ابو وليد البحيرى
2019-12-02, 06:18 AM
الصراط المستقيم
محمد بن عبد الله
ما هو الصراط المستقيم؟
قيل: إنه القرآن، وقيل: الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصاحباه من بعده، وقيل: الإسلام، قال ابن القيم: " والقول الجامع في تفسير الصراط المستقيم هو الطريق الذي نصبه الله لعباده على ألسنة رسله وجعله موصلاً لعباده إليه ولا طريق لهم سواه، وهو إفراده بالعبودية وإفراد رسله بالطاعة، وهو مضمون شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، ونكتة ذلك وعقده أن تحبه بقلبك كله وترضيه بجهدك فلا يكون في قلبك موضع إلا معمور بحبه ولا تكون إرادة إلا متعلقة بمرضاته وهذا هو الهدى ودين الحق وهو معرفة الحق والعمل به وهو معرفة ما بعث الله به رسله والقيام به، فقل ما شئت من العبارات التي هذا أحسنها وقطب رحاها".
فالصراط المستقيم:
1. هو الصراط الذي يرجوه كل مسلم يسأل الله في كل صلواته الفريضة والنافله أن يرزقه إياه قائلاً: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة: 6]. ثم بين - سبحانه - وتعالى وصف هذا الصراط في الآية التي تليها: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) [الفاتحة: 7] حتى يعلم أن الصراط المستقيم إنما هو سبيل المؤمنين وليس سبيل المغضوب عليهم ولا هو سبيل الضالين.
بل وهناك من الملاحظات الهامة في هذا السياق أن يضاف الصراط تارة إلى الله وتارة إلى العباد ويذكر مفرداً معرفاً باللام تارة وبالإضافة تارة فقال: أما أضافته إلى الله فلأنه هو الذي شرعه ونصبه، وأما إضافته إلى العباد فلأنهم أهل سلوكه، وأما ذكره مفرداً معرفاً باللام تارة وبالإضافة تارة فلإفادة تعيينه واختصاصه وأنه صراط واحد بخلاف طرق أهل الضلال.
2. ولكونه وصية الله إلى أنبيائه ورسله - عليهم السلام - حيث قال - سبحانه - وتعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الزخرف: 43]، ووصية الله إلى الناس بالتباع هذا الصراط المستقيم: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام: 153] وهنا تجدر الإشارة إلى ما نقل عن ابن مسعود - رضي الله عنه- في توضيح وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: " من أراد أن ينظر إلى وصية محمد - صلى الله عليه وسلم - التي عليها خاتمه فليقرأ قوله - تعالى -: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) [الأنعام: 151] إلى قوله: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا) [الأنعام: 153]) الآية]".
يعني: هذه الثلاث الآيات التي ذكرت من آخر سورة الأنعام، وعبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - هو من أكابر الصحابة وعلمائهم، وقد أمَّره عمر - رضي الله عنه - على الكوفة حاكماً وقاضياً ومعلماً فيها، وتوفي سنة اثنتين وثلاثين من الهجرة رضوان الله عليه. وقوله: " من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي عليها خاتمه فليقرأ قوله - تعالى -: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) [الأنعام: 151] إلى آخر الآيات)".
يقول: كأن هذه وصية كتبها الرسول وختمها بخاتمه، فلم تخط ولم تخرج، فالمعنى: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصى بمضمون هذه الآيات؛ لأنه وصى بكتاب الله، ولم يوص الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصاة إلى أحد، وإنما كان يوصي بكتاب الله كما جاء في خطبته التي خطبها في حجة الوداع التي ودع الناس فيها؛ لأنه علم قرب أجله فقال: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله))، فحث على الأخذ بكتاب الله والتمسك به، هذه هي وصيته، أما الزعم بأنه وصى إلى شخص معين -لا سيما بالخلافة- فهذا كذب وافتراء على الله وعلى رسوله، وقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما كان في أثناء مرضه قال: ((ائتوني أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده))، ثم اختلفوا، فمنهم من قال: نأتي به، ومنهم قال: لا نأتي به، ثم قال: ((قوموا عني))، ولو كان هذا الكتاب متعينة كتابته ما تركه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولكن هذا بينته الرواية الأخرى، فإنه قال لـ عائشة - رضي الله عنها -: ((ادعي لي أباك وأخاك لأكتب له كتاباً)) حتى لا يختلف الناس ويقول قائل: لو كان فلان لو كان فلان، ثم قال: ((يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر))، فترك الكتاب؛ لأنه علم أن ترك الأمة بلا كتابة ولا وصية إلى أحد أنفع وأفضل، وإذا اجتهدوا ونظروا في اجتهادهم لا يخرجون عن الحق، وقد عُلم علماً يقينياً أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - منذ ترك الصلاة بالناس أمر أبا بكر أن يصلي بهم، فقال: ((مروا أبا بكر فليصل بالناس))، فراجعته عائشة - رضي الله عنها -، وقالت: يا رسول الله! إن أبا بكر رجل رقيق، إذا قام مقامك لا يستطيع أن يُسمِع الناس من البكاء، فلو أمرت عمر بن الخطاب أن يصلي بالناس، فقال: ((مروا أبا بكر فليصل بالناس))، فذهبت عائشة وقالت لـ حفصة: اذهبي وقولي له كذا وكذا، فذهبت حفصة وقالت له ذلك، فغضب - صلى الله عليه وسلم - وقال: ((إنكنَّ صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس))، فبقي أبو بكر - رضي الله عنه - يصلي بالناس طوال مرضه - صلى الله عليه وسلم -، وهذا أمر معلوم، ولهذا قال الصحابة: " إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رضيه لديننا فنحن نرضاه لدنيانا".
