ابو وليد البحيرى
2019-10-02, 04:09 PM
الاجتهاد بين النقض وعدمه
الشيخ/ ياسر عيسى مشرف الحجازات
ملخص البحث:
نظر لما للاجتهاد من أهمية في تجديد الفكر الإسلامي, ومجاراة قضايا العصر, وإثبات أن للإسلام شريعة صالحة لكل زمان ومكان, كان هذا البحث الذي يعنى بأهم مسائل الاجتهاد, ولذا فقد بينت فيه: معنى الاجتهاد, وأقسامه, وشروطه, وحكمه, ومدى قابلية الاجتهاد للنقض, وما يقبل النقض منه وما لا يقبل, وما يتحقق به نقض الاجتهاد, والحديث عن قاعدة: الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد, وجعلت في نهاية البحث خاتمة ضمنتها أهم ما توصلت إليه من نتائج.
Abstract: Look to the diligence of importance in the renewal of Islamic thought, keep up with the issues of the day, and to prove that Islam law valid for every time and place, was this research that means the most important diligence issues, and so I showed it: the meaning of due diligence, and its divisions, and conditions, and his rule, and the extent to which the diligence of veto , and irrevocably, and it does not accept, and what is achieved by the veto diligence, and talk about the base: diligence does not invalidate diligence, and made a conclusion at the end of guaranteed the most important findings.
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على خاتم النبيين, وعلى آله وصحبه والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فإن الاجتهاد علامة واضحة, ودلالة بينة على شمول شريعتنا الإسلامية, ومواكبتها للعصور والأزمان كافة, وقد جعل النبي e للمجتهد في بيان أحكام الشريعة أجر العابد المجاهد؛ ففي الحديث الصحيح عن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله e يقول: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران, وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر"([1]). قال النووي: قال العلماء أجمع المسلمون على أن هذا الحديث في حكم عالم أهل للحكم فإن أصاب فله أجران أجر باجتهاده وأجر بإصابته وإن أخطأ فله أجر باجتهاده.([2])
ومن المسائل التي تطرح في هذا الباب مسألة نقض الاجتهاد؛ وهي من المسائل المبحوثة قديما في كتب, لكن بشيء من الاختصار, وفي مراجع شتى, مما يضطر طالب العلم النظر في أكثر من مرجع أو كتاب من كتب الأصول للوقوف على حقيقتها وللتعرف على آراء العلماء فيها, ولذلك قمت بكتابة هذا البحث لبيان آراء العلماء في إثباتها أو نفيها ولبيان أدلتهم. متبعا في ذلك المناهج العلمية المناسبة لمثلها من المسائل كالمنهج الاستقرائي والاستنباطي. وقد قسمت بحثي إلى مبحثين وخاتمة على النحو الآتي:
المبحث الأول: الاجتهاد: ويشتمل على أربعة مطالب:
المطلب الأول: معنى الاجتهاد لغة واصطلاحا.
المطلب الثاني: أقسام الاجتهاد.
المطلب الثالث: شروط المجتهد.
المطلب الرابع: حكم الاجتهاد.
المبحث الثاني: نقض الاجتهاد وجوده وعدمه, ويشتمل على ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: تعريف النقض لغة واصطلاحا.
المطلب الثاني: ما يحصل به النقض وعدمه.
المطلب الثالث: قاعدة الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد
الخاتمة: وقد بينت فيها أهم ما توصلت إليه من النتائج.
راجيا من الله التوفيق والهداية والسداد والرشاد, والحمد لله رب العالمين.
المبحث الأول
الاجتهــــاد
المطلب الأول: معنى الاجتهاد لغة واصطلاحا
الاجتهاد لغة:
الجهْدُ بفتح الجيم وضمها الطاقة وقُرئ بهما قوله تعالى: ﴿والذين لا يجدون إلا جهدهم﴾[(3)], والجهد بالفتح المشقة يقال جَهَدَ دابته وأجْهَدَهَا, إذا حمل عليها في السير فوق طاقتها, وجَهَدَ الرجل في كذا أي جدَّ فيه وبالغ, وبابهما قطع, وجُهِدَ الرجل على ما لم يسم فاعله, فهو مَجْهودٌ من المشقة, وجاهَدَ في سبيل الله مُجَاهَدَة وجِهَاداٌ, والاجْتِهادُ والتَّجَاهُدُ بذل الوسع والمَجْهود, وِاجْتَهَدَ فِي الْأَمْرِ, بَذَلَ وُسْعَهُ وَطَاقَتَهُ فِي طَلَبِهِ لِيَبْلُغَ مَجْهُودَهُ وَيَصِلَ إلَى نِهَايَتِهِ[(4)].
الاجتهاد اصطلاحا:
تعددت أقوال الأصوليين في تعريف الاجتهاد: فيقول إمام الحرمين الجويني: "وَأما الِاجْتِهَاد فَهُوَ بذل الوسع فِي بُلُوغ الْغَرَض"[(5)], ويقول الماوردي: "استفراغ الْفَقِيه وَسعه لدرك حكم شَرْعِي"[(6)].
