ابو وليد البحيرى
2019-12-19, 10:57 AM
منهج رباني للدعوة {وَأَعرِض عَنِ الجاهِلينَ}
د. خالد آل رحيم
في وقتٍ يكثر فيه السفهاء والمتعالمون والمتفيقهون، يجب على صاحب الحق والمنهج الصحيح: أن يمارس دعوته الصحيحة، ويبين للناس المعتقد الصحيح بعيدًا عن تضييع الأعمار والأوقات في مجاراة السفهاء والجهال، وإيجاد المسوغات، وهذا أمر المولى -تعالى- لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَأَعرِض عَنِ الجاهِلينَ} (الأعراف:199)، وما كان يفعله - صلى الله عليه وسلم - هو نبراس لنا وحجة علينا، فينبغي لأبناء التيار الإسلامي -أصحاب العقيدة الصحيحة والمنهج القويم منهج سلف هذه الأمة المباركة- أن يتعلموا ويعملوا بما كان يعمل به - صلى الله عليه وسلم - في تلك المواقف وما شابهها.
وإلى اليوم فلم يثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه وقف يومًا يماري أو يجادل، بل كان يعرض عن الجاهلين بمجرد بيان الحق، ثم يستمر في دعوته دون النظر لتلك الأصوات التي اعتدت عليه بدنيًّا بالإيذاء، ومعنويًّا بنعته بأنه شاعر وكاهن، وساحر، وكذاب ومجنون، وأبتر، وكثير من التهم التي كانت تُكال له بأبي هو وأمي، والملفت للانتباه أنه لم يثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه وقف عند تلك الكلمات أو الاتهامات، بل صار يعرض منهجه ويدلل عليه بأدلة كان يعجز الباطل أن يقارعها أو يفندها؛ فكان يمتثل أمر الله -تعالى- القائل له: {خُذِ العَفوَ وَأمُر بِالعُرفِ وَأَعرِض عَنِ الجاهِلينَ} (الأعراف:199).
قال الطبري -رحمه الله-: «فإنه أمر مِن الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يُعرض عمن جهل، وإن كان ذلك أمراً من الله لنبيه؛ فإنه تأديب منه -عز ذكره- لخلقه باحتمال مَن ظلمهم أو اعتدى عليهم» (انتهى). وقال -تعالى-: {وَكَذلِكَ جَعَلنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطينَ الإِنسِ وَالجِنِّ يوحي بَعضُهُم إِلى بَعضٍ زُخرُفَ القَولِ غُرورًا وَلَو شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلوهُ فَذَرهُم وَما يَفتَرونَ} (الأنعام:112)، قال البقاعي -رحمه الله-: «فقد جعلناهم أعداءك؛ لأنك عالم، والجاهلون لأهل العلم أعداء» (انتهى).
وقوله: {فَذَرهُم وَما يَفتَرونَ}، قال رشيد رضا -رحمه الله-: «أي: مِن كذبٍ، ويخلقون من إفك ليصرفوا الناس عن الحق، واستقم كما أُمرت فإنما عليك البلاغ» (انتهى بتصرفٍ يسيرٍ)، وقال -تعالى-: {فَاصدَع بِما تُؤمَرُ وَأَعرِض عَنِ المُشرِكينَ} (الحجر:94)، قال القرطبي -رحمه الله-: «أي تنزه عن منازعة السفهاء، ومساواة الجهلة الأغبياء» (انتهى)، وقال البقاعي -رحمه الله-: «أي: فلا تكافئهم بخفتهم وسفههم، ولا تمارهم؛ فإن ذلك أسهل من غيره» (انتهى)، وقال -تعالى-: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ} (النساء:63)، قال السعدي -رحمه الله-: «أي: لا تبالِ بهم، ولا تقابلهم على ما فعلوه واقترفوا، وبيِّن لهم حكم الله -تعالى- مع الترغيب في الانقياد لله، والترهيب من تركه» (انتهى).
