ابو وليد البحيرى
2019-09-25, 02:00 AM
سعة الرزق في ضوء القرآن الكريم
د. أحمد الحاج النور الزاكي
ملخص البحث:
هدفت هذه الدراسة لتوضيح المفهوم الشامل للرزق وبيان الأسباب المؤدية إلى سعته، وتتمثل مشكلة الدراسة في قصر مفهوم الرزق في المال والمأكول والمشروب فقط، بينما هذا جزء منه لا كل، كما استخدم الباحث المنهج الاستقرائي التحليلي متتبعاً الآيات والأحاديث المتعلقة بالدراسة وتحليلها، ومن ثم الوصول إلى أهم النتائج والتوصيات.
Abstract:
The chief aim of this paper is to explore the issue of livelihood and subsistence in a conceptual basis; this to be done by explaining the reasons behind increasing and boosting its capacity. The study's problem hinges in the misunderstanding of subsistence as only restricted to earning money, getting a drink and obtaining a bread, whereas these three types of subsistence represents only part of the whole. The researcher adopted deductive-analytic approach through analyzing a corpus of Quranic verses and dacred Hadith texts pertinent to the issue under investigation. The study yielded some finding, the most important of these are; subsistence as a concept is not confined to exhaust a bundle of types; money here is just a part of it. At last but not least the study presented several recommendations.
المقدمة:
الحمد لله الذي خلق الخلق ليعبدوه، وأجرى عليهم الأرزاق ليشكروه, والصلاة والسلام على خير خلق الله, محمد بن عبد الله صلى الله عليه و سلم وآله وصحابته ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين, أما بعد, فإن من الأمور التي تهم الناس في حياتهم موضوع الرزق وما يتعلق به من وسائل كسبه، ومع وروده في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، فقد تباين الناس في تحديد مفهومه بين موسع ومضيق ولذا كانت هذه الدراسة مشاركة في معالجة هذا الموضوع مهتدياً بالآيات القـرآنية والأحاديث النبوية وأقوال السلف رضي الله عنهم.
أسباب اختيار الموضوع:
1- إن أهمية أي بحث تكمن في أهمية الموضوع الذي يتناوله بالدراسة، فبقدر شرف الموضوع يكون شرف الدراسة، وهذا الموضوع الذي تعالجه هذه الدراسة متعلق بالقرآن الكريم، كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلقه.
2- اختلاف الناس في مفهوم الرزق.
3- عدم اكتراث الناس في الحصول على الرزق من حله.
أهداف الدراسة:
1- التعرف على مفهوم الرزق وحكمه الشرعي.
2- توضيح الوسائل الموصلة لسعة الرزق.
3- بيان الحكمة من سعة الرزق وضيقه.
4- التأكيد على أن الأرزاق مكتوبة مقدرة واصلة إلى أهلها.
مشكلة الدراسة:
تتلخص مشكلة الدراسة في قصر –كثير من الناس– مفهوم الرزق في المال والمأكول والمشروب فقط، بينما هذا جزء لا كل، وإن مفهوم الرزق أشمل من ذلك.
منهج الدراسة:
اتبعت المنهج الاستقرائي التحليلي.
خطة البحث:
تم تقسيم البحث إلى مقدمة وثلاثة مباحث وخاتمة، أما المقدمة فتشتمل على أسباب اختيار الموضوع وأهدافه ومشكلته.
المبحث الأول: مفهوم الرزق.
المبحث الثاني: الأسباب المؤدية إلى سعة الرزق في القرآن الكريم.
المبحث الثالث: الأسباب المؤدية إلى سعة الرزق في السنة المطهرة
الخاتمة: وتشمل أهم النتائج والتوصيات.
المبحث الأول
مفهـــوم الرزق
الرزق لغة:
الرزق مصدر رَزق يرزق رَزقاً ورِزقاً، فالرَزق بالفتح المصدر، وبالكسر الاسم. وجمعه أرزاق. وهو كل ما ينتفع به, وارتزق الجند أخذوا أرزاقهم, والرزق الشكر: قال تعالى:(وَتَجْعَل ُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ)(ال واقعة: 88) أي وتجعلون نصيبكم في النعمة تحري الكذب, وقد يسمى المطر رزقاً ومنه قوله تعالى:(وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(سور ة الجاثية:5)، وسمي المطر رزقاً لأنه يسببه ويحصل به. وقوله تعالى: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) (الذاريات:22), الرازق والرآزق في صفة الله تعالى لأنه يرزق الخلق أجمعين، وهو الذي خلق الأرزاق وأعطى الخلائق أرزاقها وأوصلها إليهم.
والأرزاق نوعان: ظاهرة للأبدان كالأقوات، وباطنة للقلوب والنفوس كالمعارف والعلوم([1])، قال تعالى:(وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَه َا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) (هود:6), وأرزاق بني آدم مكتوبة مقدرة لهم، وهي واصلة إليهم وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم:" إن الله تعالى يبعث الملك إلى كل من اشتملت عليه رحم أمه فيقول له: اكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، فيختم له على ذلك"([2]).
الرزق: يقال للعطاء الجاري تارة دنيوياً كان أم أُخروياً، وللنصيب تارة، ولما يصل إلى الجوف ويتغذى به تارة يُقال: أعطى السلطان رزق الجند، ورُزقت علماً، قال تعالى:(وَأَنفِقُ وا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) (المنافقون:10)، أي من المال والجاه والعلم، وكذلك قوله تعالى:(وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)(البق رة:3) وقوله تعالى:(كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ)(ا لبقرة: 57) وقوله:(وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ)(الذا ريات:22)، قيل عنى به المطر الذي به حياة الحيوان([3]).