والحاصل ومن مجموع التعريفات أن الاجتهاد: "بذل الوسع في نيل حكم شرعي عملي بطريق الاستنباط".[(7)]
فقولنا: بَذْلُ" أَيْ بِحَيْثُ يُحِسُّ مِنْ نَفْسِهِ الْعَجْزَ عَنْ مَزِيدِ طَلَبٍ حَتَّى لَا يَقَعَ لَوْمٌ فِي التَّقْصِيرِ, "الشَّرْعِيُّ" اللُّغَوِيَّ وَالْعَقْلِيَّ وَالْحِسِّيَّ, فَلَا يُسَمَّى عِنْدَ الْفُقَهَاءِ مُجْتَهِدا, وَكَذَلِكَ الْبَاذِلُ وُسْعَهُ فِي نَيْلِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ عِلْمِيٍّ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُسَمَّى عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِي نَ مُجْتَهِدا وَإِنَّمَا قُلْنَا: "بِطَرِيقِ الِاسْتِنْبَاطِ " لِيَخْرُجَ بِذَلِكَ بَذْلُ الْوُسْعِ فِي نَيْلِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ مِنْ النُّصُوصِ ظَاهِرا أَوْ بِحِفْظِ الْمَسَائِلِ وَاسْتِعْلَامِه َا مِنْ الْمَعْنَى أَوْ بِالْكَشْفِ عَنْهَا مِنْ الْكُتُبِ, فَإِنَّهُ وَإِنْ سُمِّيَ اجْتِهَادا فَهُوَ لُغَة لَا اصْطِلَاحا وَسَبَقَ[(8)]
المطلب الثاني
أقسـام الاجتهـاد
ينقسم الاجتهاد إلى قسمين, تام وناقص, فالتام: أن يبذل الوسع في الطلب إلى أن يحس من نفسه بالعجز عن مزيد طلب, والناقص: هو النظر المطلق في تعرّف الأحكام الشرعية, وتختلف مراتبه حسب مثال من ضاع منه درهم في التراب فقلبه برجله فلم يجد شيئا فتركه وراح, وآخر إذا جرى له ذلك جاء بغربال فغربل التراب حتى يجد الدرهم, أو يغلب على ظنه أنه ما عاد يلقاه, فالأول اجتهاد قاصر والثاني تام[(9)].
المطلب الثالث
شـروط المجتهـد
المجتهد من اتصف بصفة الاجتهاد وحصلت له أهلية استنباط الأحكام الشرعية العملية من مظانها, وإن كمال رتبة الاجتهاد تتوقف على" إحاطته بمدارك الأحكام المثمرة لها وهي: الأصل الكتاب والسنة, والإجماع, واستصحاب الحال, والقياس التابع لها, وما يعتبر في الحكم في الجملة, وتقديم ما يجب تقديمه منها"[(10)]
وفي هذا النقل عن ابن قدامة المقدسي أجمل فيما أظن ما ذكر من شروط المجتهد والتي أجملها بالآتي:
معرفة الكتاب: معرفة ما يتعلق منه بالأحكام وهي قدر خمسمائة آية ولا يشترط حفظها بل علمه بمواقعها حتى يطلب الآية المحتاج إليها وقت حاجته
معرفة السنة: معرفة أحاديث الأحكام وهي وإن كانت كثيرة فهي محصورة
معرفته للناسخ والمنسوخ من الكتاب والسنة.
أن يعرف الحديث الذي يعتمد عليه فيها أنه صحيح أو ضعيف.. الخ.
معرفته بالإجماع حتى لا يفتي بخلافه.
وكل الذي ذكرنا له تفصيل لا مجال لبسطه.[(11)]
المطلب الرابع
حكـم الاجتهـاد
أولا: حكم الاجتهاد إجمالا.
القول بجواز الاجتهاد مذهب الجمهور[(12)] قال ابن تيمية: «والذي عليه جماهير الأمة أن الاجتهاد جائز في الجملة»[(13)], والأدلة على ذلك كثيرة لا مجال لحصرها[(14)].
ثانيا: حكم الاجتهاد على التفصيل.
فإنه قد يجب وقد يحرم, وقد يستحب وقد يكره, وقد يكون مباحا وذلك يختلف بحسب أهلية المجتهد, وحسب نوع المسألة المنظور فيها, وحسب الحاجة إليها, وحسب الوقت[(15)], فيكون الاجتهاد واجبا: إذا كان المجتهد أهلا للاجتهاد, وكانت المسألة مما يسوغ فيه الاجتهاد, وقد قامت الحاجة الشديدة إلى معرفة الحكم مع ضيق الوقت, ويكون مستحبا إذا لم تكن الحاجة قائمة وكان الوقت متسعا, مع كون المجتهد أهلا للاجتهاد, ويكون محرما إذا لم يكن المجتهد أهلا, ولم توجد الحاجة لذلك, أو كان أهلا لكن كانت المسألة مما لا يجوز فيه الاجتهاد؛ بأن كان الحكم منصوصا أو مجمعا عليه. ويكون مكروها إذا كان المجتهد أهلا وكانت المسألة مما يستبعد وقوعه, ويكون مباحا إذا كان المجتهد أهلا وكانت المسألة مما يمكن وقوعه, وكان الوقت متسعا.
