مشاهدة النسخة كاملة : الأحكام الفقهية من القصص القرآنية
ابو وليد البحيرى
2019-12-10, 03:13 AM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (1)
د.وليد خالد الربيع
القرآن الكريم كتاب هداية، يرشد الناس إلى مصالح الدنيا والآخرة، كما قال -عز وجل-:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}(الإسرا ء:9)؛ فالقرآن الحكيم يهدي للعقائد الصحيحة، والأخلاق القويمة، والعبادات المستقيمة، والمعاملات العادلة.
ودلالة القرآن العظيم على الأحكام متنوعة؛ فقد ترد تكاليف بطريقة صريحة من خلال الأوامر والنواهي المباشرة، كقوله -سبحانه-:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ}(ا لبقرة:43)، وقوله -تعالى-:{لَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ}(الان عام:151)، وقد ترد التكاليف بطريقة غير صريحة، كمدح الفعل، أو الفاعلين كقوله -تعالى-:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}( البقرة:195)، أو ذم الفعل، أو الفاعلين، كقوله -سبحانه-: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ}(البق رة:205)، وقوله -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}( القصص:77).
أساليب الهداية القرآنية
ومن أساليب الهداية القرآنية (القصص)، وهي القصص التي أخبر بها الله -سبحانه- في القرآن عن أحوال الأمم الماضية، والنبوات السابقة، ولها فوائد عديدة وثمرات كثيرة، ومن ذلك ما اشتملت عليه من أحكام فقهية عملية، تتعلق بأفعال المكلفين، وقد نبه الفقهاء والمفسرون إلى دلالة بعض القصص القرآنية على تلك الأحكام لخفائها ودقة مآخذها، مع أهميتها ولزوم معرفتها.
الأحكام الفقهية
وهذه السلسلة من المقالات تتناول -إن شاء الله- بعض الأحكام الفقهية التي جاءت في بعض القصص القرآنية، لتنبيه الأذهان إلى تدبر القرآن، وتقريب الأحكام إلى يد المتفقهين، وسيتم بيان الأحكام بحسب ورود الآيات في المصحف الشريف، مع الإفادة من تفاسير آيات الأحكام، كالجامع للقرطبي، وأحكام القرآن للجصاص، وأحكام القرآن لابن العربي، ونحوها؛ فلا غنى لطالب العلم عن جهود السابقين؛ لما فيها من حسن القصد، وقوة الاستدلال، وجمال العبارة، ودقة النظر، وعميق الفكر. أسأل الله -تعالى- أن يجعل هذا الجمع خالصا لوجهه الكريم، نافعا للمسلمين.
قال -تعالى-: {وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون}(البقرة:50) ، قال ابن كثير: معناه : وبعد أن أنقذناكم من آل فرعون، وخرجتم مع موسى -عليه السلام-، خرج فرعون في طلبكم ، ففرقنا بكم البحر (فأنجيناكم) أي: خلصناكم منهم، وحجزنا بينكم وبينهم، وأغرقناهم وأنتم تنظرون؛ ليكون ذلك أشفى لصدوركم ، وأبلغ في إهانة عدوكم.
وفي هذه الآية بعض المسائل:
المسألة الأولى
في تعيين يوم إغراق فرعون وإنجاء موسى -عليه السلام- ومن معه، ذكر بعض المفسرين أن ذلك الغرق والإنجاء كان في يوم عاشوراء، قال القرطبي: ذكر الله -تعالى- الإنجاء والإغراق، ولم يذكر اليوم الذي كان ذلك فيه؛ فروى مسلم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة؛ فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء؛ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما هذا اليوم الذي تصومونه؟»؛ فقالوا: هذا يوم عظيم، أنجى الله فيه موسى وقومه، وغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرا فنحن نصومه؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «فنحن أحق وأولى بموسى منكم»؛ فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه، وأخرجه البخاري أيضا عن ابن عباس، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «أنتم أحق بموسى منهم فصوموا».
المسألة الثانية
اختلف في يوم عاشوراء هل هو التاسع من المحرم أو العاشر؟
المذهب الأول
يوم عاشوراء هو التاسع من المحرم، وهو قول ابن عباس، أخرج مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ الْحَكَمِ بْنِ الْأَعْرَج قال: انْتَهَيْت إِلَى ابن عَبَّاسٍ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ رِدَاءَهُ فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ يَوْمِ عَاشُورَاءَ؟ قَالَ: إِذَا رَأَيْتَ هِلَالَ الْمُحَرَّمِ فَاعْدُدْ وَأَصْبِحْ يَوْمَ التَّاسِعِ صَائِمًا. قُلْتُ: أَهَكَذَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَصُومُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ.
قال النووي: هذا تصريح من ابن عَبَّاسٍ بِأَنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّ عَاشُورَاءَ هُوَ الْيَوْمُ التَّاسِعُ مِنَ الْمُحَرَّمٍ، وَيَتَأَوَّلُهُ عَلَى أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ إِظْمَاءِ الْإِبِلِ؛ فَإِنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الْيَوْمَ الْخَامِسَ مِنْ أَيَّامِ الْوِرْدِ رَبْعًا، وَكَذَا بَاقِي الْأَيَّامِ عَلَى هَذِهِ النِّسْبَةِ؛ فَيَكُونُ التَّاسِعُ عَشْرًا».
وقال ابن حجر:» وَقِيلَ: إِنَّمَا سُمِّيَ يَوْمُ التَّاسِعِ عَاشُورَاءَ أَخْذًا مِنْ أَوْرَادِ الْإِبِلِ، كَانُوا إِذَا رَعَوُا الْإِبِلَ ثَمَانِيَّةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ أَوْرَدُوهَا فِي التَّاسِعِ قَالُوا: وَرَدْنَا عِشْرًا بِكَسْرِ الْعَيْنِ، وَكَذَلِكَ إِلَى الثَّلَاثَةِ.
ونوقش هذا الاستدلال بما نقله ابن حجر عن الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِأنه قال: قَوْلُهُ: «إِذَا أَصْبَحْتَ مِنْ تَاسِعِه»؛ فَأَصْبِحْ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ أَرَادَ الْعَاشِرَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُصْبِحُ صَائِمًا بَعْدَ أَنْ أَصْبَحَ مِنْ تَاسِعِهِ، إِلَّا إِذَا نَوَى الصَّوْمَ مِنَ اللَّيْلَةِ الْمُقْبِلَةِ وَهُوَ اللَّيْلَةُ الْعَاشِرَةُ.
قال ابن حجر: وَيُقَوِّي هَذَا الِاحْتِمَالَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابن عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ»؛ فَمَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَصُومُ الْعَاشِرَ وَهَـمَّ بِصَوْمِ التَّاسِعِ فَمَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ».
المذهب الثاني
يوم عاشوراء هو العاشر من المحرم، وهو قول الجمهور، قال النووي: وَذَهَبَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إِلَى أَنَّ عَاشُورَاءَ هُوَ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ مِنَ الْمُحَرَّمِ، وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيّ، وَمَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاق،ُ وَخَلَائِقُ، وَهَذَا ظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ وَمُقْتَضَى اللَّفْظِ.
قال ابن حجر: قَالَ الْأَكْثَرُ: هُوَ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: عَاشُورَاءُ مَعْدُولٌ عَنْ عَاشِرَةٍ لِلْمُبَالَغَةِ وَالتَّعْظِيمِ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ صِفَةٌ لِلَّيْلَةِ الْعَاشِرَةِ؛ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْعَشْرِ الَّذِي هُوَ اسْمُ الْعَقْدِ وَالْيَوْمُ مُضَافٌ إِلَيْهَا؛ فَإِذا قِيلَ: يَوْمُ عَاشُورَاءَ؛ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: يَوْمُ اللَّيْلَةِ الْعَاشِرَةِ، إِلَّا أَنَّهُمْ لَمَّا عَدَلُوا بِهِ عَنِ الصِّفَةِ، غَلَبَتْ عَلَيْهِ الِاسْمِيَّةُ؛ فَاسْتَغْنَوْا عَنِ الْمَوْصُوفِ؛ فَحَذَفُوا اللَّيْلَةَ فَصَارَ هَذَا اللَّفْظُ عَلَمًا عَلَى الْيَوْمِ الْعَاشِرِ، وهو المذهب الأظهر لقوة أدلتهم وسلامتها من المناقشة.
المسألة الثالثة
ما حكم صوم عاشوراء؟ قال النووي: اتَّفَقَ العلماء على أن صوم يوم عاشوراء اليوم سُنَّةٌ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وأشار -رحمه الله- إلى الخلاف في وجوبه في أول الإسلام ثم استقر الأمر على استحباب صومه؛ فقال: وَعَلَى الْمَذْهَبَيْنِ فَهُوَ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ الْآنَ مِنْ حِينَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هَذَا الْكَلَامَ -يقصد قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ»، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يَقُولُ: كَانَ صوم عاشوراء فرض وَهُوَ بَاقٍ عَلَى فَرْضِيَّتِهِ لَمْ يُنْسَخْ، قَالَ: وَانْقَرَضَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا، وَحَصَلَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَحَبٌّ، وَرُوِيَ عَنِ ابن عُمَرَ كَرَاهَةُ قَصْدِ صَوْمِهِ وَتَعْيِينِهِ بِالصَّوْمِ، وَالْعُلَمَاءُ مُجْمِعُونَ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ وَتَعْيِينِهِ لِلْأَحَادِيثِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابن مَسْعُودٍ: كُنَّا نَصُومُهُ ثُمَّ تُرِكَ؛ فَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ كَمَا كَانَ مِنَ الْوُجُوبِ وَتَأَكَّدَ النَّدْبُ.
المسألة الرابعة
ما فضل صيام عاشوراء؟ أخرج مسلم عن أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله»، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «صيام يوم عرفة يكفر سنتين، وصيام يوم عاشوراء يكفر سنة»، لكن إطلاق القول بأنه يكفِّر، لا يوجب أن يكفر الكبائر بلا توبة؛ فإنه صلى الله عليه وسلم قال في الجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان: «كفارة لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر»، ومعلوم أن الصلاة هي أفضل من الصيام، وصيام رمضان أعظم من صيام يوم عرفة، ولا يكفر السيئات إلا باجتناب الكبائر، كما قيده النبي صلى الله عليه وسلم؛ فكيف يظن أن صوم يوم أو يومين تطوعا يكفر الزنا، والسرقة، وشرب الخمر، والميسر، والسحر، ونحوه؟؛ فهذا لا يكون»، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى صيام يوم عاشوراء،لما له من المكانة؛ فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : مَا رَأَيْتُ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلا هَذَا الْيَوْمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَهَذَا الشَّهْرَ -يَعْنِي شَهْرَ رَمَضَانَ- ومعنى يتحرى: أي يقصد صومه لتحصيل ثوابه والرغبة فيه .
المسألة الخامسة
ما الأفضل في صيام عاشوراء، جاء في صحيح مسلم أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «لئن بقيت إلى قابل، لأصومنَّ التاسع»؛ ولذا استحب جمهور العلماء الجمع بالصيام بين التاسع والعاشر، قال ابن حجر: «وَعَلَى هَذَا فَصِيَامُ عَاشُورَاءَ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ، أَدْنَاهَا أَنْ يُصَامَ وَحْدَهُ، وَفَوْقَهُ أَنْ يُصَامَ التَّاسِعُ مَعَهُ، وَفَوْقَهُ أَنْ يُصَامَ التَّاسِعُ وَالْحَادِي عَشَرَ».
ابو وليد البحيرى
2019-12-10, 03:20 AM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (2)
حكم صلاة الاستسقاء (1)
د.وليد خالد الربيع
قال الله -سبحانه-: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}، قال ابن كثير: «يقول -تعالى-: واذكروا نعمتي عليكم في إجابتي لنبيكم موسى -عليه السلام- حين استسقاني لكم، وتيسيري لكم الماء، وإخراجه لكم من حجر يحمل معكم، وتفجيري الماء لكم منه من ثنتي عشرة عينا لكل سبط من أسباطكم عين قد عرفوها، فكلوا من المن والسلوى، واشربوا من هذا الماء الذي أنبعته لكم بلا سعي منكم ولا كد، واعبدوا الذي سخر لكم ذلك(ولا تعثوا في الأرض مفسدين) ولا تقابلوا النعم بالعصيان فتسلبوها».
دلت هذه الآية الكريمة على مشروعية الاستسقاء كما قال الشيخ ابن عثيمين: «من فوائد الآية: مشروعية الاستسقاء عند الحاجة إلى الماء؛ لأن موسى استسقى لقومه، وشرع من قبلنا شرع لنا إن لم يرد شرعنا بخلافه، فكيف وقد أتى بوفاقه؟ فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستسقي في خطبة الجمعة، ويستسقي في الصحراء على وجه معلوم، ومنها أن السقيا كما تكون بالمطر النازل من السماء تكون في النابع من الأرض».
الاستسقاء عند عدم الماء
قال القرطبي في ذكر مسائل الآية: «الثانية: الاستسقاء إنما يكون عند عدم الماء وحبس القطر، وإذا كان كذلك فالحكم حينئذ إظهار العبودية والفقر والمسكنة والذلة مع التوبة النصوح، وقد استسقى نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، فخرج إلى المصلى متواضعا متذللا متخشعا مترسلا متضرعا وحسبك به».، وفي هذا المقال الموجز عرض لبعض أهم أحكام الاستسقاء بما يتسع له المقام، وهناك تفاصيل أخرى تطلب من كتب الفقه وشروح أحاديث الأحكام.
المسألة الأولى: تعريف صلاة الاستسقاء
وهو طلب السقيا سواء أكان من الله -تعالى- أم من المخلوق مثل أن تقول: يا فلان اسقني ماء، قال في لسان العرب: «استسقى الرجل واستسقاه: طلب منه السقي، والسقي: إشراب الشيء الماء وما أشبهه، وهو استفعال من طلب السقيا، أي: إنزال الغيث على البلاد والعباد».
وفي الاصطلاح: هو الدعاء بطلب السقي على صفة مخصوصة، وقال ابن حجر: «طلبه من الله عند حصول الجدب على وجه مخصوص»، وصلاة الاستسقاء: الصلاة التي سببها استسقاء الناس.
المسألة الثانية: أنواع الاستسقاء
الاستسقاء أعم من الصلاة، قال الشوكاني موضحا معنى الاستسقاء على جهة العموم بأنه: «ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صفته من الصلاة والدعاء». وقد ذكر العلماء أن الاستسقاء: طلب السقيا من الله -تعالى-، وله طرائق عديدة؛ منها:
الدعاء بلا صلاة
- الأولى: الدعاء بلا صلاة ولا بعد الصلاة فرادى ومجتمعين، قال ابن القاسم: «ولا نزاع في جواز الاستسقاء بالدعاء بلا صلاة»، ودليل ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - كان في غزوة ونقص عليهم الماء؛ فاستغاث الله -تعالى- فأنشأ مزنا فأمطرت، وسقاهم الله وارتووا».
الدعاء في خطبة الجمعة
- الثانية: الدعاء في خطبة الجمعة، قال ابن القاسم: «كما فعل - صلى الله عليه وسلم - واستفاض عنه من غير وجه، وهذا الضرب مستحب وفاقا»؛ لِمَا روى أنس أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَ رَسُولَ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- قَائِمًا، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولُ اللَّهِ، هَلَكَتْ الْأَمْوَالُ، وَانْقَطَعَتْ السُّبُلُ فَادْعُ اللَّه يُغِثْنَا. فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدَيْهِ، فَقَالَ: “اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا” قَالَ أَنَسٌ: وَلَا وَاَللَّهِ مَا يُرَى فِي السَّمَاءِ مِنْ سَحَابٍ وَلَا قَزَعَةٍ وَلَا شَيْءٍ، وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلْعٍ مِنْ بَيْتٍ وَلَا دَارٍ، فَطَلَعَتْ مِنْ وَرَائِهِ سَحَابَةٌ مِثْلُ التُّرْسِ، فَلَمَّا تَوَسَّطَتْ السَّمَاءَ، انْتَشَرَتْ ثُمَّ أَمْطَرَتْ، فَلَا وَاَللَّهِ مَا رَأَيْنَا الشَّمْسَ سِتًّا، ثُمَّ دَخَلَ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ رَجُلٌ فِي الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَهُ قَائِمًا، وَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَتْ الْمَوَاشِي، وَانْقَطَعَتْ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يُمْسِكَهَا عَنَّا. قَالَ فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدَيْهِ، وَقَالَ: «اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ عَلَى الظِّرَابِ وَالْآكَامِ وَبُطُونِ الْأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ». قَالَ: فَانْقَطَعَتْ، وَخَرَجْنَا نَمْشِي فِي الشَّمْسِ».
الخروج وصلاة ركعتين
- الثالثة: الخروج وصلاة ركعتين وخطبة وتأهب لها قبل ذلك، وهو أَكْمَلُهَا، قال الشيخ ابن عثيمين: «وهناك أيضا صفات أخرى، وليس لازما أن تكون على الصفة التي وردت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أي: طلب السقيا فللناس أن يستسقوا في صلواتهم؛ فإذا سجد الإنسان دعا الله، وإذا قام من الليل دعا الله -عزوجل-».
المسألة الثالثة: حكم صلاة الاستسقاء
اختلف الفقهاء في مشروعية صلاة الاستسقاء؛ فقَالَ الإمام أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تُسَنُّ الصَّلَاةُ لِلِاسْتِسْقَاء ِ، وَلَا الْخُرُوجُ لَهَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَسْقَى عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَلَمْ يُصَلِّ لَهَا، وَاسْتَسْقَى عُمَرُ بِالْعَبَّاسِ وَلَمْ يُصَلِّ. ونوقش هذا: بأنَ مَا ذَكَرُوهُ لَا يُعَارِضُ مَا ثبت في السنة؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ الدُّعَاءُ بِغَيْرِ صَلَاةٍ، وَفِعْلُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لِمَا ذَكَرُوهُ لَا يَمْنَعُ صلاة الاستسقاء، بَلْ قَدْ فَعَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْأَمْرَيْنِ كما تقدم.
سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ
وقد ذهب عامة الفقهاء إلى أن صَلَاةُ الِاسْتِسْقَاءِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، ثَابِتَةٌ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَخُلَفَائِهِ، قال ابن حجر: «وقد اتفق فقهاء الأمصار على مشروعية صلاة الاستسقاء وأنها ركعتان»، وقال ابن قدامة: «لَا نَعْلَمُ بَيْنَ الْقَائِلِينَ بِصَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ خِلَافًا فِي أَنَّهَا رَكْعَتَانِ». وقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: «ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى صَلَاةَ الِاسْتِسْقَاءِ ، وَخَطَبَ. وَبِهِ قَالَ عَوَامُّ أَهْلِ الْعِلْمِ إلَّا أَبَا حَنِيفَةَ، وَخَالَفَهُ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، فَوَافَقَا سَائِرَ الْعُلَمَاءِ، وَالسُّنَّةُ يُسْتَغْنَى بِهَا عَنْ كُلِّ قَوْلٍ»، وهو المذهب الأظهر لقوة أدلتهم وسلامتها من المناقشة.
المسألة الرابعة: مكان صلاة الاستسقاء
يجوز الاستسقاء في المسجد بالاتفاق، قال البخاري: (باب الاستسقاء في المسجد الجامع) ثم ذكر حديث أنس في الرجل الذي دخل يوم الجمعة والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب...الحديث، قال ابن حجر: «أشار بهذه الترجمة إلى أن الخروج إلى المصلى ليس بشرط في الاستسقاء؛ لأن الملحوظ في الخروج المبالغة في اجتماع الناس، وذلك حاصل في المسجد الأعظم».
الخروج إلى المصلى
ويستحب الخروج إلى المصلى لحديث ابن عباس الآتي، قال ابن قدامة: «وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ السُّنَّةَ الْخُرُوجُ لِصَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ، مُتَوَاضِعًا لِلَّهِ -تَعَالَى-، مُتَبَذِّلًا، أَيْ فِي ثِيَابِ الْبِذْلَةِ، أَيْ لَا يَلْبَسُ ثِيَابَ الزِّينَةِ، وَلَا يَتَطَيَّبُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ كَمَالِ الزِّينَةِ، وَهَذَا يَوْمُ تَوَاضُعٍ وَاسْتِكَانَةٍ، وَيَكُونُ مُتَخَشَّعًا فِي مَشْيِهِ وَجُلُوسِهِ، فِي خُضُوعٍ، مُتَضَرِّعًا لِلَّهِ -تَعَالَى-، مُتَذَلِّلًا لَهُ، رَاغِبًا إلَيْهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلِاسْتِسْقَاء ِ مُتَبَذِّلًا، مُتَوَاضِعًا، مُتَخَشِّعًا، مُتَضَرِّعًا، حَتَّى أَتَى الْمُصَلَّى، فَلَمْ يَخْطُبْ كَخُطْبَتِكُمْ هَذِهِ، وَلَكِنْ لَمْ يَزَلْ فِي الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَالتَّكْبِيرِ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَمَا كَانَ يُصَلِّي فِي الْعِيدِ».
استثناء أهل مكة
يستثنى أهل مكة؛ حيث إن استسقاءهم يكون في المسجد الحرام: قال الشافعي: «إلا أهل مكة فإنه لم يبلغنا أن أحدا من السلف صلى بهم عيدا إلا في مسجدهم؛ لأن المسجد الحرام خير بقاع الدنيا فلم يحبوا أن يكون لهم صلاة إلا فيه ما أمكنهم، وليست لهم هذه السعة في أطراف البيوت بمكة سعة كبيرة، ولم أعلمهم صلوا عيدا قط، ولا استسقاء إلا فيه».
المسألة الخامسة: وقت صلاة الاستسقاء:
قال ابن قدامة: «وَلَيْسَ لِصَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ، إلَّا أَنَّهَا لَا تُفْعَلُ فِي وَقْتِ النَّهْيِ بِغَيْرِ خِلَافٍ؛ لِأَنَّ وَقْتَهَا مُتَّسِعٌ، فَلَا حَاجَةَ إلَى فِعْلِهَا فِي وَقْتِ النَّهْيِ، وَالْأَوْلَى فِعْلُهَا فِي وَقْتِ الْعِيدِ؛ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ حِينَ بَدَا حَاجِبُ الشَّمْسِ، وَلِأَنَّهَا تُشْبِهُهَا فِي الْمَوْضِعِ وَالصِّفَةِ، فَكَذَلِكَ فِي الْوَقْتِ، لِأَنَّ وَقْتَهَا لَا يَفُوتُ بِزَوَالِ الشَّمْسِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَ لَهَا يَوْمٌ مُعَيَّنٌ، فَلَا يَكُونُ لَهَا وَقْتٌ مُعَيَّنٌ.”، قال ابن حجر: «الراجح أنه لا وقت لها معين، وإن كان أكثر أحكامها كالعيد، لكنها تخالفه بأنها لا تختص بيوم معين.». يتبع إن شاء الله
ابو وليد البحيرى
2019-12-10, 03:25 AM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (3)
- حكم صلاة الاستسقاء (2)
للكاتب: د.وليد خالد الربيع
ما زلنا في الحديث عن حكم صلاة الاستسقاء من قول الله -سبحانه-: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}، قال ابن كثير: «يقول -تعالى-: واذكروا نعمتي عليكم في إجابتي لنبيكم موسى -عليه السلام- حين استسقاني لكم، وتيسيري لكم الماء، وإخراجه لكم من حجر يحمل معكم، وتفجيري الماء لكم منه من ثنتي عشرة عينا، لكل سبط من أسباطكم عين قد عرفوها، فكلوا من المن والسلوى، واشربوا من هذا الماء الذي أنبعته لكم بلا سعي منكم ولا كد، واعبدوا الذي سخر لكم ذلك {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} ولا تقابلوا النعم بالعصيان فتسلبوها»، وقد ذكرنا خمس مسائل في فقه صلاة الاستسقاء واليوم نستكمل تلك المسائل.
المسألة السادسة: كيفية صلاة الاستسقاء
1- قال ابن قدامة: «وَلَا يُسَنُّ لَهَا أَذَانٌ وَلَا إقَامَةٌ. وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، وَلِأَنَّهَا صَلَاةُ نَافِلَةٍ، فَلَمْ يُؤَذَّنْ لَهَا كَسَائِرِ النَّوَافِلِ».
2- ويصلي ركعتين: لَا خِلَاف فِي أَنَّ صلاة الاستسقاء رَكْعَتَانِ، وَاخْتَلَفَوا فِي صِفَتِهَا، فذهب قوم إلى أَنَّهُ يُكَبِّرُ فِيهِمَا كَتَكْبِيرِ الْعِيدِ سَبْعًا فِي الْأُولَى، وَخَمْسًا فِي الثَّانِيَةِ. وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَدَاوُد، وَالشَّافِعِيِّ ورواية عن أحمد، وَذَلِكَ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، كَمَا كَانَ يُصَلِّي فِي الْعِيدِ».
وَذهب قوم إلى أَنَّهُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ كَصَلَاةِ التَّطَوُّعِ. وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِي ِّ، وَإِسْحَقَ وهو رواية عن أحمد؛ لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ قَالَ: اسْتَسْقَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَقَلَبَ رِدَاءَهُ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ نَحْوَهُ. وَلَمْ يَذْكُرْ التَّكْبِيرَ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَمْ يُكَبِّرْ، والأظهر أنه َكَيْفَمَا فَعَلَ كَانَ جَائِزًا حَسَنًا لورود ذلك في أحاديث صحيحة متنوعة.
3- وَيُسَنُّ أَنْ يَجْهَرَ بِالْقِرَاءَةِ؛ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ، قَالَ: «خَرَجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَسْقِي، فَتَوَجَّهَ إلَى الْقِبْلَةِ يَدْعُو، وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، جَهَرَ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ» .
4- وَإِنْ قَرَأَ فِيهِمَا بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}، و{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} فَحَسَنٌ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، كَمَا كَانَ يُصَلِّي فِي الْعِيدِ».
5- ومن صفة صلاة الاستسقاء أن يخطب خطبة وقد اخْتَلَفوا فِي وَقْتِهَا:
المذهب الأول
أَنَّ فِيهَا خُطْبَةً بَعْدَ الصَّلَاةِ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ. والصحيح من مذهب أحمد قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَعَلَيْهِ جَمَاعَةُ الْفُقَهَاءِ؛ لِقَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَطَبَنَا». وَلِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «صَنَعَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ ، كَمَا صَنَعَ فِي الْعِيدَيْنِ»، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ ذَاتُ تَكْبِيرٍ، فَأَشْبَهَتْ صَلَاةَ الْعِيدِ.
المذهب الثاني
أَنَّهُ يُخْطَبُ قَبْلَ الصَّلَاةِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِ الزُّبَيْرِوَذَ هَبَ إلَيْهِ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وهو رواية عن أحمد؛ لِمَا رَوَى أَنَسٌ وَعَائِشَةُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - خَطَبَ وَصَلَّى، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: «رَأَيْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ يَسْتَسْقِي، فَحَوَّلَ ظَهْرَهُ إلَى النَّاسِ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ يَدْعُو، ثُمَّ حَوَّلَ رِدَاءَهُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، جَهَرَ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ» .
مُخَيَّرٌ فِي الْخُطْبَةِ
والأظهر أنه هو مُخَيَّرٌ فِي الْخُطْبَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَبَعْدَهَا؛ لِوُرُودِ الْأَخْبَارِ بِكِلَا الْأَمْرَيْنِ، وَدَلَالَتِهَا عَلَى كِلْتَا الصِّفَتَيْنِ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَعَلَ الْأَمْرَيْنِ، قال الشيخ ابن عثيمين: «خطبة الاستسقاء قبل الصلاة وبعدها، ولكن إذا خطب قبل الصلاة لا يخطب بعدها، فلا يجمع بين الأمرين».
اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ
6- ويُسْتَحَبُّ لِلْخَطِيبِ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِي أَثْنَاءِ الدعاء؛ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ يَسْتَسْقِي، فَتَوَجَّهَ إلَى الْقِبْلَةِ يَدْعُو، وَفِي لَفْظٍ: «فَحَوَّلَ إلَى النَّاسِ ظَهْرَهُ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ يَدْعُو».
تحويل الرداء
7- وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُحَوِّلَ رِدَاءَهُ فِي حَالِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ؛لِأ َنَّ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ خَرَجَ يَسْتَسْقِي، فَحَوَّلَ إلَى النَّاسِ ظَهْرَهُ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، ثُمَّ حَوَّلَ رِدَاءَهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَهَذَا لَفْظٌ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَفِي لَفْظٍ رَوَاهُ مُسْلِمٌ: «فَحَوَّلَ رِدَاءَهُ حِينَ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ». وَفِي لَفْظٍ: «وَقَلَبَ رِدَاءَهُ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَيُسْتَحَبُّ تَحْوِيلُ الرِّدَاءِ لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، قال الشيخ ابن باز -رحمه الله-: «الظاهر من الأحاديث الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الاستسقاء أن الرداء يكون على حالته المعتادة، وإنما يقلب في أثناء الخطبة عندما يحول الإمام رداءه، أما أن يحول الرداء أو العباءة عن حالها قبل ذلك فالأظهر أن ذلك غير مشروع ومخالف للسنة».
المسألة السابعة: قسم الماء بين الناس
قال الشيخ ابن عثيمين: «ومن فوائد هذه الآية أنه ينبغي قسم الماء بين الناس عند الكثرة وتوزيعه عليهم حتى لا يحصل الازدحام والاقتتال والعداوة والبغضاء بينهم؛لأن النفوس مجبولة على محبة الاستئثار بالشيء، فإذا توزع الشيء صار كل طائفة لهم جهة معينة مخصوصة كان ذلك أقرب إلى السلامة مما يترتب من الآثار السيئة على اجتماعهم على مشرب واحد».
ابو وليد البحيرى
2019-12-30, 01:54 PM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (4)
- أحكام فقهية في الأطعمة
د.وليد خالد الربيع
قال -تعالى-: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُو نَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ}، قال ابن كثير: «يقول -تعالى-: واذكروا نعمتي عليكم في إنزالي عليكم المن والسلوى، طعاما طيبا نافعا هنيئا سهلا، واذكروا دبركم وضجركم مما رزقتكم وسؤالكم موسى استبدال ذلك بالأطعمة الدنية من البقول ونحوها مما سألتم، وقال الحسن البصري -رحمه الله-: فبطروا ذلك ولم يصبروا عليه، وذكروا عيشهم الذي كانوا فيه، وكانوا قوما أهل أعداس وبصل وبقل وفوم، وقوله -تعالى-: {أَتَسْتَبْدِلُ نَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} فيه تقريع لهم وتوبيخ على ما سألوا من هذه الأطعمة الدنية مع ما هم فيه من العيش الرغيد، والطعام الهنيء الطيب النافع».
هذه الآية الكريمة فيها جملة من المسائل الفقهية:
المسألة الأولى
جواز أكل الطيبات، قال القرطبي: «في هذه الآية دليل على جواز أكل الطيبات والمطاعم المستلذات، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحب الحلوى والعسل، ويشرب الماء البارد العذب»، قال الشيخ ابن عثيمين:لا «ومن فوائدها أنه لا يلام الإنسان إذا اختار الأطيب من الطعام، ولا يعد ذلك من باب الإسراف، فقد أقرت الشريعة هذا؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - جيء إليه بتمر طيب فسأل: «أكل تمر خيبر هكذا؟ قالوا: لا والله يا رسول الله... الحديث، ولم ينههم عن اختيار التمر الطيب ليقدموه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا اختار الإنسان من الطعام أطيب الأنواع وكانت حاله تتحمل هذا ولا يعد ذلك سرفا بالنسبة إليه فإنه لابأس به، ولا يلام الإنسان عليه، بل هذا من باب التمتع بنعم الله، والله -سبحانه- يحب من عباده أن يتمتعوا بنعمه، وينهاهم أن يحرموا شيئا من الطيبات على أنفسهم كما قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا}».
المسألة الثانية
جواز تفضيل بعض الأطعمة على بعض: قال ابن عثيمين: «من فوائدها: جواز تفضيل الأطعمة بعضها على بعض، وأنه يجوز للإنسان أن يقول: هذا أدنى من هذا، أو هذا أعلى من هذا، أو هذا أردأ من هذا، أو هذا أطيب من هذا».
المسألة الثالثة
حكم أكل البصل والثوم وما له رائحة كريهة: اختلف العلماء في أكل البصل والثوم وما له رائحة كريهة من سائر البقول:
المذهب الأول
حَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ تَحْرِيمَهَا: لِأَنَّهَا تَمْنَعُ عَنْ حُضُورِ الْجَمَاعَةِ وَهِيَ عِنْدَهُمْ فَرْضُ عَيْنٍ، ولا تتم إلا بترك أكلها، ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فترك أكل هذا واجب، فيكون أكله حراما، واحتجوا بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سماها خبيثة، والله -عز وجل- قد وصف نبيه -عليه السلام- بأنه يحرم الخبائث، وخالفهم ابن حزم وهو إمام الظاهرية فقال: «لَيْسَ حَرَامًا لِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَبَاحَهُ فِي الْأَخْبَارِ الْمَذْكُورَةِ» ، وأجاب الحافظ ابن حجر عن اللزوم في دليل المانعين: «بأن المنع من أكلها مختص بمن علم بخروج الوقت قبل زوال الرائحة، ونظيره أن صلاة الجمعة فرض عين بشروطها، ومع ذلك تسقط بالسفر وهو في أصله مباح، لكن يحرم على من أنشأه بعد سمع النداء»، أما وصفها بالخبيثة فليس المراد به المحرمة بل المكروهة، قال النووي: «سَمَّاهَا خَبِيثَةً لِقُبْحِ رَائِحَتِهَا، قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْخَبِيثُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْمَكْرُوهُ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ مَالٍ أَوْ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ أَوْ شَخْصٍ».
المذهب الثاني
ذهب جمهور العلماء إلى إباحة أكلها، قال النووي: «هَذِهِ الْبُقُولُ حَلَالٌ بِإِجْمَاعِ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ»، للأحاديث الثابتة ومنها: عن جَابِرَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا، فَلْيَعْتَزِلْن َا أَوْ لِيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا، وَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ»، وَإِنَّهُ أُتِيَ بِقِدْرٍ فِيهِ خَضِرَاتٌ مِنْ بُقُولٍ، فَوَجَدَ لَهَا رِيحًا، فَسَأَلَ فَأُخْبِرَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْبُقُولِ، فَقَالَ: «قَرِّبُوهَا» إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا رَآهُ كَرِهَ أَكْلَهَا، قَالَ: «كُلْ فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لَا تُنَاجِي»، قال القرطبي: «فهذا بيّـن في الخصوص له والإباحة لغيره».
الثَّوْمَ لَيْسَ بِحَرَامٍ
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: لَمْ نَعْدُ أَنْ فُتِحَتْ خَيْبَرُ فَوَقَعْنَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي تِلْكَ الْبَقْلَةِ الثُّومِ وَالنَّاسُ جِيَاعٌ، فَأَكَلْنَا مِنْهَا أَكْلًا شَدِيدًا، ثُمَّ رُحْنَا إِلَى الْمَسْجِدِ، فَوَجَدَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الرِّيحَ فَقَالَ: «مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ الْخَبِيثَةِ شَيْئًا، فَلَا يَقْرَبَنَّا فِي الْمَسْجِدِ» فَقَالَ النَّاسُ: حُرِّمَتْ، حُرِّمَتْ، فَبَلَغَ ذَاكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَيْسَ بِي تَحْرِيمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لِي، وَلَكِنَّهَا شَجَرَةٌ أَكْرَهُ رِيحَهَا»، قال النووي: «فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الثَّوْمَ لَيْسَ بِحَرَامٍ وَهُوَ إِجْمَاعُ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ كَمَا سَبَقَ»، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى زَرَّاعَةِ بَصَلٍ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، فَنَزَلَ نَاسٌ مِنْهُمْ فَأَكَلُوا مِنْهُ وَلَمْ يَأْكُلْ آخَرُونَ، فَرُحْنَا إِلَيْهِ، فَدَعَا الَّذِينَ لَمْ يَأْكُلُوا الْبَصَلَ وَأَخَّرَ الْآخَرِينَ، حَتَّى ذَهَبَ رِيحُهَا»، قوله: «زرّاعة: هي الأرض المزروعة».
نص على عدم التحريم
عن أبي أيوب أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نزل عليه، فصنع للنبي -صلى الله عليه وسلم- طعاما فيه ثوم، فلما رد إليه سأل عن موضع أصابع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقيل له: لم يأكل، ففزع وصعد إليه فقال: أحرام هو؟ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا ولكني أكرهه» قال: فإني أكره ما تكره أو ما كرهت، قال: وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يؤتى (يعني يأتيه الوحي)، قال القرطبي: «فهذا نص على عدم التحريم»، وقال النووي: «هذا تصريح بإباحة الثوم، وهو مجمع عليه، ولكن يكره لمن أراد حضور المسجد أو حضور جمع في غير المسجد أو مخاطبة الكبار»، قال عمر: «أَيُّهَا النَّاسُ تَأْكُلُونَ شَجَرَتَيْنِ لَا أَرَاهُمَا إِلَّا خَبِيثَتَيْنِ، هَذَا الْبَصَلَ وَالثُّومَ لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، إِذَا وَجَدَ رِيحَهُمَا مِنَ الرَّجُلِ فِي الْمَسْجِدِ، أَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ إِلَى الْبَقِيعِ، فَمَنْ أَكَلَهُمَا فَلْيُمِتْهُمَا طَبْخًا»، قال ابن عثيمين: «من فوائد الآية: حل البقول والقثاء والفوم والعدس والبصل لقولهم:{فادع لنا ربك يخرج لنا...} إلى قوله: {اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم} أي: من الأصناف المذكورة، وهذه الأصناف مباحة في شريعة موسى، وكذلك في شريعتنا»، وبهذا يظهر رجحان قول الجمهور بحل أكل هذه الأطعمة لقوة أدلتهم.
المسألة الخامسة
حكم أكل البصل والثوم ونحوهما لمن أراد حضور صلاة الجماعة: اختلف الفقهاء في هذه المسألة:
المذهب الأول: كراهة أكلها
قال ابن قدامة: «وَإِنَّمَا مُنِعَ أَكْلُهَا لِئَلَّا يُؤْذِيَ النَّاسَ بِرَائِحَتِهِ؛ وَلِذَلِكَ نُهِيَ عَنْ قُرْبَانِ الْمَسَاجِدِ، فَإِنْ أَتَى الْمَسَاجِدَ كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ». واستدل بأحاديث النهي عن قربان المساجد لمن أكلها وحمل النهي على الكراهة، ومن تلك الأحاديث: عنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ «مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ - يَعْنِي الثُّومَ - فَلَا يَأْتِيَنَّ الْمَسَاجِدَ»، وعَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: «مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الْبَقْلَةِ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسَاجِدَنَا، حَتَّى يَذْهَبَ رِيحُهَا» يَعْنِي الثُّومَ، وعَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ قَالَ: سُئِلَ أَنَسٌ عَنِ الثُّومِ، فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَكَلَ مَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ، فَلَا يَقْرَبَنَّا، وَلَا يُصَلِّي مَعَنَا»، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ، فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا، وَلَا يُؤْذِيَنَّا بِرِيحِ الثُّومِ»، وعَنْ جَابِرٍ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، عَنْ أَكْلِ الْبَصَلِ وَالْكُرَّاثِ، فَغَلَبَتْنَا الْحَاجَةُ، فَأَكَلْنَا مِنْهَا، فَقَالَ: «مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ الْمُنْتِنَةِ، فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَأَذَّى، مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ الْإِنْسُ»، وحملوا النهي على الكراهة لأن أكلها ليس محرما مطلقا كما تقدم.
المذهب الثاني: يحرم أكلها
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ يَأْثَمُ؛ ونقل عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَشُرَيْكِ بْنِ حَنْبَلٍ مِنْ التَّابِعِينَ تَحْرِيمَ الثُّومِ النِّيءِ»، قال ابن حزم: «وَمَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا أَوْ كُرَّاثًا فَفُرِضَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى تَذْهَبَ الرَّائِحَةُ، وَفُرِضَ إخْرَاجُهُ مِنْ الْمَسْجِدِ إنْ دَخَلَهُ قَبْلَ انْقِطَاعِ الرَّائِحَةِ، فَإِنْ صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ كَذَلِكَ فَلَا صَلَاةَ لَهُ، واستدل هذا المذهب بأَنَّ ظَاهِرَ النَّهْيِ المتقدم في الأحاديث يدل على التَّحْرِيمُ، وَلِأَنَّ أَذَى الْمُسْلِمِينَ حَرَامٌ، وَهَذَا فِيهِ أَذَاهُمْ، فيكون محرمًا، ونوقش هذا الاستدلال بما قاله القاضي عياض: «إن النهى عن حضور المساجد لمن أكلها ليس بتحريم لها، بدليل إباحة النبى - صلى الله عليه وسلم- إياها لمن حضره من أصحابه، وتخصيصه نفسه بالعلة التى ذكرها من قوله: «فإنى أناجى من لا تناجى»، وبقوله: «ليس لى تحريم ما أحل الله، ولكنى أكرهها»، وذهب الشيخ ابن عثيمين رحمه الله إلى مذهب جمع فيه بين الأدلة والمذهبين فقال: «إن قصد بأكل البصل ألا يصلي مع الجماعة فهذا حرام ويأثم بترك الجمعة والجماعة، أما إذا قصد بأكله البصل التمتع به وأنه يشتهيه فليس بحرام، قال: وأما بالنسبة لحضوره المسجد فلا يحضر؛ لا لأنه معذور، بل دفعا لأذيته؛ لأنه يؤذي الملائكة وبني آدم».
المسألة السادسة
هل النهي خاص بمسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -؟
المذهب الأول: النهي عام عن دخول المساجد جميعها، وَهَذَا مَذْهَبُ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً، قال النووي: «قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ يَعْنِي الثَّوْمَ فَلَا يَقْرَبَنَّ الْمَسَاجِدَ» هَذَا تَصْرِيحٌ يَنْهَى مَنْ أَكَلَ الثَّوْمَ وَنَحْوَهُ عَنْ دُخُولِ كُلِّ مَسْجِدٍ وقاسوا على هذا مجامع الصلاة فى غير المساجد، كمصلى العيدين والجنائز ونحوها من مجامع العبادات، وقد ذكر بعض فقهائنا: أن حكم مجامع المسلمين فيها هذا الحكم كمجالس العلم والولائم وحلق الذكر».
المذهب الثاني: أَنَّ النَّهْيَ خَاصٌّ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ مُسْلِمٍ: «فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا»، ونوقش هذا بما قاله ابن حجر: «قوله في الحديث: «فلا يقربن مسجدنا» لأن الظاهر أن المراد به مسجد المدينة...، لكن حديث أبي سعيد عند مسلم دال على أن القول المذكور صدر منه - صلى الله عليه وسلم - عقب فتح خيبر، فعلى هذا فقوله: «مسجدنا» يريد به المكان الذي أعد ليصلي فيه مدة إقامته هناك، أو المراد بالمسجد الجنس والإضافة للمسلمين، أي: فلا يقربن مسجد المسلمين، يؤيده رواية أحمد عن يحيى القطان فيه بلفظ: «فلا يقربن المساجد» ونحوه لمسلم، وهذا يدفع قول من خص النهي بمسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -». وبهذا يظهر رجحان المذهب الأول.
المسألة السابعة
هل الحكم خاص بالأكل منها أم يلحق بها غيرها؟ قال النووي: «قَالَ الْعُلَمَاءُ: ويلحق بالثوم والبصل والكراث كل ماله رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ مِنَ الْمَأْكُولَاتِ وَغَيْرِهَا»، رد ذلك ابن حجر فقال: «وألحق بعضهم بذلك من بفيه بخر أو به جرح له رائحة، وزاد بعضهم فألحق أصحاب الصنائع كالسماك والعاهات كالمجذوم ومن يؤذي الناس بلسانه، وأشار ابن دقيق العيد إلى أن ذلك كله توسع غير مرضي»، وأيده ابن حزم فقال: «وَلَا يُمْنَعُ أَحَدٌ مِنْ الْمَسْجِدِ غَيْرُ مَنْ ذَكَرْنَا، وَلَا أَبْخَرُ، وَلَا مَجْذُومٌ، وَلَا ذُو عَاهَةٍ».
عقوبة لآكله
تنبيه: قال الخطابي: «توهم بعضهم أن أكل الثوم عذر في التخلف عن الجماعة، وإنما هو عقوبة لآكله على فعله إذ حرم فضل الجماعة»، قال ابن حجر: «لكن لا يلزم من ذلك أن يكون أكلها حراما، ولا أن الجماعة فرض عين»، وفرق الشيخ ابن عثيمين بيـن من له عذر يمنع من حضور الجماعة كالبرد الشديد والريح الباردة في الليلة المظلمة ومن أكل البصل فقال: «هي أعذار تسوغ للإنسان أن يدع الجمعة والجماعة؛لأنه متصف بما يعذر به أمام الله، أما من أكل بصلا أو ثوما فلا نقول إنه معذور بترك الجمعة والجماعة، ولكن لا يحضر دفعا لأذيته، فهنا فرق بين هذا وهذا؛ لأن هذا المعذور يكتب له أجر الجماعة كاملا إذا كان من عادته أن يصلي مع الجماعة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل صحيحا مقيما»، أما آكل البصل والثوم فلا يكتب له أجر الجماعة؛لأننا إنما قلنا له لا تحضر دفعا للأذية».
ابو وليد البحيرى
2019-12-30, 01:59 PM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (5)
- مسائل فقهية في ميثاق الله لبني إسرائيل
د.وليد خالد الربيع
قال الله -سبحانه-:{وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْ نِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ}(الب قرة:83)، قال ابن كثير: يُذكّر -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنَ الْأَوَامِرِ، وَأَخَذَ مِيثَاقَهَمْ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّهُمْ تَوَلَّوْا عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَأَعْرَضُوا قَصْدًا وَعَمْدًا، وَهُمْ يَعْرِفُونَهُ وَيَذْكُرُونَهُ .
قال الشيخ ابن سعدي: «وهذه الشرائع من أصول الدين، التي أمر الله بها في كل شريعة، لاشتمالها على المصالح العامة في كل زمان ومكان؛ فلا يدخلها نسخ، كأصل الدين»؛ فهذه الآية الكريمة فيها مسائل فقهية، منها على سبيل الإجمال:
المسألة الأولى
وجوب توحيد الله -تعالى- في العبادة
لاشك أن أعظم المطلوبات، وأفضل الواجبات توحيد الله -تعالى- وإفراده بالعبادة، والتوحيد أساس صحة الأعمال، وشرط قبول الطاعات؛ ولهذا قدمه الله -تعالى- على بقية الواجبات في هذه الآية الكريمة، وأمثالها من الآيات الجامعة، قال البقاعي مبينا المناسبة بين هذه المطلوبات العظيمة: ولما كان الدين إنما هو الأدب مع الخالق والخلق، ذكر المعاهد عليه من ذلك مرتباً له على الأحق فالأحق؛ فقال ذاكراً له في صيغة الخبر مريداً به النهي والأمر، وهو أبلغ؛ من حيث إنه كأنه وقع امتثاله ومضى ودل على إرادة ذلك بعطف {وقولوا} عليه: {لا تعبدون إلا الله} المنعم الأول الذي له الأمر كله لتكونوا محسنين بذلك إحساناً هو الإحسان كله».
وقال ابن كثير: فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَبِهَذَا أَمَرَ جَمِيعَ خَلْقِهِ؛ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ كَمَا قَالَ -تَعَالَى-: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الْأَنْبِيَاءِ: 25)، وَقَالَ -تَعَالَى-:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}(الن َّحْلِ: 36)، وَهَذَا هُوَ أَعْلَى الْحُقُوقِ وَأَعْظَمُهَا، وَهُوَ حَقُّ اللَّهِ -تَعَالَى-، أَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ».
وجوب الإحسان إلى الوالدين
بعد أن أمر الله -تعالى- بأعظم الحقوق، وهو حق الخالق، ذكر أعظم حقوق الخلق وهو حق الوالدين، كَمَا قَالَ -تَعَالَى-: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} (لُقْمَانَ: 14)، وَقَالَ -تَعَالَى-: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا} (الْإِسْرَاءِ: 23)، قال القرطبي: وَقَرَنَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي هَذِهِ الْآيَةِ حَقَّ الْوَالِدَيْنِ بِالتَّوْحِيدِ؛ لِأَنَّ النَّشْأَةَ الْأُولَى مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَالنَّشْءَ الثَّانِيَ- وَهُوَ التَّرْبِيَةُ- مِنْ جِهَةِ الْوَالِدَيْنِ؛ وَلِهَذَا قَرَنَ -تَعَالَى- الشُّكْرَ لَهُمَا بِشُكْرِهِ؛ فَقَالَ:{أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ}.
والوجوب مأخوذ من الفعل المضمر في المصدر كما قال القرطبي: قَوْلُهُ -تَعَالَى-: {وَبِالْوالِدَي نِ إِحْساناً}أَيْ: وَأَمَرْنَاهُمْ بِالْوَالِدَيْن ِ إِحْسَانًا»، والإحسان كلمة عامة تشمل إيصال كل خير، وكف كل أذى بحسب الإمكان، كما قال القرطبي: وَالْإِحْسَانُ إِلَى الْوَالِدَيْنِ: مُعَاشَرَتُهُمَ ا بِالْمَعْرُوفِ، وَالتَّوَاضُعُ لَهُمَا، وَامْتِثَالُ أَمْرِهِمَا، وَالدُّعَاءُ بِالْمَغْفِرَةِ بَعْدَ مَمَاتِهِمَا، وَصِلَةُ أَهْلِ وُدِّهِمَا.
وقال الشيخ ابن عثيمين: والإحسان يكون بالقول ويكون بالفعل؛ فالإحسان بالقول معناه: أن يلين الإنسان لهما قوله، وأن يكون قولا كريما طيبا سمحا، والإحسان بالفعل: يكون ببذل المال، وبخدمة البدن، وغير ذلك مما يكون إحسانا، وقال مبينا ضد الإحسان: وضده أمران: أحدهما: أن يسيء إليهما، والثاني: ألا يحسن ولا يسيء، وكلاهما تقصير في حق الوالدين مناف لبرهما، وفي الإساءة زيادة الاعتداء».
الإحسان إلى ذوي القربى
الأقربون: هم أقرباء المكلف على اختلاف طبقاتهم، الأقرب؛ فالأقرب، قال القرطبي: أَيْ: وَأَمَرْنَاهُمْ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْقَرَابَاتِ بِصِلَةِ أَرْحَامِهِمْ، أما كيفية الإحسان إليهم؛ فيكون بإيصال الخير، وكف الأذى، كما قال الشيخ ابن عثيمين: والإحسان إليهم يكون كالإحسان إلى الوالدين أي: بالقول وبالفعل، ولكن الإحسان إلى الوالدين أوكد وأعظم؛ لأنهم أقربى إليك، وقال: يجب أن نعلم أن الإحسان يتفاوت؛ فكل من من كان أقرب فهو أولى بالإحسان؛ لأن الحكم إذا علق بوصف قوي بحسب قوة ذلك الوصف؛ فمثلا يجب عليك من صلة العم أكثر مما يجب عليك من صلة أولاد العم.
الإحسان إلى اليتامى
اليتامى: هم الصغار الذين لا كاسب لهم فهم مظنة الحاجة، جمع يتيم وهو كل من فقد أباه قبل الحلم؛ فإذا بلغه خرج عن اليتم، لقوله صلى الله عليه وسلم : «لا يتم بعد احتلام»، وقد وردت نصوص تحث على الإحسان إلى اليتامى وتنهى عن الإساءة إليهم، منها قوله -تعالى-: {فأما اليتيم فلا تقهر}(الضحى :9)، وقال -تعالى-: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا}(النساء :10)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن هذا المال خضرة حلوة ؛ فنعم صاحب المسلم ما أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل« (أخرجه البخاري كتاب الزكاة باب الصدقة على اليتامى حديث: 1465)، وقال: «أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا» وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى، (أخرجه البخاري كتاب الأدب باب فضل من يعول يتيما حديث: 6005)، ومن الإحسان إلى اليتيم، حسن تربيته، وتعاهده بالأخلاق الكريمة، وإن كان لليتيم مال؛ فعلى الولي أن يحفظ ماله، وينفق عليه من ماله بالمعروف، ويخرج زكاته إن وجبت، وينمي ماله بآمن طريقة استحبابا، ولا يتصرف الولي بمال اليتيم، إلا بما فيه مصلحته، فلا يجوز التصرف الضار، كالتبرعات بلا عوض، أو الإقراض؛ فإن فعل ضمن.
الإحسان إلى المساكين
المساكين: هم المحاويج من ذوي الحاجات، وأرباب الضرورات الذين أسكنتهم الحاجة، ولا يجدون من يقوم بكفايتهم؛ فأمر الله -تعالى- بمساعدتهم بما تتم به كفايتهم، قال القرطبي: أَيْ وَأَمَرْنَاهُمْ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْمَسَاكِينِ، وَهُمُ الَّذِينَ أَسْكَنَتْهُمُ الْحَاجَةُ وَأَذَلَّتْهُمْ ، وَهَذَا يَتَضَمَّنُ الْحَضَّ عَلَى الصَّدَقَةِ وَالْمُؤَاسَاةِ وَتَفَقُّدِ أَحْوَالِ الْمَسَاكِينِ وَالضُّعَفَاءِ، رَوَى مُسْلِمٌ أن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ- وَأَحْسَبُهُ قَالَ: وَكَالْقَائِمِ لَا يَفْتُرُ وَكَالصَّائِمِ لَا يُفْطِرُ».
القول الحسن
لما كان حسن الخلق قسمين؛ خلق مع الله -تعالى-، وخلق مع الناس، والناس على نوعين، أقارب للإنسان وأباعد؛ فبعد أن بيّن الله -تعالى- الخلق مع الأقارب بيّن أن حسن الخلق مع عامة الناس -وإن تعذر بالمال-؛ فهو متيسر بالمقال؛ وذلك ببذل المعروف، وكف الأذى، وأن تعامل الناس كما تحب أن يعاملوك كما قال صلى الله عليه وسلم : «من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة؛ فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت الناس الذي يحب أن يؤتى إليه»، وقال السعدي: ثم أمر بالإحسان إلى الناس عموما؛ فقال: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}، ومن القول الحسن، أمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وتعليمهم العلم، وبذل السلام، والبشاشة، وغير ذلك من كل كلام طيب.
من أدب الإنسان
ومن أدب الإنسان الذي أدب الله به عباده، أن يكون الإنسان نزيها في أقواله وأفعاله، غير فاحش ولا بذيء، ولا شاتم، ولا مخاصم، بل يكون حسن الخلق، واسع الحلم، مجاملا لكل أحد، صبورا على ما يناله من أذى الخلق، امتثالا لأمر الله، ورجاء لثوابه»، ثم أمرهم الله -تعالى- بأعظم العبادات وهي الصلاة، وأمرهم بإيتاء الزكاة؛ لما فيها من نفع الخلق بمواساة المحتاجين؛ فهذه الآية الكريمة اشتملت على مكارم الأخلاق الربانية، ومحاسن الأفعال الإيمانية بما فيها من عبودية للخالق، وإحسان للخلق.
ابو وليد البحيرى
2020-01-11, 01:15 PM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (6)
- مسائل فقهية في ابتلاء الله تعالى لإبراهيم عليه السلام
للكاتب: د.وليد خالد الربيع
قال الله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}، قال الشيخ ابن سعدي -رحمه الله -: «يخبر -تعالى- عن عبده وخليله إبراهيم -عليه السلام- المتفق على إمامته وجلالته، الذي كل من طوائف أهل الكتاب تدعيه، بل وكذلك المشركون: أن الله ابتلاه وامتحنه بكلمات, أي: بأوامر ونواهٍ, كما هي عادة الله في ابتلائه لعباده, ليتبين الكاذب الذي لا يثبت عند الابتلاء والامتحان من الصادق, الذي ترتفع درجته, ويزيد قدره, ويزكو عمله، وكان من أجلِّهم في هذا المقام, الخليل عليه السلام، فأتم ما ابتلاه الله به, وأكمله ووفاه, فشكر الله له ذلك, ولم يزل الله شكورا»، وهذه الآية الكريمة فيها جملة من المسائل الفقهية، منها:
المسألة الأولى
ما المراد بالكلمات المذكورة في الآية؟ اختلف العلماء في المراد بالكلمات على أقوال، منها: أنها شرائع الإسلام، قال ابن عباس: ما ابتلى الله أحدًا بهن فقام بها كلها إلا إبراهيم عليه السلام، ابتلي بالإسلام فأتمه فكتب الله له البراءة فقال: {وإبراهيم الذي وفى} وقال بعضهم: بالأمر والنهي، وقال بعضهم: بذبح ابنه، وقال بعضهم: بأداء الرسالة، والمعنى متقارب. وعلى هذا القول فالله -تعالى- هو الذي أتم.
قال القرطبي: «وأصح من هذا ما ذكره عبد الرزاق عن ابن عباس قال: ابتلاه الله بالطهارة، خمس في الرأس وخمس في الجسد: قص الشارب، والمضمضة، والاستنشاق، والسواك، وفرق الشعر، وفي الجسد: تقليم الأظفار، وحلق العانة، والاختتان، ونتف الإبط، وغسل مكان الغائط والبول بالماء، وعلى هذا القول فالذي أتم هو إبراهيم، وهو ظاهر القرآن.
قال القرطبي: «وهذه أحكام يجب بيانها والوقوف عليها والكلام فيها»، والمقصود بهذه الأحكام (خصال الفطرة) إجمالا وتفصيلها فيما يأتي:
المسألة الثانية
ما الختان؟ وما حكمه؟ الختان في اللغة: اسم مصدر من الفعل (ختن) يختن ختنا بمعنى (قطع)، والمراد به قطع القلفة من الذكر، وفي الاصطلاح: الختن قطع مخصوص من عضو مخصوص. ويطلق الختان على موضع القطع كما في حديث عائشة مرفوعا: «إذا التقى الختانان», والأول هو المراد هنا»، قال القرطبي: «أجمع العلماء على أن إبراهيم عليه السلام أول من اختتن»، وذلك لما جاء عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام بَعْدَ ثَمَانِينَ سَنَةً، وَاخْتَتَنَ بِالْقَدُومِ»، و(الْقَدُوم) هو آلة النجار. وقيل: هو مكان بالشام قال الحافظ ابن حجر: وَالرَّاجِح أَنَّ الْمُرَاد فِي الْحَدِيث الآلَة».
حكم الختان
وقد اختلف العلماء في حكم الختان:
المذهب الأول
الختان مستحب للذكور والإناث، وهو قول الحنفية والمالكية ورواية عن أحمد وهو اختيار الشوكاني، ومما استدلوا به:
حديث ابن عباس - رضي الله عنه
حديث ابن عباس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الختان سنة للرجال مكرمة للنساء». ودلالته ظاهرة حيث وصف الختان بأنه سنة، وهي غير واجبة فدل على أن الختان غير واجب.
ونوقش هذا الاستدلال بأن الحديث ضعيف، قال الشوكاني: «ومع كون الحديث لا يصلح للاحتجاج، لا حجة فيه على المطلوب؛ لأن لفظة (السنة) في لسان الشرع أعم من السنة في اصطلاح الأصوليين»، أي: أنهما تشمل ما سنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الواجبات والمستحبات.
حديث أبي هريرة - رضي الله عنه
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «خمس من الفطرة؛ الختان، والاستحداد، ونتف الإبط، وتقليم الأطفار، وقص الشارب»، قال ابن حجر: «واحتجوا بأن الخصال المنتظمة (أي: المذكورة) مع الختان ليست واجبة إلا عند بعض من شذ، فلا يكون الختان واجبا، ونوقش بأن الاستدلال بالحديث قائم على دلالة الاقتران وهي ضعيفة، قال الزركشي: «دلالة الاقتران أنكرها الجمهور، فيقولون: القرآن في النظم لا يوجب القران في الحكم، كقوله -تعالى-: {كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}». فإيتاء الحق واجب، والأكل مباح.
المذهب الثاني
الختان واجب على الرجال والنساء، وهو قول الشافعية والحنابلة، ومما استدلوا به: قوله -تعالى-: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} وقد جاء فى الحديث: «اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً بِالقَدُّوم». وقد أمرنا باتباع إبراهيم عليه السلام، وفعل تلك الأمور فكانت من شرعنا، وتعقب بأنه لا يلزم وجوب الختان إلا إن كان إبراهيم عليه السلام فعله على سبيل الوجوب، فإنه من الجائز أن يكون فعله على سبيل الندب، وقد تقرر أن الأفعال لا تدل على الوجوب.
وأجيب: بأن إبراهيم عليه السلام لا يفعل ذلك في مثل سنه إلا عن أمر من الله.
حديث عُثَيْمِ بْنِ كُلَيْبٍ
حديث عُثَيْمِ بْنِ كُلَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ جَاءَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: قَدْ أَسْلَمْتُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -: «أَلْقِ عَنْكَ شِعْرَ الْكُفْرِ، وَاخْتَتِنْ»، قال في عون المعبود: «فيه دليل على أن الاختتان على من أسلم واجب، وأنه علامة للإسلام، لكن الحديث ضعيف»، حديث عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ وَجَبَ الْغُسْلُ»، قالوا: فيه دليل على أن النساء كن يختتن، وتعقب بأن المراد بالحديث (موضع الختان) وليس وجوب الختان.
المذهب الثالث
الختان واجب على الرجال، مكرمة في حق النساء، وهو قول الجمهور، ودليل الوجوب على الرجال عندهم فهي أدلة المذهب الثاني، أما دليل عدم الوجوب على النساء فأشار إليه الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- بقوله: «ووجه التفريق بينهما: أنه في حق الرجال فيه مصلحة تعود إلى شرط من شروط الصلاة وهي الطهارة؛ لأنه إذا بقيت هذه الجلدة: فإن البول إذا خرج من ثقب الحشفة بقي وتجمع، وصار سبباً في الاحتراق والالتهاب كلما تحرك، أو عصر هذه الجلدة خرج البول وتنجس بذلك، وأما في حق المرأة: فغاية فائدته: أنه يقلل من غلمتها، أي: شهوتها، وهذا طلب كمال، وليس من باب إزالة الأذى»، وهو المذهب الأظهر؛ لقوة أدلتهم ولأن الختان شعار الدين، وبه يعرف المسلم من الكافر؛ فلو وجد المختون ميتا بين غير مختونين حكمنا بإسلامه فيصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين.
المسألة الثالثة
وقت الختان، للختان وقتان: وقت وجوب: وهو عند البلوغ حيث تجب الطهارة والصلاة، قال شيخ الإسلام: «ويجب الختان إذا وجبت الطهارة والصلاة»، أما وقت الاستحباب فهو في الصغر إلى سن التمييز؛ وكلما كان في الصغر فهو أولى لأنه أرفق بالطفل وأسرع في البرء.
المسألة الرابعة
مسقطات الختان:
1- أن يولد مختونا
قال ابن القيم: «فهذا مستغن عن الختان؛ إذ لم يخلق له ما يجب ختانه، وهذا متفق عليه»، ورد على من قال: يستحب إمرار الموسى على موضع الختان: «والصواب أن هذا مكروه، لا يتقرب إلى الله ولا يتعبد بمثله، وتنزه عنه الشريعة؛ فإنه عبث لافائدة منه».
2- الموت قبل الختان
قال النووي: «ولو مات إنسان غير مختون فالصحيح المشهور: أنه لا يختن؛ صغيرا كان أم كبيرا؛ لأن المعنى الذي لأجله شرع في الحياة قد زال بالموت، فلا مصلحة في ختانه».
3- إذا أسلم الرجل كبيرًا
فيستحب له الختان ولا يجب: قال ابن قدامة: «لأن الغسل والوضوء وغيرهما يسقط إذا خاف على نفسه منه فهذا أولى». ونقل أن الحسن يرخص فيه ويقول: أسلم الناس؛ الأسود والأبيض لم يفتش أحد منهم ولم يختنوا»، وقال ابن عبد البر: «وعامة أهل العلم على هذا».
4- ضعف المولود
إذا ضعف المولود عن احتمال الختان بحيث يخاف عليه من التلف ويستمر به الضعف على ذلك؛ فهذا يعذر في تركه، إذ غايته أنه واجب فيسقط بالعجز عنه كسائر الواجبات.
ابو وليد البحيرى
2020-01-24, 03:27 PM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (7)
- مسائل فقهية في ابتلاء الله تعالى لإبراهيم عليه السلام
د.وليد خالد الربيع
قال الله -تعالى-: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}.
قال ابن كثير: «إن الله -تعالى- يذكر شرف البيت وما جعله موصوفا به شرعا وقدرا من كونه مثابة للناس، أي: جعله محلا تشتاق إليه الأرواح وتحن إليه، ولو ترددت إليه كل عام، استجابة من الله -تعالى- لدعاء خليله إبراهيم عليه السلام في قوله: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} إلى أن قال: {ربنا وتقبل دعاء} ويصفه -تعالى- بأنه جعله أمنا، من دخله أمن، ولو كان قد فعل ما فعل ثم دخله كان آمنا.
وفي هذه الآية الكريمة نبه على مقام إبراهيم مع الأمر بالصلاة عنده. وبيّن أن المراد بأمر إبراهيم وإسماعيل- عليهما السلام -بتطهير البيت: هو تطهيره من الأصنام وعبادة الأوثان فيه ومن الشرك».
وفي هذه الآية الكريمة العديد من المسائل الفقهية، منها:
المسألة الأولى: هل يقتص ممن لجأ إلى الحرم؟
- أولا: اتفق الفقهاء على أن من انتهك حرمة الحرم بجناية فيه توجب حدا أو قصاصا فإنه يقام عليه حدها، قال القرطبي: «وقد أجمعوا على أنه لو قتل في الحرم قتل به، ولو أتى حدا أقيد منه به، ولو حارب فيه حورب وقتل مكانه». وذلك لما يلي:
1-أن الله -تعالى- قد أمر بقتال من قاتل في الحرم فقال -عز وجل-: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} فأباح قتلهم عند قتالهم؛ حيث أخبر بجواز وقوع القتل فيه، وأمرنا بقتل المشركين فيه إذا قاتلونا.
2- قال ابن عباس: «من أحدث في الحرم أقيم عليه ما أحدث فيه من شيء».
3- ولأن أهل الحرم يحتاجون إلى الزجر عن ارتكاب المعاصي كغيرهم حفظا لأنفسهم وأموالهم وأعراضهم، فلو لم يشرع الحد في حق من ارتكبه في الحرم لتعطلت حدود الله في حقهم، وفاتت هذه المصالح التي لابد منها.
ثانيا: ذهب جمهور الفقهاء إلى أن من استوجب قصاصا في جناية على ما دون النفس ثم لجأ إلى الحرم فإنه يستوفى منه في الحرم، قال الجصاص: «أما ما دون النفس فإنه يؤخذ به؛ لأنه لو كان عليه دين فلجأ إلى الحرم حبس به لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لي الواجد يحل عرضه وعقوبته»، والحبس في الدين عقوبة، فجعل الحبس عقوبة وهو فيما دون النفس، فكل حق وجب فيما دون النفس أخذ به وإن لجأ إلى الحرم قياسا على الحبس في الدين.
ثالثا: اختلف الفقهاء في حكم من وجب عليه قصاص فلجأ إلى الحرم،على مذهبين:
المذهب الأول: أن من جنى جناية توجب القصاص ثم لجأ إلى الحرم لم يستوف منه ولكن يضيق عليه ولا يطعم ولا يبايع ولا يؤوى، ويقال له: اتق الله اخرج إلى الحل ليستوفى منك الحق الذي قبلك.وهو قول ابن عباس، وهو مذهب الحنفية ورواية عن أحمد، ودليلهم:
1-قوله -تعالى-: {ومن دخله كان آمنا} والمقصود الحرم، والخبر أريد به الأمر لأنه لو أريد به الخبر لأفضى إلى وقوع الخبر خلاف المخبر.
2-قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دما ولا يعضد بها شجرة».
قال ابن حجر: «وظاهره أن حكم الله -تعالى- في مكة ألا يقاتل أهلها ويؤمن من استجار بها ولا يتعرض له».
المذهب الثاني: يستوفى من الجاني ولو لجأ إلى الحرم. وهو مذهب مالك والشافعي، ودليلهم:
1-عموم النصوص الآمرة باستيفاء القصاص، كقوله -تعالى-: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} ونحوها، مما يدل على وجوب استيفاء القصاص من الجاني دون تخصيص الحكم بمكان دون آخر، وسواء جنى الجاني في الحرم أم كان خارجه ثم لجأ إليه.
2- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة.
3- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل الفواسق الخمس في الحل والحرم فقال: «خمس من الدواب كلهن فاسق يقتلن في الحرم، الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور»، فنبه بقتلهن في الحل والحرم على العلة وهي (فسقهن) ولم يجعل التجاءهن إلى الحرم مانعا من قتلهن، وكذلك فاسق بني آدم الذي استوجب القتل يقتل في الحرم دون تفريق بين كونه قتل في الحرم أم قتل خارجه ثم لجأ إليه.
وقد نوقش هذا الاستدلال بما يلي:
1-أما العمومات الدالة على استيفاء القصاص في كل مكان، فلا تعرض فيها لزمان الاستيفاء ولا لمكانه، كما لا تعرض فيها لشروطه وانتفاء موانعه، وحيث إنها عامة لكل زمان ومكان فينبغي تخصيصها بالأدلة الدالة على منع الاستيفاء ممن لجأ إلى الحرم، كما أنها قد خصصت بالحامل والمرضع والمريض الذي يرجى برؤه.
2-أما قتل ابن خطل، فقد وقع في الساعة التي أحل فيها القتال بمكة، وقد صرح النبي بأن ذلك من خصوصياته، فقال: «فإن أحد ترخص لقتال رسول الله فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد الغائب».
3-أما القول بأن الجاني حيوان مفسد فأبيح قتله في الحل والحرم كالكلب العقور، فلا يصح القياس؛ لأن الكلب العقور طبعه الأذى فلم يحرمه الحرم ليدفع أذاه عن أهله، وأما الآدمي فالأصل فيه الحرمة وحرمته عظيمة، وإنما أبيح لعارض فأشبه الصائل من الحيوانات المباحة فإن الحرم يعصمها.وأيضا فإن حاجة أهل الحرم إلى قتل الكلب العقور والحية ونحوها كحاجة أهل الحل سواء، فلو أعاذها الحرم لعظم عليهم الضرر بها.
والذي يظهر هو رجحان المذهب الأول لأمور:
- الأول: أن تحريم مكة تحريم قدري شرعي سبق به قدر الله يوم خلق السماوات والأرض، ثم ظهر به على لسان إبراهيم الخليل ومحمد -عليهما صلوات الله وسلامه-، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم إن إبراهيم حرم مكة فجعلها حرما، وإني أحرم المدينة».
وقد كانت العرب في جاهليتها تعظم الحرم ولا تأخذ من لجأ إليه، فقد كان الرجل يرى قاتل أبيه أو ابنه في الحرم فلا يهيجه، فلما جاء الإسلام أكد ذلك وقواه.
- الثاني: ما نقل عن سلف الأمة من الصحابة الكرام في تأكيد هذا الحكم: فعن عمر بن الخطاب قال: لو وجدت فيه قاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه. وعن ابن عمر قال: لو لقيت فيه قاتل عمر ما ندهته أي ما زجرته.وعن ابن عباس: لو لقيت قاتل أبي في الحرم ما هجته حتى يخرج منه.قال ابن القيم: «وهذا قول جمهور التابعين ومن بعدهم بل لا يحفظ عن تابعي ولا صحابي خلافه».
ابو وليد البحيرى
2020-02-03, 06:30 PM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (8)
مسائل فقهية في اتخاذ مقام إبراهيم مصلى
د.وليد خالد الربيع
لا نزال مع الأحكام الفقهية المستفادة من قوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} البقرة:125، ومع المسألة الثانية مع قوله تعالى: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} ما المراد بمقام إبراهيم؟
المقام في اللغة: موضع القدمين، ومكان القيام، قال النحاس: مقام من قام يقوم، ويكون مصدرا واسما للموضع، واختلف في تعيين المقام على أقوال:
فعن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وعطاء أنه الحج كله، وهو اختيار الشيخ ابن سعدي حيث قال: « لعل هذا المعنى أولى لدخول المعنى الأول فيه واحتمال اللفظ له».، وعن عطاء والشعبي أنه عرفة ومزدلفة والجمار، وقال النخعي ومجاهد: الحرم كله مقام إبراهيم، وأصح الأقوال أنه الحجر الذي تعرفه الناس اليوم الذي يصلون عنده ركعتي الطواف، وهذا قول جابر وابن عباس وقتادة وغيرهم وهو اختيار الطبري وابن العربي والشوكاني والشيخ ابن عثيمين للأحاديث الصحيحة في ذلك، منها ما أخرجه مسلم من حديث جابر الطويل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رأى البيت استلم الركن فرمل ثلاثا، ومشى أربعا، ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ: {وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}، فصلى ركعتين قرأ فيهما بـ:{قل هو الله أحد}، و:{قل يا أيها الكافرون}.
مقام إبراهيم هو (الحجر)
وفي البخاري: أن مقام إبراهيم الحجر الذي ارتفع عليه إبراهيم -عليه السلام- حين ضعف عن رفع الحجارة التي كان إسماعيل يناولها إياه في بناء البيت، وغرقت قدماه فيه، قال الطبري: «ولو لم يكن على صحة ما اخترنا في تأويل ذلك خبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكان الواجب فيه من القول ما قلنا، وذلك أن الكلام محمول معناه على ظاهره المعروف، دون باطنه المجهول، حتى يأتي ما يدل على خلاف ذلك، مما يجب التسليم له. ولا شك أن المعروف في الناس بـ (مقام إبراهيم) هو المصلى الذي قال الله -تعالى- ذكره: {وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}».
المراد بقوله تعالى: {مصلى}
واختلفوا في المراد بقوله -تعالى-: {مصلى}:
فمن فسر المقام بمشاهد الحج ومشاعره قال: مصلى (مدعى) أي: مكان دعاء؛ من الصلاة التي هي الدعاء، وهو قول مجاهد ومن وافقه، ومن فسر المقام بالحجر قال: معناه اتخذوا من مقام إبراهيم قبلة لصلاتكم، فأمروا بالصلاة عنده، وهو قول قتادة ومن وافقه، قال ابن العربي: «إنَّه (أي حديث جابر) بَيَّنَ الصَّلَاةَ وَأَنَّهَا الْمُتَضَمِّنَة ُ لِلرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لَا مُطْلَقِ الدُّعَاءِ». وهو الأظهر لدلالة الأحاديث.
المسألة الثالثة
ما حكم ركعتي الطواف؟
اتفق الفقهاء على أنه يسن للطائف أن يصلي بعد فراغه ركعتين، ويستحب أن يركعهما خلف المقام لقوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}، ويستحب أن يقرأ فيهما: {قل يا أيها الكافرون} في الأولى، و: {قل هو الله أحد} في الثانية، لحديث جابر المتقدم في صفة حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر أنه صلى ركعتين بعد الطواف، قال النووي: «هذا دليل لما أجمع عليه العلماء أنه ينبغي لكل طائف إذا فرغ من طوافه أن يصلي ركعتي الطواف»، وقد اختلف الفقهاء في وجوب ركعتي الطواف بعد الاتفاق على مشروعيتهما:
المذهب الأول
ركعتا الطواف واجبتان، وهو مذهب الحنفية والمالكية وقول للشافعية؛ لأن الله أمر بهما، وبينهما النبي - صلى الله عليه وسلم - بفعله وواظب عليهما، والأصل في الأمر الوجوب، ولأنهما تابعتان للطواف فكانتا واجبتين، كالسعي.
المذهب الثاني
ركعتا الطواف مستحبتان، وهو مذهب الشافعية والحنابلة وهو قول ابن حزم واختيار ابن باز وابن عثيمين، لقوله -عليه السلام-: «خمس صلوات كتبهن الله على العبد من حافظ عليهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة» وركعتا الطواف ليستا منها، ولما سأل الأعرابي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الفرائض، ذكر الصلوات الخمس قال: فهل علي غيرها؟ قال: «لا، إلا أن تطوع».
قياسهما على السعي
وأما قياسهما على السعي فالجواب: أن السعي لم يجب لكونه تابعا، ولا هو مشروع مع كل طواف، ولو طاف الحاج طوافا كثيرا لم يجب عليه إلا سعي واحد فإذا أتى به مع طواف القدوم، لم يأت به بعد ذلك بخلاف الركعتين فإنهما يشرعان عقيب كل طواف، قال النووي: «وسواء قلنا: واجبتان، أو سنتان لو تركهما لم يبطل طوافه».
المسألة الرابعة
هل تجزئ المكتوبة عن ركعتي الطواف؟
قال ابن قدامة: «وإذا صلى المكتوبة بعد طوافه أجزأته عن ركعتي الطواف، روي نحو ذلك عن ابن عباس وعطاء وجابر بن زيد والحسن وسعيد بن جبير وإسحق، وعن أحمد أنه يصلي ركعتي الطواف بعد المكتوبة، قال أبو بكر عبد العزيز: هو أقيس. وبه قال الزهري ومالك وأصحاب الرأي؛ لأنه سنة فلم تجزئ عنها المكتوبة كركعتي الفجر.
ذكر الشوكاني أن الزهري لما قيل له: إن عطاء يقول: تجزئ المكتوبة من ركعتي الطواف. فقال الزهري: «السنة أفضل، لم يطف النبي - صلى الله عليه وسلم - أسبوعا إلا صلى ركعتين».
قال الشوكاني: «استدل به من قال: لا تجزئ المكتوبة عن ركعتي الطواف، وتعقب بأن قوله: «إلا صلى ركعتين» أعم من أن يكون ذلك نفلا أو فرضا؛لأن الصبح ركعتان».
ورجح ابن قدامة الأول؛ لأنهما ركعتان شرعتا للنسك، فأجزأت عنهما المكتوبة كركعتي الإحرام».
المسألة الخامسة
هل تجزئ ركعتا الطواف في مكان آخر؟
إذا لم يتيَسَّرْ للطَّائِفِ أداءُ ركعتي الطَّوافِ خَلْفَ المقامِ بسبب الزِّحامِ أو غيره، فإنه يُصَلِّيها في أي مكانٍ تيسَّرَ في المسجِدِ باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهيَّةِ الأربَعةِ، قال ابن قدامة: «وحيث ركعهما ومهما قرأ فيهما جاز، فإن عمر ركعهما بذي طوى».
قال النووي: «والسنة أن يصليهما خلف المقام، فإن لم يفعل ففي الحجر، وإلا في المسجد، وإلا في مكة وسائر الحرم، ولو صلاهما في وطنه وغيره من أقاصي الأرض جاز وفاتته الفضيلة».
ابو وليد البحيرى
2020-02-29, 02:11 PM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (9)
- المسائل الفقهية في تطهير بيت الله لِلطَّائِفِينَ
د.وليد خالد الربيع
لا نزال مع الأحكام الفقهية في قصة بناء إبراهيم -عليه السلام- وابنه إسماعيل بيت الله الحرام، واليوم نقف مع المسائل الفقهية المستفادة من قوله -تعالى-: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}، قال ابن سعدي: أي: أوحينا إليهما، وأمرناهما بتطهير بيت الله من الشرك والكفر والمعاصي، ومن الرجس والنجاسات والأقذار قدم الطواف لاختصاصه بالمسجد الحرام، ثم الاعتكاف؛ لأن من شرطه المسجد مطلقا.ثم الصلاة، مع أنها أفضل لهذا المعنى.
وأضاف الباري البيت إليه لفوائد منها ما يلي: أن ذلك يقتضي شدة اهتمام إبراهيم وإسماعيل بتطهيره لكونه بيت الله؛ فيبذلان جهدهما ويستفرغان وسعهما في ذلك. ومنها: أن الإضافة تقتضي التشريف والإكرام؛ ففي ضمنها أمر عباده بتعظيمه وتكريمه.
ومنها: أن هذه الإضافة، هي السبب الجالب للقلوب إليه.
الطواف أفضل أم الصلاة؟
المسألة السادسة: الطواف أفضل أم الصلاة عند الكعبة؟
اِخْتَلَفَ الْفُقَهَاء في هذه المسألة:
المذهب الأول
الطَّوَاف لِأَهْلِ الْأَمْصَار أَفْضَل، وَالصَّلَاة لِأَهْلِ مَكَّة أَفْضَل، وَذُكِرَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَعَطَاء وَمُجَاهِد، وهو قول مَالِك؛ لأن الله -تعالى- قدم الطواف في الآية على غيره، فهو أفضل؛ ولأن الصلاة يمكن فعلها في كل مكان، أما الطواف فلا يمكن إلا بالكعبة فهو مختص بها؛ فهو أفضل.
المذهب الثاني
الصَّلَاة أَفْضَل، وهو قول الجمهور للْأَخْبَار الكثيرة فِي فَضْل الصَّلَاة وَالسُّجُود، قال الشيخ ابن باز : «فقد ذكر جمع من أهل العلم أن الغريب الأفضل له أن يكثر من الطواف؛ لأنه ليس بمقيم، ولا يحصل له الطواف إلا بمكة، أما المقيم بمكة فهو نازل مقيم، والصلاة أفضل له؛ لأن جنس الصلاة أفضل من جنس الطواف؛ فإذا أكثر من الصلاة كان أفضل، أما الغريب الذي ليس بمقيم؛ فهذا يستحب له الإكثار من الطواف؛ لأنه ليس بمقيم، بل سوف ينزح ويخرج عن مكة؛ فاغتنامه الطواف أولى؛ لأن الصلاة يمكنه الإتيان بها في كل مكان، يعني كل هذا في النافلة، أعني: طواف النافلة، وصلاة النافلة».
المسألة السابعة
وجوب تطهير المساجد
دلت الآية الكريمة على وجوب العناية بالمساجد وتنظيفها واحترامها؛ فعَنْ عَائِشَةَ -رضِيَ اللهُ عَنْها- قَالَتْ: «أَمَرَ رَسُولُ الله صلى لله عليه وسلم بِبِنَاءِ المسَاجِدِ فِي الدُّورِ، وَأنْ تُنَظَّفَ وَتُطَيَّبَ».
ذكر الشيخ ابن عثيمين أن تطهير البيت ينقسم إلى قسمين:
تطهير معنوي
أن يطهر من الشرك والمعاصي؛ وذلك لأن الشرك نجاسة كما قال -تعالى-: {يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا}.
التطهير الحسي
بأن يطهر من الأقذار، وهذا الحكم ثابت للمسجد الحرام ولغيره من المساجد؛ ولهذا لما بال الأعرابي في مسجد النبي صلى لله عليه وسلم أمر النبي صلى لله عليه وسلم بذنوب من ماء فأهريق عليه، قال القرطبي: «لَمَّا قَالَ اللَّه -تَعَالَى-:{أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي} دَخَلَ فِيهِ بِالْمَعْنَى جَمِيع بُيُوته -تَعَالَى-؛ فَيَكُون حُكْمهَا حُكْمه فِي التَّطْهِير وَالنَّظَافَة، وَإِنَّمَا خُصَّ الْكَعْبَة بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ غَيْرهَا، أَوْ لِكَوْنِهَا أَعْظَم حُرْمَة».
المسألة الثامنة
حكم الصلاة داخل الكعبة
قال القرطبي: «لَا نَعْلَم خِلَافًا بَيْن الْعُلَمَاء فِي صِحَّة النَّافِلَة فِي الْكَعْبَة»، واختلفوا في صلاة الفرض على مذهبين:
المذهب الأول
تجوز الصلاة في داخل الكعبة مطلقا، وهو قول الحنفية والشافعية، واِسْتَدَلوا بِهَذِهِ الْآيَة عَلَى جَوَاز الصَّلَاة الْفَرْض وَالنَّفْل دَاخِل الْبَيْت؛ فقوله -تعالى-: {والركع السجود} يشمل المصلين عموما، وبما رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ: دَخَلَ رَسُول اللَّه صلى لله عليه وسلم هُوَ وَأُسَامَة بْن زَيْد وَبِلَال وَعُثْمَان بْن طَلْحَة الْبَيْت فَأَغْلَقُوا عَلَيْهِمْ الْبَاب، فَلَمَّا فَتَحُوا كُنْت أَوَّل مَنْ وَلَجَ فَلَقِيت بِلَالًا فَسَأَلْته: هَلْ صَلَّى فِيهِ رَسُول اللَّه صلى لله عليه وسلم ؟ قَالَ: نَعَمْ بَيْن الْعَمُودَيْنِ الْيَمَانِيَيْن ِ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِم وَفِيهِ قَالَ: جَعَلَ عَمُودَيْنِ عَنْ يَسَاره وَعَمُودًا عَنْ يَمِينه وَثَلَاثَة أَعْمِدَة وَرَاءَهُ، وَكَانَ الْبَيْت يَوْمئِذٍ عَلَى سِتَّة أَعْمِدَة.
المذهب الثاني
تجوز صلاة النافلة لا الفريضة، وهو قول المالكية والحنابلة، لِمَا رَوَاهُ مُسْلِم عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ: أَخْبَرَنِي أُسَامَة بْن زَيْد أَنَّ النَّبِيّ صلى لله عليه وسلم مَّا دَخَلَ الْبَيْت دَعَا فِي نَوَاحِيه كُلّهَا وَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ حَتَّى خَرَجَ مِنْهُ؛ فَلَمَّا خَرَجَ رَكَعَ فِي قُبُل الْكَعْبَة رَكْعَتَيْنِ وَقَالَ: «هَذِهِ الْقِبْلَة» وَهَذَا نَصّ، ولاشك أن رواية ابن عمر مقدمة؛ لأنه أثبت فعل الصلاة والمثبت مقدم على النافي، كما أن رواية ابن عباس لها احتمالات ذكرها شراح الحديث.