فالمقصود: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يوص إلى أحد، وإنما وصى بكتاب الله، وقول ابن مسعود: "من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي عليها خاتمه - كأنه يقول: هذه وصية كتبت ثم ختمت فلم تفتح- فليقرأ هذه الآيات"، هذا في الواقع ليس خاصاً بهذه الآيات، ففي كتاب الله كثير من أمثال هذه الآيات الثلاث المحكمات، ثم إن الشيء الذي يحتاج إلى بيان وإيضاح في كتاب الله قد وضحه الرسول - صلى الله عليه وسلم- وبينه، ولم يترك الناس في التباس أو اشتباه، ولهذا كان يقول لهم في آخر خطبة خطبها في الجمع الكبير يوم عرفة وكذلك يوم النحر: ((إنكم مسئولون عني فماذا أنتم قائلون؟))، هكذا كان يقول لهم، فصاروا يقولون: " نشهد أنك بلغت الرسالة وأديت الأمانة ونصحت الأمة، فصار - صلى الله عليه وسلم - يرفع إصبعه إلى السماء ثم ينكسها عليهم ويقول: ((اللهم اشهد، اللهم اشهد)) يعني: اشهد عليهم أنهم شهدوا لي بالبلاغ.
وكثيراً ما كان إذا بلغ الشيء قال: ((اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟ اللهم فاشهد))، يستشهد ربه؛ لأن الله - جل وعلا - يقول: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) [المائدة: 67]، فإذا كلف الله - جل وعلا - عبداً في إبلاغ الرسالة ثم توقف عنها فمعنى هذا أنه امتنع، وقد حمى الله - جل وعلا - رسوله من ذلك وصانه، فكان يحرص كل الحرص على التبليغ.
ولهذا يقول العلماء على هذه الآية: كل ما لم يقله الرسول ويأمر به ويفعله فهو باطل بدليل هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ) [المائدة: 67]؛ لأنه لو كان مما أنُزل إليه لبلغه، فإذا لم يبلغه فهو باطل مردود على صاحبه، والمقصود أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بلغ البلاغ المبين ولم يترك شيئاً، حتى إنه لما نزل عليه صلوات الله وسلامه عليه قوله - تعالى -: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) [الشعراء: 214] كأنه خشي أن يكون قصر، فبادر مسرعاً إلى أقرب جبل قريب منه وهو جبل الصفا فصعد عليه وجعل يرفع صوته ويهتف: ((وا صباحاه!))، وكانت هذه عادة العرب إذا رأى أحدهم عدواً قريباً ولا يمكنه أن يخبر قومه يصيح ويقول: ((وا صباحاه)) يعني: صبحكم العدو فصاروا يهرعون إليه من كل جانب، والذي لم يستطع أن يأتي إليه أرسل من يأتيه بالخبر؛ لأن هذا أمر مهم جداً، فلما اجتمعوا عنده قال: ((يا معشر قريش! أرأيتم لو أخبرتكم أن خلف هذا الجبل جيشاً يريد أن يغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك كذباً. فقال: أنقذوا أنفسكم من النار، فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد))، فجعل يعم ويخص، حتى قال -صلوات الله وسلامه عليه-: ((يا فاطمة بنت محمد! أنقذني نفسك من النار، لا أغني عنك من الله شيئاً))، فلم يترك شيئاً إلا وبينه للأمة، ولم يترك مجالاً يقوله ويبلغه إلا قام به في تبليغ شرع الله - جل وعلا -.
ولهذا صار كثير من الكفرة والفجرة يرمونه بالجنون، ويقولون: إنه مجنون من أجل هذا.
فالمقصود: أنه ليس للإنسان عذر بعد بلاغ الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وإنما عليه أن يهتم بأمر دينه، أن يعيره شيئاً من الاهتمام، ولا يجوز أن تكون دنياه أكثر اهتماماً عنده من أمر دينه؛ فإنه إذا كان كذلك يوشك أن يهلك. معنى الوصية التي تضمنتها الآيات الثلاث التي في سورة الأنعام قال الشارح - رحمه الله-: " وهذا الأثر رواه الترمذي وحسنه، وابن المنذر وابن أبى حاتم والطبراني بنحوه.
وقال بعضهم: معناه: من أراد أن ينظر إلى الوصية التي كأنها كتبت وختم عليها، فلم تغير ولم تبدل فليقرأ: (قُلْ تَعَالَوْا) [الأنعام: 151] إلى آخر الآيات، شبهها بالكتاب الذي كتب ثم ختم فلم يُزد فيه ولم يُنقص، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يوص إلا بكتاب الله، كما قال -فيما رواه مسلم -: (( وإني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله))، وقد روى عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث؟ ثم تلا قوله - تعالى -: ((قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ)) [الأنعام: 151]، حتى فرغ من الثلاث الآيات، ثم قال: من وفى بهن فأجره على الله، ومن انتقص منهن شيئاً فأدركه الله به في الدنيا كانت عقوبته، ومن أخره إلى الآخرة كان أمره إلى الله إن شاء آخذه وإن شاء عفا عنه)) رواه ابن أبي حاتم والحاكم وصححه، ومحمد بن نصر في (الاعتصام)".
