصْلِيِّ: مِنْهَا أَنَّ مَالَهُ فَيْءٌ؛ إلى آخَرِ أَحْكَامِ المُرْتَدِّينَ؛ بِخِلاَفِ اليَهُودِيِّ والنَّصْرَانِيّ ِ والمَجُوسِيِّ فَإِنَّهُم يَتَوارَثُونَ بَيْنَهُم.
هَذَا مِن تَغْلِيظِ كُفْرِهِ؛ لأَِنَّهُ عَرَفَ ثُمَّ أَنْكَرَ وأَبْصَرَ ثُمَّ عَمِيَ، فَصَارَ أَغْلَظَ مِمَّن لَمْ يُقِرَّ أَصْلاً.



(وهَؤُلاَءِ الجَهَلَةُ) المُشْرِكُونَ (مُقِرُّونَ أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ البَعْثَ كَفَرَ وَقُتِلَ وَلَوْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) وَلَمْ تَنْفَعْهُ الشَّهَادَتَانِ (و) هُمْ مُقِرُّونَ أَيْضًا (أَنَّ مَنْ جَحَدَ شَيْئًا مِنْ أَرْكَانِ الإِسْلاَمِ) كَوُجُوبِ الصَّلاَةِ أو وُجُوبِ الصِّيامِ (كَفَرَ وَقُتِلَ وَلَوْ قَالَهَا، فَكَيْفَ لاَ تَنْفَعُهُ إِذَا جَحَدَ شَيْئًا مِن الفُرُوعِ وتَنْفَعُهُ إِذَا جَحَدَ التَّوْحِيدَ الَّذِي هو أَصْلُ دِينِ الرُّسُلِ ورَأْسُهُ؟!).



(وَلَكِنَّ أَعْدَاءَ اللهِ مَا فَهِمُوا مَعْنَى الأَحَادِيثِ) وَلاَ حَامُوا حَوْلَهَا وعَشَا عَلَى أَبْصَارِهِم التَّقْلِيدُ الأَعْمَى والجُمُودُ وَإِحْسَانُ الظَّنِّ بأُنَاسٍ أَعْرَضُوا كُلَّ الإِعْرَاضِ عن التَّوْحِيدِ، وقَلَّدُوا مَن ظَنَّ أَنَّ قَوْلَ: (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) في هَذِه الأَحَادِيثِ كَافٍ مَعَ الجَهْلِ بِمَدْلُولِ (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ).



والإِنْسَانُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُطَالِعَ في كَلاَمِ الفُقَهَاءِ فَإِنَّهُ يَجِدُ أَنَّ الإِنْسَانَ إِذَا أَتَى بِمُكَفِّرٍ قَوْلِيٍّ أو اعْتِقَادِيٍّ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ وَلاَ يَنْفَعُه جَمِيعُ مَا تَسَمَّى بِهِ وعَمِلَهُ.والمُ ْرِكُونَ في هَذِه الأَزْمَانِ زَعَمُوا أَنَّه لاَ يَكْفُرُ إِلاَّ مَن تَعَلَّقَ عَلَيْهَا وَزَعَمَ أَنَّهَا تَسْتَقِلُّ بِجَلْبِ المَنَافِعِ ودَفْعِ المَضَارِّ، وهَذَا مِن كَبِيرِ جَهْلِهِم، وَهَذَا بِعَيْنِه دَينُ المُشْرِكِينَ الَّذِينَ مَا أُنْزِلَتْ جَمْيعُ الكُتُبِ ولاَ أُرْسِلَت الرُّسُلُ إِلاَّ لِرَدِّهِ وإِبْطَالِهِ؛ فَإِنَّ المُشْرِكِينَ الأَوَّلِينَ قَلَّ مِنْهُم مَن يَزْعُمُ أَنَّ مَن يَلْجَأْ إِلَيْهِ يَسْتَقِلَّ بِجَلْبِ المَنَافِعِ ودَفْعِ المَضَارِّ.


(فَأَمَّا حَدِيثُ أُسَامَةَ) يَعْنِي: وَقِصَّتُهُ حِينَ قَتَلَ الرَّجُلَ الَّذِي قَالَ: (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) (فَإِنَّهُ قَتَلَ رَجُلاً ادَّعَى الإِسْلاَمَ بِسَبَبِ أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ مَا ادَّعَاهُ إِلاَّ خَوْفًا عَلَى دَمِهِ ومَالِهِ، والرَّجُلُ إِذَا أَظْهَرَ الإِسْلاَمَ وَجَبَ الكَفُّ عَنْهُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ مِنْهُ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ) يَعْنِي: والحُكْمُ الشَّرْعِيُّ أَنَّهُ لاَ يُقْتَلُ وَيَجِبُ الكَفُّ عَنْهُ مَا دَامَ في حَالَةٍ يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ صَادِقًا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا حَتَّى يَتَبَيَّنَ مِنْهُ ما يُخَالِفُ ذَلِكَ (وَأَنْزَلَ اللهُ في ذَلِكَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُواْ} أي: فَتَثَبَّتُوا، فَالآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ الكَفُّ عَنْهُ والتَّثَبُّتُ) وهو التَّأَنِّي والنَّظَرُ إِلَى مَا يَصِيرُ إِلَيْهِ آخِرَ الأَمْرِ (فَإِنْ تَبَيَّنَ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ ما يُخَالِفُ الإِسْلاَمَ قُتِلَ لِقَوْلِهِ: {فَتَبَيَّنُواْ} وَلَوْ كَانَ لاَ يُقْتَلُ إِذَا قَالَهَا لَمْ يَكُنْ للتَّثَبُّتِ مَعْنًى) وَلَيْسَ المُرَادُ أَنَّهُ يُكَفُّ عنه مُطْلَقًا. النَّاطِقُ بالإِسْلاَمِ إن قَامَتِ القَرَائِنُ أَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ ليَسْلَمَ مِن القَتْلِ فَإِنَّها تَدُومُ عِصْمَتُهُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ مِنْهُ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ، فَإِنْ تَبَيَّنَ مِنْهُ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ قُتِلَ.



(وَكَذَلِكَ الحَديثُ الآخَرُ) ((أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ)) (وَأَمْثَالُهُ مَعْنَاهُ مَا ذَكَرْنَاهُ) ما ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ (أَنَّ مَنْ أَظْهَرَ الإِسْلاَمَ والتَّوْحِيدَ وَجَبَ الكَفُّ عَنْهُ) سَوَاءٌ احْتَمَلَ الحَالُ أَنَّهُ مُتَعَوِّذٌ حَقًّا أو يَحْتَمِلُ أَنَّهُ صَادِقٌ (إِلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ مِنْهُ مَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ) فَإِنْ تَبَيَّنَ مِنْهُ مَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُقَاتَلُ شَرْعًا حَتَّى يَدِينَ بالإِسْلاَمِ.فَ َارَ الَّذِي لاَ يَقُولُ: (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) أَصْلاً يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ: (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) وَإِذَا قَالَهَا وهو قَبْلُ يَقُولُهَا وهو على ما هو عَلَيْهِ مِن عِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ فَإِنَّهُ مَا غَيَّرَ شَيْئًا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَنَا عَلَى مَا أَنَا عَلَيْهِ قَبْلُ، وهو قَوْلُ: (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) فَيُقَالُ لَهُ: أَنْتَ تُقَاتَلُ قَبْلُ وَأَنْتَ تَقُولُ (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) فهو مَا خَلَعَ ولَبِسَ، بل هو عَلَى مَا هو عَلَيْهِ، وَأَهْلُ الكِتَابِ أَيْضًا حَتَّى لَوْ قَالُوا: (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) فَإِنَّهُم مَا غَيَّرُوا شَيْئًا.فَصَارَ هنا ثَلاَثُ صُوَرٍ:

الأُولَى: أَنْ يُعْرَفَ أَنَّهُ حِينَمَا نَطَقَ بِهَا عَمِلَ بِهَا فَهَذَا لاَ يُقْتَلُ.
الثَّانِيَةُ: أَنْ يُشَكَّ فِي حَالِهِ، وَلَوْ يُظَنُّ أَنَّهُ مُتَعَوِّذٌ فَقَطْ، فَهَذَا أَيْضًا لاَ يُقْتَلُ.
الثَّالِثَةُ: أَنْ يَقُولَها وَلَكِنْ يَنْقُضُهَا، فَهَذَا يُقْتَلُ لقَوْلِهِ: {فَتَبَيَّنُواْ} لأَِنَّهُ تَبَيَّنَ مِنْهُ مَا يُخَالِفُ الإِسْلاَمَ، فَحَلَّ دَمُه ومَالُه. وكَذَلِكَ إِذَا كَانَ مِن قَبْلُ يَقُولُهَا ولاَ يَعْمَلُ بِهَا ومُتَكَرِّرٌ منه ذلك فَلاَ حُكْمَ لَهَا.



(والدَّلِيلُ عَلَى هَذَا) عَلَى أَنَّ هَذَا هو مُرَادُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي قَالَ: ((أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ)) وَقَالَ: ((أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللُه)) هو الَّذِي قَالَ في الخَوَارِجِ: ((أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ. لَئِنْ أَدْرَكْتُهُم لأُقَتِّلَنَّهُ مْ قَتْلَ عَادٍ)) مَعَ كَوْنِهِم مِن أَكْثَرِ النَّاسِ عِبَادَةً وتَهِليلاً حَتَّى إِنَّ الصَّحَابَةَ يَحْقِرُونَ صَلاَتَهُم عِنْدَهُم، وَهُمْ تَعَلَّمُوا العِلْمَ مِن الصَّحَابَةِ) فالخَوَارِجُ يَقُولُونَ: (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) ويَزِيدُونَ عَلَى قَوْلِ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ (فَلَمْ تَنْفَعْهُم لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَلاَ كَثْرَةُ العِبَادَةِ ولاَ ادِّعَاءُ الإِسْلاَمِ لَمَّا ظَهَرَ مِنْهُم مُخَالَفَةُ الشَّرِيعَةِ).
فَتَبَيَّنَ أَنَّ مُرَادَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: ((أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ))؟ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَن قَالَ (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) لاَ يَكْفُرُ ولاَ يُقْتَلُ، فَقَوْلُهُم: إِنَّ مَن قَالَ: (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) لاَ يَكْفُرُ ولاَ يُقْتَلُ وَلَوْ فَعَلَ مَا فَعَلَ، مِن عَظِيمِ جَهْلِهِم؛ فَكُلُّ إِنْسَانٍ يَنْظُرُ في نُصُوصِ الشَّرْعِ فَإِنَّهُ مَوْجُودٌ كَثِيرٌ مِمَّنْ يُقْتَلُ وهو يَقُولُ: (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) وَمَنْ قَالَ خِلاَفَ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِن أَهْلِ العِلْمِ بِوَجْهٍ.



(وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِن قِتَالِ اليَهُودِ وقِتَالِ الصَّحَابَةِ بَنِي حَنِيفَةَ) فَلَوْ أَنَّ مُجَرَّدَ قَوْلِ (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) يَعْصِمُ الدَّمَ والمَالَ لَمَا قَاتَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَاتَلَ الصَّحَابَةُ بَنِي حَنِيفَةَ.فَلَي سَ مُرَادُه مِن: ((أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ؟)) وَقَوْلِهِ: ((أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ)) وَأَحَادِيثَ أُخَرَ في الكَفِّ عَمَّنْ قَالَهَا كَمَا اسْتَدَلُّوا بِهِ هُنَا؛ بل مُرَادُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّ مَنْ كَانَ قَبْلُ عَلَى الكُفْرِ، ثُمَّ أَسْلَمَ فَإِنَّهُ يُكَفُّ عنه كَفَّ انْتِظَارٍ، وَلَوْ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ.فالح كْمُ الشَّرْعِيُّ أَنَّه يُكَفُّ عنه ويُنْتَظَرُ؛ إِنِ اسْتَقَامَ عَلَى الإِسْلاَمِ اسْتَمَرَّ بِهِ وإِلاَّ قُتِلَ قَتْلاً أَشَدَّ مِن الأَوَّلِ وأَسْوَأَ حَالاً وَأَحْكَامًا مِن الأَصْلِيِّ كَمَا عُلِمَ مِن الكِتَابِ والسُّنَّةِ وإِجْمَاعِ الأُمَّةِ.



(وَكَذَلِكَ أَرَادَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَغْزُوَ بَنِي المُصْطَلِقِ) وأَمَرَ بالغَزْوِ (لَمَّا أَخْبَرَهُ رَجُلٌ أَنَّهُم مَنَعُوا الزَّكَاةَ حَتَّى أَنْزَلَ اللهُ: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنواْ إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ أَن تُصِيبُواْ قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} وَكَانَ الرَّجُلُ كَاذِبًا عَلَيْهِم، وكُلُّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُرَادَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الأَحَادِيثِ الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا مَا ذَكَرْنَاهُ)، وَكَذَلِكَ الأَمْرُ بِقَتْلِ الخَوَارِجِ.فَت بَيَّنَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ قَوْلَ (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) لاَ يَكْفِي في عِصْمَةِ الدَّمِ والمَالِ، بَلْ إِذَا تَبَيَّنَ مِنْهُ ما يُنَاقِضُ الإِسْلاَمَ قُتِلَ، وَلَوْ قَالَ: (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ).
س: مَا الفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الشُّبْهَةِ والَّتِي قَبْلَهَا؟

ج:أَمَّا الأُولَى: فَلَمَّا ذَكَرَ المُصَنِّفُ أَنَّ مُشْرِكِي زَمَانِنَا أَغْلَظُ شِرْكًا مِن الأَوَّلِينَ بأَمْرَيْنِ، اعْتَرَضُوا عَلَيْهِ بِهَذِه الشُّبْهَةِ وهَذِهِ الفُرُوقِ، وقَالُوا: نَحْنُ نَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ فَكَيْفَ تَجْعَلُونَنَا مِثْلَ أُولَئِكَ الذين لا يَشْهَدُونَ… إلخ، بل ما قَصَرْتُمُونا عَلَيْهِم، بل زِدْتُمُونَا بِهَذَيْنِ الأَمْرَيْنِ. فَأَجَابَهُم المُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ في جَمِيعِ الشُّبَهِ:إِنَّ مَنْ وُجِدَ منه مُكَفِّرٌ بأَنْ كَانَ مُصَدِّقًا الرَّسُولَ في شَيْءٍ ومُكَذِّبَهُ في شَيْءٍ، أو وُجِدَ مِنْهُ مُكَفِّرٌ بِأَنْ رَفَعَ المَخْلُوقَ في رُتْبَةِ الخَالِقِ، أو وُجِدَ منه مُكَفِّرٌ بِأَنْ غَلاَ في أَحَدٍ مِن الصَّالِحِينَ فادَّعَى فيه الأُلُوهِيَّةَ، أو وُجِدَ منه مُخَالَفَةُ الشَّرِيعَةِ في أَشْيَاءَ مِثْلَ إِبَاحَتِهِ نِكَاحَ الأُخْتَيْنِ جَمِيعًا، أو وُجِدَ مِنْهُ مَكُفِّرٌ بِأَيِّ نَوْعٍ كَانَ مِن أَنْواعِ الرِّدَّةِ، أَو وُجِدَ منه مُكَفِّرٌ بأَنِ اسْتَهْزَأَ باللهِ أو آيَاتِهِ.وحَاصِ ُهَا:أَنَّ مَن وُجِدَ منه مُكَفِّرٌ فهو مِثْلُهُم وهو مَعَهُ هَذِهِ الفُرُوقُ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ؛ إِلَى آخِرِ ما ذُكِرَ.