قول ابن باز
قال الشيخ ابن باز: «الصلاة في الكعبة جائزةٌ، بل مشروعة؛ فالنبيُّ صلى لله عليه وسلم صلَّى في الكعبة لَمَّا فتَح مكة، دخَلَها وصلَّى فيها ركعتين، وكبَّر ودعا في نواحيها -عليه الصَّلاة والسَّلام-، وجعل بينه وبين الجدار القريب منها حين صلَّى ثلاثةَ أذرع -عليه الصلاة والسلام-، وقال لعائشة في حجَّة الوداع لَمَّا أرادت الصلاة في الكعبة: «صلِّي في الحِجر؛ فإنه من البيت»، لكن ذهب بعضُ أهل العلم إلى أنه لا يُصلي فيها الفريضة، بل تُصلى في خارجها؛ لأنَّها هي القبلة فتُصلي الفريضة في خارجها، وأما النافلة فلا بأس؛ لأنَّ الرسول صلى لله عليه وسلم صلَّى فيها النافلة، ولم يصلِّ فيها الفريضة.
والصواب: أنه لو صلَّى فيها الفريضة أجزأه وصحَّت، لكن الأفضل والأَوْلى أن تكون الفريضة خارجَ الكعبة، خروجًا من الخلاف، وتأسيًا بالنبي صلى لله عليه وسلم ؛ فإنَّه صلَّى بالناس الفريضةَ خارج الكعبة».
قول ابن عثيمين
وقال الشيخ ابن عثيمين: «الصحيح أن الصلاة في الكعبة صحيحة فرضا ونفلا، واستدل بأن الأصل تساوي الفرض والنفل في جميع الأحكام إلا بدليل، ويستدل لهذا الأصل بأن الصحابة لما ذكروا أن النبي صلى لله عليه وسلم كان يصلي على راحلته حيثما توجهت به، قالوا: غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة، وهذا يدل على أنهم لو لم يستثنوا لكانت المكتوبة كالنافلة تصلى الراحلة؛ ولأن الله -عز وجل- يقول: {فول وجهك شطر المسجد الحرام}، وشطره بمعنى جهته، وهذا يشمل استقبال جميع الكعبة أو جزء منها، كما فسرت ذلك السنة بصلاة الرسول صلى لله عليه وسلم في الكعبة».
فوائد الآية
قال ابن عثيمين مبينا بقية فوائد الآية:
1- فضيلة الطواف لقوله: {طهرا بيتي للطائفين}، ولا شك أن الطواف من الأعمال الجليلة الفاضلة؛ ولهذا كان ركنا في الحج والعمرة.
2- الإشارة إلى أن المشروع للطائف أن يكون متطهرا؛ لأنه إذا أمر بتطهير البيت من أجله -أي الطائف-؛ فتطهيره بنفسه وتطهير ما لبسه من الثياب أولى؛ فالمشروع للطائف أن يكون طاهرا من الأنجاس والأحداث.
3- مشروعية الاعتكاف عموما، وفضيلة الاعتكاف في المسجد الحرام.
4- أن الطواف لا يكون إلا حول الكعبة، لقوله -تعالى-: {طهرا بيتي للطائفين}؛ ولهذا قال العلماء: يشترط لصحة الطواف أن يكون في المسجد الحرام، وأنه لو طاف خارج المسجد ما أجزأه؛ لأنه يكون حينئذ طائفا بالمسجد لا بالكعبة، أما الذين يطوفون في المسجد نفسه، سواء فوق أو تحت؛ فهؤلاء يجزئهم الطواف، ويجب الحذر من الطواف في المسعى أو فوقه؛ لأن المسعى ليس من المسجد».
ابو وليد البحيرى
2020-02-29, 02:20 PM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (10)
- حكم الدخول إلى أرض الطاعون أو الفرار منها
د.وليد خالد الربيع
قال الله -تعالى-: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ علَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ}(الب قرة: 243)، قال ابن سعدي:” يقص -تعالى- علينا قصة الذين خرجوا من ديارهم على كثرتهم واتفاق مقاصدهم، بأن الذي أخرجهم منها حذر الموت من وباء أو غيره، يقصدون بهذا الخروج السلامة من الموت، ولكن لا يغني حذر عن قدر؛ فقال الله لهم: موتوا؛ فماتوا، ثم إن الله -تعالى- أحياهم بدعوة نبي أو بغير ذلك، رحمة بهم ولطفا وحلما، وبيانا لآياته لخلقه بإحياء الموتى»، قال ابن العربي: «الْأَصَحُّ أَنَّ خُرُوجَهُمْ إنَّمَا كَانَ فِرَارًا مِنْ الطَّاعُونِ، وَهَذَا حُكْمٌ بَاقٍ فِي مِلَّتِنَا لَمْ يَتَغَيَّرْ».
وقد اختلف العلماء في مسألتي الدخول إلى أرض الطاعون والفرار منها، وخلاصته:
المسألة الأولى: حكم الدخول إلى بلد وقع فيها الطاعون:
المذهب الأول
النهي عن الدخول إلى بلد فيها الطاعون للتنزيه، ويجوز الإقدام عليه لمن قوي توكله وصح يقينه، دليلهم عن ابن عمر قال: جئت عمر حين قدم فوجدته قائلا في خبائه؛ فانتظرته في ظل الخباء؛ فسمعته يقول حين تضور: «اللهم اغفر لي رجوعي من سرغ». أخرجه ابن أبي شيبة بسند جيد كما قال ابن حجر؛ فتمسكوا بندم عمر على رجوعه مع علمه بالنهي مما يدل على أن النهي للتنزيه وأن القدوم عليه جائز لمن غلب عليه التوكل، ونوقش بأنه لا يصح عن عمر.
وأجيب بأن سنده قوي، فعلى هذا يحتمل أن يكون سبب ندمه أنه خرج لأمر مهم من أمور المسلمين، فلما وصل إلى قرب البلد المقصود رجع، مع أنه كان يمكنه أن يقيم بالقرب من البلد المقصود إلى أن يرتفع الطاعون فيدخل إليها ويقضي حاجة المسلمين، ويؤيد ذلك أن الطاعون ارتفع عنها عن قرب؛ فلعله بلغه ذلك فندم على رجوعه إلى المدينة، لا على مطلق رجوعه.
المذهب الثاني
جواز رجوع من أراد دخول بلد فعلم أن بها الطاعون، وأن ذلك ليس من الطيرة، وإنما هي من منع الإلقاء إلى التهلكة. وهو مذهب الجمهور كما ذكر النووي وغيره لما أخرجه الشيخان عن عبد الله بن عامر أن عمر رضي الله عنه خرج إلى الشأم فلما جاء بسرغ بلغه أن الوباء وقع بالشأم؛ فأخبره عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه» فرجع عمر من سرغ .
الطاعون رجز أو عذاب
وأخرج الشيخان عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه أنه سمعه يسأل أسامة بن زيد ماذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطاعون فقال أسامة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الطاعون رجز أو عذاب أرسل على بني إسرائيل أو على من كان قبلكم؛ فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه».
عَلَى الْمَرْءِ تَوَقِّي الْمَكَارِهِ
وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: «فِي حَدِيثِ سَعْدٍ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ عَلَى الْمَرْءِ تَوَقِّي الْمَكَارِهِ قَبْلَ نُزُولِهَا، وَتَجَنُّبَ الْأَشْيَاءِ الْمَخُوفَةِ قَبْلَ هُجُومِهَا، وَأَنَّ عَلَيْهِ الصَّبْرَ وَتَرْكَ الجزع بعد نزولها، وذلك أنه -عليه السَّلَامُ- نَهَى مَنْ لَمْ يَكُنْ فِي أَرْضِ الْوَبَاءِ عَنْ دُخُولِهَا إِذَا وَقَعَ فِيهَا، وَنَهَى مَنْ هُوَ فِيهَا عَنِ الْخُرُوجِ مِنْهَا بَعْدَ وُقُوعِهِ فِيهَا فِرَارًا مِنْهُ، فَكَذَلِكَ الْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ كُلِّ مُتَّقٍ مِنَ الْأُمُورِ غَوَائِلَهَا، سَبِيلُهُ فِي ذَلِكَ سَبِيلُ الطَّاعُونِ»، وقال القرطبي: «قُلْتُ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي الْبَابِ، وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ الرَّسُولِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَعَلَيْهِ عَمَلُ أَصْحَابِهِ الْبَرَرَةِ الْكِرَامِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- وَقَدْ قَالَ عُمَرُ لِأَبِي عُبَيْدَةَ مُحْتَجًّا عَلَيْهِ لَمَّا قَالَ لَهُ: أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ؟! فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ» نَعَمْ، نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ.
مَحِيصَ لِلْإِنْسَانِ عَمَّا قَدَّرَهُ اللَّهُ
الْمَعْنَى: أَيْ: لَا مَحِيصَ لِلْإِنْسَانِ عَمَّا قَدَّرَهُ اللَّهُ لَهُ وَعَلَيْهِ، وَلَكِنْ أَمَرَنَا اللَّهُ -تَعَالَى- بِالتَّحَرُّزِ مِنَ الْمَخَاوِفِ وَالْمُهْلِكَات ِ، وَبِاسْتِفْرَاغ ِ الْوُسْعِ فِي التَّوَقِّي مِنَ الْمَكْرُوهَاتِ ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَتْ لَكَ إِبِلٌ فَهَبَطَتْ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ إِحْدَاهُمَا خِصْبَةٌ وَالْأُخْرَى جَدْبَةٌ، أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الْخِصْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ، وَإِنْ رَعَيْتَ الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؟؛ فَرَجَعَ عُمَرُ مِنْ مَوْضِعِهِ ذَلِكَ إِلَى الْمَدِينَةِ».
حكم الخروج من أرض الطاعون
المسألة الثانية: حكم الخروج من الأرض التي وقع فيها الطاعون:
جواز الخروج
المذهب الأول: جواز الخروج من الأرض التي يقع بها الطاعون، وهو قول جماعة من الصحابة، منهم أبو موسى الأشعري والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين الأسود بن هلال ومسروق، واستدلوا بما أخرج أحمد بسند صحيح إلى أبي منيب:أن عمرو بن العاص قال في الطاعون: إن هذا رجز مثل السيل، من تنكبه أخطأه. ومثل النار، من أقام أحرقته؛ فقال شرحبيل بن حسنة: إن هذا رحمة ربكم، ودعوة نبيكم، وقبض الصالحين قبلكم.
قال ابن حجر: «وأخرج أحمد من طريق أخرى أن المراجعة في ذلك أيضا وقعت من عمرو بن العاص ومعاذ، وفي معظم الطرق أن عمرو بن العاص صدق شرحبيل وغيره على ذلك».
قال الطحاوي: «استدل من أجاز الخروج بالنهي الوارد عن الدخول إلى الأرض التي يقع بها، قالوا: وإنما نهى عن ذلك خشية أن يعدي من دخل عليه.
قال: وهو مردود؛ لأنه لو كان النهي لهذا لجاز لأهل الموضع الذي وقع فيه الخروج، وقد ثبت النهي أيضا عن ذلك فعرف أن المعنى الذي لأجله منعوا من القدوم عليه غير معنى العدوى، والذي يظهر - والله أعلم - أن حكمة النهي عن القدوم عليه لئلا يصيب من قدم عليه بتقدير الله فيقول: لولا أني قدمت هذه الأرض لما أصابني، ولعله لو أقام في الموضع الذي كان فيه لأصابه؛ فأمر ألا يقدم عليه حسما للمادة، ونهى من وقع وهو بها أن يخرج من الأرض التي نزل بها لئلا يسلم فيقول مثلا: لو أقمت في تلك الأرض لأصابني ما أصاب أهلها، ولعله لو كان أقام بها ما أصابه من ذلك شيء».
يحرم الخروج
المذهب الثاني: يحرم الخروج منها لظاهر النهي الثابت في الأحاديث الماضية .
وهو مذهب الجمهور كما ذكره النووي وغيره مستدلين بالأحاديث المتقدمة في النهي عن الدخول عليه أو الفرار منه، ويؤيد هذا الوعيد الثابت في حق من فر منه فقد أخرج أحمد وابن خزيمة من حديث عائشة: قلت يا رسول الله فما الطاعون؟ قال: «غدة كغدة الإبل، المقيم فيها كالشهيد، والفار منها كالفارِّ من الزحف»، وقد حسن ابن حجر سنده
وأخرج أحمد من حديث جابر رفعه: «الفارُّ من الطاعون كالفار من الزحف، والصابر فيه كالصابر في الزحف» وصححه الألباني، قال ابن حجر:»الصور ثلاث:
من خرج لقصد الفرار محضا فهذا يتناوله النهي لا محالة.
ومن خرج لحاجة متمحضة لا لقصد الفرار أصلا، ويتصور ذلك فيمن تهيأ للرحيل من بلد كان بها إلى بلد إقامته مثلا ولم يكن الطاعون وقع؛ فاتفق وقوعه في أثناء تجهيزه؛ فهذا لم يقصد الفرار أصلا فلا يدخل في النهي.
والثالث من عرضت له حاجة فأراد الخروج إليها وانضم إلى ذلك أنه قصد الراحة من الإقامة بالبلد التي وقع بها الطاعون؛ فهذا محل النزاع».
وبهذا يترجح مذهب الجمهور في منع دخول الأرض التي فيها الطاعون، وكذلك منع الفرار منها.
ابو وليد البحيرى
2020-02-29, 02:31 PM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (11)
- أحكام فقهية في قصة الملأ من بني إسرائيل
د.وليد خالد الربيع
قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ } سورة البقرة:246.
قال الشيخ ابن سعدي: «يقص الله -تعالى- على نبيه قصة الملأ من بني إسرائيل وهم الأشراف والرؤساء، وخص الملأ بالذكر؛ لأنهم في العادة هم الذين يبحثون عن مصالحهم ليتفقوا؛ فيتبعهم غيرهم على ما يرونه، وذلك أنهم أتوا إلى نبي لهم بعد موسى -عليه السلام- فقالوا له: {ابعث لنا ملكا} أي: عيِّن لنا ملكا {نقاتل في سبيل الله} ليجتمع متفرقنا ويقاوم بنا عدونا، ولعلهم في ذلك الوقت ليس لهم رئيس يجمعهم، كما جرت عادة القبائل -أصحاب البيوت-، كل بيت لا يرضى أن يكون من البيت الآخر رئيس، فالتمسوا من نبيهم تعيين ملك يرضي الطرفين ويكون تعيينه خاصا لعوائدهم.
أنبياء بني إسرائيل
وكانت أنبياء بني إسرائيل تسوسهم، كلما مات نبي خلفه نبي آخر، فلما قالوا لنبيهم تلك المقالة قال لهم نبيهم: {هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا} أي: لعلكم تطلبون شيئا وهو إذا كتب عليكم لا تقومون به، فعرض عليهم العافية فلم يقبلوها، واعتمدوا على عزمهم ونيتهم، فقالوا: {وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} أي: أي شيء يمنعنا من القتال وقد ألجأنا إليه، بأن أخرجنا من أوطاننا وسبيت ذرارينا، فهذا موجب لكوننا نقاتل ولو لم يكتب علينا، فكيف مع أنه فرض علينا وقد حصل ما حصل؟ ولهذا لما لم تكن نياتهم حسنة ولم يقوَ توكلهم على ربهم {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا} فجبنوا عن قتال الأعداء وضعفوا عن المصادمة، وزال ما كانوا عزموا عليه، واستولى على أكثرهم الخور والجبن { إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ} فعصمهم الله وثبتهم وقوى قلوبهم فالتزموا أمر الله، ووطنوا أنفسهم على مقارعة أعدائه، فحازوا شرف الدنيا والآخرة، وأما أكثرهم فظلموا أنفسهم وتركوا أمر الله؛ فلهذا قال: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ }».
تمني لقاء العدو
من المسائل الفقهية المستفادة من هذه الآية الكريمة مسألة (تمني لقاء العدو): قال القرطبي: «أخبر -تعالى- أنه لما فرض عليهم القتال ورأوا الحقيقة، ورجعت أفكارهم إلى مباشرة الحرب وأن نفوسهم ربما قد تذهب تولوا أي: اضطربت نياتهم وفترت عزائمهم، وهذا شأن الأمم المتنعمة المائلة إلى الدعة تتمنى الحرب أوقات الأنفة فإذا حضرت الحرب كعت وانقادت لطبعها، وعن هذا المعنى نهى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاثبتوا» متفق عليه.
المنع من طلب لقاء العدو
فظاهر الحديث يدل على المنع من طلب لقاء العدو، وقد اجتهد العلماء في بيان الحكمة من ذلك، فقال النووي: «إِنَّمَا نَهَى عَنْ تَمَنِّي لِقَاءِ الْعَدُوِّ لِمَا فِيهِ مِنْ صُورَةِ الْإِعْجَابِ وَالِاتِّكَالِ عَلَى النَّفْسِ وَالْوُثُوقِ بِالْقُوَّةِ وَهُوَ نَوْعُ بَغْيٍ، وَقَدْ ضَمِنَ اللَّهُ تَعَالَى لِمَنْ بُغِيَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْصُرَهُ، وَلِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ قِلَّةَ الِاهْتِمَامِ بِالْعَدُوِّ وَاحْتِقَارَهُ وَهَذَا يُخَالِفُ الِاحْتِيَاطَ وَالْحَزْمَ».
صُورَةٍ خَاصَّة
وَتَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى النَّهْيِ عَنِ التَّمَنِّي فِي صُورَةٍ خَاصَّةٍ وَهِيَ إِذَا شَكَّ فِي الْمَصْلَحَةِ فِيهِ وَحُصُولِ ضَرَرٍ وَإِلَّا فَالْقِتَالُ كُلُّهُ فَضِيلَةٌ وَطَاعَةٌ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ وَلِهَذَا تَمَّمَهُ - صلى الله عليه وسلم- بِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: «وَاسْأَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ»، وَقَدْ كَثُرَتِ الْأَحَادِيثُ فِي الْأَمْرِ بِسُؤَالِ الْعَافِيَةِ وَهِيَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْعَامَّةِ الْمُتَنَاوِلَة ِ لِدَفْعِ جَمِيعِ الْمَكْرُوهَاتِ فِي الْبَدَنِ وَالْبَاطِنِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ».
ونقل ابن حجر عن ابن بَطَّالٍ أن حِكْمَةُ النَّهْيِ أَنَّ الْمَرْءَ لَا يَعْلَمُ مَا يؤول إِلَيْهِ الْأَمْرُ وَهُوَ نَظِيرُ سُؤَالِ الْعَافِيَةِ مِنَ الْفِتَنِ وَقَدْ قَالَ الصِّدِّيقُ: لَأَنْ أُعَافَى فَأَشْكُرَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُبْتَلَى فَأَصْبِرَ.
مِنْ أَشَقِّ الْأَشْيَاءِ
وَقَالَ ابن دَقِيقِ الْعِيد: «لَمَّا كَانَ لِقَاءُ الْمَوْتِ مِنْ أَشَقِّ الْأَشْيَاءِ عَلَى النَّفْسِ وَكَانَتِ الْأُمُورُ الْغَائِبَةُ لَيْسَتْ كَالْأُمُورِ الْمُحَقَّقَةِ لَمْ يُؤْمَنْ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْوُقُوعِ كَمَا يَنْبَغِي فَيُكْرَهُ التَّمَنِّي لِذَلِكَ، وَلِمَا فِيهِ لَوْ وَقَعَ مِنَ احْتِمَالِ أَنْ يُخَالِفَ الْإِنْسَانُ مَا وَعَدَ مِنْ نَفْسِهِ ثُمَّ أُمِرَ بِالصَّبْرِ عِنْدَ وُقُوعِ الْحَقِيقَةِ».
ظاهر الحديث
وأورد الحافظ ابن حجر إشكالا حول تعارض ظاهر هذا الحديث مَعَ الأدلة التي تدل على جَوَازِ تَمَنِّي الشَّهَادَةِ كحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: « والذي نفسي بيده لولا أن رجالا من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني ولا أجد ما أحملهم عليه ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل الله، والذي نفسي بيده لوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل» متفق عليه.
حُصُولَ الشَّهَادَةِ
وجمع بينهما بقوله: «وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّ حُصُولَ الشَّهَادَةِ أَخَصُّ مِنَ اللِّقَاء لَإمَكَان تَحْصِيلِ الشَّهَادَةِ مَعَ نُصْرَةِ الْإِسْلَامِ وَدَوَامِ عِزِّهِ بِكَسْرَةِ الْكُفَّارِ، وَاللِّقَاءُ قَدْ يُفْضِي إِلَى عَكْسِ ذَلِكَ فَنَهَى عَنْ تَمَنِّيهِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ تَمَنِّيَ الشَّهَادَةِ، أَوْ لَعَلَّ الْكَرَاهِيَةَ مُخْتَصَّةٌ بِمَنْ يَثِقُ بِقُوَّتِهِ وَيُعْجَبُ بِنَفْسِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ».
وذكر المازري في شرح مسلم جوابا آخر فقال: «قيل: قد يكون المراد بهذا أنّ التمنّيَ ربّما أثار فتنة أو أدخل مضرة إذا تُسُهِّل في ذلك واستُخف به، ومن استخف بعدوّه فقد أضاع الحزم، فيكون المراد بهذا أي: لا تَستهينوا بالعدوّ فتتركوا الحذر والتحفّظ على أنفسكم وعلى المسلمين، أو يكون لا تتمنّوا لقاءه على حالة يشكّ في غلبته لكم أو يخاف منه أن يستبيح الحريم أو يُذهب الأنفس والأموال أو يدرك منه ضرر».
فوائد الآية الكريمة
ومن فوائد الآية الكريمة أيضا ما ذكره الشيخ ابن عثيمين: «أن الإنسان قد يظن أنه يستطيع الصبر على ترك المحظور أو القيام بالمأمور، فإذا ابتلي نكص، لقوله -تعالى-: {فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم}.
ومنها الإشارة إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم : «لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية»، وقوله صلى الله عليه وسلم : «من سمع بالدجال فلينأ عنه»، ويشبه هذا أن بعض الناس ينذرون النذر وهم يظنون أنهم يوفون به ثم لا يوفون به».
ابو وليد البحيرى
2020-03-22, 10:32 PM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (12)
- حكـم النـذر
د.وليد خالد الربيع
قال -تعالى-: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}(آل عمران:35)، قال الشيخ ابن سعدي: «ولما ذكر فضائل هذه البيوت الكريمة ذكر ما جرى لمريم والدة عيسى، وكيف لطف الله بها في تربيتها ونشأتها؛ فقال: { إذ قالت امرأة عمران} أي: والدة مريم لما حملت {رب إني نذرت لك ما في بطني محررًا}. أي: جعلت ما في بطني خالصا لوجهك، محررا لخدمتك وخدمة بيتك؛ فتقبل مني هذا العمل المبارك إنك أنت السميع العليم، أي تسمع دعائي، وتعلم نيتي وقصدي، هذا وهي في البطن قبل وضعها»، هذه الآية الكريمة تدل على حكم شرعي وهو(النذر) وفيه مسائل عديدة منها:
المسألة الأولى: ما النذر؟
النذر في الاصطلاح: إلْزَامُ مُكَلَّفٍ مُخْتَارٍ نَفْسَهُ لِلَّهِ -تَعَالَى- بِالْقَوْلِ شَيْئًا غَيْرَ لَازِمٍ بِأَصْلِ الشَّرع.
المسألة الثانية: ما حكم النذر؟
النذر مشروع كما دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ -تَعَالَى-: {يُوفُونَ بِالنَّذر} وَقَالَ: {وَلْيُوفُوا نُذورَهُمْ}؛ فمدح الناذرين مما يدل على مشروعيته.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فعن عَائِشَةُ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِه» (أخرجه البخاري)، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى صِحَّةِ النَّذْرِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلُزُومِ الْوَفَاءِ بِهِ .
النذر مكروه
ومع أن النذر مشروع، إلا أنه مكروه وَلَا يُسْتَحَبُّ؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَوَى عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى عَنْ النَّذرِ، وَأَنَّهُ قَالَ: «لا تنذروا». قال ابن قدامة: وَهَذَا نَهْيُ كَرَاهَةٍ، لَا نَهْيُ تَحْرِيمٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَرَامًا لَمَا مَدَحَ الْمُوفِينَ بِهِ؛ لِأَنَّ ذَنْبَهُمْ فِي ارْتِكَابِ الْمُحَرَّمِ أَشَدُّ مِنْ طَاعَتِهِمْ فِي وَفَائِهِ؛ وَلِأَنَّ النَّذْرَ لَوْ كَانَ مُسْتَحَبًّا، لَفَعَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَفَاضِلُ أَصْحَابِهِ.
المَسْأَلَةٌ الثالثة: ما أنواع النذر؟ وما حكم كل نوع منها؟
ذكر العلماء للنذر أنواعا عديدة منها:
الأول: نَذرُ اللَّجَاجِ وَالْغَضَب.
وَهُوَ الَّذِي يُخْرِجُهُ الناذر مَخْرَجَ الْيَمِينِ، لِيحَثِّ نفسه أو غيره عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ أَوْ الْمَنْعِ مِنْهُ غَيْرَ قَاصِدٍ بِهِ لِلنَّذرِ وَلا الْقُرْبَةِ كأن يقول: إن فعلت كذا فعلي صوم أو حج أو صدقة؛ فَهَذَا حُكْمُهُ حُكْمُ الْيَمِينِ المنعقدة؛ فيخير بين ما التزمه أو كفارة اليمين، ودليل ذلك ما ثبت عن الصحابة الكرام؛ فعن عائشة أنها سئلت عن رجل جعل كل مال له في رتاج الكعبة في شيء كان بينه وبين عمة له، قالت عائشة: «يكفره ما يكفر اليمين».
وقيل لابن عباس: ما تقول في امرأة جعلت بردها عليها هديا إن لبسته؟ فقال ابن عباس: في غضب أم في رضا؟ قالوا: في غضب قال: إن الله لا يتقرب إليه بالغضب، لتكفر عن يمينها، ومثله عن عمر وابن عمر وغيرهم، ووجه الدلالة أن الصحابة سموا نذر اللجاج والغضب (يمينا)؛ لما فيه من معنى اليمين، ثم أوجبوا فيه كفارة اليمين ولم يلزموا الحالف ما التزمه من الحج والصيام والصدقة؛ لأنه لم يلتزمه على وجه القربة، بل كان في الغضب بقصد الحض أو المنع.
الثَّانِي : نَذرُ الطَاعَةٍ وَالتُبَرَّرُ
وَهو أن يلتزم الناذر ما يعد طاعة لله كالصَّلَاة، وَالصِّيَام وَالْحَج وَالْعُمْرَة وَالصَّدَقَة وَالِاعْتِكَاف، سَوَاء نَذَرَهُ مُطْلَقًا بِأَنْ يَقُولَ ابْتِدَاءً: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ شَهْرٍ؛ فَيَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَوْ عَلَّقَهُ بِصِفَةٍ مِثْلَ قَوْلِهِ: إنْ شَفَانِي اللَّهُ مِنْ عِلَّتِي، أَوْ شَفَى فُلَانًا، أَوْ سَلِمَ مَالِي الْغَائِبُ ونحوه؛ فَأجاب الله رجاءه؛ فَهَذَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِه لقَوْلُ النبي صلى الله عليه وسلم : «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ»، وَذَم الَّذِينَ يَنْذُرُونَ وَلَا يُوفُونَ. وذكر ابن قدامة والنووي الإجماع على ذلك.
الثَّالِثُ: نَذرُ الْمَعْصِيَةِ
كأَنْ يَقُولَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنَّ أَشْرَبَ الْخَمْرَ، أَوْ أَقْتُلَ النَّفْسَ الْمُحَرَّمَةَ وَمَا أَشْبَهَهُ ، قال ابن قدامة : فَلا يَحِلُّ الْوَفَاءُ بِهِ إجْمَاعًا؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ[ قَالَ : «مَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ»؛ وَلِأَنَّ مَعْصِيَةَ اللَّهِ -تَعَالَى- لَا تَحِلُّ فِي حَالٍ .
وهل َيَجِبُ عَلَى النَّاذِرِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول : يجب فيه كفارة يمين وَبِهِ قَال الحنفية والحنابلة ومن أدلتهم:
(1) مَا رَوَتْ عَائِشَةُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «لَا نَذرَ فِي مَعْصِيَةٍ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ».
(2) وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الَّتِي نَذَرَتْ ذَبْحَ ابْنِهَا : كَفِّرِي يَمِينَك .
المذهب الثاني: لا كفارة فيه، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَرُوِايَة عَنْ أَحْمَد، ومن أدلتهم :
(1) قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ: «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ الْعَبْد».
(2) وَلِأَنَّهُ نَذْرٌ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ، فَلَمْ يُوجِبْ شَيْئًا ، كَالْيَمِينِ غَيْرِ الْمُنْعَقِدَةِ .
ونوقش هذا الاستدلال بما قاله ابن قدامة: أما أحاديثهم فمعناها لا وفاء بالنذر في معصية الله، وهذا لا خلاف فيه، ولو لم يبين الكفارة في أحاديثهم؛ فقد بينها في أحاديثنا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عين فيه الكفارة، ونهى عن فعل المعصية.أهـ باختصار .
وبهذا يظهر رجحان المذهب الأول لقوة أدلتهم.
الرابع : نذر المباح
وهو نذر ما لم يرد فيه ترغيب من جهة الشارع، كما لو قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَرْكَبَ دَابَّتِي، أَوْ أَسْكُنَ دَارِي، أَوْ أَلْبَسَ أَحْسَنَ ثِيَابِي وَمَا أَشْبَهَهُ، لَمْ يَكُنْ هَذَا نَذْرَ طَاعَةٍ وَلَا مَعْصِيَةٍ؛ فهنا اختلف الفقهاء في انعقاد هذا النذر على مذهبين :
المذهب الأول: ينعقد ويَتَخَيَّرُ النَّاذِرُ بَيْنَ فِعْلِهِ فَيَبَرُّ بِذَلِكَ، أو يكَفَّرَ كَفَّارَةَ يَمِينٍ، وهو مذهب الحنابلة وبعض المالكية، لِمَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ النَّبِيَّ؛ فَقَالَتْ: إنِّي نَذَرْت أَنْ أَضْرِبَ عَلَى رَأْسِك بِالدُّفِّ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «أَوْفِ بِنَذرِك» (رَوَاهُ أَبُو دَاوُد).
المذهب الثاني: لَا يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ ولا يلزمه الوفاء به، وَبه قَالَ الحنفية والمَالِكية وَالشَّافِعِية، ومن أدلتهم قَوْلِ النَّبِيِّ: «لَا نَذرَ إلَّا فِيمَا اُبْتُغِيَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ» (أخرجه أبو داود قال في مجمع الزوائد: فيه عبدالله بن نافع المدني وهو ضعيف)، وبهذا يظهر رجحان المذهب الأول لقوة أدلتهم وسلامتها من المناقشة .
الخامس: النَّذْرُ الْمُبْهَمُ أو المطلق
وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: لِلَّهِ عَلَى نَذرٌ دون أن يبين ما التزمه من أعمال؛ فَهَذَا تَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، لَما روى عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «كَفَّارَةُ النَّذرِ إذَا لَمْ يُسَمِّهِ كَفَّارَةُ الْيَمِين» (أخرجه الترمذي).
ابو وليد البحيرى
2020-03-22, 10:39 PM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (13)
- أحكام فقهية في دعاء زكريا ربه
د.وليد خالد الربيع
قال -تعالى-: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} (آل عمران:38)، أخرج الطبري عن ابن عباس قال: فلما رأى ذلك زكريا - يعني فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف - عند مريم قال: إنّ الذي يأتي بهذا مريمَ في غير زمانه، قادرٌ أن يرزقني ولدًا، قال الله -عز وجل-: {هنالك دعا زكريا ربه} قال: فذلك حين دعا.
قال ابن كثير: لما رأى زكريا -عليه السلام- أن الله -تعالى- يرزق مريم -عليها السلام- فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، طمع حينئذ في الولد، وإن كان شيخا كبيرا قد ضعف ووهن منه العظم، واشتعل رأسه شيبا، وإن كانت امرأته مع ذلك كبيرة وعاقرا، لكنه مع هذا كله سأل ربه وناداه نداء خفيا، وقال: {رب هب لي من لدنك} أي: من عندك ذرية طيبة، أي: ولدا صالحا {إنك سميع الدعاء}. في الآية الكريمة مسائل عديدة منها:
المسألة الأولى
طلب الذرية الصالحة من مقاصد النكاح
لا خلاف بين الفقهاء أن تحصيل النسل من مقاصد عقد النكاح؛ وذلك لما دلت عليه النصوص الكثيرة ومنها هذه الآية الكريمة، قال القرطبي: دلت هذه الآية على طلب الولد، وهي سنة المرسلين والصديقين، قال الله -تعالى-: {ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية}، وعن سعد بن أبي وقاص قال: أراد عثمان أن يتبتل، فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو أجاز له ذلك لاختصينا. (متفق عليه).
الحكمة في منعهم من الاختصاء
قال ابن حجر: والحكمة في منعهم من الاختصاء، إرادة تكثير النسل ليستمر جهاد الكفار، وإلا لو أذن في ذلك لأوشك تواردهم عليه؛ فينقطع النسل؛ فيقل المسلمون بانقطاعه، ويكثر الكفار، فهو خلاف المقصود من البعثة المحمدية، وقال القرطبي: وفي هذا رد على بعض جهال المتصوفة؛ حيث قال: الذي يطلب الولد أحمق، وما عرف أنه هو الغبي الأخرق؛ قال الله -تعالى- مخبرا عن إبراهيم الخليل: {واجعل لي لسان صدق في الآخرين}، نقل القرطبي عن مكي أنه قال: وقيل معناه سؤاله أن يكون من ذريته في آخر الزمان من يقوم بالحق; فأجيبت الدعوة في محمد صلى الله عليه وسلم.
جواز الدعاء بالولد
وقال- تعالى-: {والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين}، قال القرطبي: وفيه جواز الدعاء بالولد، قال البخاري:» باب (طلب الولد) وساق بإسناده عن جابر قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة، فلما قفلنا تعجلت على بعير قطوف، فلحقني راكب من خلفي فالتفت؛ فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما يعجلك؟» قلت: إني حديث عهد بعرس قال: «فبكرا تزوجت أم ثيبا؟» قلت: بل ثيبا قال: «فهلا جارية تلاعبها وتلاعبك»، قال: فلما قدمنا ذهبنا لندخل فقال: «أمهلوا حتى تدخلوا ليلا أي عشاء لكي تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة»، قال البخاري: وحدثني الثقة أنه قال في هذا الحديث الكيس الكيس يا جابر، يعني الولد.
باب طلب الولد
قال ابن حجر: قوله (باب طلب الولد) أي: بالاستكثار من جماع الزوجة، أو المراد الحث على قصد الاستيلاد بالجماع، لا الاقتصار على مجرد اللذة، وليس ذلك في حديث الباب صريحا، لكن البخاري أشار إلى تفسير الكيس، ونقل الحافظ عن عياض أنه قال: فسر البخاري وغيره الكيس بطلب الولد والنسل، وهو صحيح، قال صاحب (الأفعال): كاس الرجل في عمله حذق، وكاس ولد ولدا كيسا، وقال الكسائي: كاس الرجل ولد له ولد كيس اهـ. (فتح الباري9/342)، وترجم البخاري أيضا (باب الدعاء بكثرة الولد مع البركة) وساق حديث أنس بن مالك، قال: قالت أم سليم: يا رسول الله، خادمك أنس ادع الله له، فقال: «اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما أعطيته».
النهي عن زواج العاقر
ونهى عن زواج العاقر، وأمر بزواج الودود الولود، كما أخرج أبو داود عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي أَصَبْتُ امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ وَجَمَالٍ، وَإِنَّهَا لا تَلِدُ أَفَأَتَزَوَّجُ هَا؟ قَالَ: «لا»، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ؛ فَنَهَاهُ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ؛ فَقَالَ: «تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ؛ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الأُمَمَ». (صححه الألباني)، وهذا النهي للكراهة وليس للتحريم، قال المناوي: تزوج غير الولود مكروه تنزيهاً، والأمر للاستحباب قال ابن قدامة: ويستحب أن تكون من نساء يعرفن بكثرة الولادة.
والأخبار في هذا المعنى كثيرة تحث على طلب الولد وتندب إليه: لما يرجوه الإنسان من نفعه في حياته وبعد موته، كما قال صلى الله عليه وسلم:» إذا مات أحدكم انقطع عمله إلا من ثلاث فذكر: أو ولد صالح يدعو له « قال القرطبي:» ولو لم يكن إلا هذا الحديث لكان فيه كفاية.
المسألة الثانية
سؤال الله -تعالى- الهداية للزوجة والولد
لا تكمل نعمة الأزواج والأولاد إلا باهتدائهم واستقامتهم، وإلا كانوا عائقا في طريق الهداية؛ ولهذا فعلى المكلفين سؤال الله- تعالى- الهداية لأسرته، قال القرطبي: فالواجب على الإنسان أن يتضرع إلى خالقه في هداية ولده وزوجه بالتوفيق لهما والهداية والصلاح والعفاف والرعاية، وأن يكونا معينين له على دينه ودنياه حتى تعظم منفعته بهما في أولاه وأخراه، ألا ترى قول زكريا: {واجعله رب رضيا} وقال: {ذرية طيبة}».
سؤال الذرية الطيبة
قال الشيخ ابن عثيمين مبينا فوائد الآية: لا ينبغي للإنسان أن يسأل مطلق الذرية؛ لأن الذرية قد يكونون نكدا وفتنة، وإنما يسأل الذرية الطيبة.
أسباب الذرية الطيبة
وأنه ينبغي للإنسان أن يبذل الأسباب التي تكون بها ذريته طيبة، ومنها الدعاء، وهو من أكبر الأسباب، وقد ذكر الله -تعالى- عن الرجل يبلغ أشده أنه يقول: {وأصلح لي في ذريتي}(الحجر:36)، ولاشك أن صلاح الذرية أمر مطلوب؛ لأن الذرية الصالحة تنفعك في الحياة وفي الممات؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» أخرجه الترمذي والنسائي.
ابو وليد البحيرى
2021-02-14, 11:25 AM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (14)
أحكام فقهية في آية زكريا عليه السلام مع قومه
د.وليد خالد الربيع
قال -تعالى-: {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ}
، (سورة آل عمران:41)، قال الطبري: «يعني بذلك -جل ثناؤه- خبرًا عن زكريا، قال زكريا: ربّ إن كان هذا النداء الذي نُوديتُه، والصوتُ الذي سمعته، صوتَ ملائكتك وبشارةً منك لي، فاجعل لي آية، يقول: علامةً أن ذلك كذلك، ليزول عنِّي ما قد وسوس إليّ الشيطان فألقاه في قلبي، من أنّ ذلك صوتُ غير الملائكة، وبشارةٌ من عند غيرك».
قال الشيخ ابن سعدي: «قوله -تعالى-: {رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً} أي: علامة على وجود الولد قال: {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} أي: ينحبس لسانك عن كلامهم من غير آفة ولا سوء، فلا تقدر إلا على الإشارة والرمز، وهذه آية عظيمة ألا تقدر على الكلام، وفيه مناسبة عجيبة، وهي أنه كما يمنع نفوذ الأسباب مع وجودها، فإنه يوجدها من غير أسبابها ليدل ذلك أن الأسباب كلها مندرجة في قضائه وقدره، فامتنع من الكلام ثلاثة أيام، وأمره الله أن يشكره ويكثر من ذكره بالعشي والإبكار».
من الأحكام الفقهية التي تستفاد من هذه الآية الكريمة حكم (الإشارة) وقيامها مقام الكلام:
المسألة الأولى: ما المراد بالإشارة؟
ورد في الآية الكريمة لفظ (الرمز) ومعناه كما قال الطبري: «وأما (الرّمز) فإنّ الأغلب من معانيه عند العرب: الإيماءُ بالشفتين، وقد يستعمل في الإيماء بالحاجبين والعينين أحيانًا، وذلك غير كثير فيهم»، فالإشارة في الاصطلاح: تعني الحركة الصادرة عن الإنسان سواء باليد أم الرأس أم الشفة.
المسألة الثانية: هل تقوم (الإشارة) في البيان مقام اللسان؟
قال القرطبي: «في هذه الآية دليل على أن الإشارة تنزل منزلة الكلام، وذلك موجود في كثير من السنة».
قال الشيخ ابن عثيمين في فوائد الآية: «إن الإشارة تقوم مقام العبارة؛ لقوله -تعالى-: {أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا}، وهذه الفائدة مبنية على أن الإشارة تقوم مقام العبارة عند العجز عن التعبير، ووجه المأخذ: أن الاستثناء هنا منقطع، فلا يكون كلاما لكنه يقوم مقامه عند العجز، وكلا الأمرين حق؛ فالإشارة تقوم مقام العبارة في الإفهام ولا سيما عند العجز»، وقد ذكر الفقهاء من القواعد الفقهية قاعدة: (الإشارة المعهودة للأخرس كالبيان باللسان)ووضحها الزركشي في المنثور بقوله: «إشَارَةُ الْأَخْرَسِ كَعِبَارَةِ النَّاطِقِ فِي الْعُقُودِ وَالْحُلُولِ وَالدَّعَاوَى وَالْأَقَارِيرِ وَغَيْرِهَا، قَالَ: وَكَانَ السَّبَبُ فِيهِ أَنَّ الْإِشَارَةَ فِيهَا بَيَانٌ، وَلَكِنَّ الشَّارِعَ تُعِيدُ النَّاطِقِينَ بِالْعِبَارَةِ فَإِذَا عَجَزَ الْأَخْرَسُ بِخَرَسِهِ عَنْ الْعِبَارَةِ أَقَامَتْ الشَّرِيعَةُ إشَارَتَهُ مَقَامَ عِبَارَتِهِ»، وذلك مراعاة لحاجته ودفع الضرر عنه؛ إذ لو لم تقبل إشارته لما صحت عباداته، ولا معاملاته؛ فيشق لك عليه, ويتضرر ضررا كبيرا, والشريعة قد جاءت بالتيسير ورفع الحرج.
إشارة الأخرس معتبرة
وعلى هذا فتعتبر إشارة الأخرس في كل تصرفاته ومعاملاته من: نكاح وطلاق وبيع وشراء ورهن وهبة, وإبراء وإقرار ويمين, ونكول ووصية ودعوى ولعان وقذف وإسلام, وغير ذلك من الأحكام, ولكن في الحدود والعقوبات الخالصة لله -تعالى- لا تقبل إشارته؛ بناء على قاعدة (وجوب درء الحدود بالشبهات)؛ فالأخرس لا يُحدُّ ولا يُحد له، واختلفوا في القذف، والإشارة المعتبرة للأخرس هي الإشارات المعهودة المعتادة، فلو لم تكن إشارته معهودة معلومة عند القاضي؛ فعليه الاستفسار ممن يعرف معناها من أصحابه وأقربائه، والإشارة في التعاقد تعني إقامة الحركة مقام النطق في التعبير عن إرادة المتعاقدين، ولها أحوال:
الحالة الأولى: أن تصدر الإشارة من القادر على الكلام:
كأن يقول شخص لآخر: بعتك سيارتي بألف دينار, فيشير الآخر برأسه أو يده بما يدل على قبوله، فهنا اختلف الفقهاء:
- المذهب الأول: إِذَا كَانَ الشَّخْصُ قَادِرًا عَلَى النُّطْقِ لا تُعْتَبَرُ إِشَارَتُهُ. وهو مذهب الجُمْهُورُ, لأن الأصل في التعبيرعن الإرادة والرضا بالعقد يكون بالكلام، ولا يلجأ إلى غير الكلام إلا للضرورة، ولا ضرورة هنا لقدرة العاقد على النطق.
- المذهب الثاني: ينعقد العقد بالإشارة وَلَوْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النُّطْقِ إلا النكاح. وهو مذهب المَالِكِيَّةِ؛ لأن المقصود هو التعبير عن الإرادة بما يدل عليها, وهو يحصل بالإشارة.
كما أن الله -تعالى- سمى الإشارة كلاما في قوله -تعالى-: {آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا}.
الحالة الثانية: أن تصدر الإشارة من غير القادر على النطق:
كالأخرس أو الناطق الذي عرض له الخرس, ولا يقدر على الكتابة.
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ إِشَارَةَ الأَخْرَسِ الْمَعْهُودَةَ وَالْمَفْهُومَة َ مُعْتَبَرَةٌ شَرْعًا، فَيَنْعَقِدُ بِهَا جَمِيعُ الْعُقُودِ؛ لأنها الوسيلة الوحيدة للتعبير عن الإرادة وبها تتحقق مصالحه.
الحالة الثالثة: أن تصدر الإشارة من غير القادر على النطق لكنه يحسن الكتابة؛ فهنا اختلف الفقهاء:
- المذهب الأول: لا ينعقد عقده بالإشارة، وهو رواية عند الحنفية.
لأنه عند العجز عن النطق يصار إلى الكتابة؛ لأنه يعرفها كل من يقرأ بخلاف الإشارة فكانت دلالتها أقوى فتقدم عليها.
- المذهب الثاني: ينعقد عقده بإشارة المفهومة، وهو مذهب الجمهور.
لأنه عند العجز عن النطق ينتقل إلى ما يقوم مقامه من الإشارة أو الكتابة، وهما في ذلك سواء.
وقد دلت السنة على أن الإشارة تقوم مقام النطق باللسان ولو من القادر على الكلام.
ففي كتاب العلم من صحيح البخاري: باب (من أجاب الفتيا بإشارة اليد والرأس) وذكر بسنده عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل في حجته فقال: ذبحت قبل أن أرمي. فأومأ بيده قال ولا حرج. قال: حلقت قبل أن أذبح, فأومأ بيده ولا حرج.
وفي كتاب الطلاق قال البخاري: (باب الإشارة في الطلاق والأمور) أي: الحكمية وغيرها, وقال ابن عمر: قال النبي -صلى الله عليه وسلم -: «لا يعذب الله بدمع العين, ولكن يعذب بهذا» فأشار إلى لسانه. وقال كعب بن مالك: «أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إليّ أي: خذ النصف». وقالت أسماء: «صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في الكسوف؛ فقلت لعائشة: ما شأن الناس وهي تصلي؟ فأومأت برأسها إلى الشمس فقلت: آية؟ فأومأت برأسها أن نعم». وقال أنس: «أومأ النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده إلى أبي بكر أن يتقدم. وقال ابن عباس: «أومأ النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده لا حرج. وقال أبو قتادة: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصيد للمحرم: «آحد منكم أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها؟ قالوا: لا. قال: «فكلوا».
قال ابن حجر معلقا على هذه الترجمة الطويلة من البخاري: «قَالَ ابن بَطَّالٍ: ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْإِشَارَةَ إِذَا كَانَتْ مُفْهِمَةً تَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ النُّطْقِ، وَخَالَفَهُ الْحَنَفِيَّةُ فِي بَعْضِ ذَلِكَ، وَلَعَلَّ الْبُخَارِيَّ رَدَّ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي جَعَلَ فِيهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْإِشَارَةَ قَائِمَةً مَقَامَ النُّطْقِ، وَإِذَا جَازَتِ الْإِشَارَةُ فِي أَحْكَامٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي الدِّيَانَةِ فَهِيَ لِمَنْ لَا يُمْكِنُهُ النُّطْقُ أَجَوْزُ.
وَقَالَ ابن الْمُنِيرِ أَرَادَ الْبُخَارِيُّ أَنَّ الْإِشَارَةَ بِالطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَخْرَسِ وَغَيْرِهِ الَّتِي يُفْهَمُ مِنْهَا الْأَصْلُ وَالْعدَد نَافِذ كَاللَّفْظِ».
ابو وليد البحيرى
2021-02-14, 11:30 AM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (15)
الأحكام الفقهية في كفالة مريم -عليها السلام
د.وليد خالد الربيع
قال -تعالى-:{ذَلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} (سورة آل عمران: 44)، قال الشيخ ابن سعدي: «ولما أخبر الله نبيه بما أخبر به عن مريم، وكيف تنقلت بها الأحوال التي قيضها الله لها، وكان هذا من الأمور الغيبية التي لا تعلم إلا بالوحي. قال: {ذَلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ} أي: عندهم {ِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} لما ذهبت بها أمها إلى من لهم الأمر على بيت المقدس، فتشاحوا وتخاصموا أيهم يكفل مريم؟ واقترعوا عليها بأن ألقوا أقلامهم في النهر، فأيهم لم يجر قلمه مع الماء فله كفالتها، فوقع ذلك لزكريا نبيهم وأفضلهم، فلما أَخْبَرتَهُم يا محمد بهذه الأخبار التي لا علم لك ولا لقومك بها دل على أنك صادق, وأنك رسول الله حقا؛ فوجب عليهم الانقياد لك وامتثال أوامرك».
من الأحكام الفقهية التي تؤخذ من الآية الكريمة مشروعية القرعة لتمييز الحقوق إذا تساوت جهات الاستحقاق كما سيأتي:
المسألة الأولى: تعريف القرعة
القرعة في اللغة بضم القاف: السهم والنصيب، وهي اسم مصدر بمعنى الاقتراع, وهو الاختيار بإلقاء السهام ونحو ذلك، ولا يبعد التعريف الاصطلاحي عن التعريف اللغوي؛ فهي استهام يتعين به نصيب الإنسان، قال البخاري في صحيحه في كتاب الأذان: (باب الاستهام في الأذان) قال ابن حجر نقلا عن الخطابي وغيره: «قيل له: الاستهام لأنهم كانوا يكتبون أسماءهم على سهام إذا اختلفوا في الشيء، فمن خرج سهمه غلب».
المسألة الثانية: مشروعية القرعة
دلت النصوص الشرعية من القرآن الكريم والسنة المطهرة والآثار على أن القرعة مشروعة، فمن الكتاب الكريم قوله -تعالى-: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ}، قال القرطبي: «استدل بعض علمائنا بهذه الآية على إثبات القرعة، وهي أصل في شرعنا لكل من أراد العدل في القسمة، وهي سنة عند جمهور الفقهاء في المستويين في الحجة ليعدل بينهم وتطمئن قلوبهم وترتفع الظنة عمن يتولى قسمتهم، ولا يفضل أحد منهم على صاحبه إذا كان المقسوم من جنس واحد اتباعا للكتاب والسنة»، وقال -سبحانه-:{وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ. فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} (سورة الصافات:139-141).
قال ابن كثير: «{فساهم} أي: قارع؛ {فكان من المدحضين} أي: المغلوبين، وذلك أن السفينة تلاعبت بها الأمواج من كل جانب، وأشرفوا على الغرق، فساهموا على من تقع عليه القرعة يلقى في البحر لتخف بهم السفينة؛ فوقعت القرعة على نبي الله يونس -عليه الصلاة والسلام- ثلاث مرات، وهم يضنون به أن يلقى من بينهم، فتجرد من ثيابه ليلقي نفسه وهم يأبون عليه ذلك»، قال ابن القيم: «فهذان نبيان كريمان استعملا القرعة، وقد احتج الأئمة الأربعة بشرع من قبلنا إن صح ذلك عنهم».
الاستهام على الصف الأول
ومن السنة المطهرة ما أخرجه الشيخان عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا» .
قال النووي: «الاستهام: الِاقْتِرَاعُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لَوْ عَلِمُوا فَضِيلَةَ الْأَذَانِ وَقَدْرَهَا وَعَظِيمَ جَزَائِهِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا طَرِيقًا يُحَصِّلُونَهُ بِهِ لِضِيقِ الْوَقْتِ عَنْ أَذَانٍ بَعْدَ أَذَانٍ أَوْ لِكَوْنِهِ لَا يُؤَذِّنُ لِلْمَسْجِدِ إِلَّا وَاحِدٌ لَاقْتَرَعُوا فِي تَحْصِيلِهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ مِنَ الْفَضِيلَةِ نَحْوَ مَا سَبَقَ وَجَاءُوا إِلَيْهِ دَفْعَةً وَاحِدَةً وَضَاقَ عَنْهُمْ ثُمَّ لَمْ يَسْمَحْ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ بِهِ لَاقْتَرَعُوا عَلَيْهِ. وَفِيهِ إِثْبَاتُ الْقُرْعَةِ فِي الْحُقُوقِ الَّتِي يُزْدَحَمُ عَلَيْهَا وَيُتَنَازَعُ فِيهَا».
القرعة بين النساء
وفي الصحيحين عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِه ِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ»، قال النووي: «هَذَا دَلِيلٌ لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَجَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ فِي الْعَمَلِ بِالْقُرْعَةِ فِي الْقَسْمِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ وَفِي الْعِتْقِ وَالْوَصَايَا وَالْقِسْمَةِ ونحو ذلك، وَقَدْ جَاءَتْ فِيهَا أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي الصَّحِيحِ مَشْهُورَةٌ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: «عَمِلَ بِهَا ثَلَاثَةٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ -صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ- أَجْمَعِينَ يُونُسُ وَزَكَرِيَّا وَمُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم -». قال ابن الْمُنْذِرِ: «اسْتِعْمَالُهَ ا كَالْإِجْمَاعِ» ، قَالَ: «وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ رَدَّهَا».
السهم في اليمين
وأخرج البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَرَضَ عَلَى قَوْمٍ الْيَمِينَ فَأَسْرَعُوا فَأَمَرَ أَنْ يُسْهَمَ بَيْنَهُمْ فِي الْيَمِينِ أَيُّهُمْ يَحْلِفُ، قال ابن حجر نقلا عن الخطابي وغيره: «الْمَعْنَى إِذَا تَوَجَّهَتِ الْيَمِينُ عَلَى اثْنَيْنِ وَأَرَادَا الْحَلِفَ سَوَاءٌ كَانَا كَارِهَيْنِ لِذَلِكَ بِقَلْبِهِمَا وَهُوَ مَعْنَى الْإِكْرَاهِ، أَوْ مُخْتَارَيْنِ لِذَلِكَ بِقَلْبِهِمَا وَهُوَ مَعْنَى الِاسْتِحْبَابِ , وَتَنَازَعَا أَيُّهُمَا يَبْدَأُ؟ فَلَا يُقَدَّمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِالتَّشَهِّي بَلْ بِالْقُرْعَةِ». قال البخاري: «ويذكر أن قوما اختلفوا في الأذان فأقرع بينهم سعد».
قال ابن حجر: «خْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَالْبَيْهَقِيّ ُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ كِلَاهُمَا عَنْ هُشَيْمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شُبْرُمَةَ قَالَ: تَشَاحَّ النَّاسُ فِي الْأَذَانِ بِالْقَادِسِيَّ ةِ؛ فَاخْتَصَمُوا إِلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ. وَهَذَا مُنْقَطِعٌ وَقَدْ وَصَلَهُ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ فِي الْفُتُوحِ وَالطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ عَنْهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شُبْرُمَةَ عَنْ شَقِيقٍ وَهُوَ أَبُو وَائِلٍ, قَالَ: افْتَتَحْنَا الْقَادِسِيَّةَ صَدْرَ النَّهَارِ؛ فَتَرَاجَعْنَا وَقَدْ أُصِيبَ الْمُؤَذِّنُ, فَذَكَرَهُ وَزَادَ فَخَرَجَتِ الْقُرْعَةُ لِرَجُلٍ مِنْهُمْ فَأَذَّنَ».
المسألة الثالثة: شرط صحة القرعة
يشترط لاستعمال القرعة أن تكون الحقوق والمصالح متساوية الأطراف، قال الشافعي: «فلا تكون القرعة إلا بين قوم مستويين في الحجة»، وقال القرافي: «اعلم أنه متى تعينت المصلحة أو الحق في جهة فلا يجوز الإقراع بينه وبين غيره؛ لأن في القرعة ضياع ذلك الحق المتعين أو المصلحة المعينة، ومتى تساوت الحقوق أو المصالح؛ فهذا موضع القرعة عند التنازع».
المسألة الرابعة: مواضع الحكم بالقرعة
ذكر الفقهاء أمثلة لمواضع استعمال القرعة, فمن ذلك: «تَمْيِيزِ الْمُسْتَحِقِّ إذَا ثَبَتَ الِاسْتِحْقَاقُ ابْتِدَاءً لِمُبْهَمٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ عِنْدَ تُسَاوِي الْمُسْتَحَقِّي نَ, كَاجْتِمَاعِ الْأَوْلِيَاءِ فِي النِّكَاحِ وَالْوَرَثَةِ فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ، وَغُسْلِ الْمَيِّتِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَفِي الْحَاضِنَاتِ إذَا كُنَّ فِي دَرَجَةٍ واحدة، وَكَذَا فِي ابْتِدَاءِ الْقَسْمِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ لِاسْتِوَائِهِم َا فِي الْحَقِّ؛ فَوَجَبَتْ الْقُرْعَةُ؛ لِأَنَّهَا مُرَجَّحَةٌ.
وأيضا فِي حُقُوقِ الِاخْتِصَاصَات ِ: كَالتَّزَاحُمِ عَلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ، وَفِي إحْيَاءِ الْمَوَاتِ، وَنِيلِ الْمَعْدِنِ وَمَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ الَّتِي يُبَاعُ فِيهَا، وَلَا مَدْخَلَ لَهَا فِي الْأَبْضَاعِ وعقد النكاح، وَلَا فِي تَعْيِينِ الْوَاجِبِ الْمُبْهَمِ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَنَحْوِهَا ابْتِدَاءً، وَلَا فِي لِحَاقِ النَّسَبِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ.
وَالْقُرْعَةُ تَدْخُلُ فِي تَمْيِيزِ الْأَمْلَاكِ, كالإقراع بين الشركاء عند تعديل السهام في القسمة, كما جاء في حديث أم سلمة قالت: «جاء رجلان يختصمان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مواريث بينهما قد درست ليس بينهما بينة...» الحديث وفي آخره -قال صلى الله عليه وسلم -: «إذ قلتما فاذهبا فاقتسما ثم توخيا الحق ثم استهما، ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه».
ابو وليد البحيرى
2021-02-14, 11:34 AM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (16)
الأحكام الفقهية من ميثاق الله لبني إسرائيل
د.وليد خالد الربيع
قال الله -تعالى-:{ وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوه ُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّ كُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} (سورة المائدة:12).
قال ابن كثير: «لما أمر الله -تعالى- عباده المؤمنين بالوفاء بعهده وميثاقه، الذي أخذه عليهم على لسان عبده ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأمرهم بالقيام بالحق والشهادة بالعدل، وذكرهم نعمه عليهم الظاهرة والباطنة، فيما هداهم له من الحق والهدى، شرع يبين لهم كيف أخذ العهود والمواثيق على من كان قبلهم من أهل الكتابين: اليهود والنصارى؛ فلما نقضوا عهوده ومواثيقه أعقبهم ذلك لعنا منه لهم، وطردا عن بابه وجنابه، وحجابا لقلوبهم عن الوصول إلى الهدى ودين الحق، وهو العلم النافع والعمل الصالح».
وقد دلت هذه الآية الكريمة على مسائل فقهية منها:
- المسألة الأولى: مشروعية وجود ممثلين للناس يأخذون عليهم العهود ويبلغونهم التكاليف:
قال -تعالى-: {وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا}، قال ابن كثير: «يعني: عرفاء على قبائلهم بالمبايعة والسمع، والطاعة لله ولرسوله ولكتابه، وقد ذكر ابن عباس ومحمد بن إسحاق وغير واحد أن هذا كان لما توجه موسى عليه السلام، لقتال الجبابرة، فأمر بأن يقيم النقباء من كل سبط نقيبا»، قال الشيخ ابن عثيمين: «ينبغي للناس أن يتخذوا نقباء يرجعون إليهم في أمورهم، عند النزاع يكونون مصلحين، وعند الإشكال يكونون موضحين وما أشبه ذلك».
معنى النقيب
وقد اختلف العلماء في معنى النقيب، فذهب بعضهم إلى أنه بمعنى الأمين، وقال بعضهم: إنه بمعنى الكفيل، وذهب آخرون إلى أنه بمعنى الشاهد، قال الراغب: «النَّقِيبُ: الباحثُ عن القوم وعن أحوالهم، وجمْعه: نُقَبَاءُ».
قال الطبري: «يعني: وبعثنا منهم اثني عشر كفيلا كفلوا عليهم بالوفاء لله بما واثقوه عليه من العهود فيما أمرهم به وفيما نهاهم عنه. و«النقيب» في كلام العرب، كالعَرِيف على القوم، غير أنه فوق «العريف».
وكان بعض أهل العلم بالعربية يقول: هو الأمين الضامن على القوم. كما قال الربيع: «النقباء» الأمناء.
وذهب القرطبي -بعد ذكر الاختلاف- إلى أن النقيب كبير القوم، القائم بأمورهم الذي ينقب عنها وعن مصالحهم فيها.
والنقّاب: الرجل العظيم الذي هو في الناس على هذه الطريقة, ومنه قيل في عمر -رضي الله عنه-: إنه كان لنقابا.
فالنقباء الضمّان، واحدهم نقيب، وهو شاهد القوم وضمينهم، وإنما قيل: نقيب؛ لأنه يعلم دخيلة أمر القوم، ويعرف مناقبهم وهو الطريق إلى معرفة أمورهم.
والنقباء في الآية كما قال قتادة - رحمه الله - وغيره: هؤلاء النقباء قوم كبار من كل سبط، تكفل كل واحد بسبطه بأن يؤمنوا ويتقوا الله؛ ونحو هذا كان النقباء ليلة العقبة؛ بايع فيها سبعون رجلا وامرأتان. فاختار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من السبعين اثني عشر رجلا، وسماهم النقباء اقتداء بموسى - صلى الله عليه وسلم -».
فقد أخرج الإمام أحمد وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما بايع الأنصار في العقبة قال: «أخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيبا يكونون على قومهم بما فيهم»، وأخرج البخاري أن وفد هوازن جاؤوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مسلمين، وطلبوا منه أن يرجع أموالهم وسبيهم، فاستأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس في ذلك فأشاروا بالرضا، فلم يكتف بذلك وقال: «إنا لا ندري من أذن منكم ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم».
القائم بأمر طائفة من الناس
قال ابن حجر مبينا معنى العريف: «وهو القائم بأمر طائفة من الناس، مِنْ عَرَفْتُ بِالضَّمِّ وَبِالْفَتْحِ عَلَى الْقَوْمِ أَعْرُفُ بِالضَّمِّ فَأَنَا عَارِفٌ وَعَرِيفٌ أَيْ: وُلِّيتُ أَمْرَ سِيَاسَتِهِمْ وَحِفْظَ أُمُورِهِمْ، وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِ يَتَعَرَّفُ أُمُورَهُمْ حَتَّى يُعَرِّفَ بِهَا مَنْ فَوْقَهُ عِنْدَ الِاحْتِيَاجِ».
قال ابن بَطَّالٍ: «فِي الْحَدِيثِ مَشْرُوعِيَّةُ إِقَامَةِ الْعُرَفَاءِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُبَاشِرَ جَمِيعَ الْأُمُورِ بِنَفْسِهِ فَيَحْتَاجَ إِلَى إِقَامَةِ مَنْ يُعَاوِنُهُ لِيَكْفِيَهُ مَا يُقِيمُهُ فِيهِ»، قَالَ: «وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ إِذَا تَوَجَّهَ إِلَى الْجَمِيعِ يَقَعُ التَّوَكُّلُ فِيهِ مِنْ بَعْضِهِمْ فَرُبَّمَا وَقَعَ التَّفْرِيطُ فَإِذَا أَقَامَ عَلَى كُلِّ قَوْمٍ عَرِيفًا لَمْ يَسَعْ كُلَّ أَحَدٍ الا الْقيام بِمَا أَمر بِهِ»، وقال ابن حجر مبينا حكمة مشروعية نصب العرفاء أن: «الْمَصْلَحَةَ تَقْتَضِيهِ لِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْأَمِيرُ مِنَ الْمُعَاوَنَةِ عَلَى مَا يَتَعَاطَاهُ بِنَفْسِهِ، وَيَكْفِي فِي الِاسْتِدْلَالِ لِذَلِكَ وُجُودُهُمْ فِي الْعَهْدِ النَّبَوِيِّ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْبَاب.
هل ذم النبي - صلى الله عليه وسلم - العرفاء؟
فإن قيل فقد ورد الذم للعرفاء وذلك فيما رواه أبو هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ويل للأمراء، ويل للعرفاء، ويل للأمناء، ليتمنين أقوام يوم القيامة أن نواصيهم معلقة بالثريا، يتجلجلون بين السماء والأرض، وأنهم لم يلوا عملا». أخرجه الإمام أحمد، وروي عنه أنه قال: «إن العرافة حق، ولابد للناس من عرفاء، ولكن العرفاء في النار». أخرجه أبو داود.
فالجواب: بأن الحديثين ضعيفان كما قرر ذلك الشيخ الألباني في تحقيق مشكاة المصابيح، وعلى فرض ثبوتهما فالمقصود بهما وأمثالهما الترهيب من خطورة الولاية لمن لم يكن أهلا لها أو قصر في حقوقها، كما قال القاضي البيضاوي: «والمعنى: أن هذه الأمور -وإن كانت مهمة- لا ينتظم صلاح الناس، ولا يتم معاشهم دونها؛ ولذلك قال في الحديث: «إن العرافة حق»؛ أي أمر ينبغي أن يكون لكنها خطر، والقيام بحقوقها عسير، فلا ينبغي للعاقل أن يقتحم عليها، ويميل بطبعه إليها، فإن من زلت قدمه فيها عن متن الصواب قد يندفع إلى فتن تودي به إلى عذاب يؤثر عليه أن تكون نواصيه معلقة بالثريا، ويتمنى أن يكون حاله كذلك ولم يل ما تولاه من عمله الذي أفضى به إلى هذا العذاب، وهو المراد بقوله في الحديث الآخر: «ولكن العرفاء في النار» لا كل عريف، فإن من قام بها حق القيام، وتجنب فيها عن الظلم والحيف استحق الثواب، وصار ذا حظ القيام مما وعد به ذو سلطان عادل، ولكن لما كان الغالب عليهم خلاف ذلك، أجرى الغالب مجرى الكل وأتى بصيغة العموم».
التحذير من التعرض للرئاسة
وقال البغوي: «قوله: «العرفاء في النار» معناه: التحذير من التعرض للرئاسة، والتأمر على الناس، لما فيه من الفتنة، وأنه إذا لم يقم بحقه، ولم يؤد الأمانة فيها أثم، واستحق العقوبة والنار».
وقال ابن حجر مبينا وجه الجمع بين الأدلة المتعارضة في ظاهرها: «الْخَبَرَ الْوَارِدَ فِي ذَمِّ الْعُرَفَاءِ لَا يَمْنَع إِقَامَةَ الْعُرَفَاءِ؛ لِأَنَّهُ مَحْمُولٌ إِنْ ثَبَتَ عَلَى أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى الْعُرَفَاءِ الِاسْتِطَالَةُ وَمُجَاوَزَةُ الْحَدِّ وَتَرْكُ الْإِنْصَافِ الْمُفْضِي إِلَى الْوُقُوعِ فِي الْمَعْصِيَةِ».
ابو وليد البحيرى
2021-02-21, 10:06 AM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (17)
الأحكام الفقهية من ميثاق الله لبني إسرائيل
د.وليد خالد الربيع
لا نزال مع المسائل الفقهية المستفادة من قوله -تعالى-: { وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوه ُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّ كُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} (المائدة:12)
وقد ذكرنا في مقدمة المقال السابق قول ابن كثير في الآية وهو: «لما أمر الله -تعالى- عباده المؤمنين بالوفاء بعهده وميثاقه، الذي أخذه عليهم على لسان عبده ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأمرهم بالقيام بالحق والشهادة بالعدل، وذكرهم نعمه عليهم الظاهرة والباطنة، فيما هداهم له من الحق والهدى، شرع يبين لهم كيف أخذ العهود والمواثيق على من كان قبلهم من أهل الكتابين: (اليهود والنصارى)؛ فلما نقضوا عهوده ومواثيقه أعقبهم ذلك لعنا منه لهم، وطردا عن بابه وجنابه، وحجابا لقلوبهم عن الوصول إلى الهدى ودين الحق، وهو العلم النافع والعمل الصالح»، وذكرنا الآية الكريمة التي دلت على مسائل فقهية، ذكرنا منها المسألة الأولى وهي مشروعية وجود ممثلين للناس يأخذون عليهم العهود، ويبلغونهم التكاليف، واليوم مع المسألة الثانية وهي: قبول خَبَرِ الْوَاحِدِ فِيمَا يَفْتَقِرُ إلَيْهِ الْمَرْءُ وَيَحْتَاجُ إلَى اطِّلَاعِهِ مِنْ حَاجَاتِهِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيّ َةِ، فَيُرَكِّبُ عَلَيْهِ الْأَحْكَامَ، وَيَرْبِطُ بِهِ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ».
خبر الآحاد
وخبر الآحاد هو الحديث الذي لم يصل إلى حد التواتر، ومنه مقبول ومردود، وقد اختلف الناس في مدى الاحتجاج بخبر الآحاد الثابت في العقيدة والأعمال وذلك على النحو التالي:
- المذهب الأول: من رد أخبار الآحاد مطلقا في الاعتقاد والعمل، وهو قول أهل البدع كما ذكره النووي وشيخ الإسلام.
- المذهب الثاني: من رد خبر الآحاد في العقيدة وهو قول المتكلمين.
- المذهب الثالث: من رد خبر الآحاد لمخالفته القياس وهو قول بعض الحنفية.
- المذهب الرابع: من رد خبر الآحاد فيما تعم به البلوى وهو قول أكثر الحنفية.
- المذهب الخامس: من رد خبر الآحاد إذا خالف الراوي ما روى وهو مذهب الحنفية.
- المذهب السادس: من رد خبر الآحاد إذا خالف عمل أهل المدينة وهو مذهب المالكية.
- المذهب السابع: من رد خبر الآحاد في الحدود وهو قول بعض الحنفية.
- المذهب السابع: من رد خبر الآحاد إذا تضمن حكما زائدا على النص القرآني وهو قول الحنفية.
- المذهب الثامن: قبول خبر الآحاد الثابت مطلقا في الاعتقاد والعمل، وهو قول عامة العلماء.
قال النووي: «والذي عليه جماهير المسلمين من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من المحدثين والفقهاء وأصحاب الأصول: أن خبر الواحد الثقة حجة من حجج الشرع يجب العمل بها».
كتاب خبر الآحاد
وقد عقد البخاري في جامعه كتابا عنوانه: (كتاب خبر الآحاد) وعقد في أوله (باب: ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الأذان والصلاة والصوم والفرائض والأحكام)، قال ابن حجر: «والمراد (بالإجازة): جواز العمل به والقول بأنه حجة»، وبين أن مراد البخاري هو: «الرد به على من يقول: إن الخبر لا يحتج به إلا إذا رواه أكثر من شخص واحد حتى يصير كالشهادة».
وقد ناقش الشافعي هذه المسألة في كتابه (الرسالة) في (باب خبر الواحد) واستغرق أكثر من مائة صفحة، وهو قول كثير من العلماء كمالك ومسلم وابن حزم وابن الصلاح وابن كثير والاسفراييني وابن حجر وابن تيمية وابن القيم والسخاوي وخلق كثير.
اعتقاد خطأ
وقد أخطأ من ادعى أن أحاديث الآحاد لا تفيد عقيدة، ولا يصح الاعتماد عليها في شأن المغيبات، وزعم أنه قول مجمع عليه وثابت بحكم الضرورة العقلية التي لا مجال للخلاف فيها عند العقلاء.
وقد أجاب عن هذا ابن القيم بقوله: «فهذا الذي اعتمده نفاة العلم عن أخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرقوا به إجماع الصحابة المعلوم من الدين بالضرورة، وإجماع التابعين، وإجماع أتباع التابعين، وإجماع أئمة الإسلام، ووافقوا المعتزلة والجهمية والخوارج الذين انتهكوا هذه الحرمة، وتبعوا بعض الأصوليين».
أدلة الجمهور
وقد استدل الجمهور بأدلة كثيرة منها:
خبر الصادق مقبول
1- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}، قال ابن سعدي: «فيه دليل على أن خبر الصادق مقبول، وخبر الكاذب مردود، وخبر الفاسق متوقف فيه»، وقال ابن حجر: «يؤخذ من مفهومي الشرط والصفة، فإنهما يقتضيان قبول خبر الواحد».
الطائفة تطلق على الواحد
2- قوله سبحانه: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُو ا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}. فالله -تعالى- أخبر أن الإنذار يحصل بالطائفة، والطائفة تطلق على الواحد فما فوقه، مما يدل على أن خبر الواحد يحصل به العلم والإنذار، وقد احتج البخاري بهذه الآية في صحيحه على الأخذ بخبر الآحاد، قال ابن حجر: «وهذا مصير منه إلى أن لفظ «طائفة» يتناول الواحد فما فوقه ولا يختص بعدد معين، وهو منقول عن ابن عباس وغيره كالنخعي ومجاهد».
وقال القرطبي: «الطائفة في اللغة الجماعة، وقد تقع على أقل من ذلك حتى تبلغ الرجلين»،ثم نقل عن ابن العربي وغيره أنهم يرون أن الطائفة هاهنا واحد ويعتضدون فيه بالدليل على وجوب العمل بخبر الواحد، وهو صحيح».
قبول الرسول - صلى الله عليه وسلم - خبر الواحد
3- قبول الرسول- صلى الله عليه وسلم - خبر الواحد، فمن ذلك ما رواه البخاري عن عبد الله قال: صلى بنا النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر خمسا؛ فقيل أزيد في الصلاة؟ قال: وما ذاك؟ قالوا: صليت خمسا؛ فسجد سجدتين بعدما سلم». فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قبل خبر من أخبره بأنه زاد في صلاته ركعة وكان واحدا.
اعتماد النبي - صلى الله عليه وسلم - على الواحد في التبليغ
4- اعتماده - صلى الله عليه وسلم - على الواحد في التبليغ، كما قال البخاري: (باب ما كان يبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأمراء والرسل واحدا بعد واحد)، قال ابن حجر: «وهو استدلال قوي لثبوت خبر الواحد من فعله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن خبر الواحد لو لم يكف قبوله ما كان في إرساله معنى»، فبعث أبا عبيدة لأهل نجران، وبعث عليا وأبا موسى ومعاذا لأهل اليمن، وقال مالك بن الحويرث: أتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن شببة متقاربون، فأقمنا عنده عشرين ليلة...الحديث وفيه قوله لهم: «وصلوا كما رأيتموني أصلي، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم».
قبول الصحابة لخبر الواحد
5- أن الصحابة كانوا يقبلون خبر الواحد في العقيدة والعمل، قال ابن حجر: «وقد شاع فاشيا عمل الصحابة والتابعين بخبر الواحد من غير نكير؛ فاقتضى الاتفاق منهم على القبول»، فقد تحول الصحابة في مسجد قباء وهم في الصلاة إلى جهة الكعبة بخبر واحد شهد أنه صلى مع رسول الله جهة الكعبة، وأمر أبو طلحة أنسا أن يكسر جرار الخمر لما سمع رجلا يقول: إن الخمر قد حرمت، وكان عمر يتناوب مع جاره الأنصاري في الحضور عند رسول الله ثم يحدث كل منهما الآخر بما سمع من رسول الله في العقيدة والعمل.
تبليغ الشريعة واجب
6- أن تبليغ الشريعة واجب، وهو متعذر بالتواتر، مما يدل على أن خبر الواحد كاف في حصول العلم ووجوب العمل به، قال ابن حجر: «واحتج بعض الأئمة بقوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} مع أنه كان رسولا إلى الناس كافة ويجب عليه تبليغهم، فلو كان خبر الواحد غير مقبول لتعذر إبلاغ الشريعة إلى الكل ضرورة لتعذر خطاب جميع الناس شفاها، وكذا تعذر إرسال عدد التواتر إليهم».
آثار خطيرة
7- أن عدم قبول خبر الآحاد في العقيدة له آثار خطيرة، منها: إنكار جملة من العقائد، مثل إنكار نبوة الأنبياء الذين لم يذكروا في القرآن، والشفاعة العظمى للنبي- صلى الله عليه وسلم - في المحشر، وسؤال الملكين في القبر وعذاب القبر، وما يكون يوم القيامة من نصب الميزان والصراط وحوض النبي، ودخول سبعين ألفا الجنة بغير حساب، وأن أهل الكبائر لا يخلدون في النار، وغيرها مما ورد بأحاديث الآحاد الثابتة، قال الشافعي: «ليس لك أن تشك في أحاديث الرسول التي رواها الثقات العدول؛ فهذه الأحاديث أصل الدين، والدين محفوظ إلى نهاية الزمان».
ابو وليد البحيرى
2021-02-21, 10:09 AM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (18)
الأحكام الفقهية من ميثاق الله لبني إسرائيل
د.وليد خالد الربيع
لا نزال مع المسائل الفقهية المستفادة من قوله -تعالى-: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا}.
فقد نقل الطبري عن مجاهد والسدي وغيرهما، أن من مقاصد بعثة النقباء المذكور في الآية الكريمة هو التجسس على الأعداء؛ فقال: «وإنما كان الله -عز ذكره- أمر موسى نبيّه - صلى الله عليه وسلم - ببعثة النقباء الاثني عشر من قومه (بني إسرائيل) إلى أرض الجبابرة بالشأم، ليتحسَّسوا لموسى أخبارَهم؛ إذْ أراد هلاكهم، وأن يورِّث أرضَهم وديارَهم موسى وقومَه، وأن يجعلها مساكن لبني إسرائيل بعد ما أنجاهم من فرعون وقومه، وأخرجهم من أرض مصر، فبعث مُوسى الذين أمَره الله ببعثهم إليها من النقباء».
وذكر القرطبي أن من المسائل الفقهية المستفادة من الآية الكريمة، أن فيها دليلا على اتخاذ الجاسوس.
المسألة الثالثة حكم التجسس
أولاً: تعريف التجسس:
- التجسس في اللغة: مصدر الفعل تجسس، وهو تتبع الأخبار، ومادة (جسس) تدل على تعرف الشيء بمس لطيف، قال الراغب: «أصل الجس: مسّ العِـرق وتعرف نبضه للحكم به على الصحة والسقم، وهو أخص من الحَسّ تعرف ما يدركه الحس» أهـ ومنه اشتق الجاسوس؛ لأنه يتخبر ما يريد بخفاء ولطف.
التجسس في الاصطلاح:
قال ابن الأثير: هو التفتيش عن بواطن الأمور، وأكثر ما يقال في الشر.
وقال الكفوي: التجسس هو السؤال عن العورات من غيره.
ثانياً: حكم التجسس:
دلت النصوص الشرعية على أن التجسس نوعان؛ من حيث الجملة:
النوع الأول: التجسس المشروع:
1- التجسس على الحربيين لمعرفة عددهم وعُددهم وغير ذلك مشروع، قال ابن حجر في حديث صلح الحديبية: «وفيه استحباب تقديم الطلائع والعيون بين يدي الجيش، والأخذ بالحزم في أمر العدو لئلا ينالوا غرة بالمسلمين».
وقد استعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - التجسس على الكفار مرات عديدة، وممن بعثه للتجسس حذيفة ونعيم بن مسعود وعبدالله بن أنيس وغيرهم.
2- تجسس ولي الأمر على المسلمين لدرء مفاسد تضرر بالأفراد أو المجتمع:
الأصل أن التجسس على المسلمين محرم لقوله تعالى: {ولا تجسسوا}، ويتأكد هذا في حق ولي الأمر لما أخرج أبو داود عن معاوية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنك إن اتبعت عورات المسلمين أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم «قال أبو الدرداء: كلمة سمعها معاوية من رسول الله نفعه الله بها.
قال الشراح: «معنى الحديث: أي إذا بحثت عن معائبهم وجاهرتهم بذلك، فإنه يؤدي إلى قلة حيائهم عنك فيجترئون على ارتكاب أمثالها مجاهرة».
وأخرج أيضا عن المقدام بن معد يكرب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم».
قال الشراح: «أي طلب أن يعاملهم بالتهمة وجاهرهم بسوء الظن فيهم، أداهم ذلك إلى ارتكاب ما ظن فيهم ففسدوا بذلك، مقصود الحديث: حث الإمام على التغافل وعدم تتبع العورات».
وَعَنْ زَيْد بْن وَهْب قَالَ: أُتِيَ اِبْن مَسْعُود فَقِيلَ: هَذَا فُلَان تَقْطُر لِحْيَته خَمْرًا فَقَالَ عَبْد اللَّه: «إِنَّا قَدْ نُهِينَا عَنْ التَّجَسُّس، وَلَكِنْ إِنْ يَظْهَر لَنَا شَيْء نَأْخُذ بِهِ».
يستثنى من ذلك ما إذا كان في ترك التجسس انتهاك حرمة يفوت استدراكها، مثل أن يخبره الثقة أن رجلا خلا برجل ليقتله أو امرأة ليزني بها، فيجوز أن يتجسس حذرا من فوات ما لا يستدرك.
النوع الثاني: التجسس الممنوع:
دلت النصوص الشرعية على أن التجسس على المسلمين حرام منهي عنه لقوله تعالى: {ولا تجسسوا}، قال ابن سعدي: «أي: لا تفتشوا عن عورات المسلمين ولا تتبعوها، واتركوا المسلم على حاله، واستعملوا التغافل عن أحواله التي إذا فتشت ظهر منها ما لا ينبغي».
قال القرطبي: «وَمَعْنَى الْآيَة: خُذُوا مَا ظَهَرَ وَلا تَتَّبِعُوا عَوْرَات الْمُسْلِمِينَ أَيْ: لا يَبْحَث أَحَدكُمْ عَنْ عَيْب أَخِيهِ حَتَّى يَطَّلِع عَلَيْهِ بَعْد أَنْ سَتَرَهُ اللَّه» أهـ.
وثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنّ! فَإِنَّ الظَّنّ أَكْذَب الْحَدِيث، وَلا تَحَسَّسُوا وَلا تَجَسَّسُوا، وَلا تَنَاجَشُوا، وَلا تَحَاسَدُوا وَلا تَبَاغَضُوا وَلا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَاد اللَّه إِخْوَانًا».
وَعَنْ أَبِي بَرْزَة الْأَسْلَمِيّ قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: «يَا مَعْشَر مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُل الْإِيمَان قَلْبه، لا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ وَلا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتهمْ؛ فَإِنَّ مَنْ اِتَّبَعَ عَوْرَاتهمْ يَتَّبِع اللَّه عَوْرَته، وَمَنْ يَتَّبِع اللَّه عَوْرَته، يَفْضَحهُ فِي بَيْته».
قال الشراح: أي يكشف عيوبه في الآخرة، وقيل: معناه يجازيه بسوء صنيعه.
وَقَالَ عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف: حَرَسْت لَيْلَة مَعَ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ بِالْمَدِينَةِ؛ إِذْ تَبَيَّنَ لَنَا سِرَاج فِي بَيْت بَابه مُجَافٍ عَلَى قَوْم لَهُمْ أَصْوَات مُرْتَفِعَة وَلَغَط، فَقَالَ عُمَر: هَذَا بَيْت رَبِيعَة بْن أُمَيَّة بْن خَلَف، وَهُمْ الْآن شُرَّب فَمَا تَرَى؟ قُلْت: أَرَى أَنَّا قَدْ أَتَيْنَا مَا نَهَى اللَّه عَنْهُ، قَالَ اللَّه -تَعَالَى-: {وَلَا تَجَسَّسُوا} وَقَدْ تَجَسَّسْنَا. فَانْصَرَفَ عُمَر.
ودلت السنة على عقوبة التجسس على البيوت؛ فقد أخرج مسلم عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من اطلع في بيت قوم من غير إذنهم حل لهم أن يفقؤوا عينه».
قال النووي: «محمول على ما إذا نظر في بيت الرجل فرماه بحصاة ففقأ عينه، وهل يجوز رميه قبل إنذاره ؟ فيه وجهان لأصحابنا: أصحهما: جوازه لظاهر الحديث، والله أعلم «أهـ
وأخرج الشيخان عن سهل بن سعد أن رجلا اطلع في جحر في بيت رسول الله، ومع رسول الله مدرى وهي حديدة يسوى بها الشعر، يحك بها رأسه، فلما رآه رسول الله قال: «لو أعلم أنك تنظرني لطعنت به في عينك» وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما جعل الاستئذان من أجل البصر».
وعن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو أن امرأً اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح» أخرجه البخاري.
قال ابن حجر: «استدل به على جواز رمي من يتجسس ولو لم يندفع بالشيء الخفيف جاز بالثقيل، وأنه إن أصيبت نفسه أو بعضه فهو هدر».
ولاشك أن إقامة العقوبات ليس من شأن الأفراد بل هو من واجبات ولي الأمر ومن حقوقه التي لا تفتات عليه، درءا للفوضى وحسما لمادة الفساد والتهارج في المجتمعات، فمن تضرر من تجسس الآخرين عليه رفع أمره لولي الأمر ليحمي خصوصيته ويدفع الضرر عنه.
ابو وليد البحيرى
2021-02-21, 10:17 AM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (19)
الأحكام الفقهية من قصة ابني آدم -عليه السلام
د.وليد خالد الربيع
فِي زَمَنِ الْفِتْنَةِ،لاَ يَلْزَمُ الإنسان الدِّفَاع عَنْ نَفْسِهِ،لِقَوْ لِهِ: «فَإِنْ خَشِيتَ أَنْ يَبْهَرَكَ شُعَاعُ السَّيْفِ،فَأَل ْقِ ثَوْبَكَ عَلَى وَجْهِكَ»
ذكرت سورة المائدة قصة ابني آدم -عليه السلام-، وذكر الله -تعالى- الحوار الذي جرى بينهما؛ حيث قال أحدهما لأخيه: {لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} (سورة المائدة:28)
قال ابن كثير: «يقول له أخوه (الرجل الصالح)، الذي تقبل الله قربانه لتقواه حين تواعده أخوه بالقتل على غير ما ذنب منه إليه: {لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ} أي: لا أقابلك على صنيعك الفاسد بمثله، فأكون أنا وأنت سواء في الخطيئة، {إني أخاف الله} أي: من أن أصنع كما تريد أن تصنع، بل أصبر وأحتسب».
حكم من أريد على نفسه
ومن هنا اختلف الفقهاء في حكم من أريد على نفسه: هل له أن يستسلم للقتل؟ أم يدفع عن نفسه؟ والذي يظهر أن سبب اختلافهم أمران:
- الأول: دلالة ظاهر الآية على جواز الاستسلام للقتل.
- والثاني: التعارض الظاهري بين الأحاديث التي تجيز الدفاع عن النفس والأحاديث التي تأمر بالصبر.
