ابو وليد البحيرى
2019-12-21, 04:49 AM
التربية القيادية في سورة الكهف
يزن أحمد عبده
تُعرّف القيادة بأنّها: "عملية تحريك مجموعة من الناس باتجاه محدد ومخطط، وذلك بتحفيزهم على العمل باختيارهم"، وعرّفها بعضهم بأنّها: "فن معاملة الطبيعة البشرية والتأثير في السلوك البشري وتوجيهه نحو هدف معيّن وبطريقة تضمن بها طاعته وثقته واحترامه".
مما سبق يمكن القول: إنّ المحاور الأساسية في العملية القيادية هي:
1- القائد، وهو الموجه لمجموعة من الأشخاص نحو هدف معيّن. لتميزه بمجموعة من الصفات تؤهله للقيادة.
2- الأفراد وهم الأشخاص الذين يوجههم القائد.
3- هدف يبتغى الوصول إليه.
4- أساليب تضمن الوصول لهذا الهدف، من تحفيز، وتأثير في السلوك، وطاعة، وثقة،...
والناظر في آيات قصة ذي القرنين، يرى أنّها كشفت عن تلك المحاور الأساسية في تعريف القيادة فأظهرت ذلك القائد بصورته الجلية وصفاته التي تحلى بها أثناء قيادته لمجموعته نحو الهدف، قال -سبحانه وتعالى- واصفاً ذي القرنين: (وَيَسْأَلُونَك عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا) [الكهف: 83-84)].
"فلقد مكن له في الأرض، فأعطاه سلطاناً وطيد الدعائم، ويسر له أسباب الحكم والفتح، وأسباب البناء والعمران، وأسباب السلطان والمتاع.. وسائر ما هو من شأن البشر أن يمكنوا فيه في هذه الحياة" فكان قائداً عظيماً سطر له القرآن بين طياته آيات تتلى إلى يوم الدين.
ثمّ تحدثت الآيات عن المحور الثاني من محاور القيادة، ذلك هو: الأفراد، وهم تلك الفئات من البشر الذين وجههم ذو القرنين نحو الخير في شرق الأرض وغربها، فأحق الحق بينهم وأبطل الباطل، قال -تعالى- عن أولئك الأقوام، وكيف وصل بهم ذو القرنين إلى الهدف: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا * ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا * كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا) [الكهف: 86-91)].
وبعدها استمرت الآيات في الحديث عن هذا المحور، مبينة حال أولئك القوم الذين وجههم ذو القرنين نحو هدف منع يأجوج ومأجوج من الإغارة عليهم، فقال -سبحانه-: (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا * قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا) [الكهف: 92-95)].
وقد تناولت الآيات على بيان المحور الثالث للعملية القيادية، وهو أن يكون للقائد وللأفراد هدف يسعون إلى تحقيقه، وقد كان في الرحلات الثلاث إحقاق الحق وإبطال الباطل، ففي الأولى والثانية أقام العدل وحكم بشرع الله وهو قمة الحق، وفي الثالثة منع الاعتداء الظالم على القوم من قبل يأجوج ومأجوج.
وكذلك فإنّ الآيات لم تغفل المحور الرابع، وهو الأساليب القيادية المستخدمة من أجل الوصول إلى الهدف، فنراها تارة تعرض أسلوب الحزم والقوة وتارة أسلوب القدوة، وأخرى أسلوب المبادرة، والحكمة، والتحفيز.
وغيرها من الأساليب التي أتقن ذو القرنين استخدامها في رحلاته الثلاث ليصل بمن يقودهم نحو تحقيق الأهداف المرجوة.
وسنتعرض -بإذن الله- إلى صفات القائد التي تعد من زاوية أخرى وسائل قيادية يستطيع أن يتعامل معها لتحقيق الأهداف، كما سنأتي على المهام القيادية التي تعد أهدافاً يجب على القائد أن يقوم بها خير قيام.
ولا يخفى مدى الحاجة الماسة لأُمّتنا اليوم في أن تربي أبناءها تربية قيادية تحت ظل هدي القرآن، لكي تخرج وتخرج الناس من الظلمات إلى النور، فالقيادة عملية تربوية، لأن كشف وتنمية المواهب القيادية بالشكل الصحيح يحتاج لمربين يكتشفون ويوجهون من فيهم هذه الصفات الوجهة الصحيحة.
