ابو وليد البحيرى
2019-10-28, 04:48 AM
أسس البناء العلمي
د. أحمد ولد محمد ذو النورين
لقد رفع الله تعالى شأن هذا الإنسان، وخلقه في أحسن تقويم، ورباه بالآيات العظيمات،..وبعث إليه المرسلين لهدايته بتربيته، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بما للتربية من الأهمية البالغة في تحصيل سعادة الدنيا والآخرة، وما يترتب عليها من تحديد شخصية الفرد ومنهجه الفكري وعقيدته وسلوكه؛ ولذلك اهتم بها وأسسها على دعائم النقاء العقدي والفكري والعطاء والتضحية، وجعلها الوسيلة الأهم لمعرفة الطبيعة الإنسانية وتمكينها من مجالات النجاح التربوي وتزويدها بأوثق عوامل التفوق العلمي. وعلى ذلك أقام صلى الله عليه وسلم حياة أصحابه رضي الله عنهم؛ حيث زودهم بالتربية الإيمانية الشاملة حتى أخرج أعظم جيل عرفته البشرية، ذلك الجيل الذي بدأ صلى الله عليه وسلم يؤسس لإعداده بالتربية الرشيدة الهادية؛ فتحقق له صلى الله عليه وسلم مقصده في زمن قياسي؛ لتميز أسلوبه صلى الله عليه وسلم التربوي الدعوي.
وفي مستهل هذا البحث نحتاج إلى إشارات من النصوص ونتف من كلام المفسرين واللغويين لنفهم مضمون العنوان ((أسس البناء العلمي)). يقول أبو الحسن الواحدي في تعليقه على قول الله تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ}[التوبة:109]؛ البنيان: مصدر يراد به المبنى ههنا، والتأسيس إحكام أسس البناء وهو أصله، وقرأ نافع: أُسس بضم الألف بنيانُه رفعا، وهذا في المعنى الأول لأنه إذا أسس بنيانه، فتولى ذلك غيره بأمره كان كبنائه، والمعنى: المؤسس بنيانه متقيا يخاف الله ويرجو ثوابه ورضوانه خَيْرٌ؟ أم المؤسس بنيانه غير متق؟ وهو قوله: {أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ}[التوبة:109]، وشفا الشيء حرفه، والجرف ما يجرفه السيل من الأودية، وهو جانبها الذي ينحفر بالماء أصله فيبقى واهيا)[1]. وقال زين الدين الرازي: (أس س: (الْأُسُّ) بِالضَّمِّ أَصْلُ الْبِنَاءِ، وَكَذَا (الْأَسَاسُ) وَ (الْأَسَسُ) بِفَتْحَتَيْنِ مَقْصُورٌ مِنْهُ وَجَمْعُ الْأُسِّ (إِسَاسٌ) بِالْكَسْرِ وَجَمْعُ الْأَسَاسِ (أُسُسٌ) بِضَمَّتَيْنِ وَجَمْعُ الْأَسَسِ (آسَاسٌ) بِالْمَدِّ وَقَدْ (أَسَّسَ) الْبِنَاءَ (تَأْسِيسًا))[2]. وجاء في المعجم الوسيط: ((أسس) البناء أسه؛ (الأساس) قاعدة البناء التي يقام عليها وأصل كل شيء ومبدؤه ومنه أساس الفكرة وأساس البحث والتعليم الأساسي الخبرة العلمية والعملية التي لا غنى عنها للناشئ والنظام الأساسي هو النظام الذي يمثله دستور الدولة (مج)، (الأس الإس الأس) الأساس ومن الدهر قدمه. (الأس) الأساس يقال قلعه من أسه والأثر من كل شيء وباقي الرماد وقلب الإنسان (ج) إساس وآساس وفي الحساب العدد الدال على قوة الكمية فالقوة الثانية أسها (2) والقوة الثالثة أسها (3) وهكذا..(التأسيس) في القافية ألف تلزم القافية وبينها وبين حرف الروي حرف مثل:
(ألا طال هذا الليل واخضل جانبه ... ) فالألف في (جانبه) هي التأسيس)[3]. أما العلمي فنسبة إلى العلم الذي هو ضد الجهل، ويأتي في اللغة على معنيين اثنيين؛ أحدهما غلبة الظن، قال تعالى: {فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار}[الممتحنة:10]؛ أي غلب على ظنكم إيمانهن. وثانيهما الاعتقاد الجازم الذي لا تردد فيه ولا شك، قال تعالى: {فاعلم أنه لا إله إلا الله}[القتال:19]. أما العلم اصطلاحاً فهو صفة ينكشف بها المطلوب، أو هو إدراك الشيء على ما هو عليه. وقد عرف شمس الدين السفاريني الحنبلي رحمه الله تعالى موضوعه قائلا: (هو ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية)[4]، أي الأحوال التي منشؤها ذات الشيء محل البحث. ومن خلال هذه الإطلالة يتبين أن المقصود من العنوان يتجلى في إيجاد السبيل الأمثل لبناء جيل من العلماء تعاد فيهم صياغة العقل المؤمن والوجدان المسلم تأسيسا على العقيدة الصافية، والفهم السليم للإسلام وفق ما جاء في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على منهج سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين. ذلك أن الشريعة الإلهية تقوم على تأديب النفس وتصفيّة الروح، وتثقيف العقل وتقوية الجسم، فهي تعنى بالتربيةالدينية والخلقية والجسمية في آن واحد؛ إذ تمنح المربى مسايرة اتساع الأفق الفكري، وتؤهله لاستيعاب وفرة المحصول العلمي، وتمكنه من فهم اختلاف المذاهب والآراء. وتجعله قادرا على التعامل مع تنوع الدراسات،واتساع المناهج، وتعدد المذاهب الفلسفية والدينية. فيصبح محققاللمرامي التي تهدف إلى تجسيدها في المربى وتتوخاها من تربيته. فهذه الشريعة المطهرة تسعى إلى تأسيس أجيال سليمة المعتقد، صحيحة العبادة، قويةالإرادة، صالحة لأنفسها مصلحة لغيرها، مقدرة لمكانة العلم رافعة لمنزلة العلماء.