وأَمَّا الثَّانِيَةُ:فه أَنَّهُم يَقُولُونَ: إِنَّ مَن قَالَ: (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) فهو مُسْلِمٌ حَرَامُ الدَّمِ والمَالِ بدَلِيلِ قِصَّةِ أُسَامَةَ… إلخ.فأَجَابَهُم المُصَنِّفُ بِأَنَّ مَن أَظْهَرَ الإِسْلاَمَ والتَّوْحِيدَ وَجَبَ الكَفُّ عَنْهُ إلى أَنْ يَتَبَيَّنَ منه مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ، فَإِنْ تَبَيَّنَ مِنْهُ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ قُوتِلَ، وَلَوْ قَالَهَا، حتى يَعْمَلَ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ.

محمدعبداللطيف
2019-12-22, 01:36 PM
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين
قولُهُ: (ولِلمشركينَ شُبْهةٌ أُخْرَى …) إلخ، يَعْنِي: للمشركينَ المُشَبِّهينَ شُبْهةٌ أخرى معَ ما سَبَقَ مِن الشُّبُهاتِ، وهيَ: أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنْكَرَ على أُسامَةَ بنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قتْلَ الرَّجلِ بعدَ أنْ قالَ: (لا إلهَ إلاَّ اللهُ) فقالَ: ((أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ أَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ)) وما زَال يُكَرِّرُها عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ على أُسامَةَ حتَّى قالَ أُسامَةُ: (تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ بَعْدُ). وكذلكَ قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: ((أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ)) وأمثالُ ذلكَ مِن الأحاديثِ الَّتي يَسْتَدِلُّونَ بها على أنْ مَنْ قالَ: (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) لا يَكْفُرُ ولا يُقْتَلُ، وإنْ كانَ على الشِّركِ منْ جهةٍ أخرى، وهذا مِن الجهلِ العظيمِ؛ فليسَ قولُ (لا إلهَ إلاَّ اللهُ) مُنْجِيًا مِنْ عذابِ النَّارِ، ومُخَلِّصًا للإِنسانِ مِن الشِّركِ إذا كانَ يُشْرِكُ منْ جهةٍ أخرى(1).



قولُهُ: (فيُقالُ لهؤلاءِ المشركينَ الجُهَّالِ …) إلخ، هذا جوابُ الشُّبْهةِ الَّتي أًوْرَدَهَا هؤلاءِ الجُهَّالُ فيما سَبَقَ، وجوابُها بما يلي:


أوَّلاً: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاتَلَ اليهودَ وسَبَاهُم وهمْ يَقولونَ: لا إلهَ إلاَّ اللهُ.
ثانيًا: أنَّ الصَّحابةَ قاتَلُوا بَنِي حَنِيفَةَ وهم يَشْهَدونَ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وأنَّ محمَّدًا رسولُ اللهِ ويُصَلُّونَ ويَدَّعُونَ أنَّهم مُسلِمونَ.
ثالثًا: أنَّ الَّذينَ حَرَّقَهم عَلِيُّ بنُ أَبِي طالبٍ كانوا يَشْهَدونَ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ.



قولُهُ: (وهؤلاءِ الجَهَلةُ مُقِرُّونَ أنَّ مَنْ أَنْكَرَ البَعْثَ …) إلخ، هذا إلْزامٌ لهؤلاءِ الجُهَّالِ واحْتِجاجٌ عليهم بِمثلِ ما قالوا بهِ، فقدْ قالوا: إنَّ مَنْ أَنْكَرَ البَعَثَ فإنَّهُ يُقْتَلُ كافرًا، ويَقولونَ: مَنْ جَحَدَ وجوبَ شيءٍ مِنْ أركانِ الإِسلامِ فإنَّهُ يُحْكَمُ بِكفرِهِ ويُقْتَلُ، وإنْ قالَ (لا إلهَ إلاَّ اللهُ) فكيفَ لا يَكْفُرُ ولا يُقْتَلُ مَنْ يَجْحَدُ التَّوحيدَ الَّذي هوَ أساسُ الدِّينِ، وإنْ قالَ: (لا إلهَ إلاَّ اللهُ؟!) أفلا يَكونُ هذا أحَقَّ بالتَّكفيرِ ممَّنْ جَحَدَ وجوبَ الصَّلاةِ أوْ وجوبَ الزَّكاةِ؟! وهذا إلزامٌ صحيحٌ لا مَحِيدَ عنهُ (2).



قولُهُ: (ولكنَّ أعداءَ اللهِ ما فَهِموا معنى الأحاديثِ …) إلخ، يَعْنِي: الأحاديثِ الَّتي شَبَّهوا بها. ثمَّ أَخَذَ رَحِمَهُ اللهُ يُبَيِّنُ مَعْناها فقالَ: (فأمَّا حديثُ أُسامَةَ) يَعْنِي: الحديثَ الَّذي قَتَلَ فيهِ أُسامَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَنْ قالَ: (لا إلهَ إلاَّ اللهُ) حينَ لَحِقَهُ أُسامَةُ لِيَقْتُلَهُ وكانَ مشركًا، فقالَ: لا إلهَ إلاَّ اللهُ، فقَتَلَهُ أسامةُ لِظَنِّهِ أنَّهُ لمْ يَكُنْ مُخْلِصًا في قولِهِ، وإنَّما قالَهُ تَخَلُّصًا. فليسَ فيهِ دَليلٌ على أنَّ كلَّ مَنْ قالَ: (لا إلهَ إلاَّ اللهُ) فهوَ مسلمٌ ومعصومُ الدَّمِ، ولكنْ فيهِ دليلٌ على أنَّهُ يَجِبُ الكَفُّ عمَّنْ قالَ: (لا إلهَ إلاَّ اللهُ) ثمَّ بعدَ ذلكَ يُنْظَرُ في حالِهِ حتَّى يَتَبَيَّنَ، واسْتَدَلَّ المؤلِّفُ لذلكَ بقولِهِ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا} (3) الآية، فأَمَرَ اللهُ تَبارَكَ وتعالى بالتَّبَيُّنِ، أي: التَّثَبُّتِ، وهذا يَدُلُّ على أنَّهُ إذا تَبَيَّنَ أنَّ الأمرَ كانَ خِلافَ ما كانَ عليهِ، فإنَّهُ يَجِبُ أن يُعامَلَ بما يُتَبَيَّنُ مِنْ حالِهِ، فإذا بانَ منهُ ما يُخالِفُ الإِسلامَ قُتِلَ، ولوْ كانَ لا يُقْتَلُ مُطْلقًا إذا قالَها لمْ يَكُنْ فائدةٌ للأمرِ بالتَّثبُّتِ.

وعلى كلِّ حالٍ؛ فإنَّ حديثَ أُسامَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ليسَ فيهِ دليلٌ على أنَّ مَنْ قالَ: (لا إلهَ إلاَّ اللهُ) وهوَ مُشْرِكٌ يَعْبُدُ الأصنامَ والأمواتَ والملائكةَ والجِنَّ وغيرَ ذلكَ يَكونُ مُسلمًا.



قولُهُ: (وكذلكَ الحديثُ الآخَرُ وأمثالُهُ) يُرِيدُ بالحديثِ الآخَرِ قَوْلَهُ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ …)) إلخ، فبَيَّنَ رَحِمَهُ اللهُ تعالى أنَّ معنى الحديثِ: أنَّ مَنْ أَظْهَرَ الإِسلامَ وَجَبَ الكَفُّ عنهُ حتَّى يُتَبَيَّنَ أمرُهُ؛ لِقولِهِ تعالى: {فَتَبَيَّنُوا}؛ لأنَّ الأمرَ بالتَّبَيُّنِ يُحْتاجُ إليهِ إذا كُنَّا في شكٍّ مِنْ ذلكَ، أمَّا لوْ كانَ قولُهُ: (لا إلهَ إلاَّ اللهُ) بمُجرَّدِهِ عاصِمًا مِن القتلِ فإنَّهُ لا حَاجَةَ إلى التَّبَيُّنِ.
ثمَّ اسْتَدَلَّ المؤلِّفُ رَحِمَهُ اللهُ لِمَا ذَهَبَ إليهِ بأنَّ الَّذي قالَ لأُسامَةَ: ((أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ أَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ؟)) وقالَ: ((أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ …)) هوَ الَّذي أَمَرَ بِقتالِ الخوارجِ وقالَ: ((أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ)) معَ أنَّ الخوارجَ يُصَلُّونَ ويَذْكُرونَ اللهَ ويَقْرَءُونَ القرآنَ، وهمْ قدْ تَعَلَّمُوا مِن الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهم، ومعَ ذلكَ لمْ يَنْفَعْهم ذلكَ شيئًا؛ لأنَّ الإِيمانَ لمْ يَصِلْ إلى قُلُوبِهم(4)، كما قالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّهُ لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ)).



وهوَ أنَّ مُجرَّدَ قولِ: (لا إلهَ إلاَّ اللهُ) ليسَ مانِعًا مِن القتلِ، بلْ يَجوزُ قِتالُ مَنْ قالَها إذا وُجِدَ سببٌ يَقْتَضِي قِتالَهُ.----------------------------- قال الشيخ صالح الفوزان
هَذِه شُبْهَةٌ مِن شُبَهِ المُشْرِكِينَ عُبَّادِ القُبُورِ الَّذين يَدَّعُونَ الإِسْلاَمَ، ويَزْعُمُونَ أنَّ عِبَادَةَ القُبُورِ والاسْتِغَاثَةَ بالأَمْوَاتِ ودُعَاءَ الغَائِبِينَ لتَفْرِيجِ الكُرُباتِ، أنَّ هذه الأُمُورَ لاَ تَضُرُّ ولاَ تُخْرِجُ مِن الإِسْلاَمِ، مَادَامَ صَاحِبُهَا يَقُولُ: (لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ) بِدَلِيلِ أنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- أَنْكَرَ عَلَى أُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- لَمَّا قَتَلَ رَجُلاً مِن المُشْرِكِينَ أَظْهَرَ الإِسْلاَمَ، وقَالَ: (لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ) فَقَتَلَهُ أُسَامَةُ بعدَ ذَلِكَ ظَانًّا أَنَّه إنَّما قَالَهَا لِيَسْلَمَ مِن القَتْلِ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ.

فاسْتَدَلُّوا بِهَذِه القِصَّةِ عَلَى أَنَّ مَن قَالَ: (لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ) فهو مُسْلِمٌ ولَوْ فَعَلَ مَا يُنَاقِضُهَا مِن أَنْوَاعِ الشِّرْكِ الأَكْبَرِ، وكذلك اسْتَدَلُّوا أَيْضًا بقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلاَّ بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ)) قَالُوا: فهذا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَن تَلَفَّظَ بِهَذِه الكَلِمَةِ أَنَّه لاَ يُقْتَلُ، ولَوْ فَعَلَ مَا فَعَلَ مِن أَنْوَاعِ الشِّرْكِ في العِبَادَةِ مَعَ الأَمْوَاتِ والأَضْرِحَةِ، وصَرْفِ العِبَادَاتِ لغَيْرِ اللهِ مَادَامَ أنَّه يَقُولُ: (لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ).


هَذَا حَاصِلُ شُبْهَتِهِم،وهي شُبْهَةٌ خَطِيرَةٌ إِذَا سَمِعَهَا الجَاهِلُ ربَّما تَرُوجُ عَلَيْهِ، لاَسِيَّمَا أنَّهم طَلَوْهَا بِطِلاَءٍ خَادِعٍ وهو الاسْتِدْلاَلُ بالأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، لكن في غَيْرِ مَوْضِعِها، وَقَدْ أَجَابَ الشَّيْخُ -رَحِمَهُ اللهُ- عَن هَذِه الشُّبْهَةِ بِسِتَّةِ أَجْوِبَةٍ مُجْمَلُهَا:

الجَوَابُ الأَوَّلُ: أنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- قَاتَلَ أُنَاسًا يَقُولُونَ: (لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ) فَقَاتَلَ اليَهُودَ، وهُمْ يَقُولُونَ: (لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ) وقَاتَلَ بَنِي حَنِيفَةَ وهم يَقُولُونَ: (لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ) لَمَّا ظَهَرَ مِنْهُم مَا يُنَافِي هَذِه الكَلِمَةَ، ولَمْ تَنْفَعْهُم هَذِه الكَلِمَةُ، ولَمْ تَكُنْ مَانِعَةً مِن قَتْلِهِم.

والجَوَابُ الثَّانِي: في بَيَانِ تَنَاقُضِ هؤلاء؛ لأنَّهم يَقُولُونَ: مَن أَنْكَرَ الصَّلاَةَ أَوِ الزَّكَاةَ أَوِ الحَجَّ، أو أَنْكَرَ البَعْثَ والنُّشُورَ يَكْفُرُ عِنْدَهم، وأمَّا مَن أَنْكَرَ التَّوْحِيدَ فإنَّهُ لاَ يَكْفُرُ عِنْدَهم.

والجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّ مَعْنَى حَدِيثِ أُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ لَيْسَ هو كَمَا فَهِمُوا أَنَّ مَن قَالَ: (لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ) يَكُونُ مُسْلِمًا وَلَو فَعَلَ مَا فَعَلَ مِن الشِّرْكِ والكُفْرِ، وإنَّما مَعْنَاهُ: أَنَّ مَن قَالَ: (لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ) وَجَبَ الكَفُّ عَنْهُ حَتَّى يَظْهَرَ منه مَا يُخَالِفُ مَدْلُولَ هذه الكَلِمَةِ مِن كُفْرٍ أو شِرْكٍ.

والجَوَابُ الرَّابِعُ: أنَّ اللهَ -سُبْحَانَه وتَعَالَى- قَالَ: {إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا}.

فَأَمَرَ -سُبْحَانَه وتَعَالَى- بالتَّبَيُّنِ -يعني: التَّثبُّتَ- بِشَأْنِ مَن قَال:َ (لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ) فَمَا فَائِدَةُ التَّثبُّتِ إِذَا كَانَ لاَ يُقْتَلُ إِذَا قَالَهَا ولو فَعَلَ مَا فَعَلَ؟!

والجَوَابُ الخَامِسُ: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- أَمَرَ بِقَتْلِ الخَوَارِجِ، وهم مِن أَشَدِّ النَّاسِ عِبَادَةً وخَوْفًا مِن اللهِ، ووَرَعًا بل هم تَتَلْمَذُوا عَلَى الصَّحَابَةِ، ومَعَ هَذَا أَمَرَ بِقَتْلِهِم لَمَّا فَعَلُوا أَشْيَاءَ تَتَنَافَى مَعَ الإِسْلاَمِ، وهم يَقُولُونَ: (لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ) وهم أَشَدُّ النَّاسِ عِبَادَةً وصَلاَةً وتِلاَوةً للقُرْآنِ.