الرزق اصطلاحاً:
الرزق اسم لما يسوقه الله تعالى إلى الحيوان فيأكله, فيكون متناولاً للحلال والحرام. وعند المعتزلة: عبارة عن مملوك يأكله المالك، فعلى هذا لا يكون الحرام رزقاً, والرزق الحسن: هو ما يصل إلى صاحبه بلا كد في طلبه([4]), ويطلق الرزق: على ما يسوقه الله لعباده من مال وصحة وذكاء وعافية وليس مقصوراً –كما ذكر بعضهم– على المأكول والمشروب، وذلك جزء لا كل، فالعلم على وجه المثال رزق، وزكاته تعليم الناس وإرشادهم والبعد عن كتمانه، والصحة رزق وزكاتها إعانة الضعفاء وإغاثة الملهوفين([5]), كما يطلق الرزق على: كل ما أوجده الله تعالى في الدنيا للإنسان من صنوف الأموال وضروب المأكولات والمشروبات والملبوسات والمركوبات والمساكن, ويطلق الرزق كذلك على: تمكين الحيوان من الانتفاع بالشيء والحظر على غيره أن يمنعه من الانتفاع به([6]).
ويتضح مما سبق من تعريف للرزق لغوياً واصطلاحياً وجود الصلة بين المعنيين اللغوي والاصطلاحي وهي أن الرزق في معناه الشامل هو كل ما ينتفع به في الحياة مما أوجده الله تعالى للإنسان, كما يبرز الاختلاف في كون الله يرزق الحرام أم يرزق الحلال فقط. فعند أهل السنة إن الله تعالى يسوق الرزق للحيوان فيكون متناولاً للحلال والحرام.
وعند المعتزلة: إن الرزق عبارة عن مملوك يأكله المالك فعلى هذا لا يكون الحرام رزقاً([7]).
واستدل المعتزلة بقوله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ) (يونس: 59).
استدلوا بهذه الآية على أن الحرام ليس برزق ولا دليل لهم فيها لأن المقدر للانتفاع هو الحلال فيكون المذكور هنا قسماً من الرزق وهو شامل للحلال والحرام والكفرة إنما أخطأوا في جعل بعض الحلال حراماً، ومن جعل أهل السنة نظيراً لهم في جعلهم الرزق مطلقاً منقسم إلى قسمين فقد أخطأ([8]).
والحق أن الله تعالى يفيض على ابن آدم بكل ما يقيم به أوده، ويعين به غيره كما قال تعالى: (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا)(هود: 6), وابن آدم هو الذي يجعل منها الحلال والحرام، فإن كسبه كسباً طيباً لا خبث فيه فهو حلال، وإن كسبه من غير الحلال، وأنفقه فيما حرم الله تعالى، فهو الذي أوجد فيه الحرام، وفي الحلال الثواب، وفي الحرام العقاب, والله تعالى يعد الرزق نعمة، وإذا أنفق في الحلال وكسب في الحلال كان من القربات التي يتقرب بها إلى الله تعالى، ولا يتقرب إليه سبحانه بكسب يكون طريقه ليس بحلال خالص.
ويروى أن رجلاً يكسب من الغناء والضرب على الدف، فقال يا رسول الله أُراني لا أرزق إلا من دفيِّ بكفي فأذن لي بالغناء في غير فاحشة، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "لا آذن لك ولا كرامة ولا نعمة، كذبت أي عدو الله، والله قد رزقك الله حلالاً طيباً، فاخترت ما حرم الله عليك من رزقه مكان ما أحل الله لك من حلاله"([9]).
يتبين لنا مما سبق أن الذي يجعل الرزق حراماً أو حلالاً هو طريق الكسب له فإن كسبه من الحلال كان حلالاً وإن كسبه من الحرام كان حراماً وليست الحرمة والحل في الرزق نفسه وإنما في طريقة كسبه وإنفاقه وهذه تكون عن طريق الإنسان.
المبحث الثاني
الأسباب المؤدية إلى سعة الرزق في القرآن الكريم
تكفل الله تعالى لعباده بالرزق وضمنه لهم وهم في بطون أمهاتهم كما ورد في قوله صلى الله عليه و سلم:" إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكاً فيؤمر بأربع كلمات ويقال له: اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح..."([10]), ومع تكفل الله تعالى لعباده بالرزق أمرهم بالسعي للحصول عليه وأن يأخذوا بالأسباب الموصلة إليه كما جاء في قوله: (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (الملك: 15). وأمر كذلك بالسعي للحصول على الرزق بعد أداء العبادات كما جاء في قوله: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(الج معة: 10).
مع هذا وردت آيات في كتاب الله تبين أن هنالك أعمال تزيد في الرزق وتوسع فيه إذا سلكها الإنسان، كما جاء في السنة الشريفة مثل ذلك، فكيف نوفق بين ما ورد في الحديث بأن الرزق مكتوب ومحدد قبل أن يجئ الإنسان للحياة الدنيا، وبين الآيات والأحاديث التي بينت الأعمال التي إذا سلكها الإنسان يُزاد له في رزقه؟.
وقد وفق العلماء بين الحديث والآيات وذكروا أن لا تتعارض بينها، فبينوا أن الزيادة تحمل على حقيقتها لعلم الله الأزلي بها، وفُسرت الزيادة بالبركة([11]) وبهذا نخرج من هذا التعارض. والله أعلم.
ومن الأعمال التي ذُكرت أنها تكون سبباً في سعة الرزق ما يأتي:
أولاً: الاستغفار والتوبة:
قال تعالى: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) (هود:52).
الاستغفار طلب المغفرة، وقد يكون ذلك باللسان، وقد يكون بإنابة القلب وطلب الاسترشاد والحرص على وجود المحجة الواضحة, ولم يؤمروا بأن يسألوه ذلك باللسان فقط بل باللسان وبالفعال، فقد قيل: الاستغفار باللسان من دون ذلك بالفعال فعل الكذابين([12]).
