ابو وليد البحيرى
2019-11-25, 06:01 PM
الوقت الضائع في حياة المسلمين بين سوء التقدير وسوء التدبير من واقع المسلمين
عدنان علي رضا النحوي
كثير من الناس يشكون من ضيق الوقت وكثرة الأعمال، ويقدم بعضهم أعذاراً يسوغون بها تقصيرهم في الوفاء بالأمانة المنوطة بهم في مختلف ميادين الحياة، بالأمانة التي وضعها الله في أعناقهم والتي سيحاسبون عليهما يوم القيامة بين يدي العزيز الجبار.
كثيرون يسوغون عدم تلاوتهم لكتاب الله، أو عدم تدبره ودراسته، أو عدم دعوتهم الناس إلى دين الله، إلى الإيمان والتوحيد أو عدم النصح لهم، أو عدم تعهدهم بالتربية والبناء، أو عدم البذل لدين الله ولدعوته في الأرض، كثيرون يسوغون ذلك بأعذار يوهمون بها أنفسهم، ويخدعون بها آخرين.
ويتناقض كثير من المسلمين في أعذارهم، فقد تلقى من يجد الوقت لنشاطه لدنياه، للهوه ومتعته، أو لنشاطه الحزبي وانشغاله بتكاليف لم تورث إلا الشحناء والبغضاء على غير طاعة الله، أو لنشاطه في تجارته وجريه اللاهث وراء المال، أو غير ذلك، ثم يزعم أنه لا يجد وقتاً لتدبر كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أو لإتقان لغته ولغة دينه، أو لدعوة الله في الأرض، وأعجب من ذلك أنك قد تسأل أحدهم لم لا يقرأ القرآن ويتدبره، فيقول إن شؤون الدعوة الإسلامية وكثرة أعبائها لم تدع لي وقتاً لذلك، فالعذر دائماً هو ضيق الوقت على مزاعم متناقضة وأعذار واهية.
لقد غاب عن بال هؤلاء أن الله - سبحانه وتعالى - هو الذي قدر الوقت وحدد تكاليف الأمانة، ليكون الوقت كافياً للإنسان ليؤدي أمانته التي خلق لها، والله - سبحانه وتعالى - هو الذي خلق كل شيء وقدر كل شيء، على حكمة بالغة، واستمع لآيات الله البينات: (إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرأوا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرأوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضاً حسناً وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجراً واستغفروا الله إن الله غفور رحيم) [المزمل: 20].
نعم! (والله يقدر الليل والنهار)، ثم حدد الله التكاليف هنا بصياغة ربانية عامة جاءت تفصيلاتها وأحكامها في سور أخرى وفي الأحاديث النبوية، وقد جاءت التكاليف العامة على النحو التالي:
1- (فاقرأوا ما تيسر من القرآن) بمعدل يحدده وسع الإنسان وما يتعرض له من مرض أو سعي في طلب الرزق أو قتال في سبيل الله، فهذا كله لا يعطل تلاوة كتاب الله وتدبره والعمل به، كل على قدر وسعه وطاقته، ومسئوليته وأمانته، ثم جاءت السنة وأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تفصل ذلك، والتلاوة هنا في هذه الآية تعني التدبر والممارسة والتطبيق.
2- (أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) إقامة الشعائر كلها التي أمر الله بها وأشارت إليها الآية الكريمة بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ثم جاءت التفصيلات لإقامة الشعائر في مناهج الله - قرآنا وسنه - كما جاءا باللغة العربية، والإقامة هنا تعني استكمال شروط الشعائر من أحكام وخشوع وصدق إيمان.
3– (وأقرضوا الله قرضاً حسناً…)، وذلك بإنفاق المال على وجهه الذي أمر الله به، وحمل رسالة الله إلى الناس وتعهدهم عليها وجمعهم على كلمة سواء دون تفرق وتمزق، والجهاد في سبيل الله، وغير ذلك من التكاليف المفصلة في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وجاء مع هذا التكليف العام حث عليه وتشجيع: (وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً وأعظـم أجـرأ).