والجَوَابُ السَّادِسُ: قِصَّةُ بَنِي المُصْطَلِقِ، وهم قَبِيلَةٌ دَخَلُوا في الإِسْلاَمِ، وأَرْسَلَ إِلَيْهِم النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- المُصَدِّقَ لجِبَايَةِ الزَّكَاةِ، ولَكِنَّه لَمْ يَذْهَبْ إِلَيْهِم، بَلْ رَجَعَ إلى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- وَقَالَ: إنَّهُم مَنَعُوا الزَّكَاةَ، فَهَمَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- بغَزْوِهِم، فَأَنْزَلَ اللهُ: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}.

فالنَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- هَمَّ بغَزْوِهِم وقِتَالِهِم، وَهُم يَقُولُونَ: (لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ) لِمَاذَا؟ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّهُم مَنَعُوا الزَّكَاةَ، فَمَنْعُ الزَّكَاةِ يَتَنَافَى مَعَ قَوْلِ: (لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ) هَذَا مُلَخَّصُ أَجْوِبَةِ الشَّيْخِ -رَحِمَهُ اللهُ- عن هذه الشُّبْهَةِ الخَطِيرَةِ.

محمدعبداللطيف
2019-12-22, 01:38 PM
قال الشيخ صالح آل الشيخ (وللمشركين شبهة أخرى، يقولون: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنكر على

أسامة قتل من قال لا إله إلا الله، وقال له: ((أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله)) وكذلك قوله) إلى آخره.وهذا الكلام مع جوابه أفاد أن شبهة من احتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله))الجواب على هذه الشبهة مترتب في أمور:
الأول: أن يقال: (لا إله إلا الله) تُدخِل في الإسلام، ومن دخل في الإسلام بلا إله إلا الله فإنه يُنتظر له حتى يُرى أيكون آتياً بحقوق (لا إله إلا الله) أم لا؟(فلا إله إلا الله) لها حقوق،وأعظم حقوقها التوحيد بل هي في التوحيد مُطابقة، وإذا كان كذلك، فإن قول القائل: (لا إله إلا الله)محمد رسول الله ينتظر به إذا كان قاله في معركة أو إستسلاماً أو نحو ذلك، ولا يعاقب على ما كان منه من الكفر وإنما يُنتظر به.ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله)) وجاء في الحديث الآخر أيضاً قال: ((حرم دمه وماله إلا بحقها))، ((لا يحل دم امرئ مسلم يشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، وقاتل النفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)).وقوله: ((إلا بحقها))، ((التارك لدينه المفارق للجماعة)) وهنا: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله))كلها متفقة غير مختلفة. ولهذا نقول في جواب هذه الشبهة ما ذكره الشيخ رحمه الله: أن من قال: (لا إله إلا الله) فيما ظاهره أنه خوف فينتظر به، فإن أتى بحقوق (لا إله إلا الله) قُبلت، وإن خالف حقها من التوحيد، فإنه دل على نفاقه وعلى أنه إنما قالها تعوذاً.وأسامة بن زيد -رضي الله عنهما- قَتل قبل التثبت، قتل قبل أن يستفصل وأن يرى هل هذا قالها تعوذا أو قالها على الإسلام حقيقة؟


والجواب الثاني عن هذه الشبهة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قاتل اليهود وسباهم، سواءً يهود قريظة أو بني النظير أو يهود خيبر، قاتلهم -عليه الصلاة والسلام- وهم يشهدون (أن لا إله إلا الله) أو يقولون (لا إله إلا الله) بحسب تفسيرهم (للا إله إلا الله) فعليه الصلاة والسلام قاتلهم على الشرك، قاتلهم على أنهم اتخذوا إلهاً مع الله -جل وعلا- كما قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} فدل على أن قول (لا إله إلا الله) مع عدم تطبيقها، مع عدم عمل ما دلت عليه لا ينفع صاحبه؛ لأنه خالف مقتضاها.


كذلك بنو حنيفة الذين قاتلهم الصحابة، قاتلهم أبو بكر رضي الله عنه - فيما قدمنا - وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا يقولون (لا إله إلا الله) وأن محمداً رسول الله، ويصلون، ويدَّعون الإسلام، لكن لما لم يلتزموا بحكم أداء الزكاة إلى خليفة المسلمين قوتلوا، وكان قتالهم قتال ردة لا قتال بغاة؛ لأنهم ادعوا أنهم غير مخاطبين بحكم الله جل وعلا، بأداء الزكاة لخليفة المسلمين.كذلك الذين حرقهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنار - فيما تقدم - هم كانوا يقولون ظاهرا: (لا إله إلا الله، محمد رسول الله).

قال: (وهؤلاء الجهلة يقولون: إن من أنكر البعث كفر وقُتل ولو قال: لا إله إلا الله، وإن من جحد شيئاً من أركان الإسلام كفر وقتل ولو قالها) يعني: أن هؤلاء الذين احتجوا بفعل أسامة، قالوا ما قاله الفقهاء والعلماء: (بأن من جحد البعث كفر، وأن من جحد شيئاً من أركان الإسلام كفر) فكيف إذاً تقولون هنا: يكفر مع قوله (للا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) وإتيانه بالصلاة والزكاة والصيام والحج إلى غير ذلك، وفي هذه المسألة العظيمة مسألة التوحيد تقولون لا يكفر؟!لا شك أن هذا خُلف من القول وتناقض.
والقاعدة عند أهل العلم واحدة، وهي:أنه من أتى بمكفر قولي أو عملي أو اعتقادي أو شك فيما أنزل الله -جل وعلا- على رسوله صلى الله عليه وسلم -مما كانت دلالته قطعية- فإنه يكفر ولو كان أصلح الصلحاء، بل قد قال الله -جل وعلا- لنبيه عليه الصلاة والسلام: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ}.

قال المصنف -رحمه الله- في بيان تناقض أهل هذه الشبهة: (فكيف لا تنفعه إذا جحد فرعاً من الفروع) يعني: كيف لا تنفعه (لا إله إلا الله)محمد رسول الله إذا جحد فرعاً من الفروع، مسألة من المسائل، جحد الصلاة، جحد الزكاة، جحد الحج، جحد تحريم الربا، جحد حل البيع، إلى آخر ذلك (وتنفعه إذا جحد التوحيد الذي هو أساس الملة وأساس دين الرسل ورأسه؟). لا شك أن هذا تناقض، بل الباب باب واحد، الأصول والفروع في هذا سواء، فمن جحد التوحيد كفر، ومن جحد الصلاة كفر، ومن جحد الزكاة كفر، إلى آخر الأمور، فالباب باب واحد، ولا ينفعه قوله (لا إله إلا الله).قال: (ولكن أعداء الله ما فهموا معنى الأحاديث ولن يفهموا) أما كونهم ما فهموا:فهذا واضح؛ لما قدمنا.
أما كونهم لن يفهموا؛ لأن الشبهة إذا قامت بالقلب، والبدعة إذا قامت بالروح وبالقلب؛ فإن صاحبها يصعب عليه الخلاص منها، ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أبو داود وغيره: (أن أهل الأهواء تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكَلَبَ بصاحبه، لا يبقى منه مفصل ولا عرق إلا دخله ذلك).فأهل البدع استغرقت البدع في قلوبهم حتى حجبتهم عن نور فهم الكتاب والسنة، وهذه من أنواع العقوبات التي يعاقب بها من ترك الكتاب والسنة إلى غيره، فهذا ملاحظ، تجد أن طائفة منهم، من الأذكياء ومن العلماء وممن عنده علوم مختلفة في التفسير وفي الفقه وفي العقائد إلى غير ذلك، ومع ذلك يقعون في هذه المسألة، وإذا فهمتهم لن يفهموا.وهنا بحث في أنهم إذا لم يفهموا فإنهم لا يعذرون بذلك؛لأن فهم الحجة ليس بشرط، بل الشرط هو إقامة الحجة في التكفير، يعني: لا يُكفر إلا من قامت عليه الحجة الرسالية التي يَكفر من أنكرها أو ترك مقتضاها، وأما فهم الحجة فإنه لا يُشترط.لهذا قال الشيخ هنا رحمه الله: (ما فهموا... ولن يفهموا) وإذا كانوا لن يفهموا فإنه لا يعني أنه يسلب عنهم الحكم بالشرك الأكبر؛ لأن فهم الحجة ليس بشرط.وهذا مبحث بحثه علماء الدعوة والعلماء قبلهم، هل فهم الحجة شرط أم ليس بشرط؟ والله -جل وعلا- قال في كتابه: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} يعني: جعلنا على قلوبهم أكنة، أغطية وحجباً أن يفهموا هذا البلاغ وهذا الإنذار {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} فدل على أن المشرك لم يفقه الكتاب ولم يفقه السنة، يعني: لم يفهم.وتحقيق المقام هنا؛ لأن بعض الناس قال: كيف لا تشترطون فهم الحجة؟ وكيف تقام الحجة بلا فهم؟وتفصيل المقام هنا أن فهم الحجة نوعان:
النوع الأول: فهم لسان.
والنوع الثاني: فهم احتجاج.


- أما فهم اللسان: فهذا ليس الكلام فيه، فإنه شرط في بلوغ الحجة؛ لأن الله -جل وعلا- قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} والله -جل وعلا- جعل هذا القرآن عربياً لتقوم الحجة به على من يفقه اللسان العربي، وإذا كان كذلك فإن فهم اللسانهذا لابد منه، يعني: إذا أتاك رجل يتكلم بغير العربية فأتيت بالحجة الرسالية باللغة العربية وذاك لا يفهم منها كلمة، فهذا لا تكون الحجة قد قامت عليه بلسانٍ لا يفهمه حتى يبلغه بما يفهمه لسانه.


والنوع الثاني من فهم الحجة:هو فهم احتجاج، يعني: يفهم أن تكون هذه الحجة التي في الكتاب والسنة -حجة في التوحيد أو في غيره- أرجح وأقوى وأظهر وأبين، أو هي الحجة الداحضة لحجج الآخرين، وهذا النوع لا يشترط؛ لأنه -جل وعلا- بين لنا وأخبر أن المشركين لم يفقهوا الحجة:

-فقال جل وعلا: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ}.

-وقال سبحانه: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ}.
-{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ}.
فهم لا يسمعون سمع فائدة، وإن سمعوا سمع أذن، ولا يستطيعون أن يسمعوا سمع الفائدة وإن كانوا يسمعون سمع أذن.
وقد قال جل وعلا: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} وقال سبحانه: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} حتى وصفهم بأنهم يستمعون وليس فقط يسمعون، بل يستمعون، يعني: ينصتون، ومع ذلك نفى عنهم السمع:
-بقوله: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ}.
-وبقوله: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ}.
-وقوله -جل وعلا- في سورة تبارك:{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}.
فإذاً: هم سمعوا سمع لسان، لكن لم يسمعوا الحجة سمع قلب وسمع فهم للحجة،يعني: أنها راجحة، ولم يفهموا الحجة ولكنهم فهموها فهم لسان، فهموها لأنها أقيمت عليهم بلسانهم الذي يعلمون معه معاني الكلام، ولكن لم يفهموها بمعنى أن الحجة هذه راجحة على غيرها؛ ولهذا قال تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ}
الوجه الثاني:




أن الكفر والكفار أنواع:


منهم:من كفره كفر عناد.

ومنهم:من كفره كفر تقليد{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ}، {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}.

-ومن الكفار من كفره كفر إعراض، معرض عن الحق {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ}.
وإذا اشتُرط فهم الاحتجاج للحجة، فمعنى ذلك: المصير إلى مخالفة الإجماع بالقول بأنه لا يكفر إلا المعاند، إذا قيل إنه يشترط فهم الاحتجاج، يعني: أن يفهم من أقيمت عليه الحجة أن هذه الحجة أقوى وتدحض حجة الخصوم، فمعنى ذلك: أن يصير القول إلى أنه لا يكفر إلا من كان معانداً فقط، ومعلومٌ أن الكفار ليسوا كلهم معاندين، بل منهم المعاند ومنهم غير المعاند، فمنهم من جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم، ومنهم المقلّد، ومنهم المعرض، إلى غير ذلك.فإذاً: فهم الحجة ليس شرطاً في إقامتها، ونعني بفهم الحجة: فهم الحجة من حيث كونها داحضةً لحجج الخصوم، ومن حيث كونها أوضح من حجج الخصوم.فلو قال بعد إقامة الحجة عليه، وبيان الأدلة من الكتاب والسنة، وبيان معنى العبادة، ويقيم الحجة عالم يعلم كيف يقيم الحجة ويزيل الشبهة، لهذا يقول العلماء: الحجة الرسالية، مثل ما يقول شيخ الإسلام في مواضع كثيرة: (ويكفر من قامت عليه الحجة الرسالية). الحجة الرسالية، يعني: التي يقيمها الرسل أو ورثة الرسل ممن يحسنون إقامة الحجة، سمع بالحجة وأنصت لها ثم لم يقتنع، قال: أنالم أقتنع، فعدم الاقتناع هو عدم الفهم ليس بشرط في تمام إقامة الحجة، لهذا الشيخ -رحمه الله- نبه على ذلك بقوله: (ولن يفهموا). وكونهم لن يفهموا لما أُشربت قلوبهم من حب الشرك وحب البدع ومخالفة السنة.ثم بين -رحمه الله- فقال: (فأما حديث أسامة، فإنه قتل رجلاً ادعى الإسلام بسبب أنه ظن أنه ما ادعى الإسلام إلا خوفا على دمه وماله، والرجل إذا أظهر الإسلام وجب الكف عنه حتى يتبين منه ما يخالف ذلك، وأنزل الله تعالى في ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً} الآية) إلى أن قال تعالى في آخرها: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا}ي ني: أن الله -جل وعلا- يمنّ، فمن قال هذه الكلمة فيُنتظر في شأنه حتى يُرى ما يأتي به من حقوق (لا إله إلا الله).قال: (فالآية تدل على أنه يجب الكف عنه والتثبت، فإذا تبين منه بعد ذلك ما يخالف الإسلام قُتِل لقوله تعالى: {فَتَبَيَّنُوا} ولو كان لا يُقْتَلُ إذا قالها لم يكن للتثبت معنى، وكذلك الحديث الآخر وأمثاله، فمعنى ما ذكرناه أن من أظهر التوحيد والإسلام وجب الكف عنه إلا إن تبين منه ما يناقض ذلك) وهذا الذي قاله الشيخ -رحمه الله- محل إجماع بين أهل العلم في تفسير حديثأسامة بن زيد في قتله الرجل، وغير هذا الحديث من أشباهه.


وأما الأحاديث التي عُلّق فيها قتال الناس بقول: (لا إله إلا الله)((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فإذا قالوها عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها)) فإن في الحديث الاستثناء بقوله: ((إلا بحقها))وأعظم حقوقها الواجبة التي تدل عليها الكلمة المطابقة: التوحيد.قال: (والدليل على هذا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي قال:((أقتلته بعد ما قال لا الله إلا الله)) قال: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله)) وهذا واضح أيضاً، وهو الذي قال في الخوارج:((أينما لقيتموهم فاقتلوهم لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد)) مع كونهم من أكثر الناس عبادة وتهليلاً وتسبيحاً) إلى آخر الكلام. وهنا تنبيه على أنه ليس ثَمَّ تلازم ما بين القتال والحكم بالكفر،فقد يحكم بالكفر ولا يقاتل، وقد يقاتل وليس بكافر، يعني: ليس كل من قوتل فإنه كافر، بل تقاتل الطائفة التي تـمتنع عن إظهار شعيرة من شعائر الإسلام، التي تمنع شعيرة من شعائر الإسلام، تقول: (أنا لا أظهر الأذان، لا أظهر الصلوات جماعة، لا ندعوا، كلٌّ يصلي - مثلاً - في بيته، لا نقيم المساجد) ونحو ذلك من شعائر الإسلام، فإنهم وإن كانوا مقرين بذلك لكن إن منعوا هذا فإنهم يقاتلون.