والتوبة في الشرع ترك الذنب لقبحه والندم على ما فرط منه والعزيمة على ترك المعاودة وتدارك ما أمكنه أن يتدارك من الأعمال بالإعادة فمتى اجتمعت هذه الأربع فقد كمل شرائط التوبة([13]), ويروى أن عاداً كان الله تعالى قد حبس عنها المطر ثلاث سنين، وكانوا أهل حرث وبساتين وثمار، فلهذا وعدهم بالمطر، وحضهم على استنزال المطر بالإيمان به والإنابة، وتلك عادة الله في عباده، ومنه قول نوح عليه السلام: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10)يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا (11)وَيُمْدِدْكُم ْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا) (نوح: 10-12), ومنه فعل عمر رضي الله عنه حين جعل جميع قوله في الاستسقاء ودعائه استغفاراً فسُقي، فسُئل عن ذلك فقال: "لقد استنزلت المطر بمجاديح السماء" ثم قرأ هذه الآية رضي الله عنه, وشكا رجل إلى الحسن البصري رضي الله عنه الجدب فقال له: استغفر الله تعالى، وشكا إليه آخر الفقر فقال: استغفر الله تعالى، وقال له آخر: ادع الله تعالى أن يرزقني ولداً، فقال له: استغفر الله تعالى، فقيل له في ذلك فنزع بهذه الآية.
والاستغفار الذي أحال عليه الحسن ليس هو لفظ الاستغفار فقط، بل الإخلاص والصدق في الأقوال والأعمال، وكذلك كان استغفار عمر رضي الله عنه ومن اتصف بصفة الاستغفار يسر الله عليه رزقه وسهل عليه أمره وحفظ شأنه([14]), وتقديم الاستغفار على التوبة مشعر بأن العبد إذا لم يعترف أولاً بذنبه لا يمكنه أن يتوب منه.
ثانياً: التقوى تجلب الرزق:
قال تعالى: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) (الطلاق:2 ،3).
تبين الآيتان أن المتقي يدفع الله عنه المضرة بما يجعله له من المخرج، ويجلب له من المنفعة بما ييسره له من الرزق، والرزق اسم لكل ما يتغذى به الإنسان، وذلك يعم رزق الدنيا ورزق الآخرة, وقد ورد في سبب نزول الآية أنها نزلت في عوف بن مالك الأشجعي أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال: يا رسول الله إن ابني أسره العدو وجزعت أمه فبما تأمرني؟ قال: آمرك وإياها أن تكثروا من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله. فقالت المرأة: نعم ما أمرك به، فجعلا يكثران منها فغفل العدو عن ابنهما فاستاق غنمهم وجاء بها إلى أبويه فنزلت هذه الآية([15]), وهي عامة في كل من يتق الله تعالى فإنه يجعل له من كل ضيق مخرجا ومن كل كرب فرجا، ويرزقه من حيث لا يرجو ولا يؤمل، ولا يخطر له على بال.
وكذلك ما جاء في قوله تعالى: (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ)(آل عمران: 37) وجد عندها رزقا: وجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف. وفيه دلالة على كرامات الأولياء([16]).
يجب عدم الخوض في صفة هذا الرزق كما خاضت الروايات الكثيرة، فيكفي أن تعرف أنها كانت مباركة يفيض من حولها الخير ويفيض الرزق من كل ما يسمى رزقاً، حتى ليعجب كافلها –وهو نبي– من فيض الرزق. فيسألها: كيف ومن أين هذا كله؟ فلا تزيد على أن تقول في خشوع المؤمن وتواضعه واعترافه بنعمة الله وفضله، وتفويض الأمر إليه كله: (هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ) وهي كلمة تصور حال المؤمن مع ربه، واحتفاظه بالسر الذي بينه وبينه –والتواضع عن الحديث عن هذا السر- لا إظهاره والمباهاة به([17]), فهذا رزق ساقه الله للسيدة مريم بنت عمران وهو ليس خاص بها وإنما يحصل لكل من يتق الله تعالى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وقد حصل للصحابي الجليل خبيب بن عدي بن عامر الأنصاري رضي الله عنه, كان من أصحاب الرجيع الذين غدروا بهم، وأسروه وباعوه بمكة، وكان محبوساً بمكة لوحده عند الذين باعوه لهم، وقد أخبرت إحدى بنات الحارث الذي كان أسيراً في داره، فقالت: "والله لقد رأيته يحمل قطفاً كبيراً من عنب يأكل منه، وإنه لموثق في الحديد، وما بمكة كلها ثمرة عنب واحدة، وما أظنه إلا رزقاً رزقه الله خبيباً"([18]) نعم إنه رزق آتاه الله عبده الصالح، كما آتى مثله من قبل مريم بنت عمران، يوم كانت: (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ) (آل عمران: 37).
ومن الآيات التي بينت أن التقوى من أسباب الرزق ما جاء في قوله تعالى:(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ) (الأعراف: 96), فلو أن أهل القرى آمنوا بدل التكذيب، واتقوا بدل الاستهتار لفتح الله عليهم بركات السماء والأرض، هكذا (بركات من السماء والأرض) مفتوحة بلا حساب. والتعبير القرآني يلقي ظلال الفيض الغامر، الذي لا يتخصص بما يعهده البشر في الأرزاق والأقوات.
إن العقيدة الإيمانية في الله وتقواه، ليست مسألة منعزلة عن واقع الحياة، وعن خط تاريخ الإنسان إن الإيمان بالله وتقواه ليؤهلان لفيض بركات السماء والأرض، وعد من الله ومن أوفى بعهده من الله؟([19]), وبركات السماء والأرض: جمع بركة, وهي دوام الخير وبقاؤه، والمطر من بركات السماء والنبات والخصب والأمن والعاقبة من بركات الأرض, والبركة قد تكون مع القليل إذا أُحسن الانتفاع به, وكذلك جاء في قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُ مْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ) (المائدة: 65-66).