4- (…واستغفروا الله…) وهذه تتطلب محاسبة النفس ومراجعتها، والوقفة وقفة إيمانية لمراجعة النهج والخطة والدرب والتأكد من سلامة ذلك برده إلى مناهج الله الذي يحافظ المسلم على تلاوته وتدبره. وكذلك تأتي تفصيلات التوبة والاستغفار ومحاسبة النفس ومراجعة المسيرة في مناهج الله، حتى لا يبقى عذر لأحد في التقصير أو الإهمال أو النكوص، ما دام البذل قائماً، كل في حدود وسعة وطاقته الصادقة التي سيحاسبه الله عليها: (ولا نكلف نفساً إلا وسعها ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون) [المؤمنون: 62].
واستمع إلى الآيات الكريمة التي توضح أن الله قدر كل شيء خلقه تقديراً ربانياً عادلاً متوازناً، وقدر التكاليف كذلك على أساس من ذلك: (إنا كل شيء خلقناه بقدر…) [القمر: 49]، (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) [الحجر: 21].
(الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار…) [الرعد: 8].
إذن لابد أن نعي هذه الحقيقة الهامة وهي أن الله - سبحانه وتعالى - قدر الليل والنهار، وقدر التكاليف، وجعل التكاليف في حدود وسع الإنسان وأمانته ومسئوليته، فإذا وجد الإنسان ضيقاً في الوقت فهو من خلل في موازنته وبذله، لا في هذا النظام الرباني الذي قدره الله تقديراً، ولا في التكاليف التي أمر بها.
كيف لا يضطرب الميزان، وكيف لا يضيق الوقت، حين يعكف الإنسان على أهوائه فيعطيها الوقت الأوسع، أو يمضي في سعيه للرزق يلهث ليل نهار، أو يؤثر الدنيا وزخرفها على الآخرة ونعيمها؟! كيف لا يضيق الوقت ويختل الميزان؟! أما الذين تصدق موازنتهم فقد قال - سبحانه وتعالى - فيهم: (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار* ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب) [النور: 37، 38].
وميزان الدعاة الذين يحملون مسئولية الدعوة يختلف عن ميزان المسلم العادي أو الضعيف، فالداعية ينهض لمسئوليات أوسع تناسب طاقته ووسعه الذي جعل منه داعية لله ولرسوله، هؤلاء الدعاة يعطون الدعوة بخصائصها الربانية، لا بخصائصها الحزبية، جهداً أكبر وبذلاً أعظم، فانظر كيف يصبح الليل والنهار عندهم: (كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون * وبالأسحار هم يستغفرون) [الذاريات: 17، 18].
وكذلك نتذكر النبوة الخاتمة وصحابتها الأبرار وهم يقومون الليل ليعدوا أنفسهم لعبء الدعوة إلى الله ورسوله، إلى الإيمان والتوحيد: (إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة مـن الذين معك…) [المزمل: 20].
هكذا يصبح الميزان لدى الدعاة إلى الله ورسوله، لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، إنهم قليلاً من الليل ما يهجعون، وبالأسحار هم يستغفرون، وصورة أخرى: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعـون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون) [السجدة: 16].
هذه قبسات من كتاب الله تصور لنا جانباً من حياة المؤمن الداعية وجانباً من تنظيمه لوقته حتى يوفي بالأمانة الملقاة على عاتقه.
كيف لا يضيق الوقت حين يريد المسلم أن ينام حتى يطول نومه، ويأكل حتى يشبع من الأكل ويتخم ويتكور بطنه، ويلهو ويتمتع بمباهج الحياة الدنيا حتى يشبع ولن يشبع، ويجمع من المال لاهثاً يأمل أن يقنع ولا يقنع؟!
كيف لا يضيق الوقت وهو يرى أن شؤون بيته وزوجته وأولاده هي همه الأكبر، أو أن حصوله على الشهادات العليا يزين بها بيته ويرفع بها سمعته، أو أن تجارته وتنمية أرباحه هي واجبه الأكبر، أو أن الوفاء بحقوق الوظيفة وحدها أو السعي لها هي شاغلة الشاغل، ثم يضع مسئوليات الدعوة إلى الله ورسوله آخر ما يفكر فيه أو يبالي به؟! كيف لا يضيق عليه الوقت؟!
إن الموازنة الأمينة تبتدئ في تحديد مسئولياته وأمانته في هذه الحياة الدنيا كما حددها له مناهج الله، ثم يعطي كل مسئولية حقها على أساس من القواعد الربانية التي فصلها منهاج الله.