المبحث الثاني
نقض الاجتهاد وجوده وعدمه
المطلب الأول: تعريف النقض لغة واصطلاحا
النقض لغة:
النَّقْضُ فِي البناءِ, والحَبْلِ, والعَهْدِ, وغيرِه: ضدُّ الإِبْرامِ, كالانْتِقاضِ والتَّناقُضِ, وَفِي المُحكم: النَّقْضُ: إِفْسادُ مَا أَبْرَمْتَ من عقْدٍ أَو بِناءٍ, وذَكَرَ الجَوْهَرِيّ الحَبْلَ والعَهْدَ. ونَقْضُ البِناءِ هدْمُه.ونَقَضَه يَنْقُضُهُ نَقْضا, وانْتَقَضَ, وتَناقَضَ. وانْتَقَضَ الأَمْرُ بعدَ الْتِئامِهِ, وانْتَقَضَ أَمرُ الثَّغْرِ بعد سَدِّه.[(16)]
النقض اصطلاحا:
قد تعرض علماء الأصول لتعريف النقض وذلك عند حديثهم على قوادح القياس وعوارضه, حيث أورد له جملة من التعريفات؛ ومن أشهرها عبارة الإمام الآمدي, حيث عرفه بأنه:" تخلف الحكم مع وجود ما ادعي كونه علة له", وقال ابن قدامة: "هو إبداء الْعلَّة بِدُونِ الحكم", وَقِيلَ: تَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَمَّا عُلِّلَ بِهِ مِنَ الْوَصْفِ, وَقِيلَ: إِبْدَاءُ الْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ جِهَةِ الْمُسْتَدِلِّ, مَعَ تَخَلُّفِ الْحُكْمِ وِفَاقا, وَمَعَانِيهَا مُتَقَارِبَةٌ.[(17)]
والمراد بالنقض هنا هو النقض بمعناه اللغوي فنقض الاجتهاد هو إبطال الحكم السابق وإفساده بعد أن كان مبرما.
المطلب الثاني
ما يحصل به النقض وعدمه
اختلف الأصوليين في نقض الاجتهاد وعدم ونقضه, وذلك في الحالات التالية:
أولا: النقض بالنص.
الحالة الأولى: النص إما أن يكون قطعي الثبوت والدلالة[(18)], وقد اتفق الأصوليون على نقض الاجتهاد إذا خالف نصا قطعيا[(19)]
الحالة الثانية: أن يكون النص ظني الدلالة, فقد اختلف الأصوليون على قولين:
القول الأول: أن النص الظاهر لا ينتقض به الاجتهاد: وهو قول أكثر الأصوليين, يدل عليه صنع كثير منهم ممن قيده بالقطع أو أطلقه دون قيد[(20)]
القول الثاني: أن الظاهر ينقض به الاجتهاد, وبه قال بعضهم, ولعل هذا القول هو الأرجح لأن الممنوع نقض الاجتهاد بمثله إذا تساويا في الرتبة لا إذا كان أحدهما أقوى من الآخر بحيث يلتحق بالقاطع, لكن إذا كان الظاهر واضحا في ظهوره بحيث يورث غلبة ظن يمكن أن تلحقه بالقطعي, ولا يخفى أن غلبة الظن معتبرة في الشريعة, كما أن الظاهر حين يحتف بما يقويه يفيد العلم فيلتحق بالقطعي, ولعله لأجل ذلك قيده ابن السبكي بالظاهر الجلي.
الحالة الثالثة: النص إذا كان ظني الثبوت: النص إذا كان ظني الثبوت فهو خبر الآحاد, وأما السنة المشهورة, فهي من قسم الآحاد عند الجمهور وأما عند الحنفية فهي من قسم المتواتر أو هي قسم مستقل يورث ظنا فوق ظن الآحاد [(21)], وقد اختلف الأصوليون في النقض بالسنة الآحادية على أقوال:
القول الأول: أنه لا ينقض بالسنة الأحادية:وهذا قول أكثر الأصوليين[(22)].
القول الثاني: أنه ينقض بالسنة الآحادية: وهو اختيار أكثر الحنابلة[(23)]
القول الثالث: أنه ينقض بالسنة الآحادية إذا احتفت بها القرائن, وبه قال النووي, وتبعه فقهاء الشافعية, واختاره الصفي الهندي[(24)]
ولعل الأرجح هو القول الثالث وهو النقض بالآحاد إذا كان محتفا بالقرائن المفيدة لإفادته العلم كأن يكون مشهورا مع صحته, أو قد تلقته الأمة بالقبول, أو تتابع عليه عمل السلف ونحو ذلك, وإن لم يكن كذلك فلا ينقض به الاجتهاد لاستوائهما في الظن فلا يكون أحدهما أولى بالتقديم من الآخر.