ولتحقيق هذا المنحى ركزت على التربية بالقدوة باعتبارها أنجع الوسائل لتحقيق المرامي التربوية، وأقربها إلى بلوغ النجاح، يقول الأستاذ محمدقطب: (من السهل تأليف كتاب في التربية،ومن السهل تخيل منهج وإن كان في حاجة إلى إحاطة وبراعة وشمول، ولكن هذا المنهج يظلحبراً على ورق ما لم يتحول إلى حقيقة واقعة تتحرك في واقع الأرض)[5]، فالمربي قدوة يأتسي به المربى،ونموذج يحتذي به، ونمط يتقمص شخصيته، ومثال يقلد سلوكه. فلا تنتظم التربية إلا حين تؤسس على مدرجة علمية رصينة تتدرج بالمربى وتقوده بزمام القدوة الحسنة التي جعلها الإسلام سابلة تربوية مكينة؛ قال تعالى:{أُوْلَئِك َ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}[الأنعام:90]، إنه موكب الإيمان الذي هدى الله وجعلهم قدوة لغيرهم. فلا اقتداء إلا برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلا بد للمربي أن يترسم خطاه. خاصة وأن المربى ميال إلى تقليد ومحاكاة المربي. ونظراً لأهمية وتأثير القدوة فقد لجأ كثير من العقلاء إلى وضع أولادهم تحت رعاية من هو أهل لأن يقتدى بهطلبا للأدب وأملا في تحصيل السمت الحسن والمعرفة المؤثرة في السلوك. فقد روي أن عمرو بن عتبة بن أبي سفيان لماّ دفع ولدهإلى المؤدب قال له: (ليكن أول ما تبدأ به من إصلاح بنيّ إصلاح نفسك، فإن أعينهممعقودة بعينيك، فالحسن عندهم ما استحسنت، والقبيح عندهم ما استقبحتَ، وعلّمهم سيرالحكماء ، وأخلاق الأدباء..)[6]، بهذا المنهج يظهر دور التربية الفعّال في الحياة البشرية، عندما تقاد بزمام العلم، وتحاط بإطار المعرفة، يقول الله تعالىمنوها بمكانة العلماء: {هل يستوي الذّين يعلمون والذّين لا يعلمون}[الزمر:9]، فمنع الله تعالىالمساواة بين العالم والجاهل، لما قد اختصّ به العالم من فضيلة العلم، يقول الماوردي معليا شأن العلم: (ولهذا فهو أشرف ما رغبفيه الرّاغب، وأفضل ما طلب وجَدَّ فيه الطالب، وأنفع ما كسبه واقتناه الكاسب، لأنشرفه يثمر على صاحبه، وفضله ينمي على طالبه)[7]. فلا بدللمربي أن يقوم بواجبه التربوي تجاه تربية أبنائهالمتعلمين ؛ فهم فلذات الأكباد، ورجال الغد، فلا مناص من سهره على تربيتهم دون كلل وبذله الوسع سعيا إلى تأهيلهم من غير ملل، حتى يجسد قول رسول اللهصلى الله عليه وسلّم: "والله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه"[8]. كما يلزم لتحقيق التربية أهدافها أن تجد جوا من الاستعداد النفسي لدى المتلقي حتى يتأثر بما يلقى إليه من معارف وعلوم، تحتنكه بالموعظة المؤثرة وتفتح طريقها إلى نفسه مباشرة عن طريقالوجدان فتهزه هزاً، عبر استخدام الرّأفة والترغيب والترهيب، أو بواسطة تتبع أسلوب الثوابوالعقاب.