والحقيقة أنّ الأخطاء التربوية في موضوع القيادة كثيرة، ولابدّ أن نقف منها موقف الحذر لنتجنبها، وخير سبيل لاكتشافها وعلاجها الرجوع إلى كتاب ربنا؛ مدد التربية الإسلامية في كل محاورها، وما هذا البحث إلا محاولة في هذا السبيل، محاولة للكشف عن صفات القائد ومهامه، علها تكون أسطراً فيها الخير والفائدة بإذن الله.
صفات القائد الناجح
عرضت الآيات عدة صفات للقائد الناجح، كان منها صفات مكتسبة وأخرى غير مكتسبة، وأظهرت بعض هذه الصفات وبخاصة المكتسب منها على أنّها أساليب يجب على القائد أن يتعامل بها كي يحقق النجاح في العملية القيادية.
ولا شك أنّ القائد المسلم مطالب بهذه الصفات، كما ويجب على المربين الإسلاميين أن يعوا هذه الصفات المستخرجة من القرآن الكريم ويعملوا على إيجاد المكتسب منها في شخصية الأفراد، وينموا الصفات القيادية الأصيلة فيهم ليصلوا إلى عملية تربوية ناجحة في الزاوية القيادية.
أمّا الصفات القيادية التي أظهرتها الآيات القرآنية في قصة ذي القرنين للقائد المسلم فهي:
أوّلاً: الإيمان بالله:
التي تعد أولى وأهم الصفات في القائد المسلم، كيف لا وهو يسعى إلى تحقيق أمر الله في ممارساته الإدارية مع رعيته، وأهدافه القيادية في فترة رئاسته، والتي تتمثل في نشر الإسلام، وبث روح الإيمان، ومحاربة الظلم والطغيان، ولا يكون هذا ممن لم يعمر قلبه الإيمان.
وقد عرضت هذه الصفة في كل محاور حياة ذي القرنين المعروضة في الآيات، التي تكشف عن المعية الإلهية له في مناسبات مختلفة تبدأ من قوله - تعالى -: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا).
فالله -سبحانه- قد مكن له في الأرض وآتاه من الأسباب ما جعله مؤهلاً للقيادة الربانية وأوّل هذه الأسباب بلا شك الإيمان، فهذه العناية ما كان ليحصل عليها لولا تميزه الإيماني.
وتبين الآيات دليلاً آخر على إيمانه، تمثل في الكشف عن نوع الفكر الذي يحمله ذو القرنين؛ فكر إيماني يحارب الظلم والشر ويرسخ معالم التوحيد والإيمان، ويرتقي بروحانية الأتباع إلى أسمى المراتب، فها هو يرسخ الإيمان (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا).
بمكافأته للمؤمن أوّلاً، وثانياً ببيان أمر عقدي غيبي وهو: أنّ الجنة جزاء المؤمن، ساعيا بذلك للسمو بإيمان الأتباع، ومحرضا لهم على ربط أهدافهم برضا الله لنيل جنته.
هذه أبرز صفة يجب على القائد المسلم أن يتحلى بها، ليشعر أنّه صادق في قيادته من خلال سعيه لتحقيق مبدأ الإيمان، وهذه الصفة سبب رئيس في تحقيق التقدم والوصول للهدف، لأنّها سبب في المعية الربانية والعناية الإلهية للقائد ورعيته.
ثانياً: العلم:
إذا لا يتصور أن يصل القائد بأتباعه إلى الهدف المنشود دون أن يلم بقضايا علمية مختلفة ودون أن يكون حكيماً في قراراته وأساليبه.
وقد تميز ذو القرنين في هذا الجانب، فكان عالما في تخصصات مختلفة، ويظهر ذلك من خلال:
1- قول الله -سبحانه-: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا). فمن أهم أسس التمكين العلم، فلولا العلم لما كان له هذا التمكين.
2- قول الله -سبحانه-: (فَأَتبَعَ سَبَباً)، وقوله -سبحانه-: (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً).
وفي هذا بيان على قدرة ذي القرنين على إتباع الأسباب الموصلة إلى شرق الأرض ومغربها، وما هذا إلا لقدرته العلمية على ذلك، مع معرفة الأسباب العلوم وإتباعها ليصل إلى ما يصبو إليه.