السبب الأول
أما السبب الأول فقد قال الطبري: «وقد اخْتُلف في السبب الذي من أجله قال المقتول ذلك لأخيه، ولم يمانعه ما فَعَل به»، فنُقل عن بعض أهل العلم أن الله -تعالى- فرضَ عليهم ألا يمتنع من أريد قتله ممن أراد ذلك منه. قال مجاهد: كان كُتب عليهم، إذا أراد الرجل أن يقتل رجلا تركه ولا يمتنع منه.
وقال بعضهم: قال ذلك، إعلامًا منه لأخيه القاتل أنه لا يستحل قتلَه ولا بسطَ يده إليه بما لم يأذن الله -جل وعز- له به.
ونقل عن عبد الله بن عمرو أنه قال: «وايم الله، إن كان المقتول لأشدَّ الرجلين، ولكن منعه التحرُّج أن يبسُط إلى أخيه»، وعن ابن عباس في تفسير الآية: «ما أنا بمنتصر، ولأمسكنَّ يدي عنك».
قال الطبري مرجحا: «وأولى القولين في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله -عز ذكره- قد كان حرَّم عليهم قتل نفسٍ بغير نفس ظلمًا، وأن المقتول قال لأخيه: «ما أنا بباسط يدي إليك إن بسطت إليّ يدك»؛ لأنه كان حرامًا عليه من قتل أخيه مثلُ الذي كان حرامًا على أخيه القاتل من قتله.
فأما الامتناع من قتله حين أراد قتله، فلا دلالة على أن القاتلَ حين أراد قتله وعزم عليه، كان المقتول عالمًا بما هو عليه أنه عازمٌ ومحاولٌ قتلَه، فترك دفعَه عن نفسه. بل قد ذكر جماعة من أهل العلم أنه قتله غِيلةً، اغتاله وهو نائم، فشدَخ رأسه بصخرةٍ. فإذْ كان ذلك ممكنًا، ولم يكن في الآيةِ دلالة على أنه كان مأمورًا بترك منع أخيه من قتله، لا يكون جائزًا ادعاءُ ما ليس في الآية، إلا ببرهان يجب تسليمُه».
السبب الثاني
أما السبب الثاني: فقد وردت أحاديث ظاهرها إباحة ترك الدفاع عن النفس والاستسلام للقتل مثل حديث ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ إذَا جَاءَ مَنْ يُرِيدُ قَتْلَهُ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ ابْنَيْ آدَمَ؛ الْقَاتِلُ فِي النَّارِ، وَالْمَقْتُولُ فِي الْجَنَّةِ»رَوَ اهُ أَحْمَدُ.
عن بسر بن سعيد أن سعد بن أبي وقاص قال عند فتنة عثمان: أشهد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنها ستكون فتنة، القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي». قال: أفرأيت إن دخل علي بيتي فبسط يده إلي ليقتلني قال: «كن كابن آدم».أخرجه أحمد وأبو داود.
وعن أبي ذر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يا أبا ذر أرأيت إن قتل الناس بعضهم بعضا، يعني حتى تغرق حجارة الزيت من الدماء، كيف تصنع؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: «اقعد في بيتك وأغلق عليك بابك «قال: فإن لم أترك؟ قال: «فأت من أنت منهم، فكن فيهم قال: فآخذ سلاحي؟ قال: «إذا تشاركهم فيما هم فيه، ولكن إن خشيت أن يروعك شعاع السيف، فألق طرف ردائك على وجهك حتى يبوء بإثمه وإثمك».أخرجه أحمد.
جواز الدفاع عن النفس
ووردت أحاديث تجيز الدفاع عن النفس مثل حديث سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: سَمِعْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ ُ وَصَحَّحَهُ.
وعن قهيد بن مطرف الغفاري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سأله سائل إن عدا علي عاد فأمره أن ينهاه ثلاث مرار، قال فإن أبى فأمره بقتاله قال فكيف بنا؟ قال: «إن قتلك فأنت في الجنة، وإن قتلته فهو في النار» أخرجه أحمد.
ولأجل هذا التعارض الظاهري اختلف الفقهاء على مذاهب أشهرها ثلاثة:
المذهب الأول: وُجُوبِ دَفْعِ الصَّائِلِ عَلَى النَّفْسِ مطلقا.
وإليه ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الأْصَحُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ ، وَاسْتَدَلَّوا بما يأتي:
1- بِقَوْلِهِ -تَعَالَى-: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}؛ فَالاِسْتِسْلاَ مُ لِلصَّائِلِ إِلْقَاءٌ بِالنَّفْسِ لِلتَّهْلُكَةِ، لِذَا كَانَ الدِّفَاعُ عَنْهَا وَاجِبًا.
2- ولِقَوْله -صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيد».
3- وَلأِنَّهُ كَمَا يَحْرُمُ عَلَى الْمَصُولِ عَلَيْهِ قَتْلُ نَفْسِهِ، يَحْرُمُ عَلَيْهِ إِبَاحَةُ قَتْلِهَا.
4- وَلأِنَّهُ قَدَرَ عَلَى إِحْيَاءِ نَفْسِهِ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ فِعْلُ ذَلِكَ، كَالْمُضْطَرِّ لأِكْلِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا.
المذهب الثاني: التفريق بين الصائل المسلم وغير المسلم.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ الصَّائِلُ كَافِرًا، وَالْمَصُولُ عَلَيْهِ مُسْلِمًا وَجَبَ الدِّفَاعُ سَوَاءٌ كَانَ هَذَا الْكَافِرُ مَعْصُومًا أَوْ غَيْرَ مَعْصُومٍ؛ إِذْ غَيْرُ الْمَعْصُومِ لاَ حُرْمَةَ لَهُ، وَالْمَعْصُومُ بَطَلَتْ حُرْمَتُهُ بِصِيَالِهِ، وَلأِنَّ الاِسْتِسْلاَمَ لِلْكَافِرِ ذُلٌّ فِي الدِّينِ.
أَمَّا إِنْ كَانَ الصَّائِلُ مُسْلِمًا غَيْرَ مَهْدُورِ الدَّمِ فَلاَ يَجِبُ دَفْعُهُ فِي الأْظْهَرِ، بَلْ يَجُوزُ الاِسْتِسْلاَمُ لَهُ، لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: «كُنْ كَابْنِ آدَمَ».
وَلأِنَّ عُثْمَان تَرَكَ الْقِتَالَ مَعَ إِمْكَانِهِ، وَمَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ نَفْسَهُ، وَمَنَعَ حُرَّاسَهُ مِنَ الدِّفَاعِ عَنْهُ - وَكَانُوا أَرْبَعَمِائَةٍ يَوْمَ الدَّارِ - وَقَالَ: مَنْ أَلْقَى سِلاَحَهُ فَهُوَ حُرٌّ، وَاشْتُهِرَ ذَلِكَ فِي الصَّحَابَة فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ.
المذهب الثالث: وُجُوبِ دَفْعِ الصَّائِلِ عَنِ النَّفْسِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الْفِتْنَةِ، وإليه ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ، لقوله -تعالى-:{وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}، وَلأِنَّهُ كَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ قَتْلُ نَفْسِهِ يَحْرُمُ عَلَيْهِ إِبَاحَةُ قَتْلِهَا.
أَمَّا فِي زَمَنِ الْفِتْنَةِ، فَلاَ يَلْزَمُهُ الدِّفَاعُ عَنْ نَفْسِهِ، لِقَوْلِهِ: «فَإِنْ خَشِيتَ أَنْ يَبْهَرَكَ شُعَاعُ السَّيْفِ، فَأَلْقِ ثَوْبَكَ عَلَى وَجْهِكَ».
وَلأِنَّ عُثْمَانَ تَرَكَ الْقِتَالَ عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيْهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَمَنَعَ غَيْرَهُ قِتَالَهُمْ، وَلَوْ لَمْ يَجُزْ لأَنْكَرَ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ ذَلِكَ.
وأختم بما نقله ابن حجرعَنِ الشَّافِعِيِّ أنه قَالَ: «مَنْ أُرِيدَ مَالُهُ أَوْ نَفْسُهُ أَوْ حَرِيمُهُ فَلَهُ الِاخْتِيَارُ أَنْ يُكَلِّمَهُ أَوْ يَسْتَغِيثَ فَإِنْ مُنِعَ أَوِ امْتَنَعَ لَمْ يَكُنْ لَهُ قِتَالُهُ، وَإِلَّا فَلَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ عَنْ ذَلِكَ وَلَوْ أَتَى عَلَى نَفْسِهِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ عَقْلٌ وَلَا دِيَةٌ وَلَا كَفَّارَةٌ، لَكِن لَيْسَ لَهُ عمد قَتله».
وقال البغوي: «ذَهَبَ عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا أُرِيدَ مَالُهُ، أَوْ دَمُهُ، أَوْ أَهْلُهُ فَلَهُ دَفْعُ الْقَاصِدِ وَمُقَاتَلَتُهُ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَدْفَعَ بِالأَحْسَنِ فَالأَحْسَنِ، فَإِنْ لَمْ يَمْتَنِعْ إِلا بِالْمُقَاتَلَة ِ، فَقَاتَلَهُ، فَأَتَى الْقَتْلُ عَلَى نَفْسِهِ، فَدَمُهُ هَدَرٌ، وَلا شَيْءَ عَلَى الدَّافِعِ».
شرع القصاص حفظا للدماء
فالذي يظهر أن الإنسان يدافع عن نفسه في كل حال، لأن نفسه أمانة عنده؛ عليه أن يحافظ عليها من الضرر والهلاك، ولا يعرضها للفتن والضلال، والإسلام لا يرضى لأتباعه الذل وإسلام النفس بغير مدافعة، فإن الله -تعالى- شرع القصاص وحد الحرابة وقتال البغاة؛ حفظا لدماء الناس، فكيف يأذن بأن يستسلم المسلم لقاتله بغير حق؟! والأحاديث المذكورة في هذا إما غير ثابتة أو محمولة على أحوال مخصوصة تقدر بقدرها كما ذكر ذلك الفقهاء، والله أعلم.
ابو وليد البحيرى
2021-03-03, 09:12 AM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (20)
الأحكام الفقهية من قصة ابني آدم -عليه السلام
د.وليد خالد الربيع
لا نزال مع قصة ابني آدم -عليه السلام-، فقد أخبرنا الله -تعالى- أن المجني عليه قال للآخر:{إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ}.
قال ابن سعدي: «{إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ} أي: ترجع {بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} أي: إنه إذا دار الأمر بين أن أكون قاتلا أو تقتلني فإني أوثر أن تقتلني، فتبوء بالوزرين {فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ}، دل هذا على أن القتل من كبائر الذنوب، وأنه موجب لدخول النار»، قال ابن عاشور: «وتَبُوءَ تَرْجِعُ، وَهُوَ رُجُوعٌ مَجَازِيٌّ، أَيْ: تَكْتَسِبُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِكَ، فَكَأَنَّهُ خَرَجَ يَسْعَى لِنَفْسِهِ فَبَاءَ بِإِثْمَيْنِ».
الجواب عن إشكال
وهنا يرد إشكال، كيف نوفق بين ظاهر الآية، الذي يدل على أن القاتل يحمل إثم المقتول، وما جاء من أدلة شرعية تقرر أن كل إنسان مسؤول عن عمله وسعيه فقط كما قال -تعالى-:{كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} (الطور:21)، وقال -سبحانه-: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (فاطر:19)، وقال -تعالى-:{وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} (النجم:39)، وفي الحديث القُدُسيّ: «يَا عِبَادِي! إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْراً فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَن إلَّا نَفْسَهُ» أخرجه مسلم.
المراد بالإثمين المذكورين
والجواب هو ببيان المراد بالإثمين المذكورين في الآية:
فجمهور المفسرين على أن المراد: «إثْمُ قَتْلِي، وَإِثْمُك الَّذِي كَانَ مِنْك قَبْلَ قَتْلِي»، وقد رواه الطبري بسنده عن ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُود وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ.
وحكى الطبري قولا آخر فقال: «وقال آخرون: معنى ذلك: إني أريد أن تبوء بخطيئتي، فتتحمل وزرها، وإثمِك في قتلك إيّاي. قال: وهذا قول وجدتُه عن مجاهد، وأخشى أن يكون غلطًا؛ لأن الصحيح من الرواية عنه ما قد ذكرنا قبلُ».
ثم رجح القول الأول فقال: «وإنما قلنا ذلك هو الصواب، لإجماع أهل التأويل عليه؛ لأن الله -عز وجل ذكره- قد أخبرنا أن كل عامل فجزاءُ عمله له أو عليه، وإذا كان ذلك حكمه في خلقه، فغير جائز أن يكون آثام المقتول مأخوذًا بها القاتل، وإنما يؤخذ القاتل بإثمه بالقتل المحرم وسائر آثامِ معاصيه التي ارتكبها بنفسه، دون ما ركبَه قتيلُه».
وقال الجصاص: «وَالْمُرَادُ إنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِعِقَابِ إثْمِي وَإِثْمِك؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ حَقِيقَةَ الْإِثْمِ؛ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ إرَادَةُ مَعْصِيَةِ اللَّهِ مِنْ نَفْسِهِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَهُ بِهَا».
إثمٌ مُرَادٌ بِهِ الْجِنْسُ
وقال ابن عاشور: «فإثمٌ مُرَادٌ بِهِ الْجِنْسُ، أَيْ: مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ لَهُ مِنْ إِثْمٍ. وَقَدْ أَرَادَ بِهَذَا مَوْعِظَةَ أَخِيهِ، وَلِذَلِكَ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: وَإِثْمِكَ تَذْكِيرًا لَهُ بِفَظَاعَةِ عَاقِبَةِ فِعْلَتِهِ، كَقَوْلِهِ -تَعَالَى-:{لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} (النَّحْل: 25). فَعَطْفُ قَوْلِهِ: {وَإِثْمِكَ} إِدْمَاجٌ بِذِكْرِ مَا يَحْصُلُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَيْسَ هُوَ مِمَّا يُرِيدُهُ»، وقال الشيخ ابن عثيمين: «قوله:{أَن تَبُوءَ} أي: أن ترجع بإثمي وإثمك، أما كونه يرجع بإثمه فواضح، لكن كيف يرجع بإثم أخيه؟ نقول: «إن عدم قتال أخيه له سلامة من الإثم؛ فكأن أخاه الذي لم يقاتل وسلم من الإثم كأنه حمل القاتل إثمه، وليس المعنى: أن القاتل يكون عليه إثمان: إثم للمقتول لو قتله، وإثم لقتله إياه، بل الظاهر أن المعنى: {إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} أي: أن سلامته من الإثم كأن الآخر تحمله عنه وباء به».
الأثر الخطير لسوء الفهم
ويبين ابن كثير الأثر الخطير لسوء الفهم لهذه الآية فيقول: «وقد يتوهم كثير من الناس هذا القول، ويذكرون في ذلك حديثا لا أصل له: «ما ترك القاتل على المقتول من ذنب». (قال ابن حجر في اللآلئ: هو حديث لا يعرف أصلا ولا بإسناد ضعيف).
قال ابن كثير: «وقد روى الحافظ أبو بكر البزار حديثا يشبه هذا، عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قتل الصبر لا يمر بذنب إلا محاه»، وهذا بهذا لا يصح، ولو صح فمعناه أن الله يكفر عن المقتول بألم القتل ذنوبه، فأما أن تحمل على القاتل فلا».
المقتول يطالب القاتل في العرصات
ولكن قد يتفق هذا في بعض الأشخاص وهو الغالب، فإن المقتول يطالب القاتل في العرصات فيؤخذ له من حسناته بقدر مظلمته، فإن نفدت ولم يستوف حقه أخذ من سيئات المقتول فطرحت على القاتل، فربما لا يبقى على المقتول خطيئة إلا وضعت على القاتل، وقد صح الحديث بذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المظالم كلها، والقتل من أعظمها وأشدها، ولعله يشير إلى حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أتدرون ما المفلِسُ؟ قالوا: المفلِسُ فينا من لا درهمَ له ولا متاعَ؛ فقال: إنَّ المفلسَ من أمَّتي، يأتي يومَ القيامةِ بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مالَ هذا، وسفك دمَ هذا، وضرب هذا. فيُعطَى هذا من حسناتِه وهذا من حسناتِه. فإن فَنِيَتْ حسناتُه قبل أن يقضيَ ما عليه، أخذ من خطاياهم فطُرِحت عليه ثمَّ طُرِح في النَّارِ» رواه مسلم.
حَقِيقَةُ الْمُفْلِسِ
قال النووي: «وَإِنَّمَا حَقِيقَةُ الْمُفْلِسِ هَذَا الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ فَهُوَ الْهَالِكُ الْهَلَاكَ التَّامَّ وَالْمَعْدُومُ الْإِعْدَامَ الْمُقَطَّعَ، فَتُؤْخَذُ حَسَنَاتُهُ لِغُرَمَائِهِ، فَإِذَا فَرَغَتْ حَسَنَاتُهُ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ فَوُضِعَ عَلَيْهِ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ فَتَمَّتْ خَسَارَتُهُ وَهَلَاكُهُ وَإِفْلَاسُهُ، قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُبْتَدِعَةِ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُعَارِضٌ لِقَوْلِهِ -تعالى-:{ولا تزر وازرة وزر أخرى} وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ غَلَطٌ مِنْهُ وَجَهَالَةٌ بَيِّنَةٌ لِأَنَّهُ إِنَّمَا عُوقِبَ بِفِعْلِهِ وَوِزْرِهِ وَظُلْمِهِ، فَتَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ حُقُوقٌ لِغُرَمَائِهِ فَدُفِعَتْ إِلَيْهِمْ مِنْ حَسَنَاتِهِ فَلَمَّا فَرَغَتْ وَبَقِيَتْ بَقِيَّةٌ قُوبِلَتْ عَلَى حَسَبِ مَا اقْتَضَتْهُ حِكْمَةُ اللَّهِ -تَعَالَى- فِي خَلْقِهِ وَعَدْلِهِ فِي عِبَادِهِ فَأُخِذَ قَدْرُهَا مِنْ سَيِّئَاتِ خُصُومِهِ فَوُضِعَ عَلَيْهِ فَعُوقِبَ بِهِ فِي النَّارِ، فَحَقِيقَةُ الْعُقُوبَةِ إِنَّمَا هِيَ بِسَبَبِ ظُلْمِهِ وَلَمْ يُعَاقَبْ بِغَيْرِ جِنَايَةٍ وَظُلْمٍ مِنْهُ وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ أَهْلِ السَّنَةُ».
من كانت له مظلمة لأخيه
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء، فليتحلل منه اليوم، قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه»، قال ابن حجر: «قوله: «أخذ من سيئات صاحبه» أي صاحب المظلمة «فحمل عليه» أي على الظالم، وفي رواية مالك «فطرحت عليه».
قال: «ولا تعارض بين هذا وبين قوله -تعالى-: {ولا تزر وازرة وزر أخرى}؛ لأنه إنما يعاقب بسبب فعله وظلمه، ولم يعاقب بغير جناية منه بل بجنايته، فقوبلت الحسنات بالسيئات على ما اقتضاه عدل الله -تعالى- في عباده».
ابو وليد البحيرى
2021-03-03, 09:19 AM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (21)
الأحكام الفقهية من قصة ابني آدم -عليه السلام
د.وليد خالد الربيع
لا نزال مع قصة ابني آدم -عليه السلام-؛ فقد أخبرنا الله -تعالى- عن حال الجاني؛ فقال -سبحانه-: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ}. من المسائل الفقهية المستفادة من الآية الكريمة وما قبلها (حرمة القتل العمد بغير حق)، قال الشيخ ابن سعدي: «قوله: {فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} دل هذا على أن القتل من كبائر الذنوب، وأنه موجب لدخول النار».
القتل نوعان
والقتل كما قال الجرجاني: «فعل يحصل به زهوق الروح»، وهو نوعان:
الأول: قتل بحق
وذلك إذا ارتكب الشخص جريمة عقوبتها القتل، كما جاء عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه -قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
قال ابن رجب: «وَفِيهِ تَفْسِيرُ أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَ خِصَالٍ هِيَ حَقُّ الْإِسْلَامِ الَّتِي يُسْتَبَاحُ بِهَا دَمُ مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَالْقَتْلُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ» .
الثاني: قتل بغير حق
وهو الاعتداء على شخص معصوم الدم عدوانا وظلما حتى يموت، وهو من كبائر الذنوب، وعظائم الأمور كما دلت عليه النصوص الشرعية، فمن ذلك قوله -سبحانه-: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} (الأنعام:151)
قال الطبري: «يعني بالنفس التي حرم الله قتلها، نفسَ مؤمن أو مُعاهد، وقوله: (إلا بالحق)، يعني بما أباح قتلها به: من أن تقتل نفسًا فتقتل قَوَدًا بها، أو تزني وهي محصنة فترجم، أو ترتدَّ عن دينها الحقِّ فتقتل. فذلك «الحق» الذي أباح الله -جل ثناؤه- قتل النفس التي حرم على المؤمنين قتلها به».
وقال -تعالى-: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} (الإسراء:33)، يقول القرطبي: «وهذه الآية نهي عن قتلِ النفس المحرمة مؤمنة كانت أو معاهدة إلا بالحق الذي يوجب قتلها».
العقوبة الشديدة
وبين الله -تعالى- العقوبة الشديدة لمن يعتدي على نفس المؤمن بغير حق فقال -سبحانه-: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}(النساء :93)
قال الشيخ ابن سعدي: «ذكر هنا وعيد القاتل عمدا، وعيدا ترجف له القلوب، وتنصدع له الأفئدة، وتنزعج منه أولو العقول، فلم يرد في أنواع الكبائر أعظم من هذا الوعيد، بل ولا مثله، ألا وهو الإخبار بأن جزاءه جهنم، أي: فهذا الذنب العظيم قد انتهض وحده أن يجازى صاحبه بجهنم، بما فيها من العذاب العظيم، والخزي المهين، وسخط الجبار، وفوات الفوز والفلاح، وحصول الخيبة والخسار. فعياذًا بالله من كل سبب يبعد عن رحمته».
الأحكام الدنيوية
وأما في الأحكام الدنيوية فقد شرع الله -تعالى- القصاص في حالة القتل بغير حق فقال -سبحانه-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَى بِالْأُنثَى}(الب قرة:178)
قال الشيخ ابن سعدي: «يمتن -تعالى- على عباده المؤمنين بأنه فرض عليهم {الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} أي: المساواة فيه، وأن يقتل القاتل على الصفة التي قتل عليها المقتول، إقامة للعدل والقسط بين العباد، وتوجيه الخطاب لعموم المؤمنين فيه دليل على أنه يجب عليهم كلهم، حتى أولياء القاتل حتى القاتل بنفسه إعانة ولي المقتول إذا طلب القصاص وتمكينه من القاتل، وأنه لا يجوز لهم أن يحولوا بين هذا الحد، ويمنعوا الولي من الاقتصاص كما عليه عادة الجاهلية ومن أشبههم من إيواء المحدثين».
لا يقيمه إلا أولو الأمر
قال القرطبي: «لا خلاف أن القصاص في القتل لا يقيمه إلا أولو الأمر، فرض عليهم النهوض بالقصاص وإقامة الحدود وغير ذلك؛ لأن الله -سبحانه- خاطب المؤمنين بالقصاص، ثم لا يتهيأ للمؤمنين جميعا أن يجتمعوا على القصاص، فأقاموا السلطان مقام أنفسهم في إقامة القصاص وغيره من الحدود، وليس القصاص بلازم إنما اللازم ألا يتجاوز القصاص وغيره من الحدود إلى الاعتداء، فأما إذا وقع الرضا دون القصاص من دية أو عفو فذلك مباح».
اجتنبوا السبع الموبقات
ومن السنة المطهرة روى الشيخان عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اجتنبوا السبع الموبقات»، قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: «الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات» متفق عليه.
خطبة الوداع
وقال صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع: «فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرامٌ؛ كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، إلى يوم تلقون ربكم، ألا هل بلغت؟» قالوا: نعم، قال: «اللهم اشهد، فليبلِّغ الشاهدُ الغائب، فرب مُبَلَّغٍ أوعى من سامع» متفق عليه، قال النووي: «المراد بهذا كله بيان توكيد غلظ تحريم الأموال والدماء والأعراض، والتحذير من ذلك».
وروى البخاري عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا» أخرجه البخاري، قال ابن الْعَرَبِيِّ: «الْفُسْحَةُ فِي الدِّينِ سَعَةُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ حَتَّى إِذَا جَاءَ الْقَتْلُ ضَاقَتْ؛ لِأَنَّهَا لَا تَفِي بِوِزْرِهِ، وَالْفُسْحَةُ فِي الذَّنْبِ: قَبُولُهُ الْغُفْرَانَ بِالتَّوْبَةِ حَتَّى إِذَا جَاءَ الْقَتْلُ ارْتَفَعَ الْقَبُولُ».
مِنْ وَرَطَاتِ الأمور
ولهذا قال ابن عمر: «إِنَّ مِنْ وَرَطَاتِ الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها، سفك الدم الحرام بغير حله» أخرجه البخاري.
قال ابن حجر: «الورطات: جَمْعُ وَرْطَةٍ وَهِيَ الْهَلَاكُ، يُقَالُ: وَقَعَ فُلَانٌ فِي وَرْطَةٍ أَيْ: فِي شَيْءٍ لَا يَنْجُو مِنْهُ، وَقَدْ فَسَّرَهَا فِي الْخَبَرِ بِقَوْلِهِ: «الَّتِي لَا مَخْرَجَ لِمَنْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهَا» قَوْلُهُ: «سَفْكُ الدَّمِ» أَيْ: إِرَاقَتُهُ؛ وَالْمُرَادُ بِهِ الْقَتْلُ بِأَيِّ صِفَةٍ كَانَ».
وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري، وأبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن أهل السماء والأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار».
تعظيم القتْلِ وتَهويلُ أمْرِه
وعن عبدالله بن عمرو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم» أخرجه الترمذي، قال في شرح مشكاة المصابيح: «وهذا الكلامُ مَسوقٌ لتعظيمِ القتْلِ وتَهويلِ أمْرِه» ثم بين وجهه فقال: «الدُّنيا عظيمةٌ في نفوسِ الخلْقِ، فزَوالُها يكونُ عندَهم عظيمًا على قدْرِ عَظَمتِها، فإذا قيل: قتل المؤمن أعظم منه، أو الزوال أهون من قتل المؤمن، يفيد الكلام من تعظيم القتل وتهويله وتقبيحه وتشنيعه ما لا يحيطه الوصف».
ابو وليد البحيرى
2021-03-03, 09:28 AM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (22)
الأحكام الفقهية من قصة ابني آدم -عليه السلام
د.وليد خالد الربيع
قال -تعالى-:{ فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} (سورة المائدة:31)، لا نزال مع الأحكام الفقهية المستفادة من قصة ابني آدم -عليه السلام-، ويستفاد من هذه الآية الكريمة مشروعية دفن الموتى، قال القرطبي: «وظاهر الآية أن هابيل هو أول ميت من بني آدم؛ ولذلك جهلت سنة المواراة». وقال: «بعث الله الغراب حكمة؛ ليرى ابن آدم كيفية المواراة، فصار فعل الغراب في المواراة سنة باقية في الخلق».
فدفن الموتى إكرام من الله -تعالى- للبشرية كما قال -سبحانه-: {ثم أماته فأقبره} (سورة عبس:21)، قال الشيخ ابن سعدي: «أي: أكرمه بالدفن، ولم يجعله كسائر الحيوانات التي تكون جيفها على وجه الأرض»، والدفن فرض كفاية بالإجماع كما قال القرطبي: «أصبح فرضا على جميع الناس على الكفاية، من فعله منهم سقط فرضه عن الباقين».
صفة حفر اللحد
وذكر العلماء صفتين لحفر القبر، اللحد والشق: وَمَعْنَى اللَّحْدِ، كما قال ابن قدامة: «أَنَّهُ إذَا بَلَغَ أَرْضَ الْقَبْرِ حَفَرَ فِيهِ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ مَكَانًا يُوضَعُ الْمَيِّتُ فِيهِ، فَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ رَخْوَةً جَعَلَ لَهُ مِنْ الْحِجَارَةِ شِبْهَ اللَّحْدِ.
وَمَعْنَى الشَّقِّ أَنْ يَحْفِرَ فِي أَرْضِ الْقَبْرِ شَقًّا يَضَعُ الْمَيِّتَ فِيهِ، وَيَسْقُفَهُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ».
ونقل النووي إجماع العلماء على أن الدفن في اللحد أو الشق جائزان، وذهب الجمهور إلى أن اللحد هو السنة وأنه أفضل من الشق، وقيدوا ذلك بما إذا كانت الأرض صلبة لا ينهار ترابها لقول سعد بن أبي وقاص في مرضه الذي مات فيه: «ألحدوا لي لحدا، وانصبوا عليّ اللبن نصبا كما صنع برسول الله - صلى الله عليه وسلم -». أخرجه مسلم، قال النووي: «فيه استحباب اللحد ونصب اللبن، وأنه فعل ذلك برسول الله - صلى الله عليه وسلم - باتفاق الصحابة -رضي الله عنهم-، وقد نقلوا أن عدد لبناته تسع».
استحباب إعماق القبر
وذهب الجمهور إلى استحباب إعماق القبر لحديث هشام بن عامر أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال يومَ أحُدٍ: «احفُروا، وأَوْسِعُوا، وأَعْمِقُوا، وأَحْسِنُوا، وادفِنوا الاثنينِ والثلاثةَ في قبرٍ واحدٍ، وقدِّموا أكثرَهم قُرْآنًا». أخرجه أصحاب السنن وصححه الألباني. ويستحب توسيع القبر في عرضه وطوله بما يسع من ينزل القبر ومن يدفن الميت، ولا يزيد حتى لا يضيق على الآخرين، وتكون التوسعة من جهة الرأس والقدمين لقوله - صلى الله عليه وسلم - للحافر: «أوسع من قبل الرأس، وأوسع من قبل الرجلين» أخرجه أبو داود.
كراهة الدفن في تابوت
واتفق الفقهاء على كراهة الدفن في تابوت بغير حاجة، قال النووي: «كراهة التابوت مذهبنا ومذهب العلماء كافة، أظنه إجماعا».
الرجال أحق بدفن الرجال
وذهب عامة الفقهاء إلى أن الرجال أحق بدفن الرجال، وأولى الرجال بالتقديم هم أولياء الميت لقوله -تعالى-:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} (سورة الأنفال:75)، وقول علي - رضي الله عنه - قال: «غسَّلْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فذهبتُ أنظر ما يكون من الميت فلم أرَ شيئاً، وكان طيبا - صلى الله عليه وسلم - حياً وميتا، وولي دفنه وإجنانَه (ستره) دون الناس أربعة: علي والعباس والفضل وصالح مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» رواه الحاكم.
أولى الناس بإدخال المرأة قبرها
وذهب عامة الفقهاء إلى أن أولى الناس بإدخال المرأة قبرها هو محرمها في حياتها إن لم تكن متزوجة، فإن كانت متزوجة فزوجها أولى من محرمها إذا تزاحموا؛ لحديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: رجع إلىَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم من جنازة بالبقيع وأنا أجد صداعا في رأسي، وأنا أقول: وارأساه، قال: بل أنا وارأساه. قال: «ما ضرك لو متِّ قبلي فغسلتُكِ وكفنْتكِ ثم صليت عليك ودفنتك» رواه أحمد.
وقت الدفن
أما وقت الدفن: فيجوز الدفن في كل وقت إلا أوقات النهي عن الصلاة، فعن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: «ثلاث ساعات كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهانا أن نُصلِّي فيهن، أو أنْ نَقْبُـرَ فِيهِنَّ موتانا: حين تطلع الشمسُ بازغةً حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تَضَيَّفُ الشمسُ للغروب حتى تغرب». أخرجه مسلم، فدل الحديث على أنه يمنع الدفن في هذه الأوقات الثلاثة، إلا عند الضرورة، فأما إذا كان هناك ضرر، بأن خيف تغيُّر الميت، ونحو ذلك، فلا حرج في دفنه في هذه الأوقات.
المراد بالقَبْر
قال النووي: «قال بعضهم: إن المراد بالقَبْر (يعني المذكور في الحديث) صلاة الجنازة، وهذا القول ضعيف؛ لأن صلاة الجنازة لا تكره في هذا الوقت بالإجماع، فلا يجوز تفسير الحديث بما يخالف الإجماع؛ بل الصواب أن معناه تَعمُّد تأخير الدفن إلى هذه الأوقات، كما يُكره تَعمُّد تأخير العصر إلى اصفرار الشمس بلا عذرٍ، وهي صلاة المنافقين؛ كما في الحديث الصحيح: «قام فنقرها أربعًا»، فأما إذا وقع الدفن في هذه الأوقات بلا تَعمُّد فلا يكره».
الدفن ليلاً
ويجوز الدفن ليلا بلا كراهة؛ لما رواه أبو داود عن جابر - رضي الله عنه - قال: رأى ناس ناراً في المقبرة فأتوها، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القبر، وإذا هو يقول: «ناولني صاحبكم» قال ابن القيم: هذه النار كانت للإضاءة، ولهذا ترجم عليه أبو داود: الدفن بالليل، قال الإمام أحمد: لا بأس بذلك، وقال: أبو بكر دفن ليلاً، وعليّ دفن فاطمة ليلاً، وحديث عائشة: «سمعنا صوت المساحي من آخر الليل في دفن النبي - صلى الله عليه وسلم -»، وممن دفن ليلاً: عثمان، وعائشة وابن مسعود، ورخص فيه عقبة بن عامر، وابن المسيب، وعطاء، والثوري، والشافعي، وإسحاق.
وذهب بعض أهل العلم إلى كراهة الدفن ليلاً لحديث جابر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر رجلاً من أصحابه قبض، فكفن في كفن غير طائل، وقبر ليلاً، فزجر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقبر الرجل بالليل حتى يصلى عليه، إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك رواه مسلم.
قال النووي: «وَقَالَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ لَا يُكْرَهُ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رضي الله عنه - وَجَمَاعَةً مِنَ السَّلَفِ دُفِنُوا لَيْلًا مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ، وَبِحَدِيثِ الْمَرْأَةِ السَّوْدَاءِ وَالرَّجُلِ الَّذِي كَانَ يَقُمُّ الْمَسْجِدَ فَتُوُفِّيَ بِاللَّيْلِ فَدَفَنُوهُ لَيْلًا وَسَأَلَهُمُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْهُ فَقَالُوا: تُوُفِّيَ لَيْلًا فَدَفَنَّاهُ فِي اللَّيْلِ فَقَالَ: أَلَا آذَنْتُمُونِي؟ قَالُوا: كَانَتْ ظُلْمَةٌ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ.
وَأَجَابُوا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّ النَّهْيَ كَانَ لِتَرْكِ الصَّلَاةِ وَلَمْ يَنْهَ عَنْ مُجَرَّدِ الدَّفْنِ بِاللَّيْلِ، وَإِنَّمَا نَهَى لِتَرْكِ الصَّلَاةِ أَوْ لِقِلَّةِ الْمُصَلِّينَ أَوْ عَنْ إِسَاءَةِ الْكَفَنِ أَوْ عَنِ الْمَجْمُوعِ كَمَا سَبَقَ».
وذكر ابن القيم تفصيلا حسنا فقال: «والذي ينبغي أن يقال في ذلك: إنه متى كان الدفن ليلاً لا يفوت به شيء من حقوق الميت، والصلاة عليه، فلا بأس به، وعليه تدل أحاديث الجواز، وإن كان يفوت بذلك حقوقه والصلاة عليه وتمام القيام عليه، نهي عن ذلك، وعليه يدل الزجر».
ابو وليد البحيرى
2021-03-19, 03:12 PM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (23)
الأحكام الفقهية من قصة خلق آدم وزوجه -عليهما السلام
د.وليد خالد الربيع
اعتنت الشريعة المطهرة بمكارم الأخلاق، وحسن الآداب، ليكون المسلمون في أنفسهم ومع إخوانهم، وفي حال اجتماعهم وخلواتهم على أكمل حال وأرفع صورة ومآل، ومن ذلك العناية باللباس والزينة، وستر العورات وإخفاء السوءات، لتحقيق أعلى المقاصد وأكرم الصفات، وسد باب الفتنة ومنع ذريعة السيئات، لذا حرص شياطين الجن والإنس على إغواء البشر، ونقلهم من الكرامة الإنسانية التي حباهم الله -تعالى- بها، إلى رتبة البهيمية وما فيها من عدم المبالاة بظهور العورات، وانكشاف السوءات.
وقد قص الله -سبحانه- علينا في سورة الأعراف قصة خلق آدم وزوجه -عليهما السلام-، وإسكانهما الجنة، وما أكرمهما به من النعم واللذات، وبين -تعالى- إغواء الشيطان لهما لمعصية الرب -سبحانه-، وما آل إليه أمرهما من ظهور العورة، وإخراجهما من الجنة، فقال -سبحانه-:{فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ} (سورة الأعراف:20-22).
قال ابن سعدي: «{فَدَلَّاهُمَا} أي: نزَّلهما عن رتبتهما العالية، التي هي البعد عن الذنوب والمعاصي إلى التلوث بأوضارها، فأقدما على أكلها، {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} أي: ظهرت عورة كل منهما بعد ما كانت مستورة، فصار للعري الباطن من التقوى في هذه الحال أثر في اللباس الظاهر، حتى انخلع فظهرت عوراتهما، ولما ظهرت عوراتهما خَجِلا وجَعَلا يخصفان على عوراتهما من أوراق شجر الجنة، ليستترا بذلك {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا} وهما بتلك الحال موبخا ومعاتبا: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} فلم اقترفتما المنهي، وأطعتما عدوَّكُما؟».
وجوب ستر العورة
فمن المسائل المستفادة من الآيات الكريمات وجوب ستر العورة، قال القرطبي: «وفي الآية دليل على قبح كشف العورة، وأن الله أوجب عليهما الستر؛ ولذلك ابتدرا إلى سترها، ولا يمتنع أن يؤمرا بذلك في الجنة كما قيل لهما: ولا تقربا هذه الشجرة. وقد حكى صاحب البيان عن الشافعي أن من لم يجد ما يستر به عورته إلا ورق الشجر لزمه أن يستتر بذلك، لأنه سترة ظاهرة يمكنه التستر بها كما فعل آدم في الجنة».
وتطلق العورة في اللغة على معان منها: الخلل والسوأة والشيء المستقبح وكل ما يحرم كشفه، قال النووي: سميت العورة لقبح ظهورها ولغض الأبصار عنها، مأخوذة من (العور) وهو النقص والعيب والقبح، ومنه عور العين، والكلمة العوراء: القبيحة.
والعورة في الاصطلاح: ما أوجب الشارع ستره من الذكر والأنثى.
أحكام تخص العورة
وللعورة أحكام في باب النظر عموما، وأحكام في باب الصلاة على وجه الخصوص.
أولاً: ستر العورة في باب النظر
دل الكتاب والسنة والإجماع على وجوب ستر العورة عن النظر.
الأدلة من القرآن الكريم
فمن الكتاب الكريم قوله -سبحانه-: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ}، قال القرطبي: «دلت الآية على وجوب ستر العورة»، فقوله: {خذوا زينتكم}: الزينة ما يتزين به الناس من الملبوس، والمراد به لبس الثوب الذي يستر العورة في الصلاة وخارجها، وهو ما عليه عامة المفسرين؛ لأن الله -تعالى- أمر بأخذ الزينة، والأمر يفيد الوجوب، والقدر الواجب من ذلك ما ستر العورة، ومعلوم أن ما زاد على ذلك ليس بواجب مما يدل أن أخذ الزينة هنا هو ستر العورة .
الأدلة من السنة
ومن السنة ما رواه مسلم عن المسور بن مخرمة قال: أقبلت بحجر ثقيل أحمله وعليّ إزار خفيف ، فانحل إزاري ومعي الحجر، لم أستطع أن أضعه حتى بلغت به إلى موضعه ، فقال رسول الله: «ارجع إلى ثوبك فخذه ولا تمشوا عراة»، وعن حكيم بن حزام قال: يا رسول الله، عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: «احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك» قال: قلت: يا رسول الله، إذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: «إن استطعت ألا يرنها أحد فلا ترينها أحدا» قلت: يا رسول الله، إذا كان أحدنا خاليا؟ قال: «الله أحق أن يستحيا منه من الناس» أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي.
الإجماع
وأما الإجماع فقد قال النووي: «ستر العورة عن العيون واجب بالإجماع»، وقال ابن قدامة: «سترة العورة عن النظر بما لا يصف البشرة واجب، وقال ابن هبيرة: «أجمعوا على أن ستر العورة عن العيون واجب».
ثانيًا: ستر العورة في باب الصلاة
ذهب جمهور الفقهاء إلى أن ستر العورة فرض من فروض الصلاة وشرط لصحتها، وأدلتهم في ذلك ما يلي:
(1) قوله -سبحانه-:{يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} قال ابن عباس: «المراد بها الثياب في الصلاة»، فقوله -تعالى-:{عند كل مسجد} قيل: المقصود به المسجد الحرام؛ لأن الآية إبطال ما كان يفعله المشركون من الطواف بالبيت عراة؛ فأمروا بستر العورة عند الطواف، ولا طواف إلا بالبيت الحرام، وقيل: بل هو عام في كل مسجد للصلاة؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
(2) عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار «أخرجه أبو داود والترمذي، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: «يُرِيدُ بِالْحَائِضِ الْمَرْأَةَ الَّتِي بَلَغَتْ سِنَّ الْحَيْضِ وَلَمْ يُرِدْ بِهِ الَّتِي هِيَ فِي أَيَّامِ حَيْضِهَا؛ لِأَنَّ الْحَائِضَ لَا تُصَلِّي بِوَجْهٍ (إِلَّا بِخِمَارٍ) أَيْ مَا يُتَخَمَّرُ بِهِ مِنْ سِتْرِ رَأْسٍ».
(3) عن سلمة بن الأكوع قال: قلت: يا رسول الله، إني أكون في الصيد أفأصلي في الثوب الواحد؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: «نعم وازرره ولو بشوكة». أخرجه أبو داود، قوله: (وَأَزْرُرْهُ) بِضَمِّ الرَّاءِ أَيِ اشْدُدْهُ (وَلَوْ بِشَوْكَةٍ) قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا إِذَا كَانَ جَيْبُ الْقَمِيصِ وَاسِعًا يَظْهَرُ مِنْهُ عَوْرَتُهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُزِرَّهُ؛ لِئَلَّا يَكْشِفَ عَوْرَتَهُ».
فهذه النصوص وغيرها تدل على أن سترة العورة واجب في الصلاة بالاتفاق، قال ابن عبد البر: «احتجوا بالإجماع على إفساد صلاة من ترك ثوبه وهو قادر على الاستتار»، واتفق الفقهاء على بطلان صلاة من كشف عورته فيها متعمدا سواء طال الزمن أم قصر.
ابو وليد البحيرى
2021-03-19, 03:22 PM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (24)
الأحكام الفقهية المستفادة من حوار أهل النار مع أهل الجنة
د.وليد خالد الربيع
قال -تعالى-: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} (سورة الأعراف:50). قال الطبري: «هذا خبر من الله -تعالى ذكره- عن استغاثة أهل النار بأهل الجنة، عند نـزول عظيم البلاء بهم من شدة العطش والجوع، عقوبةً من الله لهم على ما سلف منهم في الدنيا من ترك طاعة الله، وعدم أداء ما كان فرض عليهم في أموالهم تجاه المساكين من الزكاة والصدقة». وذكر بسنده عن ابن عباس قال: «ينادي الرجلُ أخاه أو أباه، فيقول: قد احترقت، أفض عليَّ من الماء، فيقال لهم: أجيبوهم. فيقولون: «إن الله حرمهما على الكافرين».
ويستفاد من هذه الآية الكريمة مسائل منها:
المسألة الأولى:
أفضل الصدقة سقي الماء:
من عجيب الاستدلال، ودقة المأخذ ما استنبطه ابن عباس من هذه الآية الكريمة؛ حيث سئل: أي الصدقة أفضل؟ فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أفضل الصدقة الماء»، ألم تسمع إلى أهل النار لما استغاثوا بأهل الجنة قالوا: {أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ}؟
ومن هنا ذكر القرطبي أن هذه الآية: «دليل على أن سقي الماء من أفضل الأعمال».
وقد جاءت السنة المطهرة بتأكيد هذا المعنى، فقد أخرج أحمد وأصحاب السنن أن سعدا قال: يا رسول الله، إن أمي ماتت، أفأتصدق عنها؟ قال: «نعم»، قلت: فأي الصدقة أفضل؟ قال: «سَقْيُ الْمَاء». حسنه الألباني. وفي رواية فحفر بئرا فقال: هذه لأم سعد». أي: أن هذه البئر صدقة لها.
قال في عون المعبود: «إنما كان الماء أفضل لأنه أعم نفعا في الأمور الدينية والدنيوية، ولا سيما في تلك البلاد الحارة، ولذلك منّ الله -تعالى- بقوله: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا}».
قال القرطبي: «فدل على أن سقي الماء من أعظم القربات عند الله -تعالى-، وقد قال بعض التابعين: من كثرت ذنوبه فعليه بسقي الماء. وقد غفر الله ذنوب الذي سقى الكلب، فكيف بمن سقى رجلا مؤمنا موحدا وأحياه؟! روى البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «بينا رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش؛ فنزل بئرا فشرب منها ثم خرج، فإذا كلب يأكل الثرى من العطش؛ فقال: لقد بلغ هذا الكلب مثل الذي بلغ بي؛ فملأ خفه ثم أمسكه بفيه ثم رقي فسقى الكلب؛ فشكر الله له، فغفر له، قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم لأجرا؟ قال: «في كل ذات كبد رطبة أجر».
المسألة الثانية: صاحب الماء
أحق بمائه:
قال القرطبي: «وقد استدل بهذه الآية من قال: إن صاحب الحوض والقربة أحق بمائه، وأن له منعه ممن أراده؛ لأن معنى قول أهل الجنة: {إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} لا حق لكم فيها، وقد بوب البخاري - رحمه الله - على هذا المعنى: (باب من رأى أن صاحب الحوض والقربة أحق بمائه)، وأدخل في الباب عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «والذي نفسي بيده لأذودن رجالا عن حوضي كما تذاد الغريبة من الإبل عن الحوض». ومعنى لأذودن:لأطردن.
قال ابن حجر: «ومناسبته للترجمة من ذكره - صلى الله عليه وسلم - أن صاحب الحوض يطرد إبل غيره عن حوضه ولم ينكر ذلك؛ فيدل على الجواز».
وذكر البخاري حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم أو قال: لو لم تغرف من الماء لكانت عينا معينا. وأقبل جرهم فقالوا: أتأذنين أن ننزل عندك؟ قالت: نعم، ولا حق لكم في الماء. قالوا: نعم».
قال ابن حجر: ومناسبته للترجمة من جهة قولها: «ولا حق لكم في الماء» وقرر النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، قال الخطابي: «فيه أن من أنبط ماء في فلاة من الأرض ملكه، ولا يشاركه فيه غيره إلا برضاه، إلا أنه لا يمنع فضله إلا استغنى عنه».
ومن هنا اتفق الفقهاء على أن الماء المحرز في آنية مملوكة لشخص معين كالصهاريج والأواني ونحوها مملوك لمن أحرزه؛ حيث نقله من الملكية العامة إلى الملكية الخاصة بالحيازة، فله أن يتصرف فيه بالاستعمال والاستغلال، ولا يجوز لأحد أن ينتفع بهذا الماء المملوك إلا بإذن صاحبه، فإن أخذه شخص بغير إذن صاحبه فعليه ضمان الضرر والتلف إذا وقع.
وقد اتفق الفقهاء على استحباب بذل الفاضل من الماء لمن احتاج إليه وسأله لعموم الأدلة على ذلك، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به فضل الكلأ» متفق عليه، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من منع فضل مائه أو فضل كلئه منعه الله فضله يوم القيامة» أخرجه أحمد، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، رجل كان له فضل ماء بالطريق فمنعه من ابن السبيل» الحديث أخرجه البخاري.
ويبين ابن حجر أن وجه الدلالة في هذه الأحاديث من جهة أن المعاقبة وقعت على منعه الفضل، فدل على أنه أحق بالأصل.
وجوب بذل الماء
وقد بحث الفقهاء مسألة (وجوب بذل الماء على مالكه) وفرقوا بين صورتين:
- الصورة الأولى: ألا يزيد الماء عن حاجة مالكه؛ ففي هذه الحالة اتفق الفقهاء أنه لا يجب عليه أن يبذله لمن طلبه، قال ابن بطال: «لا خلاف بين العلماء أن صاحب الماء أحق بمائه حتى يروي».
- الصورة الثانية: إذا كان الماء زائدا عن حاجة مالكه: فقد اختلف الفقهاء في هذه الصورة، والذي يظهر هو أن الماء المحرز ملك لمن أحرزه، فلا يجوز لأحد أن ينتفع به إلا بإذن مالكه كسائر الأموال الخاصة، فلا يجب على مالكه بذله لأحد بغير عوض، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه»، فيجوز لصاحبه أن يمنعه لمن سأله، وأن يبيعه بثمن معقول، وتحمل أحاديث النهي المتقدمة على من منع الماء المضطر الذي لا يجد ماء غيره، فهنا حالة اضطرار تستثنى من الأصل؛ فيجب بذل الماء له بغير عوض؛ لأن في ذلك إنقاذ النفس التي كرمها الله -تعالى-، وقد قال -سبحانه-: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}(سورةال مائدة:32)، قال ابن حجر: «وأما الماء المحرز في الإناء فلا يجب بذل فضله لغير المضطر على الصحيح، ومحل النهي ما إذا لم يجد المأمور بالبذل له ماء غيره».
ابو وليد البحيرى
2021-03-19, 03:41 PM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (25)
الأحكام الفقهية من قصة شعيب -عليه السلام
د.وليد خالد الربيع
قال -تعالى-: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (سورة الأعراف:85).
ذكر الله -تعالى- في سورة الأعراف أنباء كثير من الأنبياء والمرسلين، لما في قصصهم من المواعظ والفوائد والأحكام الفقهية، ومنهم شعيب -عليه السلام-، حيث دعا قومه إلى أداء حق الله -تعالى- وحقوق العباد، فحق الله -سبحانه- أن يفرد بالعبادة ولا يشرك به شيء، وأن يطاع فلا يعصى -سبحانه-، وأمام حقوق العباد فأمرهم شعيب -عليه السلام- بالعدل في المعاملات بتوفية الكيل والميزان، ونهاهم عن البخس والفساد.
ويوضح الراغب الأصفهاني معنى البخس فيقول: «البَخْسُ: نقص الشيء على سبيل الظلم».
وقال القرطبي: «البخس: النقص، وهو يكون في السلعة بالتعييب والتزهيد فيها، أو المخادعة عن القيمة، والاحتيال في التزيد في الكيل والنقصان منه. وكل ذلك من أكل المال بالباطل، وذلك منهي عنه في الأمم المتقدمة والسالفة على ألسنة الرسل».
البخس من جهة المشتري
والبخس قد يكون من جهة المشتري بأن يقلل من قيمة ما يريد شراءه ليحظى بثمن أقل من قيمته الحقيقية كما قال ابن عاشور: «وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْبَخْسُ مُتَعَلِّقًا بِالْكَمِّيَّةِ كَمَا يَقُولُ الْمُشْتَرِيَ: هَذَا النِّحْيُ لَا يَزِنُ أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةِ أَرْطَالٍ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ مِثْلَهُ يَزِنُ اثْنَيْ عَشَرَ رِطْلًا، أَوْ يَقُولُ: لَيْسَ عَلَى هَذَا النَّخْلِ أَكْثَرُ مِنْ عَشَرَةِ قَنَاطِيرَ تَمْرًا فِي حِينِ أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَبْلُغُ عِشْرِينَ قِنْطَارًا.
وَقَدْ يَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِالصِّفَةِ كَمَا يَقُولُ: هَذَا الْبَعِيرُ شَرُودٌ وَهُوَ مِنَ الرَّوَاحِلِ، وَيَكُونُ طَرِيقُ الْبَخْسِ قَوْلًا، كَمَا مَثَّلْنَا، وَفِعْلًا كَمَا يَكُونُ مِنْ بَذْلِ ثَمَنٍ رَخِيصٍ فِي شَيْءٍ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُبَاعَ غَالِيًا، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْبَخْسِ أَنْ يَنْتَفِعَ الْبَاخِسُ الرَّاغِبُ فِي السِّلْعَةِ الْمَبْخُوسَةِ بِأَنْ يَصْرِفَ النَّاسَ عَنِ الرَّغْبَةِ فِيهَا فَتَبْقَى كَلًّا عَلَى جَالِبِهَا فَيَضْطَرُّ إِلَى بَيْعِهَا بِثَمَنٍ زَهِيدٍ، وَقَدْ يُقْصَدُ مِنْهُ إِلْقَاءُ الشَّكِّ فِي نَفْسِ جَالِبِ السِّلْعَةِ بِأَنَّ سِلْعَتَهُ هِيَ دُونَ مَا هُوَ رَائِجٌ بَيْنَ النَّاسِ، فَيَدْخُلُهُ الْيَأْسُ مِنْ فَوَائِدِ نِتَاجِهِ فَتَكْسَلُ الْهِمَمُ».
والبخس قد يكون من البائع وهو ما يسميه الفقهاء الغبن، وهو: بيع السلعة بأكثر مما تعارف الناس على التسامح بمثله.
حكم الغبن
وأما حكم الغبن:
فقد قسم الفقهاء الغبن إلى نوعين: يسير وفاحش، ويرجع في تعيين الحد الفارق بينهما إلى العرف أو لأهل الخبرة، لأن ما لم يرد له تقدير في الشرع يرجع فيه إلى العرف.
وأما حكم الغبن: فالغبن الفاحش الكثير وهو الذي لا يتسامح بمثله فحكمه التحريم لما فيه من التغرير بالمشتري والغش المنهي عنه، وقد قال - صلى الله عليه وسلم-: «من غشنا فليس منا» أخرجه مسلم.
الغبن اليسير
وأما الغبن اليسير وهو الذي يتسامح الناس بمثله فهو جائز، لأنه لا يمكن التحرز منه وهو مما تعارف الناس على التعامل به دون نكير، قال القاضي ابن العربي: «إن الغبن في الدنيا ممنوع بإجماع في حكم الدين، إذ هو من باب الخداع المحرم شرعا في كل ملة، لكن اليسير منه لا يمكن الاحتراز منه لأحد فمضى في البيوع، إذ لو حكمنا برده ما نفذ بيع أبدا، لأنه لا يخلو منه، والفرق بين القليل والكثير أصل في الشريعة معلوم».
وأما تأثير الغبن في صحة العقد، فالحكم يختلف بحسب نوع الغبن ومن وقع الغبن عليه:
فقد ذهب عامة الفقهاء إلى أن الغبن اليسير لا تأثير له في صحة العقود، وقد تقدم كلام القاضي ابن العربي في عدم تأثير الغبن اليسير في صحة العقد، وقال ابن هبيرة: «اتفقوا على أن الغبن في البيع بما لا يفحش لا يؤثر في صحته».
الغبن الكثير
أما الغبن الكثير في حق البائع بأن يبيع الشخص ماله بنقص كبير مع علمه ورضاه فهو جائز، لأن ثبوت الملك له على وجه مشروع يعطيه الحق في التصرف بماله استهلاكا واستعمالا واستغلالا في حدود المشروع، فله أن يبيع الشيء الغالي بالثمن البخس كما له أن يهبه بغير عوض ما دام أهلا للتصرفات المالية وهو عالم وراض بهذا البيع.
قال القرطبي: «والجمهور على جواز الغبن في التجارة، مثل أن يبيع رجل ياقوتة بدرهم وهي تساوي مائة فذلك جائز، وأن المالك الصحيح الملك جائز له أن يبيع ماله الكثير بالتافه اليسير، وهذا ما لا اختلاف فيه بين العلماء إذا عرف قدر ذلك، كما تجوز الهبة لو وهب».
ومما استدل به قوله -عليه السلام- في حديث الأمة الزانية: «إذَا زَنَتْ أمَةُ أحَدِكُمْ، فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا، فَلْيَجْلِدْهَا الحَدَّ، ولَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا، ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا الحَدَّ، ولَا يُثَرِّبْ، ثُمَّ إنْ زَنَتِ الثَّالِثَةَ، فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا فَلْيَبِعْهَا ولو بحَبْلٍ مِن شَعَرٍ». متفق عليه
قال النووي: «فيه جواز بيع الشيء النفيس بثمن حقير، وهذا مجمع عليه إذا كان البائع عالما به».
أما الغبن الكثير إذا وقع على المشتري بأن اشترى شيئا بثمن يفوق قيمته الحقيقية بفارق كبير لا يتسامح بمثله عادة، فقد اختلف الفقهاء في تأثير الغبن الفاحش في صحة العقد، والأظهر أن الغبن إذا صاحبه تغرير فللمغبون إذا علم بذلك الخيار بين إمضاء العقد أو فسخه، وكذلك إذا لم يصحب الغبن تغرير، لأن الحق له ولا يجبر الشخص على فسخ العقد خاصة إذا لم يقع خلل في الأركان والشروط الشرعية، وإنما الخلل قد وقع من جهة اختلال رضا المشتري، حيث غبن بالثمن، والأدلة الشرعية تدل على اشتراط الرضا في صحة التصرفات كقوله -تعالى-: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} (سورة النساء:29) وقال -عليه السلام-: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه» أخرجه أحمد، والمغبون لا يرضى بالغبن إذا علم به ولا تطيب نفسه به، مما يدل على عدم صحة هذا التصرف وثبوت الخيار للمغبون.
وأيضا لأن الغبن إضرار بالمغبون والضرر مرفوع في الشريعة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا ضرر ولا ضرار» أخرجه ابن ماجه، مما يؤكد أن الغبن مؤثر في صحة العقود ويثبت الخيار للمغبون لمنحه فرصة لرفع الضرر إن أراد ذلك.
ابو وليد البحيرى
2021-03-25, 10:58 AM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (26)
- الأحكام الفقهية من قصة شعيب -عليه السلام
د.وليد خالد الربيع
لا نزال مع قوله -تعالى-: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (سورة الأعراف:85)
فمن المسائل المستفادة من هذه الآية الكريمة حرمة الفساد في الأرض، قال ابن كثير: «ينهى -تعالى- عن الإفساد في الأرض، وما أضره بعد الإصلاح! فإنه إذا كانت الأمور ماشية على السداد ثم وقع الإفساد بعد ذلك، كان أضر ما يكون على العباد فنهى الله -تعالى- عن ذلك».
أثر الإفساد في الأرض
وللإفساد أثر سيء على الأفراد والمجتمعات، قال الشيخ ابن سعدي: «{وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} بعمل المعاصي {بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} بالطاعات، فإن المعاصي تفسد الأخلاق والأعمال والأرزاق، كما قال -تعالى-: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} كما أن الطاعات تصلح بها الأخلاق، والأعمال، والأرزاق، وأحوال الدنيا والآخرة».
اختلال يخرج الشيء عن صلاحه
والفساد اختلال يعتري الشيء فيخرجه عن صلاحه وما هُيِّئَ له، قال ابن الجوزي: «الفساد تغير الشيء عما كان عليه من الصلاح، وقد يقال في الشيء مع قيام ذاته، ويقال فيه مع انتقاضها، ويقال إذا بطل وزال».
والإفساد كما عرفه الكفوي بأنه: «جعل الشيء فاسدا خارجا عما ينبغي أن يكون عليه وعن كونه منتفعا به، وهو في الحقيقة: إخراج الشيء عن حالة محمودة لا لغرض صحيح».
الفساد معنى كبير
والفساد في الأرض معنى كبير يدخل فيه الشرك بالله -تعالى- وعبادة غيره، ويدخل فيه المعاصي والذنوب كما قال القرطبي: «وهو لفظ يعم دقيق الفساد وجليله».
والفساد يكون في الأديان والأبدان والأعراض والعقول والأموال وغير ذلك من المصالح التي جاءت الشريعة بحفظها والدفاع عنها، ومع الأسف فإن بعض الناس يهمه ضياع الأموال وفساد الذمم، وهو بلا شك من الفساد المنهي عنه، ويتهاون فيما هو أعظم منه، وهو فساد الأديان بعبادة غير الله -تعالى- أو معصية رسوله - صلى الله عليه وسلم .
قال ابن القيم في تفسير قوله -تعالى-: {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها}: «قال أكثر المفسرين: لا تفسدوا فيها بالمعاصي والدعاء إلى غير طاعة الله بعد إصلاح الله لها ببعث الرسل وبيان الشريعة والدعاء إلى طاعة الله، فإن عبادة غير الله والدعوة إلى غيره والشرك به هو أعظم فساد في الأرض، بل فساد الأرض في الحقيقة إنما هو بالشرك به ومخالفة أمره، فالشرك والدعوة إلى غير الله وإقامة معبود غيره ومطاع متبع غير رسول الله هو أعظم فساد في الأرض، ولا صلاح لها ولا لأهلها إلا بأن يكون الله وحده هو المعبود المطاع والدعوة له لا لغيره، والطاعة والاتباع لرسوله ليس إلا».
تكرر ذكره في القرآن
و(الفساد) من المعاني التي كرر القرآن ذكرها للتحذير منها وبيان عظيم خطرها، وسلك في ذلك مسالك متنوعة، وأساليب متعددة لتقرير هذا فمن ذلك النهي الصريح عن الفساد فقال -سبحانه-: {ولا تعثوا في الأرض مفسدين}، وقال: {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها}.
وبين -سبحانه- أنه لا يحب الفساد ولا المفسدين فقال -سبحانه-: {والله لا يحب الفساد}، وقال -تعالى-: {إن الله لا يحب المفسدين}، وأعلمنا بأنه لا يصلح عمل المفسدين فقال -عز وجل-: {إن الله لا يصلح عمل المفسدين}، وحذرنا تعالى من الإفساد في الأرض لأنه من صفات المنافقين فقال -تعالى-:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لَّا يَشْعُرُونَ}.
وبين أن الإفساد في الأرض من أخلاق الفاسقين العاصين فقال -تعالى-: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}.
من أبرز سمات اليهود
والإفساد في الأرض من أبرز سمات اليهود كما قال -تعالى-: {وقالت اليهود يد الله مغلولة} إلى أن قال: {كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين}، والإفساد في الأرض من سمة فرعون وقومه كما قال -تعالى-: {وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ} وقال -تعالى-: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}.
الفساد مقابل للصلاح
وجعل الله -تعالى- الفساد والإفساد مقابلا للصلاح والإصلاح فقال -تعالى-: {وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} وقال: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ}.
توعد المفسدين في الأرض
وقد توعد الله المفسد في الأرض بالعقاب الأليم فقال -تعالى-:{والله يعلم المفسد من المصلح} وقال: {فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين} وقال: {وربك أعلم بالمفسدين} وهذا العلم ليس فقط هو مجرد الإدراك والإحاطة وإنما يتبعه الحساب والجزاء، وقال -سبحانه-: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ}، وقال -تعالى-: {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}.
النهي عن متابعة المفسدين
ونهانا ربنا -تبارك وتعالى- عن متابعة المفسدين فقال: {وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} لما في ذلك من عصيان الرب والتعرض لعقوبته الشديدة، وتضييع مصالح العباد والتضييق عليهم بقطع السبل ومنع الخيرات والصد عن سبيل الله.
مدح أهل الصلاح
ومدح الله أهل الصلاح والإصلاح، وبين أنهم لا يتساوون في ميزانه مع أهل الفساد والإفساد فقال -سبحانه-: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِين َ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ}.
موقع الإفساد في الشرع المطهر
فهذه النصوص الكثيرة في ذم الفساد في الأرض، والنهي عنه والتحذير منه، وبيان أنه ليس من هدي المؤمنين وإنما هو من عمل الكافرين واليهود والمنافقين والفاسقين، وما أعد الله للمفسدين من العقاب الأليم، تدل بوضوح على موقع الإفساد في الأرض في الشرع المطهر، وأنه مذموم مرذول قبيح مستنكر، وأن الذي يأمر به ويدعو إليه ويقوم به قد جاء بأمر عظيم ومنكر شديد.
ابو وليد البحيرى
2021-03-25, 11:05 AM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (27)
- الأحكام الفقهية من قصة شعيب -عليه السلام
د.وليد خالد الربيع
قال -تعالى-: {وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} (الأعراف:86)، ما زال الحديث مستمرًا حول المسائل المستفادة من قصة شعيب -عليه السلام- مع قومه واليوم نتكلم عن مسألة (حق الطريق).
فالطريق يعد من أهم وسائل التواصل القديمة والحديثة، فمن خلاله يصل الناس إلى مقاصدهم، ويحققون منافعهم، وقد اعتنى الإسلام بالطريق عناية كبيرة، فشرع للطرقات أحكاما وآدابا تحفظ بقاءها وسلامتها، وتحقق مصالح السالكين وتدرأ عنهم المفاسد والأضرار.
حق المرور
وحق المرور هو حق الإنسان في الوصول إلى ملكه أو مصالحه من طريق عام أو من طريق مشترك أو من طريق خاص ثبت له فيه حق المرور، واتفق الفقهاء على أن حق المرور في الطريق العام حق لجميع الناس، لكل واحد منهم حق الانتفاع به، وليس لأحد أن يختص بشيء منه، لكن بشرط السلامة والمحافظة عليه، وعدم الإيذاء أو الإضرار للآخرين، فيمنع كل تصرف يؤذي المارة ويضيق عليهم لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا ضرر ولا ضرار».
قوم شعيب وإيذاء الناس
فقوم شعيب -عليه السلام- كانوا يؤذون الناس في طرقاتهم كما قال القرطبي: «نهاهم عن القعود بالطرق والصد عن الطريق الذي يؤدي إلى طاعة الله، وكانوا يوعدون العذاب من آمن. واختلف العلماء في معنى قعودهم على الطرق.
فقال ابن عباس وغيره: كانوا يقعدون على الطرقات المفضية إلى شعيب فيتوعدون من أراد المجيء إليه ويصدونه ويقولون: إنه كذاب فلا تذهب إليه، كما كانت قريش تفعله مع النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذا ظاهر الآية، وقال أبو هريرة: هذا نهي عن قطع الطريق، وأخذ السلب وكان ذلك من فعلهم».
العقوبة الحازمة
ومن عناية الإسلام بالطريق أن شرع الله -سبحانه- العقوبة الحازمة لمن قطع الطريق وأخاف السبيل في قوله -تعالى-: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، قال القرطبي: «نَزَلَتْ الْآيَة فِيمَنْ خَرَجَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَقْطَع السَّبِيل وَيَسْعَى فِي الْأَرْض بِالْفَسَادِ».
حق الطريق في السنة النبوية
وفي السنة ما يؤكد أن للطريق حقا، وليس للمرء أن يخل بذلك الحق، فعن أبي سعيد الخُدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إياكم والجلوسَ في الطُّرقات»! قالوا: يا رسول الله، ما لنا من مجالسنا بُدٌّ، نتحدَّثُ فيها، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «فإذا أبيتم إلا الجلوس، فأعطُوا الطريق حقَّه»، قالوا: وما حقُّ الطريقِ يا رسولَ الله؟ قال: «غَضُّ البصرِ، وكَفُّ الأذى، وردُّ السلام، والأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكَر» مُتَّفق عليه.
قال الشيخ ابن عثيمين: «ففي هذا الحديث يُحذر النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلمين من الجلوس على الطرقات، فإن كان لابد من ذلك، فإنه يجب أن يعطى الطريق حقَّه».
من الأحاديث الجامعة
قال النووي: «هذا الحديث كثير الفوائد، وهو من الأحاديث الجامعة، وأحكامه ظاهرة، وينبغي أن يجتنب الجلوس في الطرقات لهذا الحديث، ويدخل في كف الأذى اجتناب الغيبة، وظن السوء، وإحقار بعض المارين، وتضييق الطريق، وكذا إذا كان القاعدون ممن يهابهم المارون، أو يخافون منهم، ويمتنعون من المرور في أشغالهم بسبب ذلك؛ لكونهم لا يجدون طريقا إلا ذلك الموضع».
مفهوم عظيم
وكف الأذى مفهوم عظيم، ومعنى كبير أكده الإسلام، ومع الأسف أهمله بعض المسلمين جهلا به أو تجاهلا له، وقد بين - صلى الله عليه وسلم - أن إزالة ما يتأذى منه الناس من الحسنات فقال: «عُرِضتْ عليَّ أعمال أمتي، حَسَنها وسيئها، فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يُماط عن الطريق، ووجدتُ في مساوئ أعمالها النخاعة تكون في المسجد» أخرجه مسلم
من شعب الإيمان
وإماطة الأذى عن الطريق من شعب الإيمان العملية كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان» أخرجه مسلم.
قال النووي: «قوله: «وأدناها إماطة الأذى عن الطريق» أي: تنحيته وإبعاده. والمراد بالأذى كل ما يؤذي من حجر أو مدر أو شوك أو غيره».
وعدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم تنحية الأذى من جملة الصدقات التي تنفع العبد يوم القيامة فقال في حديث طويل: «وتميط الأذى عن الطريق صدقة». متفق عليه.
النهي عن إيذاء المؤمنين
ونهى النبي صلى الله عليه وسلم - عن إيذاء المؤمنين في طرقهم بالإيذاء الحسي أو المعنوي فقالَ: «اتّقُوا اللَّاعِنَيْنِ: الذي يَتَخَلّى في طريق النّاسِ، أو في ظِلِّهم» رواه مسلم. أي: احذروا الأمرين الجالبين للعن الناس، قال النووي: «قوله: «الذي يتخلى في طريق الناس» فمعناه يتغوط في موضع يمر به الناس وما نهى عنه في الظل والطريق لما فيه من إيذاء المسلمين بتنجيس من يمر به ونتنه واستقذاره».
تحريم التخلي في الطريق
وفيه تحريم التخلي في الطريق، وتحريم التخلي في الظل؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعله سببا للعن.
قال الصنعاني: «والمراد بالذي يتخلى في طريق الناس أي: يتغوط فيما يمر به الناس، فإنه يؤذيهم بنتنه واستقذاره ويؤدي إلى لعنه، فإن كان لعنه جائزا فقد تسبب إلى الدعاء عليه بإبعاده عن الرحمة، وإن كان غير جائز فقد تسبب إلى تأثيم غيره بلعنه».
وقال الشيخ ابن عثيمين: «جواز لعن من فعل ذلك؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر عن هذا محذرا من أن تقع اللعنة على الفاعل، ولا يمكن أن تقع اللعنة على الفاعل إلا إذا كان اللاعن محقا، أما غير المحق فلا يمكن أن تقع اللعنة على الملعون، وعلى هذا يجوز أن يلعن الإنسان فاعل ذلك».وقال أيضاً: «من الورع ألا يلعنه بعينه، وإنما يقول: اللهم العن من فعل كذا، لأن لعن المعين حرام»، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من آذى المسلمين في طرقهم وجبت عليه لعنتهم». أخرجه الطبراني وحسنه الألباني، قال المناوي مبينا كيفية الإيذاء: «بنحو وضع حجر أو شوك أو تغوط أو تبول».
ومع كل هذه الأدلة التي ترغب في إماطة الأذى، وتحذر من إيذاء المؤمنين، تجد من لا يبالي بذلك ولا يرفع بذلك رأسا، فيقوم بإيذاء المسلمين بما يضعه في طرقاتهم وأسواقهم مما يؤذيهم ويُدنِّس ثيابَهم، أو بما يجرح أبدانهم، ويُعرِّضهم لما يؤلمهم كالأحجار والأخشاب والزجاج والمسامير، أو بما يُضيِّق طرقاتهم كالتراب وحَفْر الحفر بلا ضرورة، أو لضرورة ويتساهل أصحابها في إزالتها، أو بوضع حواجز للحماية منها.
ابو وليد البحيرى
2021-03-25, 11:11 AM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (28)
الأحكام الفقهية من قصة موسى -عليه السلام
د.وليد خالد الربيع
قصة موسى -عليه السلام- من القصص التي تكررت كثيرًا في القرآن الكريم، وتناولت جوانب عديدة من حياة ذلك الرسول الكريم -عليه السلام-، ومن تلك الجوانب مرحلة دعوته لفرعون وقومه للإسلام، وما قابلوه به من الكفر والإيذاء، وبعد إقامة الحجج والبراهين وإصرارهم على العناد عذبهم الله -تعالى- بأنواع من العقوبات قبل استئصالهم؛ فقال -تعالى-: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ} (سورة الأعراف:133).
قال الشيخ ابن سعدي: «(فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ) أي: الماء الكثير الذي أغرق أشجارهم وزروعهم، وأضر بهم ضررًا كثيرًا، (وَالْجَرَادَ) فأكل ثمارهم وزروعهم، ونباتهم (وَالْقُمَّلَ) قيل: إنه الدباء، أي: صغار الجراد، والظاهر أنه القمل المعروف، (وَالضَّفَادِعَ) فملأت أوعيتهم، وأقلقتهم، وآذتهم أذية شديدة، (وَالدَّمَ) إما أن يكون الرعاف، أو كما قال كثير من المفسرين، إن ماءهم الذي يشربون انقلب دما، فكانوا لا يشربون إلا دما، ولا يطبخون إلا بدم، (آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ) أي: أدلة وبينات على أنهم كانوا كاذبين ظالمين، وعلى أن ما جاء به موسى، حق وصدق فَاسْتَكْبَرُوا لما رأوا الآيات، وَكَانُوا في سابق أمرهم قَوْمًا مُجْرِمِينَ؛ فلذلك عاقبهم اللّه -تعالى-، بأن أبقاهم على الغي والضلال».
مسائل فقهية
واستنبط العلماء من هذه الآية الكريمة مسائل فقهية، منها:
المسألة الأولى: حكم أكل الجراد
الجراد بِفَتْحِ الْجِيمِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ حشرة مَعْرُوفة، وَالْوَاحِدَةُ جَرَادَةٌ، قال ابن حجر: «وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى سَوَاءٌ كَالْحَمَامَةِ، وَيُقَالُ إِنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْجَرْدِ لِأَنَّهُ لَا يَنْزِلُ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا جَرَّدَهُ».
وقد أجمعت الأمة على جواز أكله في الجملة، قال القرطبي: «ولم يختلف العلماء في أكله على الجملة، وأنه إذا أخذ حيًا وقطعت رأسه أنه حلال باتفاق، وأن ذلك يتنزل منه منزلة الذكاة فيه»، ودليل الاتفاق على إباحة أكل الجراد الأحاديث الواردة في ذلك ومنها: عن ابن أبي أوفى قال: «غزونا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - سبع غزوات أو ستا، كنا نأكل معه الجراد» متفق عليه. قال النووي: «فيه إباحة الجراد، وأجمع المسلمون على إباحته»، وعن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أحلت لنا ميتتان ودمان، أما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال» أخرجه ابن ماجه. ولم يفصل بين ما مات حتف أنفه أو بفعل آدمي.
هل تشترط تذكيته؟
واختلف الفقهاء هل يحتاج إلى سبب يموت به إذا صيد أم لا، أي: هل تشترط تذكيته؟ على مذهبين:
- المذهب الأول: يحل مطلقا، فلا يشترط أن يموت بفعل آدمي، وهو مذهب الجمهور، قال القرطبي: «عامتهم على أنه لا يحتاج إلى ذلك، ويؤكل كيفما مات. وحكمه عندهم حكم الحيتان، وإليه ذهب ابن نافع ومطرف» من المالكية.
ودليل الجمهور حديث ابن عمر المتقدم وهو ظاهر الدلالة على عدم اشتراط التذكية؛ لأنه عده ميتة، وهي ما مات بغير سبب كالسمك، وقد نص على حله فلا يتوقف على شيء آخر.
- المذهب الثاني: لا يحل إلا إذا مات بسبب من الآدمي، بأن يقطع بعضه أو يسلق أو يلقى في النار، فإن مات حتف أنفه أو في وعاء لم يحل؛ لأنه عند مالك من حيوان البر فميتته محرمة، وهو المشهور عن مالك ورواية عن أحمد، قال القرطبي: «وكان الليث يكره أكل ميتة الجراد، إلا ما أخذ حيا ثم مات فإن أخذه ذكاه، وإليه ذهب سعيد بن المسيب».
المذهب الأول أظهر
والمذهب الأول أظهر لقوة أدلتهم وصراحتها، أما دليل المذهب الثاني فقد أجاب عنه ابن قدامة بقوله: «لأنه تباح ميتته فلم يعتبر له سبب كالسمك، ولأنه لو افتقر إلى سبب لافتقر إلى ذبح وذابح وآلة كبهيمة الأنعام».
قال ابن حجر: «وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى حِلِّ أكل الْجَرَاد، لَكِن فصل ابن الْعَرَبِيِّ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ بَيْنَ جَرَادِ الْحِجَازِ وَجَرَادِ الْأَنْدَلُسِ فَقَالَ فِي جَرَادِ الْأَنْدَلُسِ: لَا يُؤْكَلُ؛ لِأَنَّهُ ضَرَرٌ مَحْضٌ. وَهَذَا إِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ يَضُرُّ أَكْلُهُ بِأَنْ يَكُونَ فِيهِ سُمِّيَّةٌ تَخُصُّهُ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ جَرَادِ الْبِلَادِ تَعَيَّنَ اسْتِثْنَاؤُهُ» .
المسألة الثانية: هل أكله النبي - صلى الله عليه وسلم -؟
ذهب بعض العلماء إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عافَهُ كما عاف الضب، لما أخرجه أبو داود من حديث سلمان قال: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الجراد؟ فقال: «لا آكله ولا أحرمه».
وأجيب بأن الحديث غير ثابت، قال ابن حجر: والصواب أنه مرسل.
ثم بين احتمال أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكله فقال: «وقوله (أي ابن أبي أوفى): «نأكل معه الجراد» يحتمل أن المراد بالمعية مجرد الغزو دون ما تبعه من أكل الجراد، ويحتمل أنه يريد مع أكله، ويدل على الثاني أنه وقع في رواية أبي نعيم في الطب «ويأكل معنا».
المسألة الثالثة
هل يجوز أن يلقى الجراد في النار حيًا؟
قال ابن قدامة: «سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ السَّمَكِ يُلْقَى فِي النَّارِ؟ فَقَالَ: مَا يُعْجِبُنِي، وَالْجَرَادُ أَسْهَلُ، فَإِنَّ هَذَا لَهُ دَمٌ. وَلَمْ يَكْرَهْ أَكْلَ السَّمَكِ إذَا أُلْقِيَ فِي النَّارِ، إنَّمَا كَرِهَ تَعْذِيبَهُ بِالنَّارِ، وَأَمَّا الْجَرَادُ فَسَهَّلَ فِي إلْقَائِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا دَمَ لَهُ، وَلِأَنَّ السَّمَكَ لَا حَاجَةَ إلَى إلْقَائِهِ فِي النَّارِ، لِإِمْكَانِ تَرْكِهِ حَتَّى يَمُوتَ بِسُرْعَةٍ، وَالْجَرَادُ لَا يَمُوتُ فِي الْحَالِ، بَلْ يَبْقَى مُدَّةً طَوِيلَةً.
وَفِي مُسْنَدِ الشَّافِعِيِّ «أَنَّ كَعْبًا كَانَ مُحْرِمًا، فَمَرَّتْ بِهِ رِجْلٌ مِنْ جَرَادٍ، فَنَسِيَ، وَأَخَذَ جَرَادَتَيْنِ، فَأَلْقَاهُمَا فِي النَّارِ، وَشَوَاهُمَا، وَذَكَرَ ذَلِكَ لِعُمَرَ، فَلَمْ يُنْكِرْ عُمَرُ تَرْكَهُمَا فِي النَّارِ. وَذُكِرَ لَهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: كَانَ الْجَرَادُ يُقْلَى لَهُ. فَقَالَ: إنَّمَا يُؤْخَذُ الْجَرَادُ فَتُقْطَعُ أَجْنِحَتُهُ، ثُمَّ يُلْقَى فِي الزَّيْتِ وَهُوَ حَيٌّ».
المسألة الرابعة
هل يقتل الجراد إذا أفسد؟
قال القرطبي: «واختلف العلماء في قتل الجراد إذا حل بأرض فأفسد:
فقيل: لا يقتل، وقال أهل الفقه كلهم: يقتل.
احتج الأولون بأنه خلق عظيم من خلق الله يأكل من رزق الله ولا يجري عليه القلم، وبما روي لا تقتلوا الجراد فإنه جند الله الأعظم.
واحتج الجمهور بأن في تركها فساد الأموال، وقد رخص النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتال المسلم إذا أراد أخذ ماله؛ فالجراد إذا أرادت فساد الأموال كانت أولى أن يجوز قتلها، ألا ترى أنهم قد اتفقوا على أنه يجوز قتل الحية والعقرب لأنهما يؤذيان الناس؟ فكذلك الجراد».
ابو وليد البحيرى
2021-04-01, 12:55 PM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (29)
الأحكام الفقهية من قصة ذهاب موسى لميقات ربه
د.وليد خالد الربيع
قال -تعالى-: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَ ا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} (سورة الأعراف:142)
قال ابن سعدي: «ولما أتم اللّه نعمته عليهم بالنجاة من عدوهم، وتمكينهم في الأرض، أراد -تبارك وتعالى- أن يتم نعمته عليهم، بإنزال الكتاب الذي فيه الأحكام الشرعية، والعقائد المرضية، فواعد موسى ثلاثين ليلة، وأتمها بعشر، فصارت أربعين ليلة، ليستعد موسى، ويتهيأ لوعد اللّه، ويكون لنزولها موقع كبير لديهم، وتشوق إلى إنزالها.
ولما ذهب موسى إلى ميقات ربه، قال لهارون موصيا له على بني إسرائيل من حرصه عليهم وشفقته: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} أي: كن خليفتي فيهم، واعمل فيهم بما كنت أعمل، {وَأَصْلِحْ} أي: اتبع طريق الصلاح {وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} وهم الذين يعملون بالمعاصي».
من المسائل الفقهية التي اشتملت عليها الآية الكريمة:
- المسألة الأولى: مشروعية ضرب الأجل
تعريف الأجل في اللغة:
للأجل في اللغة إطلاقات عديدة منها الوقت المحدد كما قال ابن فارس: «الْأَجَلُ غَايَةُ الْوَقْتِ فِي مَحَلِّ الدَّيْنِ وَغَيْرِهِ». وقال الراغب:» الأَجَل: المدّة المضروبة للشيء، قال -تعالى-: {لِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى} (سورة غافر: 67}، وقال -تعالى-: {أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ} (سورة القصص: 28). ويقال: دينه مُؤَجَّل، وقد أَجَّلْتُهُ: جعلت له أجلًا. ويقال للمدّة المضروبة لحياة الإنسان (أجل) فيقال: دنا أجله، عبارة عن دنوّ الموت.
وبلوغ الأجل في قوله -تعالى-: {وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنّ َ} (سورة البقرة: 231) هو المدة المضروبة بين الطلاق وبين انقضاء العدة، وقوله -تعالى-:{فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} سورة البقرة: 232)، إشارة إلى حين انقضاء العدّة».
تعريف الأجل في الاصطلاح:
عرف الفقهاء الأْجَل بأنه الْمُدَّة الْمُسْتَقْبَلَ ة الَّتِي يُضَافُ إِلَيْهَا أَمْرٌ مِنَ الأْمُورِ، سَوَاءٌ كَانَتْ هَذِهِ الإْضَافَةُ أَجَلاً لِلْوَفَاءِ بِالْتِزَامٍ، أَم أَجَلاً لإِنْهَاءِ الْتِزَامٍ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ هَذِهِ الْمُدَّةُ مُقَرَّرَةً بِالشَّرْعِ، أَوْ بِالْقَضَاءِ، أَم بِإِرَادَةِ الْمُلْتَزِمِ فَرْدًا أَوْ أَكْثَرَ.
أنواع الأجل
قسم الفقهاء الأجل باعتبار مصدره إلى ثلاثة أنواع:
- أَوَّلاً: الأْجَل الشَّرْعِي: وَهُوَ الْمُدَّةُ الْمُسْتَقْبَلَ ةُ الَّتِي حَدَّدَهَا الْمُشَرِّعُ الْحَكِيمُ سَبَبًا لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ، كَأجل وجوب الزكاة، وأجل الرضاع، ومدة الْعِدَّة، وأجل الإيلاء، ومدة تعريف اللقطة.
- ثَانِيًا: الأْجَل الْقَضَائِي: وَهُوَ الْمُدَّةُ الْمُسْتَقْبَلَ ةُ الَّتِي يُحَدِّدُهَا الْقَضَاءُ أَجَلاً لأِمْرٍ مِنَ الأْمُورِ كَإِحْضَارِ الْخَصْمِ، أَوِ الْبَيِّنَةِ. أو المكفول به.
- ثَالِثًا: الأْجَل الاِتِّفَاقِي: وَهُوَ الْمُدَّةُ الْمُسْتَقْبَلَ ةُ الَّتِي يُحَدِّدُهَا الْمُلْتَزِمُ مَوْعِدًا لِلْوَفَاءِ بِالْتِزَامِهِ كقول البائع بعتك على أن تسلمني الثمن في أول الشهر المقبل، أَوْ لإِنْهَاءِ تَنْفِيذِ هَذَا الاِلْتِزَامِ مثل أن ينص في عقد الشركة على أنها تنتهي بعد عشر سنوات، أو تحدد مدة الإجارة بشهر مثلا.
وينقسم الأجل مِنْ حَيْثُ ضَبْطه وَتَحْدِيده إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ وَأَجَلٍ مَجْهُولٍ. والعلم بالأْجَلِ لَهَ أَثَرٌ في صِحَّةِ بعض الْعَقْودِ، لِمَا تُورِثُهُ الْجَهَالَةُ مِنَ الْغَرَرِ، ولذلك تفصيل يطول ذكره.
حكم ضرب الأجل
فمما يستفاد من هذه الآية مشروعية تحديد الأجل في بعض التصرفات بحسب ما يتفق عليه العاقدان كما في الأثمان المؤجلة ومدة الإجارة ومدة القرض والإعارة ونحو ذلك، قال القرطبي: «دلت هذه الآية على أن ضرب الأجل للمواعدة سنة ماضية، ومعنى قديم أسسه الله -تعالى- في القضايا، وحكم به للأمم، وعرفهم به مقادير التأني في الأعمال.