وهذا أيضاً كان يتكرر من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد جاء أيضا عن عبادة بن الصامت أنه أمرهم أن يبايعوه على الآيات التي في آخر سورة الممتحنة، وهي قوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ) [الممتحنة: 12] إلى آخر الآية، وأنهم بايعوه عليهن، وهذا الحديث مثله، والرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يوصي بالآيات الجوامع التي فيها الأمر بعبادة الله والنهي عن عبادة غيره، وكذلك الالتزام بما جاء به وعدم الإخلال به، فكان يوصي بهذا ويَعِدُ الإنسان عليه بالجنة إذا وفى. كما أنه لما قال له معاذ: ((يا رسول الله! أخبرني بعمل يدخلني الجنة، قال: لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله -ثم قال: - تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً))، فذكر له هذه الأمور الخمسة فقط، وهذه هي التي يدخل بها الإنسان الجنة، وليس للجنة ثمن غيرها، ولكن الإنسان قد لا يدري هل جاء بها على الوجه المطلوب أو أنه أخل بها؟ ولا أحد يجزم جزماً بأنه جاء بها على الوجه الذي أراده الله، بل لابد أنه قصر فيها: في فعلها أو في صفاتها أو في غير ذلك. ولهذا من تيقن أن الله قبل منه عملاً فهو من السعداء، كما قال عبد الله بن عمر: " لو أعلم أن الله قبل مني حسنة لتمنيت الموت"؛ لأن الله - جل وعلا - أخبر أنه إنما يقبل من المتقين، كما قال - سبحانه-: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [المائدة: 27]. قال الشارح: " قلت: ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يوص أمته إلا بما وصاهم الله - تعالى -به على لسانه، وفى كتابه الذي أنزله: (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ) [النحل: 89]، وهذه الآيات وصية الله - تعالى-ووصية رسوله - صلى الله عليه وسلم –"، يعني أنه في آخر كل آية يقول: (ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ) [الأنعام: 151] فالوصية هي: الأمر المؤكد بأن يؤخذ به ولا يخل به، فهذه وصية الله، والرسول - صلى الله عليه وسلم - وصى بما وصى به ربه - جل وعلا –.
3. هو صراط الله: (الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) [إبراهيم: 1] حقيقة الصراط المستقيم قال الشارح - رحمه الله -: " قال ابن القيم رحمة الله عليه: ولنذكر في الصراط المستقيم قولاً وجيزاً؛ فإن الناس قد تنوعت عباراتهم عنه بحسب صفاته ومتعلقاته، وحقيقته شيء واحد، وهو طريق الله الذي نصبه لعباده موصلا لهم إليه ولا طريق إليه سواه، بل الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا طريقه الذي نصبه على ألسن رسله وجعله موصلاً لعبادة الله، وهو إفراده بالعبادة، وإفراد رسله بالطاعة، فلا يشرك به أحد في عبادته، ولا يشرك برسوله - صلى الله عليه وسلم - أحد في طاعته، فيجرد التوحيد ويجرد متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهذا كله مضمون شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فأي شيء فسر به الصراط المستقيم فهو داخل في هذين الأصلين. ونكتة ذلك أن تحبه بقلبك وترضيه بجهدك كله، فلا يكون في قلبك موضع إلا معموراً بحبه، ولا يكون لك إرادة إلا متعلقة بمرضاته، فالأول يحصل بتحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، والثاني يحصل بتحقيق شهادة أن محمداً رسول الله، وهذا هو الهدى ودين الحق، وهو معرفة الحق والعمل به، وهو معرفة ما بعث الله به رسوله والقيام به، وقل ما شئت من العبارات التي هذا آخيتها وقطب رحاها. قال: وقال سهل بن عبد الله: "عليكم بالأثر والسنة، فإني أخاف أنه سيأتي عن قليل زمان إذا ذكر إنسان النبي - صلى الله عليه وسلم - والاقتداء به في جميع أحواله ذموه ونفروا عنه وتبرءوا منه وأذلوه وأهانوه" انتهى".
هذا القول الذي ذكره ابن القيم واضح في تفسير الصراط المستقيم في أنه عبادة الله - جل وعلا - وحده وألا يشرك به شيء، وعبادته تتضمن كمال الحب مع كمال الذل له، فلا يعبد إلا الله - جل وعلا -، فتكون العبادة خالصة لله - جل وعلا -، فكل ما تتقرب به وكل فعل تفعله ترجو به ثواباً، وكل ترك تتركه تخاف أنك لو فعلته عوقبت فإن هذا يكون لله وحده، ليس لأحد من الخلق، وتفعل هذه الأمور مع غاية الحب والذل، ثم هذه الأمور التي تفعلها لابد أن تكون جاءت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم يقول: إن هذا مضمون شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ لأن معنى شهادة أن لا إله إلا الله، وكونه يشهد أن لا إله إلا الله: أن الشهادة هي العلم اليقيني الذي يكون عند الإنسان واضحاً جلياً ليس عنده فيه ريب ولا شك ولا تردد؛ لأنه يشاهده بعينه وبقلبه، فهو يشهد بهذا، يشهد أن لا إله إلا الله، ومعنى الإله: المحبوب المألوه الذي يكون الحب كله له مع الذل والخضوع، فيجب أن تحبه وتذل له، وهذا لا يجوز أن يكون لمخلوق، وإنما يكون خالصاً له - جل وعلا -.