يقول الله تعالى لأهل الكتاب وهم اليهود والنصارى, وينطبق هذا القول على أهل كل كتاب -إنهم لو كانوا آمنوا واتقوا لكفر عنهم سيئاتهم ولأدخلهم جنات النعيم– وهذا جزاء الآخرة, وإنهم لو كانوا حققوا في حياتهم منهج الله المتمثل في التوراة والإنجيل وما أنزله الله إليهم من التعاليم –كما أنزلها الله بدون تحريف ولا تبديل– لصلحت حياتهم الدنيا، ونمت وفاضت عليهم الأرزاق، ولأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم من فيض الرزق ([20]).
وهكذا يتضح من خلال الآيتين أن الإيمان والتقوى وتحقيق منهج الله في واقع الحياة البشرية في هذه الحياة الدنيا، لا يكفل لأصحابه جزاء الآخرة وحده وإن كان هو المقدم والأدوم, ولكنه كذلك يكفل صلاح أمر الدنيا، ويحقق لأصحابه جزاء العاجلة قوة ونماء وحسن توزيع وكفاية تتضح من قوله: (لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم), وهكذا يتبين أن ليس هنالك طريق مستقل لحسن الجزاء في الآخرة، وطريق آخر مستقل لصلاح الحياة في الدنيا. إنما هو طريق واحد، تصلح به الدنيا والآخرة، فإذا تنكب هذا الطريق فسدت الدنيا وخسرت الآخرة. وهذا الطريق الواحد هو الإيمان والتقوى وتحقيق المنهج الإلهي في الحياة الدنيا([21]).
وفي قوله تعالى:(وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى)(طه: 132), أمره الله تعالى بأن يأمر أهله بالصلاة ويتمثلها معهم، ويصبر عليها ويلازمها. وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه و سلم, ويدخل في عمومه جميع أمته، وأهل بيته على التخصيص, (لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا) أي لا نسألك أن ترزق نفسك وإياهم، وتشتغل بسبب الرزق، بل نحن نتكفل برزقك وإياهم، فكان عليه السلام إذا نزل بأهله ضيق أمرهم بالصلاة. وقد قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (الذاريات: 56 – 58).
ومن هنا يتبين لنا أن إقامة الصلاة بين أفراد الأسرة المسلمة ييسر الله به أسباب الرزق وتوسعته عليهم, كما ورد ما يوضح أن هناك ارتباط بين استقامة الأمم والجماعات على الطريقة الواحدة الواصلة إلى الله، وبين إغداق الرخاء وأسبابه، قال تعالى: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُ م مَّاء غَدَقًا)(الجن: 16), أي لو استقاموا على الطريقة طريقة الحق والإيمان والهدى وكانوا مؤمنين مطيعين لأسقيانهم ماء غدقا. أي كثيراً. لوسعنا عليهم في الدنيا، وضرب الماء الغدق الكثير لذلك مثلاً، لأن الخير والرزق كله بالمطر يكون، فأقيم مقامه. وهذا الارتباط بين الاستقامة على الطريقة وبين الرخاء والتمكين في الأرض حقيقة قائمة. وقد كان العرب في الصحراء يعيشون في شظف، حتى استقاموا على الطريقة، ففتحت لهم الأرض التي يجري فيها الماء وتتدفق فيها الأرزاق. ثم حادوا عن الطريقة فاستلبت منهم خيراتهم استلابا. وما يزالون في نكد وشظف، حتى يرجعوا إلى الطريقة، فيتحقق فيهم وعد الله.
هنالك أمم لا تستقيم على منهج الله وهي تعيش في قوة وغنى، فكيف نفسر ذلك؟, هذه الأمم التي نراها تعيش في غنى ووفرة وهي غير مستقيمة على طريقة الله، إنما هي في الحقيقة تُعذب بآفات أخرى في إنسانيتها أو أمنها أو قيمة الإنسان وكرامته فيها، كما أن هذا الرخاء ابتلاء من الله للعباد وفتنة، فلا يغتر الناظر به([22]).
ثالثاً: التوكل على الله تعالى:
التوكل: هو الثقة بما عند الله، واليأس عمّا في أيدي الناس, والمسلم يفهم التوكل الذي هو جزء من إيمانه وعقيدته أنه طاعة لله بإحضار كافة الأسباب المطلوبة لأي عمل من الأعمال التي يريد مزاولتها والدخول فيها. فلا يطمع في ثمرة بدون أن يقدم أسبابها، ولا يرجو نتيجة ما بدون أن يضع مقدمتها، غير أن موضوع إثمار تلك الأسباب، وإنتاج تلك المقومات يفوضه إلى الله إذ هو قادر عليه دون سواه. فالتوكل عند المسلم إذاً هو عمل وأمل، مع هدوء قلب وطمأنينة نفس، واعتقاد جازم أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا([23]), إذاً التوكل هو أخذ بالأسباب والاعتماد على الله في النتائج, قال تعالى: (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) (الطلاق:3).
ومن يتوكل على الله تعالى في أمره فلا يفرط في أمر الله، ولا يضيع حقوقه فإن الله تعالى يكفيه ما يهمه من أمر دينه ودنياه, ويقتضي قوله تعالى:(فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ)وجوب التوكل على الله في الرزق المتضمن جلب المنفعة ودفع المضرة، وأنه لا يقدر غير الله على ذلك قدرة مطلقة. روى القرطبي عن الربيع بن خيثم قوله: إن الله تعالى قضى على نفسه أن من توكل عليه كفاه ومن آمن به هداه، ومن أقرضه جازاه، ومن وثق به نجاه، ومن دعاه أجاب له. وتصديق ذلك في كتاب الله: (وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) (التغابن11), (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) (الطلاق:3), (إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ) (التغابن:17). (وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (آل عمران:101). (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) (البقرة:186)([24]).
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم:" لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطانا"([25]). ويفهم من الحديث يجب اعتماد القلب على الوكيل وحده سبحانه، وطلب الرزق بالبدن. أي الأخذ بالأسباب في طلب الرزق.