وأول أجل ضربه الله -تعالى- الأيام الستة التي خلق فيها جميع المخلوقات {ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب}».
وقد دل على مشروعية تحديد الأجل لبعض التصرفات أدلة شرعية منها قوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ}، فهذه الآية تدل على جواز الاستدانة إلى أجل، ويشترط أن يكون الأجل معلوما.
قال القرطبي: «قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي السَّلَمِ خَاصَّةً. مَعْنَاهُ أَنَّ سَلَمَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَانَ سَبَبَ الْآيَةِ، ثم هي تتناول جميع المدائنات إجماعا».
وعن عائشة -رضي الله عنها- أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - اشْتَرَى طَعَامًا مِن يَهُودِيٍّ إلى أجَلٍ، ورَهَنَهُ دِرْعًا مِن حَدِيدٍ. متفق عليه.
قال ابن حجر: «وَجَوَازُ الشِّرَاءِ بِالثَّمَنِ الْمُؤَجَّلِ»، مما يدل على جواز تأجيل الديون إلى أجل معلوم».
وأنواع الأجال المحددة شرعا في العبادات وغيرها كما تقدم تدل على مشروعية ضرب الأجل في الجملة.
أثر الأجل في إسقاط المطالبة في الحال
شرع تأجيل الديون والمطالبة ببعض الحقوق للرفق بالمكلفين؛ حيث إن حلول الديون وعدم تأجيلها لا يحقق المطلوب، وقد يشق على المدين، فشرع الأجل رفقا به، فالأجل حق للمدين، فلا يطالب بما في ذمته قبل حلول الأجل.
فمن باع سلعة إلى شهر بثمن مؤجل فليس للبائع مطالبة المشتري بالثمن قبل مضي الشهر وحلول الأجل؛ لأن التأجيل بمنزلة الإسقاط؛ فحق البائع أن يحبس السلعة حتى يستلم الثمن، فلما رضي بالتأجيل مدة معينة أسقط حقه بالمطالبة في الحال، فلا حق له في المطالبة إلا عند حلول الأجل، ومثله تأجيل الزوجة استلام مهرها من زوجها مدة معينة، فلا حق لها في المطالبة بدفع المهر قبل هذه المدة، وليس لها أن تمنع زوجها من قربانها لأنها أسقطت ذلك الحق بالرضا بتأجيل المهر.
وعند حلول الأجل وتعذر الأداء فيشرع إمهال المدين إذا طلب زيادة في الأجل لحديث عبادة بن الصامت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَن أنظر معسِرًا، أو وضع عنه، أظلَّه الله في ظلِّه». أخرجه مسلم
عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلِهِ صَدَقَةٌ»، قَالَ: ثُمَّ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلَيْهِ صَدَقَةٌ»، قُلْتُ: سَمِعْتُكَ يَا رَسُولَ اللهِ تَقُولُ: مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلِهِ صَدَقَةٌ، ثُمَّ سَمِعْتُكَ تَقُولُ مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلَيْهِ صَدَقَةٌ، قَالَ: «لَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ الدَّيْنُ، فَإِذَا حَلَّ الدَّيْنُ فَأَنْظَرَهُ فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلَاه صَدَقَةٌ». أخرجه أحمد وصححه الألباني.
قال ابن العربي: فإذا ضرب الأجل لمعنى يحاول فيه تحصيل المؤجل فجاء الأجل ولم يتيسر زيد فيه تبصرة ومعذرة. وقد بين الله -تعالى- ذلك لموسى -عليه السلام- فضرب له أجلا ثلاثين ثم زاده عشرا تتمة أربعين».
ابو وليد البحيرى
2021-04-01, 01:01 PM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (30)
- من قصة موسى وأخيه هارون عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام
د.وليد خالد الربيع
لا نزال مع قوله -تعالى-: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَ ا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} (سورة الأعراف:142)
فمن المسائل المستفادة من هذه الآية الكريمة (مشروعية الاستنابة) في قضاء المصالح الدينية والدنيوية، قال القرطبي: «المعنى: وقال موسى حين أراد المضي للمناجاة والمغيب فيها لأخيه هارون: كن خليفتي؛ فدل على النيابة».
أولاً: تعريف النيابة:
أصل النيابة في اللغة: الرجوع والاعتياد، ومنه: ناب إلى الله وأناب إليه: الرجوع إليه بالتوبة ولزوم طاعته وفي التنزيل: {فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب}، وقوله -سبحانه-: {وأنيبوا إلى ربكم}، وفي الحديث: «وإليك أنبت».
ومن معاني النيابة: إقامة الشخص مقام غيره قال ابن منظور: «ناب عني فلان ينوب نوبا ومنابا أي قام مقامي».
أما تعريف النيابة في الاصطلاح: فقد عرفها الفقهاء بأنها: قيام شخص عن غيره بفعل أمر تجوز فيه النيابة.
وتتنوع النيابة عن الآخَر بحسب مصدرها إلى نوعين؛ نيابة إرادية، ونيابة غير إرادية.
القسم الأول: النيابة الإرادية:
هي النيابة التي تستند إلى إقامة شخص بإرادته غيره مقامه في تصرف ما، مثل: عقد الوكالة ونحوها من العقود التي تتضمن معنى الوكالة.
القسم الثاني: النيابة غير الإرادية:
وهي النيابة التي لا دخل فيها لإرادة الإنسان، بل تفرض عليه لمصلحة الأصيل أحيانا، ولمصلحة غيره أحيانا أخرى، وقد تكون النيابة دون تدخل أحد كما في الولاية، وقد تكون عن طريق القضاء، وهذا القسم أنواع، منها:
1- نيابة الولي:
الولي يشمل الأب والجد ونحوهما من الأولياء بحسب الترتيب الشرعي، وولاية كل منهما أصلية، أي لم تستمد من شخص آخر بل من الشارع مباشرة، وهي ذاتية لا يصح أن يعفي نفسه منه إلا لأسباب معينة يرجع تقديرها إلى القاضي.
2- نيابة الوصي المختار:
خَوَّلَ الشرع الولي أن يختار وصيا من بعده يقوم برعاية الصغير؛ لأنه أدرى بمصلحته وأشفق عليه من غيره، وتعد تصرفات الوصي المختار نافذة أيضا في حق الموصى عليه إذا كانت وفق قواعد الوصاية، وتعد النيابة هنا شرعية؛ لأن الشارع هو الذي نظمها وأعطى الوصي تلك الصلاحية.
3- النيابة القضائية:
وتثبت للقاضي أو من ينيبه؛ إذ من حق القاضي أن ينوب عن الصغير ونحوه إذا لم يكن له ولي ولا وصي مختار، فهو ولي من لا ولي له لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «السلطان ولي من لا ولي له «أخرجه ابن ماجه.
4- نيابة الفضولي:
الفضولي هو من يتصرف في حق غيره بغير إذن شرعي، وتصرفه عند الجمهور موقوف على إجازة من له الحق، فإن أجازه عدّ تصرفه تصرف الوكيل، ومن ثم يأخذ أحكام الوكالة وهي (نيابة إرادية)، ولكن قد تكون أعمال الفضولي ملزمة للأصيل فتدخل في النيابة غير الإرادية لأنها تفرض عليه، كما لو أدى عن غيره واجبا بغير إذنه ولم يكن متبرعا، كما لو أنفق على زوجة الأصيل عند امتناعه أو غيبته أو أنفق على اللقطة أو أدى دينا عنه فإنه يرجع على الأصيل.
وكذلك تصرف الرفقة في السفر إذا مات أحدهم فباعوا متاعه ليجهزوه بثمنه، ويردوا الباقي للورثة فإن التصرف يلزم الورثة ولا يستطيعون رده.
وفي هذه الآية الكريمة وكل موسى -عليه السلام- هارون -عليه السلام- في القيام على بني إسرائيل، مما يدل على مشروعية الوكالة، قال ابن عطية: «قوله: {واخْلُفْنِي} معناه: كن خليفتي، وهذا استخلاف في حياة كالوكالة التي تنقضي بعزل الموكل أو موته».
فالوكالة من أنواع النيابة الإرادية كما تقدم، وهي كما عرفها الفقهاء: بأنها تفويض شخص ما له فعله مما يقبل النيابة إلى غيره ليفعله في حياته.
والوكالة مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع:
أما الكتاب فقول الله -تعالى-: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} (سورة التوبة:60)
قال ابن قدامة: «فجوز العمل عليها، وذلك بحكم النيابة عن المستحقين».
وأيضا قوله -تعالى-: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ} (سورة الكهف:19) قال القرطبي: «في هذه البعثة بالورق دليل على الوكالة وصحتها».
وأما السنة المطهرة: فعن عروة بن أبي الجعد البارقي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاه دينارا ليشتري به له شاة، فاشترى له به شاتين فباع إحداهما بدينار وجاءه بدينار وشاة، فدعا له بالبركة في بيعه، وكان لو اشترى التراب لربح فيه. أخرجه البخاري.
وعن جابر قال: أردت الخروج إلى خيبر، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقلت له: إني أردت الخروج إلى خيبر. فقال: «ائت وكيلي، فخذ منه خمسة عشر وسقا، فإن ابتغى منك آية، فضع يدك على ترقوته». أخرجه أبو داود.
وفي السنة المطهرة أمثلة كثيرة على توكيل النبي - صلى الله عليه وسلم - لكثير من الصحابة في أمور كثيرة، مثل توكيل علي بن أبي طالب في ذبح الهدي، وكذلك توكيل ابن أم مكتوم في الإمامة، وأيضاً وكَّل أبا هريرة على صدقة رمضان، وجاء في الصحيحين أنه قال: «واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها»، فوكَّل أنيساً في تسجيل الاعتراف وفي إقامة الحد.
وكذلك وكَّل - صلى الله عليه وسلم - أبا رافع في نكاح ميمونة، وكذلك ورد أنه وكَّل عمرو بن أمية الضمري -رضي الله عنهم- جميعاً في نكاح أم حبيبة.
وأجمعت الأمة على جواز الوكالة في الجملة، ولأن الحاجة داعية إلى ذلك؛ فإنه لا يمكن كل واحد فعل ما يحتاج إليه، فدعت الحاجة إليها، فأجاز له الشرع أن يستنيب غيره في ذلك، فإذا وكل شخص غيره وكالة صحيحة ترتب على ذلك ثبوت ولاية التصرف للوكيل فيما وكل فيه، فيحتاج إلى بيان ما يملكه الوكيل من التصرف بموجب التوكيل بعد صحته وما لا يملكه.
ابو وليد البحيرى
2021-04-01, 01:07 PM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (31)
- الأحكام الفقهية المستنبطة من قصة موسى مع قومه
د.وليد خالد الربيع
قال -سبحانه-: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (الأعراف:150).
قال ابن كثير: «يخبر -تعالى- أن موسى -عليه السلام- رجع إلى قومه من مناجاة ربه -تعالى- وهو غضبان أسف.قال أبو الدرداء «الأسف»: أشد الغضب {قال بئسما خلفتموني من بعدي} يقول: بئس ما صنعتم في عبادتكم العجل بعد أن ذهبت وتركتكم.وقوله: {وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه} ثم ظاهر السياق أنه إنما ألقى الألواح غضبا على قومه، وهذا قول جمهور العلماء سلفا وخلفا».
المستفاد من الآية
وهذه الآية الكريمة يستفاد منها مسائل فقهية عدة منها:
المسألة الأولى: تأثير الغضب في صحة التصرفات:
الغضب غريزة إنسانية، فهو تغيّر يحصل عند فوران دم القلب ليحصل عنه التشفي وطلب الانتقام، فالإنسان يغضب عندما يستثار، فتقوم الخصومات، وتندلع المضاربات، بل قد يصل الأمر إلى ارتكاب أبشع الجرائم بسبب سَوْرة الغضب وحدة الطبع.
والشرع المطهر يحثنا على الحلم وضبط النفس، وعدم الاسترسال مع الغضب وآثاره الخطيرة، لئلا يقع الإنسان فيما لا تحمد عقباه، ويندم؛ حيث لا ينفع الندم.
فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» متفق عليه. وقال النووي شارحا الحديث: «تعتقدون أن الصرعة: الممدوح القوي الفاضل هو القوي الذي لا يصرعه الرجال بل يصرعهم، وليس هو كذلك شرعا، بل هو من يملك نفسه عند الغضب، فهذا هو الفاضل الممدوح الذي قل من يقدر على التخلق بخلقه ومشاركته في فضيلته بخلاف الأول، وفيه كظم الغيظ، وإمساك النفس عند الغضب عن الانتصار والمخاصمة والمنازعة».
ولهذا تكررت الوصية منه - صلى الله عليه وسلم - بعدم الغضب، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رجلا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - أوصني قال: «لا تغضب» فردد مرارا قال: «لا تغضب» أخرجه البخاري.
قال ابن حجر: «قال الخطابي معنى قوله: «لا تغضب» اجتنب أسباب الغضب ولا تتعرض لما يجلبه، وأما نفس الغضب فلا يتأتى النهي عنه لأنه أمر طبيعي لا يزول من الجبلة. وقيل: معناه لا تفعل ما يأمرك به الغضب».
والغضب لا يؤثر في أهلية المكلف ولا يسقط تبعة أفعاله، قال عامة الفقهاء: والغضبان مكلف حال غضبه بما يصدر منه من كفر وقتل نفس وأخذ مال بغير حق، وغير ذلك.
نذر اللجاج والغضب
ومن الأفعال التي تقع تحت تأثير الغضب نَذرُ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ: وَهُوَ الَّذِي يُخْرِجُهُ الناذر مَخْرَجَ الْيَمِينِ، لِيحَثِّ نفسه أو غيره عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ أَوْ الْمَنْعِ مِنْهُ، غَيْرَ قَاصِدٍ بِهِ لِلنَّذرِ، وَلا الْقُرْبَةِ، كأن يقول: إن فعلت كذا فعليّ صوم أو حج أو صدقة.
فَهَذَا حُكْمُهُ حُكْمُ الْيَمِينِ فيخير بين ما التزمه أو كفارة اليمين، ودليل ذلك ما ثبت عن الصحابة الكرام: فعن عائشة أنها سئلت عن رجل جعل كل مال له في رتاج الكعبة، في شيء كان بينه وبين عمة له، قالت عائشة: «يكفره ما يكفر اليمين».
وعن ابن عباس قيل له: ما تقول في امرأة جعلت بردها عليها هدياً إن لبسته؟ فقال ابن عباس: في غضب أم في رضا؟ قالوا: في غضب قال: «إن الله -تعالى- لا يـُتـقرَّب إليه بالغضب، لتكفر عن يمينها». ومثله عن عمر وابن عمر وغيرهم، ووجه الدلالة أن الصحابة سموا نذر اللجاج والغضب (يميناً)؛ لما فيه من معنى اليمين، ثم أوجبوا فيه كفارة اليمين.
الطلاق
ومن الأفعال الكثيرة التي تقع تحت تأثير الغضب الطلاق، وقد ذكر ابن القيم للغضب ثلاثة أقسام:
- أحدها: ما يزيل العقل فلا يشعر صاحبه بما قال، وهذا لا يقع طلاقه بلا نزاع.
- الثاني: ما يكون في مبادئه؛ بحيث لا يمنع صاحبه من تصور ما يقول وقصد، فهذا يقع طلاقه.
- الثالث: أن يستحكم ويشتد به فلا يزيل عقله بالكلية ولكن يحول بينه وبين نيته؛ بحيث يندم على ما فرط منه إذا زال، فهذا محل نظر، وقد اختلف الفقهاء في وقوع طلاق الغضبان في هذه الحالة على مذهبين:
المذهب الأول: يقع طلاق الغضبان
وقال به الجمهور؛ لأن المطلق مكلف لم يزل عقله بالغضب فقوله معتبر ويقع أثره، وحملوا حديث: «لا طلاق ولا عتاق في إغلاق» أخرجه أحمد وأبو داود وحسنه الألباني على الإكراه، فقالوا: لا يقع طلاق المكره، ويقع طلاق الغضبان.
- قال ابن رجب: «وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا غَضِبْتَ فَاسْكُتْ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْغَضْبَانَ مُكَلَّفٌ فِي حَالِ غَضَبِهِ بِالسُّكُوتِ، فَيَكُونُ حِينَئِذٍ مُؤَاخَذًا بِالْكَلَامِ، وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ أَمَرَ مَنْ غَضِبَ أَنْ يَتَلَافَى غَضَبَهُ بِمَا يُسَكِّنُهُ مِنْ أَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ، وَهَذَا هُوَ عَيْنُ التَّكْلِيفِ لَهُ بِقَطْعِ الْغَضَبِ، فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ فِي حَالِ غَضَبِهِ بِمَا يَصْدُرُ مِنْهُ؟».
ولأن طلاق الناس غالبا إنما يكون في حال الغضب، ولو جاز عدم وقوع طلاق الغضبان لكان لكل أحد أن يقول فيما جناه: كنت غضبان فلا يقع طلاق البتة.
المذهب الثاني: لا يقع طلاق الغضبان
وهو قول الإمام أحمد والشافعي والبخاري وابن تيمية وابن القيم والشيخ ابن باز وابن عثيمين وغيرهم، وقد انتصر له ابن القيم في رسالته (إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان) واستدل له بأدلة كثيرة من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة ومقتضى القياس الصحيح وأصول الشريعة. فمما استدل به:
1- قوله -تعالى-: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا...الآية}، قال ابن القيم: «أن موسى لم يكن ليلقي ألواحا كتبها الله -تعالى- وفيها كلامه من على رأسه إلى الأرض فيكسرها اختيارا لذلك، وإنما حمله على ذلك الغضب فعذره الله -سبحانه- ولم يعتب عليه بما فعله».
2- حديث عائشة مرفوعا: «لا طلاق ولا عتاق في إغلاق»، قال أبو داود: «والإغلاق أظنه الغضب» ونقل الخلال عن الإمام أحمد أن الإغلاق يعني الغضب، قال ابن القيم: وقد فسره الشافعي بالغضب.
3- وما ثبت في الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان» ولولا أن الغضب يؤثر في قصده وعلمه لم ينهه عن الحكم حال الغضب.
قال الشيخ ابن عثيمين: «فالقول بعدم وقوع طلاق الغضبان نظرياً هو القول الراجح، لكن عملياً وتربوياً هل نقول بالفتوى به، أو نمنع الفتوى به إلا في حالات معينة نعرف فيها صدق الزوج؟ الثاني؛ لأننا لو أطلقنا القول بأن طلاق الغضبان لا يقع لَكَثُرَ من يقول: أنا غضبت وطلقت، وهو لا يفرق بين الدرجة الأولى والدرجة الثانية فيقع التلاعب، ولهذا فإطلاق الفتوى بعدم وقوع الطلاق من الغضبان يؤدي إلى أن يتتابع الناس في الطلاق».
ابو وليد البحيرى
2021-04-10, 05:09 AM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (32)
- الأحكام المستفادة من خلق الإنسان من نفس واحدة
د.وليد خالد الربيع
قال -تعالى-: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (سورة الأعراف: 189)، يذكر الله -تعالى- نعمته على عباده؛ حيث أنشأهم من نفس واحدة، والمقصود آدم -عليه السلام- وخلق زوجه حواء -عليها السلام- منه، ثم جاءت ذريتهما وفق ما سنه الله -تعالى- لتكاثر البشر عن طريق الاتصال بين الرجل والمرأة وما يتبع ذلك من حمل وولادة، وقد امتن الله -سبحانه- على عباده بهذا الأمر في مواضع كثيرة منها قوله -سبحانه-: {واللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} (سورة النحل: 72).
قوله -تعالى-: {حَمَلَتْ حَمْلا خَفِيفًا} قال الشيخ ابن سعدي: «وذلك في ابتداء الحمل، لا تحس به الأنثى، ولا يثقلها. {فَلَمَّا} استمرت به و{أَثْقَلَتْ} به حين كبر في بطنها، فحينئذ صار في قلوبهما الشفقة على الولد، وعلى خروجه حيا، صحيحا، سالما لا آفة فيه كذلك فـ {دعوا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا} ولدا {صَالِحًا} أي: صالح الخلقة تامها، لا نقص فيه {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}».
أثر الحمل في تصرفات الحامل
فمن المسائل الفقهية المستفادة من الآية مسألة: أثر الحمل في تصرفات الحامل: قال القرطبي: «دلت الآية على أن الحمل مرض من الأمراض. روى ابن القاسم ويحيى عن مالك قال: «أول الحمل يسر وسرور، وآخره مرض من الأمراض». وهذا الذي قاله مالك: «إنه مرض من الأمراض» يعطيه ظاهر قوله: {دعوا الله ربهما}، وهذه الحالة مشاهدة في الحمال، ولأجل عظم الأمر وشدة الخطب جعل موتها شهادة، كما ورد في الحديث».
من الشهيد من أمتي؟
يشير -رحمه الله- إلى حديث راشد بن حبيش أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل على عبادة بن الصامت في مرضه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أتعلمون من الشهيد من أمتي؟ وذكر منهم: «والنفساء يجرها ولدها بسرره إلى الجنة» والسرر: ما تقطعه القابلة من المولود، والحديث أخرجه الإمام أحمد بسند صحيح.
وقد اختلف الفقهاء في تأثير الحمل في تبرعات الحامل المالية، وقبل ذكر ذلك لابد من بيان أمرين:
- الأمر الأول: تأثير الحمل على الأهلية: والأهلية: صفة يقدرها الشارع في الشخص تجعله صالحا لأن تثبت له الحقوق، وتثبت عليه الواجبات، وتصح منه التصرفات، وهي نوعان:
النوع الأول: أهلية الوجوب
وهي صلاحية الشخص لثبوت الحقوق له وعليه شرعاَ. وتثبت بمجرد ثبوت الحياة، فلا علاقة لها بالسن ولا العقل أو الرشد، بل كل إنسان حي يتمتع بأهلية الوجوب.
النوع الثاني: أهلية الأداء
وهي صلاحية الشخص لصدور التصرفات منه على وجه يعتد به شرعا، وهذا يعني أن أهلية الأداء تجعل الشخص أهلا للمعاملة بين الناس، ومناطها العقل، فتثبت للبالغ العاقل أهلية أداء كاملة، وتثبت للصبي المميز أهلية أداء ناقصة، والحامل العاقلة لها أهلية كاملة؛ لأنها تتمتع بالحياة، ولم يعرض لها ما ينقص أهليتها أو يزيلها.
الأمر الثاني: تأثير مرض الموت في التبرعات
- مرض الموت: هو المرض الذي يقعد من أصيب به عن القيام بمصالحه، ويكون مخوفا أي: يغلب الموت منه، ويموت مريض مرض الموت به. فلو تعافى الإنسان منه أو ابتلي به ولم يمت فليس مرض موت.
وألحق الفقهاء بمرض الموت كل شخص أشرف على مخاطر جسيمة يغلب فيها الهلاك، كالمحكوم عليه بالإعدام، والمشرف على الغرق، والمرأة الحامل قريبة الولادة وغيرهم.
ومرض الموت يؤثر في صحة التبرعات، فعند عامة الفقهاء يجوز الحجر على مريض مرض الموت في تبرعاته لحق الورثة بما زاد عن ثلث ماله، والتبرعات تشمل الهبة والوصية والوقف والإبراء من الدين ونحوها.
ودليلهم حديث عمران بن حصين «أن رجلا أعتق ستة أعبد عند موته، ولم يكن له مال غيرهم، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له قولا شديدا، ثم دعاهم فجزأهم ثلاثة أجزاء فأقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة» أخرجه مسلم فرد النبي - صلى الله عليه وسلم - تبرعه بما زاد عن الثلث.
وقد اتفق الفقهاء على أن الحمل قبل مرور ستة أشهر لا يؤثر في الأهلية، ولا تبرعات الحامل؛ لعدم وجود خطر الموت عليها، وأما بعد مرور ستة أشهر على الحمل فاختلف الفقهاء في منع تبرع الحامل فيما زاد على الثلث على مذاهب:
المذهب الأول: عطيتها كعطية الصحيح
وقال به الْحَسَنُ، وَالزُّهْرِيُّ: عَطِيَّتُهَا كَعَطِيَّةِ الصَّحِيحِ أي: لا يحجر على الحامل مطلقا، وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ سَلَامَتُهَا، فلا تقيد تبرعاتها بغير موجب.
المذهب الثاني:الحمل لايؤثر في التبرعات
وقال به النَّخَعِيُّ، وَمَكْحُولٌ، وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِي ُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْعَنْبَرِيُ ّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وهو قول الجمهور أن الحامل بعد ستة أشهر إذا لم يأتها الطلق -وهو وجع الولادة- فلا يؤثر الحمل في التبرعات، أما في حالة الطلق بعد ستة أشهر فتعد الحامل كمريض مرض الموت فيحجر عليها فيما زاد على الثلث.
ودليلهم: كما قال ابن قدامة: «أَنَّهَا إذَا ضَرَبَهَا الطَّلْقُ، كَانَ مَخُوفًا؛ لِأَنَّهُ أَلَمٌ شَدِيدٌ يُخَافُ مِنْهُ التَّلَفُ، فَأَشْبَهَتْ صَاحِبَ سَائِرِ الْأَمْرَاضِ الْمَخُوفَةِ. وَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ، فَلَا أَلَمَ بِهَا، وَاحْتِمَالُ وُجُودِهِ خِلَافُ الْعَادَةِ، فَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِاحْتِمَالِهِ الْبَعِيدِ مَعَ عَدَمِهِ، كَالصَّحِيحِ». ومرادهم بأن الحمل عادة والغالب فيه السلامة.
المذهب الثالث: تبرع الحامل من الثلث
وقال به سعيد بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٌ، وَقَتَادَةُ وهو مذهب المالكية وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها الخرقي إلى أن تبرع الحامل بعد ستة أشهر ولو لم يضربها الطلق يكون من الثلث فقط ويحجر عليها فيما زاد على الثلث.
ودليلهم: أَنَّ سِتَّةَ الْأَشْهُرِ وَقْتٌ يُمْكِنُ الْوِلَادَةُ فِيهِ، وَهِيَ مِنْ أَسْبَابِ التَّلَفِ. فتقام المظنة مقام السبب الفعلي.
قال القرطبي مستدلا بالآية المذكورة: وإذا ثبت هذا من ظاهر الآية فحال الحامل حال المريض في أفعاله، ولا خلاف بين علماء الأمصار أن فعل المريض فيما يهب ويحابي في ثلثه.
ونوقش هذا الاستدلال: بأن احتمال الموت وارد لكنه قليل، ومثل هذا الاحتمال القليل لا يسوغ الحجر على المرأة البالغة العاقلة الحرة الرشيدة، قَالَ الْمَازِرِيُّ وهو من فقهاء المالكية في تعقب دليل المالكية: «مُسْتَنَدُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْعَوَائِدُ، وَالْهَلَاكُ مِنْ الْحَمْلِ قَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ، لَوْ بَحَثْتَ عَنْ مَدِينَةٍ مِنْ الْمَدَائِنِ لَوَجَدْتَ أُمَّهَاتِ أَهْلِهَا إمَّا أَحْيَاءً وَإِمَّا أَمْوَاتًا مِنْ غَيْرِ نِفَاسٍ، وَمَنْ كَانَ هَذَا حَالُهُ لَمْ تَخْرُجْ بِهِ الْمَرْأَةُ إلَى أَحْكَامِ الْمَرَضِ الْمَخُوفِ وَهَذَا مُخْتَارُنَا»، وبهذا يظهر رجحان مذهب الجمهور، والله أعلم.
ابو وليد البحيرى
2021-04-10, 05:15 AM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (33)
- الأحكام الفقهية من قصة موسى -عليه السلام- مع بني إسرائيل
د.وليد خالد الربيع
لا نزال مع المسائل الفقهية المستفادة من قوله -تعالى-: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (سورة الأعراف: 150)، ومعنى الآية كما قال الشيخ ابن سعدي: «أي: فلا تظن بي تقصيرا فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاءَ بنهرك لي، ومسك إياي بسوء، فإن الأعداء حريصون على أن يجدوا عليَّ عثرة، أو يطلعوا لي على زلة، وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ فتعاملني معاملتهم».
قال ابن عاشور: «وَالتَّفْرِيعُ فِي قَوْلِهِ: {فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} تَفْرِيعٌ عَلَى تَبَيُّنِ عُذْرِهِ فِي إِقْرَارِهِمْ عَلَى ذَلِكَ، فَطَلَبَ مِنْ أَخِيهِ الْكَفَّ عَنْ عِقَابِهِ الَّذِي يَشْمَتُ بِهِ الْأَعْدَاءُ لِأَجْلِهِ، وَيَجْعَلُهُ مَعَ عِدَادِ الظَّالِمِينَ فَطَلَبُ ذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ طَلَبِ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْعِقَابِ»، فهذا الجزء من الآية الكريمة يدل على منع الشماتة بالمسلم ابتداء وتسببا؛ بأن يفعل ما يلحق الشماتة بالمسلم.
وقبل بيان حكم الشماتة لابد من تعريفها:
قال القرطبي: «الشماتة: هي السرور بما يصيب أخاك من المصائب في الدين والدنيا».
قال ابن عاشور: «وَالشَّمَاتَةُ : سُرُورُ النَّفْسِ بِمَا يُصِيبُ غَيْرَهَا مِنَ الْأَضْرَارِ، وَإِنَّمَا تَحْصُلُ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالْحَسَدِ».
حكم الشماتة
قال القرطبي: «وهي محرمة منهي عنها»، وقد دل على هذا الحكم أدلة صريحة، وأخرى تضمنت النهي عن الشماتة دلالة، ومن ذلك النهي عن إيذاء المؤمنين، والنهي عن السخرية منهم، والتحذير من مشابهة المنافقين في فرحهم بمصائب المسلمين وما يلحقهم من محن وابتلاءات.
فمن الأدلة على حرمة الشماتة قول الله -تعالى-: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا{(سورة الأحزاب: 58)، قال القرطبي: «أذية المؤمنين والمؤمنات بالأفعال والأقوال القبيحة، كالبهتان والتكذيب الفاحش المختلق. وقد قيل: إن من الأذية تعييره بحسب مذموم، أو حرفة مذمومة، أو شيء يثقل عليه إذا سمعه؛ لأن أذاه في الجملة حرام «.باختصار، ولا شك أن إظهار الفرح بما يصيب المسلم من المكروه والمصائب من الإيذاء والإساءة المحرمة التي تندرج تحت دلالة الآية الكريمة.
وقال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ} (سورة الحجرات: 11).
عبارات المفسرين في بيان السخرية
وقد تنوعت عبارات المفسرين في بيان السخرية المنهي عنها في الآية الكريمة، ومن ذلك قول ابن زيد أن السخرية المحرمة التي تتضمن معنى الشماتة فقال: «لا يسخر من ستر الله عليه ذنوبه ممن كشفه الله، فلعل إظهار ذنوبه في الدنيا خير له في الآخرة».
قال الطبري: «والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله عمّ بنهيه المؤمنين عن أن يسخر بعضهم من بعض جميع معاني السخرية، فلا يحلّ لمؤمن أن يسخر من مؤمن لا لفقره، ولا لذنب ركبه، ولا لغير ذلك»، وهذا كما لا يخفى يتناول الشماتة بالمسلم والفرح بمصابه وذنبه.
صفات المنافقين
وقال -سبحانه- في شأن المنافقين وعداوتهم للمؤمنين: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (سورة آل عمران: 120)، قال القرطبي: «والمعنى في الآية: أن من كانت من صفته شدة العداوة والحقد والفرح بنزول الشدائد على المؤمنين، لم يكن أهلا لأن يتخذ بطانة».
قال قتادة: «فإذا رأوا من أهل الإسلام ألفة وجماعة وظهورًا على عدوهم، غاظهم ذلك وساءهم، وإذا رأوا من أهل الإسلام فُرقة واختلافًا، أو أصيب طرف من أطراف المسلمين، سرَّهم ذلك وأعجبوا به وابتهجوا به».
والله -تعالى- يحكي أخلاق المنافقين وأحوالهم للعلم بها والحذر من الاتصاف بها، فالشماتة بالمسلم كما دلت هذه الآية من أخلاق المنافقين والمسلم يربأ بنفسه عنها.
النهي عن الشماتة
ومن الأدلة الصريحة في هذا الباب حديث واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تظهر الشّماتة لأخيك فيرحمه الله ويبتليك» أخرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب، وقال محقق جامع الأصول: «حديث حسن بشواهده». وذكره المنذري في الترغيب ووافق الترمذي في تحسينه.
بيّـن في تحفة الأحوذي أن الحديث من باب العقوبة لمن تعالى على أخيه المسلم فقال: «والمعنى يرحمه رغما لأنفك (ويبتليك) حيث زكيت نفسك ورفعت منزلتك عليه، ونحوه قوله - صلى الله عليه وسلم - في قول من قال لصاحبه» والله لا يغفر الله لك أبدا: «فقال الله -تعالى- للمذنب: ادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: تستطيع أن تحظر عن عبدي رحمتي «الحديث».
الشماتة أمر سيء
ومما يدل أن الشماتة أمر سيء تعوذ النبي - صلى الله عليه وسلم - منها فقد روى الشيخان عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتعوذ من سوء القضاء، ومن درك الشقاء، ومن شماتة الأعداء، ومن جهد البلاء، وفي رواية للبخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «تَعَوَّذُوا بالله من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء»، فقوله: «وشماتة الأعداء»: أي: نعوذ بك من أن تلحقنا مصيبة في ديننا أو دنيانا يفرح بها أعداؤنا، قال ابن بطال مبينا أن الشماتة مؤذية: «وشماتة الأعداء ما ينكأ القلب ويبلغ من النفس أشد مبلغ».
مفهوم الأعداء
قال الشيخ ابن عثيمين: «الأعداء جمع عدو، وقد ذكر الفقهاء ضابطا للعدو فقالوا: من سره ما ساء في شخص، أو غمه فرحه فهو عدوه، كل إنسان يسره ما ساءك، أو يغمه فرحك فهو عدو لك، وشماتة الأعداء: أن الأعداء يفرحون بما أصابك، والعدو لا شك أنه يفرح في كل ما أصاب الإنسان من بلاء، ويحزن في كل ما أصابه من خير، فأنت تستعيذ بالله -عز وجل- من شماتة الأعداء».
قال ابن بطال: «وإنما تعوذ النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك تعليما لأمته فإن الله -تعالى- كان آمنه من جميع ذلك وبذلك جزم عياض».
وجاء في حديث أبي جري جابر بن سليم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوصاه فقال: «وإن امرؤ شتمك وعيّـرك بما يعلم فيك فلا تعيّره بما تعلم فيه، فإنما وبال ذلك عليه». رواه أبو داود والترمذي، وقال في عون المعبود: «(فَلَا تُعَيِّرْهُ) مِنَ التَّعْيِيرِ وَهُوَ التَّوْبِيخُ وَالتَّعْيِيبُ عَلَى ذَنْبٍ سَبَقَ لِأَحَدٍ مِنْ قَدِيمِ الْعَهْدِ سَوَاءً عَلِمَ تَوْبَتَهُ مِنْهُ أَمْ لَا». وهذا مما يؤيد الحكم المذكور وهو حرمة الشماتة بالمسلم.
ابو وليد البحيرى
2021-04-10, 05:19 AM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (34)
- الأحكام الفقهية من قصة موسى -عليه السلام- مع قومه
د.وليد خالد الربيع
لا نزال مع المسائل الفقهية المستفادة من قوله -تعالى-: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (سورة الأعراف: 150)
المسألة الثانية: الاستطاعة شرط للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
قال القرطبي: «فدلت الآية على أن لمن خشي القتل على نفسه عند تغيير المنكر أن يسكت».
وبيان ذلك أن الله -تعالى- أخبر أن موسى -عليه السلام- لما رجع من مناجاة ربه، فوجد قومه قد تركوا أعظم واجب وهو توحيد الله -تعالى-، ووقعوا في أعظم ذنب وهو الشرك بالله بعبادتهم العجل، فغضب أشد الغضب، وأخذ برأس أخيه خشية أن يكون قد قصر في الإنكار عليهم، فلما أخبره بما صنع وما ردوا عليه كما أخبر -تعالى- في سورة طه: {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} (سورة طه: 92 - 94) وقال هاهنا: {قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} قال ابن كثير: «أي: لا تسقني مساقهم، ولا تخلطني معهم. وإنما قال: (ابن أم) لتكون أرأف وأنجع عنده، وإلا فهو شقيقه لأبيه وأمه. فلما تحقق موسى -عليه السلام- من براءة ساحة هارون -عليه السلام- كما قال -تعالى-: {ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري} فعند ذلك قال موسى: {رب اغفر لي ولأخي}».
فهارون -عليه السلام- أنكر عليهم عبادة العجل لكنه لم يغير ذلك بيده لما خشيه من جرأتهم عليه وقتله، قال الشوكاني: «فَقَالَ هَارُونُ مُعْتَذِرًا مِنْهُ: {ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي} أَيْ: إِنِّي لَمْ أُطِقْ تَغْيِيرَ مَا فَعَلُوهُ لِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ: اسْتِضْعَافُهُم ْ لِي، وَمُقَارَبَتُهُ مْ لِقَتْلِي».
فهذه الآية تدل على قاعدة عامة في التكليف عموما وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خصوصا، وهي أنه (لا واجب بلا اقتدار، ولا محرم مع اضطرار).
شرط التكليف العلم والقدرة
فمن المعلوم أن شرط التكليف (العلم والقدرة)، قال شيخ الإسلام: «من استقرأ ما جاء به الكتاب والسنة تبين له أن التكليف مشروط بالقدرة على العلم والعمل، فمن كان عاجزا عن أحدهما سقط عنه ما يعجزه، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها».
وبناء على هذه القاعدة يستفاد أن الواجبات تسقط عن المكلف في حال عجزه عن القيام بها، قال ابن تيمية: «فلم يوجب الله ما يعجز عنه العبد»، والعجز عن العلم أو العمل قد يكون عجزا تاما، كعجز المجنون عن العلم، أو عجز المسن عن الصيام، وفي هذه الحالة يقول ابن تيمية: «التكليف الشرعي مشروط بالممكن من العلم والقدرة، فلا تجب الشريعة على من لا يمكنه العلم كالمجنون والطفل، ولا تجب على من يعجز كالأعمى والأعرج والمريض في الجهاد، وكما لا تجب الطهارة بالماء والصلاة قائما والصوم وغير ذلك على من يعجز عنه».
وقد يكون عجزا نسبيا؛ بحيث يتمكن من العلم أو العمل، لكنه ليس تمكنا تاما، بل يلحقه في ذلك كلفة ومشقة، وفي هذه الحال يقول ابن تيمية: «قد تسقط الشريعة التكليف عمن لم تكمل فيه أداة العلم والقدرة تخفيفا وضبطا لمناط التكليف، وإن كان التكليف ممكنا، كما رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم، وإن كان له فهم وتمييز، لكن ذاك لأنه لم يتم فهمه».
فالنصوص الشرعية بينت شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وضوابطه، ومن ذلك حديث أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان».
قال ابن رجب: «فدلت هذه الأحاديث كلها على وجوب إنكار المنكر بحسب القدرة عليه، أما إنكاره بالقلب فلا بد منه، فمن لم ينكر بقلبه المنكر دل على ذهاب الإيمان من قلبه، وسمع ابن مسعود رجلا يقول: هلك من لم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فقال ابن مسعود: «هلك من لم يعرف بقلبه المعروف والمنكر». يشير إلى أن معرفة المعروف والمنكر بالقلب فرض لا يسقط عن أحد فمن لم يعرفه هلك.
الإنكار باللسان واليد بحسب القدرة
وأما الإنكار باللسان واليد فإنما يجب بحسب القدرة، وقال ابن مسعود: «يوشك من عاش منكم أن يرى منكرا لا يستطيع له، غير أن يعلم الله من قلبه أنه له كاره». فيستفاد من هذا:
1- أن الإنكار القلبي فرض على كل مسلم في كل حال، وأما الإنكار باليد واللسان فبحسب القدرة، يقول شيخ الإسلام: «حب القلب وبغضه وإرادته وكراهته ينبغي أن تكون كاملة جازمة، لا توجب نقص ذلك إلا بنقص الإيمان، وأما فعل البدن فبحسب قدرته، ومتى كانت إرادة القلب وكراهته كاملة تامة، وفعل العبد معها بحسب قدرته فإنه يعطى ثواب الفاعل الكامل».
2- التغيير باليد مشروط له الاستطاعة الشرعية؛ وهي الولاية والسلطة: قال شيخ الإسلام: «وهذا واجب على كل مسلم قادر أي الأمر والنهي وهو فرض على الكفاية، ويصير فرض عين على القادر الذي لم يقم به غيره، والقدرة هو السلطان والولاية، فذوو السلطان أقدر من غيرهم، وعليهم من الوجوب ما ليس على غيرهم، فإن مناط الوجوب هو القدرة، فيجب على كل إنسان بحسب قدرته قال -تعالى-: {فاتقوا الله ما استطعتم}».
ابن باز: الإنكار لمن استطاع
وقال الشيخ ابن باز -رحمه الله-: «فالإنكار باليد في حق من استطاع ذلك كولاة الأمور والهيئة المختصة بذلك فيما جعل إليها، وأهل الحسبة فيما جعل إليهم، والأمير فيما جعل إليه، والقاضي فيما جعل إليه، والإنسان في بيته مع أولاده وأهل بيته فيما يستطيع، أما من لا يستطيع ذلك، أو إذا غيّر بيده يترتب على ذلك الفتنة والنزاع والمضاربات فإنه لا يغير بيده بل ينكر بلسانه ويكفيه ذلك لئلا يقع بإنكاره ما هو أنكر من المنكر الذي أنكره كما نص على ذلك أهل العلم».
وبيّن الشيخ ابن عثيمين تلك مراتب فقال: «المرتبة الأولى: التغيير باليد: فإذا كان لك سلطة يمكنك بها أن تغير هذا المنكر بيدك فافعل، وهذا يمكن أن يكون للإنسان إذا كان المنكر في بيته وكان هو القائم على البيت، فإنه في هذه الحال يمكن أن يغير بيده.
المرتبة الثانية: فإذا كان لا يستطيع تغيير المنكر بيده فإنه ينتقل إلى المرتبة الثانية، وهي تغيير المنكر باللسان، والتغيير باللسان على وجهين:
- الوجه الأول: أن يقول لصاحب المنكر: ارفع هذا المنكر ويتكلم معه ويزجره إذا اقتضت الحال ذلك، الوجه الثاني: إذا كان لا يستطيع هذا فليبلغ ولاة الأمر.
- المرتبة الثالثة: التغيير بالقلب: فإذا كان لا يستطيع تغيير المنكر بيده أو بلسانه فلينكر بقلبه وذلك أضعف الإيمان، والإنكار بالقلب أن تكره هذا المنكر وتكره وجوده».
ابو وليد البحيرى
2021-04-26, 10:40 PM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (35)
- الأحكام المستفادة من قصة موسى -عليه السلام
- الأعذار المرخصة في التخلف عن صلاة الجماعة
د.وليد خالد الربيع
قال -تعالى-:{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (سورة يونس:87)، قال الشيخ ابن سعدي -رحمه الله-: «{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ} حين اشتد الأمر على قومهما، من فرعون وقومه، وحرصوا على فتنتهم عن دينهم {أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا} أي: مروهم أن يجعلوا لهم بيوتًا، يتمكنون بها من الاستخفاء فيها {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} أي: اجعلوها محلا، تصلون فيها؛ حيث عجزتم عن إقامة الصلاة في الكنائس، والبيع العامة {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} فإنها معونة على جميع الأمور، {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} بالنصر والتأييد، وإظهار دينهم، فإن مع العسر يسرًا»، ونقل الطبري عن ابن عباس أنه قال: «كانوا خائفين فأمروا أن يصلوا في بيوتهم».
ففي هذه الآية الكريمة رخص لبني إسرائيل الصلاة في بيوتهم لخوفهم من فرعون وقومه بدلا من بِيَعِهم وأماكن عبادتهم، فيمكن أن يستفاد منها مسألة فقهية وهي:
مسألة: الأعذار المرخصة في التخلف عن صلاة الجماعة
دلت النصوص الشرعية على أهمية صلاة الجماعة في المساجد وعظيم فضلها وكثرة أجرها، كقوله -تعالى-: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ}، فقوله: «مع الراكعين» يدل على فعلها مع جماعة المصلين والمعية تفيد ذلك.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة «متفق عليه، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزله من الجنة كلما غدا أو راح» متفق عليه. وغيرها من الأدلة التي تؤكد أهمية صلاة الجماعة.
ظروف طارئة
ولا يخلو المكلف من ظروف تطرأ عليه، قد تمنعه من حضور الجماعة، فرخص له في تركها مع حصول الفضيلة له، كمن فاتته الجماعة وهو معذور، فله أجرها وإن صلى منفردا، قال - صلى الله عليه وسلم -: «من توضأ فأحسن الوضوء ثم راح فوجد الناس قد صلوا أعطاه الله مثل أجر من صلاها وحضرها، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا». أخرجه أحمد وأبو داود.
فإذا كان هذا حال من حضر الصلاة متأخرا، وفاتته الجماعة وهو معذور، فكيف بمن حال دون شهوده الجماعة عذر قاهر؟! فمن رحمة الله -تعالى- أن وجود هذه الأعذار يسقط الإثم عن المتخلف مع حصول فضيلة الجماعة له، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا» أخرجه البخاري
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إن العبد إذا كان على طريقة حسنة من العبادة ثم مرض، قيل للملك الموكل به: أن اكتب له مثل عمله إذا كان طليقا حتى أطلقه أو أكفته إليَّ» أخرجه أحمد.
قال ابن حجر: «وفي هذه الأحاديث تعقب على من زعم أن الأعذار المرخصة لترك الجماعة تسقط الكراهة والإثم ولا سيما من غير أن تكون محصلة للفضيلة، وبذلك جزم النووي في شرح المهذب».
الأعذار التي يسوغ معها التخلف عن الجماعة
وفيما يأتي جملة من أهم الأعذار التي يسوغ معها التخلف عن الجماعة، كما دلت عليها السنة المطهرة والقواعد الكلية للشريعة من رفع الحرج ودفع المشقة.
أولا: المرض الشديد الذي يشق معه حضور الجماعة
ودليل ذلك قوله -تعالى-: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «مروا أبا بكر يصلي بالناس» أخرجه الشيخان، قال الشافعي: «وأرخص له في ترك الجماعة بالمرض؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرض فترك أن يصلي بالناس أياما كثيرة»، وقال ابن قدامة: «ويعذر في تركها المريض في قول عامة أهل العلم».
ثانيا: الخوف
لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر» أخرجه أبو داود، ولا شك أن الخوف من أقوى الأعذار، قال ابن حزم: «لا خلاف في ذلك»، والخوف يشمل الخوف على نفسه، والخوف على ولده وأهله، والخوف على ماله.
ثالثا: البرد الشديد
لما روى ابن عمر أنه أذن بالصلاة في ليلة ذات برد وريح ثم قال: «ألا صلوا في الرحال» ثم قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر المؤذن إذا كانت ليلة ذات برد ومطر يقول: صلوا في الرحال» متفق عليه.
قال ابن قدامة: «يعذر في ترك الجماعة بالريح الشديدة في الليلة المظلمة الباردة».
رابعا: المطر والوحل
عن ابن عباس أنه قال لمؤذنه في يوم مطير: «إذا قلت: أشهد أن محمدًا رسول الله، فلا تقل «حي على الصلاة» قل: «صلوا في بيوتكم»، فكأن الناس استنكروا ذاك، قال: «فعله من هو خير مني، إن الجمعة عزمة، وكرهت أن أحرجكم فتمشون في الطين والدحض» متفق عليه أي: الزلل والزلق.
قال النووي: «هذا الحديث دليل على تخفيف أمر الجماعة في المطر ونحوه من الأعذار، وأنها متأكدة إذا لم يكن عذر».
قال ابن بطال: أجمع العلماء على أن التخلف عن الجماعة في شدة المطر والظلمة والريح وما أشبه ذلك مباح».
خامسا: حضور طعام يشتهيه
قال الشافعي: «وإذا حضر عشاء الصائم أو المفطر أو طعامه وبه إليه حاجة أرخصت له في ترك إتيان الجماعة، وأن يبدأ بطعامه إذا كانت نفسه شديدة التوقان إليه، وإن لم تكن نفسه شديدة التوقان إليه ترك العشاء وإتيان الصلاة أحب إلي»، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا وضع عشاء أحدكم وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعشاء ولا يعجلن حتى يفرغ منه» أخرجه مسلم
قال النووي: «دليل على أنه يأكل حاجته من الأكل بكماله، وهذا هو الصواب، وأما ما تأوله بعض أصحابنا على أنه يأكل لقما يكسر بها شدة الجوع فليس بصحيح، وهذا الحديث صريح في إبطاله».
سادسا: مدافعة الأخبثين
قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا صلاة بحضرة طعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان» أخرجه مسلم
قال النووي: «فيه كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله؛ لما فيه من اشتغال القلب، وذهاب كمال الخشوع، وكراهتها مع مدافعة الأخبثين؛ وهما البول والغائط، ويلحق بهذا ما كان في معناه مما يشغل القلب، ويذهب كمال الخشوع».
سابعا: أكل ما له رائحة كريهة
قال - صلى الله عليه وسلم -: «من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا، أو ليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته» أخرجه مسلم.
قال النووي: «هذا تصريح بنهي من أكل الثوم ونحوه عن دخول كل مسجد، وهذا مذهب العلماء كافة، ثم إن هذا النهي إنما هو عن حضور المساجد لا عن أكل الثوم والبصل ونحوهما فهذه البقول حلال بالإجماع».
ثامنا: غلبة نوم
قال - صلى الله عليه وسلم -: «أما إنه ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الأخرى». أخرجه مسلم، قال النووي: «فيه دليل لما أجمع عليه العلماء أن النائم ليس بمكلف».
ابو وليد البحيرى
2021-04-26, 10:45 PM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (36)
- أحكام السلام وآدابه من قصة إبراهيم عليه السلام
د.وليد خالد الربيع
قال -تعالى-: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} (سورة هود: 69)، قال الشيخ ابن سعدي: «{وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا} من الملائكة الكرام، رسولنا {إِبْرَاهِيمَ} الخليل {بِالْبُشْرَى} أي: بالبشارة بالولد، حين أرسلهم الله لإهلاك قوم لوط، وأمرهم أن يمروا على إبراهيم، فيبشروه بإسحاق، فلما دخلوا عليه {قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ} أي: سلموا عليه، ورد عليهم السلام.
ففي هذا مشروعية السلام، وأنه لم يزل من ملة إبراهيم -عليه السلام-، وأن السلام قبل الكلام، وأنه ينبغي أن يكون الرد، أبلغ من الابتداء؛ لأن سلامهم بالجملة الفعلية، الدالة على التجدد، ورده بالجملة الاسمية، الدالة على الثبوت والاستمرار، وبينهما فرق كبير كما هو معلوم في علم العربية».
فمن المسائل الفقهية المستفادة من هذه الآية الكريمة مشروعية السلام وآدابه، وقد دل على هذه المسألة أدلة كثيرة منها قول الله -تعالى-: {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} (سورة النساء:86)، والمراد بالتحية هنا السلام، وهذا ما عليه عامة المفسرين، قال الشيخ ابن سعدي: «التحية هي: اللفظ الصادر من أحد المتلاقيين على وجه الإكرام والدعاء، وما يقترن بذلك اللفظ من البشاشة ونحوها.
أعلى أنواع التحية
وأعلى أنواع التحية ما ورد به الشرع، من السلام ابتداء وردًّا، فأمر -تعالى- المؤمنين أنهم إذا حُيّوا بأي تحية كانت، أن يردوها بأحسن منها لفظا وبشاشة، أو مثلها في ذلك، ومفهوم ذلك النهي عن عدم الرد بالكلية أو ردها من دونها».
أحكام السلام
فمن أحكام السلام:
ابتداء السلام على المسلمين
- أولاً: ابتداء السلام على المسلمين مندوب وليس بواجب عند عامة الفقهاء، ونقل ابن عبد البر وغيره الإجماع على أن ابتداء السلام سنة وليس بواجب. ودليل ذلك:
- عن أبي أمامة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن أولى الناس بالله من بدأهم بالسلام» أخرجه أبو داود وهو صحيح، قال المناوي: «أي: من أخصهم برحمته وغفرانه والقرب منه في جنانه، وقيل: أقربهم من الله بالطاعة من بدأ أخاه بالسلام عند ملاقاته لأنه السابق إلى ذكر الله»، والحديث يدل على عدم وجوب البدء بالسلام؛ لأنه لو كان واجبا لما كان هناك ترغيب وندب إليه؛ إذ إن الترغيب إنما يختص بالمستحبات.
- وعن عبد الله بن سلام قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام» أخرجه الترمذي وهو صحيح، ولا شك أن إطعام الطعام وصلاة القيام ليسا من الواجبات، فكذلك البدء بالسلام.
رد السلام واجب
- ثانيا: اتفق الفقهاء على أن رد السلام واجب كما نقل الإجماع على ذلك القرطبي وغيره، وذلك لقوله -تعالى-:{فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}، ونقل ابن كثير عن الحسن البصري أنه قال: «السلام تطوع والرد فريضة» ثم قال ابن كثير: «وهذا الذي قاله هو قول العلماء قاطبة، أن الرد واجب على من سلم عليه، فيأثم إن لم يفعل؛ لأنه خالف أمر الله في قوله: {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}».
قال الحليمي: «إنما كان الرد واجبا؛ لأن السلام معناه الأمان، فإذا ابتدأ به المسلم أخاه فلم يجبه فإنه يتوهم منه الشر، فيجب عليه دفع ذلك التوهم عنه»، فإن كان المسلم واحدا فالرد في حقه فرض عين، وإن كانوا جماعة فالرد في حقهم فرض كفاية، والأفضل أن يردوا جميعا؛ لأنه الغاية في الفضيلة والإكرام للمسلم عليهم.
بعض آداب السلام
- ثالثا: بعض آداب السلام: دلت النصوص الشرعية على جملة من آداب السلام منها:
أكمل الألفاظ في إلقاء السلام
- أكمل الألفاظ في إلقاء السلام هي: (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته)؛ لما أخرجه البخاري في الأدب المفرد عن أبي هريرة أن رجلا مر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في مجلس فقال: السلام عليكم، فقال: «عشر حسنات»، فمر رجل آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فقال: «عشرون حسنة»، فمر رجل آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فقال: «ثلاثون حسنة»، ومما يدل على منع الزيادة على (وبركاته) ما نقل عن بعض الصحابة من آثار ذكرها ابن حجر في فتح الباري، منها:
- عن محمد بن عمرو قال: كنت جالسا عند عبد الله بن عباس فدخل عليه رجل من أهل اليمن فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ثم زاد شيئا فقال ابن عباس: إن السلام انتهى إلى البركة، وجاء رجل إلى ابن عمر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته، فقال ابن عمر: حسبك إلى (وبركاته) انتهِ إلى (وبركاته).
لفظ إلقاء السلام
يجوز إلقاء السلام بلفظ (السلام عليكم) و(السلام عليكم ورحمة الله) كما دل عليه حديث أبي هريرة المتقدم، وهما أقل من اللفظ الأكمل.
أكمل صيغ
وأكمل صيغ الرد ما اشتمل على الرحمة والبركة؛ لما أخرجه الشيخان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خلق الله آدم على صورته ستون ذراعا فلما خلقه قال: اذهب فسلم على أولئك النفر، وهم نفر من الملائكة جلوس، فاستمع ما يحيونك، فإنها تحيتك وتحية ذريتك، قال: فذهب فقال: السلام عليكم، فقالوا: السلام عليك ورحمة الله، فزادوه ورحمة الله» متفق عليه.
قال النووي: وأما صفة الرد فالأفضل والأكمل أن يقول: «وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته» فيأتي بالواو فلو حذفها جاز وكان تاركا للأفضل، ولو اقتصر على (وعليكم السلام) أو على (عليكم السلام) أجزاه، ولو اقتصر على (عليكم) لم يجزه بلا خلاف».
يسلم الراكب على الماشي
ومن آداب السلام ما أخرجه الشيخان عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يسلم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، والقليل على الكثير» وفي رواية للبخاري: «يسلم الصغير على الكبير، والمار على القاعد، والقليل على الكثير»، قال ابن حجر: وقد تكلم بعض العلماء عن الحكمة فيمن شرع لهم الابتداء فقيل: تسليم الصغير لأجل حق الكبير؛ لأنه أمر بتوقيره والتواضع له، وتسليم القليل لأجل حق الكثير لأن حقهم أعظم، وتسليم المار لشبهه بالداخل على أهل المنزل، وتسليم الراكب لئلا يتكبر بركوبه فيرجع إلى التواضع.
التسليم على الصبيان
ومن آداب السلام التسليم على الصبيان: فعن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر على غلمان فسلم عليهم. متفق عليه، قال النووي: «فيه استحباب السلام على الصبيان المميزين، والندب إلى التواضع، وبذل السلام للناس كلهم، وبيان تواضعه - صلى الله عليه وسلم - وكمال شفقته على العالمين».
التسليم إذا أتى مجلسا
ومن آدابه التسليم إذا أتى مجلسا وإذا قام منه لما رواه أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم، فإن بدا له أن يجلس فليجلس، وإذا قام والقوم جلوس فليسلم، فليست الأولى بأحق من الآخرة» أخرجه أحمد وهو صحيح.
إعادة السلام
ومن الآداب إعادة السلام إذا حال بينهما شجر أو جدار؛ لما رواه أبوهريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا لقي أحدكم أخاه فليسلم عليه، فإن حالت بينهما شجرة أو جدار ثم لقيه فليسلم عليه» أخرجه أبو داود وهو صحيح.
ابو وليد البحيرى
2021-04-26, 10:50 PM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (37)
- أحكام الضيافة وآدابها من قصة إبراهيم -عليه السلام
د.وليد خالد الربيع
لا نزال مع قوله -تعالى-: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} (سورة هود: 69)، قال ابن سعدي: «{فَمَا لَبِثَ} إبراهيم لما دخلوا عليه {أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} أي: بادر لبيته، فاستحضر لأضيافه عجلا مشويا على الرضف سمينا، فقربه إليهم فقال: ألا تأكلون؟».
فمن المسائل المستفادة من هذه الآية الكريمة أحكام الضيافة وآدابها، قال ابن كثير: «وقد تضمنت هذه الآية آداب الضيافة من وجوه كثيرة».
الضيافة من مكارم الأخلاق
ولا شك أن الضيافة من مكارم الأخلاق، ومن آداب الإسلام، وأنها من سنن المرسلين، وصفات عباد الله الصالحين، قال سعيد بن المسيب: «إن أول من أضاف الأضياف هو إبراهيم الخليل -عليه السلام- كما قال -تعالى-: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} (سورة الذاريات:24).
الضيافة من أسباب الرفعة
والضيافة من أسباب الرفعة والصيت الحسن، قال أبو حاتم البستي: «كل من ساد في الجاهلية والإسلام حتى عرف بالسؤدد، وانقاد له قومه، ورحل إليه القريب والقاصي، لم يكن كمال سؤدده إلا بإطعام الطعام، وإكرام الضيف».
تعريف الضيافة وحكمها
الضيافة هي اسم لإكرام الضيف، والنازل بغيره لطلب الإكرام والإحسان إليه، وقد رغب الإسلام في الضيافة وعدها من أمارات صدق الإيمان؛ فقال - صلى الله عليه وسلم -: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه» متفق عليه، وقد اتفق الفقهاء على أن الضيافة مشروعة، قال النووي: «أجمع المسلمون على الضيافة، وأنها ومن متأكدات الإسلام»، إلا أنهم اختلفوا في وجوبها على ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول: الاستحباب
الضيافة مستحبة وليست واجبة، وهو مذهب الجمهور، لحديث أبي شريح الخزاعي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته» قالوا: وما جائزته يا رسول الله؟ قال: «يوم وليلة والضيافة ثلاثة أيام فما كان وراء ذلك فهو صدقة، ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يحرجه» متفق عليه.
وجه الدلالة في قوله: «فليكرم ضيفه جائزته»، والجائزة هي العطية والصلة التي أصلها الندب، قال ابن بطال: «والجائزة تفضل وإحسان وليست بواجبة».
قال النووي: «معناه الاهتمام به في اليوم والليلة، وإتحافه بما يمكن من بر وإلطاف، وأما في اليوم الثاني والثالث فيطعمه ما تيسر، ولا يزيد على عادته، وأما ما كان بعد الثلاثة فهو صدقة ومعروف إن شاء فعل وإن شاء ترك».
المذهب الثاني: الوجوب
وجوب الضيافة مطلقا سواء في المدن أو في البادية، وقال به الليث وهو مذهب الحنابلة والظاهرية، لحديث المقدام بن معدي كرب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليلة الضيف واجبة، فإن أصبح الضيف بفنائه فهو دين عليه، فإن شاء اقتضى، وإن شاء ترك» أخرجه ابن ماجه، قال الشوكاني عن الحديث أنه: «تصريح بوجوب الضيافة، ولم يأت ما يدل على تأويله».
ونوقش هذا الاستدلال بما قاله النووي: «وتأول الجمهور هذه الأحاديث وأشباهها على الاستحباب ومكارم الأخلاق وتأكد حق الضيف كحديث: «غسل الجمعة واجب على كل محتلم» أي: متأكد الاستحباب، وتأولها الخطابي وغيره على المضطر».
المذهب الثالث: الوجوب على أهل القرى
الضيافة واجبة على أهل القرى دون أهل الأمصار، وهو مذهب المالكية ورواية عن أحمد؛ لأن المسافر يجد في الأمصار المسكن والطعام وما يحتاج إليه، فلا مشقة تلحقه إن لم يضيفه أحد، أما في القرى والبوادي فلا يجد ما يحتاج إليه فهو كالمضطر إلى من يضيفه، فيجب عليهم أن يقوموا بضيافته بما تيسر.
وهو المذهب الأظهر الذي تجتمع به الأدلة، ودل عليه حديث عقبة بن عامر قال: قلنا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إنك تبعثنا فننزل بقوم لا يقروننا، فما ترى فيه؟ فقال لنا: «إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا، وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف» متفق عليه. وهو ظاهر الدلالة في النزول على أهل القرى.
آداب الضيافة
ذكر العلماء مجموعة من آداب الضيافة في حق المضيف ومن جانب الضيف:
آداب المضيف
قال أبو حاتم: «وعنصر قرى(إكرام) الضيف هو ترك استحقار القليل، وتقديم ما حضر للضيف؛ لأن من حقّـر منع، مع إكرام الضيف بما قدر عليه، وترك الادخار عنه، وسئل الأوزاعي: ما إكرام الضيف؟ قال: «طلاقة الوجه، وطيب الكلام».
قال أبو حاتم: «والخدمة بالنفس، فإنه لا يذل من خدم أضيافه».
قال ابن مفلح: «وَيُسْتَحَبُّ لِصَاحِبِ الطَّعَامِ أَنْ يُبَاسِطَ الْإِخْوَانَ بِالْحَدِيثِ الطَّيِّبِ وَالْحِكَايَاتِ الَّتِي تَلِيقُ بِالْحَالِ إذَا كَانُوا مُنْقَبِضِينَ.
ومن آداب المضيف تَعْجِيلُ الطَّعَامِ فَذَلِكَ مِنْ إِكْرَامِ الضَّيْفِ، وَمَهْمَا حَضَرَ الْأَكْثَرُونَ وَغَابَ وَاحِدٌ أَوِ اثْنَانِ وَتَأَخَّرُوا عَنِ الْوَقْتِ الْمَوْعُودِ فَحَقُّ الْحَاضِرِينَ فِي التَّعْجِيلِ أَوْلَى مِنْ حَقِّ أُولَئِكَ فِي التَّأْخِيرِ.
قَال -تعالى-: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} (الذَّارِيَاتِ: 24) قال بعض المفسرين: أَنَّهُمْ أُكْرِمُوا بِتَعْجِيلِ الطَّعَامِ إِلَيْهِمْ، دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ -تعالى-: {فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ}، قال القرطبي: «في هذه الآية من أدب الضيف أن يعجل قراه، فيقدم الموجود الميسر في الحال، ثم يتبعه بغيره إن كان له جَدَّةٌ (مكانة ومنزلة عند الناس)، ولا يتكلف ما يضر به».
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ: «زُرْتَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ فَلَمَّا دَخَلْتُ عَلَيْهِ بَيْتَهُ قَامَ فَاعْتَنَقَنِي وَأَجْلَسَنِي فِي صَدْرِ مَجْلِسِهِ فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَلَيْسَ يُقَالُ صَاحِبُ الْبَيْتِ وَالْمَجْلِسِ أَحَقُّ بِصَدْرِ بَيْتِهِ أَوْ مَجْلِسِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ يَقْعُدُ، وَيُقْعِدُ مَنْ يُرِيدُ. قَالَ: قُلْتُ فِي نَفْسِي: خُذْ يَا أَبَا عُبَيْدٍ إلَيْكَ فَائِدَةً. ثُمَّ قُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لَوْ كُنْتُ آتِيكَ عَلَى حَقِّ مَا تَسْتَحِقُّ لَأَتَيْتُكَ كُلَّ يَوْمٍ، فَقَالَ: لَا تَقُلْ ذَلِكَ، فَإِنَّ لِي إخْوَانًا مَا أَلْقَاهُمْ فِي كُلِّ سَنَةٍ إلَّا مَرَّةً أَنَا أَوْثَقُ فِي مَوَدَّتِهِمْ مِمَّنْ أَلْقَى كُلَّ يَوْمٍ. قُلْتُ: هَذِهِ أُخْرَى يَا أَبَا عُبَيْدٍ. فَلَمَّا أَرَدْت الْقِيَامَ قَامَ مَعِي قُلْتُ: لَا تَفْعَلْ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: فَقَالَ: قَالَ الشَّعْبِيُّ: مِنْ تَمَامِ زِيَارَةِ الزَّائِرِ أَنْ تَمْشِيَ مَعَهُ إلَى بَابِ الدَّارِ وَتَأْخُذَ بِرِكَابِهِ».
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ «إنَّ مِنْ السُّنَّةِ إذَا دَعَوْتَ أَحَدًا إلَى مَنْزِلِكَ أَنْ تَخْرُجَ مَعَهُ حَتَّى يَخْرُجَ «ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ في بهجة المجالس».
من آداب الضيف
قال ابْنُ الْجَوْزِيِّ: «وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَوَاضَعَ فِي مَجْلِسِهِ إذَا حَضَرَ، وَأَلَا يَتَصَدَّرَ، وَإِنْ عَيَّنَ لَهُ صَاحِبُ الدَّارِ مَكَانًا لَمْ يَتَعَدَّهُ».
ويجمل القاسمي بعض الآداب في «موعظة المؤمنين» فيقول: «فَأَدَبُهُ أَنْ يَدْخُلَ الدَّارَ وَلَا يَتَصَدَّرَ فَيَأْخُذَ أَحْسَنَ الْأَمَاكِنِ بَلْ يَتَوَاضَعَ، وَلَا يُطَوِّلَ الِانْتِظَارَ عَلَيْهِمْ، وَلَا يُعَجِّلَ بِحَيْثُ يُفَاجِئُهُمْ قَبْلَ تَمَامِ الِاسْتِعْدَادِ ، وَلَا يُضَيِّقَ الْمَكَانَ عَلَى الْحَاضِرِينَ بِالزَّحْمَةِ، بَلْ إِنْ أَشَارَ إِلَيْهِ صَاحِبُ الْمَكَانِ بِمَوْضِعٍ لَا يُخَالِفُهُ الْبَتَّةَ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ رَتَّبَ فِي نَفْسِهِ مَوْضِعَ كُلِّ وَاحِدٍ فَمُخَالَفَتُهُ تُشَوِّشُ عَلَيْهِ، وَلَا يَجْلِسَ فِي مُقَابَلَةِ بَابِ الْحُجْرَةِ الَّذِي لِلنِّسَاءِ وَسِتْرِهِمْ، وَلَا يُكْثِرُ النَّظَرَ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ الطَّعَامُ فَإِنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى الشَّرَهِ، وَيَخُصَّ بِالتَّحِيَّةِ وَالسُّؤَالِ مَنْ يَقْرُبُ مِنْهُ إِذَا جَلَسَ».
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: «وَمِنْ آدَابِ الزَّائِرِ أَلَا يَقْتَرِحَ طَعَامًا بِعَيْنِهِ، وَإِنْ خُيِّرَ بَيْنَ طَعَامَيْنِ اخْتَارَ الْأَيْسَرَ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ مُضِيفَهُ يُسَرُّ بِاقْتِرَاحِهِ، وَلَا يُقَصِّرُ عَنْ تَحْصِيلِ ذَلِكَ». «وأَنْ يَنْصَرِفَ الضَّيْفُ طَيِّبَ النَّفْسِ وَإِنْ جَرَى فِي حَقِّهِ تَقْصِيرٌ فَذَلِكَ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ وَالتَّوَاضُعِ. وأَلَا يَخْرُجَ إِلَّا بِرِضَاءِ صَاحِبِ الْمَنْزِلِ وَإِذْنِهِ، وَيُرَاعِيَ قَلْبَهُ فِي قَدْرِ الْإِقَامَةِ».
ابو وليد البحيرى
2021-05-19, 03:25 PM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (38)
- أحكام الالتقاط من قصة يوسف -عليه السلام
د.وليد خالد الربيع
قال -تعالى-: {قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ} (سورة يوسف: 10)، قال الشيخ ابن سعدي: «{قَالَ قَائِلٌ} من إخوة يوسف الذين أرادوا قتله أو تبعيده: {لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ}؛ فإن قتله أعظم إثما وأشنع، والمقصود يحصل بتبعيده عن أبيه من غير قتل، ولكن توصلوا إلى تبعيده بأن تلقوه {فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ}، وتتوعدوه على أنه لا يخبر بشأنكم، بل على أنه عبد مملوك آبق منكم، لأجل أن {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ} الذين يريدون مكانا بعيدًا، فيحتفظون به، وهذا القائل أحسنهم رأيا في يوسف، وأبرهم وأتقاهم في هذه القضية؛ فإن بعض الشر أهون من بعض، والضرر الخفيف يدفع به الضرر الثقيل».
من المسائل المستفادة من الآية الكريمة أحكام الالتقاط، قال القرطبي معرفا الالتقاط بأنه: «تناول الشيء من الطريق؛ ومنه اللقيط واللقطة». وفيما يأتي طائفة موجزة من أحكام اللقيط.
أولا: تعريف اللقيط:
هو طفل مجهول الهوية نبذه أهله أو ضاع منهم.
ثانيا: حكم الالتقاط:
فرَّق الفقهاء بين حالين من أحوال اللقيط:
الحال الأولى
إذا خشي على اللقيط الهلاك
إذا خُشي على الطفل من الهلاك بأن كان في بحر يخاف عليه من الغرق أو كان في مفازة منقطعة أو أرض ذات سباع، فقد ذهب عامة الفقهاء إلى أن التقاطه وأخذه فرض عين إن لم يكن هناك أحد غير الملتقط؛ لأن ذلك مندرج تحت قاعدة حفظ النفوس المجمع عليها في سائر الملل، فأخذه فيه إحياء نفس من الهلاك؛ فكان واجبا كإطعامه إذا اضطر، وقد قال -تعالى-: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}.
الحال الثانية
إذا لم يخش عليه الهلاك
ذهب الجمهور إلى أن التقاط اللقيط فرض كفاية لقوله -تعالى-: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}، ولا شك أن إنقاذ اللقيط وأخذه من البِرِّ والعمل الصالح، ولأن فيه إحياء نفس فكان واجبا، كإطعامه إذا اضطر، وإنجائه من الغرق.
ثالثا: هل يجوز تبني اللقيط؟
يتعاطف بعض الناس مع اللقيط، فيعزم على تبنيه رحمة به وقياما بشأنه، والتبني هو اتخاذ الشخص ولد غيره ابنا له؛ بأن يعطيه نسبه كولده الصلبي وما يتبع ذلك من أحكام، والتبني محرم، ولا يجوز لمسلم أن يتبنى لقيطا بأن يجعله ابنا له، وقد كان التبني معمولا به قبل الإسلام، فأبطله الله -تعالى- بقوله: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ} (الأحزاب الآية 4-5).
قال القرطبي: «رفع الله حكم التبني، ومنع من إطلاق لفظه، وأرشد بقوله إلى أن الأولى والأعدل أن ينسب الرجل إلى أبيه نسبا».
وقال النحاس: هذه الآية ناسخة لما كانوا عليه من التبني، وهو من نسخ السنة بالقرآن، فأمر أن يدعوا من دعوا إلى أبيه المعروف، فإن لم يكن له أب معروف نسبوه إلى ولائه، فإن لم يكن له ولاء معروف قالوا له: «يا أخي» يعني في الدين.
رابعا: دين اللقيط
إذا وجد اللقيط في بلاد المسلمين ميتا، فقد قال ابن المنذر: «أجمع عوام أهل العلم على أن الطفل إذا وجد في بلاد المسلمين ميتا في أي مكان وجد، أن غسله ودفنه في مقابر المسلمين يجب».
وإذا وجد اللقيط في بلاد المسلمين وكان الواجد مسلما، حكم بإسلام اللقيط باتفاق المسلمين وإن كان فيها أهل ذمة تغليبا للإسلام، ولظاهر الدار، ولأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه.
قال ابن قدامة: «إذا بلغ اللقيط حدا يصح فيه إسلامه وردته فوصف الإسلام فهو مسلم».
خامسا: الإنفاق على اللقيط
الأصل أن تكون نفقة كل شخص في ماله، وعلى هذا فإذا وجد مع اللقيط مال كدراهم أو دنانير أو عروض كثياب ملفوفة عليه فيحكم أنه تحت يده وملكا له.
فإن لم يكن له مال خاص، كانت نفقته في مال عام، وهي الأموال الموقوفة على اللقطاء أو الموصى لهم بها، وهذا ما عليه عامة الفقهاء.
فإن لم يعرف له مال خاص، ولم يوجد مال عام ينفق منه على اللقيط، فذهب الجمهور إلى أن نفقته تكون في بيت مال المسلمين؛ لأثر عمر بن الخطاب في اللقيط الذي وجده سنين بن جميلة، فقال له عمر: «اذهب به فهو حر، وولاؤه لك، وعلينا نفقته». وفي رواية: من بيت المال.
وفي الطبقات الكبرى لابن سعد: وكان عمر إذا أتي باللقيط فرض له مائة درهم، وفرض له رزقا يأخذ وليه كل شهر ما يصلحه، ثم ينقله من سنة إلى سنة أي يغير عطاءه من سنة إلى سنة وكان عمر يوصي بهم خيرا، ويجعل رضاعهم ونفقتهم من بيت المال.
سادسا: الولاية على اللقيط
الولاية سلطة شرعية، تُجعل لمن تثبت له القدرة على إنشاء العقود والتصرفات وتنفيذها؛ بحيث تترتب آثارها الشرعية عليها بمجرد صدورها. وهي نوعان:
1- ولاية على النفس
وهي سلطة الإشراف على الشؤون المتعلقة بالقاصر، كالحضانة والتربية والتعليم والتطبيب والتزويج، وتقتضي تنفيذ القول على القاصر، فالولاية على اللقيط نفسه للسلطان لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «السلطان ولي من لا ولي له»؛ فله أن يزوجه ويتصرف في ماله بالبيع والشراء والإجارة بما يراه يحقق المصلحة، وأما الملتقط فليس له أن يفعل شيئا من ذلك لأنه لا ولاية له عليه، وإنما له على اللقيط ولاية الحفظ والتربية، وليس له عليه ولاية التزويج؛ لأن ذلك يعتمد الولاية من القرابة والملك والسلطنة ولا يثبت واحد منها للملتقط.
2- الولاية على المال
فهي سلطة المرء على مال غيره بالإشراف والحفظ والتصرف على الوجه المشروع بما يحقق مصلحة المولى عليه.
وذهب الجمهور إلى أنه لا ولاية للملتقط على مال اللقيط، فلا ينفق إلا بإذن القاضي، لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: «السلطان ولي من لا ولي له «وهذا يشمل الولاية على النفس والمال.
سابعا: إرث اللقيط
إذا مات اللقيط وكان له وارث معروف كزوجة وأبناء ونحو ذلك فميراثه لورثته كسائر المسلمين، وأما إذا مات ولم يترك وارثا فقد ذهب عامة الفقهاء إلى أن ميراثه يكون لبيت مال المسلمين، قال ابن قدامة: «وإنما يرثه المسلمون؛ لأنهم خُولوا كل مال لا مالك له، ولأنهم يرثون مال من لا وارث له غير اللقيط، فكذلك اللقيط وهو قول أكثر أهل العلم «.
ابو وليد البحيرى
2021-05-19, 03:31 PM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (39)
- أحكام الالتقاط من قصة يوسف -عليه السلام
د.وليد خالد الربيع
لا نزال مع أحكام الالتقاط المستفادة من قوله -تعالى-: {قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ} (سورة يوسف:10)، قال القرطبي معرفًا الالتقاط بأنه: «تناول الشيء من الطريق، ومنه اللقيط واللقطة».
وفيما يأتي طائفة موجزة من أحكام اللقطة:
أولا: تعريف اللقطة
التعريف الاصطلاحي للقطة بأنها: «المال الضائع من ربّه يلتقطه غيره» حيث اشتمل هذا التعريف على المال الضائع بأنواعه من بهائم وغيرها؛ لأنه يصدق عليها وصف المال الضائع دون الحاجة للتفريق بين اللقطة والضالة؛ لأن معناهما واحد.
ثانيا: مشروعية اللقطة
دل على مشروعية الالتقاط الكتاب والسنة والإجماع:
- أما الكتاب الكريم: فالأصل فيها الآيات الآمرة بالبر والإحسان؛ إذ في أخذها للحفظ والرد بر وإحسان.
- وأما السنة المطهرة فخبر الصحيحين عن زيد بن خالد الجهني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن لقطة الذهب أو الورق، فقال: «اعرف عفاصها ووكاءها، ثم عرفها سنة، فإن لم تعرفها فاستنفقها ولتكن وديعة عندك، فإن جاء صاحبها يوما من الدهر فأدها إليه وإلا فشأنك بها»، وسئل عن ضالة الإبل فقال: «ما لك ولها؟ دعها؛ فإن معها حذاءها وسقاءها، ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها»، وسئل عن الشاة فقال: «خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب»، قال الماوردي: وهذا الحديث هو الأصل في اللقطة.
وفي الصحيحين عن سويد بن غفلة أنه سأل أبي بن كعب رضي الله عنه عن سوط وجده فقال: «إني وجدت صرة في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها مائة دينار، فذكرتها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لي: «عرفها حولا، فإن وجدت من يعرفها فادفعها إليه وإلا فاستمتع بها».
وأما الإجماع فقد اتفقوا على جواز الالتقاط في الجملة.
ثالثا: حكم الالتقاط
قسم الفقهاء اللقطة إلى قسمين (حيوان وغير حيوان):
1- حكم التقاط الحيوانات
الضوال هي الحيوانات الضائعة، ويختلف حكمها تبعا لنوعها؛ فما يقدر على الامتناع من صغار السباع فلا يلتقط لدلالة النصوص الصريحة الصحيحة إلا عند الحاجة الماسة لذلك، وأما ما لا يقدر على الامتناع فيجوز التقاطها مع تعريفها قبل التصرف فيها، وإن كانت مما فيؤكل فللملتقط أكلها ويضمن قيمتها لمالكها.
2- حكم التقاط غير الحيوانات
ذهب عامة الفقهاء إلى أن الالتقاط مباح تعرض له الأحكام التكليفية كما يأتي:
أولا: الوجوب
وذلك بشرطين وهما:
1- إذا خاف ضياع اللقطة أو غلب على ظنه ذلك.
2- أن يعلم عدم خيانة نفسه.
ثانياً: الاستحباب
يستحب الالتقاط في أحوال معينة مثل أن يخاف عليها الضيعة لو تركها، ويعلم من نفسه الأمانة، لأن أخذها لصاحبها إحياء لمال المسلم فكان مستحبا.
ثالثاً: الحرمة
يحرم على الملتقط أخذ اللقطة إن أخذها لنفسه لا لصاحبها، لأنه أخذ مال الغير بغير إذنه لنفسه فيكون بمعنى الغصب حكما من جهة الحرمة والضمان.
كما يحرم عليه أخذها إن علم خيانة نفسه؛ لأنه تسبب لضياع مال المسلم.
رابعا: اشتراط معرفة صفات اللقطة عند أخذها
قال الماوردي: «واجد اللقطة ـ وإن كان مخيرا في أخذها ـ فعليه بعد الأخذ القيام بها والتزام الشروط في حفظها على مالكها.
الشروط التي يؤمر بها آخذ اللقطة
والشروط التي يؤمر بها آخذ اللقطة سبعة أشياء جاء النص ببعضها والتنبيه على باقيها:
- أحدها: معرفة عفاصها: وهو ظرفها الذي هي فيه عند التقاطها.
- الثاني: معرفة وكائها: وهو الخيط المشدودة به، وبهذين الشرطين جاء النص، ولأنها تتميز بمعرفة هذين عن جميع أمواله فيأمن اختلاطها بها.
- الثالث: معرفة عددها تنبيها بالنص، لأن معرفة عددها أحوط من تميزها عن الظرف، لأن الظرف قد يشتبه.
- الرابع: معرفة وزنها ليصير به معلوما يمكن الحكم به أنه وجب غرمها.
- الخامس: أن يكتب بما وصفناه من أوصافها كتابا، وأنه التقطها من موضع كذا في وقت كذا، لأنه ربما كان ذكر المكان والزمان مما يذكره الطالب من أوصافها، قال ابن قدامة: «يستحب أن يكتب صفاتها ليكون أثبت لها مخافة أن ينساها إن اقتصر على حفظها بقلبه، فإن الإنسان عرضة النسيان».
- السادس: أن يشهد على نفسه بها شاهدين أو شاهدا وامرأتين ليكون وثيقة عليه خوفا من طمعه فيها، ولأنه ربما مات ولم يعلم وارثه بها أو غرماؤه.
- السابع: أن يُعَرّفها لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - به لواجدها، والمراد به: هو المناداة عليها أو الإعلان عنها حيث وجدها وفي أماكن اجتماع الناس، وهذا ما عليه عامة الفقهاء، قال النووي: «التعريف أن ينشدها في الموضع الذي وجدها فيه وفي الأسواق وأبواب المساجد ومواضع اجتماع الناس، فيقول من ضاع منه شيء؟ من ضاع منه حيوان؟ من ضاع منه دراهم؟ ونحو ذلك، ويكرر ذلك بحسب العادة».
القليل اليسير لا يُعَرَّف
واستثنى الفقهاء القليل اليسير فلا يُعَرَّف، قال النووي: «أجمع المسلمون على وجوبه (التعريف) إذا كانت اللقطة ليست تافهة ولا في معنى التافهة»، وقال ابن قدامة: «لا نعلم خلافًا بين أهل العلم في إباحة أخذ اليسير والانتفاع به»، بشرط ألا يكون عالمًا بصاحبه، فإن كان عالمًا بصاحبه وجب عليه إعلامه ولكن لا يجب عليه إيصاله له واستدلوا بما يلي:
1- رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - تمرة فقال - صلى الله عليه وسلم -: «لولا أني أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها»، وجه الدلالة من الحديث: أن ما لا يتمول لقلة كحبة بر وزبيبة والمال القليل الذي لا يفسد، وشهادة العادة بأن صاحبه لا يتبعه، لا يعرّف ويستبد به واجده على ذلك حمل قوله - صلى الله عليه وسلم - في التمرة الملقاة، قال ابن حجر: «ولم يذكر تعريفا، فدل على أن مثل ذلك يملك بالأخذ ولا يحتاج إلى تعريف» .
2- وعن عائشة -رضي الله عنها-: «لا بأس بما دون الدرهم أن يستنفع به».
3- رأى عمر - رضي الله عنه - رجلا يعرّف زبيبة في الطرق فقال: إن من الورع ما يمقته الله.
4- عن ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها وجدت تمرة فأكلتها وقالت: «لا يحب الله الفساد».
انقضاء حول اللقطة
وإذا انقضى حول التعريف فللملتقط أن يتملك اللقطة باختياره، وإذا جاء من يدعيها بالبينة دفعت إليه إن كانت قائمة أو ضمنها له، وإن لم يقم البينة ووصفها بدقة دفعت إليه لظاهر النصوص.
دفع اللقطة للإمام
ويبرأ الملتقط إذا دفع اللقطة إلى الإمام العدل أو نائبه، ويضمن إذا أخذها بنية التملك، وإذا أخذها بنية الحفظ لصاحبها فتكون أمانة بيده مدة حول التعريف، وبعده يضمنها لصاحبها إن طالب بها.
إذا مات الملتقط
وإذا مات الملتقط قبل مضي الحول وكانت اللقطة قائمة قام وارثه مقامه في التعريف والتملك، وإذا هلكت يكون ضمانها من تركته، وإذا مات بعد مضي الحول فاللقطة في تركته مطلقا.
ابو وليد البحيرى
2021-05-19, 03:37 PM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (40)
- من المسائل المستفادة من قصة يوسف -عليه السلام
- مشروعية السباق
د.وليد خالد الربيع
قال -تعالى-: {قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} (سورة يوسف:17)، قال الشيخ ابن سعدي: «فقالوا -متعذرين بعذر كاذب-: {يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ} إما على الأقدام، أو بالرمي والنضال، {وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا} توفيرا له وراحة. {فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} في حال غيبتنا عنه في استباقنا {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} أي: تعذرنا بهذا العذر، والظاهر أنك لا تصدقنا لما في قلبك من الحزن على يوسف، والرقة الشديدة عليه».
من المسائل المستفادة من هذه الآية الكريمة (مشروعية السباق)؛ حيث أخبر -سبحانه- عن إخوة يوسف -عليه السلام- أنهم استبقوا ولم ينكر ذلك أو يذمه فدل على أن ذلك جائز في الجملة، قال ابن العربي: «المسابقة شرعة في الشريعة، وخصلة بديعة، وعون على الحرب وقد فعلها - صلى الله عليه وسلم - بنفسه وبخيله».