فشريعتنا هذه قد امتازت بالحرص على نجاة البشرية بدءا بالنفس فالأهل؛ يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}[التحريم:6]. لقد استهل النبي صلى الله عليه وسلم دعائم التربية بتنظيم البيوت، وإقامتها على منهج إسلامي خالص، يتحمل فيه المؤمنون تبعة أهليهم كما يتحملون تبعة أنفسهم، كما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته"[9]، إنها التربية التي تتخذ من قصص الإسلام أساساً للعملية التربوية..فتراعي المشاعر والقدرات والفروق الفردية. وتمنح القصة ما لها من دور فعال في حياة الإنسان ولا سيما الصغير، فقد ذكر الله الكثير من القصص في كتابه العزيز كقصة أصحاب الكهف: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا}[الكهف:9]، والحديث عن الأمم الغابرة: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ}[الرعد:30]، وقد سلك النبي -صلى الله عليه وسلم- الطريقة نفسها؛ فذكر -صلى الله عليه وسلم_ قصة الثلاثة الذين دخلوا الغار، "انْطَلَقَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَتَّى أَوَوْا المَبِيتَ إِلَى غَارٍ، فَدَخَلُوهُ فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الجَبَلِ، فَسَدَّتْ عَلَيْهِمُ الغَارَ، فَقَالُوا: إِنَّهُ لاَ يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلَّا أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ...."[10]، وقصة الأعمى والأبرص والأقرع؛ "إِنَّ ثَلاَثَةً فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ: أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى، بَدَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا..."[11] وغيرها، وقد كانت هذه القصص للتربية والتوجيه كإيضاح مبدأ، أو ترسيخ منهج أو دعوة إلى فكرة.. أو غير ذلك. وهذه أجل مستويات الاستخدام التربوي لأهداف القصة؛ وذلك لما يكتسبه الطفل من خلالها بتعويده على الحوار الهادف والاستجواب الموضوعي والتشبيه المنطبق والتفكير الواعي.... فالتربية بالقصّة لها وقع خاص في نفس الطفل، وبها يستطيع المربي أن يتناول أوجه نشاطات الحياة، ويؤطر في المربى مختلف الميولوالأحاسيس الإنسانية، وعبرها يهذب نفوس الناشئة ويقوي علائقهم بأسرهم، وينمي فيهم روح التعاون والاحترام؛ وذلك بالاعتماد على أسلوب الاستفهام والمناقشة وإيقاظ الفكر وتوضيح الغامض؛ مما ينشئ الفعالية الإيجابية، والشعور بالوجود والثقة الذاتية. وليس نزول كتاب الله تعالى منجما إلا صورة لذلك، وحتى يتناسب مع الأحداث الجارية في المجتمع؛ كما هو شأن حادثة الإفك؛ {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[النور:11]، وكبيان ما كان من الابتلاء في غزوة أحد؛ {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُم ْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ...}[آل عمران:152]، هذا ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يترك فرصة إلا بين للصحابة من خلالها جليل آلاء الله تعالى عليهم؛ فحين مر بامرأة تضم ولدها وترضعه بادر بتنبيه الصحابة رضي الله عنهم إلى عظيم رأفة الله تعالى ورحمته بخلقه قائلا: "أترون هذه طارحة ولدها في النار»؟ قلنا: لا، وهي تقدر على أن لا تطرحه، فقال: «لله أرحم بعباده من هذه بولدها"[12].
وقد جاء الكثير من أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- نموذجا لهذا المنهج؛ كما في حديث جبريل -عليه السلام- يقول عمر رضي الله عنه: "بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟...."[13]، وكذلك عندما شبه –صلى الله عليه وسلم- الصلاة بالنهر الذي يغتسل منه المسلم كل يوم خمس مرات؛ "أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمسا، ما تقول: ذلك يبقي من درنه؟...."[14]. إنها التربية التي تستهدف كل الفئات وكافة الجوانب الحيوية للفرد والمجتمع فتزكي الأنفس وتطهرها من أدران النوايا السيئة وأمراض الحسد والأنانية وغيرها؛ لتغرس فيها القيم النبيلة والأخلاق الرفيعة، وتعودها على الطاعة وعبادة الله وحده؛ كما بين ذلك الرسول -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: «إن خياركم أحاسنكم أخلاقا»[15]. ولا يتأتى ذلك إلا بتزويد الناشئة بالعقيدة الصحيحة عبر تقديم المسائل الإيمانية والمباحث العقدية بشكل مبسط خال من الجدل العقيم، رغم ضرورة تعميق هذا التصور باستخدام الأدلة العقلية والحقائق العلمية لتكوين عاطفة قوية دافعة إلى السلوك الحسن لدى الأبناء، عبر بناء أخلاقي تراكمي؛ يقول ابن القيم: (ومما يحتاج إليه الطفل غاية الاحتياج الاعتناء بأمر خُلُقه؛ فإنه ينشأ على ما عوّده المربي في صغره)[16]. فلا بد من تزويد الأطفال بأهمية الأخلاق والعمل على غرس محاسنها في قلوبهم، وتوعيتهم بمعالمها وحدودها وضوابطها، وتنمية روح الالتزام والإرادة الأخلاقية بموجب ما تكتنزه نفوسهم من العقيدة الصحيحة. ومن المعلوم أن عنوان حسن الخلق الارتباط بالخالق والشعور بالحاجة الملحة إليه، وذلك بالاستمرار على اللهج الدائم بذكره سبحانه. والمعايشة الدؤوبة مع القرآن الكريم والسنة المطهرة؛ لإثارة العاطفة الدينية وإيقاظ الفطرة السليمة الكامنة في نفس الإنسان، فملاقحة العقول والأرواح والنفوس معاً بهذا الوحي تجعلها متناغمة جميعاً ومنسجمة في عبوديتها للخالق الديان. إن الأسلوب الأمثل في ذلك أن يكون صرح التربية مشيدا على ميزان الترغيب والترهيب، وهو أسلوب تربوي إسلامي راسخ، قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُون َ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}[التوبة:105]، فحين جلى القرآن الكريم العقيدة الصحيحة وأقام عليها البراهين ورغب في الأعمال الصالحة وحذر من الطالحة، رتب على ذلك السعادة في الدارين لمن آمن وأطاع، والعذاب الأليم لمن خالف وعصى. فالتشجيع وإيجاد الدافع لتحقيق الأهداف التربوية له دور كبير في استنفار الحماسة لدى المربى.. ومن أبلغ ذلك استخدام عبارات الثناء والمدح بعدل وموضوعية، فإنها دافعة لمزيد من الاجتهاد والبذل. وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يشجع أصحابه رضي الله عنهم؛ كما في قوله لأبي هريرة رضي الله عنه حين سأله عن أسعد الناس بشفاعته؟