ولكل مسلم دور وواجب ومسئولية، وهنالك حد أدنى من المسئوليات يشترك فيه المسلمون جميعاً، ثم تنمو المسئوليات مع نمو الوسع والطاقة، حتى إذا أصبح المسلم داعية لله ورسوله، منطلقاً من إيمانه وعمله ويقينه، فلا حق له إلا أن يعتبر قضية الإيمان والتوحيد والدعوة لها هي القضية الأكبر والأخطر في حياته، ثم تليها سائر القضايا حسب وزنها ومنزلتها في منهاج الله.
تحديد المسئوليات والواجبات تحديداً واضحاً هي نقطة الانطلاق في الموازنة الأمينة لتنظيم الوقت، ثم تحديد منزلة كل مسئولية وأهميتها على أساس من ميزان رباني دقيق يفصله منهاج الله.
لا يوجد في الإسلام إنسان دون مسئولية، فكل فرد مسئول، وكل فرد محاسب بين يدي الله، وكل فرد عليه تكاليف ربانية أمر الله بها في مختلف ميادين الحياة: نحو نفسه، وبيته وأسرته، ووظيفته وتجارته، ودينه ودعوته، وأمته: فعن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسئولة عنهم، والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه، ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)) (1).
ثم تأتي تفصيلات التكاليف في الكتاب والسنة، ثم نظَم الإسلام حياة المسلم اليومية والأسبوعية والسنوية، حدد موعد نومه واستيقاظه وراحته، ووقت سعيه وبذله، ومواعيد الشعائر كلها، ورسم له سياسة إنفاقه وميادين جهاده، رسم له الإسلام منهج حياة متكاملة.
فعلى المسلم أن يعي هذا النهج ويتدبره ويمارسه بأمانة ووفاء عليه أن يضع على ضوء منهاج الله وعلى ضوء واقعة خُطته الخاصة ليومه وأسبوعه، أو لشهره وسنته.
على المسلم أن يعرف تكاليفه ومسئولياته، وعليه أن يعي واقعة من خلال منهاج الله، لا من خلال أهوائه وشهواته.
يتبع
(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)
عدنان علي رضا النحوي
كثير من الناس يشكون من ضيق الوقت وكثرة الأعمال، ويقدم بعضهم أعذاراً يسوغون بها تقصيرهم في الوفاء بالأمانة المنوطة بهم في مختلف ميادين الحياة، بالأمانة التي وضعها الله في أعناقهم والتي سيحاسبون عليهما يوم القيامة بين يدي العزيز الجبار.
كثيرون يسوغون عدم تلاوتهم لكتاب الله، أو عدم تدبره ودراسته، أو عدم دعوتهم الناس إلى دين الله، إلى الإيمان والتوحيد أو عدم النصح لهم، أو عدم تعهدهم بالتربية والبناء، أو عدم البذل لدين الله ولدعوته في الأرض، كثيرون يسوغون ذلك بأعذار يوهمون بها أنفسهم، ويخدعون بها آخرين.
ويتناقض كثير من المسلمين في أعذارهم، فقد تلقى من يجد الوقت لنشاطه لدنياه، للهوه ومتعته، أو لنشاطه الحزبي وانشغاله بتكاليف لم تورث إلا الشحناء والبغضاء على غير طاعة الله، أو لنشاطه في تجارته وجريه اللاهث وراء المال، أو غير ذلك، ثم يزعم أنه لا يجد وقتاً لتدبر كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أو لإتقان لغته ولغة دينه، أو لدعوة الله في الأرض، وأعجب من ذلك أنك قد تسأل أحدهم لم لا يقرأ القرآن ويتدبره، فيقول إن شؤون الدعوة الإسلامية وكثرة أعبائها لم تدع لي وقتاً لذلك، فالعذر دائماً هو ضيق الوقت على مزاعم متناقضة وأعذار واهية.
لقد غاب عن بال هؤلاء أن الله - سبحانه وتعالى - هو الذي قدر الوقت وحدد تكاليف الأمانة، ليكون الوقت كافياً للإنسان ليؤدي أمانته التي خلق لها، والله - سبحانه وتعالى - هو الذي خلق كل شيء وقدر كل شيء، على حكمة بالغة، واستمع لآيات الله البينات: (إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرأوا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرأوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضاً حسناً وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجراً واستغفروا الله إن الله غفور رحيم) [المزمل: 20].