أولا: تعريف السباق
السباق في اللغة مصدر الفعل سابق، وهذه المادة اللغوية (السين والباء والقاف) تدل على التقديم، يقال: سبق يسبق سبقا بإسكان الباء، وهو التقدم على الغير.
وفي الاصطلاح: منافسة بين اثنين أو أكثر لمعرفة المتقدم.
ثانيا: حكم السباق
السباق نوعان:
- النوع الأول: السباق بغير عوض
وهذا النوع إذا خلا من المخالفات الشرعية فإنه جائز شرعا، قال ابن قدامة: «المسابقة جائزة بالسنة والإجماع»، فقد وردت في السنة المطهرة أخبار عديدة تدل على مشروعية السباق في الجملة، فمن ذلك:
(1) عن ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، سابق بين الخيل المضمرة من الحفياء إلى ثنية الوداع، وبين التي لم تضمر من ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق. متفق عليه.
(2) عن عائشةَ، -رضيَ اللَّهُ عنها-، أنَّها كانَت معَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في سفَرٍ قالت: فسابقتُهُ فسبقتُهُ على رجليَّ، فلمَّا حَملتُ اللَّحمَ سابقتُهُ فسبقَني فقالَ: هذِهِ بتلكَ السَّبقةِ. رواه أحمد وأبو داود.
(3) وصارع النبي - صلى الله عليه وسلم - ركانة فصرعه رواه أبو داود. وحسنه الألباني
(4) قال سلمة - رضي الله عنه - في حكاية أحداث غزوة ذات قرد: «وكان رجل من الأنصار لا يُسبق شداً، قال: فجعل يقول: ألا مُسابق إلى المدينة، هل من مسابق؟ فجعل يُعيد ذلك، قال: فلما سمعت كلامه قلتُ: أما تكرمُ كريماً ولا تهاب شريفاً، قال: لا، إلا أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: قلت : يا رسول الله بأبي أنت وأُمي ذرني فلأسابق الرجل، قال: إن شئت، قال: قلت: اذهب إليك وثنيتُ رجلي فطفرت فعدوت.. فسبقته إلى المدينة» رواه مسلم.
(5) مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوم يرفعون حجراً ليعلموا الشديد منهم فلم ينكر عليهم.
(6) عن سلمة بن الأكوع قال: خَرَجَ رَسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، علَى قَوْمٍ مِن أسْلَمَ يَتَنَاضَلُونَ بالسُّوقِ، فَقالَ: ارْمُوا بَنِي إسْمَاعِيلَ فإنَّ أبَاكُمْ كانَ رَامِيًا، وأَنَا مع بَنِي فُلَانٍ لأحَدِ الفَرِيقَيْنِ، فأمْسَكُوا بأَيْدِيهِمْ، فَقالَ: ما لهمْ قالوا: وكيفَ نَرْمِي وأَنْتَ مع بَنِي فُلَانٍ؟ قالَ: ارْمُوا وأَنَا معكُمْ كُلِّكُمْ.أخرجه البخاري
(7) عن أنس قال: كانَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ناقَةٌ تُسَمَّى العَضْباءَ، لا تُسْبَقُ، قالَ حُمَيْدٌ: أوْ لا تَكادُ تُسْبَقُ، فَجاءَ أعْرابِيٌّ علَى قَعُودٍ فَسَبَقَها، فَشَقَّ ذلكَ علَى المُسْلِمِينَ حتَّى عَرَفَهُ، فقالَ: حَقٌّ علَى اللَّهِ ألا يَرْتَفِعَ شيءٌ مِنَ الدُّنْيا إلَّا وضَعَهُ.
- النوع الثاني: السباق بعوض
إذا كانت الجائزة من غير المتسابقين فهو جائز شرعا، فإذا كانت من ولي الأمر فلا خلاف في جوازه، قال ابن قدامة: «سواء كان من ماله أو من بيت المال؛ لأن في ذلك مصلحة وحثا على تعلم الجهاد ونفعا للمسلمين». فعن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، سبق بين الخيل وأعطى السابق. رواه أحمد. وصححه الألباني.
إن كانت الجائزة من شخص غير الإمام
وإن كانت الجائزة من شخص غير الإمام وليس واحدا من المتسابقين فجائز أيضا؛ لأنه عقد جعالة في أمر مباح. قال ابن قدامة: «أنه بذل ماله فيما فيه مصلحة وقربة، فجاز كما لو اشترى بماله خيلا وسلاحا».
إن كانت الجائزة من أحد المتسابقيْن
وإذا كانت الجائزة من أحد المتسابقين فقط؛ بحيث يأخذها الفائز، وإن فاز صاحب الجائزة أحرز ماله فجائز أيضا عند الجمهور، لانتفاء شبهة القمار هنا؛ حيث لا يبذل الآخر عوضا فلا غرم عليه إن خسر، وهو هنا عوض في جعالة من صاحب الجائزة على شرط، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «المؤمنون على شروطهم» أخرجه أبو داود.
إن كان العوض من المتسابقيْن
أما إن كان العوض من المتسابقين؛ فالأصل حرمة المسابقة بعوض يخرجه المتسابقان إلا ما استثنى الشرع؛ وذلك لأن إخراج العوض من المتسابقين؛ بحيث يأخذ الغالب كل شيء ولا يأخذ المغلوب شيئا هو في الحقيقة الميسر والقمار الذي حرمه الله -تعالى-، وهو: كل لعب يشترط فيه أن يأخذ الغالب من المغلوب شيئا، وهو محرم بالكتاب والسنة والإجماع.
الدليل من القرآن
أما الكتاب فقوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (سورة المائدة:90)، فقرنه -تعالى- بالخمر والأنصاب وهي من المحرمات، كما وصفه بأنه رجس والرجس هو الشي المستخبث المكروه شرعا، وأمر باجتنابه، فكل ذلك مما يدل على تحريمه.
الدليل من السنة
وأما السنة فقوله - صلى الله عليه وسلم-: «من قال لصاحبه: تعال أقامرك، فليتصدق». أخرجه مسلم، قال ابن حجر: «القمار حرام بالاتفاق، فالدعاء إلى فعله حرام»، وقال النووي: «أمر بالصدقة تكفيرا لخطيئته في كلامه بهذه المعصية».
دليل الإجماع
أما الإجماع فقد قال ابن حزم: «أجمعت الأمة على أن الميسر الذي حرمه الله -تعالى- هو القمار»، ويستثنى من ذلك سباق الخيل والإبل والرمي بالسهام، قال القرطبي: «أجمع المسلمون على أن السبق لا يجوز على وجه الرهان إلا في الخف والحافر والنصل. قال الشافعي: ما عدا هذه الثلاثة فالسبق فيها قمار».
قال ابن قدامة: «واختصت هذه الثلاثة بتجويز العوض فيها؛ لأنها من آلات الحرب المأمور بتعلمها وإحكامها والتفوق فيها، وفي المسابقة بها مع العوض مبالغة في الاجتهاد في النهاية لها والإحكام لها».
ودليل الجواز في هذه الثلاثة حديث أبي هريرة مرفوعاً: «لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر» رواه الخمسة، ولم يذكر ابن ماجه(نصل)، والسبق بتحريك الباء هو العوض الذي يخرجه المتسابق، ويسمى القمرة والرهان والخطر. فدل على أن الأصل هو المنع ويستثنى من ذلك هذه الثلاثة والله أعلم.
ابو وليد البحيرى
2021-06-07, 09:45 AM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (41)
- من المسائل المستفادة من قصة يوسف
-عليه السلام (مسألة القضاء بالقرائن)
د.وليد خالد الربيع
من المسائل المستفادة من آيات سورة يوسف -عليه السلام- (مسألة القضاء بالقرائن)، فمعلوم أن القاضي يستند في حكمه إلى البينات والحجج القضائية كالشهود والأيمان والنكول، كما جاء عن ابن عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لادَّعَى رِجَالٌ أموالَ قَوْمٍ ودِماءَهُمْ، لَكِنِ البَيِّنَةُ على المُدَّعِي والْيَمينُ على من أَنْكَرَ». حديث حسَنٌ رَوَاهُ الْبَيْهقي وغيرُهُ هكذا، وبَعْضُهُ في الصحِيحَين.
حديث عظيم القدر
قال الشيخ ابن سعدي: «هذا الحديث عظيم القدر، وهو أصل من أصول القضايا والأحكام، فإن القضاء بين الناس إنما يكون عند التنازع، هذا يدعي على هذا حقًّا من الحقوق فينكره، وهذا يدعي براءته من الحق الذي كان ثابتًا عليه، فبيَّن - صلى الله عليه وسلم - أصلًا بفض نزاعهم، ويتضح به المحق من المبطل، فمن ادعى عينًا من الأعيان، أو دينًا، أو حقًّا من الحقوق وتوابعها على غيره، وأنكره ذلك الغير، فالأصل مع المنكر. فهذا المدعي إن أتى ببينة تُثبت ذلك الحق، ثبت له، وحُكمَ له به، وإن لم يأت ببينة، فليس له على الآخر إلا اليمين».
ويأتي هنا البحث في قوة القرائن في إثبات الأحكام القضائية والدلالة على الأحكام الشرعية:
أولا: تعريف القرينة
- القرينة في اللغة: من الفعل قرن الشيء بالشيء إذا ضمه إليه، قال ابن فارس: «القاف والراء والنون أصلان صحيحان أحدهما: يدل على جمع شيء إلى شيء».
- وفي الاصطلاح: القرائن :هي الأمارات والعلامات التي يستدل بها على وجود شيء أو نفيه.
قال ابن القيم موضحا أمثلة القرينة الدالة على المراد من غير أن تكون صريحة فيه: «ولم يزل الأئمة والخلفاء يحكمون بالقطع إذا وجد المال المسروق مع المتهم، وهذه القرينة أقوى من البينة والإقرار.
وهل يشك أحد رأى قتيلًا يتشحط في دمه، وآخر قائم على رأسه بالسكين: أنه قتله؟ ولاسيما إذا عرف بعداوته.
وكذلك إذا رأينا رجلًا مكشوف الرأس -وليس ذلك عادته- وآخر هارب قدامه بيده عمامة، وعلى رأسه عمامة: حكمنا له بالعمامة التي بيد الهارب قطعًا، ولا نحكم بها لصاحب اليد التي قطعنا وجزمنا بأنها يد ظالمة غاصبة بالقرينة الظاهرة التي هي أقوى بكثير من البينة والاعتراف».
ثانيا: حكم العمل بالقرائن في القضاء
ذهب الجمهور إلى جواز القضاء بالقرائن في الجملة؛ حيث إن الشارع اعتبر القرائن ولم يهدرها، قال ابن القيم في كتابه النفيس (الطرق الحكمية في السياسة الشرعية): «فالشارع لم يلغ القرائن والأمارات ودلائل الأحوال، بل من استقرأ الشرع في مصادره وموارده وجد شاهداً لها بالاعتبار مرتباً عليها الأحكام».
وقال: «ولم يزل حذاق الحكام والولاة يستخرجون الحقوق بالفراسة والأمارات».
وقال أيضاً: «والحاكم إذا لم يكن فقيه النفس في الأمارات ودلائل الحال ومعرفة شواهده والقرائن الحالية والمقالية أضاع حقوقاً كثيرة على أصحابها وحكم بما يعلم الناس بطلانه».
مشروعية القضاء بالقرائن
فمن الأدلة على مشروعية القضاء بالقرائن عند تعذر البينات الأقوى منها والأوضح: قوله -تعالى-: {وَجَاءُوا عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ} (سورة يوسف:18)، فعنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «لَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ قَالَ: كَذَبْتُمْ، لَوْ كَانَ الذِّئْبُ أَكَلَهُ لَخَرَقَ الْقَمِيصَ».
قال ابن سعدي: «زعموا أنه دم يوسف حين أكله الذئب، فلم يصدقهم أبوهم بذلك، و{قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} أي: زينت لكم أنفسكم أمرا قبيحا في التفريق بيني وبينه؛ لأنه رأى من القرائن والأحوال ومن رؤيا يوسف التي قصَّها عليه ما دلّه على ما قال».
إِعْمَالِ الْأَمَارَاتِ
قال القرطبي مبينا وجه الدلالة من الآية على المراد: «اسْتَدَلَّ الْفُقَهَاءُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إِعْمَالِ الْأَمَارَاتِ فِي مَسَائِلَ مِنَ الْفِقْهِ كَالْقَسَامَةِ وَغَيْرِهَا، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ يَعْقُوبَ -عليه السلام- اسْتَدَلَّ عَلَى كَذِبِهِمْ بِصِحَّةِ الْقَمِيصِ، وَهَكَذَا يَجِبُ عَلَى النَّاظِرِ أَنْ يَلْحَظَ الْأَمَارَاتِ وَالْعَلَامَاتِ إِذَا تَعَارَضَتْ، فَمَا تَرَجَّحَ مِنْهَا قَضَى بِجَانِبِ التَّرْجِيحِ، وَهِيَ قُوَّةُ التُّهْمَةِ، وَلَا خِلَافَ بِالْحُكْمِ بِهَا».
ومن الأدلة أيضا قوله -تعالى-:{وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ. وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (سورة يوسف: 26، 27).
قال الشنقيطي: «يفهم من الآية لزوم الحكم بالقرينة الواضحة».
فوائد القصة
قال ابن سعدي في فوائد القصة: «إن القرائن يعمل بها عند الاشتباه، فلو تخاصم رجل وامرأته في شيء من أواني الدار، فما يصلح للرجل فإنه للرجل، وما يصلح للمرأة فهو لها، إذا لم يكن بينة، وكذا لو تنازع نجار وحداد في آلة حرفتهما من غير بينة، والعمل بالقافة في الأشباه والأثر، من هذا الباب، فإن شاهد يوسف شهد بالقرينة، وحكم بها في قدّ القميص، واستدل بقدِّه من دبره على صدق يوسف وكذبها».
وقائع من السنة المطهرة
ومن السنة المطهرة هناك الكثير من الوقائع تدل على القضاء بالقرائن:
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «بينما امرأتان معهما ابناهما، جاء الذِّئب، فذهب بابن إحداهما، فقالت هذه لصاحبتها: إنَّما ذهب بابنك أنت. وقالت الأخرى: إنَّما ذهب بابنك، فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان بن داود -عليهما السَّلام- فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسِّكِّين أشقُّه بينكما. فقالت الصُّغرى: لا، يرحمك الله هو ابنها. فقضى به للصُّغرى». متفق عليه.
قال النووي: «فاستدل سليمان بشفقة الصغرى على أنها أمه، وأما الكبرى فما كرهت ذلك، بل أرادته لتشاركها صاحبتها في المصيبة بفقد ولدها».
قال ابن حجر: «فظهر له من قرينة شفقة الصغرى وعدمها في الكبرى مع من انضاف إلى ذلك من القرينة الدالة على صدقها ما هجم به على الحكم للصغرى».
قال ابن القيم: «ومن ذلك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الملتقط أن يدفع اللقطة إلى واصفها، وأمره أن يعرف عِفاصها ووِعاءها وَوِكاءها لذلك، فجعل وصفه لها قائمًا مقام البينة، بل ربما يكون وصفه لها أظهر وأصدق من البينة.
ومن ذلك أن ابني عفراء لما تداعيا قتل أبي جهل، فقال - صلى الله عليه وسلم - : «هل مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟ «قالا: لا، قال: «فأَرِيَانِي سَيْفَيْكُمَا». فلما نظر فيهما، قال لأحدهما: «هذا قَتَلَهُ». وقضى له بسلبه. متفق عليه، قال ابن القيم: «وهذا من أحسن الأحكام، وأحقها بالاتباع، فالدم في النصل شاهد عجيب».
ابو وليد البحيرى
2021-06-07, 09:51 AM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (42)
- من المسائل المستفادة من قصة يوسف -عليه السلام
- حكم الإكراه على الفاحشة
د.وليد خالد الربيع
قال -تعالى-: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} (سورة يوسف:33-35).
قال الشيخ ابن سعدي: «هذا يدل على أن النسوة جعلن يشرن على يوسف في مطاوعة سيدته، وجعلن يكدنه في ذلك؛ فاستحب السجن والعذاب الدنيوي على لذة حاضرة توجب العذاب الشديد، {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} أي: أمل إليهن، فإني ضعيف عاجز، إن لم تدفع عني السوء، {وَأَكُنْ} إن صبوت إليهن {مِنَ الْجَاهِلِينَ} فإن هذا جهل؛ لأنه آثر لذة قليلة منغصة، على لذات متتابعات وشهوات متنوعات في جنات النعيم، ومن آثر هذا على ذاك، فمن أجهل منه؟ فإن العلم والعقل يدعو إلى تقديم أعظم المصلحتين وأعظم اللذتين، ويؤثر ما كان محمود العاقبة»، فمن المسائل المستفادة من الآيات الكريمة مسألة الإكراه على الزنا، وهل للمكرَه أن يقدم على الزنا؟ وإذا أكره شخص على الزنا فهل يأثم ويقام عليه الحد أم أن الإكراه يؤثر في إسقاط الإثم والحد؟
وقبل بيان مذاهب العلماء في هذه المسألة لابد من تعريف الإكراه وبيان حكمه:
أولا: تعريف الإكراه
الإكراه هو حمل الآخَر على أمر يمتنع منه بتخويف يقدر الحامل على إيقاعه، ويصير الآخَر خائفا به فائت الرضا بالمباشرة. أي: أن في الإكراه إلزاماً للآخر قهراً على فعل أمر لا يريده ولا يحبه.
ثانيا: حكم الإكراه
الإكراه بغير حق: هو الإكراه المحرم شرعًا لتحريم وسيلته أو لتحريم المطلوب به، وهو الذي وردت بشأنه النصوص الشرعية الدالة على عدم اعتبار ما يصدر من المكرَه بغير حق من تصرفات، ومن هذه الأدلة:
1- قوله -تعالى-: {مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (سورة النحل:106)، قال القرطبي: «لما سمح الله -تعالى- بالكفر به وهو أصل الشريعة عند الإكراه ولم يؤاخذ به، حمل العلماء عليه فروع الشريعة كلها، فإذا وقع الإكراه عليها لم يؤاخذ به ولم يترتب عليه حكم».
2- قوله -تعالى-: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (سورة النور:33) والشاهد في قوله -تعالى-: {فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}؛ حيث استثنى الإكراه على الزنا من الإثم والعقوبة.
3- عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» أخرجه ابن ماجه و صححه الألباني.
قال ابن حجر الهيتمي: «فجعل فعل المكره الذي وجدت فيه شروط الإكراه في كتب الفقهاء فعلا، فكل ما كان الحكم فيه مرتبا على فعل المكلف يكون بسبب الإكراه لغواً بمنزلة المعدوم».
ثالثا: حكم الإقدام على الزنى تحت تأثير الإكراه
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على مذهبين:
المذهب الأول
لا يحل للرجل الإقدام على الزنى تحت تأثير الإكراه فإن فعل فهو آثم، وهو قول الحنفية في الإكراه الملجئ والشافعية وقول بعض المالكية وأبي ثور والحسن، ودليلهم:
أن حرمة الزنا لا ترتفع بحال، فكما لا يرخص فيه في حالة الاختيار فكذلك لا يرخص فيه عند الإكراه.
المذهب الثاني
يجوز للمكرَه الإقدام على الزنى تحت تأثير الإكراه الملجئ، وهو قول ابن العربي من المالكية وقال: الصحيح أنه يجوز الإقدام على الزنى ولا حدّ عليه، خلافا لمن ألزمه ذلك؛ لأنه رأى أنها شهوة خلقية لا يتصور الإكراه عليها، وغفل عن السبب في باعث الشهوة وهو الإلجاء إلى ذلك وهو الذي أسقط حكمه، وإنما يجب الحد على شهوة بعث عليها سبب اختياري.
رابعا: أثر الإكراه في سقوط حدّ الزنى
(1) أثر الإكراه في سقوط حدّ الزنى عن المرأة: قال القرطبي: إذا استكرهت المرأة على الزنى فلا حدّ عليها لقوله -تعالى-: {إلا من أكره} وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه»، وقوله -تعالى-: {فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وبهذا المعنى حكم عمر في الوليدة التي استكرهها العبد فلم يحدّها، والعلماء متفقون على أنه لا حدّ على امرأة مستكرهة.
(2) أثر الإكراه في سقوط حدّ الزنى عن الرجل: اختلف الفقهاء على مذهبين:
المذهب الأول
يجب الحدّ على الرجل إذا أكره على الزنى
وهو قول أبي حنيفة والمالكية في المشهور والشافعية في قول والحنابلة على الصحيح من مذهبهم، ودليلهم: أن الوطء لا يكون إلا بالانتشار الحادث بالاختيار؛ إذ إن الإكراه ينافي الانتشار الذي هو علامة الشهوة التي لا تحصل إلا بالطواعية والاختيار، فأصبح المكرَه على الوطء كالمختار لا فرق بينهما، فالشبهة عندهم هي عدم تصور الإكراه على الزنى.
المذهب الثاني
لا يجب الحد على الرجل إذا أكره على الزنى
وهو قول الصاحبين والمالكية في المختار والشافعية في الأظهر والحنابلة في قول، ودليلهم: عموم النصوص الدالة على إلغاء أثر التصرفات الواقعة تحت تأثير الإكراه، وأن الحدود تدرأ بالشبهات، والإكراه شبهة؛ لأن الظاهر أن المكرَه غير راض بالزنى ولا مختار له، ولا فارق بين الرجل والمرأة في ذلك؛ لأن الرجل في الخوف على حياته كالمرأة في ذلك؛ وحيث سقط الحدّ عن المستكرهة فينبغي أن يسقط عن المكرَه كذلك.
ومعلوم أن الإكراه المؤثر له شروط دقيقة وضوابط محكمة للتأكد من تحقق الإكراه الموجب لرفع أثر التصرفات، فإذا توفرت تلك الشروط فالنصوص الشرعية تدل على عذر المكرَه.
قال القرطبي: «أكره يوسف -عليه السلام- على الفاحشة بالسجن، وأقام خمسة أعوام، وما رضي بذلك لعظيم منزلته وشريف قدره، ولو أكره رجل بالسجن على الزنا ما جاز له إجماعا، فإن أكره بالضرب فقد اختلف فيه العلماء، والصحيح أنه إذا كان فادحا فإنه يسقط عنه إثم الزنا وحـدّه. وقد قال بعض علمائنا: إنه لا يسقط عنه الحد، وهو ضعيف؛ فإن الله -تعالى- لا يجمع على عبده العذابين، ولا يصرفه بين بلاءين؛ فإنه من أعظم الحرج في الدين، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}.
وقال الشيخ ابن عثيمين: «فالصواب بلا شك أن الإكراه في حق الرجل ممكن، وأنه لا حد عليه، ولكن المكرِه يعزر، ولا يحد حد الزنا لأنه ما زنا».
ابو وليد البحيرى
2021-06-07, 09:56 AM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (43)
- من الأحكام المستفادة من قصة يوسف -عليه السلام
- مشروعية الكفالة بالنفس
د.وليد خالد الربيع
قال -تعالى-: {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَن يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} (سورة يوسف:66)، قال الطبري: «يقول -تعالى- ذكره: قال يعقوب لبنيه: لن أرسل أخاكم معكم إلى ملك مصر، (حتى تؤتون موثقًا من الله)، يقول: حتى تعطون موثقًا من الله، بمعنى «الميثاق»، وهو ما يوثق به من يمينٍ وعهد (لتأتنني به) يقول لتأتنني بأخيكم، (إلا أن يحاط بكم)، يقول: إلا أن يُحيط بجميعكم ما لا تقدرون معه على أن تأتوني به».
من المسائل المستفادة من هذه الآية الكريمة (مشروعية الكفالة بالنفس) وهي كالتالي:
أولا: تعريف الكفالة بالنفس
عرف الفقهاء الكفالة بالنفس: بأنها التزام جائز التصرف في إحضار بدن من عليه الحق، وهناك فرق بين كفالة المال والكفالة بالنفس، قال الشيخ ابن سعدي: «فالضمان: الكفالة بالمال يكون للدين، والكفالة بالنفس لإحضار بدن الغريم».
ثانيا: حكم الكفالة بالنفس
دل الكتاب والسنة على مشروعية الكفالة بالنفس:
فأما الكتاب فقوله -تعالى-: {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَن يُحَاطَ بِكُمْ} (سورة يوسف:66)
قال القرطبي: «هذه الآية أصل في جواز الحمالة بالعين والوثيقة بالنفس».
وأما السنة فعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: «الزعيم غارمٌ «أخرجه أبو داود والترمذي وصححه الألباني، قال في عون المعبود: أي: يلزم نفسه ما ضمنه، والغرم أداء شيء يلزمه، والمعنى أنه ضامن، ومن ضمن دينا لزمه أداؤه».
وذكر البخاري في صحيحه في باب (الكفالة في القرض والديون والأبدان وغيرها) تعليقا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الأَسْلَمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- بَعَثَهُ مُصَدِّقًا، فَوَقَعَ رَجُلٌ عَلَى جَارِيَةِ امْرَأَتِهِ، فَأَخَذَ حَمْزَةُ مِنَ الرَّجُلِ كَفِيلًا حَتَّى قَدِمَ عَلَى عُمَرَ، وَكَانَ عُمَرُ قَدْ جَلَدَهُ مِائَةَ جَلْدَةٍ، فَصَدَّقَهُمْ وَعَذَرَهُ بِالْجَهَالَةِ» .
وَقَالَ جَرِيرٌ، وَالأَشْعَثُ، لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: «فِي المُرْتَدِّينَ اسْتَتِبْهُمْ وَكَفِّلْهُمْ، فَتَابُوا، وَكَفَلَهُمْ عَشَائِرُهُمْ».
قال ابن حجر في الفتح: «وَاسْتُفِيدَ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ (خبر حمزة) مَشْرُوعِيَّةَ الْكَفَالَةِ بِالْأَبْدَانِ» .
وأما أثر ابن مسعود ومشورة جرير والأشعث فقد قَالَ ابن الْمُنِيرِ: «أَخَذَ الْبُخَارِيُّ الْكَفَالَةَ بِالْأَبْدَانِ فِي الدُّيُونِ مِنَ الْكَفَالَةِ بِالْأَبْدَانِ فِي الْحُدُودِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى».
وَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ قَالَ بِهَا الْجُمْهُورُ قال ابن قدامة: «الكفالة بالنفس صحيحة في قول أكثر أهل العلم».
قال الشيخ ابن عثيمين: «الكفالة سنة، أي: مندوبة للكفيل؛ لما فيها من المساعدة وتفريج الكرب، بشرط أن يعلم أنه قادر على إحضار بدن المكفول أو إيفاء الدين، فإذا عرف أنه غير قادر فلا ينبغي أن يكفل».
ثالثا: شروط الكفالة بالنفس
ويشترط أهلية الكفيل ورضاه؛ لأنه سوف يلتزم بحق وإذا لم يرض لا يلزمه كالتبرع بالأعيان، قال ابن قدامة: «ولا يعتبر رضى المكفول له؛ لأنها وثيقة له لا قبض فيها فصحت من غير رضاه فيها كالشهادة، ولأنها التزام حق له من غير عوض فلم يعتبر رضاه كالنذر».
رابعا: ما يمكن الكفالة بالنفس فيه
قال ابن قدامة: «وتصح الكفالة ببدن كل من يلزم حضوره في مجلس الحكم بدين لازم، سواء كان الدين معلوما أو مجهولا، لأن الكفالة بالبدن والبدن معلوم فلا تبطل الكفالة بالجهالة».
وقال: «ولا تصح الكفالة ببدن من عليه حد، سواء كان حقا لله -تعالى- كحد الزنا والسرقة أو لآدمي كحد القذف والقصاص، وهذا قول أكثر أهل العلم» ثم علل ذلك بأن الكفالة استيثاق، والحدود مبناها على الإسقاط والدرء بالشبهات، فلا يدخل فيها الاستيثاق، ولأنه حق لا يجوز استيفاؤه من الكفيل إذا تعذر عليه إحضار المكفول به فلم تصح الكفالة بمن هو عليه كحد الزنا».
وقال ابن حجر: «وَلَمْ يَخْتَلِفْ مَنْ قَالَ بِهَا أَنَّ الْمَكْفُولَ بِحَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ إِذَا غَابَ أَوْ مَاتَ أَنْ لَا حَدَّ عَلَى الْكَفِيلِ بِخِلَافِ الدَّيْنِ؛ وَالْفَرْقُ بَيْنَهَمَا أَنَّ الْكَفِيلَ إِذَا أَدَّى الْمَالَ وَجَبَ لَهُ عَلَى صَاحِبِ الْمَالِ مِثْلُهُ».
قال الشيخ ابن عثيمين: «القاعدة أنه متى تعذر الاستيفاء من الكفيل فإن الكفالة لا تصح لعدم الفائدة».
قال ابن قدامة: «متى تعذر على الكفيل إحضار المكفول به مع حياته أو امتنع من إحضاره لزمه ما عليه» وعلل ذلك بعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: «الزعيم غارم»، ولأن الكفالة بالنفس أحد نوعي الكفالة فوجب بها الغرم كالكفالة بالمال.
خامسا: انتهاء الكفالة بالنفس وبراءة ذمة الكفيل
1- إذا سلم الكفيل المكفول للمكفول له برئ، سواء استوفى منه صاحب الحق أم لا، فإن عجز عن إحضاره صار ضامنا.
2- موت المكفول: إذا اشترط الكفيل ألا شيء عليه إذا مات المكفول، فمات برئ الكفيل بناء على الشرط، أما إذا لم يشترط ومات المكفول فهنا اختلف الفقهاء على مذهبين:
المذهب الأول: براءة الكفيل
إذا مات المكفول برئ الكفيل؛ لأنه التزم إحضاره وقد تعذر ذلك لموته، كما لو برئ من الدين. وهو مذهب الجمهور.
المذهب الثاني: ضمان الكفيل
يضمن الكفيل؛ لأن الكفالة بالنفس وثيقة بحق، فإذا تعذرت من جهة من عليه الدين، استوفي من الوثيقة كالرهن، ولأنه تعذر إحضاره فلزم كفيله ما عليه كما لو غاب. وهو قول الحكم والليث واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية كما نقله عنه المرداوي في الإنصاف.
3- إذا سلم المكفول نفسه برئ الكفيل، لحصول المطلوب من الكفيل، كما لو قضى مضمون عنه الدين.
3- إذا أبرئ المكفول برئ الكفيل؛ لأنه إذا برئ الأصل برئ الفرع.
4- إذا أبرئ المكفول له الكفيل انتهت الكفالة؛ لأنه حقه فيسقط بإسقاطه كالدين، ولم يبرأ المكفول؛ لأنه لا يبرأ الأصل ببراءة الفرع.
5- اختلف الفقهاء في انتهاء الكفالة بالنفس إذا مات الكفيل قبل تسليم المكفول على مذهبين:
- المذهب الأول: تنتهي الكفالة لتعذر إحضار المكفول، ولا شيء للمكفول له في تركته، وهو قول الحنفية والشافعية، لأنه لم يبق قادرا على تسليم المكفول بنفسه، وماله لا يصلح لإيفاء هذا الواجب وهو إحضار النفس.
- المذهب الثاني: لا تنتهي الكفالة بموت الكفيل، فيطالب ورثته بإحضار المكفول به فإن لم يقدروا أخذ من التركة قدر الدين المطلوب، وهو مذهب المالكية والحنابلة.
أما إذا مات المكفول له فلا تسقط الكفالة بالنفس، ويبقى الحق للورثة كسائر الحقوق المالية التي تورث، فيقوموا مقامه في المطالبة وبتسلم المكفول وإبراء الكفيل.
ابو وليد البحيرى
2021-06-24, 06:46 PM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (44)
- من الأحكام المستفادة من قصة يوسف -عليه السلام
مشروعية الجعالة
د.وليد خالد الربيع
قال -تعالى-: {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} (سورة يوسف:72)، من المسائل المستفادة من الآية الكريمة: (مشروعية الجعالة).
أولا: تعريف الجعالة
- الجعالة في اللغة: مصدر الفعل جعل الذي له معاني عدة، منها: جعل بمعنى وضع، وصنع، وصار، وبين قدر الأجرة كقولهم: جعلت له مبلغ كذا، أي: بينته له، قال ابن فارس:» وَالْجُعْلُ وَالْجَعَالَةُ وَالْجَعِيلَةُ: مَا يُجْعَلُ لِلْإِنْسَانِ عَلَى الْأَمْرِ يَفْعَلُهُ».
- والجعالة في الاصطلاح: هي تسمية مال معلوم لمن يعمل له عملا مباحا، ولو كان مجهولا أو لمدة مجهولة، كأن يقول: من فعل كذا؛ فله كذا من المال، فالجعالة بمنزلة وعد بعوض معين لمن يقوم بعمل مباح.
ثانيا: مشروعية الجعالة
دل الكتاب والسنة على مشروعية عقد الجعالة: فمن الكتاب الكريم قوله -تعالى-: {ولمن جاءَ بِهِ حِمل بعيرٍ وأنا به زعيم}.
أي: لمن دل على سارق صواع الملك حمل بعير، وهذا جعل فدلت الآية على جواز الجعالة، قال القرطبي:» في هذه الآية دليلان: أحدهما: جواز الجعل وقد أجيز للضرورة؛ فإنه يجوز فيه من الجهالة ما لا يجوز في غيره».
ومن السنة المطهرة حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - أن ناسا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أتوا على حي من أحياء العرب فلم يقروهم، فبينا هم كذلك إذ لدغ سيد أولئك، فقالوا: هل معكم من دواء أو راق؟ فقالوا: إنكم لم تقرونا ولا نفعل حتى تجعلوا لنا جعلا، فجعلوا لهم قطيعا من الشاة فجعل يقرأ بأم القرآن ويتفل فبرأ فجاء بالشاة فقالوا: لا نأخذه حتى نسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألوه فضحك وقال: «وما أدراكم أنها رقية؟ خذوها واضربوا لي بسهم». متفق عليه.
قال الزركشي: «ويستنبط من هذا الحديث جواز الجعالة على ما ينتفع به المريض من دواء أو رقية».
قال ابن قدامة مبينا حكمة مشروعية الجعالة مع ما قد تشتمل عليه من الجهالة: «لأن الحاجة تدعو إلى ذلك؛ فإن العمل قد يكون مجهولا كرد الآبق والضالة ونحو ذلك ولا تنعقد الإجارة فيه والحاجة داعية إلى ردهما، وقد لا يجد من يتبرع به، فدعت الحاجة إلى إباحة بذل الجعل فيه مع جهالة العمل؛ لأنها غير لازمة بخلاف الإجارة، ألا ترى أن الإجارة لما كانت لازمة افتقرت إلى تقدير مدة، والعقود الجائزة كالشركة والوكالة لا يجب تقدير مدتها، ولأن الجائزة لكل واحد منهما تركها فلا يؤدي إلى أن يلزمه مجهول عنده بخلاف اللازمة».
ثالثا: الفرق بين الإجارة والجعالة
يظهر من كلام ابن قدامة المتقدم أن هناك فروقا بين الإجارة والجعالة، وأثر ذلك يظهر فيما يترتب على تلك الفروق من أحكام تخالف فيها الجعالة الإجارة، فيجوز فيها ما لا يجوز في الإجارة، ولأهمية هذا التفريق ذكر العلماء السابقون والباحثون المعاصرون أوجها للاتفاق بين الإجارة والجعالة، وأوجها للاختلاف بينهما خلاصتها فيما يأتي:
أوجه الاتفاق بين الإجارة والجعالة
1- يشترك كل منهما بأنه عقد يبذل فيه عمل منفعة مقابل عوض مالي.
2- يشترط في العوض المالي في الإجارة والجعالة أن يكون معلوما، فكل ما صح عوضاً في الإجارة صح أن يكون عوضاً في الجعالة، وما لا فلا.
فإن جعل له عوضًا مجهولا كقوله: من رد ضالتي فله ثلثها، أو جعل له عوضا محرما كالخمر، فلا تصح الجعالة فإن عمل العمال فله في ذلك أجرة المثل؛ لأنه عمل بعوض لم يسلم له.
أوجه الاختلاف بين الإجارة والجعالة
قال الشيخ ابن سعدي مبينا الفرق بين طبيعة كل منهما: «الإجارة عقد لازم على عمل معلوم مع معين، والجعالة عقد جائز، والعمل قد يكون معلوما وقد يكون مجهولا، وتكون مع معين ومع غير معين، والجعالة تجوز على أعمال القرب، بخلاف الإجارة.
ولا يستحق العوض في الجعالة حتى يعمل جميع العمل، وأما الإجارة ففيها تفصيل: إن كان المانع لتكميل العمل من جهة المؤجر فلا شيء له، وإن كان من جهة المستأجر فعليه كل الأجرة، وإن كان بغير ذلك وجب من الأجرة بقدر ما استوفى».
الفروق بين الأجرة والجعالة
وهناك فروق أخرى ملخصها:
1- أن الجعالة لا يشترط لصحتها العلم بالعمل، فتصح الجعالة ولو كان العمل المباح مجهولا، كخياطة ثوب لم يصفه، ورد لقطة لم يعين موضع، بخلاف الإجارة فإنه يشترط أن يكون العمل فيها معلوماً.
2- أن الجعالة لا يشترط لصحتها العلم بمدة العمل كمن قال: من حرس زرعي فله كل يوم كذا بخلاف الإجارة فإنها يشترط فيها أن تكون مدة العمل معلومة.
3- في الجعالة لا يستحق العامل الجعل إلا بإتمام العمل، بخلاف الإجارة فيستحق الأجير العوض في الإجارة مقابل ما قدمه من عمل.
4- الإجارة قد تكون على منافع الأعيان، كالدور والدواب أو على منافع الإنسان أي على عمله كاستئجار عامل للحراسة، أما الجعالة فلا تكون إلا على منافع الإنسان وعمله.
5- تصح الجعالة سواء كان العامل معلوما أم مجهولا، فلا يشترط في العامل أن يكون معلوما؛ لأن الجعالة التزام من جانب واحد، فتنعقد بالإرادة المنفردة من طرف واحد، كأن يقول لزيد: إن رددت جملي الضائع فلك كذا، فيستحقه إن رده، ولا يستحق غيره أن رده غير زيد، أو يقول: من رد جملي الضائع فله كذا، فيصح بخلاف الإجارة فإنه لابد فيها من تعيين العاقدين.
6- إجارة الأجير الخاص تتعلق بعينه فلا يستنيب غيره، أما في الجعالة فيصح أن يستنيب العامل غيره في العمل.
7- الجعالة عقد جائز لكل من الطرفين، وفسخه يكون دون إذن الآخر، لأنها من جهة الجاعل تعليق استحقاق العامل للجعل بشرط، أما من جهة العامل فلأن العمل مجهول، وما كان كذلك لا يلزم بالعقد بخلاف الإجارة فإنها عقد لازم، فإذا فسخ العامل قبل تمام العمل فلا يستحق شيئا؛ لأنه أسقط حق نفسه؛ حيث لم يأت بما شرط عليه، وإذا فسخ الجاعل قبل الشروع في العمل فلا شيء للعامل؛ لأنه عمل غير مأذون فيه فلم يستحق شيئا، وإذا فسخ بعد الشروع في العمل فللعامل أجرة مثل عمله عوضا عما عمل قبل الفسخ.
ابو وليد البحيرى
2021-06-24, 06:52 PM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (45)
- الأحكام المستفادة من قصة يوسف -عليه السلام -
مشروعية الكفالة المالية أو الضمان المالي
د.وليد خالد الربيع
لا نزال مع قوله -تعالى-: {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} (سورة يوسف:72)، قال الطبري: «قوله، (وأنا به زعيم)، يقول: وأنا بأن أوفيّه حملَ بعير من الطعام إذا جاءني بصواع الملك كفيلٌ.وذكره بإسناده عن ابن عباس أن قوله: (وأنا به زعيم)، يقول: كفيل.
يستفاد من الآية الكريمة (مشروعية الكفالة المالية أو الضمان المالي)، قال القرطبي مبينًا فوائد الآية الكريمة: «جواز الكفالة على الرجل؛ لأن المؤذن الضامن هو غير يوسف -عليه السلام- قال علماؤنا: إذا قال الرجل: تحملت أو تكفلت أو ضمنت أو أنا حميل لك أو زعيم أو كفيل أو ضامن أو قبيل، أو هو لك عندي أو عليّ أو إليّ أو قبلي فذلك كله حمالة لازمة».
أولا: تعريف الضمان والكفالة
الضمان في اللغة: الكفالة والالتزام، وهو مصدر الفعل (ضمن) يقال: ضمن الرجل ضمانا: كفله والتزم أن يؤدي عنه ما قد يقصر في أدائه، قال ابن فارس: «الضاد والميم والنون أصل صحيح، وهو جعل الشيء في شيء يحويه»، والضامن: الكفيل أو الملتزم أو الغارم.
والكفالة مصدر الفعل (كفل) بمعنى ضمن، يقال: كفل المال والرجل كفالة: ضمنه، والكفيل: الكافل والضامن، قال ابن فارس: «الكاف والفاء واللام أصل صحيح يدل على تضمن الشيء للشيء، ومن الباب: الكفيل: وهو الضامن، والكفالة تسمى ضمانا لأنه إذا ضمنه فقد استوعب ذمته».
وفي الاصطلاح الفقهي: لا يفرق الحنفية بين الكفالة والضمان؛ فكلاهما ضم ذمة الكفيل إلى ذمة الأصيل في المطالبة بنفس أو دين أو عين، ويفرق الجمهور بينهما، فالكفالة تطلق على كفالة النفس وقد تقدم في مقالة سابقة ذكر بعض أحكامها، والضمان عندهم التزام حق في ذمة شخص آخر، قال ابن قدامة: «الضمان ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه في التزام الحق، فيثبت في ذمتهما جميعا ولصاحب الحق مطالبة من شاء منهما».
قال الشيخ ابن سعدي في بيان الفرق بين الكفالة والضمان: «الضمان يكون للدين، والكفالة لإحضار بدن الغريم، وفائدتهما: إلزام الضامن بالوفاء مع إلزام صاحب الحق، فيتعلق الحق بذمة كل منهما».
ثانيا: حكم الضمان
الضمان نوع من أنواع توثيق الحقوق كالكتابة والإشهاد والرهن، وكفالة المال والضمان مشروع في الكتاب والسنة والإجماع:
(1) فمن الكتاب قـوله -تعالى-: {قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ} قال ابن عباس: «الزعيم: الكفيل». قال ابن كثير: «(وأنا به زعيم) وهذا من باب الضمان والكفالة».
(2) عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن النبي كان لا يصلي على رجل مات وعليه دين، فأتى بميت فسأل: أعليه دينٌ؟ فقالوا: نعم، ديناران، فقال: «صلوا على صاحبكم»، فقال أبو قتادة: هما عليَّ يا رسول الله، فصلى عليه» أخرجه أبو داود والنسائي. قال في تحفة الأحوذي: «فيه دليل على جواز الضمان عن الميت سواء ترك وفاء أو لم يترك وهو قول أكثر أهل العلم»، وقال مبينا وجه الدلالة من الحديث: «فإنه لو لم تصح الكفالة لما صلى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم ».
(3) عن أبي أمامة قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «العارية مؤداة، والزعيم غارمٌ، والدين مقضي» أخرجه الترمذي وأبو داود، ومعنى قوله: (الزعيم غارم) أي: الكفيل ضامنٌ، ومن ضمن دينا لزمه أداؤه.
وقال ابن قدامة: «أجمع المسلمون على جواز الضمان في الجملة».
قال الشيخ ابن عثيمين: «الضمان في حق المضمون عنه جائز، وفي حق الضامن مستحب؛ لأنه من الإحسان، والله يحب المحسنين، بشرط قدرة الضامن على الوفاء، فإن لم يكن قادرا فلا ينبغي أن يضر نفسه لمصلحة غيره».
ثالثا: شروط الضمان
(1) يشترط في الضامن أن يكون جائز التصرف أي: عنده أهلية الأداء، قال ابن قدامة: «يصح ضمان كل جائز التصرف في ماله، سواء كان رجلا أم امرأة؛ لأنه عقد يقصد به المال فصح من المرأة كالبيع، ولا يصح من المجنون والمبرسم ولا من صبي غير مميز بغير خلاف، لأنه إيجاب مال بعقد فلم يصح منهم كالنذر والإقرار».
(2) يشترط رضا الضامن، فلا يصح ضمان المكره، قال ابن قدامة: «ولابد من رضى الضامن، فإن أكره لم يصح، ولا يعتبر رضا من المضمون عنه لا نعلم فيه خلافا؛ لأنه لو قضى الدين عنه بغير إذنه ورضاه صح، فكذلك إذا ضمن عنه، ولا يعتبر رضى المضمون له، لأنه أبا قتادة ضمن من غير رضى المضمون له ولا المضمون عنه فأجازه النبي - صلى الله عليه وسلم -».
قال الشيخ ابن عثيمين: «لا يشترط معرفة المضمون عنه ولا المضمون له؛ لأنه ليس عليه ضرر، ولا الدين المضمون والعلم أحسن، فيصح ضمان المجهول إذا آل إلى العلم؛ لأن الضمان عقد تبرع، فيتسامح فيه ما لا يتسامح بالمعاوضة كهبة المجهول والجعالة».
رابعا: أحكام الضمان
إذا ثبت الضمان لزم الضامن أداء ما ضمنه، وللمضمون له مطالبته، قال ابن قدامة: «لا نعلم في هذا خلافا، وهو فائدة الضمان»، وهنا تفصيل:
- إذا شرط الضامن ألا يطالبه المضمون له إلا إذا تعذر مطالبة المضمون عنه، فالشرط صحيح وليس له المطالبة حتى يتعذر الاستيفاء من المضمون عنه لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «المسلمون على شروطهم».
أما إذا أطلق الضمان ولم يشترط، فللعلماء مذهبان:
- الأول: لصاحب الحق أن يطالب من شاء منهما، وهو قول الجمهور، قال ابن قدامة: «لأن الحق ثابت في ذمة الضامن فملك مطالبته كالأصيل».
- الثاني: أنه لا يطالب الضامن إلا إذا تعذر مطالبة المضمون عنه، وهو قول مالك، قياسا على الرهن، فكلاهما وثيقة فلا يستوفى الحق منها إلا عند تعذر استيفائه من الأصل.
قال الشيخ ابن سعدي: «الصحيح أن صاحب الحق لا يملك مطالبة الضامن حتى يعجز عن الاستيفاء من الغريم؛ لأن الضمان من التوثقات كالرهن لا يباع إلا إذا تعذر الوفاء، ولأن العرف هكذا؛ يستقبح الناس طلب الضامن قبل تعذر الوفاء من الغريم إلا إذا شرط».
وقال ابن القيم في إعلام الموقعين مبينا ترجيح هذا المذهب: «إن الضامن فرع، والمضمون عنه أصل، وقاعدة الشريعة أن الفروع والأبدال لا يصار إليها إلا عند تعذر الأصول كالتراب في الطهارة والصوم في كفارة اليمين، وشاهد الفرع مع شاهد الأصل. وقد اطرد هذا في ولاية النكاح واستحقاق الميراث، لا يلي فرع مع أصله ولا يرث معه».
ابو وليد البحيرى
2021-06-24, 06:57 PM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (46)
من الأحكام المستفادة من قصة يوسف -عليه السلام -
الحيل والمخارج الشرعية
د.وليد خالد الربيع
قال الله -تعالى-: {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِم ْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} (سورة يوسف: 76)، قال الشيخ ابن سعدي: «{فَبَدَأَ} المفتش {بِأَوعيتهم قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ} وذلك لتزول الريبة التي يظن أنها فعلت بالقصد، فلما لم يجد في أوعيتهم شيئا {اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ} ولم يقل: «وجدها، أو سرقها أخوه» مراعاة للحقيقة الواقع، فحينئذ تم ليوسف ما أراد من بقاء أخيه عنده، على وجه لا يشعر به إخوته، قال -تعالى-: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} أي: يسرنا له هذا الكيد، الذي توصل به إلى أمر غير مذموم {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} لأنه ليس من دينه أن يتملك السارق، وإنما له عندهم، جزاء آخر، فلو ردت الحكومة إلى دين الملك، لم يتمكن يوسف من إبقاء أخيه عنده، ولكنه جعل الحكم منهم، ليتم له ما أراد»، يستفاد من الآية الكريمة مسألة (الحيل والمخارج الشرعية)، قال القرطبي: «وفيه جواز التوصل إلى الأغراض بالحيل إذا لم تخالف شريعة، ولا هدمت أصلا».
أولا: تعريف الحيلة
الحيلة في اللغة: الحذق في تدبير الأمور، وهي ما يتوصل به إلى حالة ما في خفية.
أما في الاصطلاح فلا يبعد التعريف الاصطلاحي عن التعريف اللغوي، قال ابن حجر: «هي ما يتوصل به إلى مقصود بطريق خفي»، وقال ابن القيم عن التحيل بأنه: «سلوك الطرق الخفية التي يتوصل بها إلى حصول الغرض بحيث لا يتفطن له إلا بنوع من الذكاء والفطنة».
ثانيا: أنواع الحيل
الحيلة نوع من التصرف الخفي للوصول إلى المقاصد والغايات، وغلب إطلاقها في عرف الناس على التوصل إلى المقاصد الممنوعة شرعا أو قانونا أو عادة، فالمتبادر من لفظ (الحيلة) أنها مذمومة وممنوعة، لكن باستقراء أدلة الشرع اتضح أن الحيلة نوعان؛ مشروعة وممنوعة، قال ابن القيم: «ليس كل ما يسمى حيلة (حراما)».
وقال ابن حجر: «وهي عند العلماء على أقسام بحسب الحامل عليها؛ فإن توصل بها بطريق مباح إلى إبطال حق أو إثبات باطل فهي حرام، أو إلى إثبات حق أو دفع باطل فهي واجبة أو مستحبة، وإن توصل بها بطريق مباح إلى سلامة من وقوع في مكروه فهي مستحبة أو مباحة، أو إلى ترك مندوب فهي مكروهة».
فيستفاد من هذا أن الحيلة نوعان:
- النوع الأول: الحيلة المشروعة: وهو ما يسمى بالمخارج الشرعية:
قال ابن القيم مبينا هذا النوع: «نوع يتوصل به إلى فعل ما أمر الله -تعالى- به، وترك ما نهى الله عنه، وتخليص الحق من الظالم المانع له، وتخليص المظلوم من يد الظالم الباغي، فهذا النوع محمود يثاب فاعله ومعلمه».
الأدلة على مشروعية هذا النوع من الحيل
(1) قوله -تعالى-: {كذلك كدنا ليوسف} قال ابن كثير: «وهذا من الكيد المحبوب المراد الذي يحبه الله ويرضاه، لما فيه من الحكمة والمصلحة المطلوبة»، قال ابن القيم: «وفى ذلك تنبيه على أن العلم الدقيق بلطيف الحيل الموصلة إلى المقصود الشرعي الذي يحبه الله -تعالى- ورسوله، من نصر دينه وكسر أعدائه، ونصر المحق وقمع المبطل: صفة مدح يرفع الله -تعالى- بها درجة العبد».
(2) قوله -تعالى-: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِ ينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} (النساء: 98) قال ابن القيم: «أي: التحيل على التخلص من الكفار وهذه حيلة محمودة يثاب عليها فاعلها».
(3) عن أبي سعيد قال: أنَّ رَسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَعْمَلَ رَجُلًا علَى خَيْبَرَ، فَجَاءَهُ بتَمْرٍ جَنِيبٍ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: أكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟ قالَ: لا واللَّهِ يا رَسولَ اللَّهِ، إنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ مِن هذا بالصَّاعَيْنِ، والصَّاعَيْنِ بالثَّلَاثَةِ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: لا تَفْعَلْ، بِعِ الجَمْعَ بالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا».أخرجه البخاري، قال ابن القيم: «فأرشده إلى طريقة يتوصل بها إلى المقصود دون الوقوع في الربا المحرم».
(4) عن سعيد بن سعد بن عبادة قال: كانَ بينَ أبياتِنا رجلٌ مُخدَجٌ ضَعيفٌ، فلَم يُرَعْ إلَّا وَهوَ علَى أمةٍ من إماءِ الدَّارِ يخبُثُ بِها فرفعَ شأنَهُ سعدُ بنُ عُبادةَ إلى رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ- فقالَ: اجلِدوهُ ضَربَ مائةِ سوطٍ قالوا: يا نبيَّ اللَّهِ هوَ أضعَفُ من ذلِكَ، لو ضرَبناهُ مائةَ سوطٍ ماتَ، قالَ فخُذوا لَهُ عِثكالًا فيهِ مائةُ شِمراخٍ فاضرِبوهُ ضَربةً واحدةً» أخرجه ابن ماجه وصححه الألباني، قال الطيبي: «العثكال الغصن الكبير الذي يكون عليه أغصان صغار ويسمى كل واحد من تلك الأغصان شمراخا»، «والحديث دليل على أن المريض إذا لم يحتمل الجلد ضرب بعثكال فيه مائة شمراخ أو ما يشابهه ويشترط أن تباشره جميع الشماريخ، وقيل يكفي الاعتماد، وهذا العمل من الحيل الجائزة شرعا، وقد جوز الله مثله في قوله: {وخذ بيدك ضغثا} الآية» قاله الشوكاني.
النوع الثاني: الحيل الممنوعة
عرفها ابن القيم بقوله: «ونوع يتضمن إسقاط الواجبات، وتحليل المحرمات، وقلب المظلوم ظالما، والظالم مظلوما، والحق باطلا، والباطل حقا، فهذا النوع الذي اتفق السلف على ذمه وصاحوا بأهله من أقطار الأرض، قال الإمام أحمد: «لا يجوز شيء من الحيل في إبطال حق مسلم».
أدلة تحريم الحيل المحرمة
(1) قوله -تعالى-: {يخادعون الله وهو خادعهم} فالله -تعالى- ذم المنافقين لأنهم يخادعون الله والمؤمنين، مما يدل على أن مخادعة الله -تعالى- حرام، والحيل في حقيقتها مخادعة لله -تعالى- فهي حرام.
(2) أخبر -تعالى- عن أهل السبت من اليهود أنه مسخهم قردة وخنازير لما احتالوا على إباحة ما حرم الله -تعالى- عليهم من الصيد بأن نصبوا الشباك يوم الجمعة ورفعوا يوم الأحد.
(3) وأخبر -تعالى- عن أهل الجنة في سورة القلم أنهم لما تحيلوا على إسقاط نصيب المساكين، فعاقبهم الله -تعالى- فكان في ذلك عبرة لكل محتال على إسقاط حقوق الله -تعالى.
(4) عن أبي هُرَيرَة قال: قال رسولُ اللهِ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «لا تَرْتكِبوا ما ارتكبَتِ اليهودُ، فتستحلُّوا محارِمَ اللهِ بأدْنَى الحِيَلِ»رواه ابن بطة وجود إسناده الألباني.
(5) وروى ابن ماجه عن عقبة بن عامر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَار؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «هُوَ الْمُحَلِّلُ، لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ، وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» وحسنه الألباني قال ابن القيم: «لأن فيه استحلال الزنا باسم النكاح».
(6) وقال - صلى الله عليه وسلم -: «قاتل الله اليهود؛ عن الله لما حرم عليهم شحومها جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه»متفق عليه قال الخطابي: «في هذا الحديث بطلان كل حيلة يحتال بها المتوصل إلى الحرام، وأنه لا يتغير حكمه بتغير هيئاته وتبديل اسمه».
ابو وليد البحيرى
2021-07-07, 05:48 PM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (47)
من الأحكام المستفادة من قصة يوسف -عليه السلام -
مشروعية الشهادة وبعض شروط الشاهد
د.وليد خالد الربيع
قال الله -تعالى-: {ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} (سورة يوسف:81)، هذه الآية الكريمة في سياق قصة يوسف -عليه السلام-، وتقدم ذكر الوسيلة التي توصل بها يوسف لإبقاء أخيه عنده، فلما استيأس إخوة يوسف من يوسف أن يسمح لهم بأخيهم {خَلَصُوا نَجِيًّا} أي: اجتمعوا وحدهم، ليس معهم غيرهم، وجعلوا يتناجون فيما بينهم، فـ{قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ} في حفظه، وأنكم تأتون به إلا أن يحاط بكم {وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ}، فاجتمع عليكم الأمران، تفريطكم في يوسف السابق، وعدم إتيانكم بأخيه باللاحق، فليس لي وجه أواجه به أبي».
قال الشيخ ابن سعدي: «ثم وصَّاهم بما يقولون لأبيهم، فقال: {ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ} أي: وأخذ بسرقته، ولم يحصل لنا أن نأتيك به، مع ما بذلنا من الجهد في ذلك، والحال أنَّا ما شهدنا بشيء لم نعلمه، وإنما شهدنا بما علمنا، لأننا رأينا الصواع استخرج من رحله، {وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} أي: لو كنا نعلم الغيب لما حرصنا وبذلنا المجهود في ذهابه معنا، ولما أعطيناك عهودنا ومواثيقنا، فلم نظن أن الأمر سيبلغ ما بلغ»، وقد دلت الآية الكريمة على مسألة (مشروعية الشهادة، وبعض شروط الشاهد)، ومن المعلوم أن الشهادة من طرق الإثبات للحقوق ومن الحجج القضائية التي يدلي بها المدعي أمام القضاء لإثبات حقه ويلزم القاضي الأخذ بها إذا توفرت شروطها ولم يطعن بها المدعى عليه.
أولا: تعريف الشهادة
الشهادة لغة: مصدر الفعل (شهد)، وله معان:
1- المعاينة: فشهد بمعنى: عاين كقوله -تعالى-: {مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ}.
2- الحضور: كقوله -تعالى-: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} أي: من حضر رمضان.
3- القسم: كقوله -تعالى-: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ} أي: يحلف أربع مرات.
4- شهد بمعنى أخبر خبرا قاطعا كقوله -تعالى-: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا}.
وأما الشهادة في الاصطلاح: فهي إخبار صادق في مجلس الحكم لإثبات حق للغير على الغير.
ثانيا: مشروعية الشهادة
ثبتت مشروعية الشهادة بوصفها دليلا قضائيا بالكتاب والسنة والإجماع، فمن الكتاب الكريم قوله -تعالى-: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ}، وقوله سبحانه: {وَاسْتشهدوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ}. فأمر -سبحانه- بالإشهاد في مواضع مختلفة مما يدل على مشروعية الشهادة لإثبات الحقوق والدعاوى.
ومن السنة المطهرة قال الأشعث بن قيس: كَانَتْ بَيْنِي وبيْنَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ في بئْرٍ، فَاخْتَصَمْنَا إلى رَسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ: «شَاهِدَاكَ أوْ يَمِينُهُ» الحديث أخرجه البخاري، وانعقد الإجماع على مشروعية العمل بالشهادة كما نقله ابن قدامة وغيره.
ثالثا: شروط الشاهد
الشهادة حجة قضائية يلزم القاضي الأخذ بها متى تحققت شروطها وخلت من الموانع، ولا يجوز إهمالها أو كتمانها، وقد اشترط الفقهاء في الشاهد شروطا عديدة للتأكد من صدق خبره الذي يعتمد عليه القاضي في بناء الحكم، ومن تلك الشروط:
أولا: أن يكون الشاهد بالغا عاقلا
فلا تقبل شهادة المجنون باتفاق لأنه لا يعقل، ولا تقبل شهادة غير البالغ إلا في جناية الصغار وعدم وجود شاهد بالغ إلا صبيان مميزين فتقبل شهادتهم بشروط مشددة.
ثانيا: أن يكون عالما بما يشهد به
لقوله -سبحانه-: {إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}، وقوله -تعالى-: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} مما يدل على أن الشهادة يجب أن تستند إلى العلم، قال القرطبي: «تضمنت هذه الآية جواز الشهادة بأي وجه حصل العلم بها؛ فإن الشهادة مرتبطة بالعلم عقلا وشرعا، فلا تسمع إلا ممن علم، ولا تقبل إلا منهم، وهذا هو الأصل في الشهادات، فكل من حصل له العلم بشيء جاز أن يشهد به وإن لم يشهده المشهود عليه قال الله -تعالى-:{إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (الزخرف: 86).
ثالثا الإسلام
فإذا كان المشهود عليه مسلما فيشترط أن يكون الشاهد مسلما اتفاقا لقوله -تعالى-: {وَاسْتشهدوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ} والكافر ليس من رجالنا، وقوله سبحانه: {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} والشهادة فيها نوع ولاية ولا ولاية لكافر على مسلم، وذهب الحنابلة وابن تيمية وابن عثيمين إلى أنه تقبل شهادة الكافر على المسلم استثناء من هذا الأصل في حالة المسلم تحضره الوفاة، ويريد أن يوصي وهو في السفر ولم يحضره مسلم فيجوز أن يشهد على وصيته من حضره من غير المسلمين لقوله -تعالى-: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ} الآية.
رابعًا: أن يكون الشاهد عدلا
لقوله -تعالى- {وأشهدوا ذوي عدل منكم}، قال ابن قدامة:» والعدل هو الذي تعتدل أحواله في دينه وأفعاله، قال القاضي: يكون ذلك في الدين والمروءة والأحكام، أما الدين فلا يرتكب كبيرة ولا يداوم على صغيرة، فإن الله أمر ألا تقبل شهادة القاذف فيقاس عليه كل مرتكب كبيرة، وأما المروءة فاجتناب الأمور الدنيئة المزرية».
خامسًا: عدم التهمة
أي: ألا يكون الشاهد متهمًا في شهادته؛ بحيث يقع الشك في صحة شهادته على وجه يرجح كذبه، وللتهمة المانعة من قبول الشهادة صور منها:
1- العداوة الدنيوية
فلا تقبل شهادة العدو على عدوه عند الجمهور لحديث: «لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا زان ولا زانية ولا ذي غمر على أخيه» أخرجه أبو داود وحسنه الألباني، والغمر هو الحقد، قال الشوكاني:» وهذا يدل على أن العداوة تمنع من قبول الشهادة لأنها تورث التهمة».
2- جلب منفعة
بأن يجلب الشاهد لنفسه منفعة أو يدفع ضررا مثل شهادة الدائنين لمدينهم المفلس بأن له دينا على غيره، وشهادة الدائنين لمدينهم الميت بدين أو مال على غيره.
3- الشركة والوكالة
لا تقبل شهادة الشريك لشريكه ولا الوكيل لموكله في موضوع الشركة أو الوكالة، قال ابن قدامة: «لا نعلم فيه مخالفا»، وتقبل فيما سواهما لانتفاء التهمة.
4- القرابة
لا تقبل شهادة الوالدين وإن علوا للولد وإن سفل، ولا شهادة الولد وإن سفل لهما وإن علوا، وهو مذهب الجمهور؛ لأنه متهم كتهمة العدو في الشهادة على عدوه، وتقبل شهادة أحدهما على صاحبه عند عامة أهل العلم.
وقال ابن المنذر:» أجمع أهل العلم على أن شهادة الأخ لأخيه جائزة». وذك للفرق بين الوالد والأخ؛ لأن بين الوالد والولد بعضية وقرابة قوية بخلاف الأخ.
5- الزوجية
فلا تقبل شهادة أحد الزوجين للآخر عند الجمهور لانتفاع كل منهما بشهادته للآخر.
ابو وليد البحيرى
2021-07-07, 06:01 PM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (48)
من الأحكام المستفادة من قصة يوسف -عليه السلام -
لزوم صيانة الإنسان نفسه وعرضه
د.وليد خالد الربيع
قال الله -تعالى-: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} سورة يوسف:(82)، قال القرطبي: «قوله -تعالى-: {واسأل القرية التي كنا فيها والعير} حققوا بها شهادتهم عنده، ورفعوا التهمة عن أنفسهم لئلا يتهمهم. فقولهم: واسأل القرية أي أهلها؛ فحذف، ويريدون بالقرية مصر»، فيستفاد من الآية الكريمة (لزوم صيانة الإنسان نفسه وعرضه)، بالبعد عن أماكن التهم، ورد الاتهامات الباطلة التي تقدح في دينه وعرضه.
قال القرطبي: «في هذه الآية من الفقه أن كل من كان على حق، وعلم أنه قد يظن به أنه على خلاف ما هو عليه أو يتوهم أن يرفع التهمة وكل ريبة عن نفسه، ويصرح بالحق الذي هو عليه، حتى لا يبقى لأحد متكلم»، وفي الحديث المشهور عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الْحَلال بَيِّنٌ، وَإن الْحَرَام بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أمور مُشتبهَاتٌ لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام». الحديث متفق عليه.
قال ابن رجب: «وَمَعْنَى اسْتَبْرَأَ: طَلَبَ الْبَرَاءَةَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ مِنَ النَّقْصِ وَالشَّيْنِ، وَالْعِرْضُ: هُوَ مَوْضِعُ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ مِنَ الْإِنْسَانِ، وَمَا يَحْصُلُ لَهُ بِذِكْرِهِ بِالْجَمِيلِ مَدْحٌ، وَبِذِكْرِهِ بِالْقَبِيحِ قَدْحٌ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ تَارَةً فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ، وَتَارَةً فِي سَلَفِهِ، أَوْ فِي أَهْلِهِ.
اجتناب المشتبهات
فمَنِ اتَّقَى الْأُمُورَ الْمُشْتَبِهَةَ وَاجْتَنَبَهَا، فَقَدْ حَصَّنَ عِرْضَهُ مِنَ الْقَدْحِ وَالشَّيْنِ الدَّاخِلِ عَلَى مَنْ لَا يَجْتَنِبُهَا، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنِ ارْتَكَبَ الشُّبُهَاتِ، فَقَدْ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلْقَدْحِ فِيهِ وَالْطَّعْنِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَنْ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلتُّهَمِ، فَلَا يَلُومَنَّ مَنْ أَسَاءَ بِهِ الظَّنَّ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ طَلَبَ الْبَرَاءَةِ لِلْعِرْضِ مَمْدُوحٌ كَطَلَبِ الْبَرَاءَةِ لِلدِّينِ».
موقف نبوي حكيم
وتأمل هذا الموقف النبوي الحكيم في دفع التهم وتربية الصحابة الكرام والأمة على حسن الظن بالمسلمين وسلامة الصدر لهم، عن صفية بنت حيي -رضي الله عنها-، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معتكفًا، فأتيته أزوره ليلًا، فحدَّثته، ثم قمتُ لأنقلب، فقام معي ليقلبني، وكان مسكنها في بيت أسامة بن زيد، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأَيَا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسرَعا في المشي، فقال: «على رِسلكما إنما هي صفية بنت حيي»، فقالا: سبحان الله يا رسول الله! فقال: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خفتُ أن يقذف في قلوبكما شرًّا، أو قال: شيئًا». متفق عليه.
فوائد الحديث
قال النووي مبينا فوائد الحديث: «فيه استحباب التحرز من التعرض لسوء ظن الناس في الإنسان وطلب السلامة والاعتذار بالأعذار الصحيحة، وأنه متى فعل ما قد ينكر ظاهره مما هو حق وقد يخفى أن يبين حاله ليدفع ظن السوء، وفيه الاستعداد للتحفظ من مكايد الشيطان فإنه يجرى من الإنسان مجرى الدم فيتأهب الإنسان للاحتراز من وساوسه وشره».
حماية السمعة والعرض
وأمر - صلى الله عليه وسلم - بحماية السمعة والعرض ولو ببذل المال فقال -عليه الصلاة والسلام-: «ذبوا (أي: ادفعوا) عن أعراضكم بأموالكم» أخرجه الخطيب البغدادي عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، وفيه زيادة: قالوا: وكيف؟ قال: «تعطون الشاعر ومن تخافون لسانه». وصححه الألباني، وإذا تساهل الإنسان بهذا الأمر فقد عرض نفسه لسوء الظن به وللغيبة والقدح، وأسقط حقه بالاحترام وكف اللسان عنه، فعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: «من عرض نفسه للتهمة فلا يلومن من أساء الظن به».
وَقَالَ الْحَسَنُ: «مَنْ دَخَلَ مَدَاخِلَ التُّهَمَةِ لَمْ يَكُنْ أَجْرُ لِلْغِيبَةِ».
قال ابن مفلح: «وَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ لَمَّا فَعَلَ مَا لَا يَنْبَغِي فِعْلُهُ سَقَطَ حَقُّهُ وَحَرَّمْتُهُ».
وقال محمد بن حزم الباهلي:
ومن دعا الناس إلى ذمه
ذموه بالحق وبالباطل
اجتناب سوء الظن
ومعلوم أن الله -تعالى- أمر باجتناب سوء الظن في قوله -تعالى-: {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن}، قال ابن كثير: «يَقُول -تعالى- نَاهِيًا عِبَاده الْمُؤْمِنِينَ عَنْ كَثِير مِنْ الظَّنّ وَهُوَ التُّهْمَة وَالتَّخَوُّن لِلْأَهْلِ وَالْأَقَارِب وَالنَّاس فِي غَيْر مَحَلِّهِ ، لِأَنَّ بَعْض ذَلِكَ يَكُون إِثْمًا مَحْضًا فَلْيُجْتَنَبْ كَثِيرٌ مِنْهُ اِحْتِيَاطًا».
الظن أنواع
إلا أن النصوص دلت على أن الظن أنواع:
الظن الواجب
فمنه الظن الواجب كحسن الظن بالله -تعالى- وحسن الظن بالمسلم المستقيم، ومنه الظن المحرم كسوء الظن بالله -تعالى- وكذلك سوء الظن بالمسلمين، قال القرطبي: «وَأَكْثَر الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الظَّنّ الْقَبِيح بِمَنْ ظَاهِره الْخَيْر لَا يَجُوز».
الظن المباح
ومنه الظن المباح: وهو الذي يعرض في القلب بسبب يوجب الريبة، قال القرطبي: «وأكثر العلماء على أَنَّهُ لَا حَرَج فِي الظَّنّ الْقَبِيح بِمَنْ ظَاهِره الْقبح»، فقد عقد البخاري في صحيحه في كتاب الأدب ترجمة بعنوان (باب ما يجوز من الظن) ثم ذكر حديث عائشة قالت: قال النبي - صلى الله عليه وسلم-: «ما أظن فلانا وفلانا يعرفان من ديننا شيئا» وفي رواية: «ما أظن فلانا وفلانا يعرفان ديننا الذي نحن عليه «. قال الليث: كانا رجلين من المنافقين .
قال ابن حجر: «وحاصل الترجمة أن مثل هذا الذي وقع في الحديث ليس من الظن المنهي عنه؛ لأنه في مقام التحذير من مثل من كان حاله كحال الرجلين، والنهي إنما هو عن ظن السوء بالمسلم السالم في دينه وعرضه».
من الضروريات التي يجب الحرص عليها
فالحاصل أن حماية العرض والسمعة من الضروريات التي يلزم المسلم الحرص عليها باكتساب الفضائل من جهة، وبالعلم النافع والعمل الصالح والخلق القويم، وباجتناب الرذائل من جهة أخرى، بالبعد عن الفواحش والكبائر، والبعد عن مواطن التهم وأماكن الشبهة، ولو حصل لبس فيلزمه التوضيح وإزالة الريب، فلا يعطي الناس مسوغا لسوء الظن به ولا الجرأة على غيبته واستحلال عرضه بما قدمت يداه.
قال الشيخ ابن عثيمين في فوائد قوله -تعالى-: {وأدنى ألا ترتابوا} من آية الدين: «أنه ينبغي للإنسان إذا وقع في محل قد يستراب منه أن ينفي عن نفسه ذلك. لا تقل: إن الناس يحسنون الظن بي، ولن يرتابوا في أمري، لا تقل هكذا، لأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فربما لا يزال يوسوس في صدور الناس حتى يتهموك بما أنت منه بريء».
ابو وليد البحيرى
2021-07-07, 06:06 PM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (49)
من الأحكام المستفادة من قصة يوسف -عليه السلام -
بعض الأحكام الفقهية المستفادة من سورة الكهف
د.وليد خالد الربيع
قال -تعالى-: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} (سورة الكهف:18)، هذه الآية الكريمة في سياق قصة أصحاب الكهف واعتزالهم لقومهم بأبدانهم وأديانهم، ولجوئهم للكهف وبيان حفظ الله سبحانه لهم.
قال ابن سعدي: «{وَتَحْسبهمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ} أي: تحسبهم أيها الناظر إليهم كأنهم أيقاظ، والحال أنهم نيام، قال المفسرون: وذلك لأن أعينهم منفتحة، لئلا تفسد، فالناظر إليهم يحسبهم أيقاظا، وهم رقود، {وَنُقلبهم ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} وهذا أيضا من حفظه لأبدانهم، لأن الأرض من طبيعتها، أكل الأجسام المتصلة بها، فكان من قدر الله، أن قلبهم على جنوبهم يمينا وشمالا، بقدر ما لا تفسد الأرض أجسامهم، والله -تعالى- قادر على حفظهم من الأرض، من غير تقليب، ولكنه -تعالى- حكيم، أراد أن تجري سنته في الكون، ويربط الأسباب بمسبباتها.
{وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} أي: الكلب الذي كان مع أصحاب الكهف، أصابه ما أصابهم من النوم وقت حراسته، فكان باسطا ذراعيه بالوصيد، أي: الباب، أو فنائه، هذا حفظهم من الأرض. وأما حفظهم من الآدميين، فأخبر أنه حماهم بالرعب، الذي نشره الله عليهم، فلو اطلع عليهم أحد، لامتلأ قلبه رعبا».
حكم اقتناء الكلاب
ذكر الله -تعالى- أن مع أصحاب الكهف كلبا، وأضافه إليهم مما يقتضي ملكيتهم له، ولم يعقب على ذلك بعدم الجواز، مما قد يفهم منه جواز اقتناء الكلب، استنادا إلى أنه شرع من قبلنا، وشرع من قبلنا: هو الأحكام التي شرعها الله -تعالى- للأمم السابقة وجاء بها الأنبياء السابقون، كشريعة إبراهيم وموسى وعيسى -عليهم الصلاة والسلام.
شرع من قبلنا
ومعلوم أنه إذا ثبت شرع من قبلنا بطريق صحيح، وثبت أنه شرع لنا فهو شرع لنا إجماعا، وما نسخته شريعتنا فليس شرعا لنا إجماعا، وما لم يرد به كتاب ولا سنة فليس شرعا لنا أيضا بالإجماع، بقي إذا محل الخلاف بين العلماء، وهو ما صح من شرعِ من قبلنا من طريق الوحي من كتاب أو سنة، وليس من كتبهم المحرفة، من غير إنكار ولا إقرار لها، فهل هذا شرع لنا أم لا؟ اختلف العلماء في ذلك، وأظهر الأقوال هو قول الجمهور وهو أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم ينسخ، ويكون قد ورد من طريق وحي لا من طريق كتبهم المحرفة.
الاحتجاج بالآية
وعلى هذا فلا يصح الاحتجاج بهذه الآية الكريمة على جواز اقتناء الكلاب مطلقا لورود النهي الصحيح الصريح عن ذلك:
فعن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من اقتنى كلبا إلا كلب صيد أو ماشية نقص من أجره كل يوم قيراطان». أخرجه مسلم، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من اتخذ كلبا إلا كلب ماشية أو صيد أو زرع انتقص من أجره كل يوم قيراط». متفق عليه، وعن ابن عمر أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أَيُّما أهْلِ دارٍ اتَّخَذُوا كَلْبًا، إلَّا كَلْبَ ماشِيَةٍ، أوْ كَلْبَ صائِدٍ، نَقَصَ مِن عَمَلِهِمْ كُلَّ يَومٍ قِيراطانِ». أخرجه مسلم.
قال القرطبي: «وكلب الماشية المباح اتخاذه عند مالك هو الذي يسرح معها، لا الذي يحفظها في الدار من السراق. وكلب الزرع هو الذي يحفظها من الوحوش بالليل أو بالنهار لا من السراق. وقد أجاز غير مالك اتخاذها لسراق الماشية والزرع».
اختلاف الفقهاء
وقد اختلف الفقهاء في حكم اقتناء الكلب على مذهبين:
المذهب الأول
حرمة الاقتناء لغير حاجة، وجواز اقتنائه للصيد أو الزرع أو الماشية: وهو مذهب الجمهور، استدلالا بظاهر الأحاديث المتقدمة في ترتيب الوعيد على الاتخاذ مما يدل على الحرمة، لأن التوعد بنقصان الأجر يكون على ترك واجب أو ارتكاب محرم، فدل على حرمة اقتناء الكلب بلا حاجة.
المذهب الثاني
كراهة اتخاذ الكلاب لغير حاجة: وهو مذهب المالكية، قَالَ ابن عَبْدِ الْبَرِّ: «فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِبَاحَةُ اتِّخَاذِ الْكِلَابِ لِلصَّيْدِ وَالْمَاشِيَةِ وَكَذَلِكَ الزَّرْعُ لِأَنَّهَا زِيَادَةُ حَافِظٍ، وَكَرَاهَةُ اتِّخَاذِهَا لِغَيْرِ ذَلِكَ»، واستدل على ذلك بقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: «نَقَصَ مِنْ عَمَلِهِ» أَيْ: مِنْ أَجْرِ عَمَلِهِ مَا يُشِيرُ إِلَى أَنَّ اتِّخَاذَهَا لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ اتِّخَاذُهُ مُحَرَّمًا امْتَنَعَ اتِّخَاذُهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ سَوَاءٌ نَقَصَ الْأَجْرُ أَوْ لَمْ يَنْقُصْ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ اتِّخَاذَهَا مَكْرُوهٌ لَا حَرَامٌ».
ولم يرتض الحافظ ابن حجر هذا الاستدلال فقال: «وَمَا ادَّعَاهُ مِنْ عَدَمِ التَّحْرِيمِ وَاسْتَنَدَ لَهُ بِمَا ذَكَرَهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ بَلْ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْعُقُوبَةُ تَقَعُ بِعَدَمِ التَّوْفِيقِ لِلْعَمَلِ بِمِقْدَارِ قِيرَاطٍ مِمَّا كَانَ يَعْمَلُهُ مِنَ الْخَيْرِ لَوْ لَمْ يَتَّخِذِ الْكَلْبَ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الِاتِّخَاذُ حَرَامًا وَالْمُرَادُ بِالنَّقْصِ أَنَّ الإثم الْحَاصِلَ بِاتِّخَاذِهِ يُوَازِي قَدْرَ قِيرَاطٍ أَوْ قِيرَاطَيْنِ مِنْ أَجْرٍ فَيَنْقُصُ مِنْ ثَوَابِ عَمَلِ الْمُتَّخِذِ قدر مَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ من الْإِثْم باتخاذ وَهُوَ قِيرَاطٌ أَوْ قِيرَاطَانِ».
حرمة اقتناء الكلب
وبهذا يترجح مذهب الجمهور بحرمة اقتناء الكلب بغير حاجة لظاهر الأحاديث المتقدمة، وكذلك لما في اقتناء الكلب من تبعات مؤسفة؛ فمن ذلك حرمان البيت من دخول الملائكة فعن أبي طلحةَ الأنصاري أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تدخلُ الملائكةُ بيتًا؛ فيه كلبٌ، ولا تماثيل».أخرجه مسلم.
قال النووي: «الملائكة الذين لا يدخلون بيتا فيه كلب أو صورة فهم ملائكة يطوفون بالرحمة والتبريك والاستغفار، وأما الحفظة فيدخلون كل بيت ولا يفارقون بني آدم في كل حال».
ومن التبعات التعرض لنجاسة الكلب المغلظة كما ثبت عن أبي هريرة أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «طَهورُ إناءِ أحدِكم، إذا ولَغ فيه الكلبُ، أن يغسِلَه سبعَ مرَّاتٍ أُولاهنَّ بالتُّرابِ».
أخرجه مسلم.
قال النووي: «لا فرق عندنا بين ولوغ الكلب وغيره من أجزائه، فإذا أصاب بوله أو روثه أو دمه أو عرقه أو شعره أو لعابه أو عضو من أعضائه شيئا طاهرا في حال رطوبة أحدهما وجب غسله سبع مرات إحداهن بالتراب».
لا يجوز بيع الكلب ولا شراؤه
ومع القول بجواز اتخاذ الكلب للحاجة كما تقدم إلا أنه لا يجوز بيع الكلب ولا شراؤه، فعنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأنْصَارِيِّ أنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نهَى عَنْ ثَمَنِ الكَلْبِ، وَمَهْرِ البَغِيِّ، وَحُلْوَانِ الكَاهِنِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وأخرج أبو داود عن ابن عباس قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب، وقال: «إن جاء يطلب ثمن الكلب فاملأ كفه ترابا».
فقد دلت هذه الأحاديث على تحريم بيع الكلب مطلقا وهو قول الجمهور، ويجوز اقتناؤه بالهبة.
ابو وليد البحيرى
2021-07-28, 09:59 AM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (50)
- الأحكام المستفادة من قصة أهل الكهف
- أحكام بناء المساجد على القبور
د.وليد خالد الربيع
قال -سبحانه-: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا (سورة الكهف: 21).
قال ابن سعدي -رحمه الله-: «يخبر الله -تعالى-، أن الناس قد اطلعوا على حال أهل الكهف، وذلك -والله أعلم- بعدما استيقظوا، وبعثوا أحدهم يشتري لهم طعامًا، وأمروه بالاستخفاء والإخفاء، فأراد الله أمرًا فيه صلاح للناس، وزيادة أجر لهم، وهو أن الناس رأوا منهم آية من آيات الله، المشاهدة بالعيان، على أن وعد الله حق لا شك فيه ولا مرية ولا بعد، بعدما كانوا يتنازعون بينهم أمرهم، فمن مثبت للوعد والجزاء، ومن ناف لذلك، فجعل قصتهم زيادة بصيرة ويقين للمؤمنين، وحجة على الجاحدين، وصار لهم أجر هذه القضية، وشهر الله أمرهم، ورفع قدرهم حتى عظمهم الذين اطلعوا عليهم. و{فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا} الله أعلم بحالهم ومآلهم، وقال من غلب على أمرهم، وهم الذين لهم الأمر: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} أي: نعبد الله -تعالى- فيه، ونتذكر به أحوالهم، وما جرى لهم».
الأخذ بظاهر الآية
وقد أخذ بظاهر هذه الآية الكريمة بعض العلماء، وقال بجواز بناء المساجد على القبور، وجواز الصلاة فيها تبركا بالصالحين؛ منهم الشهاب الخفاجي؛ حيث قال في حاشيته على تفسير البيضاوي: «وكونه مسجداً يدل على جواز البناء على قبور الصلحاء ونحوهم»، ومنهم الزمخشري حيث قال في الكشاف: «{قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ} من المسلمين وملكهم وكانوا أولى بهم وبالبناء عليهم {لَنَتَّخِذَنَّ} على باب الكهف {مَسْجِداً} يصلى فيه المسلمون ويتبركون بمكانهم».
دعوى مخالفة
وقد رد كثير من العلماء على هذه الدعوى المخالفة للأحاديث الصحيحة الصريحة قديما وحديثا، فقال الألوسي: «هذا واستدل بالآية على جواز البناء على قبور الصلحاء واتخاذ مسجد عليها وجواز الصلاة في ذلك، وممن ذكر ذلك الشهاب الخفاجي في حواشيه على البيضاوي وهو قول باطل عاطل فاسد كاسد».
ومن قبله قال القرطبي: «اتخاذ المساجد على القبور والصلاة فيها والبناء عليها، إلى غير ذلك مما تضمنته السنة من النهي عنه ممنوع لا يجوز»، وقال أيضا: «قال علماؤنا: وهذا يحرم على المسلمين أن يتخذوا قبور الأنبياء والعلماء مساجد».
هذه الحالة محظورة
وقال ابن سعدي في الرد على الاستدلال بظاهر الآية: «وهذه الحالة محظورة، نهى عنها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذم فاعليها، ولا يدل ذكرها هنا على عدم ذمها، فإن السياق في شأن تعظيم أهل الكهف والثناء عليهم، وأن هؤلاء وصلت بهم الحال إلى أن قالوا: ابنوا عليهم مسجدا، بعد خوف أهل الكهف الشديد من قومهم، وحذرهم من الاطلاع عليهم، فوصلت الحال إلى ما ترى».
شرع من قبلنا
فلو قيل: إن الآية في سياق شرع من قبلنا وهو شرع لنا؛ إذ لم ينكر الله -تعالى- ذلك في القرآن، فالجواب: أن شرع من قبلنا شرع لنا بشروط منها أن يثبت بشرعنا وألا يخالف شرعنا، وقد ورد في السنة من الأحاديث الصريحة الصحيحة ما يدل على نسخ ذلك والنهي عنه والتحذير منه أشد التحذير، وإنكار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إنكار الله -سبحانه-، وقد جمع هذه الأحاديث ونقل اتفاق المذاهب الأربعة على تحريم ذلك الشيخ الألباني -رحمه الله- في كتابه النفيس (تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد)، وذكر شبهات المجيزين وأجاب عنها، فمن تلك الأحاديث:
1 - عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي لم يقم منه: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» قالت: فلولا ذاك أبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا «متفق عليه. أي: كشف قبره ولم يتخذ عليه الحائل. والمراد دفن خارج بيته كذا في فتح الباري.
2- عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» متفق عليه.
3- عن عائشة وابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما حضرته الوفاة جعل يلقي على وجهه طرف خميصة له فإذا اغتم كشفها عن وجهه وهو يقول: «لعنة الله على اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». تقول عائشة: «يحذر مثل الذي صنعوا «متفق عليه.
4- عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: لما كان مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - تذاكر بعض نسائه كنيسة بأرض الحبشة يقال لها: مارية، وقد كانت أم سلمة وأم حبيبة قد أتتا أرض الحبشة، فذكرن من حسنها وتصاويرها قالت: فرفع النبي - صلى الله عليه وسلم - رأسه فقال: «أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا ثم صوروا تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة» متفق عليه.
5- عن جندب بن عبد الله البجلي أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت بخمس وهو يقول: «قد كان لي فيكم إخوة وأصدقاء، وإني أبرأ إلى الله أن يكون لي فيكم خليل، وإن الله -عز وجل- قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك» أخرجه مسلم.