ثانيا: النقض بالإجماع:
تتابعت كلمات الأصوليين في أن الاجتهاد ينقض بالإجماع [(25)] ولكن يظهر لي أن المسألة هنا مرتبطة بالخلاف في اعتبار حجية الإجماع أو ظنيته, فالقائلون بأنه حجة قطعية وهم الأكثر يرون النقض به, ومن قال إنه حجة ظنية كالرازي فهل يقول بالنقض به أو لا؟, فيه تأمل, ويظهر لي أنه لا يقول بالنقض بالإجماع مطلقا, ولذا فيما يبدو كان لفظ الرازي لفظا عاما حيث قال: "واعلم أن قضاء القاضي لا ينتقض بشرط أن لا يخالف دليلا قاطعا, فإن خالفه نقضناه[(26)] لكن قد يستثنى من ذلك الإجماع إذا كان مستنده التواتر أو كان مما علم من الدين بالضرورة.
وأما إذا قيل إن الإجماع منه ما هو قطعي ومنه ما هو ظني فيكون في النقض بالإجماع الظني قولان:
القول الأول: أنه لا ينقض به الاجتهاد, وهو قول أكثر الحنابلة وجعله ابن النجار هو الأصح [(27)]
القول الثاني: أنه ينقض به الاجتهاد, وهو قول عند الحنابلة, وذكره المرداوي ظاهر كلام كثير من الأصحاب الذين أطلقوا لفظ الإجماع [(28)]
والراجح: أن الإجماع لا ينقض الاجتهاد وذلك لأنهما ظنيان
ثالثا: النقض بالقياس
لا يظهر وجود خلاف بين الأصوليين في أن القياس الخفي لا ينقض به الاجتهاد اما القياس الجلي اختلف الأصوليون في النقض به على قولين:
القول الأول: أنه ينقض به الاجتهاد, وهو قول أكثر المالكية, وأكثر الشافعية, وهو قول الشافعي, ونقل عليه الاتفاق[(29)].
القول الثاني: أنه لا ينقض به الاجتهاد, وهو الصحيح عند الحنابلة, واختاره ابن عبد الحكم من المالكية[(30)], وهو الظاهر من صنيع الحنفية حيث لم يذكروه ضمن نواقض الاجتهاد.
القول الراجح القول الأول وهو أن القياس الجلي ينقض به الاجتهاد, وذلك لأنه يورث غلبة ظن فلا يكون مساويا للاجتهاد السابق.
رابعا: النقض بالقواعد:
صرح بهذا الناقض بعض المالكية كالقرافي ذكره الحصني من الشافعية نسبه ابن النجار لمالك, ونقله القرافي عن جماعة من العلماء وذكر أنهم نسبوه للمذاهب[(31)]
ولكن هل مرادهم كل قاعدة فيندرج في ذلك القواعد الظنية والقطعية أو يختص ذلك بالقواعد الظنية فيه احتمالان والظاهر أن النظر في القواعد مرتبط بكون القاعدة دليلا أو بما استندت إليه من دليل إن كانت قطعية بذاتها أو بما استندت إليه أو قريبة من القطعية بحيث تورث الظن الغالب فينقض بها إن لم تكن كذلك فمجرد الظن لا ينقض به لاستوائه مع الاجتهاد في الرتبة.
المطلب الثالث
قاعدة الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد
اتفق الأصوليون في الجملة على أنه لا نقض في المسائل الاجتهادية, وأن الاجتهاد لا ينقض بمثله, واشتهر عند العلماء قاعدة الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد أو بمثله [(32)], ولكن نقل بعضهم خلافا في المسألة فقد ذكر المقري أن للمالكية قولين في نقض الاجتهاد بالظن, ونقله بعضهم عن ابن القاسم من المالكية نقله ابن قدامة عن داود وأبي ثور, ورجحه ابن بدران[(33)], عل هذا إنما يراد به الظن الغالب وليس مجرد الظن, ولذا قيدوه بقولهم ما ( بان ) أي ما اتضح وظهر ظهورا لا خفاء فيه, ولعل هذا أيضا هو مراد من نقل عنه المقري إطلاق القول بنقض الاجتهاد بالظن.
وأهم أدلة هذه القاعدة إجماع الصحابة, فقد دلت آثار كثيرة تغير فيها اجتهادهم فلم ينقضوا الاجتهاد الأول بالثاني, ومنها:
- أن أبا بكر سوى بين الناس في العطاء وخالفه عمر فلم ينقض حكمه واجتهاده, ثم جاء علي فحكم بحكم أبي بكر ولم ينقض حكم عمر
- أن عمر حكم في المشركة -وهي زوج وأم وأخوة لأم وأخوة أشقاء- فأشرك بين الأخوة في الثلث, فقيل له: إنك لم تشرك بينهم عام كذا وكذا, فقال:" تلك على ما قضينا يومئذ, وهذا على ما قضينا"[(34)]
- أن عمر قضى في الجد, وقال:" إني قد قضيت في الجد قضيتات مختلفة, لم آل فيها عن الحق[(35)]", وقال له عثمان حينما استشار الصحابة: "إن نتبع رأيك فإن رأيك راشد, وإن نتبع رأي الشيخ قبلك فنعم ذو الرأي كان"[(36)] فعمر لم ينقض رأي الشيخ أبي بكر.