يتبع
د. أحمد الحاج النور الزاكي
ملخص البحث:
هدفت هذه الدراسة لتوضيح المفهوم الشامل للرزق وبيان الأسباب المؤدية إلى سعته، وتتمثل مشكلة الدراسة في قصر مفهوم الرزق في المال والمأكول والمشروب فقط، بينما هذا جزء منه لا كل، كما استخدم الباحث المنهج الاستقرائي التحليلي متتبعاً الآيات والأحاديث المتعلقة بالدراسة وتحليلها، ومن ثم الوصول إلى أهم النتائج والتوصيات.
Abstract:
The chief aim of this paper is to explore the issue of livelihood and subsistence in a conceptual basis; this to be done by explaining the reasons behind increasing and boosting its capacity. The study's problem hinges in the misunderstanding of subsistence as only restricted to earning money, getting a drink and obtaining a bread, whereas these three types of subsistence represents only part of the whole. The researcher adopted deductive-analytic approach through analyzing a corpus of Quranic verses and dacred Hadith texts pertinent to the issue under investigation. The study yielded some finding, the most important of these are; subsistence as a concept is not confined to exhaust a bundle of types; money here is just a part of it. At last but not least the study presented several recommendations.
المقدمة:
الحمد لله الذي خلق الخلق ليعبدوه، وأجرى عليهم الأرزاق ليشكروه, والصلاة والسلام على خير خلق الله, محمد بن عبد الله صلى الله عليه و سلم وآله وصحابته ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين, أما بعد, فإن من الأمور التي تهم الناس في حياتهم موضوع الرزق وما يتعلق به من وسائل كسبه، ومع وروده في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، فقد تباين الناس في تحديد مفهومه بين موسع ومضيق ولذا كانت هذه الدراسة مشاركة في معالجة هذا الموضوع مهتدياً بالآيات القـرآنية والأحاديث النبوية وأقوال السلف رضي الله عنهم.
أسباب اختيار الموضوع:
1- إن أهمية أي بحث تكمن في أهمية الموضوع الذي يتناوله بالدراسة، فبقدر شرف الموضوع يكون شرف الدراسة، وهذا الموضوع الذي تعالجه هذه الدراسة متعلق بالقرآن الكريم، كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلقه.
2- اختلاف الناس في مفهوم الرزق.
3- عدم اكتراث الناس في الحصول على الرزق من حله.
أهداف الدراسة:
1- التعرف على مفهوم الرزق وحكمه الشرعي.
2- توضيح الوسائل الموصلة لسعة الرزق.
3- بيان الحكمة من سعة الرزق وضيقه.
4- التأكيد على أن الأرزاق مكتوبة مقدرة واصلة إلى أهلها.
مشكلة الدراسة:
تتلخص مشكلة الدراسة في قصر –كثير من الناس– مفهوم الرزق في المال والمأكول والمشروب فقط، بينما هذا جزء لا كل، وإن مفهوم الرزق أشمل من ذلك.
منهج الدراسة:
اتبعت المنهج الاستقرائي التحليلي.
خطة البحث:
تم تقسيم البحث إلى مقدمة وثلاثة مباحث وخاتمة، أما المقدمة فتشتمل على أسباب اختيار الموضوع وأهدافه ومشكلته.
المبحث الأول: مفهوم الرزق.
المبحث الثاني: الأسباب المؤدية إلى سعة الرزق في القرآن الكريم.
المبحث الثالث: الأسباب المؤدية إلى سعة الرزق في السنة المطهرة
الخاتمة: وتشمل أهم النتائج والتوصيات.
المبحث الأول
مفهـــوم الرزق
الرزق لغة:
الرزق مصدر رَزق يرزق رَزقاً ورِزقاً، فالرَزق بالفتح المصدر، وبالكسر الاسم. وجمعه أرزاق. وهو كل ما ينتفع به, وارتزق الجند أخذوا أرزاقهم, والرزق الشكر: قال تعالى:(وَتَجْعَل ُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ)(ال واقعة: 88) أي وتجعلون نصيبكم في النعمة تحري الكذب, وقد يسمى المطر رزقاً ومنه قوله تعالى:(وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(سور ة الجاثية:5)، وسمي المطر رزقاً لأنه يسببه ويحصل به. وقوله تعالى: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) (الذاريات:22), الرازق والرآزق في صفة الله تعالى لأنه يرزق الخلق أجمعين، وهو الذي خلق الأرزاق وأعطى الخلائق أرزاقها وأوصلها إليهم.
والأرزاق نوعان: ظاهرة للأبدان كالأقوات، وباطنة للقلوب والنفوس كالمعارف والعلوم([1])، قال تعالى:(وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَه َا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) (هود:6), وأرزاق بني آدم مكتوبة مقدرة لهم، وهي واصلة إليهم وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم:" إن الله تعالى يبعث الملك إلى كل من اشتملت عليه رحم أمه فيقول له: اكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، فيختم له على ذلك"([2]).
الرزق: يقال للعطاء الجاري تارة دنيوياً كان أم أُخروياً، وللنصيب تارة، ولما يصل إلى الجوف ويتغذى به تارة يُقال: أعطى السلطان رزق الجند، ورُزقت علماً، قال تعالى:(وَأَنفِقُ وا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) (المنافقون:10)، أي من المال والجاه والعلم، وكذلك قوله تعالى:(وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)(البق رة:3) وقوله تعالى:(كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ)(ا لبقرة: 57) وقوله:(وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ)(الذا ريات:22)، قيل عنى به المطر الذي به حياة الحيوان([3]).