حرمة اتخاذ القبور مساجد
فظاهر الأحاديث يدل على حرمة اتخاذ القبور مساجد، وقد بيّـن الشيخ الألباني -رحمه الله ومن قبله الشافعي وشراح الحديث- أن الاتخاذ المذكور في الأحاديث يشمل الصلاة على القبورـ بمعنى السجود عليها، واستقبالها بالصلاة والدعاء، وبناء المساجد عليها وقصد الصلاة فيها، وهذا من جوامع كله - صلى الله عليه وسلم -، ونقل عن الشافعي أنه قال في كتابه الأم: «وأكره أن يبنى على القبر مسجد، وأن يسوى، وأن يصلى عليه وهو غير مسوي، أو يصلى إليه»، والكراهة هنا للتحريم وليس المقصود الكراهة التنزيهية؛ لأن الشافعي يقول بمقتضى الأحاديث، وهي تدل على التحريم ولا صارف للكراهة.
وأختم بما قاله ابن القيم -رحمه الله- في زاد المعاد: «نص الإمام أحمد وغيره على أنه إذا دفن الميت في المسجد نبش». وقال ابن القيم أيضًا: «لا يجتمع في دين الإسلام قبر ومسجد، بل أيهما طرأ على الآخر منع منه وكان الحكم للسابق».
ابو وليد البحيرى
2021-07-28, 10:06 AM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (51)
- الأحكام المستفادة من سورة الكهف
- قصة الرجلين
د.وليد خالد الربيع
قال الله -تعالى-: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِي أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالا وَوَلَدًا} (سورة الكهف: 39)، لا نزال مع المسائل المستفادة من آيات سورة الكهف، وقد ذكر الله -تعالى- فيها قصة رجلين أحدهما مؤمن والآخر كافر، جرى بينهما حوار أثبته القرآن الكريم لما فيه من الفوائد والعظات.
قال الشيخ ابن سعدي: « يقول -تعالى- لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: اضرب للناس مثل هذين الرجلين، الشاكر لنعمة الله، والكافر لها، وما صدر من كل منهما، من الأقوال والأفعال، وما حصل بسبب ذلك من العقاب العاجل والآجل، والثواب، ليعتبروا بحالهما، ويتعظوا بما حصل عليهما، وليس معرفة أعيان الرجلين، وفي أي: زمان أو مكان هما فيه فائدة أو نتيجة، فالنتيجة تحصل من قصتهما فقط، والتعرض لما سوى ذلك من التكلف».
مشروعية الذكر عند دخول البيت
من المسائل الفقهية المستفادة من الآية الكريمة (مشروعية الذكر عند دخول البيت): قال ابن العربي: «الذِّكْرُ مَشْرُوعٌ لِلْعَبْدِ فِي كُلِّ حَالٍ عَلَى النَّدْبِ، وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: « كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَذْكُرُ اللَّهَ كُلَّ أَحْيَانِهِ». وَمِنْ جُمْلَةِ الْأَوْقَاتِ الَّتِي يُسْتَحَبُّ فِيهَا ذِكْرُ اللَّهِ إذَا دَخَلَ أَحَدُنَا مَنْزِلَهُ أَوْ مَسْجِدَهُ» ثم بيّن الذكر المطلوب كما جاء في الآية فقال: «أَنْ يَقُولَ كَمَا قَالَ اللَّهُ: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ} أَيْ: مَنْزِلَك {قُلْت مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ}. قَالَ أَشْهَبُ: قَالَ مَالِكٌ: يَنْبَغِي لِكُلِّ مَنْ دَخَلَ مَنْزِلَهُ أَنْ يَقُولَ هَذَا».
السنة المطهرة
وقد جاء في السنة المطهرة ما يؤكد ذلك ويوضحه فمن ذلك فعن جابرٍ - رضي الله عنه -؛ أنَّه سمع النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: «إذا دَخَل الرجل بيتَه فذكر الله عندَ دُخوله، وعند طعامه؛ قال الشيطان: لا مَبيتَ لكم ولا عشاء، وإذا دخل فَلَمْ يذكر الله عندَ دُخوله؛ قال الشيطانُ: أَدْركتم المبيتَ، وإذا لمْ يذْكرِ الله عندَ طعامه؛ قال الشيطانُ: أدركتم المبيت والعشاء».رواه مسلم، قال النووي: «وفي هذا استحباب ذكر الله عند دخول البيت وعند الطعام».
السلام على أهل البيت
ومن الذكر المطلوب أيضا (السلام على أهل البيت)، فعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا بُنيَّ إذا دخلت على أهلك فسلِّم، فتكون بركة عليك وعلى أهل بيتِكَ».رواه الترمذي وحسنه الألباني، ولهذا الذكر فضل عظيم فعن أبي أمامة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثلاثة كلُّهُمْ ضامِنٌ على الله عزَّ وجلَّ: رجُل خرج غازيًا في سبيل الله عزَّ وجلَّ، فهو ضامنٌ على الله حتَّى يتوفَّاه فيُدخله الجنَّة بما نال مِنْ أجْرٍ أو غنيمةٍ، ورجلٌ راحَ إلى المسْجد، فهو ضامنٌ على الله حتى يتوَفَّاه فيُدْخله الجنَّة أو يَرُدَّهُ بما نال من أَجْرٍ أو غنيمةٍ، ورجلٌ دخل بيْته بسلامٍ، فهوَ ضامِنٌ على الله -عزَّ وجلَّ». رواه أبو داود.وصححه الألباني، ورواه ابن حبان ولفظه: قال: «ثلاثةٌ كُلُّهُمْ ضامن على الله، إنْ عاش رُزِقَ وكفِيَ، وإن ماتَ أدخله الله الجنة: مَنْ دَخَل بيته فسلَّم فهو ضامنٌ على الله» فذكر الحديث، قال الخطابي: «معناه: مضمون على الله، فاعل بمعنى مفعول، كقوله -تعالى-: {في عيشة راضية} أي: مرضية».
الدعاء بالبركة
ومن المسائل المستفادة من الآية الكريمة أيضا (أن يدعو الشخص بالبركة إذا رأى ما يعجبه في ماله وحاله أو في غيره):
قال ابن كثير: « هذا تحضيض وحث على ذلك، أي: هلا إذا أعجبتك حين دخلتها ونظرت إليها حمدت الله على ما أنعم به عليك، وأعطاك من المال والولد ما لم يعطه غيرك، وقلت: «ما شاء الله لا قوة إلا بالله»؛ ولهذا قال بعض السلف: من أعجبه شيء من حاله أو ماله أو ولده أو ماله، فليقل: «ما شاء الله لا قوة إلا بالله» وهذا مأخوذ من هذه الآية الكريمة».
التوجيه النبوي لهذا الأدب
وقد جاء في السنة المطهرة التوجيه النبوي لهذا الأدب فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا رأى أحدكم من نفسه أو ماله أو من أخيه ما يعجبه فليدع له بالبركة؛ فٍان العين حق» رواه ابن السني في (عمل اليوم والليلة). وصححه الألباني في (الكلم الطيب).
وعن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال: مر عامر بن ربيعة بسهل بن حنيف وهو يغتسل فقال: لم أر كاليوم ولا جلد مخبأة، فما لبث أن لُبِط به فأتي به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقيل له: أدرك سهلاً صريعاً قال: « مَن تتهمون به؟» قالوا: عامر بن ربيعة، قال: «علام يقتل أحدكم أخاه؟ إذا رأى أحدكم من أخيه ما يعجبه فليدع له بالبركة»، ثم دعا بماء فأمر عامراً أن يتوضأ فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين وركبتيه وداخلة إزاره، وأمره أن يصب عليه. رواه ابن ماجه وأحمد ومالك.
ألا برّكت؟!
قال السيوطي في تنوير الحوالك شرح موطأ مالك: «قوله: «ألا برّكت؟!» قال الباجي: هو أن يقول: بارك الله فيه، فإن ذلك يبطل المعنى الذي يخاف من العين ويذهب تأثيره». وقال ابن عبد البر: «يقول: تبارك الله أحسن الخالقين، اللهم بارك فيه، فإذا دعا بالركة صرف المحذور لا محالة».
وقال ابن القيم في الزاد: «ومما يدفع به إصابة العين قول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، روي عن هشام بن عروة عن أبيه أنه كان إذا رأى شيئا يعجبه أو دخل حائطا من حيطانه قال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله».
قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: «فإذا رأى الإنسان ما يعجبه وخاف من حسد العين فإنه يقول: ما شاء الله تبارك الله، حتى لا يصاب المشهود بالعين، وكذلك إذا رأى الإنسان ما يعجبه في ماله فليقل: ما شاء الله لا قوة إلا بالله؛ لِئَلاَّ يعجب بنفسه وتزهو به نفسه في هذا المال الذي أعجبه، فإذا قال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، فقد وكل الأمر إلى الله -تبارك وتعالى».
تبارك الله عليك
وقال أيضا: «الأحسن إذا كان الإنسان يخاف أن تصيب عينه أحداً لإعجابه به أن يقول: تبارك الله عليك؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للرجل الذي أصاب أخاه بعين: «هلا برَّكت عليه»، أما ما شاء الله لا قوة إلا بالله فهذه يقولها: من أعجبه ملكه، كما قال صاحب الجنة لصاحبه قال: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} وفي الأثر: «من رأى ما يعجبه في ماله فقال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يصبه في ماله أذىً» أو كلمة نحوها».
ابو وليد البحيرى
2021-08-20, 09:49 PM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (52)
- الأحكام المستفادة من سورة الكهف
- قصة موسى -عليه السلام- والخضر
د.وليد خالد الربيع
قال الله -تعالى-: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} (سورة الكهف:60)، قال الشيخ ابن سعدي: «يخبر -تعالى- عن نبيه موسى -عليه السلام-، وشدة رغبته في الخير وطلب العلم، أنه قال لفتاه - أي: خادمه الذي يلازمه في حضره وسفره، وهو «يوشع بن نون {لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ} أي: لا أزال مسافرًا وإن طالت عليّ الشقة، ولحقتني المشقة، حتى أصل إلى مجمع البحرين، وهو المكان الذي أوحي إليه أنك ستجد فيه عبدا من عباد الله العالمين، عنده من العلم، ما ليس عندك، {أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًاْ} أي: مسافة طويلة».
وقد ذكر لنا النبي - صلى الله عليه وسلم - سبب هذه القصة، فقال: «إن موسى قام خطيبًا في بني إسرائيل فسئل: أي الناس أعلم؟ قال: أنا. فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه: إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك. فقال موسى: يا رب، وكيف لي به؟» الحديث أخرجه البخاري، وفي هذه القصة القرآنية فوائد عديدة وأحكام كثيرة، نذكر منها ما يلي:
فضيلة العلم والرحلة في طلبه
فمنها فضيلة العلم، والرحلة في طلبه، كما قال ابن العربي والقرطبي وغيرهما: «في هذا من الفقه رحلة العالم في طلب الازدياد من العلم، والاستعانة على ذلك بالخادم والصاحب، واغتنام لقاء الفضلاء والعلماء وإن بعدت أقطارهم، وذلك كان في دأب السلف الصالح»، فمن المسائل المستفادة من الآية الكريمة:
المسألة الأولى حكم الرحلة في طلب العلم الشرعي
دلت الأدلة الشرعية والآثار السلفية على مشروعية الرحلة في طلب العلم الشرعي، كما تقدم في الآية الكريمة، وأخرج البخاري عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الحَارِثِ أنه رَكِبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْمَدِينَةِ فَسَأَلَهُ عن مسألة متعلقة بالزواج ودعوى الرضاع.
وأخرج البخاري عن أنس أنَّ ضِمامَ بنَ ثعلبةَ - وكان سَيِّدَ قَومِه بني سَعدِ بنِ بكرٍ- جاء إلى المدينةِ لمُقابَلةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ ليَسأَلَه عن أركانِ الإسلامِ؛ ليرشد قَومِه بعْدَ رُجوعِه.
وقال ابن حجر: «أَخْرَجَ البخاري فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ عن جَابِر قال: «بَلَغَنِي عَنْ رَجُلٍ حَدِيثٌ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَاشْتَرَيْتُ بَعِيرًا ثُمَّ شَدَدْتُ رَحْلِي فَسِرْتُ إِلَيْهِ شَهْرًا حَتَّى قَدِمْتُ الشَّامَ»، وقال ابن مَسْعُودٍ: «لَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنِّي لَرَحَلْتُ إِلَيْهِ».
وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةَ قَالَ: «كُنَّا نَسْمَعُ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَا نَرْضَى حَتَّى خَرَجْنَا إِلَيْهِمْ فَسَمِعْنَا مِنْهُمْ». ورَوَى أَبُو دَاوُدَ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الصَّحَابَةِ رَحَلَ إِلَى فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ وَهُوَ بِمِصْرَ فِي حَدِيثٍ.
وعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيٍّ قَالَ: «بَلَغَنِي حَدِيثٌ عِنْدَ عَلِيٍّ فَخِفْتُ إِنْ مَاتَ أَنْ لَا أَجِدَهُ عِنْدَ غَيْرِهِ فَرَحَلْتُ حَتَّى قَدِمْتُ عَلَيْهِ الْعِرَاقَ».
وقال سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: «إِنْ كُنْتُ لَأَرْحَلُ الْأَيَّامَ وَاللَّيَالِيَ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ».
وَقِيلَ لِأَحْمَدَ: رَجُلٌ يَطْلُبُ الْعِلْمَ يَلْزَمُ رَجُلًا عِنْدَهُ عِلْمٌ كَثِيرٌ أَوْ يَرْحَلُ؟ قَالَ: يَرْحَلُ يَكْتُبُ عَنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ فَيُشَافِهُ النَّاسَ وَيَتَعَلَّمُ مِنْهُمْ».
طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ
ومن المعلوم أن طلب العلم الشرعي منه ما هو فرض عين، ومنه ما هو فرض كفاية، ومنه ما هو مستحب، وحكم الرحلة في طلب العلم يختلف بحسب نوع العلم المطلوب وحال الطالب، فإن كان العلم المطلوب فرض عين ولا يمكن تحصيله إلا بالرحلة فطلبه واجب، والرحلة إليه واجبة بشروط، لقوله -تعالى-: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُو اْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ} (التوبة: 122)، فَطَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ وَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ الرِّحْلَةَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، وشرط ذلك خلو بلده ممن يعلمه ما يحتاج إليه، قال الخطيب البغدادي في الجامع: «الْمَقْصُودُ فِي الرِّحْلَةِ فِي الْحَدِيثِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا تَحْصِيلُ عُلُوِّ الْإِسْنَادِ وَقِدَمِ السَّمَاعِ، وَالثَّانِي لِقَاءُ الْحُفَّاظِ وَالْمُذَاكَرَة ُ لَهُمْ وَالِاسْتِفَادَ ةُ عَنْهُمْ. فَإِذَا كَانَ الْأَمْرَانِ مَوْجُودَيْنِ فِي بَلَدِ الطَّالِبِ وَمَعْدُومَيْنِ فِي غَيْرِهِ فَلَا فَائِدَةَ فِي الرِّحْلَةِ، وَالِاقْتِصَارُ عَلَى مَا فِي الْبَلَدِ أَوْلَى».
قالَ أَبُو مُسْهِرٍ: «يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى عِلْمِ بَلَدِهِ وَعِلْمِ عَالِمِهِ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي أَقْتَصِرُ عَلَى عِلْمِ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَمَا أَفْتَقِرُ مَعَهُ إِلَى أَحَدٍ».
متى تكون الرحلة لطلب العلم مستحبة؟
وتكون الرحلة مستحبة، إذا كانت لزيادة علم شرعي ليس بفرض عين وليس موجودًا في بلده، قال الخطيب البغدادي: «وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْأَمْرَانِ اللَّذَانِ ذَكَرْنَاهُمَا مَوْجُودَيْنِ فِي بَلَدِ الطَّالِبِ وَفِي غَيْرِهِ إِلَّا أَنَّ مَا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْبَلَدَيْنِ يَخْتَصُّ بِهِ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الطَّالِبُ عِرَاقِيًّا وَفِي بَلَدِهِ عَالِي أَسَانِيدِ الْعِرَاقِيِّين َ وَحُفَّاظُ رُوَايَاتِهَا، وَالْعُلَمَاءُ بِاخْتِلَافِهَا وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ وَبِالشَّامِ مِنْ عُلُوِّ أَسَانِيدِ الشَّامِيِّينَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِأَحَادِيثِهِم ْ مَا لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ فَالْمُسْتَحَبّ ُ لِلطَّالِبِ الرِّحْلَةُ لِجَمْعِ الْفَائِدَتَيْن ِ مِنْ عُلُوِّ الْإِسْنَادَيْن ِ وَعِلْمِ الطَّائِفَتَيْن ِ لَكِنْ بَعْدَ تَحْصِيلِهِ حَدِيثَ بَلَدِهِ وَتَمَهُّرِهِ فِي الْمَعْرِفَةِ بِهِ».
قَالَ أَبُو الْفَضْلِ صَالِحُ بْنُ أَحْمَدَ التَّمِيمِيُّ: «وَيَنْبَغِي لِطَالِبِ الْحَدِيثِ وَمَنْ عُنِيَ بِهِ أَنْ يَبْدَأَ بِكَتْبِ حَدِيثِ بَلَدِهِ وَمَعْرِفَةِ أَهْلِهِ مِنْهُمْ وَتَفَهُّمِهِ وَضَبْطِهِ حَتَّى يَعْلَمَ صَحِيحَهَا وَسَقِيمَهَا وَيَعْرِفَ أَهْلَ التَّحْدِيثِ بِهَا وَأَحْوَالِهِمْ مَعْرِفَةً تَامَّةً إِذَا كَانَ فِي بَلَدِهِ عِلْمٌ وَعُلَمَاءُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا ثُمَّ يَشْتَغِلُ بَعْدُ بِحَدِيثِ الْبُلْدَانِ، وَالرِّحْلَةِ فِيهِ».
وينبغي لمن أراد الرحلة في طلب العلم ألا يضيع من يقوت ويعول من والدين وزوجة وأولاد إن لم يكن لهم كفاية ولا من يقوم عليهم غيره، فعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت» رواه أبو داود وفي لفظ: «من يعول» وحسنه الألباني.
المسألة الثانية حكم استئذان الوالدين في الرحلة لطلب العلم
لا شك أن طاعة الوالدين بالمعروف واجبة، وقد تكون الرحلة في طلب العلم واجبة كما تقدم، فهل يشترط إذنهما لذلك؟ ذكر العلماء لذلك تفصيلا ملخصه: إن كان في سفره خطر يخاف عليه من الهلاك فيجب أن يستأذن الوالدين؛ لأنه بمنزلة خروجه للجهاد، فقد روى الإمام أحمد عن أبي سعيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رد رجلا هاجر من اليمن لوالديه وقال له: أذنا لك؟ قال: لا، قال: «ارجع إليهما فاستأذنهما فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما».
وإن لم يكن في سفره خطر يخاف عليه من الهلاك، وخيف على والديه الضيعة؛ بأن كانا معسرين ونفقتهما عليه، وماله لا يفي بنفقتهما ونفقة سفره فإنه لا يخرج إلا بإذنهما.
وإن كانا موسرين فله أن يخرج بغير إذنهما إذا كان لطلب علم شرعي فرض عليه ولم يكن في بلده من يفيده، بشرط أن يكون طالب العلم أهلا لذلك ويرجى انتفاعه بسفره.
قَالَ الخطيب: «وَالطَّلَبُ الْمَفْرُوضُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ إِنَّمَا هُوَ طَلَبُ الْعِلْمِ الَّذِي لَا يَسَعُ جَهْلُهُ فَتَجُوزُ الرِّحْلَةُ بِغَيْرِ إِذْنِ الْأَبَوَيْنِ إِذَا لَمْ يَكُنْ بِبَلَدِ الطَّالِبِ مَنْ يُعَرِّفُهُ وَاجِبَاتِ الْأَحْكَامِ وَشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ قَدْ عَرَفَ عِلْمَ الْمُفْتَرَضِ عَلَيْهِ فَتُكْرَهُ لَهُ الرِّحْلَةُ إِلَّا بِإِذْنِ أَبَوَيْهِ».
قَالَ الخطيب: «وَإِذَا مَنَعَ الطَّالِبَ أَبَوَاهُ عَنْ تَعَلُّمِ الْعِلْمِ الْمُفْتَرَضِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ مُدَارَاتُهُمَا وَالرِّفْقُ بِهِمَا حَتَّى تَطِيبَ لَهُ أَنْفُسُهُمَا وَيَسْهُلَ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشُقُّ عَلَيْهِمَا.
سئل رجل الإمام أحمد فقال: «إِنِّي أَطْلُبُ الْحَدِيثَ وَإِنَّ أُمِّي تَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ تُرِيدُ مِنِّي أَنْ أَشْتَغِلَ فِي التِّجَارَةِ» فَقَالَ: «دَارِهَا وَأَرْضِهَا وَلَا تَدَعِ الطَّلَبَ».
ابو وليد البحيرى
2021-08-20, 09:57 PM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (53)
- الأحكام المستفادة من سورة الكهف
- مشروعية الاستعانة بالخادم
د.وليد خالد الربيع
لا نزال مع قوله -تعالى-: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} (سورة الكهف:60)، ومن الفوائد المستفادة من الآية الكريمة: (مشروعية الاستعانة بالخادم).
قال الشيخ ابن سعدي مبينا فوائد الآية: «جواز أخذ الخادم في الحضر والسفر لكفاية المؤن، وطلب الراحة، كما فعل موسى -عليه السلام»، وذلك أخذا من قوله -تعالى-: {وإذ قال موسى لفتاه}، قال القرطبي: «والفتى في كلام العرب: الشاب، ولما كان الخدمة أكثر ما يكونون فتيانا قيل للخادم: فتى على جهة حسن الأدب، وندبت الشريعة إلى ذلك في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يقل أحدكم: عبدي ولا أمتي، وليقل: فتاي وفتاتي» فهذا ندب إلى التواضع»، والفتى في الآية هو الخادم، وهو يوشع بن نون كما ورد في الحديث المتفق عليه.
مشروعية طلب العمل
قال ابن العربي مبينًا وجه الدلالة: «بَيَّنَ ذَلِكَ جَوَازَ الِاسْتِخْدَامِ لِلْأَصْحَابِ أَوْ الْعَبِيدِ فِي أُمُورِ الْمَعَاشِ وَحَاجَةِ الْمَنَافِعِ، لِفَضْلِ الْمَنْزِلَةِ، أَوْ لِحَقِّ السَّيِّدِيَّةِ »، فالآية الكريمة تدل على مشروعية طلب العمل من الآخر، سواء أكان ذلك بعوض أم بغير عوض.
الإحسان إلى العمالة المنزلية
وفي السنة المطهرة أحاديث عديدة ترشد إلى الإحسان إلى العمالة المنزلية، سواء أكان العامل رقيقا، أم كان أجيرا خاصا كما هو الواقع اليوم، فمن ذلك تكليفه بما يقدر عليه، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «للمملوك طعامه وكسوته، ولا يُكَلَّفُ من العمل إلا ما يُطيق» أخرجه مسلم.
وعن أبي ذر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إخوانُكم خَوَلُكم، جعلَهم اللهُ تحتَ أيديكم، فمَن كان أخوه تحتَ يدِه، فلْيُطعِمْه ممَّا يأكُلُ، ولْيُلْبِسْه ممَّا يَلبَسُ، ولا تُكلِّفوهم ما يَغلِبُهم، فإن كلَّفتُموهم فأعينُوهم» متفق عليه.
الإحسان إلى الأجير الخاص
وهذه الأحاديث وإن كانت في سياق الإحسان إلى المملوك فإنها تتناول الأجير الخاص كذلك؛ لأن وصف الإنسانية يشمل الاثنين، وعموم أدلة الإحسان لم تفرق بين حر ورقيق، بل إنها تناولت حتى الحيوان كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله كتب الإحسان على كل شيءٍ، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبْحة، ولْيُحِدَّ أحدُكم شفرته، ولْيُرِحْ ذبيحته» رواه مسلم، قال النووي: «وأجمع العلماء على أنه لا يجوز أن يكلفه من العمل ما لا يطيقه، فإن كان ذلك لزمه إعانته بنفسه أو بغيره». ويتناول الأمر الأجير الخاص كما تقدم.
دفع أجرة الخادم بغير تأخير
ومن الإحسان إلى الخادم دفع أجرته إليه بغير تأخير ولا مماطلة، وهذا واجب شرعي تركه يستجلب الوعيد من الله -تعالى-، فعن أبي هُرَيرةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «قال اللهُ: ثلاثةٌ أنا خَصمُهم يومَ القيامةِ: رجلٌ أعطى بي ثمَّ غدرَ، ورجلٌ باع حرًّا فأكَلَ ثمنَه، ورجُلٌ استأجرَ أجيرًا فاستوفى منهُ ولم يُعْطِه أجْرَه». أخرجه البخاري.
قال ابن التين: «هو -سبحانه وتعالى- خصم لجميع الظالمين إلا أنه أراد التشديد على هؤلاء بالتصريح»، وقال ابن حجر: «قوله: «ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره» هو في معنى من باع حرا وأكل ثمنه؛ لأنه استوفى منفعته بغير عوض وكأنه أكلها، ولأنه استخدمه بغير أجرة وكأنه استعبده».
العفو عن زلة الخادم وخطئه
ومن الإحسان للخادم العفو عن زلته وخطئه وتوجيهه باللطف والرفق فعن ابْن عُمَرَ قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَمْ نَعْفُو عَنِ الْخَادِمِ؟ فَصَمَتَ، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ الْكَلَامَ، فَصَمَتَ، فَلَمَّا كَانَ فِي الثَّالِثَةِ، قَالَ: «اعْفُوا عَنْهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً». أخرجه أبو داود وصححه الألباني.
أسوة حسنة
ولنا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة في طيب المعاملة لمن خدمه، فعن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: «خَدَمْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَشْرَ سِنينَ، فما قال لي: أُفٍّ، ولا: لمَ صَنَعْتَ؟ ولا: ألا صَنَعْت». متفق عليه، قال ابن حجر: «ويستفاد من هذا ترك العتاب على ما فات؛ لأن هناك مندوحة عنه باستئناف الأمر به إذا احتيج إليه، وفائدة تنزيه اللسان عن الزجر والذم واستئلاف خاطر الخادم بترك معاتبته، وكل ذلك في الأمور التي تتعلق بحظ الإنسان، وأما الأمور اللازمة شرعا فلا يتسامح فيها لأنها من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر».
أمور محرمة شرعًا
وبعض أرباب البيوت قد يتجرأ على ضرب العمالة المنزلية وإهانتهم، بل قد يصل الأمر إلى تعذيبهم وقتلهم، وهذا أمر محرم شرعا؛ لأن هؤلاء أجراء عند رب البيت وليسوا عبيده، والعقوبة بالضرب لابد أن تكون على يد من له ولاية شرعية على المضروب كالقاضي والزوج عند تأديب الزوجة والأولاد مثلا، أما عموم الناس فليس لأحدهم أن يضرب غيره بغير حق فقد أخرج البخاري عن أبي بكرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبة الوداع: «فإنَّ دِمَاءَكُمْ، وأَمْوَالَكُمْ، وأَعْرَاضَكُمْ، وأَبْشَارَكُمْ، علَيْكُم حَرَامٌ» فقوله: «وأبشاركم» جمع بشرة، وهو ظاهر جلد الإنسان»، وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، بِيَدِهِ شَيْئًا قَطُّ، إِلا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَلا ضَرَبَ خَادِمًا وِلا امْرَأَةً». رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وفي الحديث: «أجيبوا الداعي، ولا تردوا الهدية، ولا تضربوا المسلمين». رواه أحمد، وصححه الألباني.
التحذير من ضرب المسلم بغير حق
وقد حذرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - من ضرب المسلم بغير حق، فقال: «أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ، فَقَالَ: إِنّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَىَ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ، قَبْلَ أَنْ يُقْضَىَ مَا عَلَيْهِ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمّ طُرِحَ فِي النّارِ». رواه مسلم.
إطعام الخادم من الطعام الطيب
ومن الإحسان إلى الخادم أن يطعم من الطعام الطيب وليس من فضلات الطعام وبقايا الأكل، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا صنعَ لأحدِكم خادمُهُ طعامًا ثمَّ جاءَهُ بِهِ وقد وليَ حرَّهُ ودخانَهُ فليُقعدْهُ معَهُ ليأْكلَ، فإن كانَ الطَّعامُ مشفوهًا (أي:قليلا) فليضع في يدِهِ منْهُ، أَكلةً أو أَكلتينِ». متفق عليه، قال النووي: «فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْحَثُّ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَالْمُوَاسَاةِ فِي الطَّعَامِ، لَا سِيَّمَا فِي حَقِّ مَنْ صَنَعَهُ أَوْ حَمَلَهُ، لِأَنَّهُ وَلِيَ حَرَّهُ وَدُخَانَهُ، وَتَعَلَّقَتْ بِهِ نَفْسُهُ وَشَمَّ رَائِحَتَهُ، وَهَذَا كُلُّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ ».
قال ابن حجر: «ويؤخذ من هذا أن في معنى (الطباخ) حامل الطعام لوجود المعنى فيه وهو تعلق نفسه به، بل يؤخذ منه الاستحباب في مطلق خدم المرء ممن يعاني ذلك، وفي هذا تعليل الأمر المذكور، وإشارة إلى أن للعين حظا في المأكول، فينبغي صرفها بإطعام صاحبها من ذلك الطعام لتسكن نفسه فيكون أكف لشره، وقد نقل ابن المنذر عن جميع أهل العلم أن الواجب إطعام الخادم من غالب القوت الذي يأكل منه مثله في تلك البلد، وكذلك القول في الأدم والكسوة، وأن للسيد أن يستأثر بالنفيس من ذلك وإن كان الأفضل أن يشرك معه الخادم في ذلك والله أعلم».
ابو وليد البحيرى
2021-08-20, 10:03 PM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (54)
- الأحكام المستفادة من سورة الكهف
- وجوب اتخاذ الزاد في الأسفار
د.وليد خالد الربيع
قال -تعالى-: {فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} (سورة الكهف:62)، في هذه الآية الكريمة مسائل فقهية منها: مسألة: وجوب اتخاذ الزاد في الأسفار، وذلك أخذا من قوله -تعالى-: {آتنا غداءنا}، قال ابن عاشور: «الْغَدَاءُ: طَعَامُ النَّهَارِ مُشْتَقٌّ مِنْ كَلِمَةِ الْغُدْوَةِ؛ لِأَنَّهُ يُؤْكَلُ فِي وَقْتِ الْغُدْوَةِ، وَضِدُّهُ الْعَشَاءُ، وَهُوَ طَعَامُ الْعَشِيِّ».
فدل بذلك على مشروعية التزود للأسفار، والاستعداد لكل مهم يقبل عليه الإنسان، وأن ذلك جائز لا ينافي الإيمان بالقدر، ولا يضاد التوكل على الله -تعالى-، بل قد يكون واجبا في بعض الأحيان، وذلك فيما لو ترتب على إهمال التزود إلحاق ضرر ببدن الإنسان أو أهله أو ماله.
رد على الصوفية
بين القرطبي أن الآية فيها رد على سوء فهم بعض الناس للتوكل فقال: «وهو رد على الصوفية الجهلة الأغمار، الذين يقتحمون المهامة والقفار، زعما منهم أن ذلك هو التوكل على الله الواحد القهار، هذا موسى (نبي الله وكليمه) من أهل الأرض، قد اتخذ الزاد مع معرفته بربه، وتوكله على رب العباد».
التزود عند العزم على الحج
وقد أمر الله -تعالى- بالتزود عند العزم على الحج، ويلحق به كل سفر فقال -سبحانه-: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى} (سورة البقرة:197)، وفي صحيح البخاري عن ابن عباس قال: «إن ناسا من أهل اليمن كانوا يحجون ولا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا سألوا الناس، فأنزل الله -تعالى- {وتزودوا}»، ونقل ابن كثير عن ابن عمر أنه قال: إن من كرم الرجل طيب زاده في السفر.
تلبيس إبليس
قال ابن الجوزي: «وقد لبَّس إبليس على قوم يدعون التوكل، فخرجوا بلا زاد، وظنوا أن هذا هو التوكل، وهم على غاية الخطأ»، قال ابن رجب: «وَاعْلَمْ أَنَّ تَحْقِيقَ التَّوَكُّلِ لَا يُنَافِي السَّعْيَ فِي الْأَسْبَابِ الَّتِي قَدَّرَ اللَّهُ -سبحانه- الْمَقْدُورَاتِ بِهَا، وَجَرَتْ سُنَّتُهُ فِي خَلْقِهِ بِذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ -تعالى- أَمَرَ بِتَعَاطِي الْأَسْبَابِ مَعَ أَمْرِهِ بِالتَّوَكُّلِ، فَالسَّعْيُ فِي الْأَسْبَابِ بِالْجَوَارِحِ طَاعَةٌ لَهُ، وَالتَّوَكُّلُ بِالْقَلْبِ عَلَيْهِ إِيمَانٌ بِهِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} (النساء: 71)،وَقَالَ -تعالى-: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} (الأنفال: 60)، وَقَالَ: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشَرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} (الجمعة: 10).
مَنْ طَعَنَ في السعي فقد طعن في السنة
وَقَالَ سَهْلٌ التُّسْتَرِيُّ: مَنْ طَعَنَ فِي الْحَرَكَةِ - يَعْنِي فِي السَّعْيِ وَالْكَسْبِ - فَقَدْ طَعَنَ فِي السُّنَّةِ، وَمَنْ طَعَنَ فِي التَّوَكُّلِ، فَقَدْ طَعَنَ فِي الْإِيمَانِ، فَالتَّوَكُّلُ حَالُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْكَسْبُ سُنَّتُهُ، فَمَنْ عَمِلَ عَلَى حَالِهِ، فَلَا يَتْرُكَنَّ سُنَّتَهُ».
وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْقِلُهَا وَأَتَوَكَّلُ، أَوْ أُطْلِقُهَا وَأَتَوَكَّلُ؟ قَالَ: اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ» وحسنه الألباني، قال المناوي: «أي: شد ركبة ناقتك مع ذراعيها بحبل وتوكل على الله، أي: اعتمد على الله، وذلك لأن عقلها لا ينافي التوكل».
وعن مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ أن عُمَر بْن الْخَطَّابِ لَقِيَ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، فَقَالَ: مَنْ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: نَحْنُ الْمُتَوَكِّلُو نَ، قَالَ: بَلْ أَنْتُمُ الْمُتَأَكِّلُو نَ، إِنَّمَا الْمُتَوَكِّلُ الَّذِي يُلْقِي حَبَّهُ فِي الْأَرْضِ، وَيَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ».
المسألة الثانية:
جواز حكاية الحال على غير وجه التسخط
ففي الآية الكريمة ذكر موسى -عليه السلام- ما عاناه في سفره من التعب والمشقة، وفي هذا دليل على أن حكاية الحال، وما عليه الإنسان من التعب أو المرض ونحوها على غير وجه التسخط أو الاعتراض على قدر الله -تعالى- فإنه جائز.
قال الجصاص: «قَوْله -تعالى-: {لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً} يَدُلُّ عَلَى إبَاحَةِ إظْهَارِ مِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ عند ما يَلْحَقُ الْإِنْسَانَ نَصَبٌ أَوْ تَعَبٌ فِي سَعْيٍ فِي قُرْبَةٍ وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشِكَايَةٍ مَكْرُوهَةٍ».
فوائد الآية
وقال ابن سعدي مبينا فوائد الآية: «ومنها: جواز إخبار الإنسان عما هو من مقتضى طبيعة النفس، من نصب أو جوع، أو عطش، إذا لم يكن على وجه التسخط وكان صدقا، لقول موسى: {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا}».
ومن فقه البخاري أنه عقد بابا في كتاب المرضى في صحيحه وهو (مَا رُخِّصَ لِلْمَرِيضِ أَنْ يَقُولَ: إِنِّي وَجِعٌ أَوْ وَارَأْسَاهُ أَوِ اشْتَدَّ بِي الْوَجَعُ وَقَوْلِ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}).
قال ابن حجر: «فَكَأَنَّ مُرَادَ الْبُخَارِيِّ أَنَّ الَّذِي يَجُوزُ مِنْ شَكْوَى الْمَرِيضِ مَا كَانَ عَلَى طَرِيقِ الطَّلَبِ مِنَ اللَّهِ أَوْ عَلَى غَيْرِ طَرِيقِ التَّسَخُّطِ لِلْقَدْرِ وَالتَّضَجُّرِ» .
وذكر البخاري في الباب أحاديث يؤخذ منها هذا الحكم؛ منها حديث كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قال: مَرَّ بِيَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ» الحديث، ومنها حديث القاسم بن محمد قال: قَالَتْ عَائِشَةُ: وَا رَأْسَاهْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «بَلْ أَنَا وَا رَأْسَاهْ» الحديث.
وحديث ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يُوعَكُ، فَمَسِسْتُهُ بِيَدِي فَقُلْتُ: إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا، قَالَ: «أَجَلْ، كَمَا يُوعَكُ رَجُلاَنِ مِنْكُمْ» قَالَ: لَكَ أَجْرَانِ؟ قَالَ: «نَعَمْ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى، مَرَضٌ فَمَا سِوَاهُ، إِلَّا حَطَّ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِ، كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا».
وحديث سعد قَالَ: جَاءَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعُودُنِي مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِي، زَمَنَ حَجَّةِ الوَدَاعِ، فَقُلْتُ: بَلَغَ بِي مَا تَرَى، وَأَنَا ذُو مَالٍ، وَلاَ يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ لِي، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: «لاَ» الحديث.
قال ابن حجر: «لَعَلَّ الْبُخَارِيَّ أَشَارَ إِلَى أَنَّ مُطْلَقَ الشَّكْوَى لَا يُمْنَعُ، رَدًّا عَلَى مَنْ زَعَمَ مِنَ الصُّوفِيَّةِ أَنَّ الدُّعَاءَ بِكَشْفِ الْبَلَاءِ يَقْدَحُ فِي الرِّضَا وَالتَّسْلِيمِ، فَنَبَّهَ عَلَى أَنَّ الطَّلَبَ مِنَ اللَّهِ لَيْسَ مَمْنُوعًا بَلْ فِيهِ زِيَادَةُ عِبَادَةٍ لِمَا ثَبَتَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنِ الْمَعْصُومِ وَأَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَأَثْبَتَ لَهُ اسْمَ الصَّبْرِ مَعَ ذَلِكَ».
هل أَنِين الْمَرِيض شكوى؟
وأما ما نقل عن طاوس أَنَّهُ قَالَ: أَنِين الْمَرِيض شكوى. وقال بعض الشافعية: إنه مكروه، فرد عليه النَّوَوِيُّ فَقَالَ: «هَذَا ضَعِيفٌ أَوْ بَاطِلٌ، فَإِنَّ الْمَكْرُوهَ مَا ثَبَتَ فِيهِ نَهْيٌ مَقْصُودٌ، وَهَذَا لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ ذَلِكَ، ثُمَّ احْتَجَّ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ المتقدم ثُمَّ قَالَ: فَلَعَلَّهُمْ أَرَادُوا بِالْكَرَاهَةِ خِلَافَ الْأَوْلَى، فَإِنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ اشْتِغَالَهُ بِالذِّكْرِ أَوْلَى».
قال ابن حجر: «وَأَمَّا إِخْبَارُ الْمَرِيضِ صَدِيقَهُ أَوْ طَبِيبَهُ عَنْ حَالِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ اتِّفَاقًا».
وقال: «إنَّ ذِكْرَ الْوَجَعِ لَيْسَ بِشِكَايَةٍ، فَكَمْ مِنْ سَاكِتٍ وَهُوَ سَاخِطٌ، وَكَمْ مِنْ شَاكٍّ وَهُوَ رَاضٍ، فَالْمُعَوَّلُ فِي ذَلِكَ عَلَى عَمَلِ الْقَلْبِ لَا على نطق اللِّسَان وَالله أعلم».
ابو وليد البحيرى
2021-09-12, 10:34 AM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (55)
- الأحكام المستفادة من قصة يوسف -عليه السلام-
مشروعية الشهادة وبعض شروط الشاهد
د.وليد خالد الربيع
قال الله -تعالى-: {ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} (سورة يوسف:81)، هذه الآية الكريمة في سياق قصة يوسف -عليه السلام-، وتقدم ذكر الوسيلة التي توصل بها يوسف لإبقاء أخيه عنده، فلما استيأس إخوة يوسف من يوسف أن يسمح لهم بأخيهم {خَلَصُوا نَجِيًّا} أي: اجتمعوا وحدهم، ليس معهم غيرهم، وجعلوا يتناجون فيما بينهم، فـ{قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ} في حفظه، وأنكم تأتون به إلا أن يحاط بكم {وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ}، فاجتمع عليكم الأمران، تفريطكم في يوسف السابق، وعدم إتيانكم بأخيه باللاحق، فليس لي وجه أواجه به أبي».
قال الشيخ ابن سعدي: «ثم وصَّاهم بما يقولون لأبيهم، فقال: {ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ} أي: وأخذ بسرقته، ولم يحصل لنا أن نأتيك به، مع ما بذلنا من الجهد في ذلك، والحال أنَّا ما شهدنا بشيء لم نعلمه، وإنما شهدنا بما علمنا، لأننا رأينا الصواع استخرج من رحله، {وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} أي: لو كنا نعلم الغيب لما حرصنا وبذلنا المجهود في ذهابه معنا، ولما أعطيناك عهودنا ومواثيقنا، فلم نظن أن الأمر سيبلغ ما بلغ»، وقد دلت الآية الكريمة على مسألة (مشروعية الشهادة، وبعض شروط الشاهد)، ومن المعلوم أن الشهادة من طرق الإثبات للحقوق ومن الحجج القضائية التي يدلي بها المدعي أمام القضاء لإثبات حقه ويلزم القاضي الأخذ بها إذا توفرت شروطها ولم يطعن بها المدعى عليه.
أولا: تعريف الشهادة
الشهادة لغة: مصدر الفعل (شهد)، وله معان:
1- المعاينة: فشهد بمعنى: عاين كقوله -تعالى-: {مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ}.
2- الحضور: كقوله -تعالى-: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} أي: من حضر رمضان.
3- القسم: كقوله -تعالى-: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ} أي: يحلف أربع مرات.
4- شهد بمعنى أخبر خبرا قاطعا كقوله -تعالى-: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا}.
وأما الشهادة في الاصطلاح: فهي إخبار صادق في مجلس الحكم لإثبات حق للغير على الغير.
ثانيا: مشروعية الشهادة
ثبتت مشروعية الشهادة بوصفها دليلا قضائيا بالكتاب والسنة والإجماع، فمن الكتاب الكريم قوله -تعالى-: {وَأَشْهدوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ}، وقوله سبحانه: {وَاسْتَشهدوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ}. فأمر -سبحانه- بالإشهاد في مواضع مختلفة مما يدل على مشروعية الشهادة لإثبات الحقوق والدعاوى.
ومن السنة المطهرة قال الأشعث بن قيس: كَانَتْ بَيْنِي وبيْنَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ في بئْرٍ، فَاخْتَصَمْنَا إلى رَسولِ اللَّهِ -[-، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ: «شَاهِدَاكَ أوْ يَمِينُهُ» الحديث أخرجه البخاري، وانعقد الإجماع على مشروعية العمل بالشهادة كما نقله ابن قدامة وغيره.
ثالثا: شروط الشاهد
الشهادة حجة قضائية يلزم القاضي الأخذ بها متى تحققت شروطها وخلت من الموانع، ولا يجوز إهمالها أو كتمانها، وقد اشترط الفقهاء في الشاهد شروطا عديدة للتأكد من صدق خبره الذي يعتمد عليه القاضي في بناء الحكم، ومن تلك الشروط:
أولا: أن يكون الشاهد بالغا عاقلا
فلا تقبل شهادة المجنون باتفاق لأنه لا يعقل، ولا تقبل شهادة غير البالغ إلا في جناية الصغار وعدم وجود شاهد بالغ إلا صبيان مميزين فتقبل شهادتهم بشروط مشددة.
ثانيا: أن يكون عالما بما يشهد به
لقوله -سبحانه-: {إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}، وقوله -تعالى-: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} مما يدل على أن الشهادة يجب أن تستند إلى العلم، قال القرطبي: «تضمنت هذه الآية جواز الشهادة بأي وجه حصل العلم بها؛ فإن الشهادة مرتبطة بالعلم عقلا وشرعا، فلا تسمع إلا ممن علم، ولا تقبل إلا منهم، وهذا هو الأصل في الشهادات، فكل من حصل له العلم بشيء جاز أن يشهد به وإن لم يشهده المشهود عليه قال الله -تعالى-:{إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (الزخرف: 86).
ثالثا: الإسلام
فإذا كان المشهود عليه مسلما فيشترط أن يكون الشاهد مسلما اتفاقا لقوله -تعالى-: {وَاسْتَشهدوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ} والكافر ليس من رجالنا، وقوله سبحانه: {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} والشهادة فيها نوع ولاية ولا ولاية لكافر على مسلم، وذهب الحنابلة وابن تيمية وابن عثيمين إلى أنه تقبل شهادة الكافر على المسلم استثناء من هذا الأصل في حالة المسلم تحضره الوفاة، ويريد أن يوصي وهو في السفر ولم يحضره مسلم فيجوز أن يشهد على وصيته من حضره من غير المسلمين لقوله -تعالى-: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ} الآية.
رابعًا: أن يكون الشاهد عدلا
لقوله -تعالى- {وأشهدوا ذوي عدل منكم}، قال ابن قدامة:» والعدل هو الذي تعتدل أحواله في دينه وأفعاله، قال القاضي: يكون ذلك في الدين والمروءة والأحكام، أما الدين فلا يرتكب كبيرة ولا يداوم على صغيرة، فإن الله أمر ألا تقبل شهادة القاذف فيقاس عليه كل مرتكب كبيرة، وأما المروءة فاجتناب الأمور الدنيئة المزرية».
خامسًا: عدم التهمة
أي: ألا يكون الشاهد متهمًا في شهادته؛ بحيث يقع الشك في صحة شهادته على وجه يرجح كذبه، وللتهمة المانعة من قبول الشهادة صور منها:
1- العداوة الدنيوية
فلا تقبل شهادة العدو على عدوه عند الجمهور لحديث: «لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا زان ولا زانية ولا ذي غمر على أخيه» أخرجه أبو داود وحسنه الألباني، والغمر هو الحقد، قال الشوكاني:» وهذا يدل على أن العداوة تمنع من قبول الشهادة لأنها تورث التهمة».
2- جلب منفعة
بأن يجلب الشاهد لنفسه منفعة أو يدفع ضررا مثل شهادة الدائنين لمدينهم المفلس بأن له دينا على غيره، وشهادة الدائنين لمدينهم الميت بدين أو مال على غيره.
3- الشركة والوكالة
لا تقبل شهادة الشريك لشريكه ولا الوكيل لموكله في موضوع الشركة أو الوكالة، قال ابن قدامة: «لا نعلم فيه مخالفا»، وتقبل فيما سواهما لانتفاء التهمة.
4- القرابة
لا تقبل شهادة الوالدين وإن علوا للولد وإن سفل، ولا شهادة الولد وإن سفل لهما وإن علوا، وهو مذهب الجمهور؛ لأنه متهم كتهمة العدو في الشهادة على عدوه، وتقبل شهادة أحدهما على صاحبه عند عامة أهل العلم.
وقال ابن المنذر:» أجمع أهل العلم على أن شهادة الأخ لأخيه جائزة». وذك للفرق بين الوالد والأخ؛ لأن بين الوالد والولد بعضية وقرابة قوية بخلاف الأخ.
5- الزوجية
فلا تقبل شهادة أحد الزوجين للآخر عند الجمهور لانتفاع كل منهما بشهادته للآخر.
ابو وليد البحيرى
2021-09-12, 10:43 AM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (56)
- بعض الأحكام المستفادة من سورة الكهف
- أحكام ركوب البحر في سورة الكهف
د.وليد خالد الربيع
قال الله -تعالى-: {فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} (سورة الكهف:71)، أخرج البخاري في كتاب العلم عن ابن عباس في حديث طويل في قصة موسى -عليه السلام- مع الخضر قال: «فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ البَحْرِ، لَيْسَ لَهُمَا سَفِينَةٌ، فَمَرَّتْ بِهِمَا سَفِينَةٌ، فَكَلَّمُوهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُمَا، فَعُرِفَ الخَضِرُ فَحَمَلُوهُمَا بِغَيْرِ نَوْلٍ (أي: أجرة)، فَجَاءَ عُصْفُورٌ، فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ، فَنَقَرَ نَقْرَةً أَوْ نَقْرَتَيْنِ فِي البَحْرِ، فَقَالَ الخَضِرُ: يَا مُوسَى مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا كَنَقْرَةِ هَذَا العُصْفُورِ فِي البَحْرِ، فَعَمَدَ الخَضِرُ إِلَى لَوْحٍ مِنْ أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ، فَنَزَعَهُ، فَقَالَ مُوسَى: قَوْمٌ حَمَلُونَا بِغَيْرِ نَوْلٍ عَمَدْتَ إِلَى سَفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا؟ قَالَ: أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا؟ قَالَ: لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا - فَكَانَتِ الأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا»، قال ابن كثير: «قوله -تعالى-: {أخرقتها لتغرق أهلها} هذه اللام لام العاقبة لا لام التعليل. وقوله: {لقد جئت شيئا إمرا} قال مجاهد: منكرا، وقال قتادة: عجبا».
من المسائل المستفادة من الآية الكريمة مسألة ركوب البحر:
مسألة خلافية
يمكن أن يستغرب القارئ تناول هذه المسألة مع وضوح حكمها وظهور جوازها، إلا أنه قد سبق خلاف بين الصحابة والتابعين في ذلك، لذا اقتضى التنويه عليه، أخرج عبد الرزاق في مصنفه بإسناده عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: «كَانَ عُمَرُ - رضي الله عنه - يَكْرَهُ أَنْ يَحْمِلُ الْمُسْلِمِينَ غَزَاةً فِي الْبَحْرِ»، وعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَطَاءٍ عَنْ غَزْوَةِ الْبَحْرِ فَكَرَهَهُ، وعَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: «بَعَثَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلْقَمَةَ بْنَ مُجَزِّزٍ فِي أُنَاسٍ إِلَى الْحَبَشَةِ فَأُصِيبُوا فِي الْبَحْرِ فَحَلَفَ عُمَرُ بِاللَّهِ لَا يَحْمِلُ فِيهَا أَبَدًا»، وَعَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ قال: «كُرِهَ لِلْغُزَاةِ أَنْ يَرْكَبُوا فِي الْبَحْرِ»، وعَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ رُكُوبَ الْبَحْرِ إِلَّا لِثَلَاثٍ غَازٍ، أَوْ حَاجٍّ، أَوْ مُعْتَمِرٍ.
ظاهر هذه الآثار
فظاهر هذه الآثار المنع من ركوب البحر في حال الجهاد في سبيل الله، وورد حديث مرفوع في المنع من ركوب البحر، فقد أخرج أبو داود عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَرْكَبُ الْبَحْرَ إِلَّا حَاجٌّ أَوْ مُعْتَمِرٌ أَوْ غَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِنَّ تَحْتَ الْبَحْرِ نَارًا، وَتَحْتَ النَّارِ بَحْرًا»، وأجيب بأن هذا الحديث ضعيف قال الألباني -رحمه الله- في (إرواء الغليل): «اتفق الأئمة على تضعيفه».
ركوب البحر عند هيجانه
ويمكن حمل النهي إن صح على ركوب البحر عند هيجانه واضطرابه؛ حيث لا يأمن الراكب خطر الغرق يؤيده حديث: «مَنْ رَكِبَ الْبَحْرَ عِنْدَ ارْتِجَاجِهِ فَمَاتَ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ» أخرجه أحمد وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة.
قال ابن حجر: «ونقل ابن عبد البر أنه يحرم ركوبه عند ارتجاجه اتفاقا»، وقال: «وفيه تقييد المنع بالارتجاج، ومفهومه الجواز عند عدمه، وهو المشهور من أقوال العلماء، فإذا غلبت السلامة فالبر والبحر سواء». وقال الشوكاني: «والحديث يدل على عدم جواز ركوب البحر في أوقات اضطرابه».
فضائل الغزو في البحر
وأما الآثار فقد عورضت بمثلها فقد أخرج عبد الرزاق عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: «غَزْوَةٌ فِي الْبَحْرِ أَفْضَلُ مِنْ عَشْرِ غَزَوَاتٍ فِي الْبَرِ، وَمَنْ جَازَ الْبَحْرَ، فَكَأَنَّمَا جَازَ الْأَوْدِيَةَ، وَالْمَائِدُ فِي السَّفِينَةِ كَالْمُتَشَحْطِ فِي دَمِهِ».
وعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ مُجَاهِدٍ: «غَزْوَةٌ فِي الْبَحْرِ تَعْدِلُ عَشْرًا فِي الْبَرِّ، وَالْمَائِدُ فِي الْبَحْرِ كَالْمُتَشَحْطِ بِدَمِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ».
وساق الجصاص -رحمه الله- في (أحكام القرآن): «الأدلة على إباحة ركوب البحر، فقال: وفي قوله -تعالى-: {والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس} دلالة على إباحة ركوب البحر غازيا وتاجرا ومبتغيا لسائر المنافع؛ إذ لم يخص ضربا من المنافع دون غيره، وقال -تعالى-: {هو الذي يسيركم في البر والبحر}، وقال: {ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله}، وقوله: {ولتبتغوا من فضله} قد انتظم التجارة وغيرها، كقوله -تعالى-: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله}، وقد روي عن جماعة من الصحابة إباحة التجارة في البحر، وقد كان عمر بن الخطاب منع الغزو في البحر إشفاقا على المسلمين».
باب ركوب البحر
ومن السنة المطهرة فقد عقد البخاري: (باب ركوب البحر) من كتاب الجهاد والسير، وأخرج فيه عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ذهب إلى قباء يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه، وكانت تحت عبادة بن الصامت، فدخل يوما فأطعمته فنام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم استيقظ يضحك قالت: فقلت: ما يضحكك يا رسول الله؟ فقال: «ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة أو قال مثل الملوك على الأسرة» قلت: ادع الله أن يجعلني منهم فدعا ثم وضع رأسه فنام ثم استيقظ يضحك فقلت: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: «ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة». فقلت: ادع الله أن يجعلني منهم. قال: «أنت من الأولين»، فركبت البحر زمان معاوية فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت». متفق عليه
قال النووي: «في هذا الحديث جواز ركوب البحر، للرجال والنساء، وكذا قاله الجمهور».
قال ابن حجر: «وفيه جواز ركوب البحر الملح للغزو وقد تقدم بيان الاختلاف فيه وأن عمر كان يمنع منه ثم أذن فيه عثمان، قال أبو بكر بن العربي: ثم منع منه عمر بن عبد العزيز ثم أذن فيه من بعده واستقر الأمر عليه».
وقال ابن حجر: «وهذا الحديث حجة للجمهور، وقد تقدم أن أول من ركبه للغزو معاوية بن أبي سفيان في خلافة عثمان، وذكر مالك أن عمر كان يمنع الناس من ركوب البحر حتى كان عثمان فما زال معاوية يستأذنه حتى أذن له».
إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم -
ويدل عليه أيضا حديث أبي هريرة قال: سألَ رجلٌ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسولَ اللهِ إنَّا نركَبُ البحرَ ونحملُ معنا القليلَ من الماءِ فإن تَوضَّأنا به عَطِشْنا أفنتوضَّأُ من ماءِ البحرِ؟ فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «هو الطَّهورُ ماؤهُ، الحلُّ ميتتُه» أخرجه أصحاب السنن وصححه الألباني وهو ظاهر الدلالة على جواز ركوب البحر؛ حيث أقر النبي - صلى الله عليه وسلم - السائل ولم ينكر عليه.
ابو وليد البحيرى
2021-10-04, 10:07 AM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (57)
- بعض الأحكام المستفادة من سورة الكهف
- للتعليم قواعد ومناهج ومراتب يراعيها المعلم الحكيم
د.وليد خالد الربيع
تقدم ذكر بعض المسائل المستفادة من قوله -تعالى-: {فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} (سورة الكهف:71)، فقال له الخضر مذكرا بما تقدم من الشرط: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} (سورة الكهف: 72) قال ابن كثير: «يعني وهذا الصنيع فعلته قصدًا، وهو من الأمور التي اشترطت معك ألا تنكر عليّ فيها، لأنك لم تحط بها خبرًا، ولها داخل هو مصلحة ولم تعلمه أنت».
فللتعليم قواعد ومناهج ومراتب يراعيها المعلم الحكيم تحقيقا لمصلحة المتعلم، فقد يظن المتعلم أن مصلحته في طريقة ما أو دراسة باب معين يتحمس له، في حين يرى المعلم أن المتعلم لم يستعد ذهنه لتلك المرتبة من العلم، أو أن تعلم هذا الباب يوقعه في إشكالات لا يستطيع فهمها، فيصرفه عنه أو ينهاه عن طروقه في بداية طلبه، وهذا ما نلمسه من شرط الخضر على موسى عليهما السلام قال الشيخ ابن سعدي: «إن المعلم إذا رأى المصلحة في إيزاعه للمتعلم أن يترك الابتداء في السؤال عن بعض الأشياء، حتى يكون المعلم هو الذي يوقفه عليها، فإن المصلحة تتبع، كما إذا كان فهمه قاصرا، أو نهاه عن الدقيق في سؤال الأشياء التي غيرها أهم منها، أو لا يدركها ذهنه، أو يسأل سؤالا، لا يتعلق في موضع البحث».
أهمية الصبر
وهذا يؤكد أهمية الصبر للوصول إلى المقاصد، وأخص ذلك بلوغ العلم فلا يحصل العلم بغير صبر، قال الشيخ ابن سعدي مبينًا فوائد الآيات: «أن من ليس له قوة الصبر على صحبة العالم والعلم، وحسن الثبات على ذلك، أنه يفوته بحسب عدم صبره كثير من العلم، فمن لا صبر له لا يدرك العلم، ومن استعمل الصبر ولازمه، أدرك به كل أمر سعى فيه.
سبب حصول الصبر
ومنها: أن السبب الكبير لحصول الصبر، إحاطة الإنسان علما وخبرة، بذلك الأمر، الذي أمر بالصبر عليه، وإلا فالذي لا يدريه، أو لا يدري غايته ولا نتيجته، ولا فائدته وثمرته ليس عنده سبب الصبر لقوله: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} فجعل الموجب لعدم صبره، وعدم إحاطته خبرا بالأمر».
عدم الاستعجال بالحكم على الأشياء
ومن فوائد الآية الكريمة عدم الاستعجال بالحكم على الأشياء بمجرد الظاهر، ولابد من الاستعلام عن التفاصيل، فقد يظهر من خفايا الأمور ما يغير الحكم على الأشياء، قال الشيخ اين سعدي: «الأمر بالتأني والتثبت، وعدم المبادرة إلى الحكم على الشيء، حتى يعرف ما يراد منه وما هو المقصود»، فقال موسى عليه السلام معتذرا: { قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} (73)، قال ابن كثير: «أي: لا تضيق عليّ وتشدد عليّ؛ ولهذا تقدم في الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «كانت الأولى من موسى نسيانا». أخرجه البخاري.
النسيان من الأعذار التي ترفع الإثم
يستفاد من هذه الآية الكريمة أن النسيان من الأعذار التي ترفع الإثم عند ارتكاب بعض الأفعال كمن ترك صلاة نسيانا أو أكل في نهار رمضان ناسيا ونحو ذلك، وهذا يشمل التفريط في حق بعض الناس، قال الشيخ ابن سعدي: «ومنها: أن الناسي غير مؤاخذ بنسيانه لا في حق الله، ولا في حقوق العباد لقوله: {لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ}».
قبول الاعتذار من المخطئ
ومن فوائد الآية قبول الاعتذار من المخطئ والمقصر، فقد قبل الخضر اعتذار موسى عليهما السلام، قال عمر رضي الله عنه: «أعقل الناس أعذرهم للناس»، وهذا مما حث عليه الشرع المطهر قال -تعالى-:{وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم} (سورة التغابن:14) وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود» أخرجه أبو داود وصححه الألباني، والمراد بذوي الهيئات: أصحاب المروءات والخصال الحميدة، ومعنى أقيلوا: أي :اعفوا، والعثرات: الزلات.
جلب المصالح ودرء المفاسد
وقد جاء توضيح تصرف الخضر آخر القصة في قوله -تعالى-: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} (79)، ويؤيد هذا حديث البخاري عن ابن عباس مرفوعا قال: «وَكَانَ أَمَامَهُمْ {مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا}، فَأَرَدْتُ إِذَا هِيَ مَرَّتْ بِهِ أَنْ يَدَعَهَا لِعَيْبِهَا، فَإِذَا جَاوَزُوا أَصْلَحُوهَا فَانْتَفَعُوا بِهَا»، فهذه الآية دليل من أدلة القاعدة الكلية في جلب المصالح ودرء المفاسد، وتقديم أعظمهما ودفع أدناهما عند التزاحم وعدم إمكان إعمالهما جميعا، فنزع لوح من السفينة يجعلها معيبة وهي مفسدة، وأخذ السفينة ظلما مفسدة أكبر، فرأى الخضر أن بقاء السفينة معيبة بيد أصحابها أولى من كونها سليمة بيد الملك غصبا وظلما، فكان درء المفسدة الأعظم أولى ولو ارتكب المفسدة الأدنى.
ويقاس على هذه الحالة أمثالها فيما لو تعارضت المفاسد وتعذر درؤها جميعا، قال القرطبي: «في خرق السفينة دليل على أن للولي أن ينقص مال اليتيم إذا رآه صلاحا، مثل أن يخاف على ريعه ظالما فيخرب بعضه، وقال أبو يوسف: يجوز للولي أن يصانع السلطان ببعض مال اليتيم عن البعض».
عمل الإنسان في مال غيره
وقال الشيخ ابن سعدي: «عمل الإنسان في مال غيره، إذا كان على وجه المصلحة وإزالة المفسدة، أنه يجوز، ولو بلا إذن حتى ولو ترتب على عمله إتلاف بعض مال الغير، كما خرق الخضر السفينة لتعيب، فتسلم من غصب الملك الظالم. فعلى هذا لو وقع حرق، أو غرق، أو نحوهما، في دار إنسان أو ماله، وكان إتلاف بعض المال، أو هدم بعض الدار، فيه سلامة للباقي، جاز للإنسان بل شرع له ذلك، حفظا لمال الغير، وكذلك لو أراد ظالم أخذ مال الغير، ودفع إليه إنسان بعض المال افتداء للباقي جاز، ولو من غير إذن».
تزاحم المصالح والمفاسد
فإذا تزاحمت المصالح ولم يمكن تحصيلها جميعا، أو تزاحمت المفاسد ولم يمكن دفعها جميعا فعلى المكلف أن يقدم أعلى المصلحتين ويدفع أعظم المفسدتين، قال شيخ الإسلام: «المؤمن ينبغي له أن يعرف الشرور الواقعة ومراتبها في الكتاب والسنة كما يعرف الخيرات الواقعة ومراتبها في الكتاب والسنة، فيفرق بين أحكام الأمور الواقعة الكائنة والتي يراد إيقاعها في الكتاب والسنة ليقدم ما هو أكثر خيرا وأقل شرا على ما هو دونه، ويدفع أعظم الشرين باحتمال أدناهما، ويجتلب أعظم الخيرين بفوات أدناهما، فإن من لم يعرف الواقع في الخلق والواجب في الشرع لم يعرف أحكام الله في عباده، وإذا لم يعرف ذلك كان قوله وعمله بجهل، ومن عبد الله بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح».
ابو وليد البحيرى
2021-10-04, 10:17 AM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (58)
- بعض الأحكام المستفادة من سورة الكهف
- هل الإلهام مصدر للأحكام الشرعية؟
د.وليد خالد الربيع
قال الله -سبحانه وتعالى-: {فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا} (سورة الكهف: 74)، وفي الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في سياق قصة موسى والخضر -عليهما السلام-: «ثُمَّ خَرَجَا مِنَ السَّفِينَةِ فَبَيْنَا هُمَا يَمْشِيَانِ عَلَى السَّاحِلِ؛ إِذْ أَبْصَرَ الخَضِرُ غُلاَمًا يَلْعَبُ مَعَ الغِلْمَانِ، فَأَخَذَ الخَضِرُ رَأْسَهُ بِيَدِهِ فَاقْتَلَعَهُ بِيَدِهِ فَقَتَلَهُ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَاكِيَةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا. قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا} قَالَ: وَهَذِهِ أَشَدُّ مِنَ الأُولَى».
قال ابن سعدي: «فاشتد بموسى الغضب، وأخذته الحمية الدينية، حين قتل غلاما صغيرا لم يذنب. {قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} وأي: نكر مثل قتل الصغير، الذي ليس عليه ذنب، ولم يقتل أحدا؟! وكانت الأولى من موسى نسيانا، وهذه غير نسيان، ولكن عدم صبر»، وفي موضع آخر من السورة ذكر الخضر الموجب لقتله الغلام قال -تعالى-: {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا} (سورة الكهف: 80).
فائدة جليلة
قال ابن سعدي: «{وَأَمَّا الْغُلَامُ} الذي قتلته {فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا}، وكان ذلك الغلام قد قدر عليه أنه لو بلغ لأرهق أبويه طغيانا وكفرا، أي: لحملهما على الطغيان والكفر، إما لأجل محبتهما إياه، أو للحاجة إليه أو يحدهما على ذلك، أي: فقتلته، لاطلاعي على ذلك، سلامة لدين أبويه المؤمنين، وأي فائدة أعظم من هذه الفائدة الجليلة؟ وهو وإن كان فيه إساءة إليهما، وقطع لذريتهما، فإن الله -تعالى- سيعطيهما من الذرية، ما هو خير منه. {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} أي: ولدا صالحا، زكيا، واصلا لرحمه، فإن الغلام الذي قتل لو بلغ لعقهما أشد العقوق بحملهما على الكفر والطغيان».
العلم اللدني
ومن خلال هذه الآيات تبرز مسألة: هل الإلهام مصدر للأحكام الشرعية؟
يستدل بعض الطوائف استدلالاً باطلاً بهذه الآيات على أنه يمكن تلقي الأحكام الشرعية والتكاليف الدينية بغير طريق الوحي الذي يأتي الرسل، وإنما عن طريق الإلهام والعلم اللدنّي الذي يحصل للأولياء، قال الجرجاني: «الإلهام ما يلقى في الروع بطريق الفيض، وقيل: الإلهام ما وقع في القلب من علم وهو يدعو إلى العمل من غير استدلال بآية ولا نظر في حجة».
زندقة وضلال
وقد أنكر العلماء هذه الطريقة، ونسبوا من قال بها إلى الزندقة والضلال، قال القرطبي: «ذهب قوم من زنادقة الباطنية إلى سلوك طريق تلزم منه هذه الأحكام الشرعية، فقالوا: هذه الأحكام الشرعية العامة إنما يحكم بها على الأنبياء والعامة، وأما الأولياء وأهل الخصوص فلا يحتاجون إلى تلك النصوص، بل إنما يراد منهم ما يقع في قلوبهم، ويحكم عليهم بما يغلب عليهم من خواطرهم، وقالوا: وذلك لصفاء قلوبهم عن الأكدار، وخلوها عن الأغيار، فتتجلى لهم العلوم الإلهية، والحقائق الربانية، فيقفون على أسرار الكائنات، ويعلمون أحكام الجزئيات، فيستغنون بها عن أحكام الشرائع الكليات، كما اتفق للخضر؛ فإنه استغنى بما تجلى له من العلوم، عما كان عند موسى من تلك الفهوم، وقد جاء فيما ينقلون: استفت قلبك وإن أفتاك المفتون».
إنكار ما علم من الشرائع
قال القرطبي: «وهذا القول زندقة وكفر يقتل قائله ولا يستتاب؛ لأنه إنكار ما علم من الشرائع؛ فإن الله -تعالى- قد أجرى سنته، وأنفذ حكمته، بأن أحكامه لا تعلم إلا بواسطة رسله السفراء بينه وبين خلقه، وهم المبلغون عنه رسالته وكلامه، المبينون شرائعه وأحكامه اختارهم لذلك، وخصهم بما هنالك.
معرفة أحكام الله -تعالى
وعلى الجملة فقد حصل العلم القطعي، واليقين الضروري، واجتماع السلف والخلف على ألا طريق لمعرفة أحكام الله -تعالى- الراجعة إلى أمره ونهيه، ولا يعرف شيء منها إلا من جهة الرسل، فمن قال: إن هناك طريقا آخر يعرف بها أمره ونهيه غير الرسل؛ بحيث يستغنى عن الرسل فهو كافر».
قال الشنقيطي: «قَالَ -تعالى-: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}، وَلَمْ يَقُلْ: حَتَّى نُلْقِيَ فِي الْقُلُوبِ إِلْهَامًا، وَقَالَ -تعالى-: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}، وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ مَا يَدَّعِيهِ كَثِيرٌ مِنَ الْجَهَلَةِ الْمُدَّعِينَ التَّصَوُّفَ مِنْ أَنَّ لَهُمْ وَلِأَشْيَاخِهِ مْ طَرِيقًا بَاطِنَةً تُوَافِقُ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ وَلَوْ كَانَتْ مُخَالِفَةً لِظَاهِرِ الشَّرْعِ، كَمُخَالَفَةِ مَا فَعَلَهُ الْخَضِرِ لِظَاهِرِ الْعِلْمِ الَّذِي عِنْدَ مُوسَى، زَنْدَقَةٌ، وَذَرِيعَةٌ إِلَى الِانْحِلَالِ بِالْكُلِّيَّةِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، بِدَعْوَى أَنَّ الْحَقَّ فِي أُمُورٍ بَاطِنَةٍ تُخَالِفُ ظَاهِرَهُ».
وقال أيضا: «وَقَدْ حَصَرَ -تعالى- طُرُقَ الْإِنْذَارِ فِي الْوَحْيِ فِي قَوْلِهِ -تعالى-: {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ}، و«إِنَّمَا» صِيغَةُ حَصْرٍ، فَإِنْ قِيلَ: قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ عَنْ طَرِيقِ الْإِلْهَامِ؟
الْمُقَرَّر فِي الْأُصُولِ
فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمُقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْإِلْهَامَ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ لَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ عَلَى شَيْءٍ، لِعَدَمِ الْعِصْمَةِ، وَعَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِهِ، بَلْ لِوُجُودِ الدَّلِيلِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ، وَمَا يَزْعُمُهُ بَعْضُ الْمُتَصَوِّفَة ِ مِنْ جَوَازِ الْعَمَلِ بِالْإِلْهَامِ فِي حَقِّ الْمُلْهَمِ دُونَ غَيْرِهِ».
فأجاب الشيخ: «كُلُّهُ بَاطِلٌ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، لِعَدَمِ اعْتِضَادِهِ بِدَلِيلٍ، وَغَيْرُ الْمَعْصُومِ لَا ثِقَةَ بِخَوَاطِرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ دَسِيسَةَ الشَّيْطَانِ، وَقَدْ ضُمِنَتِ الْهِدَايَةُ فِي اتِّبَاعِ الشَّرْعِ، وَلَمْ تُضْمَنْ فِي اتِّبَاعِ الْخَوَاطِرِ وَالْإِلْهَامَا تِ».
وقال أيضا: «وَبِالْجُمْلَة ِ، فَلَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ إِلْمَامٌ بِمَعْرِفَةِ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ لَا طَرِيقَ تُعْرَفُ بِهَا أَوَامِرُ اللَّهِ وَنَوَاهِيهِ، وَمَا يُتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِهِ مِنْ فِعْلٍ وَتَرْكٍ إِلَّا عَنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ، فَمَنِ ادَّعَى أَنَّهُ غَنِيٌّ فِي الْوُصُولِ إِلَى مَا يُرْضِي رَبَّهُ عَنِ الرُّسُلِ، وَمَا جَاءؤوا بِهِ وَلَوْ فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا شَكَّ فِي زَنْدَقَتِهِ، وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا لَا تُحْصَى».
قال ابن حجر: «مَنِ اسْتَدَلَّ بِقِصَّةِ الْخَضِرِ عَلَى أَنَّ الْوَلِيَّ يَجُوزُ أَنْ يَطَّلِعَ مِنْ خَفَايَا الْأُمُورِ عَلَى مَا يُخَالِفُ الشَّرِيعَةِ وَيَجُوزُ لَهُ فِعْلُهُ فَقَدْ ضَلَّ، وَلَيْسَ مَا تَمَسَّكَ بِهِ صَحِيحًا فَإِنَّ الَّذِي فَعَلَهُ الْخَضِرُ لَيْسَ فِي شَيْءٌ مِنْهُ مَا يُنَاقِضُ الشَّرْعَ».
ظن كاذب
ومنطلق من زعم أن الإلهام مصدر للتشريع ظنهم أن الخضر -عليه السلام- وليّ وليس نبيا، وأن القرآن قد حكاه مع الإقرار وعدم الإنكار مما يدل على مشروعيته.
وليس لهم مستند فيه؛ لأن جمهور العلماء على أن الخضر -عليه السلام- نبي وأن ما فعله كان بوحي من الله -تعالى-، قال القرطبي: «والخضر نبي عند الجمهور»، قال ابن كثير: «قوله: {وما فعلته عن أمري} لكني أمرت به ووقفت عليه، وفيه دلالة لمن قال بنبوة الخضر -عليه السلام».
قال الشنقيطي: «وَبِهَذَا كُلُّهُ تَعْلَمُ أَنَّ قَتْلَ الْخَضِرِ لِلْغُلَامِ، وَخَرْقَهُ لِلسَّفِينَةِ، وَقَوْلَهُ: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى نُبُوَّتِهِ. وَعَزَا الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ الْقَوْلَ بِنُبُوَّتِهِ لِلْأَكْثَرِينَ ».
وليس للولي أن يخالف الوحي، فإن سمة الأولياء طاعة الله ورسوله، قال -سبحانه-: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (سورة يونس: 62،63) فكيف يكون الشخص وليا لله وهو مخالف لشرع الله ودينه المنزل؟!
ابو وليد البحيرى
2021-10-04, 10:23 AM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (59)
- بعض الأحكام المستفادة من سورة الكهف
- إِبَاحَة طَلَب الطَّعَامِ لِعَابِرِ السَّبِيلِ عند الحَاجةِ
د.وليد خالد الربيع
لا نزال مع قصة موسى مع الخضر -عليهما السلام- قال -تعالى-: {فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} (سورة الكهف:77)، قال الشيخ ابن سعدي: «{فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا} أي: استضافاهم، فلم يضيفوهما {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} أي: قد عاب واستهدم {فَأَقَامَهُ} الخضر أي: بناه وأعاده جديدًا.
فقال له موسى: {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} أي: أهل هذه القرية، لم يضيفونا مع وجوب ذلك عليهم، وأنت تبنيه من دون أجرة، وأنت تقدر عليها! فحينئذ لم يف موسى -عليه السلام- بما قال، واستعذر الخضر منه».
فمن المسائل المستفادة من الآية الكريمة مسألة طلب الطعام: جاء في الآية قوله -تعالى-: {استطعما أهلها}، والاستطعام: طلب الطعام، وهو للمحتاج ولعابر السبيل جائز، بل قد يكون واجبًا عند الضرورة، وهو ليس من المسألة المحرمة التي قال فيها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تزال المسألةُ بأحدكم حتى يلقى الله -تعالى- وليس في وجهه مُزعةُ لَحمٍ». رواه البخاري ومسلم
وقال: «إنما المسائلُ كدوحٌ يَكدح بها الرجل وجهه، فمن شاء أبقى على وجهه، ومن شاء ترك، إلا أن يسأَل ذا سلطانٍ، أو في أمرٍ لا يجد منه بُداً». رواه أبو داود وصححه الألباني، و(الكُدوح) بضم الكاف: آثار الخموش. وقال: «من سأل من غير فقرٍ؛ فكأنما يأْكُل الجمرَ». رواه الطبراني وصححه الألباني.
جواز طلب الطعام عند الحاجة
ففعل موسى والخضر -عليهما السلام- دليل لجواز طلب الطعام عند الحاجة، وطلب الضيافة الواجبة على أهل القرى، قال الشيخ ابن عاشور:» اسْتَطْعَمَاهُم ْ، لِزِيَادَةِ التَّصْرِيحِ، تَشْنِيعًا بِهِمْ فِي لُؤْمِهِمْ، إِذْ أَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا . وَذَلِكَ لُؤْمٌ، لِأَنَّ الضِّيَافَةَ كَانَتْ شَائِعَةً فِي الْأُمَمِ مِنْ عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ -عليه السلام-، وَهِيَ مِنَ الْمُوَاسَاةِ الْمُتَّبَعَةِ عِنْدَ النَّاسِ. وَيَقُومُ بِهَا مَنْ يُنْتَدَبُ إِلَيْهَا مِمَّنْ يَمُرُّ عَلَيْهِمْ عَابِرُ السَّبِيلِ وَيَسْأَلُهُمُ الضِّيَافَةَ، أَوْ مَنْ أَعَدَّ نَفْسَهُ لِذَلِكَ مِنْ كِرَامِ الْقَبِيلَةِ فَإِبَايَةُ أَهْلِ قَرْيَةٍ كُلِّهِمْ مِنَ الْإِضَافَةِ لُؤْمٌ لِتِلْكَ الْقَرْيَةِ.
وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى إِبَاحَةِ طَلَبِ الطَّعَامِ لِعَابِرِ السَّبِيلِ لِأَنَّهُ شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا، وَحَكَاهُ الْقُرْآنُ وَلَمْ يَرِدْ مَا يَنْسَخُهُ».
وقال القرطبي:» فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى سُؤَالِ الْقُوتِ، وَأَنَّ مَنْ جَاعَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَطْلُبَ مَا يَرُدُّ جُوعَهُ خِلَافًا لِجُهَّال الْمُتَصَوِّفَة ِ.
قَالَ قَتَادَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: شَرُّ الْقُرَى الَّتِي لَا تُضِيفُ الضَّيْفَ، وَلَا تَعْرِفُ لِابْنِ السَّبِيلِ حَقَّهُ، وَيَظْهَرُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الضِّيَافَةَ كَانَتْ عَلَيْهِمْ وَاجِبَةً، وَأَنَّ الْخَضِرَ وَمُوسَى إِنَّمَا سَأَلَا مَا وَجَبَ لَهُمَا مِنَ الضِّيَافَةِ، وَهَذَا هُوَ الْأَلْيَقُ بِحَالِ الْأَنْبِيَاءِ، وَمَنْصِبِ الْفُضَلَاءِ وَالْأَوْلِيَاء ِ».
مما يستفاد من الآية
ومما يستفاد من الآية الكريمة مسألة الجدار المائل إلى الطريق العام:
من الضرر الذي قد يتولد في الطريق العام ويضر بالمارة الضرر الحادث من ميل بعض الجدران المطلة على الطريق العام، قال القرطبي:» واجب على الإنسان ألا يتعرض للجلوس تحث جِدَارٍ مَائِلٍ يَخَافُ سُقُوطَهُ، بَلْ يُسْرِعُ فِي الْمَشْيِ إِذَا كَانَ مَارًّا عَلَيْهِ».
ولهذه المسألة صور ذكرها النووي وابن قدامة منها:
الصورة الأولى
إذا بناه مستويا فسقط من غير استهدام ولا ميل فلا ضمان على صاحبه فيما تلف به؛ لأنه لم يتعد ببنائه ولا حصل منه تفريط بإبقائه.
الصور الثانية
إذا بناه مائلا إلى ملكه أو مال إليه بعد البناء وسقط فلا ضمان، لأنه لم يتعد ببنائه ولا حصل منه تفريط بإبقائه، ولأن الضرر إن حصل فقد وقع على ملكه ولا يعوض الإنسان نفسه، فإن هذا من العبث والشريعة منزهة عنه.
الصورة الثالثة
إذا بناه مائلا إلى غير ملكه: اتفق الفقهاء على أن من بنى في ملكه حائطا مائلا إلى الطريق العام أو إلى ملك غيره فتلف به شيء أو سقط على شيء فأتلفه فإنه يضمن هذا التلف وهذا الضرر الواقع بسبب الخلل في إنشاء هذا الحائط، قال ابن قدامة: «ولا أعلم فيه خلافا».
وذلك لأنه متعد بذلك فإنه ليس له الانتفاع بالبناء في هواء (أي: فراغ) ملك غيره، أو هواء مشترك، ولأنه يعرضه للوقوع على غير ملكه فأشبه ما لو نصب فيه منجلا للصيد فتلف به إنسان أو مال.
الصورة الرابعة
أن يكون الخلل طارئا: إذا بنى إنسان حائطه مستويا ثم طرأ عليه خلل بأن مال إلى الطريق العام ثم سقط كله أو بعضه فتلف به إنسان أو مال، فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى القول بوجوب الضمان على مالك الجدار؛ لأنه متعد بتركه مائلا فضمن ما تلف به كما لو بناه مائلا ابتداء، ولأن للمسلمين حق الجواز بالطريق وميل الحائط يمنعهم ذلك فتنقطع المارة حذار الوقوع عليهم فيتضررون بذلك، والضرر يزال كما قال -صلى الله عليه وسلم-:»لا ضرر ولا ضرار».
وفي موضع آخر من السورة بيّـن الخضر -عليه السلام- الحكمة من بناء الجدار كما قال -تعالى-: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا} (سورة الكهف:82).
قال ابن كثير:» ومعنى الآية: أن هذا الجدار إنما أصلحه لأنه كان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما. قال عكرمة وقتادة وغير واحد: كان تحته مال مدفون لهما. وهذا ظاهر السياق من الآية، وهو اختيار ابن جرير».
وقال مبينا فائدة عظيمة:» فيه دليل على أن الرجل الصالح يحفظ في ذريته، وتشمل بركة عبادته لهم في الدنيا والآخرة، بشفاعته فيهم ورفع درجتهم إلى أعلى درجة في الجنة لتقر عينه بهم، كما جاء في القرآن ووردت السنة به. قال سعيد بن جبير عن ابن عباس : حفظا بصلاح أبيهما، ولم يذكر لهما صلاح».
ويعدد الشيخ ابن سعدي بقية الفوائد من الآية الكريمة فقال: «ومنها: أن خدمة الصالحين، أو من يتعلق بهم، أفضل من غيرها، لأنه علل استخراج كنزهما، وإقامة جدارهما، أن أباهما صالح.
ومنها: أنه ينبغي للصاحب ألا يفارق صاحبه في حالة من الأحوال، ويترك صحبته، حتى يعتبه، ويعذر منه، كما فعل الخضر مع موسى.
ومنها: أن موافقة الصاحب لصاحبه، في غير الأمور المحذورة، مدعاة وسبب لبقاء الصحبة وتأكدها، كما أن عدم الموافقة سبب لقطع المرافقة».
ابو وليد البحيرى
2021-10-29, 12:06 PM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (60)
- بعض الأحكام المستفادة من سورة الكهف
- حبس أهل الفساد ومنعهم من التصرف فيما يريدون
د.وليد خالد الربيع
قال -تعالى-: {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} (الكهف:94) هذه الآية الكريمة في سياق قصة ذي القرنين من سورة الكهف، وفيها ذكر نعمة الله -تعالى- على هذا العبد الصالح، وإمداده بأسباب القوة والمنعة، وفي أخباره عبر عديدة وفوائد سديدة كما قال الشيخ ابن سعدي: «كان أهل الكتاب أو المشركون، سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قصة ذي القرنين، فأمره الله أن يقول: {سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا} فيه نبأ مفيد، وخطاب عجيب. أي: سأتلو عليكم من أحواله، ما يتذكر فيه، ويكون عبرة، وأما ما سوى ذلك من أحواله، فلم يتله عليهم».
وقد استنبط منها القرطبي بدقيق نظره وثاقب فكره مسألة مشروعية الحبس بمعناه العام، فقال: «في هذه الآية دليل على اتخاذ السجون، وحبس أهل الفساد فيها، ومنعهم من التصرف لما يريدونه، ولا يتركون وما هم عليه».
تعريف الحبس
الحبس لغة المنع، فهو ضد التخلية، كما يطلق الحبس والمحبس على اسم موضع الحبس.
وأما في الاصطلاح: فللحبس إطلاق فقهي أعم من معنى السجن المعهود.
قال ابن تيمية: «الحبس الشرعي ليس هو السجن في مكان ضيق، وإنما هو تعويقُ الشخص ومنْعُه من التصرُّف بنفسه، سواء كان في بيت أو سِجن، أم كان بتوكيل الخَصم أو وكيله عليه».
قال: «ولم يكن على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر حبس معد لسجن الناس، ولكن لما انتشرت الرعية في زمن عمر بن الخطاب ابتاع بمكة دارا وجعلها سجنا، وحبس فيها».
مشروعية الحبس في القرآن الكريم
ذهب الجمهور إلى أن الحبس مشروع، ومما استدلوا به:
قوله -تعالى-: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَ ّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} (النساء:15)
دلت الآية على أن عقوبة النساء الزانيات كانت في صدر الإسلام الحبس في البيوت حتى الموت، ولكن الحكم فيما بعد تغير بنزول قوله -سبحانه-: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (النور:2)
وبحديث عبادة مرفوعا: «الثيب بالثيب جلد مئة والرجم» رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي.
ومن الآيات على مشروعية الحبس قَوْله -تعالى-: {تَحْبِسُونهما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ} (المائدة: 106) قال ابن العربي: «وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى حَبْسِ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَقُّ، وَهُوَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الْحُكُومَةِ، وَحُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ؛ فَإِنَّ الْحُقُوقَ الْمُتَوَجِّهَة َ عَلَى قِسْمَيْنِ: مِنْهَا مَا يَصِحُّ اسْتِيفَاؤُهُ مُعَجَّلًا، وَمِنْهَا مَا لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ إلَّا مُؤَجَّلًا فَإِنْ خُلِّيَ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ وَغَابَ وَاخْتَفَى بَطَلَ الْحَقُّ وَتَوِيَ، فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ التَّوَثُّقِ مِنْهُ».
الحبس في السنة المطهرة
حديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «حبس رجلاً في تهمة ثم خلى عنه» رواه الترمذي وحسنه، قال المباركفوري: «وهذا يدل على أن الحبس من أحكام الشرع».
وعن عمرو بن الشريد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليّ الواجد يحل عرضه وعقوبته». أخرجه البخاري معلقا ووصله أحمد وأبو داود وحسن إسناده ابن حجر، وذكر البخاري عن سفيان أنه شرح الحديث فقال: «عرضه: يقول: مطلتني، وعقوبته: الحبس»، قال ابن حجر: «واستدل به على مشروعية حبس المدين إذا كان قادرا على الوفاء تأديبا له وتشديدا عليه».