:«لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك؛ لما رأيت من حرصك على الحديث. أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة، من قال لا إله إلا الله، خالصا من قلبه، أو نفسه»[17]. فهذا قمة التشجيع على طلب العلم، وإن صاحبه تقدير لحالة المتلقي كان أثمر وأفيد. ولقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- ينظر إلى أحوال صحابته رضي الله عنهم من حيث نشاطهم فيتخولهم بالموعظة مخافة السأم عليهم[18]. فلا بد من الترويح؛ يقول ابن شهاب الزهري: "روحوا القلوب، ساعة وساعة"[19]. ومن الحكمة في ذلك المغايرة بين المواضيع، والتنشيط عبر الفواصل، والتشويق وتنويع الأساليب. ولن يتسنى للناشئ أن يستفيد من التربية العلمية ما لم تعزز لديه ملكة الحفظ، ويوثق فيه المزج بين النظري والعملي، وتنمى فيه أهم عوامل النجاح والتفوق المعرفي من خلال توجيهه بين الحين والآخر إلى الأمور التي تعينه في حياته العلمية؛ كالتوجيه إلى أنسب أساليب المذاكرة العلمية، والبدء في ذلك المهيع بأسلم طرق النطق والفهم والكتابة والنظام، واستيعاب الأمور الكلية قبل الجزئية. واستغلال الطاقات الهائلة التي يكتنزها، عبر إذكاء روح الثقة لديه، وجعل ما يملكه من تراكم معرفي قائدا له إلى التطبيق من خلال تحويل معارفه إلى طاعة لله تعالى، وتحقيقه بوساطتها منافع ملموسة معنوياً ومادياً. فالتربية هي صناعة الإنسان، بأعلى المواصفات، وتشكيله في أجمل الصور وتوجيهه لأمثل الطرق، وتزويده بأجل مستويات الاستعداد لتحقيق الوظائف التي خلق من أجلها والأهداف المنوطة به في هذه الحياة، فعن طريق التربية الرشيدة يتم حل مشكلات البشر، وبوساطتها يكون تحقيق السعادة، وبناء الفرد والمجتمع أخلاقياً في الحياة الخاصة والعامة، وإعداد مجتمع من الأخيار تسوده روح الخير والتسامح والمحبة والأخوة، مجتمع إسلامي يعي ضرورة الوحدة الترابطية في حياته، كما جاء في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"[20]. ذلك أن دور التربية محوري في تكوين الفرد على الخضوع للنظام الأخلاقي، والتعلق بالمجتمع، كما جاء في حديث عَرْفَجَةَ بْنِ شُرَيْحٍ الْأَشْجَعِيِّ رضي الله عنه قَالَ: (سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "فَإِنَّ يَدَ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ من فارق الجماعة يرتكض")[21]. فيد الله مع الجماعة، وليست العزلة إلا مرض يقود صاحبه إلى التهلكة، ويتنافى مع ما تسعى إليه الشريعة من تكوين شخصية قوية متزنة جمعية حضارية، بناءة تتحلى بالإيثار والتخلي عن الأنانية، شخصية مبناها على الثقة بالنفس، والاعتزاز بالماضي الإسلامي وتاريخ الأمة العريق، شخصية تقتفي آثار سلفها الصالح؛ في إحياء مجده الشامخ، وتاريخه العريق. شخصية لا تقتصر على مجرد الافتخار بمجد الآباء، بل تقتدي بهم في صناعة الأمجاد، ويجسد واقعها قول القائل:
لسنا وإن كرمت أحسابنا
أبدا على الأحساب نتكل
نبني كما كانت أوائلنا
تبني ونفعل مثل ما فعلوا[22].
شخصية لا يخالجها الشعور بالنقص بالنسبة إلى الأمم المتقدمة تكنولوجيا اليوم. والتي كانت بحق أكثر تخلفاً وجهلا، ولا تزال شعوبها أعمق جهالة، وساستها أوغر وحشية، وأقل رحمة وأبعد عن ضمير الإنسانية، ولا غرو فالحضارة المادية اليوم تقف كالطائر الذي يرف بجناح واحد جبار، بينما جناحه الآخر مهيض، فيرتقي في الإبداع المادي بقدر ما يرتكس في المعنى الإنساني ويعاني من القلق والحيرة والأمراض النفسية والعصبية.. وسيظلون كذلك ما لم يهتدوا إلى منهج الله، الذي هو وحده العلاج والدواء. إن الشخصية التي تسعى التربية الجادة إلى تكوينها لا تكتفي بمجرد الاتكاء على ترديد مثل قول الفرزدق:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم
إذا جمعتنا يا جرير المجامع[23].بل هي تلك التربية التي تسعى إلى إيجاد الشخصية المتوقدة إنتاجاً وحيوية، فلا يجد العجز إليها سبيلا، ولا يلفى اليأس فيها منفذا، شخصية نبتت في أرض الكرامة، وتغذت بلبان العبودية لله تعالى، وسقيت بماء التضحية، وقامت على رعاية حقوق الأمة. فارتفعت عن دنس كل رذيلة، وحازت زمام كل فضيلة، وترعرع عودها في كنف خشية الله تعالى والرغبة إليه والرهبة منه، إنها الشخصية المجتمعية التي تم تشييدها عبر البناء التراكمي الأصيل، الذي يؤسس لمجتمع يترقى في درجات النهوض ويحلق في سماء المعالي، مجتمع يشهد فيه الترابط بين الواقع النفسي للناس والواقع الخارجي الذي يكون قضاء وقدرا أوج ازدهاره، مجتمع يضع نصب عينيه ذلك الارتباط القائم والوثيق بين عمل الإنسان وشعوره وبين مجريات الأحداث في نطاق السنة الإلهية الشاملة للجميع. مجتمع لا يسمح بتمزيق هذا الارتباط، ولا يقبل الإخلال بذلك التناسق، مجتمع يستسلم لسنة الله الجارية، مجتمع يعي كنه الصراع الأزلي بين الحق والباطل، ويمتلك آليات طرد أعداء البشرية ويمنعهم من الحيلولة دون هداية الناس، مجتمع يسلك طريقه إلى ربه الكريم..بهمة عالية وعزيمة نافذة، على قدر قول المتنبي:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتأتي على قدر الكرام المكارم[24]
يتبع
د. أحمد ولد محمد ذو النورين
لقد رفع الله تعالى شأن هذا الإنسان، وخلقه في أحسن تقويم، ورباه بالآيات العظيمات،..وبعث إليه المرسلين لهدايته بتربيته، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بما للتربية من الأهمية البالغة في تحصيل سعادة الدنيا والآخرة، وما يترتب عليها من تحديد شخصية الفرد ومنهجه الفكري وعقيدته وسلوكه؛ ولذلك اهتم بها وأسسها على دعائم النقاء العقدي والفكري والعطاء والتضحية، وجعلها الوسيلة الأهم لمعرفة الطبيعة الإنسانية وتمكينها من مجالات النجاح التربوي وتزويدها بأوثق عوامل التفوق العلمي. وعلى ذلك أقام صلى الله عليه وسلم حياة أصحابه رضي الله عنهم؛ حيث زودهم بالتربية الإيمانية الشاملة حتى أخرج أعظم جيل عرفته البشرية، ذلك الجيل الذي بدأ صلى الله عليه وسلم يؤسس لإعداده بالتربية الرشيدة الهادية؛ فتحقق له صلى الله عليه وسلم مقصده في زمن قياسي؛ لتميز أسلوبه صلى الله عليه وسلم التربوي الدعوي.