والآيات الكريمة تحدثت عن أنواع متعددة من العلوم التي كان يتقنها ذو القرنين موجهة القادة المسلمين والمربيين إلى الاهتمام بهذه العلوم الضرورية لكل قائد ومنها:
1- علوم في إدارة الناس من:
أ*- القدرة على معرفة أحوال الناس، والتفريق بين الصالح والطالح منهم.
ب*- استخدام الأساليب المتنوعة في إصلاح الرعية وإدارة شؤونهم، كأسلوب الترغيب والتعزيز والمكافأة التي منحها للمؤمنين.
ت*- التميز في مهارات الاتصال بالجماهير، والحكمة في اختيار وانتقاء الكلمات المؤثرة.
وهذا هو ما كان من ذي القرنين؛ في خطابه، فكان متميزاً في اختيار الكلمات والأساليب ليربطها بالواقع المعاش، حتى يصل إلى مرحلة الإقناع الكامل، وهذا ما يجب أن يربى عليه القادة من إتقان فن الاتصال بالجماهير، لأنّه من أهم سبل التغيير التربوي المنشود.
2- العلوم العسكرية: من تسيير الجيوش وضبطها، والعلوم التابعة لذلك كالجغرافيا مثلا، والتخطيط العسكري الفعال، والقدرة على استثمار النصر لما فيه من الخير، والقدرة على التوظيف الاجتماعي للقوة العسكرية، ويظهر كل ذلك من خلال، انتصاراته في الشرق الغرب، ومن خلال إشاعة العدل بعد تحقيق النصر، وكذلك من خلال تقديم العون لمن بين السدين من بناء الردم بينهم وبين يأجوج ومأجوج.
3- علوم تطبيقية: كعلم الكيمياء والهندسة، ويظهر ذلك من خلال بناء السد من اختيار المواد، ومواصفاتها، وطريقة البناء، واختيار الموقع، وكذلك من خلال معرفته بعلوم الأرض وكيفية استخراج المواد، كالحديد، منها، والاستفادة من الطاقات البشرية التي معه في هذه العلوم.
فالعلم من الصفات الأساسية للقائد الفعال، ومن خلاله يشعر القائد بالثقة بالنفس، مما يزيد من فاعليته، وأهليته في القيادة، والقدرة على اتخاذ القرار الحكيم في الوقت المناسب.
يتبع
يزن أحمد عبده
تُعرّف القيادة بأنّها: "عملية تحريك مجموعة من الناس باتجاه محدد ومخطط، وذلك بتحفيزهم على العمل باختيارهم"، وعرّفها بعضهم بأنّها: "فن معاملة الطبيعة البشرية والتأثير في السلوك البشري وتوجيهه نحو هدف معيّن وبطريقة تضمن بها طاعته وثقته واحترامه".
مما سبق يمكن القول: إنّ المحاور الأساسية في العملية القيادية هي:
1- القائد، وهو الموجه لمجموعة من الأشخاص نحو هدف معيّن. لتميزه بمجموعة من الصفات تؤهله للقيادة.
2- الأفراد وهم الأشخاص الذين يوجههم القائد.
3- هدف يبتغى الوصول إليه.
4- أساليب تضمن الوصول لهذا الهدف، من تحفيز، وتأثير في السلوك، وطاعة، وثقة،...
والناظر في آيات قصة ذي القرنين، يرى أنّها كشفت عن تلك المحاور الأساسية في تعريف القيادة فأظهرت ذلك القائد بصورته الجلية وصفاته التي تحلى بها أثناء قيادته لمجموعته نحو الهدف، قال -سبحانه وتعالى- واصفاً ذي القرنين: (وَيَسْأَلُونَك عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا) [الكهف: 83-84)].
"فلقد مكن له في الأرض، فأعطاه سلطاناً وطيد الدعائم، ويسر له أسباب الحكم والفتح، وأسباب البناء والعمران، وأسباب السلطان والمتاع.. وسائر ما هو من شأن البشر أن يمكنوا فيه في هذه الحياة" فكان قائداً عظيماً سطر له القرآن بين طياته آيات تتلى إلى يوم الدين.
ثمّ تحدثت الآيات عن المحور الثاني من محاور القيادة، ذلك هو: الأفراد، وهم تلك الفئات من البشر الذين وجههم ذو القرنين نحو الخير في شرق الأرض وغربها، فأحق الحق بينهم وأبطل الباطل، قال -تعالى- عن أولئك الأقوام، وكيف وصل بهم ذو القرنين إلى الهدف: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا * ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا * كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا) [الكهف: 86-91)].