وأما معنى شهادة أن محمداً رسول الله فهو: طاعته في أمره، واتباعه فيما جاء به، واجتناب ما نهاك عنه، وألا تعبد الله - جل وعلا - إلا بما شرعه لك، فأنت تشهد الشهادة اليقينية بأنه رسول من الله أرسله الله بهذا الشرع، فتتعبد الله - جل وعلا - بالشرع الذي جاء به عن طريقه، فهو الوساطة بيننا وبين ربنا في تبليغ شرعه، ولهذا يقول الله - جل وعلا - له: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا) [الكهف: 110]، والعمل الصالح هو الذي يكون على سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، (وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) [الكهف: 110] أي: أنك تعبد الله وحده ولا يكون لأحد من الخلق أو المقاصد والأغراض شيء أو نصيب من عبادتك، فإن كان لها نصيب فإن هذه العبادة لا تقبل؛ لأن الله - جل وعلا - يقول -كما في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه - جل وعلا -: (( أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه))، أي: يتركه وعمله لمن أشرك، ولهذا إذا جاء المراءون يوم القيامة الذين يلاحظون أنظار الناس وأقوالهم، يقول الله - جل وعلا - لهم: ((اذهبوا إلى الذين كنتم تراءونهم فاطلبوا أجركم عندهم))، وهل يجدون شيئاً؟ يجدون الخسارة والندامة، وهذا في الواقع من جهل الإنسان وظلمه، وإلا الناس مثله ماذا يغنون عنه؟! فكونه ينظر إلى إنسان ويحسن عمله من أجله قصور -نسأل الله السلامة-، فهو إنسان مثلك فقير بحاجة إلى ما يكمله، بل بحاجة إلى من يحميه من الكوارث والمصائب ويسدده ويوفقه وإلا ضل وهلك، فلا يجوز للإنسان أن يقصد بعمله ونيته غير الله - جل وعلا-، وهذا هو العلم النافع الذي يؤخذ من الكتاب والسنة، والعمل هو الهدى، والعمل هو دين الحق، والرسول - صلى الله عليه وسلم - جاء بالهدى ودين الحق، جاء بالعلم النافع وبالعمل الصالح الذي إذا علمه الإنسان اهتدى وتيقن أنه من عند الله، ولابد من هذين الأمرين، لابد من العلم والعمل، يعلم أن لا إله إلا الله، كما قال الله - جل وعلا -: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) [محمد: 19]، فبدأ بالعلم قبل العمل والاستغفار، ويقول - جل وعلا - لما ذكر أن الكفار والمشركين يدعون غير الله طالبين شفاعتهم نفى هذا - جل وعلا- وأخبر أن الشفاعة لا تحصل لهم، فقال: (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [الزخرف: 86]، وشهادة الحق: هي أن يشهد أن لا إله إلا الله وهو يعلم هذا المعنى. يعلمه ثم يعمل به، وعلم بلا عمل لا يفيد ولا يجدي، وفي أمره - جل وعلا - لنا وفرضه علينا أن نسأله في الصلاة قال: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة: 6]، والصراط المستقيم هو الصراط الذي بعث به رسوله، وهو دينه، (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) [الفاتحة: 7]، والذين أنعم عليهم هم الأنبياء ومن سلك طريقهم، كما قال الله - جل وعلا - في وصفهم وبيان أنهم الأنبياء والصالحون والشهداء، أي: من سلك طريقهم. وقوله: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ) [الفاتحة: 7]، المغضوب عليهم جاء تفسيرهم أنهم اليهود، والضالون هم النصارى، وليس مخصوصاً بهذا اليهود والنصارى فقط، بل كل من كان عنده علم وتركه اتباعاً للهوى فهو ضال وهو مغضوب عليه، وكل من كان عنده علم وتركه اتباعاً للهوى أو للشهوات أو لأغراض من أغراض الدنيا فهو مغضوب عليه ملحق باليهود، وكل من تعبد بغير برهان وبغير طريق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو ضال، وإنما قيل: إن المغضوب عليهم هم اليهود، والضالون هم النصارى لأن الغالب على اليهود أن عندهم علم، وليس عندهم عمل، فهم يعلمون ولا يعملون فلهذا صاروا أهل الغضب، وأما النصارى فالغالب عليهم التعبد بالضلال، فهم يتعبدون ويعملون ولكن على غير هدى، فلهذا سموا ضلالاً، فالضال هو الذي يسلك الطريق الذي يهلكه، وضل الطريق يعني: يتعبد على غير حق وعلى غير هدى، وأما المغضوب عليه فهو العاصي الذي عرف الحق وتركه، فكل من صار له هذا الوصف فهو مغضوب عليه وضال، وأهل البدع هم: الذين يتعبدون بالبدع وهم ضالون، وهم المعنيون بقوله - جل وعلا -: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً) [الغاشية: 2-4] أي: تخشع وتبكي وتعمل وتنصب وتجهد والنتيجة أنها تصلى ناراً حامية؛ لأنها تتعبد بغير هدى، وبغير ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم-، وكذلك قوله - جل وعلا -: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) [الكهف: 103-104]، (ضل سعيهم) يعني: عملوا في الحياة الدنيا وهم يظنون أنهم على هدى، وكذلك يظنون أن غيرهم ضال، بل ويرمون غيرهم بالضلال. فالمقصود أنه ليس هناك طريق ينجو به الإنسان إلا ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من القرآن والسنة، هذا هو خلاصة القول، فمن عرف ما جاء به الرسول وعمل به فهو الناجي السعيد، ومن تخبط في هذه الدنيا إما لأنه يرى الناس يعملون الشيء فيعمله، أو أنه -مثلاً- يحكم عقله أو يحكم ذوقه ووجده أو يحكم مشايخه وأكابر بلده ومن يظن بهم الظنون الجميلة، وإذا قيل له: الهدى كذا أو الحق كذا. قال: لا. هؤلاء أعلم منك. فهذا هو الذي يُخاف عليه، وهذا هو الذي إذا جُمع الناس، وبعثر ما في القبور، وحصل ما في الصدور، يبدو له ما لم يكن يحتسب، ويندم الندامة التي لا تنفعه، بل تكون زيادة في عذابه، نسأل الله العافية.