يتبع
الشيخ/ ياسر عيسى مشرف الحجازات
ملخص البحث:
نظر لما للاجتهاد من أهمية في تجديد الفكر الإسلامي, ومجاراة قضايا العصر, وإثبات أن للإسلام شريعة صالحة لكل زمان ومكان, كان هذا البحث الذي يعنى بأهم مسائل الاجتهاد, ولذا فقد بينت فيه: معنى الاجتهاد, وأقسامه, وشروطه, وحكمه, ومدى قابلية الاجتهاد للنقض, وما يقبل النقض منه وما لا يقبل, وما يتحقق به نقض الاجتهاد, والحديث عن قاعدة: الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد, وجعلت في نهاية البحث خاتمة ضمنتها أهم ما توصلت إليه من نتائج.
Abstract: Look to the diligence of importance in the renewal of Islamic thought, keep up with the issues of the day, and to prove that Islam law valid for every time and place, was this research that means the most important diligence issues, and so I showed it: the meaning of due diligence, and its divisions, and conditions, and his rule, and the extent to which the diligence of veto , and irrevocably, and it does not accept, and what is achieved by the veto diligence, and talk about the base: diligence does not invalidate diligence, and made a conclusion at the end of guaranteed the most important findings.
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على خاتم النبيين, وعلى آله وصحبه والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فإن الاجتهاد علامة واضحة, ودلالة بينة على شمول شريعتنا الإسلامية, ومواكبتها للعصور والأزمان كافة, وقد جعل النبي e للمجتهد في بيان أحكام الشريعة أجر العابد المجاهد؛ ففي الحديث الصحيح عن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله e يقول: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران, وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر"([1]). قال النووي: قال العلماء أجمع المسلمون على أن هذا الحديث في حكم عالم أهل للحكم فإن أصاب فله أجران أجر باجتهاده وأجر بإصابته وإن أخطأ فله أجر باجتهاده.([2])
ومن المسائل التي تطرح في هذا الباب مسألة نقض الاجتهاد؛ وهي من المسائل المبحوثة قديما في كتب, لكن بشيء من الاختصار, وفي مراجع شتى, مما يضطر طالب العلم النظر في أكثر من مرجع أو كتاب من كتب الأصول للوقوف على حقيقتها وللتعرف على آراء العلماء فيها, ولذلك قمت بكتابة هذا البحث لبيان آراء العلماء في إثباتها أو نفيها ولبيان أدلتهم. متبعا في ذلك المناهج العلمية المناسبة لمثلها من المسائل كالمنهج الاستقرائي والاستنباطي. وقد قسمت بحثي إلى مبحثين وخاتمة على النحو الآتي:
المبحث الأول: الاجتهاد: ويشتمل على أربعة مطالب:
المطلب الأول: معنى الاجتهاد لغة واصطلاحا.
المطلب الثاني: أقسام الاجتهاد.
المطلب الثالث: شروط المجتهد.
المطلب الرابع: حكم الاجتهاد.
المبحث الثاني: نقض الاجتهاد وجوده وعدمه, ويشتمل على ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: تعريف النقض لغة واصطلاحا.
المطلب الثاني: ما يحصل به النقض وعدمه.
المطلب الثالث: قاعدة الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد
الخاتمة: وقد بينت فيها أهم ما توصلت إليه من النتائج.
راجيا من الله التوفيق والهداية والسداد والرشاد, والحمد لله رب العالمين.
المبحث الأول
الاجتهــــاد
المطلب الأول: معنى الاجتهاد لغة واصطلاحا
الاجتهاد لغة:
الجهْدُ بفتح الجيم وضمها الطاقة وقُرئ بهما قوله تعالى: ﴿والذين لا يجدون إلا جهدهم﴾[(3)], والجهد بالفتح المشقة يقال جَهَدَ دابته وأجْهَدَهَا, إذا حمل عليها في السير فوق طاقتها, وجَهَدَ الرجل في كذا أي جدَّ فيه وبالغ, وبابهما قطع, وجُهِدَ الرجل على ما لم يسم فاعله, فهو مَجْهودٌ من المشقة, وجاهَدَ في سبيل الله مُجَاهَدَة وجِهَاداٌ, والاجْتِهادُ والتَّجَاهُدُ بذل الوسع والمَجْهود, وِاجْتَهَدَ فِي الْأَمْرِ, بَذَلَ وُسْعَهُ وَطَاقَتَهُ فِي طَلَبِهِ لِيَبْلُغَ مَجْهُودَهُ وَيَصِلَ إلَى نِهَايَتِهِ[(4)].
الاجتهاد اصطلاحا:
تعددت أقوال الأصوليين في تعريف الاجتهاد: فيقول إمام الحرمين الجويني: "وَأما الِاجْتِهَاد فَهُوَ بذل الوسع فِي بُلُوغ الْغَرَض"[(5)], ويقول الماوردي: "استفراغ الْفَقِيه وَسعه لدرك حكم شَرْعِي"[(6)].