وبعدها استمرت الآيات في الحديث عن هذا المحور، مبينة حال أولئك القوم الذين وجههم ذو القرنين نحو هدف منع يأجوج ومأجوج من الإغارة عليهم، فقال -سبحانه-: (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا * قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا) [الكهف: 92-95)].
وقد تناولت الآيات على بيان المحور الثالث للعملية القيادية، وهو أن يكون للقائد وللأفراد هدف يسعون إلى تحقيقه، وقد كان في الرحلات الثلاث إحقاق الحق وإبطال الباطل، ففي الأولى والثانية أقام العدل وحكم بشرع الله وهو قمة الحق، وفي الثالثة منع الاعتداء الظالم على القوم من قبل يأجوج ومأجوج.
وكذلك فإنّ الآيات لم تغفل المحور الرابع، وهو الأساليب القيادية المستخدمة من أجل الوصول إلى الهدف، فنراها تارة تعرض أسلوب الحزم والقوة وتارة أسلوب القدوة، وأخرى أسلوب المبادرة، والحكمة، والتحفيز.
وغيرها من الأساليب التي أتقن ذو القرنين استخدامها في رحلاته الثلاث ليصل بمن يقودهم نحو تحقيق الأهداف المرجوة.
وسنتعرض -بإذن الله- إلى صفات القائد التي تعد من زاوية أخرى وسائل قيادية يستطيع أن يتعامل معها لتحقيق الأهداف، كما سنأتي على المهام القيادية التي تعد أهدافاً يجب على القائد أن يقوم بها خير قيام.
ولا يخفى مدى الحاجة الماسة لأُمّتنا اليوم في أن تربي أبناءها تربية قيادية تحت ظل هدي القرآن، لكي تخرج وتخرج الناس من الظلمات إلى النور، فالقيادة عملية تربوية، لأن كشف وتنمية المواهب القيادية بالشكل الصحيح يحتاج لمربين يكتشفون ويوجهون من فيهم هذه الصفات الوجهة الصحيحة.
والحقيقة أنّ الأخطاء التربوية في موضوع القيادة كثيرة، ولابدّ أن نقف منها موقف الحذر لنتجنبها، وخير سبيل لاكتشافها وعلاجها الرجوع إلى كتاب ربنا؛ مدد التربية الإسلامية في كل محاورها، وما هذا البحث إلا محاولة في هذا السبيل، محاولة للكشف عن صفات القائد ومهامه، علها تكون أسطراً فيها الخير والفائدة بإذن الله.
صفات القائد الناجح
عرضت الآيات عدة صفات للقائد الناجح، كان منها صفات مكتسبة وأخرى غير مكتسبة، وأظهرت بعض هذه الصفات وبخاصة المكتسب منها على أنّها أساليب يجب على القائد أن يتعامل بها كي يحقق النجاح في العملية القيادية.
ولا شك أنّ القائد المسلم مطالب بهذه الصفات، كما ويجب على المربين الإسلاميين أن يعوا هذه الصفات المستخرجة من القرآن الكريم ويعملوا على إيجاد المكتسب منها في شخصية الأفراد، وينموا الصفات القيادية الأصيلة فيهم ليصلوا إلى عملية تربوية ناجحة في الزاوية القيادية.
أمّا الصفات القيادية التي أظهرتها الآيات القرآنية في قصة ذي القرنين للقائد المسلم فهي:
أوّلاً: الإيمان بالله:
التي تعد أولى وأهم الصفات في القائد المسلم، كيف لا وهو يسعى إلى تحقيق أمر الله في ممارساته الإدارية مع رعيته، وأهدافه القيادية في فترة رئاسته، والتي تتمثل في نشر الإسلام، وبث روح الإيمان، ومحاربة الظلم والطغيان، ولا يكون هذا ممن لم يعمر قلبه الإيمان.
وقد عرضت هذه الصفة في كل محاور حياة ذي القرنين المعروضة في الآيات، التي تكشف عن المعية الإلهية له في مناسبات مختلفة تبدأ من قوله - تعالى -: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا).
فالله -سبحانه- قد مكن له في الأرض وآتاه من الأسباب ما جعله مؤهلاً للقيادة الربانية وأوّل هذه الأسباب بلا شك الإيمان، فهذه العناية ما كان ليحصل عليها لولا تميزه الإيماني.