يتبع
محمد بن عبد الله
ما هو الصراط المستقيم؟
قيل: إنه القرآن، وقيل: الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصاحباه من بعده، وقيل: الإسلام، قال ابن القيم: " والقول الجامع في تفسير الصراط المستقيم هو الطريق الذي نصبه الله لعباده على ألسنة رسله وجعله موصلاً لعباده إليه ولا طريق لهم سواه، وهو إفراده بالعبودية وإفراد رسله بالطاعة، وهو مضمون شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، ونكتة ذلك وعقده أن تحبه بقلبك كله وترضيه بجهدك فلا يكون في قلبك موضع إلا معمور بحبه ولا تكون إرادة إلا متعلقة بمرضاته وهذا هو الهدى ودين الحق وهو معرفة الحق والعمل به وهو معرفة ما بعث الله به رسله والقيام به، فقل ما شئت من العبارات التي هذا أحسنها وقطب رحاها".
فالصراط المستقيم:
1. هو الصراط الذي يرجوه كل مسلم يسأل الله في كل صلواته الفريضة والنافله أن يرزقه إياه قائلاً: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة: 6]. ثم بين - سبحانه - وتعالى وصف هذا الصراط في الآية التي تليها: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) [الفاتحة: 7] حتى يعلم أن الصراط المستقيم إنما هو سبيل المؤمنين وليس سبيل المغضوب عليهم ولا هو سبيل الضالين.
بل وهناك من الملاحظات الهامة في هذا السياق أن يضاف الصراط تارة إلى الله وتارة إلى العباد ويذكر مفرداً معرفاً باللام تارة وبالإضافة تارة فقال: أما أضافته إلى الله فلأنه هو الذي شرعه ونصبه، وأما إضافته إلى العباد فلأنهم أهل سلوكه، وأما ذكره مفرداً معرفاً باللام تارة وبالإضافة تارة فلإفادة تعيينه واختصاصه وأنه صراط واحد بخلاف طرق أهل الضلال.
2. ولكونه وصية الله إلى أنبيائه ورسله - عليهم السلام - حيث قال - سبحانه - وتعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الزخرف: 43]، ووصية الله إلى الناس بالتباع هذا الصراط المستقيم: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام: 153] وهنا تجدر الإشارة إلى ما نقل عن ابن مسعود - رضي الله عنه- في توضيح وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: " من أراد أن ينظر إلى وصية محمد - صلى الله عليه وسلم - التي عليها خاتمه فليقرأ قوله - تعالى -: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) [الأنعام: 151] إلى قوله: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا) [الأنعام: 153]) الآية]".
يعني: هذه الثلاث الآيات التي ذكرت من آخر سورة الأنعام، وعبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - هو من أكابر الصحابة وعلمائهم، وقد أمَّره عمر - رضي الله عنه - على الكوفة حاكماً وقاضياً ومعلماً فيها، وتوفي سنة اثنتين وثلاثين من الهجرة رضوان الله عليه. وقوله: " من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي عليها خاتمه فليقرأ قوله - تعالى -: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) [الأنعام: 151] إلى آخر الآيات)".
يقول: كأن هذه وصية كتبها الرسول وختمها بخاتمه، فلم تخط ولم تخرج، فالمعنى: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصى بمضمون هذه الآيات؛ لأنه وصى بكتاب الله، ولم يوص الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصاة إلى أحد، وإنما كان يوصي بكتاب الله كما جاء في خطبته التي خطبها في حجة الوداع التي ودع الناس فيها؛ لأنه علم قرب أجله فقال: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله))، فحث على الأخذ بكتاب الله والتمسك به، هذه هي وصيته، أما الزعم بأنه وصى إلى شخص معين -لا سيما بالخلافة- فهذا كذب وافتراء على الله وعلى رسوله، وقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما كان في أثناء مرضه قال: ((ائتوني أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده))، ثم اختلفوا، فمنهم من قال: نأتي به، ومنهم قال: لا نأتي به، ثم قال: ((قوموا عني))، ولو كان هذا الكتاب متعينة كتابته ما تركه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولكن هذا بينته الرواية الأخرى، فإنه قال لـ عائشة - رضي الله عنها -: ((ادعي لي أباك وأخاك لأكتب له كتاباً)) حتى لا يختلف الناس ويقول قائل: لو كان فلان لو كان فلان، ثم قال: ((يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر))، فترك الكتاب؛ لأنه علم أن ترك الأمة بلا كتابة ولا وصية إلى أحد أنفع وأفضل، وإذا اجتهدوا ونظروا في اجتهادهم لا يخرجون عن الحق، وقد عُلم علماً يقينياً أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - منذ ترك الصلاة بالناس أمر أبا بكر أن يصلي بهم، فقال: ((مروا أبا بكر فليصل بالناس))، فراجعته عائشة - رضي الله عنها -، وقالت: يا رسول الله! إن أبا بكر رجل رقيق، إذا قام مقامك لا يستطيع أن يُسمِع الناس من البكاء، فلو أمرت عمر بن الخطاب أن يصلي بالناس، فقال: ((مروا أبا بكر فليصل بالناس))، فذهبت عائشة وقالت لـ حفصة: اذهبي وقولي له كذا وكذا، فذهبت حفصة وقالت له ذلك، فغضب - صلى الله عليه وسلم - وقال: ((إنكنَّ صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس))، فبقي أبو بكر - رضي الله عنه - يصلي بالناس طوال مرضه - صلى الله عليه وسلم -، وهذا أمر معلوم، ولهذا قال الصحابة: " إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رضيه لديننا فنحن نرضاه لدنيانا".