وإن كان تركهم لبعض السنن؛ لأن الطائفة المانعة لشعيرة من شعائر الله تقاتل حتى تُظْهر شعائر الله، وأظهر منه الطائفة الممتنعة التي لم تلتزم حكماً من أحكام الله فإنها تقاتل قتال كفر وردة.إذاً: فمن حكم عليه بأنه يقتل أو يقاتل لا يلزم منه أنه يكفر، وكل من كفر فقد يُقتل وقد لا يقتل أيضاً.


فإذاً:قد يكون الحال أن الكافر يقتل وقد يؤخر فلا يقتل، وكذلك حال القتال فقد يقاتَل من كان كافراً وقد يقاتل من ليس بكافر، ومن النوع الأخير هذا الخوارج، فإن الخوارج لا يحكم بكفرهم؛ لأن علياً -رضي الله- عنه سئل عنهم: أكفارٌ هم؟ فقال: (من الكفر فروا).وفي كفرهم روايتان عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، والمنصور من الروايتين أنه لا يطلق القول بتكفير الخوارج، يعني: الخوارج الذين قاتلوا علياً -رضي الله- عنه وحصل منهم ما حصل مما هو معروف.قال: (وهم تعلموا العلم من الصحابة فلم تنفعهم لا إله إلا الله) الصحابة -رضوان الله عليهم- علّموا العلم في المدينة، وفي مكة، وفي مصر، وفي الشام، وفي اليمن، والخوارج اجتمعوا من هذه الأقطار، أتى طائفة منهم من اليمن وطائفة من المدينة وطائفة من مصر وطائفة من الشام، فتجمعوا على هذا.


فلا يُزكَّون بأنهم من تلاميذ الصحابة، فإن التلمذة شيء والثبات على الحق شيء آخر، بل إن عبد الرحمن بن مُلجَم قاتل علي - رضي الله عن علي - كان في المدينة من أكثر الناس إحساناً للقرآن، فكتب عمر -رضي الله عنه- إلى عامله على مصر عمرو بن العاص -رضي الله عنه- فقال له: (إني مرسل إليك برجل آثرتك به على نفسي - وهو عبد الرحمن بن ملجم - اجعل له داراً يعلّم الناس فيها القرآن) فلما وصل المكتوب إلى عمرو استأجر له داراً أو اكترى له داراً، فجعله يعلم الناس.وكان من أكثر الناس عبادة - عبد الرحمن بن ملجم - ومن أكثر الناس صلاحاً -في أول أمره- حتى دخلته الفتنة بالقيام على عثمان رضي الله عنه، ثم سار مع علي، إلى أن حصل آخر أمره بقتل علي رضي الله عنه، حتى إنه لما قتله وأرادوا القصاص منه، قال: (لا تقتلوني دفعة واحدة، بل قطعوني أجزاء؛ حتى أرى جسدي يُقَطَّعُ وأنا صابر في سبيل الله ولساني يلهج بذكر الله) وهذا من أعظم الفتن التي حصلت لطائفة بعده؛ حتى قال بعض أصحابه بعده ممن غرهم هذا المظهر، قال في مدح عبد الرحمن بن ملجم قاتل علي:


يا ضربة من تقي، يعني: عبد الرحمن بن ملجم، يصفه بأنه تقي صالح.


يا ضربة من تقي ما أراد بها إلا ........ ليبلغ من ذي العرش رضوانا


إني لأذكره حيناً فأحسبـه ............. أوفى البرية عند الله ميزانـاِ


هذا من قول عمران بن حِطَّان، وقد تاب - فيما يقال - في آخر عمره من قول الخوارج.المقصود من هذا: أن قول الشيخ رحمه الله: (حتى إن الصحابة يحقرون صلاتهم عندهم وهم تعلموا العلم من الصحابة)، يدل على أن تعلم العلم ممن هو على الحق لا يعني أن يوصف صاحبه بأنه على الحق دائماً، فإن المعلم لا يكون حَكَماً على من تعلم منه دائماً، فكم خرج ممن علَّمهم أهل السنة والأئمة وأهل العلم ممن ليسوا على طريقة أهل السنة بل راحوا إلى البدع وإلى الضلالات، بل وإلى بعض الكفريات - نسأل الله جل وعلا العافية - حتى بعض من درس التوحيد في هذه المدارس والجامعات، إلى آخره، وعرف السنة وعرف العقيدة الصحيحة زاغ عنها بعد ذلك، فليست التزكية بأن شيخه فلان، وإنما التزكية بأنه ثبت على قول الأشياخ من أهل السنة، وهذا ظاهر والحمد لله، وفي قصة الخوارج عبرة لمن اعتبر.

قال: (وهم تعلموا العلم من الصحابة فلم تنفعهم لا إله إلا الله) يعني: في الكف عنهم بألا يقاتلوا.(ولا كثرة العبادة ولا ادعاء الإسلام لما ظهر منهم مخالفة الشريعة) فإذا ظهرت مخالفة الشريعة فإنهم يقاتلون، سواء أقلنا بكفرهم أم لم نقل بكفرهم؛ لأن النبي -صلي الله عليه وسلم- قال: ((أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم لمن قتلهم أجراً عند الله جل وعلا)) وقال: ((لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد)).

قال: (وكذلك ما ذكرناه من قتال اليهود وقتال الصحابة بني حنيفة من هذا الباب، وكذلك أراد -صلى الله عليه وسلم- أن يغزو بني المصطلق لما أخبره رجل منهم أنهم منعوا الزكاة، حتى أنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} وكان الرجل كاذباً عليهم، وكل هذا يدل أن مراد النبي -صلى الله عليه وسلم- في الأحاديث التي احتجوا بها ما ذكرناه).وهذا تطويل من الشيخ -رحمه الله- للإيضاح، واستطراد للبيان في أن قول (لا إله إلا الله)محمد رسول الله لا ينفع صاحبه إلا إذا أتى بحقوقه ((إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل)) فإذا لم يأت بحقها فإنه لا يقبل منه ذلك، بل إما أن يقاتل قتال كفر إذا كان الذي ترك من حقها التوحيد، وإما أن تقاتل الطائفة قتال بغاة إذا كان الذي تركوا من حقها دون التوحيد فمنعوه ولم يمتنعوا منه.

محمدعبداللطيف
2019-12-22, 01:40 PM
كشف الشبهة الثالثة عشرة وهي احتجاجهم بأن الناس يطلبون الشفاعة من الأنبياء يوم القيامة قال الامام محمد بن عبد الوهاب فى رسالة كشف الشبهات


وَلَهُمْ شُبْهَةٌ أُخْرى:
وَهِيَ ما ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ النَّاسَ يَوْمَ القِيامَةِ يَسْتَغِيثُونَ بآدَمَ، ثُمَّ بِنُوحٍ، ثُمَّ بِإِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ بِمُوسى، ثُمَّ بِعِيسَى، فَكُلُّهُمْ يَعْتَذِرُون حَتَّى يَنْتَهُوا إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا: فَهَذا يَدُلُّ عَلى أَنَّ الاسْتِغَاثَةَ بِغَيْرِ اللهِ لَيْسَتْ شِرْكاً.


فَالجوَابُ:
أَنْ تَقُولَ: سُبْحَانَ مَنْ طَبَعَ على قُلُوبِ أَعْدَائِهِ، فَإِنَّ الاسْتِغَاثَةَ بِالمَخْلُوقِ على ما يَقْدِرُ عَلَيْهِ لا نُنْكِرُها، كَمَا قَالَ تَعالى في قِصَّةِ موسى: {فاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} وَكَمَا يَسْتَغِيثُ الإِنْسَانُ بِأَصْحَابِهِ في الحَرْبِ وغيرِه في أَشْياء يَقْدِرُ عَلَيْها المَخْلُوقُ، وَنَحْنُ أَنْكَرْنَا اسْتِغَاثَةَ العِبَادَةِ الَّتِي يَفْعَلُونَها عِنْدَ قُبُورِ الأَوْلِيَاءِ وغيرِهم أَوْ في غَيْبَتِهِم في الأَشْياء الَّتي لا يَقْدِرُ عَلَيْها المخلوق ولا يقدر عليها إلا الله تعالى.

إِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فالاستغاثةُ بِالأَنْبِيَاءِ يَوْمَ القِيَامَةِ يُرِيدُون مِنْهُمْ أَنْ يَدْعُوا اللهَ أَنْ يُحَاسِبَ النَّاسَ حَتَّى يَسْتَرِيحَ أَهْلُ الجَنَّةِ مِنْ كَرْبِ المَوْقِفِ،وَهَ ذَا جَائِزٌ في الدُّنْيا وَالآخِرَةِ، أَنْ تَأْتِيَ عِنْدَ رَجُلٍ صَالحٍ حيٍّ يُجَالِسُكَ ويَسْمَعُ كَلامَكَ تَقُولُ لَهُ: ادْعُ اللهَ لِي، كَمَا كانَ أَصْحابُ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَهُ في حَيَاتِهِ؛ في الاستسقاء وغيره، وَأَمَّا بَعْدَ مَوْتِهِ فَحَاشَا وَكَلاَّ أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ ذَلِكَ عِنْدَ قَبْرِهِ، بَلْ أَنْكَرَ السَّلَفُ عَلَى مَنْ قَصَدَ دُعَاءَ اللهِ عِنْدَ قَبْرِهِ فَكَيْفَ دُعَاءَه نَفْسِهِ؟.

محمدعبداللطيف
2019-12-22, 01:43 PM
قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ
(وَلَهُم شُبْهَةٌ أُخْرَى) يَعْنِي: مُشْرِكِي هَذِهِ الأَزْمَانِ، غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ (وَهو مَا ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَثَبَتَ (أَنَّ النَّاسَ يَوْمَ القِيَامَةِ يَسْتَغِيثُونَ بآدَمَ، ثُمَّ بِنُوحٍ، ثُمَّ بِإِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ بِمُوسَى، ثُمَّ بِعِيسَى) إِذَا اشْتَدَّ وطَالَ بِهُم المَوْقِفُ عَمَدُوا إِلَى الاسْتِغَاثَةِ بهؤلاء (فَكُلُّهُم يَعْتَذِرُونَ حَتَّى يَنْتَهُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَيَقُولُ: ((أَنَا لَهَا)) (قَالُوا) قَالَ المُشَبِّهُونَ بِهَذَا الحَدِيثِ: (فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الاسْتِغَاثَةَ بِغَيْرِ اللهِ لَيْسَتْ شِرْكًا) وَهَذَا مِن جَهْلِهِم، مَا عَرَفُوا الفَرْقَ بَيْنَ الاسْتِغَاثَتَي ْنِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيَاتُه مَعَهُم في القِيَامَةِ أَكْمَلُ.وَالاس تِغَاثَةُ الشِّرْكِيَّةُ التي أَنْكَرْنَاهَا هي ما يَأْتِي بَيَانُه؛ وهي الاسْتِغَاثَةُ بالغَائِبِ أو المَيِّتِ أو الحَيِّ الحَاضِرِ الذي لاَ يَقْدِرُ.وأَمَّ الجَائِزَةُ فهي طَلَبُ الحَيِّ الحَاضِرِ، وجِنْسُ سُؤَالِ النَّبِيِّ مَوْجُودٌ في اليَوْمِ الآخِرِ وإِنْ كَانَ قَد انْقَطَعَ العَمَلُ، مَوْجُودٌ في النُّصُوصِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْفَعُ لِمَنْ أُذِنَ لَهُ فِيهِ.فَفَرْقٌ بَيْنَ مَا هو مَعْلُومُ الجَوَازِ وَبَيْنَ مَا هو مَعْلُومُ الحُرْمَةِ والشِّرْكِ.

(فالجَوَابُ أَنَّ نَقُولَ: سُبْحَانَ مَن طَبَعَ عَلَى قُلُوبِ أَعْدَائِهِ) فَحَالَ بَيْنَهُم وبَيْنَ مَعْرِفَةِ الفَرْقِ بَيْنَ هَذِه الاسْتِغَاثَةِ وهذه الاسْتِغَاثَةِ؛ فَصَارُوا لاَ يُبْصِرُونَ الشَّمْسَ في رَابِعَةِ النَّهَارِ، فَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الشِّرْكِ والتَّوْحِيدِ فَهَذِهِ شَيْءٌ وهَذِهِ شَيْءٌ آخَرُ، وبَيْنَهُما فَرْقٌ في الكِتَابِ والسُّنَّةِ وفَرْقٌ في الحُكْمِ والحَدِّ (فَإِنَّ الاسْتِغَاثَةَ بالمَخْلُوقِ عَلَى مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ لاَ نُنْكِرُهَا) يَسْتَغِيثُ إِنْسَانٌ إِنْسَانًا في شَيْءٍ يَقْدِرُ عَلَيْهِ (كَمَا قَالَ تَعَالَى في قِصَّةِ مُوسَى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} وَكَمَا يَسْتَغِيثُ الإِنْسَانُ بِأَصْحَابِهِ في الَحْربِ، وغَيْرِهَا مِن الأَشْيَاءِ التي يَقْدِرُ عَلَيْهَا المَخْلُوقُ.وَن حْنُ أَنْكَرْنَا اسْتِغَاثَةَ العِبَادَةِ التي يَفْعَلُونَها عِنْدَ قُبُورِ الأَوْلِيَاءِ) الأَمْواتِ مُطْلَقًا (أو في غَيْبَتِهِم) والغَائِبِينَ مُطْلقًا.

وَقَوْلُه: (عِنْدَ قُبُورِ الأَوْلِيَاءِ في غَيْبَتِهِم) خَرَجَ مَخْرَجَ الوَاقِعِ والغَالِبِ؛ وإِلاَّ فالأَصْنَامُ ونَحْوُها كَذَلِكَ والحَيُّ الحَاضِرُ (في الأَشْيَاءِ التي لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهَا إِلاَّ اللهُ) كَالسُّؤَالِ مِنْهُ هِدَايَةَ القُلُوبِ؛ أَوْ رَفْعَ جَبَلٍ ونَحْوَه، وَهَذَا كُلُّهُ اسْتِغَاثَةٌ شِرْكِيَّةٌ وكُلُّهَا أَنْكَرْنَاهَا؛ فَمَن سَوَّى بَيْنَهُما فَقَدْ سَوَّى بَيْنَ المُتَضَادَّيْن ِ وسَوَّى بَيْنَ المُخْتَلِفَيْن ِ، فهو نَظِيرُ التَّفْرِيقِ بَيْنَ المُتَماثِلَيْن ِ؛ فإِنَّ الاسْتِغَاثَةَ بالمَيِّتِ شِرْكٌ أَصْلاً لِكَوْنِهِ فَاقِدَ الحَرَاكِ ولاَ يَدْرِي وَلاَ يَقْدِرُ.