والحاصل ومن مجموع التعريفات أن الاجتهاد: "بذل الوسع في نيل حكم شرعي عملي بطريق الاستنباط".[(7)]
فقولنا: بَذْلُ" أَيْ بِحَيْثُ يُحِسُّ مِنْ نَفْسِهِ الْعَجْزَ عَنْ مَزِيدِ طَلَبٍ حَتَّى لَا يَقَعَ لَوْمٌ فِي التَّقْصِيرِ, "الشَّرْعِيُّ" اللُّغَوِيَّ وَالْعَقْلِيَّ وَالْحِسِّيَّ, فَلَا يُسَمَّى عِنْدَ الْفُقَهَاءِ مُجْتَهِدا, وَكَذَلِكَ الْبَاذِلُ وُسْعَهُ فِي نَيْلِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ عِلْمِيٍّ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُسَمَّى عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِي نَ مُجْتَهِدا وَإِنَّمَا قُلْنَا: "بِطَرِيقِ الِاسْتِنْبَاطِ " لِيَخْرُجَ بِذَلِكَ بَذْلُ الْوُسْعِ فِي نَيْلِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ مِنْ النُّصُوصِ ظَاهِرا أَوْ بِحِفْظِ الْمَسَائِلِ وَاسْتِعْلَامِه َا مِنْ الْمَعْنَى أَوْ بِالْكَشْفِ عَنْهَا مِنْ الْكُتُبِ, فَإِنَّهُ وَإِنْ سُمِّيَ اجْتِهَادا فَهُوَ لُغَة لَا اصْطِلَاحا وَسَبَقَ[(8)]
المطلب الثاني
أقسـام الاجتهـاد
ينقسم الاجتهاد إلى قسمين, تام وناقص, فالتام: أن يبذل الوسع في الطلب إلى أن يحس من نفسه بالعجز عن مزيد طلب, والناقص: هو النظر المطلق في تعرّف الأحكام الشرعية, وتختلف مراتبه حسب مثال من ضاع منه درهم في التراب فقلبه برجله فلم يجد شيئا فتركه وراح, وآخر إذا جرى له ذلك جاء بغربال فغربل التراب حتى يجد الدرهم, أو يغلب على ظنه أنه ما عاد يلقاه, فالأول اجتهاد قاصر والثاني تام[(9)].
المطلب الثالث
شـروط المجتهـد
المجتهد من اتصف بصفة الاجتهاد وحصلت له أهلية استنباط الأحكام الشرعية العملية من مظانها, وإن كمال رتبة الاجتهاد تتوقف على" إحاطته بمدارك الأحكام المثمرة لها وهي: الأصل الكتاب والسنة, والإجماع, واستصحاب الحال, والقياس التابع لها, وما يعتبر في الحكم في الجملة, وتقديم ما يجب تقديمه منها"[(10)]
وفي هذا النقل عن ابن قدامة المقدسي أجمل فيما أظن ما ذكر من شروط المجتهد والتي أجملها بالآتي:
معرفة الكتاب: معرفة ما يتعلق منه بالأحكام وهي قدر خمسمائة آية ولا يشترط حفظها بل علمه بمواقعها حتى يطلب الآية المحتاج إليها وقت حاجته
معرفة السنة: معرفة أحاديث الأحكام وهي وإن كانت كثيرة فهي محصورة
معرفته للناسخ والمنسوخ من الكتاب والسنة.
أن يعرف الحديث الذي يعتمد عليه فيها أنه صحيح أو ضعيف.. الخ.
معرفته بالإجماع حتى لا يفتي بخلافه.
وكل الذي ذكرنا له تفصيل لا مجال لبسطه.[(11)]
المطلب الرابع
حكـم الاجتهـاد
أولا: حكم الاجتهاد إجمالا.
القول بجواز الاجتهاد مذهب الجمهور[(12)] قال ابن تيمية: «والذي عليه جماهير الأمة أن الاجتهاد جائز في الجملة»[(13)], والأدلة على ذلك كثيرة لا مجال لحصرها[(14)].
ثانيا: حكم الاجتهاد على التفصيل.
فإنه قد يجب وقد يحرم, وقد يستحب وقد يكره, وقد يكون مباحا وذلك يختلف بحسب أهلية المجتهد, وحسب نوع المسألة المنظور فيها, وحسب الحاجة إليها, وحسب الوقت[(15)], فيكون الاجتهاد واجبا: إذا كان المجتهد أهلا للاجتهاد, وكانت المسألة مما يسوغ فيه الاجتهاد, وقد قامت الحاجة الشديدة إلى معرفة الحكم مع ضيق الوقت, ويكون مستحبا إذا لم تكن الحاجة قائمة وكان الوقت متسعا, مع كون المجتهد أهلا للاجتهاد, ويكون محرما إذا لم يكن المجتهد أهلا, ولم توجد الحاجة لذلك, أو كان أهلا لكن كانت المسألة مما لا يجوز فيه الاجتهاد؛ بأن كان الحكم منصوصا أو مجمعا عليه. ويكون مكروها إذا كان المجتهد أهلا وكانت المسألة مما يستبعد وقوعه, ويكون مباحا إذا كان المجتهد أهلا وكانت المسألة مما يمكن وقوعه, وكان الوقت متسعا.