فالمقصود: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يوص إلى أحد، وإنما وصى بكتاب الله، وقول ابن مسعود: "من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي عليها خاتمه - كأنه يقول: هذه وصية كتبت ثم ختمت فلم تفتح- فليقرأ هذه الآيات"، هذا في الواقع ليس خاصاً بهذه الآيات، ففي كتاب الله كثير من أمثال هذه الآيات الثلاث المحكمات، ثم إن الشيء الذي يحتاج إلى بيان وإيضاح في كتاب الله قد وضحه الرسول - صلى الله عليه وسلم- وبينه، ولم يترك الناس في التباس أو اشتباه، ولهذا كان يقول لهم في آخر خطبة خطبها في الجمع الكبير يوم عرفة وكذلك يوم النحر: ((إنكم مسئولون عني فماذا أنتم قائلون؟))، هكذا كان يقول لهم، فصاروا يقولون: " نشهد أنك بلغت الرسالة وأديت الأمانة ونصحت الأمة، فصار - صلى الله عليه وسلم - يرفع إصبعه إلى السماء ثم ينكسها عليهم ويقول: ((اللهم اشهد، اللهم اشهد)) يعني: اشهد عليهم أنهم شهدوا لي بالبلاغ.
وكثيراً ما كان إذا بلغ الشيء قال: ((اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟ اللهم فاشهد))، يستشهد ربه؛ لأن الله - جل وعلا - يقول: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) [المائدة: 67]، فإذا كلف الله - جل وعلا - عبداً في إبلاغ الرسالة ثم توقف عنها فمعنى هذا أنه امتنع، وقد حمى الله - جل وعلا - رسوله من ذلك وصانه، فكان يحرص كل الحرص على التبليغ.
ولهذا يقول العلماء على هذه الآية: كل ما لم يقله الرسول ويأمر به ويفعله فهو باطل بدليل هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ) [المائدة: 67]؛ لأنه لو كان مما أنُزل إليه لبلغه، فإذا لم يبلغه فهو باطل مردود على صاحبه، والمقصود أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بلغ البلاغ المبين ولم يترك شيئاً، حتى إنه لما نزل عليه صلوات الله وسلامه عليه قوله - تعالى -: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) [الشعراء: 214] كأنه خشي أن يكون قصر، فبادر مسرعاً إلى أقرب جبل قريب منه وهو جبل الصفا فصعد عليه وجعل يرفع صوته ويهتف: ((وا صباحاه!))، وكانت هذه عادة العرب إذا رأى أحدهم عدواً قريباً ولا يمكنه أن يخبر قومه يصيح ويقول: ((وا صباحاه)) يعني: صبحكم العدو فصاروا يهرعون إليه من كل جانب، والذي لم يستطع أن يأتي إليه أرسل من يأتيه بالخبر؛ لأن هذا أمر مهم جداً، فلما اجتمعوا عنده قال: ((يا معشر قريش! أرأيتم لو أخبرتكم أن خلف هذا الجبل جيشاً يريد أن يغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك كذباً. فقال: أنقذوا أنفسكم من النار، فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد))، فجعل يعم ويخص، حتى قال -صلوات الله وسلامه عليه-: ((يا فاطمة بنت محمد! أنقذني نفسك من النار، لا أغني عنك من الله شيئاً))، فلم يترك شيئاً إلا وبينه للأمة، ولم يترك مجالاً يقوله ويبلغه إلا قام به في تبليغ شرع الله - جل وعلا -.
ولهذا صار كثير من الكفرة والفجرة يرمونه بالجنون، ويقولون: إنه مجنون من أجل هذا.
فالمقصود: أنه ليس للإنسان عذر بعد بلاغ الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وإنما عليه أن يهتم بأمر دينه، أن يعيره شيئاً من الاهتمام، ولا يجوز أن تكون دنياه أكثر اهتماماً عنده من أمر دينه؛ فإنه إذا كان كذلك يوشك أن يهلك. معنى الوصية التي تضمنتها الآيات الثلاث التي في سورة الأنعام قال الشارح - رحمه الله-: " وهذا الأثر رواه الترمذي وحسنه، وابن المنذر وابن أبى حاتم والطبراني بنحوه.
وقال بعضهم: معناه: من أراد أن ينظر إلى الوصية التي كأنها كتبت وختم عليها، فلم تغير ولم تبدل فليقرأ: (قُلْ تَعَالَوْا) [الأنعام: 151] إلى آخر الآيات، شبهها بالكتاب الذي كتب ثم ختم فلم يُزد فيه ولم يُنقص، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يوص إلا بكتاب الله، كما قال -فيما رواه مسلم -: (( وإني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله))، وقد روى عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث؟ ثم تلا قوله - تعالى -: ((قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ)) [الأنعام: 151]، حتى فرغ من الثلاث الآيات، ثم قال: من وفى بهن فأجره على الله، ومن انتقص منهن شيئاً فأدركه الله به في الدنيا كانت عقوبته، ومن أخره إلى الآخرة كان أمره إلى الله إن شاء آخذه وإن شاء عفا عنه)) رواه ابن أبي حاتم والحاكم وصححه، ومحمد بن نصر في (الاعتصام)".