الرزق اصطلاحاً:
الرزق اسم لما يسوقه الله تعالى إلى الحيوان فيأكله, فيكون متناولاً للحلال والحرام. وعند المعتزلة: عبارة عن مملوك يأكله المالك، فعلى هذا لا يكون الحرام رزقاً, والرزق الحسن: هو ما يصل إلى صاحبه بلا كد في طلبه([4]), ويطلق الرزق: على ما يسوقه الله لعباده من مال وصحة وذكاء وعافية وليس مقصوراً –كما ذكر بعضهم– على المأكول والمشروب، وذلك جزء لا كل، فالعلم على وجه المثال رزق، وزكاته تعليم الناس وإرشادهم والبعد عن كتمانه، والصحة رزق وزكاتها إعانة الضعفاء وإغاثة الملهوفين([5]), كما يطلق الرزق على: كل ما أوجده الله تعالى في الدنيا للإنسان من صنوف الأموال وضروب المأكولات والمشروبات والملبوسات والمركوبات والمساكن, ويطلق الرزق كذلك على: تمكين الحيوان من الانتفاع بالشيء والحظر على غيره أن يمنعه من الانتفاع به([6]).
ويتضح مما سبق من تعريف للرزق لغوياً واصطلاحياً وجود الصلة بين المعنيين اللغوي والاصطلاحي وهي أن الرزق في معناه الشامل هو كل ما ينتفع به في الحياة مما أوجده الله تعالى للإنسان, كما يبرز الاختلاف في كون الله يرزق الحرام أم يرزق الحلال فقط. فعند أهل السنة إن الله تعالى يسوق الرزق للحيوان فيكون متناولاً للحلال والحرام.
وعند المعتزلة: إن الرزق عبارة عن مملوك يأكله المالك فعلى هذا لا يكون الحرام رزقاً([7]).
واستدل المعتزلة بقوله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ) (يونس: 59).
استدلوا بهذه الآية على أن الحرام ليس برزق ولا دليل لهم فيها لأن المقدر للانتفاع هو الحلال فيكون المذكور هنا قسماً من الرزق وهو شامل للحلال والحرام والكفرة إنما أخطأوا في جعل بعض الحلال حراماً، ومن جعل أهل السنة نظيراً لهم في جعلهم الرزق مطلقاً منقسم إلى قسمين فقد أخطأ([8]).
والحق أن الله تعالى يفيض على ابن آدم بكل ما يقيم به أوده، ويعين به غيره كما قال تعالى: (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا)(هود: 6), وابن آدم هو الذي يجعل منها الحلال والحرام، فإن كسبه كسباً طيباً لا خبث فيه فهو حلال، وإن كسبه من غير الحلال، وأنفقه فيما حرم الله تعالى، فهو الذي أوجد فيه الحرام، وفي الحلال الثواب، وفي الحرام العقاب, والله تعالى يعد الرزق نعمة، وإذا أنفق في الحلال وكسب في الحلال كان من القربات التي يتقرب بها إلى الله تعالى، ولا يتقرب إليه سبحانه بكسب يكون طريقه ليس بحلال خالص.
ويروى أن رجلاً يكسب من الغناء والضرب على الدف، فقال يا رسول الله أُراني لا أرزق إلا من دفيِّ بكفي فأذن لي بالغناء في غير فاحشة، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "لا آذن لك ولا كرامة ولا نعمة، كذبت أي عدو الله، والله قد رزقك الله حلالاً طيباً، فاخترت ما حرم الله عليك من رزقه مكان ما أحل الله لك من حلاله"([9]).
يتبين لنا مما سبق أن الذي يجعل الرزق حراماً أو حلالاً هو طريق الكسب له فإن كسبه من الحلال كان حلالاً وإن كسبه من الحرام كان حراماً وليست الحرمة والحل في الرزق نفسه وإنما في طريقة كسبه وإنفاقه وهذه تكون عن طريق الإنسان.
المبحث الثاني
الأسباب المؤدية إلى سعة الرزق في القرآن الكريم
تكفل الله تعالى لعباده بالرزق وضمنه لهم وهم في بطون أمهاتهم كما ورد في قوله صلى الله عليه و سلم:" إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكاً فيؤمر بأربع كلمات ويقال له: اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح..."([10]), ومع تكفل الله تعالى لعباده بالرزق أمرهم بالسعي للحصول عليه وأن يأخذوا بالأسباب الموصلة إليه كما جاء في قوله: (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (الملك: 15). وأمر كذلك بالسعي للحصول على الرزق بعد أداء العبادات كما جاء في قوله: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(الج معة: 10).
مع هذا وردت آيات في كتاب الله تبين أن هنالك أعمال تزيد في الرزق وتوسع فيه إذا سلكها الإنسان، كما جاء في السنة الشريفة مثل ذلك، فكيف نوفق بين ما ورد في الحديث بأن الرزق مكتوب ومحدد قبل أن يجئ الإنسان للحياة الدنيا، وبين الآيات والأحاديث التي بينت الأعمال التي إذا سلكها الإنسان يُزاد له في رزقه؟.
وقد وفق العلماء بين الحديث والآيات وذكروا أن لا تتعارض بينها، فبينوا أن الزيادة تحمل على حقيقتها لعلم الله الأزلي بها، وفُسرت الزيادة بالبركة([11]) وبهذا نخرج من هذا التعارض. والله أعلم.
ومن الأعمال التي ذُكرت أنها تكون سبباً في سعة الرزق ما يأتي:
أولاً: الاستغفار والتوبة:
قال تعالى: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) (هود:52).
الاستغفار طلب المغفرة، وقد يكون ذلك باللسان، وقد يكون بإنابة القلب وطلب الاسترشاد والحرص على وجود المحجة الواضحة, ولم يؤمروا بأن يسألوه ذلك باللسان فقط بل باللسان وبالفعال، فقد قيل: الاستغفار باللسان من دون ذلك بالفعال فعل الكذابين([12]).