المبحث الثاني
نقض الاجتهاد وجوده وعدمه
المطلب الأول: تعريف النقض لغة واصطلاحا
النقض لغة:
النَّقْضُ فِي البناءِ, والحَبْلِ, والعَهْدِ, وغيرِه: ضدُّ الإِبْرامِ, كالانْتِقاضِ والتَّناقُضِ, وَفِي المُحكم: النَّقْضُ: إِفْسادُ مَا أَبْرَمْتَ من عقْدٍ أَو بِناءٍ, وذَكَرَ الجَوْهَرِيّ الحَبْلَ والعَهْدَ. ونَقْضُ البِناءِ هدْمُه.ونَقَضَه يَنْقُضُهُ نَقْضا, وانْتَقَضَ, وتَناقَضَ. وانْتَقَضَ الأَمْرُ بعدَ الْتِئامِهِ, وانْتَقَضَ أَمرُ الثَّغْرِ بعد سَدِّه.[(16)]
النقض اصطلاحا:
قد تعرض علماء الأصول لتعريف النقض وذلك عند حديثهم على قوادح القياس وعوارضه, حيث أورد له جملة من التعريفات؛ ومن أشهرها عبارة الإمام الآمدي, حيث عرفه بأنه:" تخلف الحكم مع وجود ما ادعي كونه علة له", وقال ابن قدامة: "هو إبداء الْعلَّة بِدُونِ الحكم", وَقِيلَ: تَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَمَّا عُلِّلَ بِهِ مِنَ الْوَصْفِ, وَقِيلَ: إِبْدَاءُ الْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ جِهَةِ الْمُسْتَدِلِّ, مَعَ تَخَلُّفِ الْحُكْمِ وِفَاقا, وَمَعَانِيهَا مُتَقَارِبَةٌ.[(17)]
والمراد بالنقض هنا هو النقض بمعناه اللغوي فنقض الاجتهاد هو إبطال الحكم السابق وإفساده بعد أن كان مبرما.
المطلب الثاني
ما يحصل به النقض وعدمه
اختلف الأصوليين في نقض الاجتهاد وعدم ونقضه, وذلك في الحالات التالية:
أولا: النقض بالنص.
الحالة الأولى: النص إما أن يكون قطعي الثبوت والدلالة[(18)], وقد اتفق الأصوليون على نقض الاجتهاد إذا خالف نصا قطعيا[(19)]
الحالة الثانية: أن يكون النص ظني الدلالة, فقد اختلف الأصوليون على قولين:
القول الأول: أن النص الظاهر لا ينتقض به الاجتهاد: وهو قول أكثر الأصوليين, يدل عليه صنع كثير منهم ممن قيده بالقطع أو أطلقه دون قيد[(20)]
القول الثاني: أن الظاهر ينقض به الاجتهاد, وبه قال بعضهم, ولعل هذا القول هو الأرجح لأن الممنوع نقض الاجتهاد بمثله إذا تساويا في الرتبة لا إذا كان أحدهما أقوى من الآخر بحيث يلتحق بالقاطع, لكن إذا كان الظاهر واضحا في ظهوره بحيث يورث غلبة ظن يمكن أن تلحقه بالقطعي, ولا يخفى أن غلبة الظن معتبرة في الشريعة, كما أن الظاهر حين يحتف بما يقويه يفيد العلم فيلتحق بالقطعي, ولعله لأجل ذلك قيده ابن السبكي بالظاهر الجلي.
الحالة الثالثة: النص إذا كان ظني الثبوت: النص إذا كان ظني الثبوت فهو خبر الآحاد, وأما السنة المشهورة, فهي من قسم الآحاد عند الجمهور وأما عند الحنفية فهي من قسم المتواتر أو هي قسم مستقل يورث ظنا فوق ظن الآحاد [(21)], وقد اختلف الأصوليون في النقض بالسنة الآحادية على أقوال:
القول الأول: أنه لا ينقض بالسنة الأحادية:وهذا قول أكثر الأصوليين[(22)].
القول الثاني: أنه ينقض بالسنة الآحادية: وهو اختيار أكثر الحنابلة[(23)]
القول الثالث: أنه ينقض بالسنة الآحادية إذا احتفت بها القرائن, وبه قال النووي, وتبعه فقهاء الشافعية, واختاره الصفي الهندي[(24)]
ولعل الأرجح هو القول الثالث وهو النقض بالآحاد إذا كان محتفا بالقرائن المفيدة لإفادته العلم كأن يكون مشهورا مع صحته, أو قد تلقته الأمة بالقبول, أو تتابع عليه عمل السلف ونحو ذلك, وإن لم يكن كذلك فلا ينقض به الاجتهاد لاستوائهما في الظن فلا يكون أحدهما أولى بالتقديم من الآخر.