وفي مستهل هذا البحث نحتاج إلى إشارات من النصوص ونتف من كلام المفسرين واللغويين لنفهم مضمون العنوان ((أسس البناء العلمي)). يقول أبو الحسن الواحدي في تعليقه على قول الله تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ}[التوبة:109]؛ البنيان: مصدر يراد به المبنى ههنا، والتأسيس إحكام أسس البناء وهو أصله، وقرأ نافع: أُسس بضم الألف بنيانُه رفعا، وهذا في المعنى الأول لأنه إذا أسس بنيانه، فتولى ذلك غيره بأمره كان كبنائه، والمعنى: المؤسس بنيانه متقيا يخاف الله ويرجو ثوابه ورضوانه خَيْرٌ؟ أم المؤسس بنيانه غير متق؟ وهو قوله: {أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ}[التوبة:109]، وشفا الشيء حرفه، والجرف ما يجرفه السيل من الأودية، وهو جانبها الذي ينحفر بالماء أصله فيبقى واهيا)[1]. وقال زين الدين الرازي: (أس س: (الْأُسُّ) بِالضَّمِّ أَصْلُ الْبِنَاءِ، وَكَذَا (الْأَسَاسُ) وَ (الْأَسَسُ) بِفَتْحَتَيْنِ مَقْصُورٌ مِنْهُ وَجَمْعُ الْأُسِّ (إِسَاسٌ) بِالْكَسْرِ وَجَمْعُ الْأَسَاسِ (أُسُسٌ) بِضَمَّتَيْنِ وَجَمْعُ الْأَسَسِ (آسَاسٌ) بِالْمَدِّ وَقَدْ (أَسَّسَ) الْبِنَاءَ (تَأْسِيسًا))[2]. وجاء في المعجم الوسيط: ((أسس) البناء أسه؛ (الأساس) قاعدة البناء التي يقام عليها وأصل كل شيء ومبدؤه ومنه أساس الفكرة وأساس البحث والتعليم الأساسي الخبرة العلمية والعملية التي لا غنى عنها للناشئ والنظام الأساسي هو النظام الذي يمثله دستور الدولة (مج)، (الأس الإس الأس) الأساس ومن الدهر قدمه. (الأس) الأساس يقال قلعه من أسه والأثر من كل شيء وباقي الرماد وقلب الإنسان (ج) إساس وآساس وفي الحساب العدد الدال على قوة الكمية فالقوة الثانية أسها (2) والقوة الثالثة أسها (3) وهكذا..(التأسيس) في القافية ألف تلزم القافية وبينها وبين حرف الروي حرف مثل:
(ألا طال هذا الليل واخضل جانبه ... ) فالألف في (جانبه) هي التأسيس)[3]. أما العلمي فنسبة إلى العلم الذي هو ضد الجهل، ويأتي في اللغة على معنيين اثنيين؛ أحدهما غلبة الظن، قال تعالى: {فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار}[الممتحنة:10]؛ أي غلب على ظنكم إيمانهن. وثانيهما الاعتقاد الجازم الذي لا تردد فيه ولا شك، قال تعالى: {فاعلم أنه لا إله إلا الله}[القتال:19]. أما العلم اصطلاحاً فهو صفة ينكشف بها المطلوب، أو هو إدراك الشيء على ما هو عليه. وقد عرف شمس الدين السفاريني الحنبلي رحمه الله تعالى موضوعه قائلا: (هو ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية)[4]، أي الأحوال التي منشؤها ذات الشيء محل البحث. ومن خلال هذه الإطلالة يتبين أن المقصود من العنوان يتجلى في إيجاد السبيل الأمثل لبناء جيل من العلماء تعاد فيهم صياغة العقل المؤمن والوجدان المسلم تأسيسا على العقيدة الصافية، والفهم السليم للإسلام وفق ما جاء في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على منهج سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين. ذلك أن الشريعة الإلهية تقوم على تأديب النفس وتصفيّة الروح، وتثقيف العقل وتقوية الجسم، فهي تعنى بالتربيةالدينية والخلقية والجسمية في آن واحد؛ إذ تمنح المربى مسايرة اتساع الأفق الفكري، وتؤهله لاستيعاب وفرة المحصول العلمي، وتمكنه من فهم اختلاف المذاهب والآراء. وتجعله قادرا على التعامل مع تنوع الدراسات،واتساع المناهج، وتعدد المذاهب الفلسفية والدينية. فيصبح محققاللمرامي التي تهدف إلى تجسيدها في المربى وتتوخاها من تربيته. فهذه الشريعة المطهرة تسعى إلى تأسيس أجيال سليمة المعتقد، صحيحة العبادة، قويةالإرادة، صالحة لأنفسها مصلحة لغيرها، مقدرة لمكانة العلم رافعة لمنزلة العلماء.