والتوبة في الشرع ترك الذنب لقبحه والندم على ما فرط منه والعزيمة على ترك المعاودة وتدارك ما أمكنه أن يتدارك من الأعمال بالإعادة فمتى اجتمعت هذه الأربع فقد كمل شرائط التوبة([13]), ويروى أن عاداً كان الله تعالى قد حبس عنها المطر ثلاث سنين، وكانوا أهل حرث وبساتين وثمار، فلهذا وعدهم بالمطر، وحضهم على استنزال المطر بالإيمان به والإنابة، وتلك عادة الله في عباده، ومنه قول نوح عليه السلام: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10)يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا (11)وَيُمْدِدْكُم ْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا) (نوح: 10-12), ومنه فعل عمر رضي الله عنه حين جعل جميع قوله في الاستسقاء ودعائه استغفاراً فسُقي، فسُئل عن ذلك فقال: "لقد استنزلت المطر بمجاديح السماء" ثم قرأ هذه الآية رضي الله عنه, وشكا رجل إلى الحسن البصري رضي الله عنه الجدب فقال له: استغفر الله تعالى، وشكا إليه آخر الفقر فقال: استغفر الله تعالى، وقال له آخر: ادع الله تعالى أن يرزقني ولداً، فقال له: استغفر الله تعالى، فقيل له في ذلك فنزع بهذه الآية.
والاستغفار الذي أحال عليه الحسن ليس هو لفظ الاستغفار فقط، بل الإخلاص والصدق في الأقوال والأعمال، وكذلك كان استغفار عمر رضي الله عنه ومن اتصف بصفة الاستغفار يسر الله عليه رزقه وسهل عليه أمره وحفظ شأنه([14]), وتقديم الاستغفار على التوبة مشعر بأن العبد إذا لم يعترف أولاً بذنبه لا يمكنه أن يتوب منه.
ثانياً: التقوى تجلب الرزق:
قال تعالى: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) (الطلاق:2 ،3).
تبين الآيتان أن المتقي يدفع الله عنه المضرة بما يجعله له من المخرج، ويجلب له من المنفعة بما ييسره له من الرزق، والرزق اسم لكل ما يتغذى به الإنسان، وذلك يعم رزق الدنيا ورزق الآخرة, وقد ورد في سبب نزول الآية أنها نزلت في عوف بن مالك الأشجعي أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال: يا رسول الله إن ابني أسره العدو وجزعت أمه فبما تأمرني؟ قال: آمرك وإياها أن تكثروا من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله. فقالت المرأة: نعم ما أمرك به، فجعلا يكثران منها فغفل العدو عن ابنهما فاستاق غنمهم وجاء بها إلى أبويه فنزلت هذه الآية([15]), وهي عامة في كل من يتق الله تعالى فإنه يجعل له من كل ضيق مخرجا ومن كل كرب فرجا، ويرزقه من حيث لا يرجو ولا يؤمل، ولا يخطر له على بال.
وكذلك ما جاء في قوله تعالى: (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ)(آل عمران: 37) وجد عندها رزقا: وجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف. وفيه دلالة على كرامات الأولياء([16]).
يجب عدم الخوض في صفة هذا الرزق كما خاضت الروايات الكثيرة، فيكفي أن تعرف أنها كانت مباركة يفيض من حولها الخير ويفيض الرزق من كل ما يسمى رزقاً، حتى ليعجب كافلها –وهو نبي– من فيض الرزق. فيسألها: كيف ومن أين هذا كله؟ فلا تزيد على أن تقول في خشوع المؤمن وتواضعه واعترافه بنعمة الله وفضله، وتفويض الأمر إليه كله: (هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ) وهي كلمة تصور حال المؤمن مع ربه، واحتفاظه بالسر الذي بينه وبينه –والتواضع عن الحديث عن هذا السر- لا إظهاره والمباهاة به([17]), فهذا رزق ساقه الله للسيدة مريم بنت عمران وهو ليس خاص بها وإنما يحصل لكل من يتق الله تعالى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وقد حصل للصحابي الجليل خبيب بن عدي بن عامر الأنصاري رضي الله عنه, كان من أصحاب الرجيع الذين غدروا بهم، وأسروه وباعوه بمكة، وكان محبوساً بمكة لوحده عند الذين باعوه لهم، وقد أخبرت إحدى بنات الحارث الذي كان أسيراً في داره، فقالت: "والله لقد رأيته يحمل قطفاً كبيراً من عنب يأكل منه، وإنه لموثق في الحديد، وما بمكة كلها ثمرة عنب واحدة، وما أظنه إلا رزقاً رزقه الله خبيباً"([18]) نعم إنه رزق آتاه الله عبده الصالح، كما آتى مثله من قبل مريم بنت عمران، يوم كانت: (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ) (آل عمران: 37).
ومن الآيات التي بينت أن التقوى من أسباب الرزق ما جاء في قوله تعالى:(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ) (الأعراف: 96), فلو أن أهل القرى آمنوا بدل التكذيب، واتقوا بدل الاستهتار لفتح الله عليهم بركات السماء والأرض، هكذا (بركات من السماء والأرض) مفتوحة بلا حساب. والتعبير القرآني يلقي ظلال الفيض الغامر، الذي لا يتخصص بما يعهده البشر في الأرزاق والأقوات.
إن العقيدة الإيمانية في الله وتقواه، ليست مسألة منعزلة عن واقع الحياة، وعن خط تاريخ الإنسان إن الإيمان بالله وتقواه ليؤهلان لفيض بركات السماء والأرض، وعد من الله ومن أوفى بعهده من الله؟([19]), وبركات السماء والأرض: جمع بركة, وهي دوام الخير وبقاؤه، والمطر من بركات السماء والنبات والخصب والأمن والعاقبة من بركات الأرض, والبركة قد تكون مع القليل إذا أُحسن الانتفاع به, وكذلك جاء في قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُ مْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ) (المائدة: 65-66).