ثانيا: النقض بالإجماع:
تتابعت كلمات الأصوليين في أن الاجتهاد ينقض بالإجماع [(25)] ولكن يظهر لي أن المسألة هنا مرتبطة بالخلاف في اعتبار حجية الإجماع أو ظنيته, فالقائلون بأنه حجة قطعية وهم الأكثر يرون النقض به, ومن قال إنه حجة ظنية كالرازي فهل يقول بالنقض به أو لا؟, فيه تأمل, ويظهر لي أنه لا يقول بالنقض بالإجماع مطلقا, ولذا فيما يبدو كان لفظ الرازي لفظا عاما حيث قال: "واعلم أن قضاء القاضي لا ينتقض بشرط أن لا يخالف دليلا قاطعا, فإن خالفه نقضناه[(26)] لكن قد يستثنى من ذلك الإجماع إذا كان مستنده التواتر أو كان مما علم من الدين بالضرورة.
وأما إذا قيل إن الإجماع منه ما هو قطعي ومنه ما هو ظني فيكون في النقض بالإجماع الظني قولان:
القول الأول: أنه لا ينقض به الاجتهاد, وهو قول أكثر الحنابلة وجعله ابن النجار هو الأصح [(27)]
القول الثاني: أنه ينقض به الاجتهاد, وهو قول عند الحنابلة, وذكره المرداوي ظاهر كلام كثير من الأصحاب الذين أطلقوا لفظ الإجماع [(28)]
والراجح: أن الإجماع لا ينقض الاجتهاد وذلك لأنهما ظنيان
ثالثا: النقض بالقياس
لا يظهر وجود خلاف بين الأصوليين في أن القياس الخفي لا ينقض به الاجتهاد اما القياس الجلي اختلف الأصوليون في النقض به على قولين:
القول الأول: أنه ينقض به الاجتهاد, وهو قول أكثر المالكية, وأكثر الشافعية, وهو قول الشافعي, ونقل عليه الاتفاق[(29)].
القول الثاني: أنه لا ينقض به الاجتهاد, وهو الصحيح عند الحنابلة, واختاره ابن عبد الحكم من المالكية[(30)], وهو الظاهر من صنيع الحنفية حيث لم يذكروه ضمن نواقض الاجتهاد.
القول الراجح القول الأول وهو أن القياس الجلي ينقض به الاجتهاد, وذلك لأنه يورث غلبة ظن فلا يكون مساويا للاجتهاد السابق.
رابعا: النقض بالقواعد:
صرح بهذا الناقض بعض المالكية كالقرافي ذكره الحصني من الشافعية نسبه ابن النجار لمالك, ونقله القرافي عن جماعة من العلماء وذكر أنهم نسبوه للمذاهب[(31)]
ولكن هل مرادهم كل قاعدة فيندرج في ذلك القواعد الظنية والقطعية أو يختص ذلك بالقواعد الظنية فيه احتمالان والظاهر أن النظر في القواعد مرتبط بكون القاعدة دليلا أو بما استندت إليه من دليل إن كانت قطعية بذاتها أو بما استندت إليه أو قريبة من القطعية بحيث تورث الظن الغالب فينقض بها إن لم تكن كذلك فمجرد الظن لا ينقض به لاستوائه مع الاجتهاد في الرتبة.
المطلب الثالث
قاعدة الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد
اتفق الأصوليون في الجملة على أنه لا نقض في المسائل الاجتهادية, وأن الاجتهاد لا ينقض بمثله, واشتهر عند العلماء قاعدة الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد أو بمثله [(32)], ولكن نقل بعضهم خلافا في المسألة فقد ذكر المقري أن للمالكية قولين في نقض الاجتهاد بالظن, ونقله بعضهم عن ابن القاسم من المالكية نقله ابن قدامة عن داود وأبي ثور, ورجحه ابن بدران[(33)], عل هذا إنما يراد به الظن الغالب وليس مجرد الظن, ولذا قيدوه بقولهم ما ( بان ) أي ما اتضح وظهر ظهورا لا خفاء فيه, ولعل هذا أيضا هو مراد من نقل عنه المقري إطلاق القول بنقض الاجتهاد بالظن.
وأهم أدلة هذه القاعدة إجماع الصحابة, فقد دلت آثار كثيرة تغير فيها اجتهادهم فلم ينقضوا الاجتهاد الأول بالثاني, ومنها:
- أن أبا بكر سوى بين الناس في العطاء وخالفه عمر فلم ينقض حكمه واجتهاده, ثم جاء علي فحكم بحكم أبي بكر ولم ينقض حكم عمر
- أن عمر حكم في المشركة -وهي زوج وأم وأخوة لأم وأخوة أشقاء- فأشرك بين الأخوة في الثلث, فقيل له: إنك لم تشرك بينهم عام كذا وكذا, فقال:" تلك على ما قضينا يومئذ, وهذا على ما قضينا"[(34)]
- أن عمر قضى في الجد, وقال:" إني قد قضيت في الجد قضيتات مختلفة, لم آل فيها عن الحق[(35)]", وقال له عثمان حينما استشار الصحابة: "إن نتبع رأيك فإن رأيك راشد, وإن نتبع رأي الشيخ قبلك فنعم ذو الرأي كان"[(36)] فعمر لم ينقض رأي الشيخ أبي بكر.
يتبع