والاسْتِغَاثَةُ بالغَائِبِ أيضًا شِرْكٌ لِكَوْنِهِ لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَدْرِي.
والاسْتِغَاثَةُ بالحَيِّ الحَاضِرِ فيها تَفْصيِلٌ:
-فَإِنْ كَانَ فِيمَا لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ كَرَدِّ البَصَرِ بِغَيْرِ أَمْرٍ طِبِّيٍّ، أو هِدَايَةِ القَلْبِ بِغَيْرِ الإِرْشَادِ والحُجَّةِ أو نحوِ ذلك، فَهَذَا كُلُّه شِرْكٌ أَنْ يَفْعَلَ بِسِرِّهِ -أي: بأُلُوهِيَّتِهِ- شَيْئًا مِن ذَلِكَ؛ فَإِنَّ هَذََا لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلاَّ اللهُ.

- والاسْتِغَاثَةُ بالحَيِّ الحَاضِرِ القَادِرِ أَمْرٌ فِطْرِيٌّ ضَرُورِيٌّ مَعْلُومٌ بالشَّرْعِ والحِسِّ والاسْتِعْمَالِ ؛ فَإِنَّ الإِنْسَانَ مَدَنِيٌّ مُحْتَاجٌ إلى بَنِي جِنْسِهِ ومُسَاعَدَتِهم في جَمِيعِ مَعَاشِهِ واتِّصَالاَتِهِ وهَكَذَا كُلُّ حَيَاةِ العَالَمِ عَلَى هَذَا.



(إِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ) أي: إِذَا تَقَرَّرَ مَا تَقَدَّمَ وهو الفَرْقُ بَيْنَ الاسْتِغَاثَتَي ْنِ؛ الاسْتِغَاثَةِ الشِّرْكِيَّةِ التي أَنْكَرْنَاهَا، والجَائِزَةِ، أنَّ التي أَنْكَرْنَاهَا اسْتِغَاثَةُ العِبَادَةِ …. إلخ، لا الاسْتِغَاثَةُ بالحَيِّ الحَاضِرِ فِيمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ (فالاسْتِغَاثَة بالأَنْبِيَاءِ يَوْمَ القِيَامَةِ) مِن الثَّانِيَةِ؛ فَإِنَّهَا اسْتِغَاثَةٌ بِحَيٍّ حَاضِرٍ قَادِرٍ، هم مَعَ النَّاسِ حَاضِرِينَ قَادِرِينَ في حَيَاةٍ أَكْمَلَ مِن هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا (يُرِيدُونَ مِنْهُم أَنْ يَدْعُوا اللهَ أنْ يُحَاسِبَ النَّاسَ حَتَّى يَسْتَرِيحَ أَهْلُ الجَنَّةِ مِن كَرْبِ المَوْقِفِ) فحَقِيقَتُهَا أَنْ يَرْغَبُوا إِلَيْهِم أَنْ يَسْأَلُوا اللهَ ويَدْعُوه (وَهَذَا جَائِزٌ في الدُّنْيَا) وَلاَ مَحْذُورَ فِيهِ (و) جَائِزٌ في (الآخِرَةِ أَنْ تَأْتِيَ عِنْدَ رَجُلٍ صَالِحٍ حَيٍّ يُجَالِسُكَ ويَسْمَعُ كَلاَمَكَ) قَادِرٍ عَلَى الكَلاَمِ (وَتَقُولَ: ادْعُ اللهَ لِي)؛ لأَِنَّه مُتَمَكِّنٌ؛ وكَذَلِكَ الأَنْبِيَاءُ مَعَ النَّاسِ يَوْمَ القِيَامَةِ مُتَمَكِّنُونَ أَنْ يَسْأَلُوا اللهَ وَيَدْعُوه (كَمَا كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَه) ذَلِكَ (في حَيَاتِهِ) كَمَا قَالَتْ أُمُّ أَنَسٍ: (يَا رَسُولَ اللهِ، خُوَيْدِمُكَ أَنَسٌ ادْعُ اللهَ لَهُ) وكَمَا قَالَ عُكَّاشَةُ بنُ مِحْصَنٍ: (ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ).(وأَمّ ا بعدَ مَوْتِهِ فَحَاشَا وَكَلاَّ أَنَّهُم سَأَلُوه ذَلك عِنْدَ قَبْرِهِ) بل جَاءَتْهُمُ الكُرُوبُ وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ زَمَنَ الحَرَّةِ ولاَ غَيْرِها بل يَعُدُّونَه مِن أَعْظَمِ المُنْكَرَاتِ؛ فَإِنَّ هَذَا هو الشِّرْكُ الأَكْبَرُ، ولِعِلْمِهِم أنَّ ذَلِكَ مُخْتَصٌّ في حَيَاتِهِ وَأَنَّه انْقَطَعَ بَعْدَ مَمَاتِهِ فَلاَ يَسْتَغِيثُونَه ولاَ يَسْأَلُونَه أَنْ يَدْعُوَ اللهَ لَهُم أو يَدْعُوَ لَهُ (بل أَنْكَرَ السَّلَفُ عَلَى مَن قَصَدَ دُعَاءَ اللهِ) وَحْدَه مُخْلِصًا (عِنْدَ قَبْرِهِ) قَبْرِ النَّبِيِّ يَظُنُّهُ أَجْوَبَ كَمَا أَنْكَرَ عَلِيُّ بنُ الحُسَيْنِ، وهو أَعْلَمُ أَهْلِ البَيْتِ في زَمَانِهِ، عَلَى مَن أَتَى قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو اللهَ فَنَهَاهُ وقَالَ: أَلاَ أُحَدِّثُكَ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِن أَبِي عَنْ جَدِّي عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: ((لاَ تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا وَلاَ بُيُوتَكُمْ قُبُورًا، وَصَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ صَلاَتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ)).
(فَكَيْفَ دُعَاؤُهُ) النَّبِيَّ (نَفْسَهُ) إِذَا كَانَ هَذَا إِنْكَارَ السَّلَفِ عَلَى مَن قَصَدَ دُعَاءَ اللهِ وَحْدَه لاَ شَرِيكَ له عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ فَكَيْفَ دُعَاؤُه نَفْسِه؟ كَيْفَ لَوْ وجَدُوهُ يَدْعُو النَّبِيَّ نَفْسَهُ؟ فَإِنَّهُم يَكُونُونَ أَشَدَّ إِنْكَارًا؛ فَإِنَّ الأَوَّلَ بِدْعَةٌ ولاَ يَجُوزُ، وَأَمَّا الثَّانِي فَهُو الشِّرْكُ الأَكْبَرُ؛ لأَِنَّهُ صَدَرَ مِنْهُ مُخُّ العِبَادَةِ وهو دُعَاءُ غَيْرِ اللهِ، فَمَا ظَنُّكَ لَوْ سَمِعُوا مَن يَقُولُ: انْصُرْنِي أَوْ ارْزُقْنِي؟




------------------------ قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين
قولُهُ: (ولهم شُبْهةٌ أخرى) يَعْنِي: في أنَّ الاستغاثةَ بغيرِ اللهِ لَيْسَتْ شركًا.
وقدْ أَجابَ عنها بِجوابيْنِ:

الأوَّلُ: أنَّ هذهِ استغاثةٌ بمخلوقٍ فيما يَقْدِرُ عليهِ، وهذا لا يُنْكَرُ؛ لِقولِهِ تعالى في قِصَّةِ مُوسَى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ}.

الجوابُ الثَّاني: أنَّ النَّاسَ لمْ يَسْتَغِيثوا بهؤلاءِ الأنبياءِ الكرامِ لِيُزِيلوا عنهم الشِّدَّةَ، ولكنَّهم يَسْتَشْفِعونَ بهم عندَ اللهِ عزَّ وجلَّ لِيُزِيلَ هذهِ الشِّدَّةَ.
وهناكَ فرقٌ بينَ مَنْ يَسْتَغِيثُ بالمخلوقِ لِيَكْشِفَ عنه الضَّرَرَ والسُّوءَ، ومَنْ يَسْتَشْفِعُ بالمخلوقِ إلى اللهِ لِيُزِيلَ اللهُ عنهُ ذلكَ.


قولُهُ: (إذا ثَبَتَ ذلكَ فاسْتِغاثَتُهم بالأنبياءِ...) إلخ، هذا هوَ الجوابُ الثَّاني، وهوَ: أنَّ استغاثتَهم بالأنبياءِ مِنْ بابِ طلَبِ دعائِهم إلى اللهِ عزَّ وجلَّ أنْ يُرِيحَ الخلْقَ مِنْ هذا المَوْقِفِ العظيمِ، وليسَ دُعاءً لهم، بلْ طلبَ دعائِهم لربِّهم عزَّ وجلَّ، وهذا أمرٌ جائزٌ كما أنَّ الصَّحابةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهم يَسْأَلونَ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنْ يَدْعُوَ اللهَ لهم، فَفِي الصَّحيحَيْنِ مِنْ حديثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أنَّ رَجُلاً دَخَلَ المسجدَ يومَ الجُمُعةِ والنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ فَقالَ: (يَا رَسُولَ اللهِ، هَلَكَت الأَمْوَالُ وَانْقَطَعَت السُّبُلُ، فَادْعُ اللهَ يُغِيثُنَا) - ولمْ يَقُلْ: فأَغِثْنا يا رسولَ اللهِ، بلْ قالَ: (فَادْعُ اللهَ يُغِيثُنَا) - فَرَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ وَقَالَ: ((اللهُمَّ أَغِثْنَا)) ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فَأَنْشَأَ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سَحَابَةً فَأَمْطَرَتْ، وَلَمْ يَرَوا الشَّمْسَ أُسْبُوعًا كَامِلاً وَالمَطَرُ يَنْهَمِرُ.
وَفِي الجُمُعَةِ التَّالِيَةِ دَخَلَ رَجُلٌ، أَو الرَّجُلُ الأَوَّلُ، فَقَالَ: (يَا رَسُولَ اللهِ، غَرِقَ المَالُ وَتَهَدَّمَ البِنَاءُ، فَادْعُ اللهَ تَعَالَى يُمْسِكُهَا عَنَّا) فَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ وَقَالَ: ((اللهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا، اللهُمَّ عَلَى الآكَامِ وَالظِّرَابِ وَبُطُونِ الأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ)) فَانْفَرَجَت السَّمَاءُ وَخَرَجَ الصَّحَابَةُ يَمْشُونَ فِي الشَّمْسِ. فهذا طلَبُ دُعاءٍ مِنْ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ للهِ عزَّ وجلَّ، وليسَ دُعَاءً لِرسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، ولا اسْتِغَاثةً بهِ. وبِهذا يُعْرَفُ أنَّ هذهِ الشُّبْهةَ الَّتي لَبَّسَ بها هؤلاءِ شُبْهةٌ لا تَنْفَعُهم، بلْ هيَ حُجَّةٌ داحِضةٌ عندَ اللهِ عزَّ وجلَّ.

ثمَّ ذَكَرَ المؤلِّفُ رَحِمَهُ اللهُ أنَّهُ لا بَأْسَ أنْ تَأْتِيَ لِرَجُلٍ صالحٍ تَعْرِفُهُ وتَعْرِفُ صلاحَهُ، فتَسْأَلَهُ أنْ يَدْعُوَ اللهَ لكَ، وهذا حقٌّ، إلاَّ أنَّهُ لا يَنْبَغِي للإِنسانِ أنْ يَتَّخِذَ ذلكَ دَيْدَنًا لهُ، كُلَّما رَأَى رجلاً صالِحًا قالَ: ادْعُ اللهَ لي، فإنَّ هذا ليسَ مِنْ عادةِ السَّلَفِ رَضِيَ اللهُ عَنْهم، وفيهِ اتِّكالٌ على دُعاءِ الغيرِ، ومِن المَعلومِ أنَّ الإنسانَ إذا دَعا ربَّهُ بِنفسِهِ كانَ خيرًا لهُ؛ لأنَّهُ يَفْعَلُ عِبادةً يَتَقَرَّبُ بِها إلى اللهِ عزَّ وجلَّ؛ فإنَّ الدُّعاءَ مِن العبادةِ كما قالَ اللهُ تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} الآيةَ.والإِنسا ُ إذا دَعا ربَّهُ بنفسِهِ فإنَّهُ يَنالُ أجْرَ العِبادةِ، ثمَّ يَعْتَمِدُ على اللهِ عزَّ وجلَّ في حُصولِ المَنْفَعَةِ ودَفْعِ المَضَرَّةِ، بِخلافِ ما إذا طَلَب مِنْ غيرِهِ أنْ يَدْعُوَ اللهَ لهُ؛ فإنَّهُ يَعْتَمِدُ على ذلكَ الغيرِ، ورُبَّما يَكونُ تَعَلُّقُهُ بهذا الغيرِ أَكْثَرَ مِنْ تَعَلُّقِهِ ب اللهِ عزَّ وجلَّ، وهذا الأمرُ فيهِ خُطورةٌ. وقدْ قالَ شيخُ الإِسلامِ رَحِمَهُ اللهُ: (إذا طَلَبَ الإِنسانُ مِنْ شخصٍِ أنْ يَدْعُوَ لهُ فإنَّ هذا مِن المسألةِ المذمومةِ) فيَنْبَغِي للإِنسانِ إذا طَلَبَ مِنْ شخصٍ أنْ يَدْعُوَ لهُ أنْ يَنْوِيَ بذلكَ نفْعَ ذلكَ الغيرِ بِدعائِهِ لهُ، فإنَّهُ يُؤْجَرُ على هذا، وربَّما يَنالُ ما جاءَ بهِ الحديثُ أنَّ الرَّجلَ إذا دَعا لأخيهِ بِظَهْرِ الغيبِ قَالَت الملائكةُ: ((آمِينَ، ولكَ بِمثلِها)).--------------------------- قال الشيخ صالح الفوزان
هذه شُبْهَةٌ أُخْرَى مِن شُبَهِهِم وهي أنَّهم يَقُولُونَ: إِنَّه ثَبَتَ في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ -حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ العُظْمَى- أنَّ النَّاسَ يَوْمَ القِيَامَةِ إِذَا طَالَ عَلَيْهِم الوُقُوفُ والقِيَامُ عَلَى أَقْدَامِهِم خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، والشَّمْسُ قَدْ دَنَتْ مِنْهُم، فالخَلاَئِقُ كلُّهُم مَجْمُوعُونَ مِن أَوَّلِهِم إلى آخِرِهِم في زِحَامٍ شَدِيدٍ، والشَّمْسُ عَلَى رُؤُوسِهِم قَرِيبَةٌ مِنْهُم، وهُم واقِفُونَ عَلَى أَقْدَامِهِم، فَعِنْدَمَا يَحْصُلُ لَهُم هذا الكَرْبُ يَتَذَاكَرُونَ الشَّفَاعَةَ عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَرَوْنَ أنَّ الأنْبِيَاءَ هم أَوَّلُ الَّذِينَ يَشْفَعُونَ عِنْدَ اللهِ.