ولتحقيق هذا المنحى ركزت على التربية بالقدوة باعتبارها أنجع الوسائل لتحقيق المرامي التربوية، وأقربها إلى بلوغ النجاح، يقول الأستاذ محمدقطب: (من السهل تأليف كتاب في التربية،ومن السهل تخيل منهج وإن كان في حاجة إلى إحاطة وبراعة وشمول، ولكن هذا المنهج يظلحبراً على ورق ما لم يتحول إلى حقيقة واقعة تتحرك في واقع الأرض)[5]، فالمربي قدوة يأتسي به المربى،ونموذج يحتذي به، ونمط يتقمص شخصيته، ومثال يقلد سلوكه. فلا تنتظم التربية إلا حين تؤسس على مدرجة علمية رصينة تتدرج بالمربى وتقوده بزمام القدوة الحسنة التي جعلها الإسلام سابلة تربوية مكينة؛ قال تعالى:{أُوْلَئِك َ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}[الأنعام:90]، إنه موكب الإيمان الذي هدى الله وجعلهم قدوة لغيرهم. فلا اقتداء إلا برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلا بد للمربي أن يترسم خطاه. خاصة وأن المربى ميال إلى تقليد ومحاكاة المربي. ونظراً لأهمية وتأثير القدوة فقد لجأ كثير من العقلاء إلى وضع أولادهم تحت رعاية من هو أهل لأن يقتدى بهطلبا للأدب وأملا في تحصيل السمت الحسن والمعرفة المؤثرة في السلوك. فقد روي أن عمرو بن عتبة بن أبي سفيان لماّ دفع ولدهإلى المؤدب قال له: (ليكن أول ما تبدأ به من إصلاح بنيّ إصلاح نفسك، فإن أعينهممعقودة بعينيك، فالحسن عندهم ما استحسنت، والقبيح عندهم ما استقبحتَ، وعلّمهم سيرالحكماء ، وأخلاق الأدباء..)[6]، بهذا المنهج يظهر دور التربية الفعّال في الحياة البشرية، عندما تقاد بزمام العلم، وتحاط بإطار المعرفة، يقول الله تعالىمنوها بمكانة العلماء: {هل يستوي الذّين يعلمون والذّين لا يعلمون}[الزمر:9]، فمنع الله تعالىالمساواة بين العالم والجاهل، لما قد اختصّ به العالم من فضيلة العلم، يقول الماوردي معليا شأن العلم: (ولهذا فهو أشرف ما رغبفيه الرّاغب، وأفضل ما طلب وجَدَّ فيه الطالب، وأنفع ما كسبه واقتناه الكاسب، لأنشرفه يثمر على صاحبه، وفضله ينمي على طالبه)[7]. فلا بدللمربي أن يقوم بواجبه التربوي تجاه تربية أبنائهالمتعلمين ؛ فهم فلذات الأكباد، ورجال الغد، فلا مناص من سهره على تربيتهم دون كلل وبذله الوسع سعيا إلى تأهيلهم من غير ملل، حتى يجسد قول رسول اللهصلى الله عليه وسلّم: "والله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه"[8]. كما يلزم لتحقيق التربية أهدافها أن تجد جوا من الاستعداد النفسي لدى المتلقي حتى يتأثر بما يلقى إليه من معارف وعلوم، تحتنكه بالموعظة المؤثرة وتفتح طريقها إلى نفسه مباشرة عن طريقالوجدان فتهزه هزاً، عبر استخدام الرّأفة والترغيب والترهيب، أو بواسطة تتبع أسلوب الثوابوالعقاب.
فشريعتنا هذه قد امتازت بالحرص على نجاة البشرية بدءا بالنفس فالأهل؛ يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}[التحريم:6]. لقد استهل النبي صلى الله عليه وسلم دعائم التربية بتنظيم البيوت، وإقامتها على منهج إسلامي خالص، يتحمل فيه المؤمنون تبعة أهليهم كما يتحملون تبعة أنفسهم، كما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته"[9]، إنها التربية التي تتخذ من قصص الإسلام أساساً للعملية التربوية..فتراعي المشاعر والقدرات والفروق الفردية. وتمنح القصة ما لها من دور فعال في حياة الإنسان ولا سيما الصغير، فقد ذكر الله الكثير من القصص في كتابه العزيز كقصة أصحاب الكهف: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا}[الكهف:9]، والحديث عن الأمم الغابرة: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ}[الرعد:30]، وقد سلك النبي -صلى الله عليه وسلم- الطريقة نفسها؛ فذكر -صلى الله عليه وسلم_ قصة الثلاثة الذين دخلوا الغار، "انْطَلَقَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَتَّى أَوَوْا المَبِيتَ إِلَى غَارٍ، فَدَخَلُوهُ فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الجَبَلِ، فَسَدَّتْ عَلَيْهِمُ الغَارَ، فَقَالُوا: إِنَّهُ لاَ يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلَّا أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ...."[10]، وقصة الأعمى والأبرص والأقرع؛ "إِنَّ ثَلاَثَةً فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ: أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى، بَدَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا..."[11] وغيرها، وقد كانت هذه القصص للتربية والتوجيه كإيضاح مبدأ، أو ترسيخ منهج أو دعوة إلى فكرة.. أو غير ذلك. وهذه أجل مستويات الاستخدام التربوي لأهداف القصة؛ وذلك لما يكتسبه الطفل من خلالها بتعويده على الحوار الهادف والاستجواب الموضوعي والتشبيه المنطبق والتفكير الواعي.... فالتربية بالقصّة لها وقع خاص في نفس الطفل، وبها يستطيع المربي أن يتناول أوجه نشاطات الحياة، ويؤطر في المربى مختلف الميولوالأحاسيس الإنسانية، وعبرها يهذب نفوس الناشئة ويقوي علائقهم بأسرهم، وينمي فيهم روح التعاون والاحترام؛ وذلك بالاعتماد على أسلوب الاستفهام والمناقشة وإيقاظ الفكر وتوضيح الغامض؛ مما ينشئ الفعالية الإيجابية، والشعور بالوجود والثقة الذاتية. وليس نزول كتاب الله تعالى منجما إلا صورة لذلك، وحتى يتناسب مع الأحداث الجارية في المجتمع؛ كما هو شأن حادثة الإفك؛ {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[النور:11]، وكبيان ما كان من الابتلاء في غزوة أحد؛ {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُم ْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ...}[آل عمران:152]، هذا ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يترك فرصة إلا بين للصحابة من خلالها جليل آلاء الله تعالى عليهم؛ فحين مر بامرأة تضم ولدها وترضعه بادر بتنبيه الصحابة رضي الله عنهم إلى عظيم رأفة الله تعالى ورحمته بخلقه قائلا: "أترون هذه طارحة ولدها في النار»؟ قلنا: لا، وهي تقدر على أن لا تطرحه، فقال: «لله أرحم بعباده من هذه بولدها"[12].