وهذا أيضاً كان يتكرر من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد جاء أيضا عن عبادة بن الصامت أنه أمرهم أن يبايعوه على الآيات التي في آخر سورة الممتحنة، وهي قوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ) [الممتحنة: 12] إلى آخر الآية، وأنهم بايعوه عليهن، وهذا الحديث مثله، والرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يوصي بالآيات الجوامع التي فيها الأمر بعبادة الله والنهي عن عبادة غيره، وكذلك الالتزام بما جاء به وعدم الإخلال به، فكان يوصي بهذا ويَعِدُ الإنسان عليه بالجنة إذا وفى. كما أنه لما قال له معاذ: ((يا رسول الله! أخبرني بعمل يدخلني الجنة، قال: لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله -ثم قال: - تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً))، فذكر له هذه الأمور الخمسة فقط، وهذه هي التي يدخل بها الإنسان الجنة، وليس للجنة ثمن غيرها، ولكن الإنسان قد لا يدري هل جاء بها على الوجه المطلوب أو أنه أخل بها؟ ولا أحد يجزم جزماً بأنه جاء بها على الوجه الذي أراده الله، بل لابد أنه قصر فيها: في فعلها أو في صفاتها أو في غير ذلك. ولهذا من تيقن أن الله قبل منه عملاً فهو من السعداء، كما قال عبد الله بن عمر: " لو أعلم أن الله قبل مني حسنة لتمنيت الموت"؛ لأن الله - جل وعلا - أخبر أنه إنما يقبل من المتقين، كما قال - سبحانه-: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [المائدة: 27]. قال الشارح: " قلت: ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يوص أمته إلا بما وصاهم الله - تعالى -به على لسانه، وفى كتابه الذي أنزله: (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ) [النحل: 89]، وهذه الآيات وصية الله - تعالى-ووصية رسوله - صلى الله عليه وسلم –"، يعني أنه في آخر كل آية يقول: (ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ) [الأنعام: 151] فالوصية هي: الأمر المؤكد بأن يؤخذ به ولا يخل به، فهذه وصية الله، والرسول - صلى الله عليه وسلم - وصى بما وصى به ربه - جل وعلا –.
3. هو صراط الله: (الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) [إبراهيم: 1] حقيقة الصراط المستقيم قال الشارح - رحمه الله -: " قال ابن القيم رحمة الله عليه: ولنذكر في الصراط المستقيم قولاً وجيزاً؛ فإن الناس قد تنوعت عباراتهم عنه بحسب صفاته ومتعلقاته، وحقيقته شيء واحد، وهو طريق الله الذي نصبه لعباده موصلا لهم إليه ولا طريق إليه سواه، بل الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا طريقه الذي نصبه على ألسن رسله وجعله موصلاً لعبادة الله، وهو إفراده بالعبادة، وإفراد رسله بالطاعة، فلا يشرك به أحد في عبادته، ولا يشرك برسوله - صلى الله عليه وسلم - أحد في طاعته، فيجرد التوحيد ويجرد متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهذا كله مضمون شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فأي شيء فسر به الصراط المستقيم فهو داخل في هذين الأصلين. ونكتة ذلك أن تحبه بقلبك وترضيه بجهدك كله، فلا يكون في قلبك موضع إلا معموراً بحبه، ولا يكون لك إرادة إلا متعلقة بمرضاته، فالأول يحصل بتحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، والثاني يحصل بتحقيق شهادة أن محمداً رسول الله، وهذا هو الهدى ودين الحق، وهو معرفة الحق والعمل به، وهو معرفة ما بعث الله به رسوله والقيام به، وقل ما شئت من العبارات التي هذا آخيتها وقطب رحاها. قال: وقال سهل بن عبد الله: "عليكم بالأثر والسنة، فإني أخاف أنه سيأتي عن قليل زمان إذا ذكر إنسان النبي - صلى الله عليه وسلم - والاقتداء به في جميع أحواله ذموه ونفروا عنه وتبرءوا منه وأذلوه وأهانوه" انتهى".
هذا القول الذي ذكره ابن القيم واضح في تفسير الصراط المستقيم في أنه عبادة الله - جل وعلا - وحده وألا يشرك به شيء، وعبادته تتضمن كمال الحب مع كمال الذل له، فلا يعبد إلا الله - جل وعلا -، فتكون العبادة خالصة لله - جل وعلا -، فكل ما تتقرب به وكل فعل تفعله ترجو به ثواباً، وكل ترك تتركه تخاف أنك لو فعلته عوقبت فإن هذا يكون لله وحده، ليس لأحد من الخلق، وتفعل هذه الأمور مع غاية الحب والذل، ثم هذه الأمور التي تفعلها لابد أن تكون جاءت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم يقول: إن هذا مضمون شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ لأن معنى شهادة أن لا إله إلا الله، وكونه يشهد أن لا إله إلا الله: أن الشهادة هي العلم اليقيني الذي يكون عند الإنسان واضحاً جلياً ليس عنده فيه ريب ولا شك ولا تردد؛ لأنه يشاهده بعينه وبقلبه، فهو يشهد بهذا، يشهد أن لا إله إلا الله، ومعنى الإله: المحبوب المألوه الذي يكون الحب كله له مع الذل والخضوع، فيجب أن تحبه وتذل له، وهذا لا يجوز أن يكون لمخلوق، وإنما يكون خالصاً له - جل وعلا -.