فَيَأْتُونَ إِلَى آدَمَ يَطْلُبُونَ منه أَنْ يَشْفَعَ عِنْدَ اللهِ لَهُم لِيُرِيحَهُم مِن المَوْقِفِ فيَعْتَذِرُ -عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- بِسَبَبِ مَا حَصَلَ مِنْهُ مِن الخَطِيئَةِ، مَعَ أنَّه تَابَ مِنْهَا وتَابَ اللهُ عَلَيْهِ، ولَكِنْ يَسْتَحِي مِن اللهِ -عزَّ وجلَّ- ثُمَّ يَأْتُونَ إلَى نُوحٍ أوَّلِ الرُّسُلِ فَيَعْتَذِرُ، ثُمَّ يَأْتُونَ إِلَى مُوسَى فيَطْلُبُونَ منه فيَعْتَذِرُ، ثُمَّ يَأْتُونَ إلى عِيسَى -عَلَيْهِ السَّلامُ- آخِرِ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فيَعْتَذِرُ؛ لأَِنَّ المَوْقِفَ مَوْقِفٌ عَظِيمٌ أَمَامَ اللهِ -سُبْحَانَه وتَعَالَى- ثُمَّ يَأْتُونَ إِلَى مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- فيَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((أَنَا لَهَا أَنَا لَهَا)) ثُمَّ يَأْتِي ويَسْجُدُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ، ويَحْمَدُ اللهَ ويُثْنِي عَلَيْهِ، ويَدْعُوه ويَسْتَمِرُّ سَاجِدًا بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ حَتَّى يُقَالَ لَهُ: ((يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ وَسَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ)) لأَِنَّه لاَ أَحَدَ يَشْفَعُ عِنْدَ اللهِ إلاَّ بإذْنِهِ.

والرَّسُولُ ما ذَهَبَ إِلَى اللهِ وشَفَعَ ابْتِدَاءً، بل اسْتَأْذَنَ مِن رَبِّهِ وسَجَدَ بَيْنَ يَدَيْهِ حتَّى أَذِنَ له، وهذا كقولِهِ تَعَالَى: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إلاَّ بِإِذْنِهِ} فَيَطْلُبُ مِن اللهِ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَ عِبَادِهِ، ويُرِيحَهُم مِن المَوْقِفِ، فَيَسْتَجِيبُ اللهُ شَفَاعَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وهذه تُسَمَّى الشَّفَاعَةَ العُظْمَى والمَقَامَ المَحْمُودَ، وهي قولُه تَعَالَى: {عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} بِمَعْنَى أنَّه يَحْمَدُهُ عَلَيْهِ الأَوَّلُونَ والآخِرُونَ.



قَالَ القُبُورِيُّونَ :فهذا فيه جَوَازُ الاسْتِغَاثَةِ بالأَنْبِيَاءِ والأَوْلِيَاءِ والصَّالِحِينَ، وأَنْتُم تَقُولُونَ: لاَ يُسْتَغَاثُ إلاَّ باللهِ وقَالُوا: فهذا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ طَلَبَ الشَّفَاعَةِ مِن الرَّسُولِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- جَائِزٌ حيًّا وميِّتًا، وكذلك غيرُه.

والجَوَابُ عن هذا كَمَا يَقُولُ الشَّيْخُ:إنَّ هذا طَلَبٌ مِن إِنْسَانٍ حَيٍّ قَادِرٍ عَلَى الدُّعَاءِ، وعَلَى الاسْتِئْذَانِ بالشَّفَاعَةِ، والطَلَبُ مِن الإنسانِ في حَالِ حَيَاتِهِ وقُدْرَتِهِ لَيْسَ هو مِن المَمْنُوعِ، كَمَا في قِصَّةِ مُوسَى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} وكَمَا يَسْتَغِيثُ الإِنسانُ بإخْوَانِهِ في الحَرْبِ وغَيْرِهَا.

فهذا فيه دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الاسْتِغَاثَةَ بالحَيِّ فيما يَقْدِرُ عَلَيْهِ جَائِزَةٌ،والَّ ذِي يَقَعُ مِن الأُمَمِ يَوْمَ القِيَامَةِ هو اسْتِغَاثَةٌ بالحَيِّ وطَلَبُ الدُّعَاءِ مِنْهُ، فيَجُوزُ أَنْ تَذْهَبَ إلى إِنْسَانٍ حَيٍّ قَادِرٍ يَسْمَعُ كَلاَمَكَ، وتَقُولَ: يا فُلاَنُ، ادْعُ اللهَ لِي بِكَذَا وكَذَا، والصَّحَابَةُ كَانُوا يَعْمَلُونَ هَذَا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- في حَيَاتِهِ، ولَيْسَ هَذَا مِن الشِّرْكِ، إنَّما الَّذي يَكُونُ شِرْكًا، وأَنْكَرْنَاهُ هو الاسْتِغَاثَةُ بالمَيِّتِ، وهذا لاَ عَلاَقَةَ لَهُ بِحَدِيثِ الشَّفَاعَةِ؛ لأَِنَّكم تَسْتَغِيثُونَ بِأَمْوَاتٍ وتَطْلُبُونَ الشَّفَاعَةَ مِنْهُم، والأَمْواتُ لاَ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَذْهَبَ إلى قَبْرٍ يَسْتَنْجِدُ به، يَدْعُوه أَو يَطْلُبُ منه الدُّعاءَ أو الشَّفَاعَةَ أو غيرَ ذلك.
ففيه فَرْقٌ بَيْنَ عَمَلِ هؤلاءِ المُشْرِكِينَ وبَيْنَ مَا في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وفي قِصَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، فبهذا التَّفْصِيلِ زَالَتْ هذه الشُّبْهَةُ والحَمْدُ للهِ.

محمدعبداللطيف
2019-12-22, 01:44 PM
قال الشيخ صالح آل الشيخ نذكر أصلاً في جواب شبه المشبهين من المشركين، وذلك أن توحيد العبادة أدلته كثيرة محكمة، والمجيب على الشبه إذا أشتبه عليه جوابٌ فإنه يعود إلى الأصل، وهو تقرير الأدلة التي جاءت في توحيد العبادة، ثم يُدخل الصورة هذه التي أوردها المشبه في تلك الأدلة حتى يُبطل الاستدلال من وجهٍ إجمالي، وهذه طريقة نافعة.ثم بعد ذلك يأتي إلى الجواب الذي يكون فيه تخصيص لتلك المسألة التي احتجوا عليها ببعض الأدلة.


ومسألة الاستغاثة راجعة إلى الدعاء،فإن الاستغاثة طلبٌ ودعاء؛ لأن الأصل في فعل (استفعل) أي: طلب الشيء، وقد يكون لغير الطلب في مواضع متعددة، فإذا أُتي بـ(استَفعَل) فإنها تحمل على الطلب؛ لأنها تدل عليه في مواضعه، فاستسقى: طلب السقيا، واستغاث: طلب الغوث، واستعان: طلب العون، إلى آخر أمثال ذلك.فإذا كانت طلباً فإنها سؤال وإنها دعاء، ولهذا الأدلة العامة في الكتاب والسنة تمنع السؤال بغير الله جل وعلا، تمنع دعاء غير الله، تمنع الطلب من غير الله جل وعلا؛ كما في قوله سبحانه: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} وكما في قوله جل وعلا: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}


وفي خصوص الاستغاثة، قال جل وعلا: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ}وكما في قوله: {إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ}ونحو ذلك من الآيات التي فيها إفراد الله- جل وعلا- بالطلب.وإذا كان كذلك في القرآن، فهذا عام يشمل ما يقدر عليه المطلوب منه، وما لا يقدر عليه. وكذلك ما جاء في السنة من قوله عليه الصلاة والسلام: ((إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله)) فالسؤال والطلب من مخلوق لا يجوز، بل يجب إفراد الله بالطلب.هذه أدلة الكتاب والسنة في هذا بخصوصه،لكن هذا العموم أو هذا الإطلاق ورد ما يقيده في النصوص، فالنصوص العامة - كما ذكرنا لك - أو المطلقة تمنع السؤال مطلقاً ((إذا سألت فاسأل الله)) مطلقاً بلا تفصيل، هل يقدر أولا يقدر؟ هل هو حي أم ليس بحي؟ هل هو حاضر أم ليس بحاضر؟ ((إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله)) وكذلك: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً}لكن جاء في القرآن وفي السنة تقييدات جعلتنا نقيد هذا الإطلاق، أو نخص هذا العموم ببعض الصور.
ولهذا: القيود في الأدلة ظاهرة،فجعلوا تلك المطلقات مشروطة بشروط؛ فلهذا قال العلماء: (تلك المطلقات يُنظر في النصوص هل قيدت أم لا؟) كشأن العام، فإنه يبقى على عمومه حتى يرد مخصص، كشأن المطلق، فإنه يبقى على إطلاقه حتى يرد ما يقيده، فنظرنا في القرآن فوجدنا أن الرب -جل وعلا- ذكر عن نبيه موسى -عليه السلام- في أول سورة القصص، ذكر قوله جل وعلا: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ}فعلمن بذلك أن موسى -عليه السلام- وهو نبي الله، كليم الله - وإن كان هذا قبل أن يوحى إليه - فهو ليس إذ قال ذلك بمشرك الشرك الأكبر؛ لأن الأنبياء منزهون عن الشرك الأكبر قبل النبوة وبعدها من باب أولى، كما هو واضح ظاهر.فإذاً قوله: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ}هنا الله -جل وعلا- ذكر الاستغاثة، فدل على أن هذا النوع من الطلب خارج عن الإطلاق، فننظر في بساط الحال لهذه الآية، فنقول: هذا طلبَ الغوث من موسى وهو حي أمامه وهو قادر؛ لأنه وكزه فقضى عليه، أو أنه في محل القدرة، يعني: في حكم القادر، وكذلك أنه يسمع خطابه، فظهر لنا من هذا الدليل قيودات، وكذلك نعلم أن الصحابة -رضوان الله عليهم- استغاثوا بالنبي-صلى الله عليه وسلم- في حياته في مواضع، وإذا كان كذلك فإنههم استغاثوا بمن يسمع وهو حي ويقدر على أن يغيثهم. وكذلك إجازة طلب الغوث فيما يستغيث المرء بمن هو يقدر على إزالة ما به من كرب، يعني بشروطه.فدلنا ذلك على أن تلك العمومات ((إذا سألت فاسأل الله))، {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} مقيدة، فلهذا قيد العلماء بهذه النصوص المقيدة: العموم، فقالوا: إذا كان المستغاث به - المسؤول، المطلوب - إذا كان حياً - يُخرج الميت - إذا كان قادراً على الإنفاذ أو في حكم القادر، إذا كان حاضراً يسمع، فإن الأدلة دلت على جواز الطلب منه، وعلى جواز الاستغاثة به، وعلى جواز الاستعانة، فإن كان غائباً فإنه يبقى العموم على بابه، تبقى المطلقات على بابها، فإن كان غير حي فيبقى.

فإذاً: هنا العمومات بالإجماع يُعمل بها، والمطلقات بالإجماع يعمل بها، العموم مثل قوله:{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} ومثل قوله: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} وأشباه ذلك، فيُعمل بالعموم حتى يرد المخصص، وهنا المخصصات المنفصلة - كما هو مقرر في الأصول - دلتنا على اعتبار الشروط.فإذاً:من منع هذا، منع الاستغاثة بغير الله -جل وعلا- فيما لا يقدر عليه ذلك المستغاث به، مستمسك بالأصل، مستمسك بالعمومات، مستمسك بالأدلة المحكمة في هذا الباب، فمن أجاز صورة من الصور فهو الذي عليه الدليل.فهذه شبهة أخرى جديدة ذكرها الإمام المجدد رحمه الله تعالى؛لأن أهل الشرك في زمانه من العلماء وأشباههم كانوا يوردونها على الشيخ رحمه الله، مستدلين بهذه الشبهة على إبطال توحيد الله -جل وعلا- بعبادة الاستغاثة.والمش كون حين احتجوا بهذه الشبهة وجادلوا بها يريدون إبطال الأصل الذي يعتمد عليه الموحدون، وهو أن صرف العبادة لغير الله -جل وعلا- شرك أكبر، فهم استدلوا ببعض ما ورد لإبطال توحيد العبادة، ويريدون بعد هذا أن يقصروا الشرك في عبادة الأصنام، وفي عبادةالأوثان التي كان عليها أهل الجاهلية في الزمن الأول على ما فهموه من عبادة الأصنام والأوثان.
وهذا الإيراد الذي ذكره الشيخ -رحمه الله- من العجب أنه تتابع عليه الذين ردوا على الشيخ قبله، يعني في زمانه وبعده رحمه الله تعالى، فالذين كتبوا في تجويز الاستغاثة بالقبور وبالمقبورين وبالأولياء الصالحين وغير الصالحين، هؤلاء احتجوا بهذا الدليل، وهو أن الناس يوم القيامة يستغيثون بآدم، وهذا النوع من الاستغاثة هي استغاثة بعد الممات، فيقولون الممات حلّ والاستغاثة هذه بعد الممات، وحياتهم في قبورهم كحياتهم في الموقف، ولا فرق، إذ هذا وهذا حياة لهم. فيستدلون بالاستغاثة بآدم، وبنوح، وبإبراهيم، وبموسى، ثم بعيسى، ثم بالنبي صلى الله عليه وسلم، يستدلون بذلك على أن الاستغاثة بغير الله -جل وعلا- ممن ليس في الحياة الدنيا جائزة، وهذا هو الذي ذكره الشيخ -رحمه الله- هنا، حيث ساق ما ساق.


قال في آخر كلامه: (قالوا: فهذا يدل على أن الاستغاثة بغير الله ليست شركاً) ولهذا نقول: هذا الدليل الذي أوردتموه لا يخرج عن القيود التي ذكرناها، هذه الشبهة بالاستدلال بهذا الدليل لا يخرج عما ذكرناه، بل هو مؤيِّد ودليل من السنة على ما ذكرناه من القيود، واستدلالكم به على أن الحياة التي بعد الموت لا تسمى حياة وإنما هي حياة الدنيا ثم بعده موت، ويوم القيامة والبعث له حكم ما قبل الموت؛ لأن هؤلاء أحياء في قبورهم ثم بعد ذلك هم أحياء، فلا فرق.

نقول: هذا لا يستقيم مع الأدلة الكثيرة في القرآن في أن الناس أُحيوا حياتين وأُميتوا مِيتتين قال جل وعلا: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً} يعني: في بطون الأمهات كنتم أمواتاً {فَأَحْيَاكُمْ}ب نفخ الروح {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ}بذه ب الروح {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} بعود الروح.

وكذلك قوله -جل وعلا- في سورة غافر:{رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ}.


فدل على أن النصوص فيها حياتان وفيها ميتتان، فمن جعل الموت والحياة حالة واحدة -كحال هؤلاء المشبهة الذين أوردوا هذه الشبهة- فإن النصوص تبطل هذا الإيراد.