وقد جاء الكثير من أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- نموذجا لهذا المنهج؛ كما في حديث جبريل -عليه السلام- يقول عمر رضي الله عنه: "بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟...."[13]، وكذلك عندما شبه –صلى الله عليه وسلم- الصلاة بالنهر الذي يغتسل منه المسلم كل يوم خمس مرات؛ "أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمسا، ما تقول: ذلك يبقي من درنه؟...."[14]. إنها التربية التي تستهدف كل الفئات وكافة الجوانب الحيوية للفرد والمجتمع فتزكي الأنفس وتطهرها من أدران النوايا السيئة وأمراض الحسد والأنانية وغيرها؛ لتغرس فيها القيم النبيلة والأخلاق الرفيعة، وتعودها على الطاعة وعبادة الله وحده؛ كما بين ذلك الرسول -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: «إن خياركم أحاسنكم أخلاقا»[15]. ولا يتأتى ذلك إلا بتزويد الناشئة بالعقيدة الصحيحة عبر تقديم المسائل الإيمانية والمباحث العقدية بشكل مبسط خال من الجدل العقيم، رغم ضرورة تعميق هذا التصور باستخدام الأدلة العقلية والحقائق العلمية لتكوين عاطفة قوية دافعة إلى السلوك الحسن لدى الأبناء، عبر بناء أخلاقي تراكمي؛ يقول ابن القيم: (ومما يحتاج إليه الطفل غاية الاحتياج الاعتناء بأمر خُلُقه؛ فإنه ينشأ على ما عوّده المربي في صغره)[16]. فلا بد من تزويد الأطفال بأهمية الأخلاق والعمل على غرس محاسنها في قلوبهم، وتوعيتهم بمعالمها وحدودها وضوابطها، وتنمية روح الالتزام والإرادة الأخلاقية بموجب ما تكتنزه نفوسهم من العقيدة الصحيحة. ومن المعلوم أن عنوان حسن الخلق الارتباط بالخالق والشعور بالحاجة الملحة إليه، وذلك بالاستمرار على اللهج الدائم بذكره سبحانه. والمعايشة الدؤوبة مع القرآن الكريم والسنة المطهرة؛ لإثارة العاطفة الدينية وإيقاظ الفطرة السليمة الكامنة في نفس الإنسان، فملاقحة العقول والأرواح والنفوس معاً بهذا الوحي تجعلها متناغمة جميعاً ومنسجمة في عبوديتها للخالق الديان. إن الأسلوب الأمثل في ذلك أن يكون صرح التربية مشيدا على ميزان الترغيب والترهيب، وهو أسلوب تربوي إسلامي راسخ، قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُون َ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}[التوبة:105]، فحين جلى القرآن الكريم العقيدة الصحيحة وأقام عليها البراهين ورغب في الأعمال الصالحة وحذر من الطالحة، رتب على ذلك السعادة في الدارين لمن آمن وأطاع، والعذاب الأليم لمن خالف وعصى. فالتشجيع وإيجاد الدافع لتحقيق الأهداف التربوية له دور كبير في استنفار الحماسة لدى المربى.. ومن أبلغ ذلك استخدام عبارات الثناء والمدح بعدل وموضوعية، فإنها دافعة لمزيد من الاجتهاد والبذل. وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يشجع أصحابه رضي الله عنهم؛ كما في قوله لأبي هريرة رضي الله عنه حين سأله عن أسعد الناس بشفاعته؟:«لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك؛ لما رأيت من حرصك على الحديث. أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة، من قال لا إله إلا الله، خالصا من قلبه، أو نفسه»[17]. فهذا قمة التشجيع على طلب العلم، وإن صاحبه تقدير لحالة المتلقي كان أثمر وأفيد. ولقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- ينظر إلى أحوال صحابته رضي الله عنهم من حيث نشاطهم فيتخولهم بالموعظة مخافة السأم عليهم[18]. فلا بد من الترويح؛ يقول ابن شهاب الزهري: "روحوا القلوب، ساعة وساعة"[19]. ومن الحكمة في ذلك المغايرة بين المواضيع، والتنشيط عبر الفواصل، والتشويق وتنويع الأساليب. ولن يتسنى للناشئ أن يستفيد من التربية العلمية ما لم تعزز لديه ملكة الحفظ، ويوثق فيه المزج بين النظري والعملي، وتنمى فيه أهم عوامل النجاح والتفوق المعرفي من خلال توجيهه بين الحين والآخر إلى الأمور التي تعينه في حياته العلمية؛ كالتوجيه إلى أنسب أساليب المذاكرة العلمية، والبدء في ذلك المهيع بأسلم طرق النطق والفهم