نعم! (والله يقدر الليل والنهار)، ثم حدد الله التكاليف هنا بصياغة ربانية عامة جاءت تفصيلاتها وأحكامها في سور أخرى وفي الأحاديث النبوية، وقد جاءت التكاليف العامة على النحو التالي:
1- (فاقرأوا ما تيسر من القرآن) بمعدل يحدده وسع الإنسان وما يتعرض له من مرض أو سعي في طلب الرزق أو قتال في سبيل الله، فهذا كله لا يعطل تلاوة كتاب الله وتدبره والعمل به، كل على قدر وسعه وطاقته، ومسئوليته وأمانته، ثم جاءت السنة وأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تفصل ذلك، والتلاوة هنا في هذه الآية تعني التدبر والممارسة والتطبيق.
2- (أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) إقامة الشعائر كلها التي أمر الله بها وأشارت إليها الآية الكريمة بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ثم جاءت التفصيلات لإقامة الشعائر في مناهج الله - قرآنا وسنه - كما جاءا باللغة العربية، والإقامة هنا تعني استكمال شروط الشعائر من أحكام وخشوع وصدق إيمان.
3– (وأقرضوا الله قرضاً حسناً…)، وذلك بإنفاق المال على وجهه الذي أمر الله به، وحمل رسالة الله إلى الناس وتعهدهم عليها وجمعهم على كلمة سواء دون تفرق وتمزق، والجهاد في سبيل الله، وغير ذلك من التكاليف المفصلة في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وجاء مع هذا التكليف العام حث عليه وتشجيع: (وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً وأعظـم أجـرأ).
4- (…واستغفروا الله…) وهذه تتطلب محاسبة النفس ومراجعتها، والوقفة وقفة إيمانية لمراجعة النهج والخطة والدرب والتأكد من سلامة ذلك برده إلى مناهج الله الذي يحافظ المسلم على تلاوته وتدبره. وكذلك تأتي تفصيلات التوبة والاستغفار ومحاسبة النفس ومراجعة المسيرة في مناهج الله، حتى لا يبقى عذر لأحد في التقصير أو الإهمال أو النكوص، ما دام البذل قائماً، كل في حدود وسعة وطاقته الصادقة التي سيحاسبه الله عليها: (ولا نكلف نفساً إلا وسعها ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون) [المؤمنون: 62].
واستمع إلى الآيات الكريمة التي توضح أن الله قدر كل شيء خلقه تقديراً ربانياً عادلاً متوازناً، وقدر التكاليف كذلك على أساس من ذلك: (إنا كل شيء خلقناه بقدر…) [القمر: 49]، (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) [الحجر: 21].
(الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار…) [الرعد: 8].
إذن لابد أن نعي هذه الحقيقة الهامة وهي أن الله - سبحانه وتعالى - قدر الليل والنهار، وقدر التكاليف، وجعل التكاليف في حدود وسع الإنسان وأمانته ومسئوليته، فإذا وجد الإنسان ضيقاً في الوقت فهو من خلل في موازنته وبذله، لا في هذا النظام الرباني الذي قدره الله تقديراً، ولا في التكاليف التي أمر بها.
كيف لا يضطرب الميزان، وكيف لا يضيق الوقت، حين يعكف الإنسان على أهوائه فيعطيها الوقت الأوسع، أو يمضي في سعيه للرزق يلهث ليل نهار، أو يؤثر الدنيا وزخرفها على الآخرة ونعيمها؟! كيف لا يضيق الوقت ويختل الميزان؟! أما الذين تصدق موازنتهم فقد قال - سبحانه وتعالى - فيهم: (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار* ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب) [النور: 37، 38].
وميزان الدعاة الذين يحملون مسئولية الدعوة يختلف عن ميزان المسلم العادي أو الضعيف، فالداعية ينهض لمسئوليات أوسع تناسب طاقته ووسعه الذي جعل منه داعية لله ولرسوله، هؤلاء الدعاة يعطون الدعوة بخصائصها الربانية، لا بخصائصها الحزبية، جهداً أكبر وبذلاً أعظم، فانظر كيف يصبح الليل والنهار عندهم: (كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون * وبالأسحار هم يستغفرون) [الذاريات: 17، 18].