هذه الشبهة مبطلة كما ذكرنا من هاتين الجهتين:


أولاً: من حيث إن هذا الدليل هو لنا وليس علينا؛ لأن فيه القيود، لأن هؤلاء أحياء يتكلمون قادرون، آدم قادر على الدعاء، نوح قادر على الدعاء، وموسى قادر على الدعاء، ومحمد -عليه الصلاة والسلام- قادر على الدعاء، وعيسى -عليه السلام- قادر على الدعاء.ثم نقول:إن هؤلاء كانوا في حياة ثم صاروا إلى موت، وهم مع موتهم في حياة برزخية أكمل من حياة الشهداء - لكن فرق بين أحكام الموت وأحكام الحياة - ثم يصيرون إلى حياة، فدل على تنوع الأحوال، فلكل حال دليلها الذي يخصها.
أولاً:جواب الشبهة هذه، العمومات باقية، ادعاء أن هذا الدليل يصلح لجواز الاستغاثة بغير الله -جل وعلا- باطل؛ لأنهم استدلوا بدليل في الحياة والكلام معهم في الممات.
فإذا قالوا:الممات وما بعده من يوم القيامة، كل هذا يعتبر نوعاً واحداً من الحياة.
- نقول: النصوص دلت على أن ثمة حياتين وثمة موتين، فإذاً: يحتاجون إلى دليل آخر ولا دليل عندهم. هذا تقرير لهذه المسألة، ولك أن تُنَظِّرَ مثلها في كل أنواع الطلب التي استدلوا بها في أنواع الطلب، تستدل بمثل هذا؛ لأنهم يوردون بعض الأدلة والآثار والإسرائيليات في مثل هذا، فلك أن تطرد هذا في أمثاله.

قال الإمام رحمه الله تعالى وأجزل له المثوبة: (والجواب أن تقول: سبحان من طبع على قلوب أعدائه) وهذا تنزيه لله -جل وعلا- في مسألة عظيمة وهي مسألة القدر؛ لأنهم طُبع على قلوبهم فلا يفقهون إلا قليلاً.(فإن الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه لا ننكرها) تستدلون بشيء ليس هو في المسألة التي فيها البحث، المسألة التي فيها البحث الاستغاثة بالأموات، الاستغاثة بمن لا يقدر، وأنتم تستدلون بدليل ليس في محل الدعوى، ولا شك أن هذا باطل عند جميع العقلاء، الاستدلال بدليل ليس في محل الدعوى استدلال باطل.
(فإن الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه لا ننكرها). وتلحظ هنا قوله: (فيما يقدر عليه) وفي آخرها قال: (في الأشياء التي لا يقدر عليها إلا الله) وبين العبارتين فرق، هنا: (فيما يقدر عليه) وهناك: (فيما لا يقدر عليه إلا الله).والجواب عن هذا الإيراد:أن ضابط الاستغاثة كما ذكره في أول الكلام، أن الاستغاثة بالمخلوق جائزة فيما يقدر عليه، والاستغاثة الشركية: هو أن يستغيث بالمخلوق فيما لا يقدر عليه المخلوق، أو فيما لا يقدر عليه إلا الله؛ لأن بين العبارتين فرقاً، قد لا يقدر هو ولكن الآخر يقدر، وهذه من حيث الاستغاثة بغير الله -جل وعلا- فيما لا يقدر عليه ذلك الغير تحتاج إلى تفصيل، وقد ذكرنا شيئاً من تفصيلها في شرح (كتاب التوحيد) كما هو موجود في شروح (كتاب التوحيد).

وخلاصة الأمر: أن الضابط الأيسر أن تقول: فيما لا يقدر عليه إلا الله، وأما: (فيما يقدر عليه المخلوق فأنه جائز) و(فيما لا يقدر عليه المخلوق بأنه شرك) هذه تحتاج إلى ضوابط. فمثال ذلك: لو استغاث بمهندس للعمارة فيما يتعلق بأمر طبي - هو لا يقدر على ذلك، إنما يقدر عليه الطبيب - لكن هنا الاستغاثة لا نقول إنها شرك أكبر؛ لأن هذا جنسه يقدر، وليست القدرة على ما يقدر عليه الطبيب بخصوصه، بل القدر متنوعة، يأخذه يذهب به إلى طبيب، يكون معه، إلى آخر الأنواع.ولهذا بعض أهل العلم يعبر بقوله: إن الاستغاثة بالميت فيما لا يقدر عليه، أو الاستغاثة بالغائب فيما لا يقدر عليه؛ إنها شرك أكبر، وهذه لا تنضبط عند أكثر الناس هي صحيحة لكن تحتاج إلى عالم يضبطها؛ لأن المسائل متشابهة. فالذي يضبط المسألة هو قول الشيخ في آخر الكلام: (أو في غيبتهم في الأشياء التي لا يقدر عليها إلا الله) يعني إذا طلب من المخلوق الميت أو الغائب شيئاً لا يقدر عليه إلا الله فإنه يكون شركاً أكبر.أما فيما يقدر عليه المخلوق لكن هذا المخلوق المعين لا يقدر عليه، قد تكون وقعت شبهة عند المستغيث، وحال الاستغاثة يكون هناك ضعف، وقد يكون هناك ظن أن هذا يقدر أن يغيث، إلى آخر ما يتصل بهذا مما ذكرنا شرحه. المقصود من هذا: أن الضابط الأخير الذي ذكره الشيخ في الأشياء التي لا يقدر عليها إلا الله، هذا ضابط صحيح كما ذكره الشيخ في الحكم بالشرك، والأول في الحكم بالجواز؛ لهذا الشيخ نوّع العبارة؛ فقال: (الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه جائز، والاستغاثة بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله شرك أكبر) وهذا ضابط صحيح، وهو أحسن من أن نقول في المقامين: فيما يقدر عليه المخلوق أو فيما لا يقدر عليه؛ لما يحصل معها من الاشتباه.قال رحمه الله: (وكما يستغيث الإنسان بأصحابه في الحرب أو غيره في أشياء يقدر عليه المخلوق)ونحن أنكرنا استغاثة العبادة التي يفعلونها عند قبور الأولياء أو في غيبتهم،استغاثة العبادة يعني طلب الغوث من الغائبين مع اعتقاد أن لهم تأثيراً في غيبتهم، هذه استغاثة العبادة، ويكون معها رجاء وخوف أو رجاء ومحبة، أو خوف ومحبة، أو الثلاثة معاً.فإذاً الاستغاثة منها ما هو عبادة ومنها ما ليس بعبادة،وما أنكرناه هو استغاثة العبادة، وهو أن يستغيث بغائب إما ميت أو حي غائب فيما لا يقدر عليه إلا الله جل وعلا، يستغيث به في شفاء مرضه، يستغيث به في أن يخلَّص من المدلهمات التي أصابته في كشف الكربات، في إزالة المصائب التي أصابته، في مغفرة الذنب، في إتيانه بولد، في تأمينه مما يخاف، إلى آخر ذلك. قال: (إذا ثبت ذلك) يعني: الجواب الأول الذي ذكره الشيخ وجَّه الاستدلال لصالحه، قال: هذا الدليل لنا وليس علينا، ثم قال: (إذا ثبت ذلك، فاستغاثتهم بالأنبياء يوم القيامة يريدون منهم أن يدعوا الله أن يحاسب الناس حتى يستريح أهل الجنة من كرب الموقف، وهذا جائز في الدنيا والآخرة):

-جوازه في الدنيا: لأنه يجوز أن تطلب من أحد في الدنيا أن يدعو لك؛ لأنه يقدر على هذا الشيء.

- وكذلك في الآخرة: يجوز أن تطلب منه أن يدعو لك؛ لأنه يقدر على ذلك، وهاتان حياتان، والكلام في الموت أو حين الغيبة هو محل النزاع.


قال: (وذلك أن تأتي عند رجل صالح حي يجالسك ويسمع كلامك وتقول له: ادع الله لي، كما كان أصحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- يسألونه ذلك في حياته، وأما بعد موته فحاشا وكلا أنهم سألوا ذلك عند قبره) يعني: أن الصحابة لم يرد عنهم شيء البتة - وحاشاهم وكلا - أنهم أتوا قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- فاستغاثوا به، أو أتوا قبره فاستشفعوا به، طلبوا منه الدعاء، فهذا لم يكن يفعله الصحابة -رضوان الله عليهم- بعد موته البتة. قال: (بل أنكر السلف على من قصد دعاء الله عند قبره فكيف بدعائه -عليه الصلاة والسلام- نفسه) يعني: السلف الصالح؛ كما في قضية علي بن الحسين وعدة حوادث في هذا عن السلف، أنهم أنكروا من يأتي إلى القبر للدعاء، وإنما من دخل المسجد فسلم كفى، أو من أتى من سفر كما كان يفعل ابن عمر -رضي الله عنهما- وغيره، يأتي فيسلم على النبي -عليه الصلاة والسلام- سلاماً.أما أن يتخذ القبر محلاً للدعاء، يعني: ما حول القبر أو أنه يدعى النبي -عليه الصلاة والسلام- نفسه؛ فهذا لم يكن عند السلف، بل بعضهم غلط ودعا الله -جل وعلا- وحده عند القبر، فأنكر عليه بعض السلف كما ذكرت لك.إذا أنكروا على من قصد القبر لدعاء الله -جل وعلا- فكيف لا ينكرون من قصد القبر لدعاء المقبور نفسه؟! لا شك أن هذا أولى بالإنكار.المقصو من هذا أن الشبهة هذه ليست بمستقيمة، بل هي داحضة كما هي شبه أهل الشرك.

ولله الحمد، أهل السنة وأهل التوحيد ليس لهم غرض في هذا الأمر، لم يأتوه عن هوى، لم يأتوه عن شهوة، وإنما أتوه تطبيقاً لما جاء في الكتاب والسنة، ورعاية لما ورد، وتعظيماً لحق الله جل وعلا، فلو أجاز الله -جل وعلا- ذلك لاتبعناه؛ كما قال سبحانه: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} لو أجاز الرب -جل وعلا- ذلك لاتبعناه، ولكن لا دليل البتة يجيز هذا؛ لأن هذا هو الشرك الأكبر بعينه، وهذا عند أهل التوحيد بوضوح وظهور.


ولهذا قال كما في القصة المعروفة أن رجلاً حاج بعض أهل الشرك فيما هم عليه من الشرك، فقالوا له: أنتم تقولون هذا لأجل أن محمد بن عبد الوهاب قاله، تعصباً له، فقال هذا الموحد لكلمة التوحيد الصحيحة الخالصة التي هي عن بينة لا عن تقليد، قال: (لو قام محمد بن عبد الوهاب من قبره فقال: (ما قلت لكم غلط) لما اتبعناه) لم؟ لأنهم أخذوه بالحجة - ليس بالحجة من قول محمد بن عبد الوهاب - إنما بالحجة من قول الله -جل وعلا- وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، وإجماع سلف الأمة، والإمام محمد بن عبد الوهاب إمام مصلح مجدد، دل الناس على معاني النصوص، وهذه وظيفة أهل العلم.


أهل العلم الراسخون منهم يؤخذ قولهم ؛ لأنهم دلوا الناس على معاني النصوص، وفي فقههم للنصوص وفهمهم لها قالوا: هذا معنى الآية، وهذا ما دل عليه القرآن، هذا ما دلت عليه السنة، أو تارة يجتهدون ويذكرون من القواعد ما يكون في نفوسهم من دلالات النصوص، فيفهمون من الشريعة بمجموع أدلتها وبروح الشريعة أن الشريعة أتت بكذا، فيقولون هذا ويُقبل كلامهم لأنهم هم الفقهاء بالكتاب والسنة.والإمام المصلح -رحمه الله- إنما قال للأمة معنى الآيات كذا، ومعنى الأحاديث كذا، ودلت على هذا، فإذاً: هو ناقل للكتاب والسنة وموضِح لمعناهما؛ لما آتاه الله -جل وعلا- من متابعة السلف الصالح ومن الرسوخ في العلم وفهم الأدلة.فإذاً ليست المسألة عن تقليد، وإنما هي عن وضوح حجة ووضوح برهان، ولله الحمد والمنة.

محمدعبداللطيف
2019-12-22, 01:46 PM
كشف الشبهة الرابعة عشرة وهي احتجاجهم بقصة جبريل وإبراهيم عليهما السلام
قال الامام محمد بن عبد الوهاب فى رسالة كشف الشبهات


وَلَهُمْ شُبْهَةٌ أُخْرَى وَهِيَ: قِصَّةُ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ لَمَّا أُلْقِيَ في النَّارِ فاعْتَرَضَ لَهُ جِبْرائيلُ في الهواءِ فَقَالَ: أَلَكَ حَاجَةٌ؟ فَقالَ إِبْرَاهيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: أَمَّا إِلَيْكَ فَلا.

قَالُوا:فَلَوْ كَانَتِ الاسْتِغَاثَةُ بجِبرائيل شِرْكاً لَمْ يَعْرِضْها عَلى إِبْرَاهِيمَ؟
فَالجَوَابُ:أَن َ هَذا مِنْ جِنْسِ الشُّبْهَةِ الأُوْلى فَإِنَّ جبْرائيلَ عليه السلام عَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْفَعَهُ بِأَمْرٍ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ كَمَا قالَ اللهُ تَعالى فِيهِ: {شَدِيدُ القُوَى} ، فَلَوْ أَذِنَ اللهُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ نَارَ إِبْرَاهِيمَ وَمَا حَوْلَها مِن الأَرْضِ وَالجِبَالِ وَيُلْقِيها في المَشْرِقِ أَو المَغْرِبِ لَفَعَلَ، وَلَوْ أَمَرَهُ الله أَنْ يَضَعَ إِبْرَاهيمَ عنهم في مَكَانٍ بَعِيدٍ لَفَعَلَ، وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَرفَعَهُ إِلى السَّمَاءِ لَفَعَلَ.وَهَذَ كَرَجُلٍ غَنيٍّ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ يَرى رَجُلاً مُحتاجاً فَيَعْرِضُ عَلَيْهِ أَنْ يُقْرِضَهُ، أَوْ يَهَبَه شَيْئاً يَقْضي بِهِ حَاجَتَهُ، فَيَأْبَى ذَلِكَ الرَّجُلُ المُحْتَاجُ أَنْ يَأخُذَ، ويَصْبِرُ حتى يَأتِيَهُ اللهُ بِرِزقٍ مِنْه لا مِنَّةَ فِيهِ لأَحَدٍ. فَأَيْنَ هَذَا مِن اسْتِغَاثَةِ العِبَادَةِ وَالشِّرْكِ لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ؟!.