والكتابة والنظام، واستيعاب الأمور الكلية قبل الجزئية. واستغلال الطاقات الهائلة التي يكتنزها، عبر إذكاء روح الثقة لديه، وجعل ما يملكه من تراكم معرفي قائدا له إلى التطبيق من خلال تحويل معارفه إلى طاعة لله تعالى، وتحقيقه بوساطتها منافع ملموسة معنوياً ومادياً. فالتربية هي صناعة الإنسان، بأعلى المواصفات، وتشكيله في أجمل الصور وتوجيهه لأمثل الطرق، وتزويده بأجل مستويات الاستعداد لتحقيق الوظائف التي خلق من أجلها والأهداف المنوطة به في هذه الحياة، فعن طريق التربية الرشيدة يتم حل مشكلات البشر، وبوساطتها يكون تحقيق السعادة، وبناء الفرد والمجتمع أخلاقياً في الحياة الخاصة والعامة، وإعداد مجتمع من الأخيار تسوده روح الخير والتسامح والمحبة والأخوة، مجتمع إسلامي يعي ضرورة الوحدة الترابطية في حياته، كما جاء في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"[20]. ذلك أن دور التربية محوري في تكوين الفرد على الخضوع للنظام الأخلاقي، والتعلق بالمجتمع، كما جاء في حديث عَرْفَجَةَ بْنِ شُرَيْحٍ الْأَشْجَعِيِّ رضي الله عنه قَالَ: (سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "فَإِنَّ يَدَ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ من فارق الجماعة يرتكض")[21]. فيد الله مع الجماعة، وليست العزلة إلا مرض يقود صاحبه إلى التهلكة، ويتنافى مع ما تسعى إليه الشريعة من تكوين شخصية قوية متزنة جمعية حضارية، بناءة تتحلى بالإيثار والتخلي عن الأنانية، شخصية مبناها على الثقة بالنفس، والاعتزاز بالماضي الإسلامي وتاريخ الأمة العريق، شخصية تقتفي آثار سلفها الصالح؛ في إحياء مجده الشامخ، وتاريخه العريق. شخصية لا تقتصر على مجرد الافتخار بمجد الآباء، بل تقتدي بهم في صناعة الأمجاد، ويجسد واقعها قول القائل:
لسنا وإن كرمت أحسابنا
أبدا على الأحساب نتكل
نبني كما كانت أوائلنا
تبني ونفعل مثل ما فعلوا[22].
شخصية لا يخالجها الشعور بالنقص بالنسبة إلى الأمم المتقدمة تكنولوجيا اليوم. والتي كانت بحق أكثر تخلفاً وجهلا، ولا تزال شعوبها أعمق جهالة، وساستها أوغر وحشية، وأقل رحمة وأبعد عن ضمير الإنسانية، ولا غرو فالحضارة المادية اليوم تقف كالطائر الذي يرف بجناح واحد جبار، بينما جناحه الآخر مهيض، فيرتقي في الإبداع المادي بقدر ما يرتكس في المعنى الإنساني ويعاني من القلق والحيرة والأمراض النفسية والعصبية.. وسيظلون كذلك ما لم يهتدوا إلى منهج الله، الذي هو وحده العلاج والدواء. إن الشخصية التي تسعى التربية الجادة إلى تكوينها لا تكتفي بمجرد الاتكاء على ترديد مثل قول الفرزدق:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم
إذا جمعتنا يا جرير المجامع[23].بل هي تلك التربية التي تسعى إلى إيجاد الشخصية المتوقدة إنتاجاً وحيوية، فلا يجد العجز إليها سبيلا، ولا يلفى اليأس فيها منفذا، شخصية نبتت في أرض الكرامة، وتغذت بلبان العبودية لله تعالى، وسقيت بماء التضحية، وقامت على رعاية حقوق الأمة. فارتفعت عن دنس كل رذيلة، وحازت زمام كل فضيلة، وترعرع عودها في كنف خشية الله تعالى والرغبة إليه والرهبة منه، إنها الشخصية المجتمعية التي تم تشييدها عبر البناء التراكمي الأصيل، الذي يؤسس لمجتمع يترقى في درجات النهوض ويحلق في سماء المعالي، مجتمع يشهد فيه الترابط بين الواقع النفسي للناس والواقع الخارجي الذي يكون قضاء وقدرا أوج ازدهاره، مجتمع يضع نصب عينيه ذلك الارتباط القائم والوثيق بين عمل الإنسان وشعوره وبين مجريات الأحداث في نطاق السنة الإلهية الشاملة للجميع. مجتمع لا يسمح بتمزيق هذا الارتباط، ولا يقبل الإخلال بذلك التناسق، مجتمع يستسلم لسنة الله الجارية، مجتمع يعي كنه الصراع الأزلي بين الحق والباطل، ويمتلك آليات طرد أعداء البشرية ويمنعهم من الحيلولة دون هداية الناس، مجتمع يسلك طريقه إلى ربه الكريم..بهمة عالية وعزيمة نافذة، على قدر قول المتنبي:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتأتي على قدر الكرام المكارم[24]
يتبع