وتبين الآيات دليلاً آخر على إيمانه، تمثل في الكشف عن نوع الفكر الذي يحمله ذو القرنين؛ فكر إيماني يحارب الظلم والشر ويرسخ معالم التوحيد والإيمان، ويرتقي بروحانية الأتباع إلى أسمى المراتب، فها هو يرسخ الإيمان (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا).
بمكافأته للمؤمن أوّلاً، وثانياً ببيان أمر عقدي غيبي وهو: أنّ الجنة جزاء المؤمن، ساعيا بذلك للسمو بإيمان الأتباع، ومحرضا لهم على ربط أهدافهم برضا الله لنيل جنته.
هذه أبرز صفة يجب على القائد المسلم أن يتحلى بها، ليشعر أنّه صادق في قيادته من خلال سعيه لتحقيق مبدأ الإيمان، وهذه الصفة سبب رئيس في تحقيق التقدم والوصول للهدف، لأنّها سبب في المعية الربانية والعناية الإلهية للقائد ورعيته.
ثانياً: العلم:
إذا لا يتصور أن يصل القائد بأتباعه إلى الهدف المنشود دون أن يلم بقضايا علمية مختلفة ودون أن يكون حكيماً في قراراته وأساليبه.
وقد تميز ذو القرنين في هذا الجانب، فكان عالما في تخصصات مختلفة، ويظهر ذلك من خلال:
1- قول الله -سبحانه-: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا). فمن أهم أسس التمكين العلم، فلولا العلم لما كان له هذا التمكين.
2- قول الله -سبحانه-: (فَأَتبَعَ سَبَباً)، وقوله -سبحانه-: (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً).
وفي هذا بيان على قدرة ذي القرنين على إتباع الأسباب الموصلة إلى شرق الأرض ومغربها، وما هذا إلا لقدرته العلمية على ذلك، مع معرفة الأسباب العلوم وإتباعها ليصل إلى ما يصبو إليه.
والآيات الكريمة تحدثت عن أنواع متعددة من العلوم التي كان يتقنها ذو القرنين موجهة القادة المسلمين والمربيين إلى الاهتمام بهذه العلوم الضرورية لكل قائد ومنها:
1- علوم في إدارة الناس من:
أ*- القدرة على معرفة أحوال الناس، والتفريق بين الصالح والطالح منهم.
ب*- استخدام الأساليب المتنوعة في إصلاح الرعية وإدارة شؤونهم، كأسلوب الترغيب والتعزيز والمكافأة التي منحها للمؤمنين.
ت*- التميز في مهارات الاتصال بالجماهير، والحكمة في اختيار وانتقاء الكلمات المؤثرة.
وهذا هو ما كان من ذي القرنين؛ في خطابه، فكان متميزاً في اختيار الكلمات والأساليب ليربطها بالواقع المعاش، حتى يصل إلى مرحلة الإقناع الكامل، وهذا ما يجب أن يربى عليه القادة من إتقان فن الاتصال بالجماهير، لأنّه من أهم سبل التغيير التربوي المنشود.
2- العلوم العسكرية: من تسيير الجيوش وضبطها، والعلوم التابعة لذلك كالجغرافيا مثلا، والتخطيط العسكري الفعال، والقدرة على استثمار النصر لما فيه من الخير، والقدرة على التوظيف الاجتماعي للقوة العسكرية، ويظهر كل ذلك من خلال، انتصاراته في الشرق الغرب، ومن خلال إشاعة العدل بعد تحقيق النصر، وكذلك من خلال تقديم العون لمن بين السدين من بناء الردم بينهم وبين يأجوج ومأجوج.
3- علوم تطبيقية: كعلم الكيمياء والهندسة، ويظهر ذلك من خلال بناء السد من اختيار المواد، ومواصفاتها، وطريقة البناء، واختيار الموقع، وكذلك من خلال معرفته بعلوم الأرض وكيفية استخراج المواد، كالحديد، منها، والاستفادة من الطاقات البشرية التي معه في هذه العلوم.
فالعلم من الصفات الأساسية للقائد الفعال، ومن خلاله يشعر القائد بالثقة بالنفس، مما يزيد من فاعليته، وأهليته في القيادة، والقدرة على اتخاذ القرار الحكيم في الوقت المناسب.
يتبع