وكان هذا دأبه - صلى الله عليه وسلم -، ولنقف ونتأمل بعض مواقفه وهي كثيرة جدًّا، نذكر بعضها على سبيل المثال، كما روى ابن عباس -رضي الله عنهما-: أَنَّ ضِمَادًا، قَدِمَ مَكَّةَ وَكَانَ مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ، وَكَانَ يَرْقِي مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ، فَسَمِعَ سُفَهَاءَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، يَقُولُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا مَجْنُونٌ، فَقَالَ: لَوْ أَنِّي رَأَيْتُ هَذَا الرَّجُلَ لَعَلَّ اللهَ يَشْفِيهِ عَلَى يَدَيَّ، قَالَ فَلَقِيَهُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنِّي أَرْقِي مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ، وَإِنَّ اللهَ يَشْفِي عَلَى يَدِي مَنْ شَاءَ، فَهَلْ لَكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَمَّا بَعْدُ»، فَقَالَ: أَعِدْ عَلَيَّ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءِ، فَأَعَادَهُنَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ: لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ، وَقَوْلَ السَّحَرَةِ، وَقَوْلَ الشُّعَرَاءِ، فَمَا سَمِعْتُ مِثْلَ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءِ، وَلَقَدْ بَلَغْنَ نَاعُوسَ الْبَحْرِ، فَقَالَ: هَاتِ يَدَكَ أُبَايِعْكَ عَلَى الْإِسْلَامِ، قَالَ: فَبَايَعَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «وَعَلَى قَوْمِكَ»، قَالَ: وَعَلَى قَوْمِي. قَالَ: فَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سَرِيَّةً فَمَرُّوا بِقَوْمِهِ، فَقَالَ صَاحِبُ السَّرِيَّةِ لِلْجَيْشِ: هَلْ أَصَبْتُمْ مِنْ هَؤُلَاءِ شَيْئًا؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: أَصَبْتُ مِنْهُمْ مِطْهَرَةً، فَقَالَ: رُدُّوهَا، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمُ ضِمَادٍ. (رواه مسلم).
وهنا لابد أن نتوقف أمام عظمة هذه الكلمات التي خرجت من فِيَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فالرجل جاءه وقد صدَّق قريشًا أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - مجنون، وعرض عليه أن يداويه فلم يقابله - صلى الله عليه وسلم - بالتسويغات ولا بالدفاع عن نفسه، ومغالطة ما قال، وإنما اهتم بدعوته بما عنده من الحق، فأسلم الرجل بعد المقدمة، ولم ينتظر أن يُعرض عليه الإسلام من قِبَل الرسول الله - صلى الله عليه وسلم .
د. خالد آل رحيم
في وقتٍ يكثر فيه السفهاء والمتعالمون والمتفيقهون، يجب على صاحب الحق والمنهج الصحيح: أن يمارس دعوته الصحيحة، ويبين للناس المعتقد الصحيح بعيدًا عن تضييع الأعمار والأوقات في مجاراة السفهاء والجهال، وإيجاد المسوغات، وهذا أمر المولى -تعالى- لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَأَعرِض عَنِ الجاهِلينَ} (الأعراف:199)، وما كان يفعله - صلى الله عليه وسلم - هو نبراس لنا وحجة علينا، فينبغي لأبناء التيار الإسلامي -أصحاب العقيدة الصحيحة والمنهج القويم منهج سلف هذه الأمة المباركة- أن يتعلموا ويعملوا بما كان يعمل به - صلى الله عليه وسلم - في تلك المواقف وما شابهها.
وإلى اليوم فلم يثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه وقف يومًا يماري أو يجادل، بل كان يعرض عن الجاهلين بمجرد بيان الحق، ثم يستمر في دعوته دون النظر لتلك الأصوات التي اعتدت عليه بدنيًّا بالإيذاء، ومعنويًّا بنعته بأنه شاعر وكاهن، وساحر، وكذاب ومجنون، وأبتر، وكثير من التهم التي كانت تُكال له بأبي هو وأمي، والملفت للانتباه أنه لم يثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه وقف عند تلك الكلمات أو الاتهامات، بل صار يعرض منهجه ويدلل عليه بأدلة كان يعجز الباطل أن يقارعها أو يفندها؛ فكان يمتثل أمر الله -تعالى- القائل له: {خُذِ العَفوَ وَأمُر بِالعُرفِ وَأَعرِض عَنِ الجاهِلينَ} (الأعراف:199).