وكذلك نتذكر النبوة الخاتمة وصحابتها الأبرار وهم يقومون الليل ليعدوا أنفسهم لعبء الدعوة إلى الله ورسوله، إلى الإيمان والتوحيد: (إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة مـن الذين معك…) [المزمل: 20].
هكذا يصبح الميزان لدى الدعاة إلى الله ورسوله، لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، إنهم قليلاً من الليل ما يهجعون، وبالأسحار هم يستغفرون، وصورة أخرى: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعـون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون) [السجدة: 16].
هذه قبسات من كتاب الله تصور لنا جانباً من حياة المؤمن الداعية وجانباً من تنظيمه لوقته حتى يوفي بالأمانة الملقاة على عاتقه.
كيف لا يضيق الوقت حين يريد المسلم أن ينام حتى يطول نومه، ويأكل حتى يشبع من الأكل ويتخم ويتكور بطنه، ويلهو ويتمتع بمباهج الحياة الدنيا حتى يشبع ولن يشبع، ويجمع من المال لاهثاً يأمل أن يقنع ولا يقنع؟!
كيف لا يضيق الوقت وهو يرى أن شؤون بيته وزوجته وأولاده هي همه الأكبر، أو أن حصوله على الشهادات العليا يزين بها بيته ويرفع بها سمعته، أو أن تجارته وتنمية أرباحه هي واجبه الأكبر، أو أن الوفاء بحقوق الوظيفة وحدها أو السعي لها هي شاغلة الشاغل، ثم يضع مسئوليات الدعوة إلى الله ورسوله آخر ما يفكر فيه أو يبالي به؟! كيف لا يضيق عليه الوقت؟!
إن الموازنة الأمينة تبتدئ في تحديد مسئولياته وأمانته في هذه الحياة الدنيا كما حددها له مناهج الله، ثم يعطي كل مسئولية حقها على أساس من القواعد الربانية التي فصلها منهاج الله.
ولكل مسلم دور وواجب ومسئولية، وهنالك حد أدنى من المسئوليات يشترك فيه المسلمون جميعاً، ثم تنمو المسئوليات مع نمو الوسع والطاقة، حتى إذا أصبح المسلم داعية لله ورسوله، منطلقاً من إيمانه وعمله ويقينه، فلا حق له إلا أن يعتبر قضية الإيمان والتوحيد والدعوة لها هي القضية الأكبر والأخطر في حياته، ثم تليها سائر القضايا حسب وزنها ومنزلتها في منهاج الله.
تحديد المسئوليات والواجبات تحديداً واضحاً هي نقطة الانطلاق في الموازنة الأمينة لتنظيم الوقت، ثم تحديد منزلة كل مسئولية وأهميتها على أساس من ميزان رباني دقيق يفصله منهاج الله.
لا يوجد في الإسلام إنسان دون مسئولية، فكل فرد مسئول، وكل فرد محاسب بين يدي الله، وكل فرد عليه تكاليف ربانية أمر الله بها في مختلف ميادين الحياة: نحو نفسه، وبيته وأسرته، ووظيفته وتجارته، ودينه ودعوته، وأمته: فعن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسئولة عنهم، والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه، ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)) (1).
ثم تأتي تفصيلات التكاليف في الكتاب والسنة، ثم نظَم الإسلام حياة المسلم اليومية والأسبوعية والسنوية، حدد موعد نومه واستيقاظه وراحته، ووقت سعيه وبذله، ومواعيد الشعائر كلها، ورسم له سياسة إنفاقه وميادين جهاده، رسم له الإسلام منهج حياة متكاملة.
فعلى المسلم أن يعي هذا النهج ويتدبره ويمارسه بأمانة ووفاء عليه أن يضع على ضوء منهاج الله وعلى ضوء واقعة خُطته الخاصة ليومه وأسبوعه، أو لشهره وسنته.
على المسلم أن يعرف تكاليفه ومسئولياته، وعليه أن يعي واقعة من خلال منهاج الله، لا من خلال أهوائه وشهواته.
يتبع
(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)