وأما معنى شهادة أن محمداً رسول الله فهو: طاعته في أمره، واتباعه فيما جاء به، واجتناب ما نهاك عنه، وألا تعبد الله - جل وعلا - إلا بما شرعه لك، فأنت تشهد الشهادة اليقينية بأنه رسول من الله أرسله الله بهذا الشرع، فتتعبد الله - جل وعلا - بالشرع الذي جاء به عن طريقه، فهو الوساطة بيننا وبين ربنا في تبليغ شرعه، ولهذا يقول الله - جل وعلا - له: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا) [الكهف: 110]، والعمل الصالح هو الذي يكون على سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، (وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) [الكهف: 110] أي: أنك تعبد الله وحده ولا يكون لأحد من الخلق أو المقاصد والأغراض شيء أو نصيب من عبادتك، فإن كان لها نصيب فإن هذه العبادة لا تقبل؛ لأن الله - جل وعلا - يقول -كما في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه - جل وعلا -: (( أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه))، أي: يتركه وعمله لمن أشرك، ولهذا إذا جاء المراءون يوم القيامة الذين يلاحظون أنظار الناس وأقوالهم، يقول الله - جل وعلا - لهم: ((اذهبوا إلى الذين كنتم تراءونهم فاطلبوا أجركم عندهم))، وهل يجدون شيئاً؟ يجدون الخسارة والندامة، وهذا في الواقع من جهل الإنسان وظلمه، وإلا الناس مثله ماذا يغنون عنه؟! فكونه ينظر إلى إنسان ويحسن عمله من أجله قصور -نسأل الله السلامة-، فهو إنسان مثلك فقير بحاجة إلى ما يكمله، بل بحاجة إلى من يحميه من الكوارث والمصائب ويسدده ويوفقه وإلا ضل وهلك، فلا يجوز للإنسان أن يقصد بعمله ونيته غير الله - جل وعلا-، وهذا هو العلم النافع الذي يؤخذ من الكتاب والسنة، والعمل هو الهدى، والعمل هو دين الحق، والرسول - صلى الله عليه وسلم - جاء بالهدى ودين الحق، جاء بالعلم النافع وبالعمل الصالح الذي إذا علمه الإنسان اهتدى وتيقن أنه من عند الله، ولابد من هذين الأمرين، لابد من العلم والعمل، يعلم أن لا إله إلا الله، كما قال الله - جل وعلا -: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) [محمد: 19]، فبدأ بالعلم قبل العمل والاستغفار، ويقول - جل وعلا - لما ذكر أن الكفار والمشركين يدعون غير الله طالبين شفاعتهم نفى هذا - جل وعلا- وأخبر أن الشفاعة لا تحصل لهم، فقال: (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [الزخرف: 86]، وشهادة الحق: هي أن يشهد أن لا إله إلا الله وهو يعلم هذا المعنى. يعلمه ثم يعمل به، وعلم بلا عمل لا يفيد ولا يجدي، وفي أمره - جل وعلا - لنا وفرضه علينا أن نسأله في الصلاة قال: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة: 6]، والصراط المستقيم هو الصراط الذي بعث به رسوله، وهو دينه، (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) [الفاتحة: 7]، والذين أنعم عليهم هم الأنبياء ومن سلك طريقهم، كما قال الله - جل وعلا - في وصفهم وبيان أنهم الأنبياء والصالحون والشهداء، أي: من سلك طريقهم. وقوله: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ) [الفاتحة: 7]، المغضوب عليهم جاء تفسيرهم أنهم اليهود، والضالون هم النصارى، وليس مخصوصاً بهذا اليهود والنصارى فقط، بل كل من كان عنده علم وتركه اتباعاً للهوى فهو ضال وهو مغضوب عليه، وكل من كان عنده علم وتركه اتباعاً للهوى أو للشهوات أو لأغراض من أغراض الدنيا فهو مغضوب عليه ملحق باليهود، وكل من تعبد بغير برهان وبغير طريق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو ضال، وإنما قيل: إن المغضوب عليهم هم اليهود، والضالون هم النصارى لأن الغالب على اليهود أن عندهم علم، وليس عندهم عمل، فهم يعلمون ولا يعملون فلهذا صاروا أهل الغضب، وأما النصارى فالغالب عليهم التعبد بالضلال، فهم يتعبدون ويعملون ولكن على غير هدى، فلهذا سموا ضلالاً، فالضال هو الذي يسلك الطريق الذي يهلكه، وضل الطريق يعني: يتعبد على غير حق وعلى غير هدى، وأما المغضوب عليه فهو العاصي الذي عرف الحق وتركه، فكل من صار له هذا الوصف فهو مغضوب عليه وضال، وأهل البدع هم: الذين يتعبدون بالبدع وهم ضالون، وهم المعنيون بقوله - جل وعلا -: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً) [الغاشية: 2-4] أي: تخشع وتبكي وتعمل وتنصب وتجهد والنتيجة أنها تصلى ناراً حامية؛ لأنها تتعبد بغير هدى، وبغير ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم-، وكذلك قوله - جل وعلا -: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) [الكهف: 103-104]، (ضل سعيهم) يعني: عملوا في الحياة الدنيا وهم يظنون أنهم على هدى، وكذلك يظنون أن غيرهم ضال، بل ويرمون غيرهم بالضلال. فالمقصود أنه ليس هناك طريق ينجو به الإنسان إلا ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من القرآن والسنة، هذا هو خلاصة القول، فمن عرف ما جاء به الرسول وعمل به فهو الناجي السعيد، ومن تخبط في هذه الدنيا إما لأنه يرى الناس يعملون الشيء فيعمله، أو أنه -مثلاً- يحكم عقله أو يحكم ذوقه ووجده أو يحكم مشايخه وأكابر بلده ومن يظن بهم الظنون الجميلة، وإذا قيل له: الهدى كذا أو الحق كذا. قال: لا. هؤلاء أعلم منك. فهذا هو الذي يُخاف عليه، وهذا هو الذي إذا جُمع الناس، وبعثر ما في القبور، وحصل ما في الصدور، يبدو له ما لم يكن يحتسب، ويندم الندامة التي لا تنفعه، بل تكون زيادة في عذابه، نسأل الله العافية.
يتبع