قال الطبري -رحمه الله-: «فإنه أمر مِن الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يُعرض عمن جهل، وإن كان ذلك أمراً من الله لنبيه؛ فإنه تأديب منه -عز ذكره- لخلقه باحتمال مَن ظلمهم أو اعتدى عليهم» (انتهى). وقال -تعالى-: {وَكَذلِكَ جَعَلنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطينَ الإِنسِ وَالجِنِّ يوحي بَعضُهُم إِلى بَعضٍ زُخرُفَ القَولِ غُرورًا وَلَو شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلوهُ فَذَرهُم وَما يَفتَرونَ} (الأنعام:112)، قال البقاعي -رحمه الله-: «فقد جعلناهم أعداءك؛ لأنك عالم، والجاهلون لأهل العلم أعداء» (انتهى).
وقوله: {فَذَرهُم وَما يَفتَرونَ}، قال رشيد رضا -رحمه الله-: «أي: مِن كذبٍ، ويخلقون من إفك ليصرفوا الناس عن الحق، واستقم كما أُمرت فإنما عليك البلاغ» (انتهى بتصرفٍ يسيرٍ)، وقال -تعالى-: {فَاصدَع بِما تُؤمَرُ وَأَعرِض عَنِ المُشرِكينَ} (الحجر:94)، قال القرطبي -رحمه الله-: «أي تنزه عن منازعة السفهاء، ومساواة الجهلة الأغبياء» (انتهى)، وقال البقاعي -رحمه الله-: «أي: فلا تكافئهم بخفتهم وسفههم، ولا تمارهم؛ فإن ذلك أسهل من غيره» (انتهى)، وقال -تعالى-: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ} (النساء:63)، قال السعدي -رحمه الله-: «أي: لا تبالِ بهم، ولا تقابلهم على ما فعلوه واقترفوا، وبيِّن لهم حكم الله -تعالى- مع الترغيب في الانقياد لله، والترهيب من تركه» (انتهى).
وكان هذا دأبه - صلى الله عليه وسلم -، ولنقف ونتأمل بعض مواقفه وهي كثيرة جدًّا، نذكر بعضها على سبيل المثال، كما روى ابن عباس -رضي الله عنهما-: أَنَّ ضِمَادًا، قَدِمَ مَكَّةَ وَكَانَ مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ، وَكَانَ يَرْقِي مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ، فَسَمِعَ سُفَهَاءَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، يَقُولُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا مَجْنُونٌ، فَقَالَ: لَوْ أَنِّي رَأَيْتُ هَذَا الرَّجُلَ لَعَلَّ اللهَ يَشْفِيهِ عَلَى يَدَيَّ، قَالَ فَلَقِيَهُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنِّي أَرْقِي مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ، وَإِنَّ اللهَ يَشْفِي عَلَى يَدِي مَنْ شَاءَ، فَهَلْ لَكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَمَّا بَعْدُ»، فَقَالَ: أَعِدْ عَلَيَّ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءِ، فَأَعَادَهُنَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ: لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ، وَقَوْلَ السَّحَرَةِ، وَقَوْلَ الشُّعَرَاءِ، فَمَا سَمِعْتُ مِثْلَ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءِ، وَلَقَدْ بَلَغْنَ نَاعُوسَ الْبَحْرِ، فَقَالَ: هَاتِ يَدَكَ أُبَايِعْكَ عَلَى الْإِسْلَامِ، قَالَ: فَبَايَعَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «وَعَلَى قَوْمِكَ»، قَالَ: وَعَلَى قَوْمِي. قَالَ: فَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سَرِيَّةً فَمَرُّوا بِقَوْمِهِ، فَقَالَ صَاحِبُ السَّرِيَّةِ لِلْجَيْشِ: هَلْ أَصَبْتُمْ مِنْ هَؤُلَاءِ شَيْئًا؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: أَصَبْتُ مِنْهُمْ مِطْهَرَةً، فَقَالَ: رُدُّوهَا، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمُ ضِمَادٍ. (رواه مسلم).
وهنا لابد أن نتوقف أمام عظمة هذه الكلمات التي خرجت من فِيَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فالرجل جاءه وقد صدَّق قريشًا أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - مجنون، وعرض عليه أن يداويه فلم يقابله - صلى الله عليه وسلم - بالتسويغات ولا بالدفاع عن نفسه، ومغالطة ما قال، وإنما اهتم بدعوته بما عنده من الحق، فأسلم الرجل بعد المقدمة، ولم ينتظر أن يُعرض عليه الإسلام من قِبَل الرسول الله - صلى الله عليه وسلم .