محمدعبداللطيف
2019-12-22, 01:47 PM
قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ
(وَلَهُم شُبْهَةٌ أُخْرَى وهي قِصَّةُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ لَمَّا أُلْقِيَ في النَّارِ) حِينَمَا أَمَرَ عَدَوُّ اللهِ النُّمْرُودُ بِجَمْعِ حَطَبٍ عَظِيمٍ ثُمَّ أَضْرَمَ فيه النَّارَ وَأَمَرَ بإِلْقَاءِ إِبْرَاهِيمَ فِيهَا (اعْتَرَضَ لَهُ جِبْرِيلُ في الْهَوَاءِ) حِينَ أُلْقِيَ مِن المَنْجَنِيقِ (فَقَالَ: أَلَكَ حَاجَةٌ؟) في هَذِه الضِّيقَةِ والشِّدَّةِ أَنْفَعُكَ بِهَا (فَقَالَ: أَمَّا إِلَيْكَ فَلاَ) فَصَبَرَ في شِدَّةِ هذِه الحَاجَةِ، ثُمَّ قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: (حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ) أي: كَافِينَا اللهُ وَحْدَه ونِعْمَ المَوْكُولُ إِلَيْهِ أَمْرُ عِبَادِهِ، فَقَالَ اللهُ تَعَالَى للنَّارِ: {كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} فَكَانَتْ بَرْدًا وسَلاَمًا عَلَيْهِ.
فالمَقْصُودُ أَنَّ هؤلاء المُشْرِكِينَ شَبَّهُوا بِهَذِهِ القِصَّةِ (قَالُوا: فَلَوْ كَانَت الاسْتِغَاثَةُ بِجِبْرِيلَ شِرْكًا لَمْ يَعْرِضْهَا عَلَى إِبْرَاهِيمَ) وَأَصْلُ ضَلاَلِهِم في هَذِهِ الشُّبْهَةِ عَدَمُ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الجَائِزِ والحَرَامِ، وعَدَمُ العِلْمِ والاطِّلاَعِ عَلَى مَا في الكِتَابِ والسُّنَّةِ والإِجْمَاعِ مِن بَيَانِ ذَلِكَ.(5) (فَالجَوَابُ أَنَّ هَذَا مِن جِنْسِ الشُّبْهَةِ الأُولَى؛ فَإِنَّ جِبْرِيلَ عَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْفَعَهُ بأَمْرٍ يَقْدِرُ عَلَيْهِ) وهو حَيٌّ حَاضِرٌ قَادِرٌ؛ فَإِنَّ هَذَا مِن جِنْسِ الاسْتِغَاثَةِ بالحَيِّ الحَاضِرِ القَادِرِ (فَإِنَّهُ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى فيه: {شَدِيدُ الْقُوَى} فَلَوْ أَذِنَ اللهُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ نَارَ إِبْرَاهِيمَ وَمَا حَوْلَهَا مِن الأَرْضِ والجِبَالِ ويُلْقِيَهَا في المَشْرِقِ أو المَغْرِبِ لَفَعَلَ) كَمَا صَنَعَ حِينَ أُمِرَ بِقَلْعِ دِيارِ قَوْمِ لَوْطٍ وَمَا حَوْلَهَا مِن القُرَى حَتَّى بَلَغَ بِهَا عَنَانَ السَّمَاءِ (وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَضَعَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ في مَكَانٍ بَعِيدٍ عَنْهُم لَفَعَلَ، وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَرْفَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ لَفَعَلَ).
ثُمَّ مَثَّلَ المُصَنِّفُ بِحَالَةِ إِبْرَاهِيمَ وَجِبْرِيلَ فَقَالَ: (وَهَذَا كَرَجُلٍ غَنِيٍّ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ يَرَى رَجُلاً مُحْتَاجًا فَيَعْرِضُ عَلَيْهِ أَنْ يُقْرِضَهُ أَوْ أَنْ يَهَبَ لَهُ شَيْئًا يَقْضِي بِهِ حَاجَتَهُ) هَذَا مِثْلُ جِبْرِيلَ (فَيَأْبِى ذَلِكَ الرَّجُلُ المُحْتَاجُ أَنْ يَأْخُذَ، ويَصْبِرُ حَتَّى يَأْتِيَهُ اللهُ بِرِزْقٍ لاَ مِنَّةَ فِيهِ لأَِحَدٍ) هَذَا مِْثلُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، فَكَمَا أَنَّ الفَقِيرَ لو قَبِلَ مِن الغَنِيِّ لَمْ يَكُنْ مُشْرِكًا فَكَذَلِكَ هَذِه. (فَأيْنَ هَذَا مِن اسْتِغَاثَةِ العِبَادَةِ والشِّرْكِ) التي يَفْعَلُونَها مَعَ الأَمْوَاتِ والغَائِبِينَ وهي عَيْنُ شِرْكِ المُشْرِكِينَ الأَوَّلِينَ مِن هَذِهِ الاسْتِغَاثَةِ المَذْكُورَةِ في قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ (لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ) فَهَذَا جِنْسٌ وَهَذَا جِنْسٌ، فَمَنْ سَوَّى بَيْنَهُما فَقَدْ سَوَّى بَيْنَ المُتَبَايِنَيْ نِ مِن كُلِّ وَجْهٍ. وفي الحَقِيقَةِ أَنَّ مَن قَالَ هَذَا أَوْلَى ما له مُرَاجَعَةُ عَقْلِهِ؛ فَمَنْ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ مِثْلُ هَذِهِ أَوْ تَوَقَّفَ فِيهَا فهو مُصَابٌ في عَقْلِهِ.

محمدعبداللطيف
2019-12-22, 01:49 PM
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين
قولُهُ: (ولهم شبهةٌ أخرى، وهيَ قِصَّةُ إبْراهِيمَ عليهِ السَّلامُ لمَّا أُلْقِيَ في النَّارِ …) .
والجوابُ عنْ هذهِ الشُّبْهةِ: أنَّ جِبْرِيلَ إنَّما عَرَضَ عليهِ أمْرًا مُمْكِنًا يُمْكِنُ أنْ يَقومَ بهِ، فلوْ أَذِنَ اللهُ لِجِبْريلَ لأََنْقَذَ إبراهيمَ بِما أَعْطَاهُ اللهُ تعالى مِن القُوَّةِ؛ فإنَّ جبريلَ كما وَصَفَهُ اللهُ تعالى: {شَدِيدُ الْقُوَى}، فلوْ أَمَرَهُ اللهُ أنْ يَأْخُذَ نارَ إبراهيمَ وما حولَها ويُلْقِيَها في المَشْرِقِ أو المَغْرِبِ لَفعَلَ، ولوْ أمَرَهُ أنْ يَحْمِلَ إبراهيمَ إلى مكانٍ بعيدٍ عنهم لَفعَلَ، ولوْ أَمَرَهُ أنْ يَرْفَعَهُ إلى السَّماءِ لَفعَلَ.
ثمَّ ضَرَبَ المؤلِّفُ بهذا مَثلاً: رَجلٌ غَنِيٌّ أتَى إلى فقِيرٍ فقَالَ: هلْ لكَ حاجةٌ في المالِ مِنْ قَرْضٍ أوْ هِبَةٍ أوْ غيرِ ذلكَ؟ فإنَّما هذا مِمَّا يَقْدِرُ عليهِ، ولا يُعَدُّ هذا شركًا، لوْ قالَ: نَعَمْ لي حاجةٌ أقْرِضْنِي أوْ هَبْنِي، لمْ يَكُنْ مُشرِكًا ----------------- قال الشيخ صالح الفوزان
هذه آخِرُ الشُّبُهاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا الشَّيْخُ في هذه الرِّسَالَةِ العَظِيمَةِ، فَأَجَابَ عنها بِجَوابٍ سَدِيدٍ مُوَفَّقٍ، وهي أَنَّ عُبَّادَ القُبُورِ الَّذينَ يَطْلُبُونَ المَدَدَ مِن الأَمْوَاتِ ويَسْتَغِيثُونَ بِهِم يَقُولُونَ: إنَّ هذه الاسْتِغَاثَةَ لَيْسَتْ شِرْكًا، وذلك بدَلِيلِ قِصَّةِ جِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- مَعَ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- حِينَمَا أُلْقِيَ في النَّارِ، فإِنَّ جِبْرِيلَ جَاءَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ كَمَا يُرْوَى فَقَالَ جِبْرِيلُ لإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: ((هَلْ لَكَ مِنْ حَاجَةٍ)) يَعْرِضُ عَلَيْهِ المُسَاعَدَةَ لإِنْقَاذِهِ.
وجِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- لاَشَكَّ ذُو قُوَّةٍ عَظِيمَةٍ، وعِنْدَه قُدْرَةٌ عَلَى إِنْقَاذِ إِبْرَاهِيمَ، وَقَدْ وَصَفَهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فَقَالَ: {ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي العَرْشِ مَكِينٍ} وفي الآيةِ الأُخْرَى: {ذُو مِرَّةٍ} يَعْنِي: قُوَّةٍ، فَعَرَضَ جِبْرِيلُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ أَنْ يُسَاعِدَهُ في إِخْرَاجِهِ مِن هذه الشِّدَّةِ، فَلَمَّا كَانَ إِبْرَاهِيمُ عَظِيمَ الثِّقَةِ باللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- قَالَ لَهُ: ((أمَّا إِلَيْكَ فَلاَ، وأَمَّا إِلَى اللهِ فَبَلَى)). فإِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- لَمْ يُرِدْ أَنْ يَطْلُبَ مِن مَخْلُوقٍ أَنْ يُنْقِذَهُ مِن هذه الشِّدَّةِ، وإنَّما تَوَجَّهَ إلى رَبِّهِ، كَمَا صَحَّ في الحَدِيثِ أنَّه قَالَ: ((حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ))فهذا مِن بَابِ التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وتَفْوِيضِ الأَمْرِ إِلَيْهِ، وهَذِه صِفَةُ أَكْمَلِ الخَلْقِ إِيمَانًا، حَيْثُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ رَفَضَ مُسَاعَدَةَ المَخْلُوقِ، وقَبِلَ مُسَاعَدَةَ الخَالِقِ؛ لأَِنَّ مُسَاعَدَةَ المَخْلُوقِ فيها مِنَّةٌ وحَاجَةٌ إِلَى المَخْلُوقِ، ومُسَاعَدَةَ الخَالِقِ -سُبْحَانَه وتَعَالَى- لاَ مِنَّةَ فيها لغَيْرِ اللهِ، وهي فَضْلٌ مِن اللهِ -سُبْحَانَهُ وتَعَالَى- وجِبْرِيلُ عَرَضَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ شَيْئًا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وهو عَرْضٌ مِن حَيٍّ حَاضِرٍ قَادِرٍ، كَمَا يَعْرِضُ الغَنِيُّ عَلَى الفَقِيرِ مُسَاعَدَتَهُ بالمَالِ، ولَيْسَ هذا مِن جِنْسِ الاسْتِغَاثَةِ بالأَمْوَاتِ أو الغَائِبِينَ الَّذين يَسْتَغِيثُ بِهِم القُبُورِيُّونَ ، فإِنَّ الأَمْوَاتَ لاَ يُسْتَغَاثُ بِهِم، وَلاَ يَقْدِرُونَ عَلَى مَا طُلِبَ مِنْهُم، ولاَ يَسْمَعُونَ دُعَاءَ مَن دَعَاهُم:

- كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَمَالَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَالَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ (22) وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} .

-وَقَالَ تَعَالَى: {ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ المُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ}.

محمدعبداللطيف
2019-12-22, 01:49 PM
قال الشيخ صالح آل الشيخ قال: (ولهم شبهة أخرى، وهي قصة إبراهيم لما ألقي في النار، اعترض له جبريل في الهواء فقال له: ألك حاجة؟ فقال إبراهيم: أما إليك فلا.قالوا: فلو كانت الاستغاثة بجبريل شركاً لم يعرضها على إبراهيم). وهذه الشبهة هي أضعف من الشبهة الأولى، ولكن المشرك - والعياذ بالله - يتشبث بخيط العنكبوت؛ لإبقائه على ما هو عليه. قصة إبراهيم هذه ذكرها بعض المفسرين، وأن جبريل -عليه السلام- اعترض له في الهواء لما ألقي في النار، فقال له: (يا إبراهيم ألك حاجة؟)فقال إبراهيم عليه السلام، وهو إمام الحنفاء، قال: (أما إليك فلا).قالوا:(لو كانت الاستغاثة شركاً لم يعرضها على إبراهيم).

وكما ترى أن الاستدلال ليس في محل الدعوى،والدليل ليس في محل الدعوى، فالكلام في الاستغاثة بالأموات، وأما الاستغاثة في أصلها - كما قلنا - دلت الأدلة على جوازها بشروطها وأما الاستغاثة التي نتكلم فيها: الاستغاثة بالغائبين، الاستغاثة بالأموات، ولهذا لو قال قائل لهؤلاء: إذا كنتم تقولون ذلك، فهل يجيز أحد منكم أن يستغيث بإنسان اليوم، مجمع على حياته بين المسلمين، وهو عيسى عليه السلام، رسول من أولي العزم من الرسل، فهل تجيزون الاستغاثة والطلب من عيسى عليه السلام، وهو حي في السماء رفعه الله -جل وعلا- إليه، ولا قائل بين المسلمين البتة أنه تجوز الاستغاثة والطلب من عيسى عليه السلام، وإنما كلامهم في الأولياء المقبورين.

ولهذا نقول:هذه الشبهة في أنه عَرَض جبريل على إبراهيم أن يغيثه، هذه لنا وليست علينا؛ لأن جبريل عليه السلام قوي -بل شديد القوى- فقد أتى النبي -عليه الصلاة والسلام- وقال له: ((يا محمد لو شئت لأطبقت على أهل مكة الأخشبين)) فقال -عليه الصلاة والسلام- وهو الرؤوف الرحيم: ((لا، لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله)) عليه الصلاة والسلام، فجبريل -عليه السلام- يخلِّص إبراهيم من النار، هذا أمر سهل ميسور عليه بإقدار الله له ذلك، وجبريل كان حاضراً عَرَض الإغاثة على إبراهيم، فهذه بلا شك في خارج محل الدعوى، لكن كما ذكرت لك المشرك يتشبث بخيط العنكبوت.

قال: (فالجواب: أن هذا من جنس الشبهة الأولى، فإن جبريل -عليه السلام- عرض عليه أن ينفعه بأمرٍ يقدر عليه، فإنه كما قال الله تعالى فيه: {شَدِيدُ الْقُوَى}- {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} - فلو أذن له أن يأخذ نار إبراهيم وما حولها من الأرض والجبال ويلقيها في المشرق أو المغرب لفعل، ولو أمره أن يضع إبراهيم -عليه السلام- في مكان بعيد عنهم لفعل، ولو أمره أن يرفعه إلى السماء لفعل).
ولكن إبراهيم -عليه السلام- في هذا أرادها من الله جل وعلا، وهذا يدل على الأصل الذي أصلناه ودلت عليه النصوص، وهو أنه من استغنى عن الخلق فهو أحمد؛ فهو المحمود؛ لأن الأصل أن يُسْتغنى عن الخلق، لكن الناس لا تستقيم أمورهم إلا بحاجة بعضهم إلي بعض، ولهذا ثبت في (صحيح مسلم) أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أوصى عدداً من أصحابه ألا يسألوا الناس شيئاً، قال: (فكان أحدهم يسقط سوطه وهو على دابته فلا يسأل أحداً أن يرفعه إليه) بل ينزل ويأخذ منه، وذلك الكمال.
والنبي -عليه الصلاة والسلام- كان قلما يحتاج إلى غيره، إذا كان الشيء يمكن أن يعمله لنفسه عمله بنفسه عليه الصلاة والسلام، يعني: في الأصل، وأما غير ذلك فهو جائز لكن ليس هو الأصل. يعني: أن هذا الدليل الذي أوردوه -وإن لم يستقم دليلاً- لكن هذا لنا وليس علينا. قال - من حيث التمثيل -: (وهذا كرجل غني له مال كثير يرى رجلاً محتاجاً فيعرض عليه أن يقرضه أو أن يهبه شيئاً يقضي به حاجته فيأبى ذلك المحتاج أن يأخذ، ويصبر إلى أن يأتيه الله برزق لا منة فيه لأحد، فأين هذا من استغاثة العبادة والشرك لو كانوا يفقهون؟!) وهذا الجواب واضح الدلالة، واضح القوة، ولكن المشركون طبع الله على قلوبهم.