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - خيلاً قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال فربطوه بسارية من سواري المسجد» الحديث متفق عليه، قال النووي: «وفي هذا جواز ربط الأسير وحبسه»
وأيضا ما ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حبس بني قريظة بالمدينة، قال ابن حجر: «وذكر ابن إسحق أنهم حبسوا في دار بنت الحارث امرأة من بني النجار، وفي رواية أبي الأسود عن عروة في دار أسامة بن زيد، ويجمع بينهما بأنهم جعلوا في بيتين».
وذكر ابن هشام وابن كثير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حبس ابنة حاتم الطائي في حظيرة بباب المسجد كانت السبايا يحبسن فيها.
وذكر الكتاني في التراتيب الإدارية أن عمر سجن الحطيئة الشاعر لما هجا الزبرقان.
الحبس في زمن الخلفاء الراشدين
وأخرج البيهقي عن نافع بن عبد الحارث أنه اشترى لعمر بن الخطاب من صفوان بن أمية دارا بأربعة آلاف وجعلها سجناً.
وعن عثمان - رضي الله عنه - أنه سجن صابئ ابن حارث أحد لصوص بني تميم وفتاكهم حتى مات في السجن.
وبنى علي بن أبي طالب سجناً من قصب سماه نافعاً، فنقبه اللصوص، ثم بنى سجناً من مدر وسماه مخيساً. فكل هذه الآثار تدل على مشروعية اتخاذ الحبس.
أنواع الحبس
النوع الأول: الحبس للتعزير:
التعزير عقوبة غير مقدرة شرعا، يفوض الأمر فيها لولي الأمر بما يراه مناسبا، ومن العقوبات التعزيرية الحبس.
النوع الثاني: الحبس للاستيثاق:
المراد به منع الشخص عن التصرف بنفسه وضمان عدم هروبه لا بقصد التعزير، وهو يشمل:
1- الحبس بسبب التهمة
وهو منع الشخص المتهم ذي الريبة من التصرف في نفسه حتى يبين أمره فيما اتهم به من حق لله أو حق لآدمي، وقد تقدم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «حبس رجلاً في تهمة ثم خلى عنه».
2- الحبس للاحتراز
وهو الحبس لمنع الضرر المتوقع لو ترك هذا الشخص دون حبس، ومنه حبس أسير العدو حتى يحكم الإمام في أمره كما قال -تعالى-: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُم ْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} (محمد:4) قال الشيخ ابن سعدي: «أي: الرباط، وهذا احتياط لأسرهم لئلا يهربوا، فإذا شد منهم الوثاق اطمأن المسلمون من هربهم ومن شرهم».
3- الحبس لتنفيذ العقوبة
كما لو ثبتت عقوبة على شخص معين وحال دون تنفيذها عذر معتبر شرعا كالمرض، والحمل، والنفاس، والإرضاع، والسكران حتى يصحو، وتأخير القصاص إذا كان أحد أولياء الدم غائبا حتى يحضر، ومن جرح شخصا حبس حتى يبرأ، وينتظر لجلد المعذور اعتدال الجو حتى لا يهلك بشدة الحر أو البرد، ونحو ذلك من الأعذار فإنه يحبس حتى يزول العذر، والحبس هنا للتحفظ على المطلوب وليس عقوبة له فيحسن إليه في حبسه، ودليل ذلك حديث عمران أن امرأة من جهينة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي حبلى من الزنا، فقالت: يا رسول الله، أصبت حدًا فأقمه عليّ، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليها فقال: «أحسن إليها، فإذا وضعت فأتني بها» ففعل، فأمر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - فشددت عليها ثيابها، ثم أمر بها، فرجمت، ثم صلى عليها رواه مسلم.
قال النووي: «هَذَا الْإِحْسَانُ لَهُ سَبَبَانِ أَحَدُهُمَا: الْخَوْفُ عَلَيْهَا مِنْ أَقَارِبِهَا أَنْ تَحْمِلَهُمُ الْغَيْرَةُ وَلُحُوقُ الْعَارِ بِهِمْ أَنْ يُؤْذُوهَا فَأَوْصَى بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهَا تَحْذِيرًا لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَالثَّانِي: أَمَرَ بِهِ رَحْمَةً لها إذ قد ثابت، وحرص عَلَى الْإِحْسَانِ إِلَيْهَا لِمَا فِي نُفُوسِ النَّاسِ مِنَ النُّفْرَةِ مِنْ مِثْلِهَا وَإِسْمَاعِهَا الْكَلَامَ الْمُؤْذِي وَنَحْوَ ذَلِكَ فَنَهَى عَنْ هَذَا كُلِّهِ».
ابو وليد البحيرى
2021-10-29, 12:12 PM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (61)
- بعض الأحكام المستفادة من سورة الكهف
- فضل الدعاء واستحباب إخفائه
د.وليد خالد الربيع
قال -تعالى-: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} (مريم:2-3). هذه الآية الكريمة من سورة مريم، ذكر ربنا -سبحانه- خبر نبي الله زكريا -عليه السلام- وما أجرى الله -تعالى- عليه من عظيم نعمته، وجليل قدرته، فاستجاب دعاءه، ورزقه ولدا صالحا رغم ما هو فيه من كبر سنه وعقم زوجته، وفي قصص القرآن الكريم حكم جليلة، وأحكام مفيدة.
قال الشيخ ابن سعدي: «أي: هذا {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} سنقصه عليك، ونفصله تفصيلا يعرف به حال نبيه زكريا، وآثاره الصالحة، ومناقبه الجميلة، فإن في قصها عبرة للمعتبرين، وأسوة للمقتدين، ولأن في تفصيل رحمته لأوليائه، وبأي: سبب حصلت لهم، ما يدعو إلى محبة الله -تعالى-، والإكثار من ذكره ومعرفته، والسبب الموصل إليه».
ومن المسائل الفقهية المستفادة من الآية الكريمة (فضل الدعاء واستحباب إخفائه):
تعريف الدعاء
الدعاء في اللغة: مصدر الفعل (دعا) بالشيء يدعو دعاء: إذا طلب إحضاره، قال ابن الجوزي: «الدعاء هو طلب الأدنى من الأعلى تحصيل الشيء».
وأما في الاصطلاح فالدعاء: هو الرغبة إلى الله -عز وجل- بالسؤال والتضرع في تحقيق المطلوب.
فالدعاء دليل الافتقار، ومظهر صدق العبودية، قال الطيبي: «هو إظهار غاية التذلل والافتقار إلى الله والاستكانة له»، وقال الخطابي: «حقيقة الدعاء استدعاء العبد من ربه العناية، واستمداده إياه المعونة، وحقيقته إظهار الافتقار إليه، والبراءة من الحول والقوة التي له، وهو سمة العبودية وإظهار الذلة البشرية، وفيه معنى الثناء على الله، وإضافة الجود والكرم إليه».
فضل الدعاء
جاء في فضل الدعاء والندب إليه نصوص كثيرة منها:
1- قال - صلى الله عليه وسلم -: «ليس شيء أكرم على الله من الدعاء» أخرجه الترمذي، قال الشراح: «أي: ليس شيء أفضل عند الله، لأن فيه إظهار الفقر والعجز والتذلل والاعتراف بقوة الله وقدرته».
2- قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يزيد في العمر إلا البر، ولا يرد القدر إلا الدعاء، وإن الرجل يحرم الرزق بخطيئة يعملها» أخرجه ابن ماجه.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لن ينفع حذر من قدر، ولكن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، فعليكم بالدعاء عباد الله» أخرجه أحمد.
آداب الدعاء:
علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيفية الدعاء، فلا يهجم السائل على مسألته، ولا يغفل عن أدب سؤاله لربه، فعن فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَاعِدٌ إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «عَجِلْتَ أَيُّهَا الْمُصَلِّي، إِذَا صَلَّيْتَ فَقَعَدْتَ فَاحْمَدْ اللَّهَ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، وَصَلِّ عَلَيَّ، ثُمَّ ادْعُهُ» أخرجه الترمذي، وفي رواية: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَحْمِيدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ ثُمَّ لْيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ لْيَدْعُ بَعْدُ بِمَا شَاءَ». قَال: ثُمَّ صَلَّى رَجُلٌ آخَرُ بَعْدَ ذَلِكَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَيُّهَا الْمُصَلِّي، ادْعُ تُجَبْ» صححه الألباني.
فمن آداب الدعاء التي أرشدت إليها الآية الكريمة (إخفاء الدعاء وعدم الجهر به)؛ لأنه -سبحانه- أثنى بذلك على زكريا -عليه السلام- مما يدل على فضل ذلك والندب إليه.
النداء هو الدعاء والرغبة
قال القرطبي: «والنداء: الدعاء والرغبة؛ أي: ناجى ربه بذلك في محرابه، دليله قوله: {فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب} فبين أنه استجاب له في صلاته، كما نادى في الصلاة».
قال ابن عاشور: «ومعنى الكلام: أن زكريا قال: «يا رب» بصوت خفي؛ وإنما كان خفيا؛ لأن زكريا رأى أنه أدخل في الإخلاص مع رجائه أن الله يجيب دعوته لئلا تكون استجابته مما يتحدث به الناس، فلذلك لم يدعه تضرعا وإن كان التضرع أعون على صدق التوجه غالبا، فلعل يقين زكريا كاف في تقوية التوجه، فاختار لدعائه السلامة من مخالطة الرياء، ولا منافاة بين كونه نداء وكونه خفيا؛ لأنه نداء من يسمع الخفاء».
وقال ابن كثير: «وقوله: {إذ نادى ربه نداء خفيا}: قال بعض المفسرين: إنما أخفى دعاءه لئلا ينسب في طلب الولد إلى الرعونة لكبره. حكاه الماوردي.
وقال آخرون: إنما أخفاه لأنه أحب إلى الله. كما قال قتادة في هذه الآية: «إن الله يعلم القلب التقي، ويسمع الصوت الخفي».
المستحب من الدعاء الإخفاء
وقد دل على أن المستحب من الدعاء (الإخفاء) قوله -تعالى-: {واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين}
قال القرطبي: «قال أبو جعفر النحاس: ولم يختلف في معنى {واذكر ربك في نفسك} أنه في الدعاء. {ودون الجهر} أي: دون الرفع في القول. أي: أسمع نفسك، كما قال: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} أي: بين الجهر والمخافتة، ودل هذا على أن رفع الصوت بالذكر ممنوع».
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «أنزل ذلك في الدعاء» أي: قوله -تعالى-: {ولا تجهر بصلاتك} أخرجه البخاري.
وأخرج البخاري في باب (ما يكره من رفع الصوت في التكبير) حديث أبي موسى الأشعري قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكنا إذا أشرفنا على واد هللنا وكبرنا، وارتفعت أصواتنا، فقال: «يا أيها الناس، أربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنه معكم، إنه سميع قريب، -تبارك اسمه وتعالى- جده» متفق عليه
قال الطبري: فيه كراهية رفع الصوت بالدعاء والذكر، وبه قال عامة السلف من الصحابة والتابعين».
وقال النووي: «قوله: أربعوا، معناه: ارفقوا بأنفسكم، واخفضوا أصواتكم؛ فإن رفع الصوت إنما يفعله الإنسان لبعد من يخاطبه ليسمعه، وأنتم تدعون الله -تعالى-، وليس هو بأصم، ولا غائب، بل هو سميع قريب، وهو معكم بالعلم والإحاطة، ففيه الندب إلى خفض الصوت بالذكر إذا لم تدع حاجة إلى رفعه، فإنه إذا خفضه كان أبلغ في توقيره وتعظيمه، فإن دعت حاجة إلى الرفع رفع كما جاءت به أحاديث».
وفي الآداب الشرعية قال ابن مفلح: «يكره رفع الصوت بالدعاء مطلقا، قال المروذي: سمعت أبا عبد الله (يعني الإمام أحمد) يقول: «ينبغي أن يسر دعاءه لقوله -تعالى-:{وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} قال: هذا الدعاء، وقال: وسمعت أبا عبد الله يقول: وكان يكره أن يرفعوا أصواتهم بالدعاء ولا سيما عند شدة الحرب وحمل الجنازة والمشي بها».
ابو وليد البحيرى
2021-10-29, 12:17 PM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (62)
- بعض الأحكام المستفادة من سورة مريم
- خلق عيسى عليه السلام دليل على قدرة الله
د.وليد خالد الربيع
قال -سبحانه-: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا} (سورة مريم:23) قصة مريم وابنها نبي الله عيسى -عليهما السلام- آية ظاهرة، ودلالة باهرة على عظيم قدرة الله -تعالى- وعجيب خلقه وبديع صنعه، كما قال -تعالى-: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} (المؤمنون:50) قال ابن كثير: « جعلهما آية للناس أي: حجة قاطعة على قدرته على ما يشاء، فإنه خلق آدم من غير أب ولا أم، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر، وخلق بقية الناس من ذكر وأنثى».
وهذه الآية الكريمة توضح جانبا مما مرت به مريم -عليها السلام- من المعاناة البدنية، والقلق المعنوي خشية نسبتها إلى الفاحشة وهي العفيفة العابدة فتمنت الموت.
وهنا تبرز مسألة مشكلة وهي (حكم تمني الموت)، وسبب الإشكال ما ورد فيها من نصوص وآثار متعارضة.
النصوص التي تمنع تمني الموت
عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ اَلْمَوْتَ لِضُرٍّ يَنْزِلُ بِهِ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مُتَمَنِّيًا فَلْيَقُلْ: اَللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ اَلْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ اَلْوَفَاةُ خَيْرًا لِي» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
وعن خباب: «وَلَوْلاَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَانَا أَنْ نَدْعُوَ بِالْمَوْتِ لَدَعَوْتُ بِهِ» أخرجه البخاري
وقَالَ أَنَسٌ بن النضر: «لَوْلاَ أَنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لاَ تَتَمَنَّوُا المَوْتَ» لَتَمَنَّيْتُ» أخرجه البخاري
النصوص التي ظاهرها جواز تمني الموت
دعاء يوسف -عليه السلام-: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } (يوسف:101)
وقالت مريم لما ضربها الطلق: {يا ليتني مت قبل هذا} (مريم: 23)
وعن عَائِشَةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَيَّ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَأَلْحِقْنِي بِالرَّفِيقِ الأعلى» أخرجه البخاري.
وقال ابن حجر في الفتح: «وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: «اللَّهُمَّ كَبِرَتْ سِنِّي وَضَعُفَتْ قُوَّتِي وَانْتَشَرَتْ رَعِيَّتِي فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مُضَيِّعٍ وَلَا مُفَرِّطٍ».
ونقل ابن كثير أن علي بن أبي طالب في آخر إمارته لما رأى أن الأمور لا تجتمع له، ولا يزداد الأمر إلا شدة قال: « اللهم خذني إليك، فقد سئمتهم وسئموني».
مسالك العلماء في التوفيق بين الأدلة
فمنهم من قال: النهي عن تمني الموت منسوخ، والناسخ له قَوْل يُوسُفَ المتقدم وَقَوْل سُلَيْمَانَ عليهما السلام: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحين} وَبِحَدِيثِ عَائِشَةَ فِي احتضار النبي - صلى الله عليه وسلم - وَبِدُعَاءِ عُمَرَ بِالْمَوْتِ وَغَيْرِهِ.
وأجيب: بعدم التسليم لدعوى النسخ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ إِنَّمَا سَأَلُوا مَا قَارَبَ الْمَوْتَ، فمراد يوسف -عليه السلام- {تَوَفَّنِي مُسلما} أي: عِنْد حُضُور أَجلي. وَكَذَلِكَ مُرَادُ سُلَيْمَانَ -علَيْهِ السَّلَامُ.
قال ابن كثير: « وهذا الدعاء يحتمل أن يوسف -عليه السلام- قاله عند احتضاره، ويحتمل أنه سأل الوفاة على الإسلام واللحاق بالصالحين إذا حان أجله، وانقضى عمره، لا أنه سأل ذلك منجزا، كما يقول الداعي لغيره: «أماتك الله على الإسلام»، ويقول الداعي: «اللهم أحينا مسلمين وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين».
ومنهم من حمل الجواز على أنه شرع من قبلنا، وقد ورد في شرعنا النهي عنه، كما قال قتادة: قوله: {توفني مسلما وألحقني بالصالحين} لما جمع الله شمله وأقر عينه، وهو يومئذ مغمور في الدنيا وملكها وغضارتها، فاشتاق إلى الصالحين قبله، وكان ابن عباس يقول: «ما تمنى نبي قط الموت قبل يوسف -عليه السلام».
قال ابن كثير: «ولكن هذا لا يجوز في شريعتنا». للنهي الوارد في ذلك.
النهي للكراهة
ومنهم من حمل النهي على الكراهة إذا لحق بالإنسان أضرار دنيوية، والجواز أن يفوض الأمر لله -تعالى- عند خوف الفتن الدينية ويجوز سؤال الموت كما قال الله -تعالى- إخبارا عن السحرة لما أراد فرعون فتنتهم قالوا: {ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين} (الأعراف: 126).
وكما أرشدنا النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك، قال النووي: «فِيهِ التَّصْرِيحُ (أي: الحديث) بِكَرَاهَةِ تَمَنِّي الْمَوْتِ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ مِنْ مَرَضٍ أَوْ فَاقَةٍ أَوْ مِحْنَةٍ مِنْ عَدُوٍّ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ مَشَاقِّ الدُّنْيَا، فَأَمَّا إِذَا خَافَ ضررا في دينه أو فتنة فِيهِ فَلَا كَرَاهَةَ فِيهِ لِمَفْهُومِ هَذَا الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ فَعَلَ هَذَا الثَّانِي خَلَائِقُ مِنَ السَّلَفِ عِنْدَ خَوْفِ الْفِتْنَةِ فِي أَدْيَانِهِمْ، وَفِيهِ أَنَّهُ إِنْ خَافَ وَلَمْ يَصْبِرْ عَلَى حَالِهِ فِي بَلْوَاهُ بِالْمَرَضِ وَنَحْوهِ فَلْيَقُلْ: «اللَّهُمَّ أَحْيِنِي إن كانت الحياة خيرا لي» إِلَخْ، وَالْأَفْضَلُ الصَّبْرُ وَالسُّكُونُ لِلْقَضَاءِ».
تمني الموت خشية الفتنة
وقال ابن حجر: « قَوْلُهُ: «مِنْ ضُرٍّ أَصَابَهُ» حَمَلَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ عَلَى الضُّرِّ الدُّنْيَوِيِّ، فَإِن وجد الضّر الْأُخْرَوِيَّ بِأَنْ خَشِيَ فِتْنَةً فِي دِينِهِ لَمْ يَدْخُلْ فِي النَّهْيِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ ذَلِكَ من رِوَايَة بن حِبَّانَ: «لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ فِي الدُّنْيَا».
واستدل بحَدِيث مُعَاذٍ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ: «وَإِذَا أَرَدْتَ بِقَوْمِ فِتْنَةً فَتَوَفَّنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ».
وفي الحديث: «إن الرجل ليمر بالقبر- أي: في زمان الدجال - فيقول: يا ليتني مكانك» لما يرى من الفتن والأمور الهائلة التي هي فتنة لكل مفتون».
وعن محمود بن لبيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اثنتان يكرههما ابن آدم: الموت، والموت خير للمؤمن من الفتنة، ويكره قلة المال، وقلة المال أقل للحساب» أخرجه أحمد صححه الألباني.
وعليه يحمل قول مريم -عليها السلام- كما قال ابن كثير: «فيه دليل على جواز تمني الموت عند الفتنة».
وقال القرطبي: «تمنت مريم -عليها السلام- الموت من جهة الدين لوجهين: أحدهما: أنها خافت أن يظن بها الشر في دينها وتعير فيفتنها ذلك. الثاني: لئلا يقع قوم بسببها في البهتان والنسبة إلى الزنا وذلك مهلك».
النهي للتسخط والاعتراض
ومنهم من حمل النهي على الصيغة المطلقة التي يدل ظاهرها على التسخط والاعتراض على قدر الله وحكمته، ويجوز أن يدعو بما ورد مقيدا كما تقدم، قال ابن حجر: «قَوْلُهُ: «فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَاعِلًا» فِي رِوَايَةِ عَنْ أَنَسٍ: «فَإِنْ كَانَ وَلَا بُدَّ مُتَمَنِّيًا لِلْمَوْتِ فَلْيَقُلِ إِلَخْ» وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى هَذِهِ الصِّيغَةِ؛ لِأَنَّ فِي التَّمَنِّي الْمُطْلَقِ نَوْعَ اعْتِرَاضٍ وَمُرَاغَمَةٍ لِلْقَدْرِ الْمَحْتُومِ، وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا نَوْعُ تَفْوِيضٍ وَتَسْلِيمٍ لِلْقَضَاءِ».
ومنهم من حمل الجواز على من نزل به الموت فعلا فقال ابن حجر: «قَوْله في رواية: «وَلَا يَدْعُ بِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُ» وَهُوَ قَيْدٌ فِي الصُّورَتَيْنِ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ إِذَا حَلَّ بِهِ لَا يَمْنَعُ مِنْ تَمَنِّيهِ رِضًا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَلَا مِنْ طَلَبِهِ مِنَ اللَّهِ لِذَلِكَ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ عَقَّبَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَأَلْحِقْنِي بِالرَّفِيقِ الْأَعْلَى» إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ النَّهْيَ مُخْتَصٌّ بِالْحَالَةِ الَّتِي قَبْلَ نُزُولِ الْمَوْتِ».
قال: « وذَلِكَ لَا يُعَارِضُ النَّهْيَ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ وَالدُّعَاءَ بِهِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ مِنْ خَصَائِصِ الْأَنْبِيَاءِ؛ أَنَّهُ لَا يُقْبَضُ نَبِيٌّ حَتَّى يُخَيَّرَ بَيْنَ الْبَقَاءِ فِي الدُّنْيَا وَبَيْنَ الْمَوْتِ».
الحكمة من عدم تمني الموت
وبيّن النبي صلى الله عليه وسلم الحكمة في عدم تمني الموت بقوله: « وَلاَ يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ المَوْتَ: إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَزْدَادَ خَيْرًا، وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعْتِبَ «أخرجه البخاري
قال ابن حجر: «وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي النَّهْيِ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ وَالدُّعَاءِ بِهِ هُوَ (انْقِطَاعُ الْعَمَلِ بِالْمَوْتِ) فَإِنَّ الْحَيَاةَ يَتَسَبَّبُ مِنْهَا الْعَمَلُ، وَالْعَمَلُ يُحَصِّلُ زِيَادَةَ الثَّوَابِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ إِلَّا اسْتِمْرَارُ التَّوْحِيدِ فَهُوَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ.
فَخَرَجَ الْخَبَرُ مَخْرَجَ تَحْسِينِ الظَّنِّ بِاللَّهِ، وَأَنَّ الْمُحْسِنَ يَرْجُو مِنَ اللَّهِ الزِّيَادَةَ بِأَنْ يُوَفِّقَهُ لِلزِّيَادَةِ مِنْ عَمَلِهِ الصَّالِحِ، وَأَنَّ الْمُسِيءَ لَا يَنْبَغِي لَهُ الْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَلَا قَطْعُ رَجَائِهِ».
ابو وليد البحيرى
2021-12-09, 12:20 PM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية - بعض الأحكام المستفادة من سورة مريم (63)
- حِكَمٌ وأحكام من أخبار الأنبياء في سورة مريم
د.وليد خالد الربيع
قال -سبحانه-:{أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} (سورة مريم:58)، ورد ذكر مجموعة من الأنبياء -عليهم السلام- في سورة مريم، منهم زكريا ويحيى وعيسى وأمه مريم وإبراهيم وإسماعيل وإسحق وهارون وإدريس -عليهم السلام-، وهم صفوة البشر، ونخبة الناس الذين اصطفاهم الله -تعالى- لتلقي وحيه وتبليغ رسالته، وفي أخبارهم عبرة وعظة وحكم وأحكام، لذا نبه الله -تعالى- على فضلهم، ولزوم اتباع هديه في هذه الآية الكريمة.
قال الشيخ ابن سعدي: «لما ذكر هؤلاء الأنبياء المكرمين، وخواص المرسلين، وذكر فضائلهم ومراتبهم قال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} أي: أنعم الله عليهم نعمة لا تلحق، ومنة لا تسبق، من النبوة والرسالة، وهم الذين أمرنا أن ندعو الله أن يهدينا صراط الذين أنعمت عليهم، وأن من أطاع الله، كان {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} الآية.
خير بيوت العالم
وأن بعضهم {مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} أي: من ذريته {وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ} فهذه خير بيوت العالم، اصطفاهم الله، واختارهم، واجتباهم، وكان حالهم عند تلاوة آيات الرحمن عليهم، المتضمنة للإخبار بالغيوب وصفات علام الغيوب، والإخبار باليوم الآخر، والوعد والوعيد، {خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} أي: خضعوا لآيات الله، وخشعوا لها، وأثرت في قلوبهم من الإيمان والرغبة والرهبة، ما أوجب لهم البكاء والإنابة، والسجود لربهم، ولم يكونوا من الذين إذا سمعوا آيات الله خروا عليها صما وعميانا».
فمن المسائل المستفادة من هذه الآية الكريمة (مشروعية سجود التلاوة للتالي والمستمع)، وهنا وقفات:
الوقفة الأولى
- ما سجود التلاوة؟ وما حكمه؟
سجود التلاوة هو السجود الذي يؤدى عند قراءة آية من آيات السجدة، وهي خمس عشرة آية في القرآن الكريم، ولها علامة تدل عليها.
واتفق الفقهاء على أن سجود التلاوة مشروع للأدلة الواردة في شأنه، ومنها هذه الآية قال ابن كثير: «إذا سمعوا كلام الله المتضمن حججه ودلائله وبراهينه، سجدوا لربهم خضوعا واستكانة، وحمدا وشكرا على ما هم فيه من النعم العظيمة، فلهذا أجمع العلماء على شرعية السجود هاهنا، اقتداء بهم، واتباعا لمنوالهم».
واختلف الفقهاء في سجود التلاوة هل هو واجب؟ على مذهبين:
- المذهب الأول: سجود التلاوة واجب وهو قول الحنفية ورواية عن الإمام أحمد اختارها شيخ الإسلام، ودليلهم:
(1) أن الله -سبحانه- و-تعالى- أمر به في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، وذمّ من تركه فقال: {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ}، مما يدل على وجوبه.
(2) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول: يا ويله، أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار» أخرجه مسلم. وهو ظاهر الدلالة على الوجوب لقوله: (أمر).
المذهب الثاني: سجود التلاوة سنة مؤكدة، وهو قول الجمهور، ودليلهم:
(1) عن زيد بن ثابت قال: قرأت على النبي - صلى الله عليه وسلم - (والنجم) فلم يسجد فيها. متفق عليه. ولو كان واجبا لما تركه - صلى الله عليه وسلم .
(2) وروى البخاري عن عمر أنه قرأ يوم الجمعة على المنبر سورة النحل حتى إذا جاء السجدة نزل فسجد فسجد الناس معه، حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها حتى إذا جاء السجدة قال: «يا أيها الناس إنا نمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب ومن لم يسجد فلا إثم عليه»، ولم يسجد عمر رضي الله عنه وكان ذلك بمحضر من الصحابة ولم ينكروا عليه، مما يدل على عدم وجوبه.
وهو الأظهر، لقوة أدلتهم وصراحتها.
الوقفة الثانية
- ما صفة سجود التلاوة؟
اتفق الفقهاء على أن سجود التلاوة يحصل بسجدة واحدة، والأظهر أنه إذا كان قارئ القرآن في الصلاة فإنه يكبر في أول السجود وعند الرفع منه؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يكبر في كل خفض ورفع في الصلاة، وأما إذا كانت القراءة خارج الصلاة فاختلف الفقهاء، والأظهر أنه لا يكبر ولو كبر فلا بأس؛ لأن سجود التلاوة ليس بصلاة؛ ولأن التكبير ذكر يحتاج إثباته إلى دليل ولا دليل، وما ورد لا يخلو من ضعف.
واتفقوا على أنه لا تسليم من سجود التلاوة إذا كان في الصلاة، واختلفوا إذا كان خارج الصلاة والأظهر أنه لا تسليم فيه لعدم ورود ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا في حديث صحيح ولا ضعيف.
الذكر في سجود التلاوة
ويشرع لمن سجد سجود التلاوة أن يقول: «سبحان ربي الأعلى» لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - لما نزلت: {سبح اسم ربك الأعلى} قال: «اجعلوها في سجودكم»، وعن عائشة قالت: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في سجود القرآن: «سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره بحوله وقوته» أخرجه أبو داود والترمذي.
وعن ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إني رأيت الليلة وأنا نائم كأني أصلي خلف شجرة فسجدت، فسجدت الشجرة لسجودي فسمعتها وهي تقول: اللهم اكتب لي بها عندك أجراً وضع عني بها وزراً واجعلها لي عندك ذخراً وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود، قال ابن عباس: فقرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - سجدة ثم سجد فسمعته وهو ساجد يقول مثل ما أخبره الرجل عن قول الشجرة» أخرجه الترمذي وابن ماجه وهو صحيح.
الوقفة الثالثة
- ما حكم سجود السامع والمستمع؟
ما تقدم هو حكم سجود التلاوة في حق تالي القرآن، أما السامع فهو الذي يسمع الصوت دون أن ينصت إليه، والمستمع هو الذي ينصت للقارئ ويتابعه، قال ابن قدامة: «ويسن السجود للتالي والمستمع لا نعلم فيه خلافا»، واستدل بحديث ابن عمر قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ علينا السورة في غير الصلاة فيسجد ونسجد معه حتى لا يجد أحدنا مكانا لموضع جبهته. متفق عليه
أما السامع غير القاصد للسماع فلا يستحب له السجود لما أخرج عبد الرزاق في المصنف عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّ عُثْمَانَ، مَرَّ بِقَاصٍّ فَقَرَأَ سَجْدَةً لِيَسْجُدَ مَعَهُ عُثْمَانُ، فَقَالَ عُثْمَانُ: «إِنَّمَا السُّجُودُ عَلَى مَنِ اسْتَمَعَ» ثُمَّ مَضَى وَلَمْ يَسْجُدْ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَقَدْ كَانَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ يَجْلِسُ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ وَيَقْرَأُ الْقَاصُّ السَّجْدَةَ فَلَا يَسْجُدُ مَعَهُ، وَيَقُولُ: إِنِّي لَمْ أَجْلِسْ لَهَا، وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «إِنَّمَا السَّجْدَةُ عَلَى مَنَ جَلَسَ لَهَا، فَإِنْ مَرَرْتَ فَسَجَدُوا فَلَيْسَ عَلَيْكَ سُجُودٌ».
ويشترط لسجود المستمع سجود التالي فإذا لم يسجد فلا سجود على المستمع لحديث زيد قال: «قرأت على النبي - صلى الله عليه وسلم - (والنجم) فلم يسجد فيها «لا النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا زيد.
وقال عمر لقارئ: «كنت إمامنا لو سجدت لسجدنا معك»، وأخرج عبد الرزاق عَنْ سُلَيْمِ بْنِ حَنْظَلَةَ قَالَ: قَرَأْتُ عِنْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ السَّجْدَةَ فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: «مَا تَنْظُرُ أَنْتَ قَرَأْتَهَا، فَإِنْ سَجَدْتَ سَجَدْنَا».
ابو وليد البحيرى
2021-12-09, 12:28 PM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (64)
- الأحكام المستفادة من قصة إبراهيم عليه السلام
- حكم المعاريض
د.وليد خالد الربيع
قال -تعالى-: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ} (سورة الأنبياء:63)، أخبرنا الله -سبحانه وتعالى- في سورة الأنبياء عن جانب من حياة إبراهيم الخليل -عليه السلام-؛ حيث أقام الحجة على قومه، وألزمهم أن يقروا على أنفسهم بأنهم كانوا ظالمين بعبادة غير الله -تعالى-، وذلك حين كسر أصنامهم وترك الفأس برقبة كبيرهم، فلما سألوه أجابهم بما ذكره الله في هذه الآية، قال الشيخ ابن سعدي: «فقال إبراهيم والناس شاهدون: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} أي: كسرها غضبا عليها، لما عبدت معه، وأراد أن تكون العبادة منكم لصنمكم الكبير وحده، وهذا الكلام من إبراهيم، المقصد منه إلزام الخصم وإقامة الحجة عليه، ولهذا قال: {فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} وأراد الأصنام المكسرة اسألوها لم كسرت؟ والصنم الذي لم يكسر، اسألوه لأي شيء كسرها، إن كان عندهم نطق، فسيجيبونكم إلى ذلك، وأنا وأنتم، وكل أحد يدري أنها لا تنطق ولا تتكلم، ولا تنفع ولا تضر، بل ولا تنصر نفسها ممن يريدها بأذى».
وقد أخذ العلماء من هذه الآية (مسألة حكم المعاريض): قال القرطبي: «وكان قوله من المعاريض، وفي المعاريض مندوحة عن الكذب».
تعريف المعاريض
قال ابن الأثير: «المعاريض جمع معراض من التعريض، وهو خلاف التصريح من القول».
وفي اللسان: المعاريض: التورية بالشيء عن الشيء، والتورية: هي أن يريد المتكلم بكلامه خلاف ظاهره، قال الفيومي: «أن تطلق لفظا ظاهرا في معنى وتريد معنى آخر يتناوله ذلك اللفظ لكنه خلاف ظاهره».
حكم المعاريض
معلوم أن الكذب وهو قول مخالف للواقع محرم ومن الكبائر كما دلت عليه نصوص كثيرة، وقد يضطر المرء إلى التخلص من بعض المواقف الخطيرة أو المحرجة باستعمال المعاريض والتلاعب بالألفاظ، وهو مخرج حسن إذا لم يكن سبيلا للتوصل إلى الحرام أو أخذ حقوق الناس أو إسقاط الواجبات، فعن عمران بن حصين قال: «إنَّ في المعاريض لمندوحة عن الكذب» أي: فيها سَعَةٌ وفُسحة ما يغني عن الكذب. رواه البخاري في الأدب المفرد.
وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: «ما في المعاريض ما يغنى الرجل عن الكذب» رواه البيهقي، وقال ابن عباس: «ما أحب بمعاريض الكلام حمر النعم».
وقال النخعي: «لهم كلام يتكلَّمون به إِذا خشوا من شيء يدرؤون به عن أنفسهم».
وقال ابن سيرين: «الكلام أوسع من أن يكذب ظريف».
وقرر النووي أن التورية والتعريض ضرب من التغرير والخداع، إلا إن دعت إلى ذلك مصلحة شرعية راجحة على خداع المخاطب، أو حاجة لا مندوحة عنها إلا بالكذب، فلا بأس بالتعريض، وإن لم يكن شيء من ذلك فهو مكروه وليس بحرام، إلا أن يتوصل به إلى أخذ باطل أو دفع حقٍّ، فيصير حينئذ حرامًا.
قال ابن مفلح في الآداب الشرعية: «ومهما أمكن المعاريض حرم (الكذب)، لعدم الحاجة إذاً». ثم ذكر أن الإمام أحمد سئل المعاريض فقال: «المعاريض لا تكون في الشراء والبيع، وتصلح بين الناس» قال ابن مفلح: فلعل ظاهره أن المعاريض فيما استثنى الشرع من الكذب، ولا تجوز المعاريض في غيرها.
هل كذب إبراهيم -عليه السلام- أم ورّى؟
في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَمْ يَكْذِبْ إبْرَاهِيمُ عليه السَّلَامُ إلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ، ثِنْتَيْنِ منهنَّ في ذَاتِ اللَّهِ -عزَّ وجلَ-ّ؛ قَوْلُهُ {إِنِّي سَقِيمٌ}، وقَوْلُهُ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} وقالَ: بيْنَا هو ذَاتَ يَومٍ وسَارَةُ، إذْ أَتَى علَى جَبَّارٍ مِنَ الجَبَابِرَةِ، فقِيلَ له: إنَّ هَاهُنَا رَجُلًا معهُ امْرَأَةٌ مِن أَحْسَنِ النَّاسِ، فأرْسَلَ إلَيْهِ فَسَأَلَهُ عَنْهَا، فَقالَ: مَن هذِه؟ قالَ: أُخْتِي، فأتَى سَارَةَ قالَ: يا سَارَةُ، ليسَ علَى وجْهِ الأرْضِ مُؤْمِنٌ غيرِي وغَيْرَكِ، وإنَّ هذا سَأَلَنِي فأخْبَرْتُهُ أنَّكِ أُخْتِي، فلا تُكَذِّبِينِي» الحديث.
وقد جرى بحث بين العلماء في حقيقة ما وقع من إبراهيم عليه السلام هل هو كذب حقيقي رُخِصَ له فيه أم كان كلامه على سبيل التورية والمعاريض؟
ذكر ابن الجوزي في تفسيره القولين:
- أحدهما: أنه وإِن كان في صورة الكذب، إِلا أن المراد به التنبيه على أن من لا قدرة له، لا يصلح أن يكون إِلهاً، ومثله قول الملَكين لداود: {إِنَّ هذا أَخِي} ولم يكن أخاه {لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً}، ولم يكن له شيء، فجرى هذا مجرى التّنبيه لداود على ما فعل، أنه هو المراد بالفعل والمَثَل المضروب، ومِثْل هذا لا تسمِّيه العرب كذباً.
- والثاني: أنه من معاريض الكلام، (قال ابن حجر: «وَفِي الْحَدِيثِ إِبَاحَةُ الْمَعَارِيضِ»)
قال ابن الأنباري: كلام إِبراهيم كان صدقاً عند البحث، ومعنى قول النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: «كذب إِبراهيم ثلاث كذبات» قال قولاً يشبه الكذب في الظاهر، وليس بكذب.
قال ابن مفلح: «وقد ذهب جماعة من العلماء إِلى هذا الوجه، وأنه من المعاريض، والمعاريض لا تُذم، خصوصاً إِذا احتيج إِليها» وذكر عدة مواقف نبوية استعمل فيها التورية منها قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعجوز: «إنّ الجنّة لا يدخلها العجائز» أراد قوله -تعالى-: {إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً}، وقال لامرأة: «مَنْ زوجُك؟» فسمَّته له، فقال: «الذي في عينيه بياض؟» وقال لرجل: «إِنا حاملوك على ولد ناقة».
وقد أيد ابن حجر هذا الاتجاه فقال: «هَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِ؛ إِنَّهُ قَالَ تَوْبِيخًا لِقَوْمِهِ أَوْ تَهَكُّمًا بِهِمْ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَلِهَذَا لَمْ يُعَدَّ ذَلِكَ فِي الْكَذَبَاتِ، وَأَمَّا إِطْلَاقُهُ الْكَذِبَ عَلَى الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ فَلِكَوْنِهِ قَالَ قَوْلًا يَعْتَقِدُهُ السَّامِعُ كَذِبًا لَكِنَّهُ إِذَا حُقِّقَ لَمْ يَكُنْ كَذِبًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْمَعَارِيضِ الْمُحْتَمِلَةِ لِلْأَمْرَيْنِ فَلَيْسَ بِكَذِبٍ مَحْضٍ».
ومن قبله قال النووي: «قَالَ الْمَازِرِيُّ: أَمَّا الْكَذِبُ فِيمَا طَرِيقُهُ الْبَلَاغُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى فَالْأَنْبِيَاء ُ مَعْصُومُونَ مِنْهُ سَوَاءٌ كثيره وقليله.
قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الْكَذَبَاتِ الْمَذْكُورَةَ
وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَعْنَاهُ أَنَّ الْكَذَبَاتِ الْمَذْكُورَةَ إِنَّمَا هِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى فَهْمِ الْمُخَاطَبِ وَالسَّامِعِ، وَأَمَّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَلَيْسَتْ كَذِبًا مَذْمُومًا لِوَجْهَيْنِ:
- أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ وَرَّى بِهَا فَقَالَ فِي سَارَةَ أُخْتِي فِي الْإِسْلَامِ وَهُوَ صَحِيحٌ فِي بَاطِنِ الْأَمْرِ.
- والثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ كذبا لا تورية فِيهِ لَكَانَ جَائِزًا فِي دَفْعِ الظَّالِمِينَ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ جَاءَ ظَالِمٌ يَطْلُبُ إِنْسَانًا مُخْتَفِيًا لِيَقْتُلَهُ أَوْ يَطْلُبُ وَدِيعَةً لِإِنْسَانٍ لِيَأْخُذَهَا غَصْبًا وَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ وَجَبَ عَلَى مَنْ عَلِمَ ذَلِكَ إِخْفَاؤُهُ وَإِنْكَارُ الْعِلْمِ بِهِ، وَهَذَا كَذِبٌ جَائِزٌ بَلْ وَاجِبٌ لِكَوْنِهِ فِي دَفْعِ الظَّالِمِ فَنَبَّهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْكَذَبَاتِ لَيْسَتْ دَاخِلَةً فِي مُطْلَقِ الْكَذِبِ الْمَذْمُومِ».
وقد أيد الطبري الاتجاه الأول فقال معترضا: «وهذا قول خلاف ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أن إبراهيم لم يكذب إلا ثلاث كذبات كلها في الله»، وغير مستحيل أن يكون الله -تعالى- ذكْره أذن لخليله في ذلك، ليقرِّع قومه به، ويحتجّ به عليهم، ويعرّفهم موضع خطئهم، وسوء نظرهم لأنفسهم، كما قال مؤذّن يوسف لإخوته:{أَيَّتُه َا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} ولم يكونوا سرقوا شيئا».
وأجاب النووي بقوله: «أَمَّا إِطْلَاقُ لَفْظِ الْكَذِبِ عَلَيْهَا فَلَا يُمْتَنَعُ لِوُرُودِ الْحَدِيثِ بِهِ، وَأَمَّا تَأْوِيلُهَا فَصَحِيحٌ لَا مَانِعَ مِنْهُ».
ابو وليد البحيرى
2022-08-10, 12:59 AM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (65)
- بعض المسائل المستفادة من سورة لقمان
(حكم بر الوالدين غير المسلمين )
د.وليد خالد الربيع
قال الله -عز وجل-: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (لقمان: 14-15).
بعض المسائل المستفادة من الآيات الكريمة مسألة (حكم بر الوالدين غير المسلمين):
الوالدان سبب وجود الولد بإذن الله، وهذا السبب لا يختص بالمسلمين، بل هو سبب إنساني عام، قال ابن كثير: «لهما عليه غاية الإحسان؛ فالوالد بالإنفاق، والوالدة بالإشفاق»؛ لذا لم يقتصر بر الوالدين على الأبوين المسلمين فحسب، بل يمتد لغير المسلمين، كما قال -تعالى- في هذه الآية: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}.
لا طاعة للوالدين في الكفر والشرك
قال ابن كثير: «إن حرصا عليك كل الحرص على أن تتابعهما على دينهما، فلا تقبل منهما ذلك، ولا يمنعنك ذلك من أن تصاحبهما في الدنيا معروفا، أي: محسنا إليهما»، وقال -سبحانه-: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (العنكبوت: 8)، فدلت الآيتان أن الوالدين الكافرين اللذين يجاهدان ولدهما المسلم لحمله على الكفر والشرك لا يطاعان في معصية الله -تعالى-، ومع ذلك لهما حق البر والرفق والإحسان إليهما.
لا يختص بر الوالدين بأن يكونا مسلمين
قال القرطبي: «لا يختص بر الوالدين بأن يكونا مسلمين، بل إن كانا كافرين يبرهما ويحسن إليهما إذا كان لهما عهد، قال الله -تعالى-: {لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} وفي البخاري عن أسماء قالت: قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش ومدتهم إذ عاهدوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستفتيت النبي -صلى الله عليه وسلم فقلت إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصلها؟ قال: «نعم صلي أمك».
ضوابط بر الوالدين غير المسلمين
ولكن لبر الوالدين غير المسلمين ضوابط منها: إذا أمر الوالدان الكافران ابنهما المسلم بترك مستحب أو فعل مكروه فإن كان مرادهما توهين الدين من غير أن تتحقق لهما في ذلك مصلحة مشروعة فلا طاعة عليه لهما، أما إذا قصدا بذلك بعض مصالحهما فيجب طاعتهما.
الدعاء للوالدين الكافرين
وأما الدعاء للوالدين الكافرين فقد دل ظاهر قوله -تعالى-: {وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} على مشروعية الدعاء للوالدين مطلقا سواء أكانا مسلمين أم كافرين، في حين منع الله -تعالى- الاستغفار للمشركين في قوله -تعالى-: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}، وقد اختلف الفقهاء في التوفيق بين الآيتين على مذاهب:
المذهب الأول: أن آية الإسراء منسوخة بآية التوبة، وممن قال ذلك ابن عباس وعكرمة وقتادة.
المذهب الثاني: أن آية الإسراء مخصوصة بآية التوبة، واختلفوا في محل التخصيص:
فقال الطبري: معنى الكلام: وقل رب ارحمهما إذا كانا مؤمنين كما ربياني صغيرا.
وقال القرطبي: هو دعاء بالرحمة الدنيوية للأبوين المشركين ما داما حيين لا رحمة الآخرة.
الإنفاق على الوالدين
ومن المسائل المستفادة مسألة (حكم الإنفاق على الوالدين): قال الشيخ ابن سعدي: «فأولى الناس به، أي (الإنفاق) وأحقهم بالتقديم، أعظمهم حقا عليك، وهم الوالدان الواجب برهما، والمحرم عقوقهما، ومن أعظم برهما، النفقة عليهما، ومن أعظم العقوق، ترك الإنفاق عليهما».
وقد اتفق الفقهاء على وجوب نفقة الأصول المباشرين، وهم الآباء والأمهات على الأبناء، قال ابن المنذر: «أجمع أهل العلم على أن نفقة الوالدين الفقيرين الذين لا كسب لهما ولا مال واجبة في مال الولد»، ومما استدلوا به: قوله -تعالى-: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا}، ومن الإحسان الإنفاق عليهما عند حاجتهما، وقال -تعالى-: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}، ومن المعروف القيام بكفايتهما عند حاجتهما، وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن من أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه «أخرجه أبو داود وصححه الألباني.
نفقة الوالدين واجبة على الولد
قال الخطابي: «فيه من الفقه أن نفقة الوالدين واجبة على الولد إذا كان واجدا لها، ووجه ذلك أن قوله: «وإن ولده من كسبه» أي من المكسوب الحاصل بالجد والطلب ومباشرة الأسباب، ومال الولد من كسب الولد، فصار من كسب الإنسان بواسطة، فجاز له أكله».
وعن جابر - رضي الله عنه- أن رجلا قال: يا رسول الله إن لي مالا وولدا، وإن أبي يريد أن يجتاح مالي؛ فقال - صلى الله عليه وسلم -: «أنت ومالك لأبيك» أخرجه ابن ماجه وصححه الألباني، فأضاف مال الابن إلى الأب بلام التمليك، وظاهره يقتضي أن يكون للأب في مال ابنه حقيقة الملك، فإن لم تثبت الحقيقة فلا أقل من أن يثبت له حق التملك عند الحاجة.
شروط وجوب نفقة الأصول المباشرين على الأبناء
ولوجوب نفقة الأصول المباشرين على الأبناء شروط، منها:
- الشرط الأول: يسار المنفق: فقد ذهب عامة الفقهاء إلى أن يسار المنفق شرط لوجوب نفقة الأصول على الأبناء.
- الشرط الثاني: حاجة المنفق عليه: وذلك بأن يكون فقيرا لا مال له، فإن كان له مال لم تجب نفقته على غيره، وهذا ما ذهب إليه عامة الفقهاء؛ لأن النفقة تجب على سبيل المواساة، والموسر مستغن عن المواساة.
وذهب جمهور الفقهاء إلى أنه تجب النفقة على الأبناء ولو كان الأصل فقيرا وهو قادر على الكسب؛ لأن الشرع نهى عن إيذاء الوالدين؛ فإلزام الأب بالكسب مع غنى الولد من الإيذاء فيكون منهيا عنه، ولأنه يقبح بالإنسان أن يكلف أصله بالكسب مع اتساع ماله.
وذهب جمهور الفقهاء إلى أنه لا يشترط اتحاد الدين، فتجب نفقة الأصول ولو اختلف دينهما، ومما استدلوا به ما يلي:
1-قوله -تعالى-:{وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} قال القرطبي: «والآية دليل على صلة الأبوين الكافرين بما أمكن من المال إن كانا فقيرين».
2-عن أسماء -رضي الله عنها- قالت: قدمت أمي وهي مشركة، فاستفتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصل أمي؟ قال: «نعم صلي أمك «أخرجه البخاري، قال ابن حجر: «ويستنبط منه وجوب نفقة الأب الكافر والأم الكافرة وإن كان الولد مسلما».
ابو وليد البحيرى
2022-08-10, 01:02 AM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (66)
- بعض المسائل المستفادة من سورة لقمان
د.وليد خالد الربيع
الإحسان للوالدين
قال الله -عز وجل-: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِير} (سورة لقمان:13-14)، وصايا لقمان من حكم القرآن العظيمة، جاءت في سياق نصيحة أبوية حانية، تناولت ثوابت الدين الراسخة في العقيدة والعبادة والأخلاق مع الخالق والمخلوق، وبينت الآداب العامة والخاصة، فهي منهج حياة سوية، وخطة مجتمع رباني مستقيم، ومن المسائل المستفادة من الآيات الكريمة مسألة (الإحسان للوالدين).
والإحسان إلى الوالدين كلمة جامعة، تعني إيصال كل خير مستطاع إليهما، ومنع كل ما يمكن منعه من أذى عنهما، واقتران ذلك بالشفقة والعطف والتودد، ويوضح ابن عباس كيفية الإحسان إلى الوالدين بأنه البر بهما مع اللطف ولين الجانب، فلا يغلظ لهما في الجواب، ولا يحدّ النظر إليهما، ولا يرفع الصوت عليهما، بل يكون بين يديهما مثل العبد بين يدي السيد تذللاً لهما.
ويضاد الإحسان إلى الوالدين (العقوق)، وضبطه ابن حجر بأنه كل ما يصدر من الولد مما يتأذى به أحد الوالدين من قول أو فعل إلا ما كان في ترك طاعتهما في شرك أو معصية.
حكم بر الوالدين
وأما حكم بر الوالدين فقد تضافرت نصوص الكتاب والسنة على تأكيد هذا الحق العظيم، وبيان أنه من أعظم الواجبات على العباد بعد القيام بواجب العبودية لله -تعالى-، ومن ذلك: قوله -تعالى-: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا} (سورة الإسراء:23).
قال الشيخ ابن سعدي: «لما نهى -تعالى- عن الشرك به أمر بالتوحيد، ثم ذكر بعد حقه القيام بحق الوالدين فقال: وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا} أي: أحسنوا إليهما بجميع وجوه الإحسان القولي والفعلي؛ لأنهما سبب وجود العبد، ولهما من المحبة للولد والإحسان إليه والقرب ما يقتضي تأكد الحق ووجوب البر».
قال القرطبي: أمر الله -تعالى- بعبادته وتوحيده وجعل بر الوالدين مقرونا بذلك، كما قرن شكرهما بشكره فقال: {أن اشكر لي ولوالديك إليّ المصير}.
وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: «الصلاة على وقتها» قلت: ثم أي؟ قال: «بر الوالدين» قلت: ثم أي؟ قال: «الجهاد في سبيل الله»، قال القرطبي: «فأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن بر الوالدين أفضل الأعمال بعد الصلاة التي هي أعظم دعائم الإسلام».
وروى مسلم عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «رغم أنفه» ثلاثا، قيل: من يا رسول الله؟ قال: «من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما ثم لم يدخل الجنة».
عقوق الوالدين من أكبر الكبائر
وأما عقوق الوالدين فهو من أكبر الكبائر باتفاق الفقهاء، فقد أخرج الشيخان عن أبي بكر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟» ثلاثا، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: «الإشراك بالله وعقوق الوالدين»، وكان متكئا فجلس فقال: «ألا وقول الزور وشهادة الزور» فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت.
المسألة الثانية: ما حدود طاعة الوالدين؟
طاعة الوالدين ليست مطلقة كطاعة الله -تعالى- وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وإنما هي مقيدة بحدود، فذكر ابن حجر أنه يجب على الولد طاعة والديه فيما أمرا به من المباحات فعلا أو تركا، ما لم يترتب على طاعتهما ضرر بالغ أو هلاك محقق.
فإن أمرا بمعصية بترك واجب أو فعل محرم فلا طاعة لهما، لقوله - صلى الله عليه وسلم - «إنما الطاعة في المعروف» وقوله: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق».
إذا أمراه بترك مندوب
فإن أمرا بترك مندوب وفي ذلك مصلحة لهما، كأن يطلبا من الولد مصاحبتهما وفي ذلك تركه لقيام الليل أو قراءة القرآن، فإنه تجب طاعتهما، ودليل ذلك استجابة الله -تعالى- دعاء أم جريج في ابنها الصالح حيث عاقبه الله لعدم تلبيته لندائها، قال النووي في فقه الحديث: «فيه قصة جريج وأنه آثر الصلاة على إجابتها فدعت عليه فاستجاب الله لها، قال العلماء : هذا دليل على أنه كان الصواب في حقه أن إجابتها لأنه كان في صلاة نفل والاستمرار فيها تطوع لا واجب، وإجابة الأم وبرها واجب، وعقوقها حرام، وكان يمكنه أن يخفف الصلاة ويجيبها ثم يعود لصلاته».
إذا أمراه بترك واجب كفائي
وإذا أمراه بترك واجب كفائي كترك غسل الميت أو ترك الجهاد ونحو ذلك، فإن تعين عليه القيام بذلك العمل لعدم وجود غيره أو لأن القائمين به لا يكفي جهدهم لإقامته فلا يطاعان في ذلك، أما إذا وجد من يكفي فإنه يجب برهما وطاعتهما.
إذا وجب الجهاد على الولد
وإذا وجب الجهاد على الولد وتعين لم يعتبر إذن الوالدين؛ لأنه صار فرض عين وتركه معصية، وكذلك كل ما وجب مثل الحج وصلاة الجماعة والسفر للعلم الواجب، قال الأوزاعي: لا طاعة للوالدين في ترك الفرائض والجمع والحج والقتال؛ لأنها عبادة تعينت عليه.
أما إن كان الجهاد فرض كفاية فجمهور الفقهاء يرون وجوب استئذان الوالدين قبل الخروج وعليه ترك الخروج إذا منعاه من ذلك، ودليلهم ما رواه الشيخان عن عبد الله بن عمرو قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستأذنه في الجهاد فقال: «أحي والداك؟» قال نعم قال: «ففيهما فجاهد».
قال ابن حجر: «أي: إن كان لك أبوان فابلغ جهدك في برهما والإحسان إليهما، فإن ذلك يقوم مقام قتال العدو»، وفي رواية لأبي داود: جاء رجل فقال: جئت أبايعك على الهجرة وتركت أبوي يبكيان، قال - صلى الله عليه وسلم -: «فارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما»، وعن أبي سعيد: أن رجلا من أهل اليمن هاجر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له: «هل لك أحد باليمن؟» قال: أبوي، قال: «أذنا لك» قال: لا، قال: «فارجع إليهما فاستأذنهما، فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما» أخرجه أبو داود.
قال ابن قدامة: «لأن بر الوالدين فرض عين، والجهاد فرض كفاية، وفرض العين مقدم على فرض الكفاية».
المسألة الثالثة: كيف يبر الولد الوالدين إذا تعارض أمراهما؟
ظاهر الآية يدل على التسوية بين الأبوين في البر والقيام بحقوقهما على حد سواء، ولكن ثبت في البخاري عن أبي هريرة أن رجلا قال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: «أمك «قال: ثم من؟ قال: «أمك «قال: ثم من؟ قال: «أمك» قال: ثم من؟ قال: «أبوك».
قال القرطبي: فهذا الحديث يدل على أن محبة الأم والشفقة عليها ينبغي أن تكون ثلاثة أمثال محبة الأب، لذكر النبي صلى الله عليه وسلم الأم ثلاث مرات وذكر الأب في الرابعة فقط، وذلك أن صعوبة الحمل وصعوبة الوضع وصعوبة الرضاع والتربية تنفرد بها الأم دون الأب، فهذه ثلاث منازل يخلو منها الأب.
وبناء على هذا إذا تعارض أمراهما وأمكن الجمع بين الحقين فذاك، فإن تعذر الجمع بينهما ينظر:
فإن كان أحدهما يأمر بطاعة والآخر يأمر بمعصية، فيقدم طاعة من أمر بالطاعة؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وإن كانا يأمران بطاعة أو مباح فحق الأم مقدم على الأب، ومن ذلك لو وجبت النفقة على الولد لأبويه ولم يقدر إلا على نفقة أحدهما، فتقدم الأم على الأب عند الجمهور؛ لما لها من عظيم الحق، ولأنها أضعف وأعجز.
ابو وليد البحيرى
2022-08-10, 01:08 AM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (67)
- بعض الأحكام المستفادة من قصة لوط عليه السلام
د.وليد خالد الربيع
- حكم الهجرة
قال -سبحانه وتعالى-: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (سورة العنكبوت:26) من المسائل المستفادة من الآية الكريمة (حكم الهجرة)، قال الشنقيطي: «وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تُشِيرُ إِلَى هِجْرَةِ إِبْرَاهِيمَ وَمَعَهُ لُوطٌ مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ إِلَى الشَّامِ فِرَارًا بِدِينِهِمَا»، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ -تَعَالَى-: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} هَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ فِي الْهِجْرَةِ وَالْعُزْلَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ».
أولاً: تعريف الهجرة
- الهجرة في اللغة: هي الِانْتِقَال مِنْ مَوْضِع إِلَى مَوْضِع.
- وفي الاصطلاح: هي الانتقال من دار الكفر إلى دار الإسلام.
ثانيا: أنواع الهجرة
- يتبادر إلى الذهن ويغلب على التصور أن الهجرة حقيقة واحدة، وقد ذكر ابن القيم أن الهجرة هجرتان:
- الأولى: هجرة بالجسم من بلد إلى بلد.
- والثانية: الهجرة بالقلب إلى الله ورسوله، فيهاجر بقلبه من محبة غير الله إلى محبته، ومن عبودية غيره إلى عبوديته، ومن خوف غيره إلى خوفه.
ويوضح الشيخ ابن سعدي تفصيل الحكم بقوله: «وفسر - صلى الله عليه وسلم - الهجرة التي هي فرض عين على كل مسلم بأنها هجرة الذنوب والمعاصي يعني حديث: «المهاجر من هجر ما نهى الله عنه»، وهذا الفرض لا يسقط عن كل مكلف في كل حال من أحواله؛ فإن الله حرم على عباده انتهاك المحرمات، والإقدام على المعاصي.
والهجرة الخاصة التي هي الانتقال من بلد الكفر أو البدع إلى بلد الإسلام والسنة جزء من هذه الهجرة وليست واجبة على كل أحد، وإنما تجب بوجود أسبابها المعروفة.
ثالثاً: حكم الهجرة
ذهب عامة العلماء إلى أن حكم الهجرة باق إلى يوم القيامة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها «رواه أحمد، وأبو داود، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تنقطع الهجرة ما قوتل العدو» أخرجه النسائي وصححه الألباني.
ووجه الدلالة من الحديثين ظاهر؛ حيث قرر - صلى الله عليه وسلم - بقاء حكم الهجرة ما بقيت التوبة وبقي الجهاد، وكلاهما محكم غير منسوخ، مما يدل على أن حكم الهجرة أيضا غير منسوخ.
حكم هجرة المسلم من دار الكفر
وفي المسألة تفصيل ذكره العلماء في حكم هجرة المسلم من دار الكفر مراعين بذلك وضع المسلم وقدرته، على النحو الآتي:
الأول: من تجب عليه الهجرة
وهو من يقدر عليها، ولا يمكنه إظهار دينه، ولا تمكنه إقامة واجبات دينه مع المقام بين الكفار، فهذا تجب عليه الهجرة لقوله -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (النساء:97)، وهذا وعيد شديد يدل على الوجوب، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - : «أنا بريء من مسلم بين مشركين، لا تراءى ناراهما «أخرجه أبو داود وصححه الألباني، ومعناه: لا يكون بموضع يرى نارهم ويرون ناره إذا أوقدت، ولأن القيام بواجب دينه واجب على من يقدر عليه، والهجرة من ضرورة الواجب وتتمته، ومالا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
الثاني: من لا تجب الهجرة عليه
وهو من يعجز عنها إما لمرض أو إكراه على الإقامة أو ضعف من النساء والولدان وشبههم، فهذا لا هجرة عليه، لقوله -تعالى-: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِ ينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} (سورة النساء:98)، قال ابن عباس: «كنت أنا وأمي من المستضعفين ممن عذر الله، هي من النساء وأنا من الولدان». أخرجه البخاري.
الثالث: من تستحب له ولا تجب عليه
وهو من يقدر عليها، لكنه يتمكن من إظهار دينه وإقامته في دار الكفر، فتستحب له ليتمكن من جهادهم وتكثير المسلمين ومعونتهم، ويتخلص من تكثير الكفار ومخالطتهم ورؤية المنكر بينهم، ولا تجب عليه لإمكان إقامة واجب دينه دون الهجرة، وقد كان العباس عم النبي - صلى الله عليه وسلم - مقيما بمكة مع إسلامه.
ومما يستدل به أيضا:
1- عن أبي سعيد الخدري أن أعرابيا أتى النبي فسأله عن الهجرة فقال: «ويحك إن الهجرة شأنها شديد، فهل لك من إبل؟» قال: نعم، قال: «فتعطي صدقتها؟» قال: نعم قال: «فهل تمنح منها؟» قال: نعم قال: «فتحلبها يوم ورودها؟» قال: نعم قال: «فاعمل من وراء البحار فإن الله لن يترك من عملك شيئا». متفق عليه، ووجه الدلالة من الحديث ظاهر؛ حيث لو كانت الهجرة واجبة عليه لما صرفه النبي - صلى الله عليه وسلم - عنها.
2- أخرج مسلم عن بريدة قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمَّر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال: «اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله» إلى أن قال: «ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين» الحديث أخرجه مسلم.
قال النووي: «معنى هذا الحديث أنهم إذا أسلموا استحب لهم أن يهاجروا إلى المدينة، فإن فعلوا ذلك كانوا كالمهاجرين قبلهم في استحقاق الفيء والغنيمة وغير ذلك، وإلا فهم أعراب كسائر أعراب المسلمين الساكنين في البادية من غير هجرة ولا غزو».
الهجرة في أول الإسلام
ومما يزيد الأمر وضوحا أن الهجرة كانت في أول الإسلام واجبة لنصرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبعد فتح مكة سقط الوجوب فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا هجرة بعد الفتح» متفق عليه، قال ابن قدامة: «أراد بها لا هجرة بعد الفتح من بلد قد فتح»، وقال النووي: «معناه: لا هجرة بعد الفتح فضلها كفضلها قبل الفتح، كما قال الله تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا}. وأخرج البخاري عن عطاء بن أبي رباح قال: زرت عائشة مع عبيد بن عمير الليثي، فسألناها عن الهجرة فقالت: «لا هجرة اليوم، كان المؤمنون يفر أحدهم بدينه إلى الله -تعالى- وإلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - مخافة أن يفتن عليه، أما اليوم فقد أظهر الله الإسلام، واليوم يعبد ربه حيث شاء، ولكن جهاد ونية».
قال ابن حجر: «أشارت عائشة -رضي الله عنها- إلى بيان مشروعية الهجرة، وأن سببها خوف الفتنة، والحكم يدور مع علته، فمقتضاه أن من قدر على عبادة الله في أي موضع لم تجب عليه الهجرة منه، وإلا وجبت، ومن ثم قال الماوردي: إذا قدر على إظهار الدين في بلد من بلاد الكفر فقد صارت البلد به دار إسلام، فالإقامة فيها أفضل من الرحلة منها، لما يرتجي من دخول غيره في الإسلام».
وقال الخطابي: «كانت الهجرة أي: إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في أول الإسلام مطلوبة، ثم افترضت لما هاجر إلى المدينة إلى حضرته للقتال معه وتعلم شرائع الدين، وقد أكد الله ذلك في آيات عدة حتى قطع الموالاة بين من هاجر ومن لم يهاجر فقال -تعالى-: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا}، فلما فتحت مكة ودخل الناس في الإسلام من جميع القبائل سقطت الهجرة الواجبة وبقي الاستحباب».
ابو وليد البحيرى
2022-08-29, 11:55 PM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (68)
- بعض المسائل المستفادة من سورة لقمان
- مدة الرضاع ووقت فطام الرضيع
د.وليد خالد الربيع
قال الله -عز وجل-: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} (سورة لقمان: 14)، من المسائل المستفادة من الآية الكريمة مدة الرضاع ووقت فطام الرضيع. قال ابن كثير: «وقوله: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} أي: تربيته وإرضاعه بعد وضعه في عامين، كما قال -تعالى-: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (البقرة: 233)، ومن هاهنا استنبط ابن عباس وغيره من الأئمة أن أقل مدة الحمل ستة أشهر؛ لأنه قال -تعالى- في الآية الأخرى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} (الأحقاف:15)، قال القرطبي: «الْفِصَال وَالْفَصْل: الْفِطَام، وَأَصْله التَّفْرِيق، فَهُوَ تَفْرِيق بَيْن الصَّبِيّ وَالثَّدْي، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْفَصِيل، لِأَنَّهُ مَفْصُول عَنْ أُمّه.
ما تعريف الرضاع؟
الرضاع في اللغة: هو شرب اللبن من الضرع أو الثدي.
وفي الاصطلاح: هو اسم لوصول لبن امرأة أوما حصل من لبنها في جوف طفل بشروط مخصوصة.
ما مدة الرضاعة؟
لا خلاف بين الفقهاء في أن مدة الرضاع حولان كاملان، وفطام الطفل قبل ذلك حق للوالدين معا بشرط عدم الإضرار بالطفل، فالتحديد بالعامين ليس تقديرا شرعيا حتميا لا يجوز الزيادة أو النقص منه، فعند اتفاق الزوجين على الفطام قبل ذلك أو بعده فلا مانع ما لم يضر ذلك بالرضيع، وعند الاختلاف كما لو كان الأب يريد الفطام مبكرا لتقليل النفقات، أو كانت الأم تريد تأخير الفطام لزيادة نفقة الرضاعة فهنا يلزم الأبوان بالمدة المقررة شرعا وهي الحولان.
قال القرطبي: «قوله -تعالى-: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} دَلِيل عَلَى أَنَّ إِرْضَاع الْحَوْلَيْنِ لَيْسَ حَتْمًا، فَإِنَّهُ يَجُوز الْفِطَام قَبْل الْحَوْلَيْنِ، وَلَكِنَّهُ تَحْدِيد لِقَطْعِ التَّنَازُع بَيْن الزَّوْجَيْنِ فِي مُدَّة الرَّضَاع، فَلا يَجِب عَلَى الزَّوْج إِعْطَاء الْأُجْرَة لِأَكْثَر مِنْ حَوْلَيْنِ. وَإِنْ أَرَادَ الْأَب الْفَطْم قَبْل هَذِهِ الْمُدَّة وَلَمْ تَرْضَ الْأُمّ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَالزِّيَادَة عَلَى الْحَوْلَيْنِ أَوْ النُّقْصَان إِنَّمَا يَكُون عِنْد عَدَم الْإِضْرَار بِالْمَوْلُودِ وَعِنْد رِضَا الْوَالِدَيْنِ» .
رضاع الطفل من غير أمه
وهنا تأتي مسألة أخرى متعلقة بمدة الرضاع، وهي رضاع الطفل من غير أمه وما يتبع ذلك من أحكام الرضاع المحرم الذي ينشر المحرمية بين المرضع والطفل الرضيع، وهي مسألة كثيرة الفروع، عديدة الشروط.
شرط (مدة الرضاع)
وموضع البحث هنا عن شرط (مدة الرضاع) التي تثبت بها الحرمة، وهو موضع خلاف بين الفقهاء على مذاهب:
المذهب الأول
يشترط ألا يبلغ الطفل حولين، فمتى بلغ حولين فلا أثر لارتضاعه، وهو قول الشافعية والحنابلة والصاحبين من الحنفية، ونسب القرطبي هذا القول للإمام مالك وَهُوَ قَوْل عُمَر وَابْن عَبَّاس، وَرُوِيَ عَنْ اِبْن مَسْعُود، ومما استدلوا به:
1- قوله -تعالى-: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين} قال القرطبي: «اِنْتَزَعَ مَالِك -رَحِمَهُ اللَّه تعالى- وَمَنْ تَابَعَهُ وَجَمَاعَة مِنْ الْعُلَمَاء مِنْ هَذِهِ الْآيَة أَنَّ الرَّضَاعَة الْمُحَرِّمَة الْجَارِيَة مَجْرَى النَّسَب إِنَّمَا هِيَ مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّهُ بِانْقِضَاءِ الْحَوْلَيْنِ تَمَّتْ الرَّضَاعَة، وَلَا رَضَاعَة بَعْد الْحَوْلَيْنِ مُعْتَبَرَة، وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَلا حُكْم لِمَا اِرْتَضَعَ الْمَوْلُود بَعْد الْحَوْلَيْنِ».
2- قوله -تعالى-:{وفصاله في عامين} قال القرطبي: «أَيْ: وَفِصَاله فِي اِنْقِضَاء عَامَيْنِ، وَالْمَقْصُود مِنْ الْفِصَال الْفِطَام، فَعَبَّرَ بِغَايَتِهِ وَنِهَايَته».
3- عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: «لَا رَضَاع إِلَّا مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ» أخرجه الدارقطني.
4- عن عمر - رضي الله عنه - قال: «لا رضاع إلا في الحولين في الصغر» أخرجه الدارقطني.
المذهب الثاني
يرى أصحاب هذا المذهب أنه لا يضر زيادة شهرين على الحولين. وهو قول المالكية.
المذهب الثالث
يرى أصحاب هذا المذهب أنَّ أكثر مدة للرضاع المحرم سنتان ونصف، وهو قول أبي حنيفة، لقوله -تعالى-: {وحمله وفصاله ثلاثون شهرا}، ووجه الدلالة من الآية أن الله -تعالى- ذكر شيئين: الحمل والفصال، وضرب لهما مدة ثلاثين شهرا، وكل ما كان كذلك كانت المدة لكل واحد منهما بكاملها، كالأجل المضروب للدينين على شخصين بأن قال الدائن: أجلت الدين الذي لي على فلان والدين الذي على فلان سنة، يفهم منه أن السنة بكمالها لكل منهما.
ونوقش بما قاله ابن قدامة: «وقول أبي حنيفة تحكم يخالف ظاهر الكتاب وقول الصحابة، فقد روينا عن علي وابن عباس أن المراد بالحمل حمل البطن، وبه استدل على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، وقد دل على هذا قوله -تعالى-:{وفصاله في عامين}، فلو حمل على ما قاله أبو حنيفة لكان مخالفا لهذه الآية».
المذهب الرابع
يرى أصحاب هذا المذهب أنَّ رضاع الكبير يحرم، فلو رضع بعد الحولين تنشر المحرمية بينهما، وهو قول عائشة - رضي الله عنها - وعطاء والليث والظاهرية وقال به شيخ الإسلام ابن تيمية عند الحاجة، ودليلهم حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: جاءت سهلة بنت سهيل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله إن سالما قد بلغ ما يبلغ الرجال، وعقل ما عقلوا، وإنه يدخل علينا، وإني أظن أن في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئا فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أرضعيه تحرمي عليه، ويذهب الذي في نفس أبي حذيفة»، فرجعت فقالت: إني قد أرضعته فذهب الذي في نفس أبي حذيفة. أخرجه مسلم، قال القاضي عياض: «لعلها حلبته ثم شربه من غير أن يمس ثديها ولا التقت بشرتاهما».
ونوقش هذا الاستدلال بما قاله ابن قدامة: «يتعين حمل خبر أبي حذيفة على أنه خاص له دون سائر الناس، كما قال أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -»، كما جاء في صحيح مسلم عن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أبى سائر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدخلن عليهن أحدا بتلك الرضاعة، وقلن لعائشة: والله ما نرى هذا إلا رخصة أرخصها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسالم خاصة، فما هو بداخل علينا أحد بهذه الرضاعة ولا رائينا».
رجحان المذهب الأول
والذي يظهر هو رجحان المذهب الأول لقوة أدلتهم وسلامتها من المعارضة وضعف أدلة المخالفين، وقد جاءت نصوص شرعية تدل على أن رضاع الكبير لا يؤثر في المحرمية بالرضاع منها:
1-عن أم سلمة أنه - رضي الله عنها - قال: «لا يحرم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء في الثدي، وكان قبل الفطام» أخرجه الترمذي وصححه الألباني صحيح الترمذي1/338، ومعنى قوله: «في الثدي» أي في وقت الحاجة إلى الثدي أي في الحولين، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «إن ابني إبراهيم مات في الثدي» أي وهو في زمن الرضاع.
2- عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يحرم من الرضاع إلا ما أنبت اللحم وأنشر العظم» أخرجه مالك.
3- عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنما الرضاعة من المجاعة» أخرجه البخاري.
فهذه الأحاديث تدل على أن الرضاع الذي تثبت به المحرمية هو الذي يكون في الصغر قبل الفطام؛ حيث يسد اللبن جوع الصغير، وينمو منه عظمه ولحمه.
ابو وليد البحيرى
2022-11-01, 12:38 PM
من أ الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (69)
- بعض الأحكام المستفادة من قصة موسى عليه السلام
- الألفاظ الت
د.وليد خالد الربيع
قال -تعالى-: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} (سورة القصص:27) من المسائل الفقهية المستفادة من الآية الكريمة (مسألة الألفاظ التي ينعقد بها النكاح). فمن المعلوم أن الرضا شرط لصحة العقود والتصرفات كما قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} (النساء: 29)، وفي الحديث:»إنما البيع عن تراض» أخرجه ابن ماجه وصححه الألباني، ومن ضمن ذلك عقد النكاح بل هو أولى بهذا الشرط لما فيه من استباحة الأعراض والاطلاع على العورات وما يتبعه من آثار خطيرة تتعلق بالأفراد والأسر، والرضا أمر قلبي يعبر عنه اللسان بما يعرف بصيغة العقد.
صيغة العقد
فصيغة العقد: هي ما صدر من المتعاقدين من قول أو فعل يدل على الرضا بالعقد. ولها حالان:
الحال الأولى
أن يكون الإيجاب والقبول بلفظ الإنكاح أو التزويج وما اشتق منهما: كأن يقول الولي: زوجتك ابنتي أو أنكحتك ابنتي، فيقول الخاطب قبلت، أو يقول الخاطب: تزوجت ابنتك أو نكحت ابنتك، فيقول الولي: قبلت، وهذه الصيغة ينعقد بها الزواج بالإجماع، قال ابن قدامة:» وَيَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِلَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ. وَالْجَوَابُ عَنْهُمَا إجْمَاعًا». وعلل ذلك بأنهما اللفظان اللَّذَانِ وَرَدَ بِهِمَا نَصُّ الْكِتَابِ فِي قَوْلِهِ -سُبْحَانَهُ-: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا } (الأحزاب: 37)، وَقَوْلِهِ -سُبْحَانَهُ-: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (النساء: 22).
الحال الثانية
أن يكون الإيجاب والقبول بلفظ غير هذين اللفظين: كأن يقول الولي: ملكتك ابنتي، أو وهبتك ابنتي، أو أعطيتك ابنتي ونحو ذلك من ألفاظ، وهنا اختلف الفقهاء في انعقاد الزواج بمثل هذه الألفاظ:
المذهب الأول
لَا يَنْعَقِدُ بِغَيْرِ لَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ
وَبِهَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَرَبِيعَةُ، وَالشَّافِعِية والحنابلة، لخبر مُسْلِمٍ: «اتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَ ّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُ مْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ»، قَال في مغني المحتاج: «وَ(كَلِمَةُ اللَّهِ) هِيَ التَّزْوِيجُ أَوْ الْإِنْكَاحُ، فَإِنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ سِوَاهُمَا فَوَجَبَ الْوُقُوفُ مَعَهُمَا تَعَبُّدًا وَاحْتِيَاطًا؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ يَنْزَعُ إلَى الْعِبَادَاتِ لِوُرُودِ النَّدْبِ فِيهِ، وَالْأَذْكَارُ فِي الْعِبَادَاتِ تُتَلَقَّى مِنْ الشَّرْعِ، وَالشَّرْعُ إنَّمَا وَرَدَ بِلَفْظَيْ التَّزْوِيجِ وَالْإِنْكَاحِ» .
لفظ الهبة في النكاح
وَذهب ابن قدامة إلى أن لفظ الهبة في النكاح خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - كما في قَوْله -تعالى-: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} (الأحزاب: 50). فَذَكَرَ ذَلِكَ خَالِصًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم .
وعلل بأَنَّ غير لفظ الإنكاح أو التزويج غير صريح في الدلالة على إرادة عقد النكاح ويحتمل غيره فلم ينعقد به، وَأيضا لِأَنَّ الشَّهَادَةَ شَرْطٌ فِي النِّكَاحِ، وَالْكِنَايَةُ إنَّمَا تُعْلَمُ بِالنِّيَّةِ، وَلَا يُمْكِنُ الشَّهَادَةُ عَلَى النِّيَّةِ، لِعَدَمِ اطِّلَاعِهِمْ عَلَيْهَا، فَيَجِبُ أَنْ لَا يَنْعَقِدَ، وَبِهَذَا فَارَقَ بَقِيَّةَ الْعُقُودِ وَالطَّلَاقَ.
وذكر القرطبي أن أصحاب الشافعي استدلوا بقول الرجل الصالح لموسى -عليه السلام- في الآية:{إني أريد أن أنكحك} على أن النكاح موقوف على لفظ التزويج والإنكاح، ورد عليهم بأنه لا حجة لهم في الآية؛ لأنه شرع من قبلنا، وهم لا يرونه حجة في شيء في المشهور عندهم.
وقال ابن العربي في الرد عليهم:» هذه الآية فيها أن النكاح بلفظ الإنكاح وقع، وامتناعه بغير لفظ النكاح لا يؤخذ من هذه الآية ولا يقتضيه بظاهرها ولا ينظر منها، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قال في الحديث:»قد ملكتكها بما معك من القرآن» وروي:»أمكناكها بما معك من القرآن» وكل منهما في البخاري، وهذا نص».
وأما دعوى الخصوصية فالجواب أن الذي خص به النبي - صلى الله عليه وسلم - خلو النكاح من العوض لا النكاح بلفظ الهبة.
المذهب الثاني
يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْبَيْعِ وَالتَّمْلِيكِ ما دام يقصد عقد النكاح الشرعي
وَبه قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَدَاوُد والحنفية والمالكية، قال القرطبي:» وقال علماؤنا أي المالكية في المشهور: ينعقد النكاح بكل لفظ، وقال أبو حنيفة: ينعقد بكل لفظ يقتضي التمليك على التأبيد».
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:»إنَّ أصَحَّ قولَيِ العلماء أنَّه (أي: النكاح) ينعقِدُ بكلِّ لَفظٍ دَلَّ عليه، لا يختَصُّ بلفظِ الإنكاحِ والتزويجِ، وهذا مذهَبُ جمهورِ العلماءِ، كأبي حنيفة، ومالك، وهو أحدُ القولينِ في مذهبِ أحمدَ». ومما استدلوا به:
1- أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - زَوَّجَ رَجُلًا امْرَأَةً، وقَالَ:» قَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وهو ظاهر الدلالة على المقصود حيث عقد النبي - صلى الله عليه وسلم - عقد النكاح بلفظ التمليك وهو غير لفظ الإنكاح والتزويج مما يدل على جواز ذلك.
2- وَلِأَنَّهُ أي التزويج بالهبة لَفْظٌ يَنْعَقِدُ بِهِ تَزْوِيجُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، كما دلت عليه الآية المتقدمة، فَانْعَقَدَ بِهِ نِكَاحُ أُمَّتِهِ، كَلَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ.
3- واستدل ابن القيم بأن ألفاظ العقود ليست توقيفية كألفاظ بعض العبادات، فقال:»كذلك عقدُ النِّكاح، وليس ذلك من العباداتِ التي تعبَّدَنا الشارعُ فيها بألفاظ لا يقومُ غيرُها مقامَها، كالأذانِ، وقراءة الفاتحةِ في الصلاة، وألفاظِ التشهد، وتكبيرة الإحرام، وغيرها، بل هذه العقودُ تقع من البَرِّ والفاجر، والمسلِم والكافِرِ، ولم يتعبَّدْنا الشَّارعُ فيها بألفاظٍ معينة، فلا فرقَ أصلًا بين لفظِ الإنكاح والتزويج وبين كلِّ لفظٍ يدُلُّ على معناها».
وتمسك الشيخ ابن عثيمين بالإطلاق الوارد في النصوص الشرعية كقوله -تعالى-: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء}(النساء:3) قال الشيخ: «فأطلق النكاح، وعلى هذا فكل ما سمي نكاحا عرفا فهو نكاح، ولم يقل: فانكحوا ما طاب لكم من النساء بلفظ الإنكاح أو التزويج»، وضرب مثلا لذلك بالبيع في قوله -تعالى-: {وأحل الله البيع}(البقرة:275) فهو مطلق، وهم يجيزون البيع بكل لفظ دل عليه عرفا وبالمعاطاة ولم يقيدوا ذلك بلفظ البيع كما جاء بالآية الكريمة، فكذلك النكاح.
واستدل أيضا بالأصول المستقرة فقال: «ليس هناك دليلٌ، لا في القرآنِ، ولا في السُّنَّة أنَّه لا يصِحُّ النِّكاح إلا بهذا اللفظ» وقرر القاعدة الكلية وهي: أنَّ جميع العقود تنعَقِدُ بما دلَّ عليها عُرفًا، سواءٌ كانت باللفظ الوارد أو بغيرِ اللفظ الوارد، وسواءٌ كان ذلك في النِّكاحِ أو في غير النِّكاح، هذا هو القَولُ الصحيحُ».
ابو وليد البحيرى
2022-11-01, 12:45 PM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (70)
- بعض الأحكام المستفادة من قصة لوط عليه السلام
- اختلاف الفقهاء في
د.وليد خالد الربيع
تقدم في المقالة السابقة ذكر اختلاف الفقهاء في حكم صناعة التماثيل الكاملة لذوات الأرواح، وترجح القول بالحرمة، ويستثنى من ذلك لعب الأطفال فقط، وهو مذهب عامة الفقهاء، وقد اختلف الفقهاء في علة منع التصوير، على مذاهب لخصها د. محمد واصل في رسالته الجامعية (أحكام التصوير في الفقه الإسلامي) نذكرها في هذه المقالة.
المذهب الأول
العلة هي المضاهاة لخلق الله -تعالى-، وتشبيه فعل المخلوق بفعل الخالق، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يشبهون بخلق الله».
المذهب الثاني
العلة هي كون التصوير وسيلة إلى الغلو وعبادة غير الله، وذلك لحديث ابن عباس - رضي الله عنه - في تفسير ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسرا، قال: «هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون إليها أنصابا وسموهم بأسمائهم، ففعلوا، فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت».أخرجه البخاري، ولقوله - صلى الله عليه وسلم-: «إن أولئك كانوا إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا تلك الصور» متفق عليهقال الخطابي: «إنما عظمت عقوبة المصور؛ لأن الصور كانت تعبد من دون الله، ولأن النظر إليها يفتن، وبعض النفوس إليها تميل».
المذهب الثالث
العلة هي المنع من دخول الملائكة، لقوله - صلى الله عليه وسلم-: «إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه تماثيل أو صورة»، والامتناع هنا بسبب الصور المحرمة التي يحرم اقتناؤها، بخلاف الصور الممتهنة أو الضرورية، لأن مثل هذه الصور وجدت في بيته - صلى الله عليه وسلم - كما قالت عائشة لما قطعت الستر وجعلته وسادتين توطآن قالت: «فقد رأيته متكئا على إحداهما، وفيها صورة».
المذهب الرابع
العلة هي التشبه بفعل المشركين الذين يصنعون الصور والتماثيل ويعبدونها من دون الله -تعالى-، ولو لم يقصد المصور ذلك، ولو لم تعبد الصور التي صورها؛ إذ يكفي أن الحال شبيهة بالحال، كما نهينا عن الصلاة في أوقات النهي؛ لأن الكفار يسجدون للشمس حينئذ؛ فنهينا عن الصلاة ولو لم نقصد ذلك؛ لما تجره المشابهة إلى الموافقة.
الحالة الثانية: صناعة التماثيل الناقصة أو المشوهة
ذهب عامة الفقهاء إلى جواز صناعة تماثيل ذوات الأرواح إذا كانت مقطوعة الرأس قطعا كاملا يزيل الرأس عن الجسد؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم-: «الصورة الرأس، فإذا قطع فلا صورة»، وقول جبريل -عليه السلام- للنبي - صلى الله عليه وسلم-: «فمر برأس التمثال فيقطع فيصير كهيئة الشجرة».واختلفو في حكم صناعة التماثيل إذا كان الرأس باقيا، وكانت الصورة ناقصة عضوا مما لا تبقى الحياة بفقده على مذهبين:
المذهب الأول
يحرم مطلقا ما دام الرأس باقيا، ودليلهم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن الصورة إذا قطع رأسها كان باقيها كهيئة الشجرة، مما يدل على أن المسوغ لبقائها هو خروجها عن شكل ذوات الأرواح ومشابهتها للجمادات، والصورة إذا قطع أسفلها فقط لا تكون كذلك لبقاء الرأس فيها.
المذهب الثاني
تباح الصورة لو قطع منها أي عضو لا يمكن بقاء الحياة مع فقده، ودليلهم: قياس بقية الأعضاء على الرأس بجامع أن الحياة لا تبقى مع فقد كل منها. ويجاب: بأن الرأس فيه الوجه وهو أشرف الأعضاء ومجمع المحاسن، وهو أعظم فارق بين الحي والجماد، وبطمسه تذهب بهجة الصورة، فغير الرأس لا يساويه، وقياس غيره عليه قياس مع الفارق.