يقول الله تعالى لأهل الكتاب وهم اليهود والنصارى, وينطبق هذا القول على أهل كل كتاب -إنهم لو كانوا آمنوا واتقوا لكفر عنهم سيئاتهم ولأدخلهم جنات النعيم– وهذا جزاء الآخرة, وإنهم لو كانوا حققوا في حياتهم منهج الله المتمثل في التوراة والإنجيل وما أنزله الله إليهم من التعاليم –كما أنزلها الله بدون تحريف ولا تبديل– لصلحت حياتهم الدنيا، ونمت وفاضت عليهم الأرزاق، ولأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم من فيض الرزق ([20]).
وهكذا يتضح من خلال الآيتين أن الإيمان والتقوى وتحقيق منهج الله في واقع الحياة البشرية في هذه الحياة الدنيا، لا يكفل لأصحابه جزاء الآخرة وحده وإن كان هو المقدم والأدوم, ولكنه كذلك يكفل صلاح أمر الدنيا، ويحقق لأصحابه جزاء العاجلة قوة ونماء وحسن توزيع وكفاية تتضح من قوله: (لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم), وهكذا يتبين أن ليس هنالك طريق مستقل لحسن الجزاء في الآخرة، وطريق آخر مستقل لصلاح الحياة في الدنيا. إنما هو طريق واحد، تصلح به الدنيا والآخرة، فإذا تنكب هذا الطريق فسدت الدنيا وخسرت الآخرة. وهذا الطريق الواحد هو الإيمان والتقوى وتحقيق المنهج الإلهي في الحياة الدنيا([21]).
وفي قوله تعالى:(وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى)(طه: 132), أمره الله تعالى بأن يأمر أهله بالصلاة ويتمثلها معهم، ويصبر عليها ويلازمها. وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه و سلم, ويدخل في عمومه جميع أمته، وأهل بيته على التخصيص, (لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا) أي لا نسألك أن ترزق نفسك وإياهم، وتشتغل بسبب الرزق، بل نحن نتكفل برزقك وإياهم، فكان عليه السلام إذا نزل بأهله ضيق أمرهم بالصلاة. وقد قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (الذاريات: 56 – 58).
ومن هنا يتبين لنا أن إقامة الصلاة بين أفراد الأسرة المسلمة ييسر الله به أسباب الرزق وتوسعته عليهم, كما ورد ما يوضح أن هناك ارتباط بين استقامة الأمم والجماعات على الطريقة الواحدة الواصلة إلى الله، وبين إغداق الرخاء وأسبابه، قال تعالى: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُ م مَّاء غَدَقًا)(الجن: 16), أي لو استقاموا على الطريقة طريقة الحق والإيمان والهدى وكانوا مؤمنين مطيعين لأسقيانهم ماء غدقا. أي كثيراً. لوسعنا عليهم في الدنيا، وضرب الماء الغدق الكثير لذلك مثلاً، لأن الخير والرزق كله بالمطر يكون، فأقيم مقامه. وهذا الارتباط بين الاستقامة على الطريقة وبين الرخاء والتمكين في الأرض حقيقة قائمة. وقد كان العرب في الصحراء يعيشون في شظف، حتى استقاموا على الطريقة، ففتحت لهم الأرض التي يجري فيها الماء وتتدفق فيها الأرزاق. ثم حادوا عن الطريقة فاستلبت منهم خيراتهم استلابا. وما يزالون في نكد وشظف، حتى يرجعوا إلى الطريقة، فيتحقق فيهم وعد الله.
هنالك أمم لا تستقيم على منهج الله وهي تعيش في قوة وغنى، فكيف نفسر ذلك؟, هذه الأمم التي نراها تعيش في غنى ووفرة وهي غير مستقيمة على طريقة الله، إنما هي في الحقيقة تُعذب بآفات أخرى في إنسانيتها أو أمنها أو قيمة الإنسان وكرامته فيها، كما أن هذا الرخاء ابتلاء من الله للعباد وفتنة، فلا يغتر الناظر به([22]).
ثالثاً: التوكل على الله تعالى:
التوكل: هو الثقة بما عند الله، واليأس عمّا في أيدي الناس, والمسلم يفهم التوكل الذي هو جزء من إيمانه وعقيدته أنه طاعة لله بإحضار كافة الأسباب المطلوبة لأي عمل من الأعمال التي يريد مزاولتها والدخول فيها. فلا يطمع في ثمرة بدون أن يقدم أسبابها، ولا يرجو نتيجة ما بدون أن يضع مقدمتها، غير أن موضوع إثمار تلك الأسباب، وإنتاج تلك المقومات يفوضه إلى الله إذ هو قادر عليه دون سواه. فالتوكل عند المسلم إذاً هو عمل وأمل، مع هدوء قلب وطمأنينة نفس، واعتقاد جازم أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا([23]), إذاً التوكل هو أخذ بالأسباب والاعتماد على الله في النتائج, قال تعالى: (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) (الطلاق:3).
ومن يتوكل على الله تعالى في أمره فلا يفرط في أمر الله، ولا يضيع حقوقه فإن الله تعالى يكفيه ما يهمه من أمر دينه ودنياه, ويقتضي قوله تعالى:(فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ)وجوب التوكل على الله في الرزق المتضمن جلب المنفعة ودفع المضرة، وأنه لا يقدر غير الله على ذلك قدرة مطلقة. روى القرطبي عن الربيع بن خيثم قوله: إن الله تعالى قضى على نفسه أن من توكل عليه كفاه ومن آمن به هداه، ومن أقرضه جازاه، ومن وثق به نجاه، ومن دعاه أجاب له. وتصديق ذلك في كتاب الله: (وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) (التغابن11), (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) (الطلاق:3), (إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ) (التغابن:17). (وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (آل عمران:101). (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) (البقرة:186)([24]).
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم:" لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطانا"([25]). ويفهم من الحديث يجب اعتماد القلب على الوكيل وحده سبحانه، وطلب الرزق بالبدن. أي الأخذ بالأسباب في طلب الرزق.
يتبع