وبهذا يظهر رجحان المذهب الأول لقوة أدلتهم وسلامتها من المناقشة، ولاسيما وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الصورة الرأس».
الحالة الثالثة: صناعة الصور المسطحة مما يوطأ ويمتهن كالسجاد والفرش
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على مذهبين:
المذهب الأول: التحريم مطلقا
ودليلهم ما يلي:1-عموم الأحاديث الدالة على وعيد المصورين.2-عن جابر - رضي الله عنه - قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصورة في البيت، ونهى أن يصنع ذلك (أخرجه أحمد)، والإطلاق صريح ولم يرد ما يقيد ذلك بنية المضاهاة أو نية العبادة أو التعظيم.
المذهب الثاني: يجوز ذلك وهو خلاف الأولى.
ودليلهم ما يلي:1- حديث الشيخين عن بسر بن سعيد حدثه أن زيد بن خالد الجهني حدثه ومع بسر عبيد الله الخولاني أن أبا طلحة حدثه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة»، قال بسر: فمرض زيد بن خالد، فعدناه فإذا نحن في بيته بستر فيه تصاوير، فقلت لعبيد الله الخولاني: ألم يحدنا في التصاوير؟ قال: إنه قال: «إلا رقما في ثوب» ألم تسمعه؟ قلت: لا، قال: بلى قد ذكر ذلك».فهذا الحديث مخصص للنصوص العامة في النهي عن التصوير.ويجاب: بأنه يحتمل أن المراد بالاستثناء ما كانت الصور فيه من غير ذوات الأرواح، أو أن الجواز كان قبل النهي عن التصوير. وهناك فرق بين الصناعة والاستعمال، فيحرم التصوير ويباح الاستعمال إذا كان مهانا، قال العلامة ابن باز: «الصورة التي تكون في البسط ونحوها فيداس ويمتهن كالوسائد فهذا معفو عنه؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عفا عنه، والمقصود العفو عن استعماله أما التصوير فلا يجوز».المسألة الرابعة: ما حكم اقتناء الصور؟ اقتناء الصور على أنواع:
النوع الأول: أن تكون الصورة مجسمة
أي ذات جسم فاقتناؤها حرام، وقد نقل ابن العربي الإجماع عليه، وقال: هذا الإجماع محله في غير لعب البنات. قال النووي: «وأما اتخاذ المصور فيه صورة حيوان فإن كان معلقا على حائط أو ثوبا ملبوسا أو عمامة ونحو ذلك مما لا يعد ممتهنا فهو حرام، وإن كان في بساط يداس ومخدة ووسادة ونحوها مما يمتهن فليس بحرام». قال: «ولا فرق في هذا كله بين ماله ظل وما لا ظل له، هذا تلخيص مذهبنا في المسألة وبمعناه قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم».
النوع الثاني: أن تكون الصورة غير مجسمة
بأن تكون رقمًا على شيء، فهذه أقسام:
1- أن تكون معلقة على سبيل التعظيم، فهذا حرام؛ لما فيه من الغلو بالمخلوق. 2- أن تكون معلقة على سبيل الذكرى، فهذه محرمة أيضا لحديث البخاري عن أبي طلحة قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة».
3- أن تكون معلقة على سبيل التجميل والزينة، فهذه محرمة أيضا لحديث عائشة قالت: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سفر وقد سترت بقرام لي على سهوة لي فيها تماثيل فلما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هتكه وقال: «أشد الناس عذبا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله» قالت: فجعلته وسادة أو وسادتين. 4- أن تكون ممتهنة كالصورة التي تكون في البساط والوسادة، فنقل النووي عن جمهور العلماء من الصحابة والتابعين جوازها. 5- أن تكون مما تعم به البلوى ويشق التحرز منه كالصور المنقوشة على النقود وغيرها، فالذي يظهر أن هذا لا حرج فيه.
ابو وليد البحيرى
2022-11-15, 11:07 AM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (71)
- بعض الأحكام المستفادة من قصة داود وسليمان -عليهما السلام
- حكم صلاة الضحى
قال -تعالى-: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ. إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ} (سورة ص: 17-18)، قال الشيخ ابن سعدي: «لما أمر اللّه رسوله بالصبر على قومه، أمره أن يستعين على الصبر بالعبادة للّه وحده، ويتذكر حال العابدين، ومن أعظم العابدين، نبي اللّه داود عليه الصلاة والسلام {ذَا الْأَيْدِ} أي: القوة العظيمة على عبادة اللّه -تعالى-، في بدنه وقلبه {إِنَّهُ أَوَّابٌ} أي: رجَّاع إلى اللّه في جميع الأمور بالإنابة إليه. ومن شدة إنابته لربه وعبادته، أن سخر اللّه الجبال معه، تسبح معه بحمد ربها {بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ} أول النهار وآخره»، فمن المسائل المستفادة من الآية الكريمة (حكم صلاة الضحى)
قال ابن العربي في قوله -تعالى-: (العشيّ والإشراق): «والأصح ها هنا أنها صلاة الضحى والعصر».
تعريف صلاة الضحى
الضحى يطلق على الوقت ما بين ارتفاع الشمس إلى زوالها، وصلاة الضحى: الصلاة التي تؤدى في هذا الوقت تطوعا. فعن عبد الله بن الحارث: «أن ابن عباس كان لا يصلي الضحى. قال: فأدخلته على أم هانئ، فقلت: أخبري هذا بما أخبرتني به فقالت أم هانئ: دخل عليّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح في بيتي، فأمر بماء، فصب في قصعة، ثم أمر بثوب، فأخذ بيني وبينه، فاغتسل، ثم رش ناحية البيت، فصلى ثمان ركعات، وذلك من الضحى، قيامهن وركوعهن وسجودهن وجلوسهن سواء، قريب بعضهن من بعض. فخرج ابن عباس وهو يقول: لقد قرأت ما بين اللوحين، ما عرفت صلاة الضحى إلا الآن: {يسبحن بالعشي والإشراق}، وكنت أقول: أين صلاة الإشراق؟ ثم قال بعد: هن صلاة الإشراق «. أخرجه الطبري في تفسيره. والإشراق: طلوع الشمس، وقد ذهب عامة العلماء إلى أن الإشراق والضحى صلاة واحدة، خلافا للغزالي الذي ذهب في الإحياء إلى إنَّ صلاة الإشراق غير الضحى فهي صلاة ركعتين عند ارتفاعِ الشمس. ويؤيد الأول حديث أبي أمامة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من صلى صلاة الصبح في جماعة، ثم ثبت فيه حتى يسبح لله سبحة الضحى؛ كان له كأجر حاج ومعتمر تاماً حجه وعمرته «. أخرجه الطبراني وحسنه الألباني. ويوضحه رواية: «ثم جلس يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم قام فصلى ركعتين» الحديث أخرجه الطبراني. وصححه الألباني، فظاهر الحديثين أن صلاة الإشراق هي صلاة الضحى.
حكم صلاة الضحى
جاء بعض الآثار عن بعض الصحابة ظاهرها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصل الضحى، مما قد يفهم منه أنها غير مشروعة، فقد أخرج الشيخان عَنْ مُوَرِّقٍ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَر: أَتُصَلِّي الضُّحَى؟ قَالَ: لاَ، قُلْتُ: فَعُمَرُ؟ قَالَ: لاَ، قُلْتُ: فَأَبُو بَكْرٍ؟ قَالَ: لاَ، قُلْتُ: فَالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم ؟ قَالَ: لاَ إِخَالُهُ. (أَيْ لَا أَظُنهُ). وأخرج البخاري عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ الْمَسْجِدِ فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ جَالِسٌ إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ وَإِذَا نَاسٌ يُصَلُّونَ الضُّحَى فَسَأَلْنَاهُ عَنْ صلَاتهم فَقَالَ: بِدعَة. وعن عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سَبَّحَ سُبْحَةَ الضُّحَى، وَإِنِّي لَأُسَبِّحُهَا» . متفق عليه، وأخرج مسلم عن عبد الله بن شقيق قال: قلت لعَائِشَةَ: هل كان النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي الضُّحَى؟ قالت: «لا، إِلَّا أَنْ يَجِيءَ مِنْ مَغِيبِهِ»، وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ رَأَى نَاسًا يُصَلُّونَ الضُّحَى فَقَالَ: مَا صَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَا عَامَّةُ أَصْحَابِهِ.
قول ابن حجر
أجاب ابن حجر عن هذا فقال: «وَفِي الْجُمْلَةِ لَيْسَ فِي أَحَادِيث ابن عُمَرَ هَذِهِ مَا يَدْفَعُ مَشْرُوعِيَّةَ صَلَاةِ الضُّحَى؛ لِأَنَّ نَفْيَهُ مَحْمُولٌ عَلَى عَدَمِ رُؤْيَتِهِ لَا عَلَى عَدَمِ الْوُقُوعِ فِي نَفْسِ الْأَمْر،ِ أَوِ الَّذِي نَفَاهُ صِفَةٌ مَخْصُوصَةٌ. قَالَ عِيَاضٌ وَغَيره: إِنَّمَا أنكر ابن عُمَرَ مُلَازَمَتَهَا وَإِظْهَارَهَا فِي الْمَسَاجِدِ وَصَلَاتَهَا جَمَاعَةً، لَا أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِلسُّنَّةِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ ابن أبي شيبَة عَن ابن مَسْعُودٍ أَنَّهُ رَأَى قَوْمًا يُصَلُّونَهَا فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ: إِنْ كَانَ وَلَا بُدَّ فَفِي بُيُوتِكُمْ».
أثر عائشة -رضي الله عنها
وأما الأثر عن عائشة فأجاب عنه النووي بقوله: «إنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصَلِّيهَا بَعْضَ الْأَوْقَاتِ لِفَضْلِهَا وَيَتْرُكُهَا فِي بَعْضِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُفْرَضَ كَمَا ذَكَرَتْهُ عَائِشَةُ، وَيُتَأَوَّلُ قَوْلُهَا: «مَا كَانَ يُصَلِّيهَا إِلَّا أَنْ يَجِيءَ مِنْ مَغِيبِهِ» عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ مَا رَأَيْتُهُ، كَمَا قَالَتْ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ: «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي سُبْحَةَ الضُّحَى» وَسَبَبُهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - مَا كَانَ يَكُونُ عِنْدَ عَائِشَةَ فِي وَقْتِ الضُّحَى إِلَّا فِي نَادِرٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مُسَافِرًا وَقَدْ يَكُونُ حَاضِرًا وَلَكِنَّهُ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَإِذَا كَانَ عِنْدَ نِسَائِهِ فَإِنَّمَا كَانَ لَهَا يَوْمٌ مِنْ تِسْعَةٍ، فَيَصِحُّ قَوْلُهَا: «مَا رَأَيْتُهُ يُصَلِّيهَا» وَتَكُونُ قَدْ عَلِمَتْ بِخَبَرِهِ أَوْ خَبَرِ غَيْرِهِ أَنَّهُ صَلَّاهَا، أَوْ يُقَالُ: قَوْلُهَا: «مَا كَانَ يُصَلِّيهَا» أَيْ: مَا يُدَاوِمُ عَلَيْهَا فَيَكُونُ نَفْيًا لِلْمُدَاوَمَةِ لَا لِأَصْلِهَا».
صلاة الضحى سنة مؤكدة
وذهب جمهور الفقهاء إلى أن صلاة الضحى سنة مؤكدة لما جاء فيها من أحاديث كثيرة تحث على فعلها والمحافظة عليها، منها: عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة؛ فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى». أخرجه مسلم قال النووي: «وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عِظَمِ فَضْلِ الضُّحَى وَكَبِيرِ مَوْقِعِهَا وَأَنَّهَا تَصِحُّ رَكْعَتَيْن». وأخرج الشيخان عن أبي هريرة أنه قال: «أوصاني خليلي بثلاث لا أدعهن حتى أموت؛ صوم ثلاثة أيام من كل شهر، وصلاة الضحى، ونوم على وتر». قال ابن حجر: «وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ صَلَاةِ الضُّحَى، وَأَنَّ أَقَلَّهَا رَكْعَتَانِ، وَعَدَمُ مُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى فِعْلِهَا لَا يُنَافِي اسْتِحْبَابَهَا ؛ لِأَنَّهُ حَاصِلٌ بِدَلَالَةِ الْقَوْلِ». وأفضل وقت لصلاة الضحى ما ذكره زيد بن أرقم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ حِينَ تَرْمَضُ الْفِصَالُ» أخرجه مسلم قال النووي: «أَيْ: حِينَ يَحْتَرِقُ أَخْفَافُ الْفِصَالِ وَهِيَ الصِّغَارُ مِنْ أَوْلَادِ الْإِبِلِ جَمْعُ فَصِيلٍ مِنْ شِدَّةِ حَرِّ الرَّمْلِ، وَالْأَوَّابُ: الْمُطِيعُ، وَفِيهِ فَضِيلَةُ الصَّلَاةِ هَذَا الْوَقْتَ قَالَ أَصْحَابُنَا: هُوَ أَفْضَلُ وَقْتِ صَلَاةِ الضُّحَى، وَإِنْ كَانَتْ تَجُوزُ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى الزَّوَالِ».
عدد ركعات صلاة الضحى
لا خلاف أن أقلها ركعتان لقوله: «ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى». ويجوز أن تصلى أربع ركعات؛ للحديث القدسي قال -تعالى-: «يا ابن آدم! لا تعجزني من أربع ركعات من أول النهار؛ أكفك آخره». أخرجه الترمذي وصححه الألباني
ويمكن أن تصلى ست ركعات لحديث أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الضحى ست ركعات «. أخرجه الترمذي في «الشمائل وصححه الألبانيويدل حديث أم هانئ المتقدم على جواز صلاة ثمان ركعات. ويدل حديث أبي الدرداء على أنها اثنتا عشرة ركعة فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من صلى الضحى ركعتين؛ لم يكتب من الغافلين، ومن صلى أربعاً؛ كتب من العابدين، ومن صلى ستاً؛ كفي ذلك اليوم، ومن صلى ثمانياً كتبه الله من القانتين، ومن صلى ثنتي عشرة ركعة، بنى الله له بيتاً في الجنة، وما من يوم ولا ليلة إلا لله من يمن به على عباده صدقة، وما من الله على أحد من عباده أفضل من أن يلهمه ذكره». أخرجه الطبراني.وحسنه الألباني. وذهب الطبري وابن العربي وابن عثيمين إلى أنه لا حد لأكثرها لحديث عائشة عند مسلم: «كان يصلي الضحى أربعا، ويزيد ما شاء الله»، قال ابن حجر: «وهذا الإطلاق قد يحمل على التقييد فيؤكد أن أكثرها اثنتا عشرة ركعة». د.وليد خالد الربيع
ابو وليد البحيرى
2022-11-15, 11:20 AM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (72)
- بعض الأحكام المستفادة من قصة داود وسليمان -عليهما السلام
- جواز
قال -تعالى-:{وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} (ص:21-24)
تناول الشيخ ابن سعدي بالبيان مناسبة هذه الآيات لما تقدم من فضائل داود -عليه السلام- فقال: «لما ذكر -تعالى- أنه آتى نبيه داود الفصل في الخطاب بين الناس، وكان معروفا بذلك مقصودا، ذكر -تعالى- نبأ خصمين اختصما عنده في قضية جعلهما اللّه فتنة لداود، وموعظة لخلل ارتكبه، فتاب اللّه عليه، وغفر له، وقيض له هذه القضية».
وقد أطال بعض المفسرين في ذكر هذه الخصومة وما فيها من اختلاف المفسرين، والأظهر في هذا عدم الخوض في التفاصيل؛ حيث لا دليل نقلي صحيح عليها، قال ابن كثير: «قد ذكر المفسرون هاهنا قصة أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات، ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه، ولكن روى ابن أبي حاتم هنا حديثا لا يصح سنده؛ لأنه من رواية يزيد الرقاشي عن أنس ويزيد - وإن كان من الصالحين - لكنه ضعيف الحديث عند الأئمة؛ فالأولى أن يقتصر على مجرد تلاوة هذه القصة، وأن يرد علمها إلى الله -عز وجل-؛ فإن القرآن حق، وما تضمن فهو حق أيضا».
وقال الشنقيطي: «اعلم أن ما يذكره كثير من المفسرين في تفسير هذه الآية الكريمة مما لا يليق بمنصب داود عليه وعلى نبيينا الصلاة والسلام، كله راجع إلى الإسرائيليات، فلا ثقة به، ولا معوّل عليه، وما جاء منه مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يصح منه شيء».
والآيات الكريمة فيها جملة من الفوائد الفقهية منها:
- جواز إطلاق لفظ (الأخ) على غير الأخ النسبي:
قال ابن مسعود في قوله -تعالى-: {إن هذا أخي} أي: على ديني، وعلل الشيخ ابن سعدي استعمال هذا اللفظ فقال: «نص على الأخوة في الدين أو النسب أو الصداقة، لاقتضائها عدم البغي، وأن بغيه الصادر منه أعظم من غيره».
ومعلوم أن الله -تعالى- قطع الأخوة الإيمانية بين المسلم وغير المسلم وقصرها على المسلمين فقال -سبحانه-: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10)
قال القرطبي: «{إخوة} أي: في الدين والحرمة لا في النسب؛ ولهذا قيل: أخوة الدين أثبت من أخوة النسب؛ فإن أخوة النسب تنقطع بمخالفة الدين، وأخوة الدين لا تنقطع بمخالفة النسب. وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم».
وقد جاءت آيات تدل في ظاهرها على جواز إطلاق لفظ (الأخ) على غير المسلم إذا كان من جهة النسب أو الانتماء إلى ذات القبيلة كما قال -تعالى-: {وإلى عاد أخاهم هودا} وقال: {وإلى ثمود أخاهم صالحا} وقال: {وإلى مدين أخاهم شعيبا}.
قال القرطبي مبينا وجه جواز الإطلاق بأنه مقيد بسبب غير الدين: «قال ابن عباس: أي: ابن أبيهم. وقيل: أخاهم من القبيلة. وقيل: أي: بشرا من بني أبيهم آدم».
وقال أيضا في تفسير قوله -تعالى-: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ} (الشعراء: 106): «أي: ابن أبيهم، وهي أخوة نسب لا أخوة دين وقيل: هي أخوة المجانسة».
وقال ابن حجر عند قول البخاري:( باب قول الله -تعالى-: وإلى عاد أخاهم هودا): «وسماه أخا لكونه من قبيلتهم لا من جهة أخوة الدين».
- جوجواز الشركة أخذا من قوله -تعالى-: {وإن كثيرا من الخلطاء}:
الشركة في اللغة: الاختلاط.
وفي الاصطلاح: هي الاجتماع في استحقاق أو تصرف
فالاستحقاق: بمعنى أن يكون شيء بين شخصين فأكثر اشتركا فيه باستحقاق، وهذه تسمى شركة الأملاك. كاشتراك الورثة في تملك التركة كما قال -سبحانه-: {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} (النساء:12)، ومثله اشتراك الموصى لهم في تملك الموصى به، بغير كسب منهم ولا عقد.
وأما الاجتماع في تصرف: فهو شركة العقد، وهي أن يتعاقد شخصان في شيء يشتركان فيه.
قال ابن حجر معرفا الشركة بأنها: «ما يحدث بالاختيار بين اثنين فصاعدا من الاختلاط لتحصيل الربح، وقد تحصل بغير قصد كالإرث».
والشركة مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع:
فمن الكتاب قوله -تعالى-: {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} قال طاووس وعطاء: «لا يكون الخلطاء إلا الشركاء»، وقال الطبري: «يقول: وإن كثيرا من الشركاء ليتعدَّى بعضهم على بعض».
قال الشيخ ابن عثيمين مبينا دليلا آخر على مشروعية الشركة: «قال الله -تعالى-: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ} (الكهف:19) فأضاف الوَرِق إليهم جميعاً، وهذا لا شك أنه اشتراك في تصرف؛ لأن الظاهر أنهم ليسوا ورثة ورثوا هذه الدراهم».
وقال -تعالى-: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} (الروم:28) قال القرطبي: «قال بعض العلماء: هذه الآية أصل في الشركة بين المخلوقين لافتقار بعضهم إلى بعض».
ومن السنة المطهرة حديث أبي هريرة قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: «يقول الله -تعالى-: أنا ثالث الشريكين، ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإذا خان أحدهما صاحبه خرجت من بينهما» رواه أبو داود.
جواز أنواع الشركات كلها
قال الشيخ ابن سعدي: «يدل هذا الحديث بعمومه على جواز أنواع الشركات كلها: شركة العنان، والأبدان، والوجوه، والمضاربة، والمفاوضة وغيرها من أنواع الشركات التي يتفق عليها المتشاركان، ومن منع شيئاً منها فعليه الدليل الدال على المنع، وإلا فالأصل الجواز، لهذا الحديث، وشموله، ولأن الأصل الجواز في كل المعاملات».
وأخرج أحمد عن أبى المنهال: «أن زيد بن أرقم والبراء بن عازب كانا شريكين، فاشتريا فضة بنقد ونسيئة، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمرهما أن ما كان بنقد فأجيزوه وما كان بنسيئة فردوه «ورواه البخاري بلفظ قريب منه.
قال ابن قدامة: «وأجمع المسلمون على جواز الشركة في الجملة».
د.وليد خالد الربيع
ابو وليد البحيرى
2022-11-15, 11:36 AM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (73)
- الفوائد الفقهية المستفادة من قوله -تعالى-: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأ
لا نزال مع الفوائد الفقهية المستفادة من قوله -تعالى-:{وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} (سورة ص:21) والآيات التي بعدها، وهي: جواز الشكوى من الخصم عند المفتي أو القاضي، والمساواة بين الخصوم في مجلس القضاء.
1- جواز الشكوى من الخصم عند المفتي أو القاضي
الأصل حفظ اللسان عن قول السوء إلا في أضيق الحدود وللحاجة؛ لقوله -سبحانه-: {لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ} (سورة النساء:148)، قال ابن عباس: «يقول: لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد، إلا أن يكون مظلوما، فإنه قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه، وذلك قوله: (إلا من ظلم) وإن صبر فهو خير له».
قال الشيخ ابن سعدي: «يخبر -تعالى- أنه لا يحب الجهر بالسوء من القول، أي: يبغض ذلك ويمقته ويعاقب عليه، ويشمل ذلك الأقوال السيئة التي تسوء وتحزن، كالشتم والقذف والسب ونحو ذلك؛ فإن ذلك كله من المنهي عنه الذي يبغضه الله.
قوله -تعالى-: {إِلَّا مَن ظُلِمَ}
وقوله -تعالى-: {إِلَّا مَن ظُلِمَ} أي: فإنه يجوز له أن يدعو على من ظلمه ويتشكى منه، ويجهر بالسوء لمن جهر له به، من غير أن يكذب عليه ولا يزيد على مظلمته، ولا يتعدى بشتمه غير ظالمه، ومع ذلك فعفوه وعـدم مقابلته أولى، كما قـال -تعالى-: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} (سورةالشورى:40). فالآية تدل على جواز الشكوى من الخصم والتصريح بالمظلمة، قال الشيخ ابن سعدي -في بيان فوائد الآية-: «ومنها جواز قول المظلوم لمن ظلمه: «أنت ظلمتني» أو «يا ظالم» أو «باغ علي» ونحو ذلك لقولهما: {خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ}».
وفي الحديث عن الشريد بن سويد قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ليُّ الواجدِ يحلُّ عرضَهُ وعقوبتَهُ» قالَ ابنُ المبارَكِ: «يحلُّ عرضَهُ: يغلَّظُ لَهُ، وعقوبتَهُ: يحبسُ لَهُ». أخرجه أبو داود وحسنه الألباني.
وذكر البخاري عن سفيان أنه شرح الحديث فقال: «عرضه: يقول: مطلتني، وعقوبته: الحبس». وقد بيـّن النووي مواضع تجوز فيها الغيبة، وذكر أدلة جواز ذلك فقال: «اعلم أن الغيبة تباح لغرض صحيح شرعي لا يمكن الوصول إليه إلا بها، وهو ستة أسباب، الأول منها: التظلم: فيجوز للمظلوم أن يتظلم إلى السلطان والقاضي وغيرهما ممن له ولاية أو قدرة على إنصافه من ظالمه فيقول: ظلمني فلان بكذا».
2- المساواة بين الخصوم في مجلس القضاء
من أصول القضاء في الفقه الإسلامي التسوية بين الخصمين، ووجوب العدل بينهما في كل ما يمكن التسوية فيه، كالنظر ولين الكلام والبشاشة والاهتمام ومزيد الإصغاء، ولا يكلم أحدهما بلغة لا يفهمها الآخر، وغير ذلك من أوجه المساواة.
والتسوية ضرورية لحسن التقاضي؛ لأنها تبعث على الطمأنينة، وأن يقدم كل من الخصمين ما عنده دون خوف؛ مما يساعد على إظهار الحق، ولهذا وصى عمر أبا موسى -رضي الله عنهما- بقوله: «آس بين الناس في وجهك ومجلسك وعدلك؛ حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك».
وقال ابن القيم: «نهى عن رفع أحد الخصمين عن الآخر، وعن الإقبال عليه، وعن مشاورته، والقيام له دون خصمه، لئلا يكون ذريعة إلى انكسار قلب الآخر، وضعفه عن القيام بحجته، وثقل لسانه بها».
من أوجه العدل بين الخصوم
ومن أوجه العدل بين الخصوم منح كل طرف فرصة ليدلي بحجته، والرد على حجة خصمه، ولو طلب وقتا لإعداد ذلك فيجاب طلبه، مع مراعاة المدة المناسبة والتنبه لحيل الخصوم للتهرب من القضاء؛ لقول عمر - رضي الله عنه -: «ومن ادعى حقا غائبا فاضرب له أمدا ينتهي إليه، فإن بينه أعطيته بحقه، وإن أعجزه ذلك استحللت عليه القضية، فإن ذلك أبلغ في العذر وأجلى للعمى».
وفي الآية الكريمة يظهر أن داود -عليه السلام- حكم للمدعي قبل أن يسمع من الطرف الآخر، قال القرطبي: «قوله -تعالى-: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} قال النحاس: فيقال إن هذه كانت خطيئة داود -عليه السلام-؛ لأنه قال: «لقد ظلمك» من غير تثبت ببينة، ولا إقرار من الخصم، هل كان هذا كذا أو لم يكن».
محاولة توجيه الآية بما يتفق مع قواعد العدل
وقد حاول بعض العلماء توجيه الآية بما يتفق مع قواعد العدل، فقالوا: «وإنما تقدير الكلام: أن أحد الخصمين ادعى والآخر سلم في الدعوى، فوقعت بعد ذلك الفتوى. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا جلس إليك الخصمان فلا تقض لأحدهما حتى تسمع من الآخر»، وقيل: إن داود لم يقض للآخر حتى اعترف صاحبه بذلك. وقيل: تقديره: لقد ظلمك إن كان كذلك.
تأويلات لا دليل عليها
لكن هذه التأويلات لا دليل عليها، ونقل القرطبي عن الحليمي أنه حمل الآية على ظاهرها فقال: «أخبر الله -عز وجل- عن داود -عليه السلام- أنه سمع قول المتظلم من الخصمين، ولم يخبر عنه أنه سأل الآخر، إنما حكى أنه ظلمه، فكان ظاهر ذلك أنه رأى في المتكلم مخائل الضعف والهضيمة، فحمل أمره على أنه مظلوم كما يقول، ودعاه ذلك إلى ألا يسأل الخصم، فقال له مستعجلا: لقد ظلمك مع إمكان أنه لو سأله لكان يقول: كانت لي مائة نعجة ولا شيء لهذا، فسرق مني هذه النعجة، فلما وجدتها عنده قلت له ارددها، وما قلت له أكفلنيها، وعلم أني مرافعه إليك، فجرني قبل أن أجره، وجاءك متظلما من قبل أن أحضره، لتظن أنه هو المحق وأني أنا الظالم. ولما تكلم داود بما حملته العجلة عليه، علم أن الله -عز وجل- خلاه ونفسه في ذلك الوقت، وهو الفتنة التي ذكرناها، وأن ذلك لم يكن إلا عن تقصير منه، فاستغفر ربه وخر راكعا لله -تعالى- شكرا على أن عصمه، بأن اقتصر على تظليم المشكو، ولم يزده على ذلك شيئا من انتهار أو ضرب أو غيرهما، مما يليق بمن تصور في القلب أنه ظالم، فغفر الله له ثم أقبل عليه يعاتبه».
من فوائد القصة
قال الشيخ ابن عثيمين: «من الفوائد في القصة: أن داود -عليه السلام- حكم بينهم دون أن يسمع دفاع الخصم الآخر، ولعل داود -عليه السلام- أراد السرعة في إنهاء القضية ليتفرغ لما احتجب له عن الناس من عبادة الله».
قال -رحمه الله-: «ومن فوائدها أن الحاكم لا يحكم حتى يستوعب حجج الخصمين لقوله:{وظن داود أنما فتناه}».
ومما يجب على القاضي، ألا يحكم بين خصمين حتى يسمع كلامهما جميعاً، فعن علي بن أبي طالب قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا تقاضى إليك رجلان، فلا تقض للأول، حتى تسمع كلام الآخر، فسوف تدري كيف تقضي»، قال علي: فما زلت قاضياً بعد». أخرجه الترمذي وحسنه الألباني.
د.وليد خالد الربيع
ابو وليد البحيرى
2022-11-20, 12:25 PM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (74)
- الفوائد الفقهية المستفادة من قوله -تعالى-: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَن
لا نزال مع قوله -تعالى-: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} (سورة ص:24)، قال الشيخ ابن سعدي: «{وَظَنَّ دَاوُدُ} حين حكم بينهما {أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} أي: اختبرناه ودبرنا عليه هذه القضية ليتنبه {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ} لما صدر منه، {وَخَرَّ رَاكِعًا} أي: ساجدا {وَأَنَابَ} للّه -تعالى- بالتوبة النصوح والعبادة».
والمراد بالركوع المذكور في الآية (السجود)، قال القرطبي: «أي خر ساجدا، وقد يعبر عن السجود بالركوع.
قال الشاعر :
فخر على وجهه راكعا
وتاب إلى الله من كل ذنب
قال ابن العربي: «لا خلاف بين العلماء أن المراد بالركوع هاهنا السجود، فإن السجود هو الميل، والركوع هو الانحناء، وأحدهما يدخل على الآخر، ولكنه قد يختص كل واحد بهيئته، ثم جاء هذا على تسمية أحدهما بالآخر، فسمي السجود ركوعا».
سجود التلاوة
وسجود التلاوة: هو السجود الذي يؤدى عند قراءة آية من آيات السجدة.
واتفق الفقهاء على أن سجود التلاوة مشروع، وذهب الجمهور إلى أن سجود التلاوة سنة مؤكدة، ودليلهم:
1- عن زيد بن ثابت قال: قرأت على النبي - صلى الله عليه وسلم - (والنجم) فلم يسجد فيها متفق عليه، فلم ينكر عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أمره بالسجود، فدل على عدم الوجوب.
2- روى البخاري عن عمر أنه قرأ يوم الجمعة على المنبر سورة النحل حتى إذا جاء السجدة نزل فسجد، فسجد الناس، حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها حتى إذا جاء السجدة قال: «يا أيها الناس إنا نمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب ومن لم يسجد فلا إثم عليه»، ولم يسجد عمر - رضي الله عنه - وكان ذلك بمحضر من الصحابة ولم ينكروا عليه.
مواضع السجود في القرآن الكريم
وأما مواضع السجود في القرآن الكريم، فقد اتفق الفقهاء على عشرة مواضع يشرع فيها سجود التلاوة، وهي في السور الآتية : (الأعراف الرعد النحل الإسراء مريم الحج في قوله -تعالى-: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ} النمل الفرقان السجدة فصلت).
واختلفوا في مواضع:
الموضع الأول: سجدة سورة الحج الثانية
وهي قوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ} على مذهبين:
المذهب الأول: ليست من عزائم السجود، وهو قول أبي حنيفة والمالكية، ودليلهم:
أنه جمع فيها بين الركوع والسجود فلم تكن سجدة كقوله لمريم -عليها السلام-: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} (سورة آل عمران:43)
المذهب الثاني: هي من عزائم السجود، وهو قول الجمهور، ودليلهم: عن عمرو بن العاص أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن منها ثلاث في المفصل، وفي الحج سجدتان. أخرجه أبو داود وابن ماجه.
وهو الأظهر لقوة دليله ولأنه قول جمع من الصحابة كعمر وعليّ وابن عمر قال ابن قدامة: «ولا نعرف لهم مخالفا في عصرهم»، وأما دليل المذهب الأول فيرد عليه أن ذكر الركوع مع السجود لا يقتضي ترك السجود كما ذكر البكاء مع السجود في قوله: {خروا سجدا وبكيا}.
الموضع الثاني: سجدة سورة (ص)
وقد اختلف الفقهاء في سجدة سورة (ص) هل هي من مواضع سجود التلاوة أم لا؟ على مذهبين:
المذهب الأول: هي ليست من عزائم السجود، وهو قول الشافعية والحنابلة، ودليلهم: أنها سجدة شكر، وليست تلاوة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «سجدها داود توبة ونسجدها شكرا» أخرجه النسائي وصححه الألباني.
المذهب الثاني: هي من عزائم السجود، وهو قول الحنفية والمالكية، ودليلهم: عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ: (ص) لَيْسَتْ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ، وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يسجد فيها. روَاهُ الْبُخَارِيُّ.
قال الصنعاني: «أي: ليست مما ورد في السجود فيها أمر ولا تحريض ولا تخصيص ولا حث، وإنما ورد بصيغة الإخبار عن داود -عليه السلام- بأنه فعلها، وسجد نبينا - صلى الله عليه وسلم - فيها اقتداء به لقوله -تعالى-: {فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ}(سورة الأنعام:90)».
ونقل البخاري عن مجاهد قال: سألت ابن عباس: من أين سجدت؟ فقال: أوما تقرأ: {ومن ذريته داود وسليمان}؟ ( الأنعام : 84 ) إلى قوله: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} ( الأنعام : 90) فكان داود -عليه السلام- ممن أمر نبيكم - صلى الله عليه وسلم - أن يقتدي به فسجدها داود -عليه السلام- فسجدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم ».
وأخرج أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال: قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر (ص) فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه، فلما كان يوم آخر قرأها فلما بلغ السجدة تشزَّن الناس للسجود، فقال: «إنما هي توبة نبي ولكني رأيتكم تشزنتم» فنزل وسجد وسجدوا. وصححه الألباني
وهو الأظهر لقوة دليله، ولأنه ثبت عن عثمان - رضي الله عنه - أنه قرأ (ص) في الصلاة فسجد وسجد الناس معه وكان بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه أحد، ولو لم يكن مشروعا لما جاز إدخالها في الصلاة.
الموضع الثالث: سجدات المفصل
سجدات المفصل، وهي آخر سورة النجم، وسورة الانشقاق، وسورة العلق، وقد اختلف الفقهاء فيها على مذهبين:
المذهب الأول: هي من عزائم السجود، وهو قول الجمهور ودليلهم:
1- عن عمرو بن العاص أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن منها ثلاث في المفصل وفي الحج سجدتان. أخرجه أبو داود وابن ماجه.
2- عن أبي هريرة قال: «سجدنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في (إذا السماء انشقت) و(اقرأ باسم ربك)» رواه مسلم.
3-عن ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ سورة النجم فسجد بها، وما بقي أحد من القوم إلا سجد «متفق عليه
المذهب الثاني: لا سجود في شيء من المفصل، وهو قول المالكية في المشهور ودليلهم:
1- عن زيد قال: قرأت على النبي - صلى الله عليه وسلم - النجم فلم يسجد.
2- عن أبي الدرداء قال: سجدت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إحدى عشرة سجدة ليس فيها من المفصل شيء. رواه ابن ماجه.
والأول أظهر لقوة دليله أما حديث زيد فقد يكون تركه لعدم وجوبه لا لأنه ليس موضع سجود، قال أبو داود: “كان زيد الإمام فلم يسجد فيها». ومعلوم أن المستمع إنما يسجد إذا سجد من يقرأ القرآن. وقد تقدم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد فيها، أما حديث أبي الدرداء فهو ضعيف.
د.وليد خالد الربيع
ابو وليد البحيرى
2022-11-20, 12:32 PM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (75)
- الأحكام المستفادة من قصة داود وسليمان -عليهما السلام - الحكم بال
قال -تعالى-: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَاب} (سورة ص:26)، تقدم في الآيات السابقة أن الله -تعالى- اختبر داود -عليه السلام- في تلك القضية ليتنبه لما صدر منه، وأنه -عليه السلام- خَرَّ ساجدا وَأَنَابَ للّه -تعالى- بالتوبة النصوح والعبادة، ثم أرشده -سبحانه- والمكلفين من بعده إلى أساس العدل وهو الحكم بالحق واجتناب الهوى وحظوظ النفس.
قال ابن كثير:» هذه وصية من الله -عز وجل- لولاة الأمور أن يحكموا بين الناس بالحق المنزل من عنده -تبارك وتعالى-، ولا يعدلوا عنه فيضلوا عن سبيله، وقد توعد الله -تعالى- من ضل عن سبيله، وتناسى يوم الحساب، بالوعيد الأكيد والعذاب الشديد».
الأمور التي يتحقق بها العدل
وبيّن الشيخ ابن سعدي أن العدل يتحقق بأمور منها: العلم بالواجب، والعلم بالواقع، والقدرة على تنفيذ الحق.
وقد يطرأ على ذهن شخص شبهة وهي: هل يمكن أن يحكم نبي بالهوى؟ والجواب كما قال الشنقيطي: «ومعلوم أن نبي الله داود لا يحكم بغير الحق، ولا يتبع الهوى فيضله عن سبيل الله، ولكن الله -تعالى- يأمر أنبياءه -عليهم الصلاة والسلام- وينهاهم ليشرع لأممهم».
وقال -أيضا مؤكدًا هذه القاعدة-: «من أصرح الأدلة القرآنية الدالة على أن النبي يخاطب بخطاب والمراد بذلك الخطاب غيره يقينا قوله -تعالى-: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} الآية (سورة الإسراء:23) ومن المعلوم أن أباه - صلى الله عليه وسلم - توفي قبل ولادته، وأن أمه ماتت وهو صغير. فتبين أن أمره -تعالى- لنبيه ونهيه له إنما يراد به التشريع على لسانه لأمته».
شروط تولي القضاء
وأبرز من يحكم بين الناس هم القضاة؛ لذا يشترط في القاضي شروط تضمن جدارته لهذا المنصب الخطير؛ فيشترط: الإسلام، والبلوغ والعقل، والحرية، والعدالة، والذكورة، والعلم، وسلامة الحواس؛ وذلك ليحصل له معرفة الحق الحكم به مع القدرة على تنفيذه؛ ولهذا قال عمر: «فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له».
وقد أثار القرطبي مسألة فقهية أخذها من الآية الكريمة تتعلق بعلم القاضي فقال:» هذه الآية تمنع من حكم الحاكم بعلمه؛ لأن الحكام لو مكنوا أن يحكموا بعلمهم لم يشأ أحدهم إذا أراد أن يحفظ وليه ويهلك عدوه إلا ادعى علمه فيما حكم به».
نوعان من العلم
تقدم أنه يشترط في القاضي نوعان من العلم: العلم بالأحكام الشرعية، والعلم بحقيقة الواقعة، وهو المراد هنا، وهو نوعان:
الأول: القاضي يحكم بموجب علمه
إذا علم القاضي بحقيقة الواقعة في مجلس القضاء من خلال الحجج القضائية كالبينات التي يقيمها المدعي، أو إقرار المدعى عليه، أو حلفه اليمين مع إنكاره، ونحو ذلك فإن القاضي يحكم بموجب علمه؛ لأن هذا علم مستند إلى أدلة وحجج معتبرة ليست من عنده، ولا يتهم في حكمه إذا استند إليها.
الثاني: علم القاضي بغير حجج قضائية
إذا علم القاضي بحقيقة الواقعة بغير الحجج القضائية، كما لو سمع شخصًا يطلق امرأته ثلاثا خارج مجلس القضاء، أو رأى القاضي شخصًا أتلف مال شخص خارج القضاء ثم رفعت الدعوى إليه فهل يحكم بالطلاق إذا طلبت الزوجة ذلك؟ ويحكم بالضمان على المتلف؟ استنادا إلى علمه فقط دون الحجج القضائية، هنا اختلف الفقهاء:
المذهب الأول: يقضي القاضي بعلمه
وهو مذهب الظاهرية والصاحبين والشافعية في الأظهر ورواية عن أحمد، ومما استدلوا به:
1- قوله -تعالى-: {كونوا قوامين بالقسط}(سورة النساء:135)، وليس من القسط أن يترك الظالم على ظلمه لا يغيره وهو عالم بظلمه، وأن يعلم طلاق المرأة ويترك مطلقها يعاشرها.
2- قوله - صلى الله عليه وسلم - لهند زوجة أبي سفيان: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» متفق عليه، فقضى لها بناء على علمه بشح أبي سفيان دون أن يطلب بينة أو إقراره بذلك.
وأجيب عن هذا الاستدلال:
1- بأن الآية في حق الشهود، فهم مأمورون بالقسط في الشهادة، ولو قلنا بالعموم فهي مخصوصة في حق القاضي؛ لأن الأدلة تلزمه القضاء بالحجج.
2- أما قصة هند كانت إفتاء وليست قضاء؛ لأن أبا سفيان كان حاضرا في البلد ولم يستدعه النبي - صلى الله عليه وسلم - لسماع أقواله ومعلوم أنه لا يجوز الحكم على الغائب في البلد حتى يعلن.
المذهب الثاني: لا يقضي بعلمه
وهو مذهب المالكية والحنابلة والمتأخرين من الحنفية وقول للشافعية، ومما استدلوا به:
1- قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّما أنا بَشَرٌ وإنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ، ولَعَلَّ بَعْضَكُمْ أنْ يَكونَ ألْحَنَ بحُجَّتِهِ مِن بَعْضٍ، فأقْضِي علَى نَحْوِ ما أسْمَعُ» الحديث أخرجه البخاري، فدل على أنه يقضي بما يسمع لا بما يعلم.
2- في قصة اختصام الأشعث بن قيس مع رجل في بئر، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «شاهداك أو يمينه» متفق عليه، وفي رواية مسلم:» ليس لك إلا ذاك»، فحصر الحجة في البينة واليمين دون علم الحاكم.
3- استدلوا بآثار عن الصحابة منها قول أبي بكر: «لو رأيت رجلا على حد من حدود الله لم أحده حتى يكون معي غيري» أخرجه البيهقي. أي: لم أعاقبه بعقوبة الحد حتى تقوم البينة عندي.
وتداعى رجلان عند عمر فقال له أحدهما: أنت شاهدي. فقال عمر: «إن شئتما شهدت ولم أحكم، أو أحكم ولا أشهد»، وهو القول الأظهر سدا للذريعة أمام قضاة السوء من الحكم على البريء بغير حجة، ونقل الشوكاني عن الكرابيسي أنه قال: «لا يقضي القاضي بما علم لوجود التهمة؛ إذ لا يؤمن على التقي أن تتطرق إليه التهمة» وقال: «ويلزم من أجاز للقاضي أن يقضي بعلمه مطلقا أنه لو عمد إلى رجل مستور لم يعهد منه فجور قط أن يرجمه ويدعي أنه رآه يزني، أو يفرق بينه وبين زوجته ويزعم أنه سمعه يطلقها، فإن هذا الباب لو فتح لوجد كل قاض السبيل إلى قتل عدوه وتفسيقه والتفريق بينه وبين من يحب، ومن ثم قال الشافعي: لولا قضاة السوء لقلت إن للحاكم أن يحكم بعلمه».
قال ابن القيم: «ولقد كان سيد الحكام -صلوات الله وسلامه عليه- يعلم من المنافقين ما يبيح دماءهم وأموالهم، ويتحقق من ذلك، ولا يحكم فيهم بعلمه مع براءته عند الله وملائكته وعباده المؤمنين من كل تهمة».
وقال ابن عثيمين:» لو فتح الحكم للقاضي بعلمه لفسدت أحوال الناس؛ لأنه ليس كل إنسان ثقة، فسدّ الباب هو الأولى، فإذا تحاكم إليّ خصمان وأنا أعلم أن الحق مع المدعي علم اليقين فماذا أعمل؟ أحول القضية إلى قاض آخر وأكون شاهدا».
د.وليد خالد الربيع
ابو وليد البحيرى
2022-11-20, 12:39 PM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (76)
- بعض الأحكام المستفادة من قصة أيوب -عليه السلام - حكم تأديب الزوج
قال الله -تعالى-: {وَخُـذْ بِيَدِكَ ضِغْـثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}(سورة ص:44)، قال ابن كثير: «يُذكِّر -تعالى- عبده ورسوله أيوب -عليه السلام-، وما كان ابتلاه -تعالى- به من الضر في جسده وماله وولده، حتى لم يبق من جسده مغرز إبرة سليما سوى قلبه، ولم يبق له من حال الدنيا شيء يستعين به على مرضه وما هو فيه، غير أن زوجته حفظت وده لإيمانها بالله ورسوله، فكانت تخدم الناس بالأجرة وتطعمه وتخدمه نحوا من ثماني عشرة سنة».
قال ابن كثير مبينا سبب هذا التوجيه الإلهي لأيوب -عليه السلام-: «وَذَلِكَ أَنَّ أَيُّوب -عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام- كَانَ قَدْ غَضِبَ عَلَى زَوْجَته وَوَجَدَ عَلَيْهَا فِي أَمْر فَعَلَتْهُ، قِيلَ: بَاعَتْ ضَفِيرَتهَا بِخُبْزٍ فَأَطْعَمَتْهُ إِيَّاهُ فَلَامَهَا عَلَى ذَلِكَ وَحَلَفَ إِنْ شَفَاهُ اللَّه -تعالى- لَيَضْرِبَنهَا مِائَة جَلْدَة، وَقِيلَ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَاب، فَلَمَّا شَفَاهُ اللَّه -عَزَّ وَجَلَّ- وَعَافَاهُ مَا كَانَ جَزَاؤُهَا مَعَ هَذِهِ الْخِدْمَة التَّامَّة وَالرَّحْمَة وَالشَّفَقَة وَالْإِحْسَان أَنْ تُقَابَلَ بِالضَّرْبِ، فَأَفْتَاهُ اللَّه -عَزَّ وَجَلَّ- أَنْ يَأْخُذَ ضِغْثًا وَهُوَ الشِّمْرَاخ فِيهِ مِائَة قَضِيب فَيَضْرِبهَا بِهِ ضَرْبَة وَاحِدَة وَقَدْ بَرَّتْ يَمِينه، وَخَرَجَ مِنْ حِنْثه وَوَفَّى بِنَذْرِهِ، وَهَذَا مِنْ الْفَرَج وَالْمَخْرَج لِمَنْ اِتَّقَى اللَّه -تعالى- وَأَنَابَ إِلَيْهِ».
حكم ضرب الزوج لزوجته
فمعنى قوله -تعالى-: {ضِغْـثًا}: قال اِبْن عَبَّاس: حُزْمَة. وعَنْه قَال: أُمِرَ أَنْ يَأْخُذ ضِغْثًا مِنْ رُطَبَة بِقَدْرِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَيَضْرِب بِهِ، وقَالَ عَطَاء: عِيدَانًا رُطَبَة، وقد تضمنت الآية الكريمة مسألة فقهية هي (حكم ضرب الزوج لزوجته): قال القرطبي: «تضمنت هذه الآية جواز ضرب الرجل امرأته تأديبا؛ وذلك لأن امرأة أيوب -عليه السلام- أخطأت فحلف ليضربنها مائة».
أساس العلاقة الزوجية
قال الجصاص: «في هذه الآية دلالة على أن للزوج أن يضرب امرأته تأديبا، لولا ذلك لم يكن لأيوب ليحلف عليها ويضربها، ولما أمره الله -تعالى- بضربها بعد حلفه»، ومعلوم أن العلاقة الزوجية تقوم على المودة والرحمة والمحبة والاحترام، وقيام كل طرف بواجباته قبل المطالبة بحقوقه كما قال -تعالى-: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} (الروم: 21).
اتَّقوا اللهَ في النساءِ
وعن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حجة الوداع موصيا بالنساء خيرا: «اتَّقوا اللهَ في النساءِ؛ فإنَّكم أخذتُموهنَّ بأمانةِ الله، واستحلَلْتُم فروجَهنَّ بكلمةِ الله، وإنَّ لكم عليهنَّ ألَّا يُوطِئْنَ فُرُشَكم أحًدا تكرهونَه، فإنْ فعَلْنَ ذلك فاضرِبوهنَّ ضربًا غيرَ مُبَرِّحٍ، ولهنَّ عليكم رِزقُهنَّ وكِسوتُهنَّ بالمعروفِ» أخرجه مسلم.
حقوق الزوجة المادية والمعنوية
وأرشد - صلى الله عليه وسلم - إلى حقوق الزوجة المادية والمعنوية في النفقة الزوجية بالمعروف، وترك الإيذاء النفسي بالضرب والتقبيح، فلما سئل: يا رسولَ اللَّهِ نساؤنا ما نأتي منْهنَّ وما نذرُ؟ قالَ: «ائتِ حرثَكَ أنَّى شئتَ، وأطعِمْها إذا طعِمتَ، واكسُها إذا اكتسيتَ، ولا تقبِّحِ الوجْهَ ولا تضرِبْ». أخرجه أبو داود وصححه الألباني، وقال -تعالى- مبينا حق الزوج على زوجته بالقوامة: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِم} ثم أثنى -سبحانه- على الزوجات الصالحات بأنهن مطيعات لأزواجهن بالمعروف فقال -سبحانه-: فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} (النساء:34)، قال ابن عباس: (قانتات): مطيعات لأزواجهن، و(حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ) قال السدي وغيره: أي: تحفظ زوجها في غيبته في نفسها، وماله.
وعن أبي هريرة قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحصنت فرجها، وأطاعت زوجها قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت» أخرجه ابن حبان وصححه الألباني. والأدلة كثيرة في بيان حقوق الزوجين وواجباتهما.
سبل علاج سوء خلق الزوجة
وبيّن القرآن الكريم أن بعض المؤمنات قد تتعالى على زوجها وتسوء أخلاقها معه فأرشد إلى سبل العلاج في قوله -تعالى-: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} (النساء:34)، قال ابن عباس: «تلك المرأة تنشز وتستخف بحق زوجها ولا تطيع أمره».
وقد اتفق الفقهاء على أن للزوج تأديب زوجته إذا نشزت، وهذا التأديب على الترتيب كما قال القرطبي: «أَمَرَ اللَّه أَنْ يَبْدَأ النِّسَاء بِالْمَوْعِظَةِ أَوَّلًا ثُمَّ بِالْهِجْرَانِ، فَإِنْ لَمْ يَنْجَعَا فَالضَّرْب، فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يُصْلِحُهَا لَهُ وَيَحْمِلهَا عَلَى تَوْفِيَة حَقّه».
قال ابن عباس مبينا الخطوة الأولى: «عظوهن بكتاب الله. قال: أمره الله إذا نشزت أن يعظها ويذكرها الله ويعظم حقه عليها».
وقال عن الخطوة الثانية إذا لم تنفع الأولى: «الهجران أن يكون الرجل وامرأته على فراش واحد لا يجامعها».
وقال عن الخطوة الثالثة: «تهجرها في المضجع فإن أقبلت وإلا فقد أذن الله لك أن تضربها ضربا غير مبرح، ولا تكسر لها عظما».
تجنب الضرب أفضل
ومع أن الضرب وسيلة علاجية مشروعة إلا أن تجنبه أفضل قدر الإمكان، قال الشافعي: «الضرب مباح وتركه أفضل» قَالَ: قَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تَضْرِبُوا إِمَاء اللَّه» فَجَاءَ عُمَر إِلَى رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: ذَئِرَتْ النِّسَاء عَلَى أَزْوَاجهنَّ فَرَخَّصَ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فِي ضَرْبهنَّ فَأَطَافَ بِآلِ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - نِسَاء كَثِير يَشْتَكِينَ أَزْوَاجهنَّ فَقَالَ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: «لَقَدْ أَطَافَ بِآلِ مُحَمَّد نِسَاء كَثِير يَشْتَكِينَ مِنْ أَزْوَاجهنَّ لَيْسَ أُولَئِكَ بِخِيَارِكُمْ». أخرجه أَبُو دَاوُد وحسنه الألباني.
الضرب مقيد كما وكيفًا
وقد ذكر الفقهاء أن هذا الضرب مقيد من حيث الكيفية والكمية:
قال القرطبي: «فَالضَّرْب فِي هَذِهِ الْآيَة هُوَ ضَرْب الْأَدَب غَيْر الْمُبَرِّح، وَهُوَ الَّذِي لَا يَكْسِر عَظْمًا، وَلَا يَشِين جَارِحَة كَاللَّكْزَةِ وَنَحْوهَا؛ فَإِنَّ الْمَقْصُود مِنْهُ الصَّلَاح لَا غَيْر، فَلَا جَرَمَ إِذَا أَدَّى إِلَى الْهَلَاك وَجَبَ الضَّمَان، كما تقدم من قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فَاضْرِبُوهُنَ ّ ضَرْبًا غَيْر مُبَرِّح»، قَالَ عَطَاء: قُلْت لِابْنِ عَبَّاس: مَا الضَّرْب غَيْر الْمُبَرِّح؟ قَالَ بِالسِّوَاكِ وَنَحْوه».
وقال الخلال: سألت أحمد قال: «غير الشديد».
وعلى الزوج أن يجتنب الوجه والمواضع المخوفة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تضرب الوجه ولا تقبح».
وأما الكمية فلا يزيد على عشر ضربات لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله». أخرجه مسلم.
التحذير من ظلم الزوجات
وقد حذرنا الله -تعالى- من الظلم للزوجات أو التعسف في استعمال هذا الحق فختم الآية بقوله: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} (النساء:34)، قال القرطبي مبينا مناسبة ختام الآية أن فيها «إشارة إلى الأزواج بخفض الجناح ولين الجانب، أي: إن كنتم تقدرون عليهن فتذكروا قدرة الله؛ فيده بالقدرة فوق كل يد. فلا يستعلي أحد على امرأته؛ فالله بالمرصاد».
د.وليد خالد الربيع
ابو وليد البحيرى
2022-12-20, 11:27 AM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (77)
- بعض الأحكام المستفادة من قصة أيوب عليه السلام «حكم الحيل وأنواعها
لا نزال مع قوله -تعالى-: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} (سورة ص:44)، من المسائل الفقهية المستفادة من الآية الكريمة مسألة (حكم الحيل وأنواعها)، قال الجصاص: «وفيها أي الآية دليل على جواز الحيلة في التوصل إلى ما يجوز فعله، ومنع المكروه بها عن نفسه وعن غيره؛ لأن الله -تعالى- أمره بضربها بالضغث ليخرجه من يمينه، ولا يصلإليها كثير ضرر».
من المقرر أن الدين الإسلامي يدعو إلى الصدق والأمانة والوفاء بالالتزامات، ويحرم الكذب والخديعة والغدر، والأدلة على ذلك كثيرة، و(الحيلة) كلمة في عرف الناس تدل على المكر والخديعة، فكيف يقول الجصاص إن هذه الآية تدل على جواز الحيلة؟
مفهوم الحيلة
والجواب: أن الحيلة في اللغة معنى يدل على الحذق في تدبير الأمور، والتوصل به إلى المطلوب في خفية؛ فهي تدل على الذكاء والحذق فقط، وأما في الاصطلاح الفقهي فالحيلة نوعان (مشروعة، وممنوعة)، قال ابن القيم: «ليس كل ما يسمى حيلة حراما».
الحيل نوعان
وقال: «الحيل نوعان:
النوع الأول: ما يتوصل به إلى فعل ما أمر الله -تعالى- به وترك ما نهى الله عنه
النوع الأول: وهو نوع يتوصل به إلى فعل ما أمر الله -تعالى- به وترك ما نهى الله عنه، والتخلص من الحرام وتخليص الحق من الظالم المانع له، وتخليص المظلوم من يد الظالم الباغي، فهذا النوع محمود يثاب فاعله ومعلمه، وهو ما يعرف بالمخارج الشرعية، وهو مرادف للحيل المشروعة عند بعض الفقهاء كما قال ابن نجيم: «واختلف مشايخنا -رحمهم الله تعالى- في التعبير عن ذلك؛ فاختار كثير التعبير بكتاب الحيل، واختار كثير كتاب المخارج». وفرق بينهما بعضهم كما قال ابن القيم: «ونسميه وجوه المخارج من المضائق، ولا نسميه بالحيل التي ينفر الناس من اسمها»؛ لأن الأسماع تنفر من كلمة (حيل) لدلالتها العرفية الدالة على الخديعة عندهم.
النوع الثاني: يتضمن إسقاط الواجبات وتحليل المحرمات
وهو نوع يتضمن إسقاط الواجبات وتحليل المحرمات، وقلب المظلوم ظالما والظالم مظلوما، والحق باطلا والباطل حقا، فهذا النوع الذي اتفق السلف على ذمه، وصاحوا بأهله من أقطار الأرض، وقال الإمام أحمد: «لا يجوز شيء من الحيل في إبطال حق مسلم».
الحيل المشروعة
فالحيل التي تؤدي إلى الحق وتعين عليه (مشروعة)، ويشهد لهذا أدلة منها:
1- قوله -تعالى-: {إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا} (النساء:98) أي: التحيل على التخلص من الكفار، وهذه حيلة محمودة يثاب عليها فاعلها.
2- قوله -تعالى-: {وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث} (ص:44)، قال ابن القيم: «وهذا يدل على أن كفارة اليمين لم تكن مشروعة بتلك الشريعة، بل ليس في اليمين إلا البر والحنث»، فأذن الله لنبيه أن يتحلل من يمينه بالضرب بالضغث، وهو كان قد حلف أن يضربها ضربات معدودة، وهي في المتعارف الظاهر إنما تكون متفرقة، فأرشده الله إلى طريقة للخروج من يمينه.
3- قوله -تعالى-: {كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك} (يوسف:76)، قال ابن تيمية: «فيه ضروب من الحيل الحسنة».
4- وعن أَبُي أُمَامَةَ بْن سَهْل أَنَّهُ أَخْبَرَهُ بَعْض أَصْحَاب النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ الْأَنْصَار أَنَّهُ اِشْتَكَى رَجُل مِنْهُمْ حَتَّى أَضْنَى فَعَادَ جِلْدَة عَلَى عَظْم، فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ جَارِيَة لِبَعْضِهِمْ فَهَشَّ لَهَا فَوَقَعَ عَلَيْهَا، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ رِجَال قَوْمه يَعُودُونَهُ أَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ وَقَالَ: اِسْتَفْتُوا لِي رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فَإِنِّي قَدْ وَقَعْت عَلَى جَارِيَة دَخَلَتْ عَلَيَّ. فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وَقَالُوا: مَا رَأَيْنَا بِأَحَدٍ مِنْ النَّاس مِنْ الضُّرّ مِثْل الَّذِي هُوَ بِهِ، لَوْ حَمَلْنَاهُ إِلَيْك لَتَفَسَّخَتْ عِظَامه، مَا هُوَ إِلَّا جِلْد عَلَى عَظْم، فَأَمَرَ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَأْخُذُوا لَهُ مِائَة شِمْرَاخ فَيَضْرِبُوهُ بِهَا ضَرْبَة وَاحِدَة. أخرجه أبو داود وصححه الألباني.
الحيل الممنوعة
وأما إذا كانت الحيل تؤدي إلى الباطل وتعين عليه فهي ممنوعة، قال ابن القيم: «فهذه الحيل وأمثالها لا يستريب مسلم في أنها من كبائر الإثم وأقبح المحرمات، وهي من التلاعب بدين الله، واتخاذ آياته هزوا، وهي حرام من جهتها في نفسها؛ لكونها كذبا وزورا، وحرام من جهة المقصود بها، وهو إبطال حق وإثبات باطل».
ويدل على هذا أدلة منها:
1- قوله -تعالى-: {يخادعون الله وهو خادعهم} (النساء:142) قال ابن القيم: «فذم الله -تعالى- المنافقين؛ لأنهم يخادعون الله والمؤمنين، مما يدل على أن مخادعة الله -تعالى- محرمة، والحيل في حقيقتها مخادعة لله -تعالى- فهي حرام من هذه الجهة».
2- أخبر -تعالى- عن أهل الجنة في سورة القلم أنهم لما تحيلوا على إسقاط نصيب المساكين، دمر الله جنتهم، قال ابن القيم: «فكان في ذلك عبرة لكل محتال على إسقاط حق من حقوق الله أو حقوق عباده».
3- ما قصه الله -تعالى- عن أصحاب السبت لما احتالوا على ما حرم الله بنصب الشباك يوم الجمعة ورفعها يوم الأحد فمسخهم الله -تعالى- قردة وخنازير، قال بعض السلف: «ففي هذا زجر عظيم لمن يتعاطى الحيل على المناهي الشرعية ممن يتلبس بعلم الفقه وهو غير فقيه، إذا الفقيه من يخشى الله بحفظ حدوده وتعظيم حرماته، ليس المتحيل على إباحة محارمه وإسقاط فرائضه».
5- عن جابر أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام» فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس، فقال: «لا، هو حرام» ثم قال: «قاتل الله اليهود، إن الله لما حرم عليهم شحومها جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه» متفق عليه.
قال الخطابي: «في هذا الحديث بطلان كل حيلة يحتال بها المتوصل إلى المحرم، وأنه لا يتغير حكمه بتغير هيئته وتبديل اسمه».
6- إن تجويز الحيل يناقض مبدأ (سد الذرائع) الذي جاءت به الشريعة، وذلك أن الشرع يسد الطرق المؤدية إلى المفاسد بكل ممكن، والمحتال يفتح الطريق إليها بحيله، فأين من يمنع الجائز خشية الوقوع في الحرام ممن يعمل الحيل للوصول إليه؟
د.وليد خالد الربيع
ابو وليد البحيرى
2022-12-20, 11:36 AM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (78)
- بعض الأحكام المستفادة من قصة نبي الله صالح عليه السلام - مسألة ا
قال -تعالى-: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ} (سورة القمر:28)، من القصص القرآنية التي تكررت في سور عديدة؛ -لما فيها من المواعظ والحكم- قصة نبي الله صالح -عليه السلام- مع قومه ثمود؛ حيث دعاهم إلى الله -تعالى-، فسألوه آية تدل على صدقه، قال ابن كثير: «واقترحوا عليه أن تخرج لهم من صخرة صماء عينوها بأنفسهم، وهي صخرة منفردة في ناحية الحجر، يقال لها: الكاتبة، فطلبوا منه أن يخرج لهم منها ناقة عشراء (حامل) تمخض، فأخذ عليهم صالح العهود والمواثيق لئن أجابهم الله إلى سؤالهم وأجابهم إلى طلبتهم ليؤمنن به وليتبعنه، فلما أعطوه على ذلك عهودهم ومواثيقهم، قام صالح -عليه السلام- إلى صلاته ودعا الله –عزوجل-، فتحركت تلك الصخرة ثم انصدعت عن ناقة جوفاء وبراء، يتحرك جنينها بين جنبيها، كما سألوا، فعند ذلك آمن رئيس القوم ومن كان معه على أمره، وأراد بقية أشراف ثمود أن يؤمنوا فصدهم صاحب أوثانهم.
فأقامت الناقة وفصيلها بعد ما وضعته بين أظهرهم مدة، تشرب ماء بئرها يوما، وتدعه لهم يوما، وكانوا يشربون لبنها يوم شربها، يحتلبونها فيملؤون ما شاؤوا من أوعيتهم وأوانيهم، كما قال في الآية: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ} (القمر: 28) وقال -تعالى-: {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} (الشعراء: 155) وكانت تسرح في بعض تلك الأودية ترد من فج وتصدر من غيره ليسعها؛ لأنها كانت تتضلع من الماء، وكانت - على ما ذكر - خلقا هائلا ومنظرا رائعا، إذا مرت بأنعامهم نفرت منها، فلما طال عليهم واشتد تكذيبهم لصالح النبي -عليه السلام- عزموا على قتلها، ليستأثروا بالماء كل يوم، فيقال: إنهم اتفقوا كلهم على قتلها.
توافقهم على قتل الناقة
قال قتادة: بلغني أن الذي قتل الناقة طاف عليهم كلهم، أنهم راضون بقتلها حتى على النساء في خدورهن، وعلى الصبيان أيضًا، وقال ابن كثير: وهذا هو الظاهر؛ لأن الله -تعالى- يقول: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا} (الشمس: 14) وقال: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا} (الإسراء: 59) وقال: {فعقروا الناقة} فأسند ذلك على مجموع القبيلة، فدل على رضا جميعهم بذلك».
لا تسألوا الآيات
وأخرج الإمام أحمد عن جابر قال: لما مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحجر قال: «لا تسألوا الآيات؛ فقد سألها قوم صالح فكانت -يعني الناقة- ترد من هذا الفج، وتصدر من هذا الفج، فعتوا عن أمر ربهم فعقروها، وكانت تشرب ماءهم يوما ويشربون لبنها يوما، فعقروها، فأخذتهم صيحة، أهمد الله من تحت أديم السماء منهم، إلا رجلا واحدا كان في حرم الله». فقالوا: من هو يا رسول الله؟ قال: «أبو رغال، فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه». قال ابن كثير: «وهو على شرط مسلم».
مسألة المهايأة أو قسمة المنافع
فمن المسائل المستفادة من الآية الكريمة (مسألة المهايأة أو قسمة المنافع): من المعلوم أن الملكية قد تكون خاصة لفرد واحد، وقد تكون لأفراد عدة على جهة الشيوع؛ بحيث لا تتميز أنصبتهم، كأفراد اشتركوا في ملكية أرض على الشيوع، وتسمى شركة أملاك.
وهذه الملكية المشتركة قد ترد على عين معينة كعقار (أرض أو بناء) أو منقول كسيارة مثلا، وقد ترد على منفعة، كالاشتراك في سكنى دار، أو زراعة أرض، أو حق الشرب والسقي من مورد ماء مشترك، فإذا تعذر قسمة العين بينهم، وتراضى الشركاء على قسمة المنافع بينهم بطريقة معينة، واتفقوا عليها فيلزمهم العمل بحسب الاتفاق، وليس لأحد أن يغير شيئا مما اتفقوا عليه؛ لأن الحق لهم، وقد رضوا به، والله -تعالى- يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (المائدة:1)
أما إذا لم يتفق الشركاء على طريقة معينة لقسمة المنافع، فإن كان لأحدهم بينة على حقه بالانتفاع مدة معينة فيعمل بالبينة.
أما إذا لم يكن هناك بينة فمن طرق قسمة المنافع ومنها حق الشِرب والسقي من مصادر المياه المملوكة قسمة المهايأة.
معنى المهايأة
والمهايأة: مفاعلة مشتقة من الهيئة، وهي الحالة الظاهرة وحالة الشيء وكيفيته، يقال: هيأت الأمر أعددته، وتهايأ القوم: جعلوا لكل واحد هيئة معلومة، والمراد: النوبة، وعرفها الفقهاء بقسمة المنافع على التعاقب والتناوب؛ وتكون في قسمة المياه المشتركة بأن ينفرد أحدهم بالماء مدة معلومة، قال ابن قدامة:» وإن قسموا ماء النهر المشترك بالمهايأة جاز إذا تراضوا به وكان حق كل واحد منهم معلومًا، مثل أن يجعلوا لكل حصة يوما وليلة أو أكثر من ذلك أو أقل، وإن قسموا النهار فجعلوا لواحد من طلوع الشمس إلى وقت الزوال، وللآخر من الزوال إلى الغروب ونحو ذلك جاز». وهو قول الجمهور، ومما استدلوا به:
جواز المهايأة على الماء
1- قوله -تعالى-: {لها شرب ولكم شرب يوم معلوم} (الشعراء:155)، وقوله -تعالى-: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ} (سورة القمر:28)، قال الجصاص: «يدل على جواز المهايأة على الماء؛ لأنهم جعلوا شرب الماء يوما للناقة، ويوما لهم، ويدل أيضا على أن المهايأة قسمة منافع؛ لأن الله -تعالى- قد سمى ذلك قسمة، وإنما هي مهايأة على الماء لا قسمة الأصل».يعني ليست قسمة أعيان.
قال القرطبي:» قوله -تعالى-: {كل شرب محتضر} الشِرب - بالكسر-: الحظ من الماء؛ وفي المثل: (آخرها أقلها شربا) وأصله في سقي الإبل، لأن آخرها يرد وقد نزف الحوض. ومعنى محتضر أي: يحضره من هو له؛ فالناقة تحضر الماء يوم وردها، وتغيب عنهم يوم وردهم قاله مقاتل. وقال مجاهد: إن ثمود يحضرون الماء يوم غبها فيشربون، ويحضرون اللبن يوم وردها فيحتلبون»، قال ابن سعدي: {كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ} أي: يحضره من كان قسمته، ويحظر على من ليس بقسمة له.»
القاعدة العامة في قسمة الأملاك المشتركة
2- أن قسمة الماء في القناة المشتركة بين الشركاء إنما يتبع القاعدة العامة في قسمة الأملاك المشتركة في قسمة العين إن أمكن، وإلا تقسم منافعها عليهم، وهكذا في هذه الصورة، لأنه ربما يكون الماء قليلا لا يكفي الجميع دفعة واحدة، فلا يمكن الانتفاع به إلا بالمهايأة الزمانية.
وإن تنازعوا فيمن يبتدئ بالسقي أقرع بينهم حتى يستقر لهم ترتيب؛ الأول فمن يليه، ويختص كل منهم بنوبته لا يشاركه غيره فيها، ثم هم من بعدها على ما ترتبوا.
وإذا كانت نوبة أحدهم فله أن يختص بالتصرف بالماء بأن يسقي ما شاء من أرض أو بهائم أو يعطي الماء من يسقي به؛ لأن حق الشرب من قبيل ملك المنفعة، ومن ثبت له ملك المنفعة فله أن يتصرف فيها بالاستعمال والاستغلال وسائر التصرفات المشروعة، ولا يمنع إلا في حالة الإضرار بالآخرين.
د.وليد خالد الربيع
ابو وليد البحيرى
2022-12-20, 11:41 AM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (79)
- بعض الأحكام المستفادة من قصة نوح عليه السلام
- مسألة فضل الاستغفار
قال -تعالى-: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا} (سورة نوح:10-12)، هذه الآيات الكريمة في سياق قصة نبي الله نوح -عليه السلام- وامتثاله أمر الله -تعالى- بإنذار قومه وما جرى له معهم من الحوار والمجادلة، وكان من جملة ما قاله لهم ما ذكره الله -سبحانه- في هذا السياق.
قال ابن كثير: «{فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا} أي: ارجعوا إليه وارجعوا عما أنتم فيه، وتوبوا إليه من قريب، فإنه من تاب إليه تاب عليه، ولو كانت ذنوبه مهما كانت في الكفر والشرك؛ ولهذا قال: {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا} أي: متواصلة الأمطار؛ ولهذا تستحب قراءة هذه السورة في صلاة الاستسقاء لأجل هذه الآية، وهكذا روي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: أنه صعد المنبر ليستسقي، فلم يزد على الاستغفار، وقرأ الآيات في الاستغفار. ومنها هذه الآية (فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا) ثم قال: لقد طلبت الغيث بمجاديح السماء التي ستنزل بها المطر»، فمن المسائل المستفادة من الآية الكريمة: (مسألة فضل الاستغفار).
قال القرطبي: «في هذه الآية التي في (هود)، يعني قوله -سبحانه-: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} (سورة هود:3) دليل على أن الاستغفار يستنزل به الرزق والمطر» وذكر كيفية الاستغفار باختصار، وهو أن ذلك يكون عن إخلاص وإقلاع من الذنوب وهو الأصل في الإجابة.
أولا: تعريف الاستغفار
الاستغفار في اللغة: مصدر الفعل استغفر، وأصل المادة اللغوي: (غ ف ر) يدل على الستر والتغطية.
وفي الاصطلاح: قال الراغب: «الغفران والمغفرة من الله هو أن يصون العبد من أن يمسه العذاب. والاستغفار: طلب ذلك بالمقال والفعال».
وقال ابن القيم: «الاستغفار إذا ذكر مفردا يراد به التّوبة مع طلب المغفرة من اللّه، وهو محو الذّنب وإزالة أثره ووقاية شرّه، والسّتر لازم لهذا المعنى، كما في قوله -تعالى-: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إنَّه كَانَ غَفَّارَاً}، فالاستغفار بهذا المعنى يتضمّن التّوبة.
أمّا عند اقتران إحدى اللّفظتين بالأخرى، فالاستغفار: طلب وقاية شرّ ما مضى، والتّوبة: الرّجوع وطلب وقاية شرّ ما يخافه في المستقبل من سيّئات أعماله، كما في قوله -تعالى-: {وَأَن اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثمَّ تُوبُوا إليه} (سورة هود:4).
ثانيا: فضل الاستغفار
أمر الله -تعالى- بالاستغفار في آيات كثيرة، وحث عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث عديدة، ومن ذلك عن أنسٍ قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول: «قال الله: يا ابن آدم، إنَّك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أُبالي، يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عَنان السماء ثمَّ اسْتغفرتني غفرت لك ولا أُبالي، يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً، لأتيتك بقرابها مغفرةً». رواه الترمذي. وحسنه الألباني.
وعن أبي سعيدٍ الخدريِّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم- قال: «قال إبليسُ: وعَزِّتك لا أبرح أُغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم؛ فقال: وعِزَّتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما اسْتغفروني». رواه أحمد والحاكم وصححه، وعن عبد الله بن بسرٍ قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم- يقول: «طوبى لمن وُجد في صحيفته استغفارٌ كثير» رواه ابن ماجه. وحسنه الألباني.
وعن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: «إنَّ العبدَ إذا أخطأ خطيئةً نَكَتَتْ في قلبه نُكْتَةٌ، فإن هو نَزَعَ واستغفرَ صقُلَتْ، فإن عاد زيد فيها حتى تعلوَ قلبه، فذلك الران الذي ذكر الله -تعالى-: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} «. رواه الترمذي وحسنه الألباني.
عن بلال بنِ يَسار بن زَيدٍ قال: حدَّثني أبي عن جدِّي، أنه سمعَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم- يقول: «مَنْ قال: «أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحيُّ القيُّومُ وأتوبُ إليه»، غُفِرَ لَهُ وإنْ كان فَرَّ مِنَ الزَّحف». رواه أبو داود والترمذي وصححه الألباني.
مواضع الاستغفار
مطلوب من المسلم أن يديم الاستغفار في كل أحيانه، كما قال الحسن: «أكثروا من الاستغفار في بيوتكم، وعلى موائدكم، وفي طُرقاتكم، وفي أسواقكم، وفي مجالسكم؛ فإنكم لا تدرون متى تنزل المغفرة»، وهناك مواضع عديدة يتأكد فيها الاستغفار منها:
- عقب الخروج من الخلاء فعنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم- إِذَا خَرَجَ مِن الخَلَاءِ قَالَ: «غُفْرَانَكَ». أخرجه الترمذي وحسنه.
- وبعد الوضوء فعن أبي سعيد الخدري -موقوفا عليه- قال: «مَن توضَّأ فقال: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أنْ لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، كُتِب في رَقٍّ، ثم جُعِل في طابع، فلم يُكْسَر إلى يوم القيامة».
- وعند دخول المسجد والخروج منه فعن فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قالتْ: كان رسول الله إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلَّم، وقال: «رب اغفر لي ذنوبي، وافتَحْ لي أبواب رحمتك»، وإذا خرَج صلى على محمد وسلَّم، وقال: «رب اغفر لي، وافتَحْ لي أبواب فضْلك».
- وبين السجدتين فعَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم- َكَانَ يَقُولُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ : «رَبِّ اغْفِرْ لِي، رَبِّ اغْفِرْ لِي». رواه النسائي وصححه الألباني، وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقُولُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ : «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَاجْبُرْنِي، وَاهْدِنِي، وَارْزُقْنِي» رواه الترمذي وصححه الألباني.
- وبعد التشهد قال عليّ في صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم-: «ثُمَّ يَكُونُ مِنْ آخِرِ مَا يَقُولُ بَيْنَ التَّشَهُّدِ وَالتَّسْلِيمِ «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَسْرَفْتُ وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ» أخرجه مسلم.
- وعقب الصلاة بعد السلام فعن ثوبان قال: كان رسول الله إذا انْصَرف من صلاته استغفَر ثلاثًا، وقال: «اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركْتَ يا ذا الجلال والإكرام»، قال الوليد: فقلتُ للأوزاعي: كيف؟ قال: تقول: «أستغفر الله، أستغفر الله». أخرجه مسلم
- وعند النوم فعن أبي سعيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَن قال حين يأوي إلى فراشه: أستغفرُ الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه ثلاث مرات، غَفَر الله له ذنوبَه، وإنْ كانتْ مثل زَبَد البحر» أخرَجه الترمذي وحسَّنه الألباني
- وفي ختْم المجالس فعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَن جلَس مجلسًا كَثُر فيه لَغطُه، فقال قبل أن يقوم: سبحانك ربَّنا وبحمدك، لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، كان كفَّارة لما كان في ذلك المجلس» أخرَجه أحمد وقال شعيب الأرنؤوط: «إسناده صحيح على شرْط مسلم».
د.وليد خالد الربيع
ابو وليد البحيرى
2023-01-06, 12:00 PM
الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (80)
- بعض الأحكام المستفادة من قصة أصحاب الجنة
- أثر القصد في صحة العمل
قال الله -تعالى-: {إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (17) وَلا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} (القلم:17-20)، ذكر الله -تعالى- قصة أصحاب الجنة - كما ذكر بعض السلف- الذين كان أبوهم قد خلف لهم هذه الجنة -وكانوا من أهل الكتاب-، وقد كان أبوهم يسير فيها سيرة حسنة؛ فكان ما استغله منها يرد فيها ما يحتاج إليها، ويدخر لعياله قوت سنتهم، ويتصدق بالفاضل، فلما مات ورثه بنوه، وقالوا: لقد كان أبونا أحمق؛ إذ كان يصرف من هذه شيئا للفقراء، ولو أنا منعناهم لتوفر ذلك علينا؛ فلما عزموا على ذلك عوقبوا بنقيض قصدهم، فأذهب الله ما بأيديهم بالكلية: رأس المال، والربح، والصدقة، فلم يبق لهم شيء.
قال ابن كثير: «هذا مثل ضربه الله -تعالى- لكفار قريش فيما أهدى إليهم من الرحمة العظيمة، وأعطاهم من النعم الجسيمة، وهو بعثه محمدا - صلى الله عليه وسلم - إليهم؛ فقابلوه بالتكذيب والرد والمحاربة»، فمن المسائل الفقهية التي تستفاد من هذه الآية (أثر القصد في صحة العمل وجزائه).
هوم لقصد
والقصد في اصطلاح الفقهاء: هو العزم المتجه نحو إنشاء فعل، أو الدوافع التي تجعل المكلف يتوجه إلى الفعل، وقد قرر الفقهاء أن أحكام تصرفات الإنسان تختلف باختلاف قصده؛ فبالنية يكون الفعل عبادة أو عادة، وبالنية يكون التصرف طاعة أو مباحا أو معصية، وبالنية يكون العقد صحيحا أو فاسدا، ونحو ذلك.
ثير المقاصد في أحكام الأفعال
ومثال تأثير المقاصد في أحكام الأفعال، أن القتل يختلف حكمه باختلاف القصد؛ فيجب القصاص إن كان القتل عمدا، وفيه الدية المغلظة والكفارة إن كان قتلا شبه عمد، وفيه الدية المخففة والكفارة إن كان قتلا خطأ، ودفع المال للآخر يختلف حكمه باختلاف قصد الدافع؛ فإن كان بغير عوض كان هبة، وإن كان على أن يرجعه الآخذ كان قرضا، وإن كان على يدفع الآخذ عوضا له كان هبة الثواب وتأخذ أحكام البيع.
الأدلة على هذا الأصل
وقد دل على هذا الأصل أدلة كثيرة منها قوله -عليه السلام-: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» متفق عليه، ومعناه: أن التصرفات تابعة للنيات؛ فنتيجة تصرفات المكلف والأحكام المترتبة عليها تختلف باختلاف نية المكلف.
النية الصادقة عمل صالح
ودلت النصوص الصحيحة على أن النية الصادقة عمل صالح يؤجر عليه الإنسان ولو لم يعمل شيئا، كقوله -تعالى-: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (النساء: 100)، قال ابن كثير: «أي: ومن يخرج من منزله بنية الهجرة فمات في أثناء الطريق، فقد حصل له عند الله ثواب من هاجر، ثم ذكر حديث: «إنما الأعمال بالنيات».
وقال ابن سعدي: «{فقد وقع أجره على الله} أي: فقد حصل له أجر المهاجر الذي أدرك مقصوده بضمان الله -تعالى-؛ وذلك لأنه نوى وجزم، وحصل منه ابتداء وشروع في العمل، فمن رحمة الله به وبأمثاله أن أعطاهم أجرهم كاملاً ولو لم يكملوا العمل، وغفر لهم ما حصل منهم من التقصير في الهجرة وغيرها».
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من همّ بحسنة فلم يعملها فعلم الله منه أنه قد أشعر قلبه وحرص عليها كتبت له حسنة «أخرجه أحمد وهو صحيح، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من أتى فراشه وهو ينوي أن يقوم يصلي من الليل فغلبته عينه حتى يصبح كتب له ما نوى، وكان نومه صدقة عليه من ربه» أخرجه النسائي وحسنه الألباني.
وقال شيخ الإسلام: « من نوى الخير، وعمل منه مقدوره، وعجز عن إكماله، كان له أجر عامل، كما في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا، ولا قطعتم واديا، إلا كانوا معكم». قالوا: وهم بالمدينة؟ قال: «وهم بالمدينة، حبسهم العذر».
المكلف قد يؤاخذ بقصده السيء
وقد صحح الترمذي حديث أبي كَبْشَة الأنماري عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه ذكر أربعة رجال: «رجل أتاه اللّه مالًا وعلمًا، فهو يعمل فيه بطاعة اللّه. ورجل أتاه اللّه علمًا ولم يؤته مالًا، فقال: لو أن لي مثل ما لفلان لعملت فيه مثل ما يعمل فلان. قال: فهما في الأجر سواء. ورجل آتاه اللّه مالًا ولم يؤته علمًا، فهو يعمل فيه بمعصية اللّه. ورجل لم يؤته اللّه مالًا ولا علمًا، فقال: لو أن لي مثل ما لفلان لعملت فيه مثل ما يعمل فلان. قال: فهما في الوزر سواء».
وفي هذا الحديث وحديث ابن عباس الآتي دليل على أن المكلف قد يؤاخذ بقصده السيء، قال القرطبي: «في هَذِهِ الْآيَةِ (من سورة القلم) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَزْمَ مِمَّا يُؤَاخَذُ بِهِ الْإِنْسَانُ؛ لِأَنَّهُمْ عَزَمُوا عَلَى أَنْ يَفْعَلُوا؛ فَعُوقِبُوا قَبْلَ فِعْلِهِمْ».
فقوله -تعالى-: {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} (القلم:25) يدل على عزمهم الأكيد على حرمان الفقراء من ثمار الحديقة، قال القرطبي: «الحرد: القصد»، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ -تعالى- عن المسجد الحرام: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ} (الحج: 25).
مراتب الهمّ بالسيئة
وأخرج الشيخان عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه عز وجل- أنه قال: «إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بيّـن ذلك؛ فمن همّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همّ بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن همّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همّ بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة».
يبين الشيخ ابن عثيمين مراتب الهمّ بالسيئة وأثر ذلك:
الأولى: العزم على فعل المعصية
أن يعزم على فعل المعصية ويقصدها جازما ثم يتركها لله -تعالى-، فهذا الذي يؤجر ويكتب الله له حسنة كاملة، كما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يقول الله: إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها، فإن عملها فاكتبوها بمثلها، وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة» قال ابن رجب: «لأن تركه المعصية بهذا القصد عمل صالح».
الثانية: العزم على المعصية لكن يعجز عنها دون سعي لها
أن يعزم على فعل المعصية لكن يعجز عنها دون أن يسعى في أسبابها، كالرجل الذي أخبر عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ليت لي مثل مال فلان فأعمل فيه بعمله، وكان فلان يسرف على نفسه في تصريف ماله، فهذا يكتب عليه سيئة، ولكن ليس كعامل السيئة، بل يكتب وزر نيته كما جاء في الحديث بلفظ: «فهو بنيته فهما في الوزر سواء».
الثالثة: العزم على المعصية لكن
يعجز عنها مع سعيه لها
أن يعزم على المعصية ويسعى في الحصول عليها ولكن يعجز، فهذا يكتب عليه وزر السيئة كاملا، دليل ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار» قال: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: «لأنه كان حريصا على قتل صاحبه «فكتب عليه عقوبة القاتل»، ومثاله: لو أن إنسانا تهيأ وأتى ليسرق وأتى بالسلم ليتسلق ولكن عجز، فهذا يكتب عليه وزر السارق؛ لأنه هم بالسيئة وسعى في أسبابها ولكن عجز».
الرابعة: الهم بالمعصية ثم يعزف
عنها لا لله ولا للعجز
أن يهم الإنسان بالمعصية ثم يعزف عنها لا لله ولا للعجز، قال الشيخ ابن عثيمين: «فهذا لا له ولا عليه، وهذا يقع كثيرا، يهم الإنسان بالسيئة ثم تطيب نفسه ويعزف عنها، فهذا لا يثاب؛ لأنه لم يتركها لله، ولا يعاقب؛ لأنه لم يفعل ما يوجب العقوبة».
الخامسة: الهم بالمعصية ثم تركها خوفًا من المخلوقين
قال ابن رجب: «إن همّ بمعصية ثم ترك عملها خوفا من المخلوقين أو مراءاة لهم فقد قيل: إنه يعاقب على تركها بهذه النية؛ لأن تقديم خوف المخلوقين على خوف الله محرم، وكذلك قصد الرياء للمخلوقين محرم، فإذا اقترن به ترك المعصية لأجله عوقب على ذلك الترك».
د.وليد خالد الربيع
Powered by vBulletin® Version 4.2.2 Copyright © 2025 vBulletin Solutions، Inc. All rights reserved.